مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

المجلد 1

اشارة

أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الذي وفقنا لاقتناء الدرر من كلماته الغرر، و هدانا لمعرفة التقاط الثمر من الشجر، شجرة مباركة كثيرة النماء، أصلها ثابت و فرعها في السماء، قرآنا عربيا غير ذي عوج، ناطقا بالبينات و الحجج، تكاد الرواسي لهيبته تمور، و يذوب من خشيته الحديد و صم الصخور.

أنزله على عبده و حبيبه محمد المصطفى لرسالاته، و المرتضى بكمالاته، أرسله بالهدى و دين الحق، و عرفه من شعائر الشرائع ما جل و دق، صلوات اللّه عليه و على ابن عمه و خليفته المخلوق من سنخه و طينته و جعله مستودعا لعلمه و على الأئمة الأحد عشر من أولاده، الذين لم يعصوا اللّه طرفة عين و هم بأمره يعملون، و بوحيه يحكمون.

يا بني الزهراء و النور الذي ظن موسى انّه نارا قبس

لا أوالي الدهر من عاداكم انه آخر حرف من عبس

و بعد فيقول الحقير الفقير «علي بن حسين الموسوي» الطهراني مسكنا و الحائري مسقطا و مولدا، لما رأيت أن يوسف الصديق يباع في سوق العدو و الصديق، و عرض كل غنى في شرائه أموالا خطيرة، و حضروا في ذلك السوق و الحظيرة، فساقني الطمع و شاقني حبي إلى ذلك المطمع، أن اقدم بين يدي نجوي صدقة بدراهم معدودة، استجديتها برهة من الزمان من هاهنا و هاهنا، و أنا ذو بضاعة مزجاة و ظلّي فيه اقلص من ظل حصاة، فلمت نفسي من هذه الإرادة و قلت لها قفي مكانك، من أنت و ما تمنيك و أنت أحقر

ص: 2

من ذرة، و الصفقة أغلى من ملايين درة، لكني ما استطعت ان أمنعها لأن الذكرى تسوق و ذو الهوى يتوق و من يعلق به الحب يصبه.

فغلبني الغرام و الهيام، فألقيت دلوي في الدلاء، رجاء ان ينفعني حب الصديق، فما باليت عذل العدو و الصديق و أنا اعلم انه ليس من لمس درهما صيرفيا، و لا من اقتنى درا جوهريا، و معذلك اقنيت دررا من البحور الزاخرة، و التقطت ثمارا جيدة فاخرة من كتب التفاسير من الأساتيد و النحارير، مستعينا باللّه و الفت الملتقطات، و سميته [بمقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر] و أرجو من اللّه أن يتفضل عليّ بالغفران و يجعلني من أهل القرآن.

ص: 3

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و في تقديم الاستعاذة على البسملة من باب تقديم التخلية على التحلية، فأن طبيب القلوب يبدأ أولا بتنقيتها من العقائد الزائغة، ثمّ يعالجها بما يقويها على الطاعات، و كذلك طبيب الأجسام، و من أراد قراءة القرآن و الدخول في المناجاة مع الحبيب يحتاج إلى طهارة اللسان، لأنه قد تلوث بفضول الكلام، فيطهره بالاستعاذة. فهذه الكلمة فاتحة كلام المتقربين، على أنه امتثال أمر رب العالمين، حيث قال: (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

فإن قيل فاستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم أوفق دراية لمطابقته المأمور به.

فالجواب انه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال هكذا أقرأنيه جبرئيل عن القلم عن اللوح، فمعنى أعوذ التجئ و استعصم و استجير باللّه، و اختلف في أن هذا الإسم الشريف علم فرد أو صفة مشتق أو غير مشتق، قيل هو من و له لتحير العقول عن إدراك كنهه، و قال بعض أهل التحقيق مثل السعد التفتازاني في حواشي الكشاف، انه كما تحيرت الأوهام في ذاته و صفاته تعالى فكذا في اللفظ الدال عليه، و الاستعاذة تتناول جمع أقسام الشرور من مذاهب الباطلة و عقائد الزائغة و ما يضر في الدين؛ و هو منهيات للتكليف بل من جميع المكاره و البلايا النازلة كالغرق و الحرق و العمى و الزمانة و الفقر و أشباهه من المخاوف و الآفات، فأعوذ باللّه يتناول الكل فالعاقل لما علم ان التحرز من مجموع هذه الأمور لا يمكن لعدم تناهيها، و ان قدرة الخلق لا تفي ء بدفعها، فحمله و علمه العالم بأن يقول أعوذ باللّه القادر على كل المقدورات من الشيطان اي: المبعّد من رحمة اللّه؛ و الاستعاذة من الجن و الإنس لازمة و عظة الإنسان نفسه الزم.

ص: 4

قال ابن عباس لمّا عصى لعن و صار شيطانا و إنما سمّي بهذا الإسم بعد لعن اللّه له. و الشيطان من الشطن و هو البعد. او من شاط إذا بطل. و امّا قبله فاسمه عزازيل او نأيل، و في روضة الأخبار الشياطين ذكور و إناث يتوالدون و لا يموتون، بل مخلّدون حتّى تنقر من الدنيا. لكن الجن ذكور و إناث يتوالدون و يموتون، و الملائكة ليسوا بذكور و لا إناث و لا يتوالدون و لا يأكلون و لا يشربون؛ و للشيطان و الجنّة حقيقة و وجود؛ و لم ينكر الجن إلّا شرذمة قليلة من الجهّال و حمقاء الفلاسفة، و حقيقتهم عند من لم يقل بالمجردات: هي أجسام هوائية؛ و قيل ناريّة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة من الحيوان و الطير و بنى آدم؛ لها عقول و افهام تقدر على الأعمال الشاقة كما كانوا يعملون لسليمان المحاريب و التماثيل و الجفان و القدور؛ و عند من قال لها مجردات ارضية سفلية و ذلك لأن المجردات اعني الموجودات الغير المتحيزة و لا الحالة في المتحيز اما عالية مقدسة، و هم الملائكة، و يسميها المشائيون عقولا؛ و الإشراقيون أنوارا قاهرة أو متعلقة بتدبيرها؛ و يسمّونها المشائيون نفوسا سماوية و الإشراقيون أنوارا مدبّرة، و أشرفها حملة العرش ثم الحافون حوله، ثم ملائكة الكرسي، ثم ملائكة السماوات طبقة طبقة، ثم ملائكة كرة الأثير و الهواء الذي من طبع النسيم ثمّ ملائكة كرة الزمهرير، ثمّ ملائكة البحار ثم الجبال و هكذا (الرجيم) اي المرمى من السموات بإلقاء الملائكة حين لعن و طرد او المرمى بشهب السماء إذا قصدها. قيل من استعاذ باللّه من الشيطان على وجه الحقيقة بحضور القلب و بشرائطها، جعل اللّه بينه و بين الشيطان ثلاثمائة حجاب، كل حجاب كما بين السموات و الأرض و من المعلوم انّ الدعاء الذي لا يختلف عن الاستجابة المشار إليها في الآية بقوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ هو الذي يكون بلسان الاستعداد، فانّه أجمع الفقهاء على انّ الشرط إذا كان مناف لمقتضى العقد فذلك العقد فاسد، فتأمل في سبب حرمانك من الإجابة. قال ابن عباس: خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم من المسجد فإذا هو بإبليس فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما الذي جاء بك الى مسجدي قال: يا محمد جاء بي اللّه قال: فلم ذا قال: لتسألني عمّا شئت قال ابن عباس فكان أول شي ء سأله الصلاة فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له يا ملعون لم تمنع امتي عن الصلاة بالجماعة قال: يا محمد إذا خرجت أمتك للصلاة، تأخذني الحمى الحارة فلا تندفع حتى يتفرقوا فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لم تمنع امتي عن

ص: 5

العلم و الدّعاء، قال: عند دعائهم يأخذني الصمم و العمى، فلا تندفع حتى يتفرقوا. و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لم تمنع امّتي عن القرآن قال: عند قراءتهم اذوب كالرصاص، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم تمنع امّتي عن الجهاد قال: إذا خرجوا إلى الجهاد يوضع على قدمي قيد حتّى يرجعوا؛ و إذا خرجوا إلى الحجّ اسلسل و اغلل حتى يرجعوا؛ و إذا همّوا بالصدقة توضع على رأسى المناشر فتنشرني كما ينشر الخشب. و كل معروف صدقة.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آتاني جبرئيل و قال انّ اللّه يقول: و عزّتي انّه ليس من الكبائر كبيرة هي أعظم عندي من حبّ الدّنيا و قال: ما عبد اللّه ابغض على اللّه من الهوى انتهى.

أقول: و من أبواب التخلّص من شرّ اللعين المراقبة و المحاسبة بمؤاخذة النفس و ملامتها، مثل أن يخاطبها يا نفس ويحك مضى ربيع الشباب فلا يفوتك خريف الشيب فإن فاتك الهرفى فلا تحرم من الرجعى يا ظالم النفس و العباد أ ما سمعت قول اللّه: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» أليس ورائك عقبة كئود و الرّجل حافية و ما لك مركب؛ و انّ قدامك يوما لو طلعت فيه شمس الضحى لعاد أظلم من ليلك؛ و قد دنوت إلى منازل دونها حتوف و الطريق مخوف. قال عليّ عليه السّلام ايّها اليفن الكبير قد لهزه القنبر اي: خالطه الشيب كيف أنت إذا التجمت أطواق النّار بعظام الأعناق؛ فاغتنم مهلة قبل قدوم الغائب المنتظر.

أقول: و كيف يكون الإنسان عاقلا و لا يقسم أوقاته؛ و في الخبر انّ إبليس يرفع الدّنيا كلّ يوم في يديه فيقول: من يشتري ما يضرّه و لا ينفعه؛ و يهمّه و لا يسرّه فيقول:

أصحاب الدّنيا نحن، فيقول: لا تعجلوا فإنها معيوبة، فيقولون: لا بأس بها، فيقول:

ثمنها ليس بدراهم و لا دنانير، انّما ثمنها نصيبكم من الجنّة؛ و انى اشتريتها بأربعة أشياء بلعنة اللّه و عذابه و قطيعته، و بعت الجنّة بها؛ فيقولون: يجوز لنا ذلك، فيقول: أريد أن تربحوني على ذلك و هو أن توطنوا قلوبكم على أن لا تدعوها أبدا، فيقولون: نعم فيأخذونها فيقول الشيطان: بئست التجارة.

و سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن وسوسة الشيطان، فقال: السارق لا يدخل بيتا ليس فيه شي ء فذلك من محض الإيمان. قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الفرق بين صلاتنا و صلاة أهل الكتاب وسوسة الشيطان، لأنّه قد فرغ من عمل الكفّار و انّهم واففوه؛ و المؤمنون

ص: 6

يخالفونه و المحاربة تكون مع المخالفة.

سورة الفاتحة

[سورة الفاتحة (1): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

(بِسْمِ اللَّهِ) قالوا: علوم جميع كتب السّماويّة في القرآن و علومه في الفاتحة و علومها في البسملة و علومها في الباء؛ و قد وقع الاختلاف بين فقهاء المدينة و الشام و البصرة و قراء مكّة و الكوفة و فقهائهما، في أنّ البسملة هل هي آية من الفاتحة و غيرها فقال: فقهاء المدينة و البصرة و الشام انّ التسمية ليست من الفاتحة و لا من غيرها من السّور؛ و إنّما كتبت للفصل و التبرك؛ و هو مذهب أبو حنيفة و من تابعه؛ و قراء مكّة و الكوفة و فقهائهما على أنّها آية من الفاتحة؛ و من كلّ سورة كما عليه ابن عبّاس فقال: هي آية في كل سورة؛ و هو الصحيح؛ و أوّل ما جرى به القلم في اللوح؛ و أوّل ما نزل على آدم؛ و كانت الكفّار و المشركون يبدءون باسم آلهتهم فيقول: باسم اللّات و العزّى فوجب أن يقصد الموحّد، معنى اختصاص اسم اللّه بالابتداء فلذلك قدر المتعلّق متأخّرا أى: باسم اللّه أتلو و اقرأ و استعين؛ و الابتداء يكون بالأهم نحو قوله: بسم اللّه مجريها و مرسيها؛ كقولك للمعرس باليمن و البركة؛ و التقدير أعرست باليمن و الاسم أحد اسماء التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا لها مبتدئين زادوا همزة لئلا يقع الابتداء بالساكن. أو من الوسم محذوف الفاء؛ و طولوا الباء في كتابه بسم اللّه تعويضا من طرح الألف و كلمة «اللّه» أصله الإله، أو من لاه يليه إذا تستر من الستر ثم ادخلت عليه الألف و اللام فجرى الإسم العلم، مثل النّاس أصله أناس فحذفت الهمزة و عوّضت منها حرف التعريف، و الصحيح انّ: معنى الإله هو الذات الذي يحقّ له العبادة و انّما حقّت له، لقدرته تعالى على اصول النعم؛ و لا يطلق هذا الاسم على غيره تعالى أبدا.

عن الصّادق عليه السّلام قال: من قال لا إله إلّا اللّه مخلصا دخل الجنة، و إخلاصه بها أن يحجزه لا إله إلّا اللّه عمّا حرم اللّه؛ و عن حذيفة بن اليمان قال لا يزال لا إله إلّا اللّه ترد غضب الربّ عن العباد ما كانوا لا يبالون ما انتقص من دنياهم إذا سلّم دينهم، فإذا كانوا لا يبالون ما انتقص من دينهم إذا سلمت دنياهم. ثم قالوا هذه الكلمة ردت عليهم و قيل لهم كذبتم و لستم بصادقين. قال على عليه السّلام: في تفسير الإمام في معنى البسملة استعين على هذا الأمر باللّه الذي لا يحق العبادة لغيره إذا استغيث و المجيب إذا دعى.

ص: 7

و قد أودع جميع العلوم في الباء أي: بي كان ما كان و بي يكون ما يكون فوجود العوالم بي. و قال بعض أهل النظر لعلّ السرّ في أن جعل افتتحاح الكتاب الكريم بحرف الباء؛ و قدّمت على سائر الحروف لا سيّما على الألف مع تجرد الألف، بل يسقط الألف و يثبت مكانه الباء في بسم اللّه: إنّ في الباء تواضعا و انكسارا و في الأنف ترفّعا و تطاولا، فمن تواضع للّه رفعه اللّه؛ و الباء للاتصال و الإلصاق، بخلاف أكثر الحروف خصوصا الألف من حروف القطع؛ و الباء مكسورة فلمّا كانت فيها انكسار في الصورة و المعنى، وجدت شرف العندية من اللّه؛ و ذكروا فيها استحساناتا أخر ليس هذا المختصر يسعها، مثل انّ للباء علوّ الهمّة بخلاف بعضها، فانّه لما عرضت عليها النقط ما قبلت إلّا واحدة، و من قبيل هذه المناسبات كثيرة ذكروها في شروحهم، قال أمير المؤمنين أنا النقطة تحت الباء لعلّ مراده بيان مرتبة دلالته و إرشاده على التوحيد، أو يصف نفسه عليه السّلام في مقام معرفة التوحيد؛ و لذا وجبت ولايته.

قال محمّد بن صفوان عن ابن عبّاس قال: كنّا عند رسول اللّه فأقبل عليّ عليه السّلام قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرحبا بمن خلقه اللّه قبل أبيه آدم بأربعين ألف سنة، قلنا أ كان ابن قبل أبيه فقال: نعم انّ اللّه خلقني و عليّا من نور واحد قبل هذه المدة، ثمّ قسّمه نصفين، ثمّ خلق الأشياء من نوري و نور عليّ ... الحديث؛ أو مراده علمه بعلوم الكتب الأولين و الآخرين فيما أشرنا قبيل ذلك. قال صاحب التأويلات النجميّة انّ الباء شفوي و كان أوّل انفتاح فم الذرة الإنسانيّة في عهد الست بالجواب بكلمة بلى، فاختصت الباء بهذه الاختصاصات، فجعلها سبحانه مفتاح كتابه و مبدأ كلامه و خطابه؛ و أسماء اللّه تذكر فيما يصح أن يطلق عليه بالنظر إلى ذاته او باعتبار صفة من صفاته الثبوتية كالعليم او السلبيّه كالقدوس او باعتبار فعل من أفعاله كالخالق لكنها توقيفة عند الأكثر (الرَّحْمنِ) الرحمة في اللغة رقة القلب و الانعطاف و منه الرحم و المراد هنا هو التفضل و الإحسان فالمعني العاطف على خلقه بالرزق لهم و دفع الآفات عنهم؛ و الرحمن فعلان في الرحمن الذي يرحم و يبسط الرزق علينا الرحيم في دنيانا و ديننا؛ و في الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم تلك المبالغة لشمول الرحمن في الدارين و اختصاص الرحيم بالآخرة او بالمؤمنين. (الرَّحِيمِ)

ص: 8

اى المترحم إذا سئل اعطى و إذا لم يسئل غضب؛ و بنى آدم حين يسأل يغضب قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان للّه مائة رحمة اعطى واحدة منها لأهل الدنيا كلها و ادّخر تسعا و تسعين الى الآخرة يرحم بها عباده.

و اعلم ان الرحمة من الصفات الإلهية و هي حقيقة واحدة؛ لكنها تنقسم بالذاتية و الصفاتية اي تقتضيها اسماء الذات و اسماء الصفات و كل منهما عامّة و خاصّة فالرحمة العامة و الخاصة الذاتيّتان ما جاء في البسملة قيل ان للّه تعالى ثلاثة آلاف اسم، ألف عرفها الملائكة لا غير؛ و ألف عرفها الأنبياء لا غير، و ثلاثمائة في التورية؛ و ثلاثمائة في الإنجيل؛ و ثلاثمائة في الزبور؛ و تسعة و تسعون في القرآن؛ و واحد استأثر اللّه به ثم معنى هذه الثلاثة آلاف في هذه الأسماء الثلاثة اللّه و الرحمن و الرحيم فمن علمها و قال فكأنما ذكر اللّه بكل أسمائه.

و في الخبر انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ليلة اسري بي الى السماء عرض عليّ جميع الجنان، فرأيت فيها اربعة انهار: نهرا من لبن و نهرا من ماء و نهرا من خمر و نهرا من عسل فقلت: يا جبرئيل من اين تجي ء هذه الأنهار و الى اين تذهب قال نذهب الى حوض الكوثر و لا ادرى من اين تجي ء؛ فادع اللّه ليعلّمك او يراك، فدعا ربّه فجاء ملك فسلم على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم قال: يا محمد غمض عينك قال: فغمضت عيني ثم قال: افتح عينك ففتحت فإذا انا عند شجرة؛ و رأيت قبة من دره بيضاء و لها باب من ذهب و قفل لو أن جميع ما في الدنيا من الجن و الانس وضعوا على تلك القبة لكانوا مثل طائر جالس على جبل، فرأيت هذه الأنهار الأربعة تخرج من تحت هذه القبة فلما أردت ارجع قال لي ذلك الملك:

لم لا تدخل القبة قلت: كيف ادخل و على بابها قفل لا مفتاح له عندي قال الملك مفتاحه بسم اللّه الرحمن الرحيم، فلما دنوت من القفل و قلت بسم اللّه الرحمن الرحيم انفتح القفل فدخلت في القبة فرأيت هذه الأنهار تجرى من اربعة اركان القبة؛ و رأيت مكتوبا على اربعة اركان القبة بسم اللّه الرحمن الرحيم؛ و رأيت نهر الماء يخرج من ميم بسم اللّه و رأيت نهر اللبن يخرج من هاء اللّه، و نهر الخمر يخرج من ميم الرّحمن و نهر العسل من ميم الرّحيم فعلمت ان اصل هذه الأنهار الاربعة من البسملة؛ فقال اللّه سبحانه

ص: 9

يا محمد من ذكرني بهذه الأسماء من أمتك بقلب خالص من الرياء و قال: بسم اللّه الرحمن الرحيم سقيته من هذه الأنهار؛ و في الحديث: من رفع قرطاسا من الأرض مكتوبا عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم إجلالا له و لاسمه عن ان يدنس كان عند اللّه من الصديقين، و خفف عن والديه و ان كانا مشركين. و عن الرضا عليه السّلام: ان البسملة اقرب الى اسم اللّه الأعظم من سواد العين الى بياضها قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قال المعلم للصبي: بسم اللّه بالخلوص: كتب اللّه له و لا بويه و لمعلمه برائة من النار إذا كانوا مؤمنين و لا يحصل الخلوص الا بهذه الأربع، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوصيك بأربع خصال الاولى: الصدق فلا تخرجن عن فيك كذبة ابدا (الثانية): الورع و لا تجرى على خيانة ابدا و (الثالثة)، الخوف من اللّه كأنك تراه و الرابعة، كثرة البكاء من خشية اللّه ينبي لك بكل دمعة ألف بيت في الجنة.

قال الشيخ احمد البوني في لطائف الإشارات: ان شجرة الوجود تفرعت عن البسملة و العالم كله قائم بها و من اكثر من ذكرها رزق الهيبة عند العالم العلوي و السفلى قال الشيخ اكبر في الفتوحات إذا قرأت فاتحة الكتاب، فصل بسملتها معها في نفس واحد من غير قطع. قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حالفا عن جبرئيل حالفا عن ميكائيل حالفا عن اسرافيل قال اللّه: يا اسرافيل بعزتي و جلالي و جودي و كرمي من قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم متصلة بفاتحة الكتاب مرة واحدة فاشهدوا على انى قد غفرت له و قبلت منه الحسنات و تجاوزت له عن السيئات و لا احرق لسانه بالنار و أجيره من عذاب القبر و عذاب النار و عذاب يوم القيمة و الفزع الأكبر.

(سورة فاتحة الكتاب): وجه التسمية بفاتحة الكتاب اما لافتتاح المصاحف بها، و اما لأن الحمد فاتحة كل كلام و اما لأنها أول سورة نزلت و سميت بأم القرآن و أم الشي ء أصله؛ و ذلك لان المقصود من كل القرآن تقرير امور اربعة: اقرار بالالوهية و النبوة، و اثبات المعاد، و اثبات الحكم، و الأمر له، و هذه السورة جامعة لهذه المراتب، و سميت بالسبع المثاني لأنها سبع آيات، او لان كل آية منها تقوم مقام سبع من القرآن، فمن قرأها اعطى ثواب قراءة الكل؛ او لان من قرأ آياتها السبع غلقت عنه أبواب النيران

ص: 10

السبعة. و اما وجه التسمية بالمثاني فلأنها تثنى في كل صلاة، او لان نزولها مرتين مرة في مكّة و اخرى في المدينة و سميت بسورة الصلاة و سورة الشافية و الكافية و الوافية و سورة الحمد و سورة السؤال و سورة الدعاء و سورة الكنز لما روي ان اللّه تعالى قال فاتحة الكتاب كنز من كنوز عرشىّ

[سورة الفاتحة (1): آية 2]

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)

قال الزمخشري: الحمد على الابتداء و خبره الظرف الذي هو للّه و أصله النصب بإضمار فعله، على انه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة و معنى الاخبار كقولهم شكرا و عجبا و ما أشبهه، و منها سبحانك و معاذ اللّه ينزلونها منزلة افعالها، و العدول بها عن النصب الى الرفع في الآية على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى و استقراره، و منه قوله تعالى قالوا سلاما قال ابراهيم سلام رفع السلام الثاني للدلالة على انّ ابراهيم حيّاهم بتحيّة احسن من تحيتهم، لأن الرفع دالّ على معنى ثبات السلام لهم، فيئول حقيقة المعنى نحمد اللّه حمدا فلذلك قيل إياك نعبد و إياك نستعين انتهى فقوله الحمد للّه لامه امّا للعهد اى الحمد الكامل؛ و هو حمد اللّه لنفسه و حمد الرسل او اللام للعموم و الاستغراق اى جميع المحامد و الاثنية من الملك و البشر خاص للّه. و الحمد و المدح اخوان و هو الثناء الجميل من نعمة او غيرها. و الحمد و الثناء ذاتا خاص به تعالى شانه على لسان أنبيائه، و التكليف من النعمة لان بقائك موقوف عليه، و اما الشكر فعلى النعمة خاصة، و الحمد ثناء المحمود و اظهار كماله و أفعاله و آثاره، و هو قولي و فعلي و حالي.

اما القولي فحمد اللسان و ثنائه عليه بما اثنى به نفسه على لسان أنبيائه.

و اما (الفعلى) فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات و الخيرات ابتغاء لمرضاته حتى يستعمل الحامد كل عضو فيما خلق لأجله على الوجه المشروع حتى يوافق ساير أعضائه لسانه (و اما الحالي) فهو بحسب القلب كالتخلق بأخلاق اللّه من الرضا و التسليم و الاتصاف بالكمالات العلمية و حب المعروف و بغض المنكر ورده و هو الجهاد الأكبر فيكون في حكم الشهيد ثوابا فمن ما روى في ثواب الشهداء يشمله فحينئذ يكون اهل الحال و يستحق

ص: 11

المواهب من اللّه الواردة عليه ميراثا أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس و ذلك بسبب العمل الصالح المزكّى للنفس المصفّى للقلب، و عبّر بالحال لحول العبد به من الرسوم العادية الشهوية إلى الصفات الحقية، و أول قدم الحال الدخول في باب الأبواب و هو التوبة، لأنها أول ما يدخل به العبد حضرت القرب من جبان الرب* (رَبِّ الْعالَمِينَ)* ربّه يربه فهو ربّ، و يجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة، كما وصف بالعدل؛ و الرب السيد المالك، و منه قول صفوان لأبي سفيان لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أللهم لا تجعل لفاجر عليّ يدا: بيان برهان على استحاقه تعالى الحمد بقوله مربى العالمين بإيجادهم و تربية أسباب وجودهم فيربى الظاهر بالنعمة و الباطن بالفيض و الرحمة و أحكام الشريعة التي بها قوام بقائهم في السعادة الأبدية و يربى سبحانه أجزاء العوالم كلا بحسبها فسبحان من ربي الإنسان بأحسن التربية فاسمع بعظم و بصر بشحم.

أعلم أنّه اختلف في أفضلية نعمة البصر و السمع فقال قائل بأفضلية السمع لوجوه منها أنّ اللّه قدم في الذكر في اغلب القرآن السمع على البصر و التقديم في الذكر دليل على الشرف.

و منها أنّ العمى وقع في حقّ الأنبياء و أمّا الصمم فغير جائز لأنّه مخلّ بأداء الرسالة.

و منها ان السمع تدرك من جميع الجوانب دون البصر.

و منها انّ الإنسان يستفيد من المعارف من المعلم و ذلك لا يمكن إلّا بالسمع.

و منها انّ امتياز الإنسان عن سائر الحيوانات بالنطق و الكلام، و انما ينتفع به السامعة لا الباصرة و متعلّق السمع النطق الذي به شرف الإنسان و متعلق البصر الألوان و الأشكال و ذلك أمر مشترك بين الإنسان و سائر الحيوان.

و منهم من قال بأن البصر أفضل من السمع قالوا المشهور انّه ليس الخبر كالمعاينة و ذلك تدل على أنّ أكمل وجوه الإدراك البصر.

الثّاني انّ عجائب حكمة اللّه في العين أكثر من عجائب حكمته في تخليق الأذن فركّب العين من سبع طبقات و ثلاث رطوبات و جعل لها عضلات كثيرة على صور مختلفة

ص: 12

و الأذن ليس كذلك، و كثرة العناية في التخليق في الشي ء يدلّ على كونه أفضل من غيره.

الثّالث انّ القوّة الباصرة هي النور و آلة السّامعه هي الهواء و النّور أشرف من الهواء.

الرابع انّ البصر يرى ما فوق سبع سماوات و السمع لا يدرك ما بعد على فرسخين فكان البصر أقوى.

الخامس إنّ بعض النّاس يسمع كلام اللّه و كلام الملائكة في الدنيا و لا يراه أحد و أنّ موسى سمع كلام من غير سؤال و لمّا سئل الرؤية قال لن تراني فذلك يدل على أنّ حال الرؤية أعظم و أعلى من السماع، على أنّ ذهاب العين ليس كذهاب السّمع و هي الكريمتان. و انطق بلحم و رتّب غذائه في النبات بحبوبه و ثماره و في الحيوان بحياته و آثار نفعه، و في الأراضي بأشجاره و أنهاره و في الأفلاك بكواكبه و أنواره.

و لمّا علم أنّ النفوس لو يهملوا اهلكوا أنفسهم في مدّة قليلة لعدم علمهم في تدبير أمورهم و بقائهم، وضع لهم قانونا سماويا لحفظ نفوسهم و درك سعادة الفانية و الباقية لأنّهم خلقوا للبقاء لا للفناء، فسبحان من فلحت حجته و استظهر سلطانه و اقسطت موازينه فجعل السيئة ذنبا و الذنب فتنة و الفتنة دنسا، و جعل الحسنى عتبا و العتبى توبة و التوبة طهورا، فمن تاب اهتدى و من افتتن غوى ما لم يتب إلى اللّه و يعترف بذنبه و لا يهلك على اللّه هالك. اللّه اللّه فما أوسع ما لديه من التوبة و الرحمة و البشرى و الحلم العظيم، و ما أنكل ما عنده من الإنكال و الجحيم و البطش الشديد، فمن ظفر بطاعته اجتلب كرامته و من دخل في معصيته ذاق وبال نقمته و عمّا قليل ليصبحنّ نادمين.

قال الباقر عليه السّلام صلّى عليّ عليه السّلام بالعراق صلاة الصبح ثمّ خطب خطبة فبكى و أبكى الناس من خوف اللّه ثمّ ما رؤي بعد ذلك ضاحكا إلى أن توفي فما ظنّك بنفسك.

و ربما يغتر بعض الجهّال ببعض ظواهر الأخبار بما ورد في ثواب الأعمال و هو غافل عن شرائطها الشرعية الواقعية أو يغتر بالنسب الرفيع كالسيادة و العالمية فيقول مثلا جدي يشفعني فلا يقوم بالشرعيات و لا يعمل بالفرعيات و لا ينفعه الحسب و لا النسب كما في روضة الكافي.

ص: 13

قال الباقر عليه السّلام: لا تتّخذوا من دون اللّه وليجة، فلا تكونوا مؤمنين فإنّ كل سبب و نسب و قرابة و وليجة و شبهه منقطع مضمحلّ، كالغبار الّذي يكون على الحجر الصلد إذا أصابه المطر الكثير إلّا ما أثبته القرآن و يكون بإطاعة الرسول؛ و «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» و دع عنك الفضولي و المعضلات، و إنّ سنة اللّه لا تبدّل.

و (الْعالَمِينَ) جمع عالم و العالم جمع لا واحد له من لفظه. و العالم اسم لكلّ ما يعلم به في الأصل كالحاتم اسم لما يحتم، ثمّ غلب استعماله فيما سوى اللّه.

قال وهب: للّه ثمانية عشر ألف عالم و الدنيا عالم منها. قال كعب الأحبار: العوالم لا تحصى لقوله تعالى: «وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ». (1) و عن أبي هريرة: إنّ اللّه تعالى خلق الخلق من ذوي العقول أربعة أصناف:

الملائكة و الشياطين و الجنّ و الإنس، ثمّ جعل هؤلاء عشرة أجزاء: تسعة منهم الملائكة و واحد الثلاثة الباقية، ثمّ جعل هذه الثلاثة عشرة أجزاء: تسعة منهم الشياطين و جزء واحد الجنّ و الإنس، ثمّ جعلهما عشرة أجزاء تسعة منهم الجنّ و واحد الإنس. ثمّ جعل الإنس مائة و خمسة و عشرين جزءا فجعل مائة جزء في بلاد الهند، منهم ساطوخ و هم أناس رؤوسهم مثل رؤوس الكلاب، و مالوخ و هم أناس أعينهم في صدورهم، و ماسوخ و هم أناس آذانهم كآذان الفيلة، و مألوف و هم أناس لا يطاوعهم أرجلهم يسمّون «دوالپاي» و هؤلاء كلّهم كفرة مصيرهم إلى النار. و جعل اثني عشر جزءا منهم في بلاد الروم: النسطوريّة و الملكائيّة و الإسرائيليّة و مصيرهم إلى النار جميعا. و جعل ستّة أجزاء منهم في المشرق: يأجوج و مأجوج و ترك و خاقان، و ترك حد خلخ و ترك خضر، و ترك جرجر، و جعل ستّة أجزاء في المغرب: الزنج و الزط و الحبشة و النوبة و بربر و سائر كفّار العرب و مصيرهم إلى النار، و بقي من الإنس من أهل التوحيد جزء واحد، فجزّأهم ثلاثا و سبعين فرقة: اثنتان و سبعون على خطر و هالكة، و هم أصحاب البدع و الضلالات و فرقة ناجية.

و في الحديث: إنّ بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين و سبعين فرقة، و تفرّق امّتى

ص: 14


1- المدثر: 31.

على ثلاث و سبعين فرقة كلّهم في النار إلّا فرقة واحدة. قالوا: من هي يا رسول اللّه؟ قال:

من هم على ما أنا عليه- يريد في الاعتقاد و القول و الفعل-.

و بالجملة هو تعالى شأنه ربّ العوالم بأسرها، و «العالم» بفتح اللام اسم لذوي العلم من الملائكة و الثقلين و يطلق على كلّ ما علم به الخالق من الأجسام و الأعراض، فأقول: عالمون و عالمين جمع الواو و النون و هو جمع العقلاء.

اعلم أنّ العاقل من اجتمع فيه هذه الخصال العشرة: الاولى أن يحلم عمّن جهل عليه، و يتجاوز عمّن ظلمه، و يتواضع لمن هو دونه، و يسابق من فوقه في طلب البرّ، و إذا تكلّم تدبّر؛ فإن كان خيرا تكلّم فغنم، و إن كان شرّا فسكت فسلم، و إذا عرض له فتنة استعصم باللّه، و أمسك يده و لسانه، و إذا رأى فضيلة في الأدنية انتهز لها، لا يفارقه الحياء و لا يبدو منه الحرص فتلك عشرة خصال يعرف بها العاقل.

و أمّا الجاهل هو أن يظلم من خالطه: و يتعدّى على من هو دونه، و يتطاول على من هو فوقه، كلامه بغير تدبّر؛ إن تكلّم أثم، و إن سكت غفل، و إن عرضت له فتنة سارع إليها، فأردته، و أن رأى فضيلة أبطأ عنها، لا يخاف ذنوبه القديمة، و لا يرتدع فيما بقي من عمره من الذنوب، يتوانى عن البرّ غير مكترث لما فاته من الطاعة فتلك عشر خصال من صفة الجاهل الّذي حرم العقل بشهوته، هذا اسم لا صفة فكيف جمعت بالواو و النون؟

قالوا: ساغ ذلك لتضمّن معنى الوصفيّة فيه و هي الدلالة على معنى العلم أو للتغليب؛ لأنّ في هذه العوالم عالم العقلاء من الملك و الجنّ و البشر فصحّ أن يؤتى بجمع العاقل.

[سورة الفاتحة (1): آية 3]

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)

و في التكرار إشعار بأنّ التسمية آية مستقلّة؛ و أيضا ندب العباد بذكر رحمته و يناسب الربّيّة الرحمانيّة السائقة إليهم أرزاقهم في الدنيا. و الرحيميّة الّتي توجب الغفران لهم في العقبى، و لأنّ الرحمة تنال بعد الحمد أو بالرحمانيّة و الرحيميّة المتعلّقة بالذات، و في البسملة و هو المتعلّقة بالصفات.

[سورة الفاتحة (1): آية 4]

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

و قرئ «ملك يوم الدين» قال هرمس الهرامسه: أشدّ الأعمال ثلاثة: الجود عند القلّة، و الورع عند الخلوة، و العفو عند القدرة، و يقال لذي السلطة أيضا: ملك عادل.

و لا تدوم ملكيّته هي في الدنيا إلّا بأمور ستّة: الأوّل أن لا يتجاوز عن قانون

ص: 15

الكتب فانه متى ما عدل عنه عدل النظام عن ملكه لا محالة، الثاني فانه ان لا تأخذه في اللّه لومة لائم، الثالث صاحب شرطة توقف الرعية على حدودهم و ينتصف من الأقوياء للضعفاء و الثالثة صاحب خراج يستقصى و لا يخون و لا يظلم و الرابعة صاحب بريد صادق ينهى الاخبار بالصدق يوسع و لا يضيق على الحفد و الولد و إذا ملك الأراذل باد و قراءة اهل الحرمين ملك لقوله لمن الملك اليوم و لقوله ملك الناس و اصل الملكة الربط و الشدة و القوة و المراد من اليوم في الآية مطلق الوقت لا ما نعبّر به من انه من الطلوع الى الغروب و اضافة اليوم الى الدين كاضافة سائر الظروف الى ما وقع فيها من الحوادث، كقولهم.

يا سارق الليلة اهل الدار اى مالك الأمر في يوم الجزاء و قيل قراءة الملك ابلغ من المالك لان المالك هو الذي ملك شيئا من الدنيا و اما ملك هو الذي يملك الملوك لكنه معهذا قالوا مالك بالألف اكثر ثوابا من ملك لزيادة حرف فيه. حكي عن الثلجى انّه قال كان من عادتي قراءة مالك فسمعت من بعض اهل الفضل ان ملك ابلغ فتركت عادتي و قرأت ملك و رأيت في المنام قائلا يقول لي لم نقصت من حسناتك عشرا اما سمعت قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ القران كتب له بكل حرف عشر حسنات و محيت عنه عشر سيئات و رفعت له عشر درجات فلم اترك عادتي حتى رأيت ثانيا في المنام انّه قيل لي لم لا تترك هذه العادة اما سمعت قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اقرؤا القرآن فخما مفخما اي عظيما معظما فأتيت قطربا فسألته ما بين المالك و الملك قال الملك افخم معني من المالك و هو الأنسب بمقام الاضافة الى يوم الدين

[سورة الفاتحة (1): آية 5]

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

ايّا ضمير منفصل للمنصوب و اللواحق التي تلحقه من الكاف و الهاء و الياء لبيان الخطاب و الغيبة و التكلم و تقديم المفعول لقصد الاختصاص و العدول عن لفظ الغيبة الي الخطاب يسمى الالتفات عادتا من كلام الفصحاء لان فيه فائدة للسامع و تطربة نشاط يحصل له في الافتنان و يحصل بهذه الصنعة في الكلام استدرار اصغائه اليه بحسن الإيقاظ فبيّن اللّه سبحانه للعبد بيان الحقيق بالحمد و امره بالحمد و استشهد سبحانه في استحقاقه الحمد و اختصاصه له تعالى بربوبيّته و من صفاته برحمانيته فانكشف للعبد علم اليقين بمالكيته و خالقيته فانّ من كانت هذه

ص: 16

صفاته لم يكن غيره يستحق العبادة و الثناء إذ هو المختص بالحمد و هو الرّب المالك للعالمين بأسرها لا يخرج احد من ملكوته و ربوبيته و هو موصوف بولاية النعم الظاهرة و الباطنة من الرحمة فالمعبودية خاصة به و الفائدة المختصة من صنعة الالتفات في الآية هي انه بعد بيان شئون* (الجلالة)* بالأوصاف المذكورة تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالعبادة و الاستعانة به فخوطب ذلك المعلوم المتميز فقيل إياك نعبد و انما قدم ذكر العبادة على الطلب لان تقديم الوسيلة يكون قبل طلب الحاجة ليستوجب العبد الهداية فقال: اهدنا الصراط المستقيم. و روي ان الصادق عليه السّلام قرء اهدنا صراط المستقيم و اعلم ان المهتدي هو الذي ترك الدنيا و العادة ثم اشتغل بوظائف الطاعة و العبادة لا من اتبع هواه او خلط هواه بهداه. قال الشيخ البرسي: من استدام ذكر الهادي الخبير المبين عقيب سهر و جوع اطلع على اسرار الغيب. و كذا ذكر النور الهادي و يقول بعده اهدني يا هادي و أخبرني يا خبير فبهذا البيان الجلى صار العبد يشاهد بعين اليقين و يخاطبه و جاها و يناجيه شفاها.

أياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة و نستعين منك و لا نعبد غيرك و الضمير المستكن في نعبد و نستعين للقاري و من معه من الحفظة و حاضري الجماعة، اوله و لسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم و خلط حاجته بحاجتهم لعلها تجاب و تقبل ببركاتها و لهذا شرّعت الجماعة؛ و العبادة هي العبودية على النهج الذي امر به المعبود فمن العبادة الصلاة بلا غفلة و الصوم بلا غيبة و الصدقة بلا منة و الحج بلا ارائة و الغزو بلا طمع و لا سمعة و العتق بلا اذية و الذكر بلا ملالة و سائر الطاعات بلا آفة و كك في الأخلاق الرضى بلا ملال و كدورة و الصبر بلا شكاية و اليقين بلا شبهة و الإقبال بلا رجعة و الإيصال بلا قطيعة و يجمع كل هذه الأمور اتّباع السنة و هو مفتاح السعادة، كما قال ان كنتم تحبون اللّه فاتبعوني يحببكم اللّه. و لمّا أنعم اللّه على عبده بنعمة الصلاة قسّمها بينه و بين عبده كما قال على لسان نبيّه قسمت الصلاة بيني و بين عبدى نصفين فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سئل فنصفها الذي لحضرة جلاله: الصفات و الأسماء الحسنى و الحمد و الثناء و الشكر؛

ص: 17

و نصفها الذي للعبد الطلب و الدعاء

[سورة الفاتحة (1): آية 6]

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

بيان الطلب و المعونة المطلوبة إذ هو الذي سئله الأنبياء و الأولياء كما قال يوسف عليه السّلام توفني مسلما إذ لا يعتمد على ظاهر الحال فقد يتغير بالمآل كما لإبليس و برصيصا و بلعم، اى ارشدنا طريق الهداية و الصراط المستقيم استعارة عن ملة الإسلام و الدين الحق و أثبتنا على الهداية، و هداية اللّه على انواع منها الهداية بإرسال الرسل فانّهم الدعاة الى اللّه في عالم الأمر و الخلق اى: الباطن و الظاهر قال تعالى ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للايمان ان آمنوا بربكم فآمنا و هذا سماع يعم المعنوي شامل للمعاينة القلبية المساوق للايمان بالغيب؛ و منها الهداية بانزال الكتب سيما الفرقان. ان هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين؛ و منها الهداية القلبية: في الحديث إذا أراد اللّه بعبد خيرا فتح عينا قلبه لا يسمع بمعروف إلا عرفه و لا بمنكر الا أنكره و منها الهداية بالإلهام الرباني المخصوص بالأولياء أو المعجزات الباهرات الجاريات على أيدى الأنبياء و المعصومين و الى هذه الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي ما أن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» و الالف و اللام في الصراط للعهد يشمل جميع انواع الهدايات بقرينة بعده في قوله «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» فيعمّ هذا المعنى الكلّي في هذا الفرد، فهو من قبيل الاشتراك المعنوي لكن ليس بمشترك معنوي، بل هذه الأنواع افراده و اعداده كعدد الاول و الثاني في معني العترة، فالصراط المتصف بالاستقامة مندرج تحت هذا المفهوم الكلي، و هو صراط أوليائه. قيل فيه وجوه أخرى (أحدها) ثبتنا على الدين الحق، لأنّ اللّه قد هدى الخلق كلّهم على الفطرة الّا انّ الإنسان قد ينزل و ترد عليه الخواطر الفاسدة، فيلزم ان يسأل اللّه ان يثبته على دينه و يدعه عليه و يعطيه زيادات الهدى التي هي احد اسباب الثبات علي الدين كما قال تعالى: «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» و هذا كقول القائل لغيره و هو يأكل، كل: اى دم على الاكل. (و ثانيها) انّ الهداية هي الثواب او لازمها الثواب فمعناه اهدنا الى طريق الجنة ثوابا (و ثالثها) ان المراد دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر كما دللتنا عليه في الماضي، قال امير المؤمنين يعنى أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضى عمرنا، حتى نطيعك لذلك في مستقبل ايّامنا.

ص: 18

و في الكلام تحقيق آخر و هو ان العبد يحتاج الي الهداية في جميع أموره آنا فآنا و لحظة فلحظة، فادامة الهداية هي هداية أخرى بعد الهداية الاولى، فتفسير الهداية بادامتها ليس خروجا عن ظاهر لفظها، و في الآية الشريفة لفظ جامع يشتمل علي مسألة احكام المعرفة و التوفيق لإقامة الشرائع في الإسلام و معرفة من أوجب اللّه طاعته و اجتناب المحارم و الآثام و البرائة من احوال الزائلين المزيلين و الضالين المضلّين ممن عاند الحق و عمى عن طريق الرشد، فقال:

[سورة الفاتحة (1): آية 7]

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

: بدل من الصراط الاول بدل الكلّ، و المنعم عليهم الذي اصطفاهم من خلقه من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و الذين اقبلوا بالقبول من طلب رضاه حتى لو امر بذبح ولده كإبراهيم، او بأن ينقاد للذبح كاسمعيل، او بأن يرى نفسه في البحر كيونس، أو بأن يتلمذ مع بلوغه أعلى درجات الغايات كموسى، أو بأن يصبر في الأمر بالمعروف على القتل و الشق بنصفين كيحيى و زكريا. و معلوم ان المنعم عليهم طبقات، و هؤلاء المذكورون و أمثالهم المكمّلون في الاهتداء بحسب قابلياتهم، فأنعم اللّه على ضمائرهم و أرواحهم أنوار العناية، و على هممهم اثار الولاية و على نفوسهم و طباعهم قمع الهوي و قهر الطبع و حفظ الشرع بالرعاية و من مكايد الشيطان بالمراقبة و الكلاية، و دونهم المؤمنون الذين معهم، و قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا في اتباع السنة و انقياد النفس للأوامر و النواهي.

و في كتاب المعاني: عن الصادق عليه السّلام الهداية هي الطريق الي معرفة اللّه و هما صراطان صراط في الدنيا و صراط في الآخرة، فأما الصراط في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مر علي الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و عنه عليه السّلام ان الصراط امير المؤمنين، و زاد في رواية أخرى و معرفته، و في أخرى نحن صراط المستقيم فمعرفته و اتّباعه الصراط المستقيم فمن اصابه تلك المعرفة و ذلك النور فقد اهتدى، و من أخطأه فقد ضلّ، يا علي يا علي أنت أنت صراط اللّه لو انصفوك و قرأ صراط من أنعمت عليهم عن اهل البيت. و عن عمر بن الخطاب و عمر بن الزبير.

ص: 19

لكن الصحيح هو المشهور؛ و المنعم عليهم هم الذين خصهم اللّه بعصمته و احتج بهم على بريته و فضلهم على خليقته، فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة علي أكد الوجوه، كما تقول: هل ادلك علي أكرم فلان فيكون ذلك في وصفه بالكرم من قولك هل ادلك على فلان الأكرم، لأنك ذكرت كرمه مجملا اوّلا و مفصلا ثانيا و أوقعت فلانا تفسيرا للأكرم فجعلته علما في الكرم، و معني الكلام انه: من أراد رجلا جامعا للكرم ففلان: و المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب اللّه و قائدهم و رئيسهم الذي لم يشرك باللّه طرفة عين، و هو الصراط الأعظم امير المؤمنين عليه السّلام،

حبه موجب خلد و نعيم بغضه منشأ نار و سقر

ها على بشر كيف بشرنوره فيه تجلّى و ظهر

هو و المبدء شمس و ضياءهو و الواجب نور و قمر

علّة الكون و لولاه لماكان للعالم عين و أثر

ما هو اللّه و لكن مثلامعه اللّه كنار و حجر

و له أبدع ما تعقله من عقول و نفوس و صور

فلك في فلك فيه نجوم صدف في صدف فيه درر

جنس الأجناس عليّ و بنوه نوع الأنواع الى الحادي عشر

كلّ من مات و لم يعرفهم موته موت حمير و بقر

ليس من أذنب يوما بإمام كيف من أشرك دهرا و كفر

قوسه قوس نزول و عروج سهمه سهم قضاء و قدر

حبه مبدء خلد و نعيم بغضه منشأ نار و سقر

من له صاحبة كالزهراءاو سليل كشبير و شبر

من كمن هلّل في عهد صبي او كمن كبّر في عهد صغر

أيها الخصم تذكر سندامتنه صحّ بنصّ و خبر

إذ أتى احمد في خم غديربعليّ و على الرّحل نبر

قال من كنت انا مولى له فعلى له مولى و مقر

ص: 20

قبل تعيين وصىّ و وزيرمن رأى مات نبي و هجر

قال شيخ الطائفة في اماليه باسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: دخل الحارث الهمدانى علي امير المؤمنين على بن ابي طالب عليه السّلام في نفر من الشيعة و كنت فيهم، و ذكر الحديث و قال في آخره و أبشرك يا حارث و الذي فلق الحبّة و برء النسمة ليعرفني وليّي و عدوّى في مواطن شتّى ليعرفني عند الممات و عند الصّراط، و عند المقاسمة، فقال:

و ما المقاسمة يا مولاي قال: مقاسمة الجنّة و النّار أقول: هذا وليي و هذا عدوّي، ثمّ أخذ أمير المؤمنين بيد الحارث و قال يا حار أخذت بيدك كما أخذ رسول اللّه بيدي، فقال لي و قد اشتكيت حسدة قريش و المنافقين انّه إذا كان يوم القيمة أخذت بحجزة يعنى عصمة من ذي العرش تعالى، و أخذت أنت يا عليّ بحجزتي و أخذت ذريّتك بحجزتك و أخذت شيعتك بحجزتكم، فماذا يصنع بنبيّه، و ما يصنع نبيّه بوصيّه، و ما يصنع وصيّه بأهل بيته و شيعتهم. خذها إليك قصيرة من طويلة، أنت مع من أحببت و لك ما اكتسبت قالها ثلاثا، فقام الحارث يجر ردائه جذلا و قال ما أبالي و ربّى بعد هذا متي لقيت الموت او لقيني.

و عن امير المؤمنين عليه السّلام قال: قال لي رسول اللّه يا على ان اللّه أعطاني فيك سبع خصال أنت أول من ينشق القبر عنه و اوّل من يقف على الصراط معى فتقول للنار خذي هذا فهو لك و ذري هذا، فليس هو لك، و أنت أول من يكتسى إذا كسيت و يحيي إذا حييت و اوّل من يقف معى عن يمين العرش و أول من يقرع باب الجنّة و أول من يسكن معي عليين و أول من يشرب معى من الرحيق المختوم الذي ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون.

ابن بابويه قال: قال رسول اللّه معاشر الناس من أحسن من اللّه قيلا و اصدق من اللّه حديثا، معاشر الناس ان ربكم أمرني ان أقيم لكم عليا علما و اماما و خليفة و وصيا و ان اتخذه أخا و وزيرا، معاشر الناس ان عليا باب الهدي بعدي و الداعي الي ربي و هو صالح المؤمنين و من احسن قولا ممن دعا الى اللّه و عمل صالحا و قال: انني من المسلمين، معاشر الناس ان عليا منّى، ولده ولدي و هو زوج حبيبتي، امره امري و نهيه نهيي،

ص: 21

أيها الناس عليكم بطاعته و اجتناب معصيته، و انّ طاعته طاعتي و معصيته معصيتي معاشر الناس ان عليّا صدّيق هذه الامة و فاروقها و هارونها و يوشعها و شمعونها و آصفها، انه باب حطتها و سفينة نجاتها، انه طالوتها و ذو قرنيها، معاشر الناس انه محنة الورى و الحجة العظمى و الآية الكبرى و امام الهدى و العروة الوثقى، معاشر الناس انّ عليا قسيم لا يدخل النار ولىّ له و لا ينجو منها عدوّ له، انّه قسيم الجنّة لا يدخلها عدوّ له و لا يتزحزح منها ولىّ له، معاشر اصحابي قد نصحت لكم و بلّغتكم رسالة ربّى و لكن لا تحبون الناصحين أقول قولي هذا و استغفر اللّه لي و لكم.

و أصل الصراط سراط من السين و ابدلوا السين بالصاد لما بين الصاد و الطاء مواخاة في الاستعلاء، و لكراهة ان يتسفل بالسين، ثم يتصعد بالطاء ابدلوا بالصاد.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ جرّ غير على البدلية من الهاء و الميم في عليهم مثل قول الشاعر:

علي حالة لو انّ في القوم حاتم على جوده لضنّ بالماء حاتم

فجرّ حاتم على البدليّة من الهاء من جوده، او يكون غير مجرورا علي البدليّة من الذين، او يكون صفة للذين و كلمة غير يستعمل لمعني المغايرة و نفى الحكم. و معني الغضب ثوران النفس عند ارادة الانتقام و يحصل غليان في دم القلب لشهوة التشفي و الانتقام، و هذه الكيفية في حقّ اللّه تعالى محال، و المراد هنا نقيض الرضى، او ارادة الانتقام او الأخذ الشديد: و ذلك لأنّ القاعدة التفسيرية عند اهل التفسير انّ الأفعال التي لها اوايل بدايات و أواخر غايات إذا لم يجز و لم يمكن إسنادها الى اللّه باعتبار البدايات يراد بها حين الاسناد النهايات كالغضب و الحياء و التكبّر و الاستهزاء و السرور و الغم. و المراد من المغضوب عليهم هم اليهود، و الضالين، النصارى.

و يدل على هذا المعنى قوله تعالى: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ) و قال تعالى: (وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

و اما النصارى بدلالة قوله: (وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً

ص: 22

وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)، و الآية في حقهم و قد اشتهر تفسير المغضوب عليهم باليهود و الضالين بالنصارى، و فسر المغضوب عليهم بالعصاة في الفروع و الضالين بالمختلين في الاعتقاديات، فان المنعم عليه من وفق الجمع بين العلم و العمل بالاحكام الاعتقاديّة و العمل بالشريعة فالمقابل له من اختل احدى قوتيه العاقلة و العاملة، و لفظة «لا» تفيد تأكيد النفي الواقع قبلها، و في عدوله سبحانه عن اسناد الغضب الى نفسه تعالى مع التصريح باسناد عديله اعنى النعمة اليه تشييد لمعالم العفو و الرحمة و اشارة لمبانى الجود و الكرم حتى كان الصادر عنه هو الانعام لا غير، و ان الغضب صادر عن الغير بسبب ان الغير صار سبب الغضب و الا فالمناسب ان يقول غير الذين غضبت عليهم، فصار الكلام في قوّة التصريح في جانب الرحمة و التعريض في جانب العقاب.

و كذلك اغلب الآيات المتضمنة لذكر العفو و الانتقام، فإنك تجدها ظاهرة في ترجيح جانب العفو: مثل قوله تعالى: «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» مع ان ظاهر المقابلة و نسق الآية ان يقول و كان اللّه غفورا معذبا، و كذلك قال تعالى «غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ» حيث بعد بيان صفة الانتقام بقوله شديد العقاب جعلها محفوفة بنعوت الإحسان. و ليس المراد تخصيص نسبة الغضب باليهود و نسبة الضلال بالنصارى بل جميع الكفّار في بين النسبتين داخلون و الكفر ملّة واحدة الا إن اللّه يخص كل فريق بسمة يعرف بها و يميز بينه و بين غيره بها و ان كانوا مشتركين في صفات كثيرة.

و قال عبد القادر الجرجانى ان حق اللفظ فيه ان يكون خرج مخرج الجنس و قيل المراد من المغضوب عليهم العصاة و من الضالين الجاهلون باللّه لان المنعم عليهم هم الجامعون بين العلم و العمل فكان المقابل لهم من اختل احدى قوتيه العاقلة و العاملة و المخل بالعلم و العمل جاهل ضالّ.

فأن قيل انّ من المعلوم ان المنعم عليهم غير الفريقين فما الفائدة في البيان، أقول:

الفائدة اشعار مقام الخوف و الرجاء.

قال محمد الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام أنّه كان يقرء ملك يوم الدّين و يقرء اهدنا

ص: 23

صراط المستقيم و عند اهل السنّة بعد فراغ الفاتحة يستحب القول بكلمة آمين و روى جميل عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كنت خلف امام ففرغ من قراءة الفاتحة فقل أنت من خلفه: الحمد للّه ربّ العالمين. و روى فضيل بن يسار عنه عليه السّلام إذا قرأت الفاتحة ففرغت من قراءتها فأنت في الصلاة فقل الحمد للّه رب العالمين. و اعلم انّ المصلّى إذا توجه بوجهه الى اللّه لأداء وظيفة العبودية و احرم بالتكبيرة مع النية الخالصة لمولاه و التزم بحضور قلبه و عرف نعم اللّه بالمشاهدة و نفسه بذلك اعدل شاهد و اصدق رائد ابتدأ بالتسمية استفتاحا باسم المنعم و اعترافا بإلهيته و استرواحا الى ذكر فضله فبعد ان اعترف بالمنعم الفرد اشتغل بالشكر له و الحمد له فقال «الْحَمْدُ لِلَّهِ» و لما رأى نعم اللّه على غيره واضحة كما شاهد آثارها على نفسه لائحة عرف أنّه رب الخلائق أجمعين فقال «رَبِّ الْعالَمِينَ» و لذلك لمّا كان شمول فضله و عموم رزقه للمربوبين قال «الرحمن» و لما رأى تقصيرهم في واجب شكره و عدم مؤاخذته عاجلا بالعصيان قال «الرحيم» و لمّا رأى ما بين العباد من التباغي و الفساد و التكالب و التلاكم و ان ليس بعضهم من شرّ بعضهم بسالم علم أنّ ورائهم يوما ينتصف فيه للمظلوم من الظالم فقال.

«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» و لما عرف هذه الجملة فقد علم انّ له خالقا رازقا يحيى و يميت و يبدي و يعيد و لمّا صار الإله الموصوف بهذا الوصف كالمدرك بالحس و العيان تحول عن لفظ الغيبة إلى الخطاب فقال.

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ» ثم سئله الاستعانة لأموره دينا و دنيا بقوله «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ثم سئله الاستدامة على دين الحق و الثبات عليه بل طلب أمرا جامعا لجميع مراتب الخير فقال «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» صراط أوليائك الذين اصطفيتهم فسأله ان يلحقه بهم و يسلك به سبيلهم لا سبيل الزائغين و المنحرفين فقال «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ».

و القرآن أعجز الأولين و الآخرين بالبلاغة و الفصاحة. اعلم أنّه لا بدّ ان ان يكون لكلّ كلام مرغوب حظّ من البلاغة و قسط من الجزالة و البراعة فحينئذ ما ظنّك بما في ذروة الاعجاز و أعلم انّ شعب البلاغة في علم المعاني و البيان عشرة: الاستعارة، و التشبيه و الكناية و الإيجاز و الاطناب و المغالطة و التضمين و الاستدراج و المبادي و التخلص

ص: 24

و الاولى: اى الاستعارة هو ان يحاول المنشى و المتكلم تشبيه شي ء بغيره و لا يأتى باداة التشبيه طلبا لزيادة الدلالة مع الإيجاز فيستعير اسم المشبه به و يكسوه الشبه من غير تعرض لذكر المشبه فيحصل به زيادة بلاغة مثاله فأذاقها اللّه لباس الجوع و الخوف. الضمير المؤنث راجع إلى مكة باعتبار أهلها و وجه الاستعارة ان الثوب لما كان يحيط بجوانب اللابس استعار اسم اللباس للخوف و الجوع حيث أراد سبحانه الاخبار عن احاطة الجوع و الخوف من جميع الجهات فهو ابلغ في المقصود إذ لو قال جعل اللّه الجوع و الخوف محيطين بهم من جوانبهم كانّه لباس لهم لم يكن في الكلام من الحسن ما في الاستعارة.

الثانية: من أبواب البلاغة التشبيه و هو الدلالة على شيئين اشتركا في معنى لكن ذلك المعنى ثابت و معروف في الاسم الذي دخلت عليه أداة التشبيه فيجعل المنشي و المتكلم الاسم الذي لم تدخل عليه الاداة كالاسم الذي دخل عليه الاداة مثاله زيد كالأسد و وجهه كالقمر كأنّهم جراد منتشر شبّه سبحانه الناس عند خروجهم من القبور مضطربين متحيرين قد طبقوا الجهات بكثرتهم لا يلوى بعضهم على بعض بالجراد المنتشر لحصول هذا المعنى من هذا التشبيه.

الثالثة: الكناية و هو لفظ استعمل في معناه لكن المراد ما يلزم ذلك المعنى، مثاله في عيسى و امه كانا يأكلان الطعام، كنى به عن خروج الخارج منهما لأنه من لوازم الاكل و هو افصح و أوجز و الطف، و المقصود من هذه الكناية ان من خرج منه هذا الخارج فهو بمعزل عن الإلهية و ردّ محكم لقول النصارى.

الرابعة: الإيجاز و هو التعبير بالألفاظ القليلة عن المعاني الكثيرة و هو دليل على رجحان العقل، فكل نوع صحيح من الإيجاز معدود من الاعجاز، و قد اجمع ارباب المعاني و البيان انّ أوجز كلمة استعملتها العرب هي قولهم: القتل أنفي للقتل، فلمّا نزل قوله و لكم في القصاص حيوة أذعنوا برجحانه بل قولهم القتل انفي للقتل هذا الكلام ليس بتامّ فانّ بعض القتل هو موجب لكثرة القتل لا نفيه.

الخامسة: الإطناب و هو ذكر الشي ء مرّة أخرى بلفظ غير الاول لشدة الاعتناء به، مثاله: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ»، فقوله بأفواهكم

ص: 25

اطناب لأنّ قوله يقولون دلّ على ما دلّ بأفواهكم فانّ القول لا يكون الا بالفم و لكن نبّه به على تعظيم هذا الأمر لشدة قبحه.

السادسة: المغالطة و هي ان يأتي المنشى المجيّد بكلام يدلّ على معنى و له مثل او نقيض يكون المثل و النقيض احسن موقعا، مثاله في حقّ المنافقين و قد صدر منهم كلمات في حق النبيّ بالاستهزاء، فقال: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ» فغالطوا في الجواب بهاتين الكلمتين الموهمتين صدق ما كانوا فيه، فكذّبهم اللّه بقوله: «قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ» السابعة: التضمين و هو ان يضمن المنشى كلامه شيئا من الأمثال او الشعرا و الحديث و هو يزيد الكلام عذوبة و حسنا.

الثامنة: الاستدراج و هو ان يصوغ لغرضه ألفاظا يكسوها من اللطافة ما يحيّر الألباب، و هو الركن الأعظم في هذه الصناعات، مثاله في القرآن. «وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ»، فانّ موسى عليه السّلام لمّا أراد ان ينقل قومه من أرضهم الى غيرها أسمعهم ما سرّهم ثم استدرجهم الى مطلوبه بقوله: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ».

التاسعة: المبادي و تسمّى براعة الاستهلال، و هو ان يجعل اوّل كلامه دالّا على المقصود كقول النحوي: الحمد للّه الذي رفع من انخفض لجلاله.

العاشرة: التخلّص و هو ان يجعل بين المعنى الذي ينتقل عنه و الذي ينتقل اليه ارتباطا و تعلّقا بحيث يكون الكلام المشتمل على المعاني المتعددة كالمنتظم في سلك واحد مثاله: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» الى ان يقول «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ»، فانّ في هذه الآيات الى قوله: ثم يحيين من حسن التخلص ما يدهش العقول فتأمّل في حسن البلاغة.

قال اهل البيان انّ من البلاغة براعة الاستهلال و حسن الابتداء و هو ان يأتي المتكلّم بكلام يفهم غرضه من كلامه، عند الابتداء من كلامه، من استهل الصبى اى صاح عند الولادة،

ص: 26

و استهل رأى الهلال و استهلت السماء اى جادت بالهلال و هو أول النظر و المقصود من إنزال القرآن حفظ الأصول التي عليها مدار الدين و الدنيا و الأصل الأول معرفة اللّه و صفاته، و الى هذا المعنى الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم من الصفات.

فيستحق الحمد و الإطاعة ثم الأهم معرفة النبوات، و اليه الإشارة بالذين أنعمت عليهم و معرفة المعاد، و اليه الإشارة بمالك يوم الدين، ثم علم العبادات و اليه الإشارة بايّاك نعبد، و علم السلوك و هو حمل النفس على الآداب الشرعية و الانقياد، و اليه الإشارة باهدنا الصراط المستقيم، و علم القصص و هو الاطّلاع على اخبار الأمم السابقة ليعلم المطّلع على ذلك سعادة من أطاع اللّه و شقاوة من عصاه، و اليه الإشارة بقوله:

«صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» ففي فاتحة القرآن براعة و تنبيه على الغرض من إنزال القرآن، و كذلك سورة اقرأ فيها حسن الابتداء و البراعة، فان فيها الأمر بالقرائة و البدء فيها باسم اللّه لتعريف ذاته، و فيه اشارة الي علم الاحكام بقوله «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» مثال براعة الاستهلال في الشعر قول ابى تمام يهنّى المعتصم العباسي بفتح عمورية و كان المنجمون زعموا انها لا تفتح في هذا الوقت.

السيف اصدق انباء من الكتب في حدّه الحدبين الجدّ و اللعب

بيض الصفائح لأسود الصحائف في متونهنّ جلاء الشك و الريب

قيل في معنى التفسير أصله من التفسرة و هو ماء المريض يجعلونه في القارورة ليعلم و يستنبط الطبيب مرض المريض فيستكشف منه، و قيل غيره. و القرآن معانيه على اقسام منها ان المصلحة لا تقتضي ان يعلم علمه احد حتى الأنبياء، مثاله: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» و قسم يعلمه من عرف العربية و هو المحكم، مثل: «قوله تعالى وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ* و «لا تَقْرَبُوا الزِّنى و لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ»* و اغلب القرآن من هذا القسم الثاني، و قسم ثالث و هو الذي لا يتبين المراد منه كاملا الّا إذا شرحه النبي، و هو الذي يسمّى بالمجمل نحو «أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ»* و مثل «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» و قسم رابع و هو الّذى لفظه مشترك و هو الّذى يسمّى بالمتشابه كه آن ذو احتمال بر معاني چند باشد، در

ص: 27

اين صورت پس متشابه آن باشد كه مراد أز ظاهر فهميده نشود بدون دليل سمعي نه عقلي، بعبارة اخرى لا يقدم المكلّف في العمل به الا باخبار الرسول و الامام من نقل الصحيح عنهم.

و مثال آيات متشابهه مثل و جاء ربّك و قوله فثمّ. وجه اللّه. و قرآن ناسخ است و منسوخ يعنى آيه بعد نسخ حكم ما قبل را ميكند مثل «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» كه اين آيه نسخ كرد آيه قبل را كه اين بود «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ» و هذا الحكم منسوخ لكن التلاوة غير منسوخة، هذا قسم من النسخ و اما العامّ فهو لفظ يشمل جميع افراد جنسه و الخاص لا يشمل الا الفرد و اما أسامي القرآن أولها القرآن من الضم و الجمع و فرقان و كتاب و ذكر و تنزيل و حديث و موعظة و تذكرة و تبيان و بصائر و فصل و حكم و حكيم و ذكرى و حكمة و مهيمن و شافي و هدى و هادي و صراط مستقيم و نور و حبل و رحمت و روح و قصص و حق و بيان و عصمة و مبارك و نجوم لأنّها نزلت نجما نجما قال اللّه فلا اقسم بمواقع النجوم و هو المراد من المعنى و مجيد و عزيز و كريم و عظيم و سراج و منير و بشير و نذير و عجيب و قيّم و مبين و نعمة و علىّ فهي ثلاثة و أربعون اسما لها مناسبات مع المسمى. و اما السورة سميت بها قيل السورة المنزلة العظيمه. قال النابغة الم تر ان اللّه اعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب. اي منزلة شريفة عالية و كذا سور البلد لأنه مرتفع.

هذا إذا كان بغير الهمزة لكن إذا كان مهموزا فالمعنى بقية الماء و الطعام في الإناء، و اما الآية بمعني العلامة مثل و آية منك في كلام عيسى و بمعنى الرسالة أبلغه عني آية اى رسالة و بمعنى الجماعة كقولهم خرج القوم بآيتهم اى بجماعتهم و بمعنى الأعجوبة، كل هذه المعاني مناسبة للآية و اما الكلمة لفظ موضوع يدل على معني بالوضع.

في ثواب القراءة روى شهر بن حوشب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال فضل القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن غنى لا غنى دونه و لا فقر بعده قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن أفضل كلشي ء دون اللّه فمن وقّر القرآن فقد وقر اللّه و من لم يوقّر القرآن فقد

ص: 28

استخف بحرمة اللّه و حرمة القرآن عند اللّه كحرمة الوالد عند ولده.

و عن أبى امامة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ ثلث القرآن كأنّه اوتى ثلث النبوّة. و من قرأ ثلثيه كأنّما اوتى ثلثى النبوّة و من قرأ تمام القرآن فكأنّما اوتي تمام النبوّة، ثمّ يقال له اقرأ و ارقأ بكلّ آية درجة في الجنّة.

و في رواية عن نساء النبي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حملة القرآن هم المحفوفون برحمة اللّه الملبّسون نور اللّه، المعلّمون كلام اللّه، من عاداهم فقد عادي اللّه، و من و الأهم فقد والى اللّه، يقول اللّه تعالى يا حملة القرآن تحبّبوا الى اللّه بتوقير كتابه يزدكم حبّا و يحببكم إلى خلقه و يدفع عن مستمع القرآن شرّ الدنيا و يدفع عن تالي القرآن بلوى الآخرة، و لمستمع آية من كتاب اللّه خير من مبشر ذهبا و لتالى آية من كتاب اللّه خير مما تحت العرش الى تخوم الأرضين السفلى، و في رواية عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من تلا كتاب اللّه من الصفحة لا من ظهر الخاطر خفّف اللّه عن والديه و لو كانا مشركين.

و في خبر آخر قال معاذ بن جبل: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ان أردتم عيش السعداء و موت الشهداء و النجاة يوم الحشر و الظل يوم الحرور، و الهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن فانّه كلام الرحمن و حرز من الشيطان و رجحان في الميزان. و روى حارث الهمدانى عن امير المؤمنين عن رسول اللّه: انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكر فتنة بعده فقلنا يا رسول اللّه فبما الخلاص منها؟ قال: بكتاب اللّه، قال عطا أنزلت فاتحة الكتاب بمكّة يوم الجمعة كرامة أكرم اللّه نبيّه بها و كان معها سبعة آلاف ملك حين نزل بها جبرئيل، روى ان عير أقدمت من الشام لأبي جهل بمال عظيم و هي سبع فرق و رسول اللّه و أصحابه ينظرون إليها و أكثر الصحابة بهم جوع و عرى فخطر ببال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان يسأل شيئا من اللّه لحاجة أصحابه فنزل قوله تعالى:

«وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي» أى مكان سبع قوافل لأبي جهل، و لمّا علم اللّه ان تمنّيه لم يكن لنفسه بل لأصحابه قال: «وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ».

و فضايل هذه السورة كثيرة، قيل انّه ليست فيها سبعة أحرف، ثاء الثبور و جيم الجهيم و خاء الخوف و زاء الزقوم و شين الشقاوة و ظاء الظلمة و فاء الفراق، و من قرأها

ص: 29

على التعظيم و الحرمة أمن من هذه الأشياء السبعة. و في الروضة من خطبة لعلىّ بن الحسين عليه السّلام: و أشعروا قلوبكم خوف اللّه و تذكّروا ما وعدكم اللّه في مرجعكم اليه من حسن ثوابه كما قد خوّفكم من شديد العقاب، فإنّه من خاف شيئا حذّره و من حذر شيئا تركه، و لا تكونوا من الغافلين. قال الصادق عليه السّلام: من عرف اللّه خاف اللّه، و من خاف اللّه سخط نفسه عن الدنيا، و ان حبّ الشرف و الذكر لا يكونان في قلب الخائف الهارب و المؤمن بين مخافتين ذنب قد مضى و عمر قد بقي لا يدرى ما يكتسب فيه من المهالك فهو لا يصبح إلا خائفا و لا يصلحه إلا الخوف و لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا، حتى يكون عاملا لما يخاف و يرجو.

روى الصدوق من ليث بن ابى سليم قال: سمعت رجلا من الأنصار يقول: بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مستظل بظل شجرة في يوم شديد الحر إذ جاء رجل فنزع ثيابه ثمّ جعل يتمرّغ في الرّمضاء يقلّب ظهره مرّة و بطنه مرّة و جبهته مرّة و يقول يا نفس ذوقى فما عند اللّه أعظم ممّا صنعت بك؛ و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينظر اليه ما يصنع ثمّ انّ الرجل لبس ثيابه ثمّ اقبل فأومى اليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيده و دعاه فقال له: يا عبد اللّه ما حملك على ما صنعت قال:

مخافة اللّه فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد خفت ربّك حق مخافته، فانّ ربّك يباهى بك اهل السماء ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه يا معشر من حضر ادنوا من صاحبكم حتّى يدعو لكم فدنوا منه، فدعا لهم فقال: اللهمّ اجمع أمرنا على الهدى و اجعل التقوى زادنا و الجنّة مآبنا.

أقول و قلّة الخوف ناشية من ضعف الايمان و شدة الغفلة، امّا ضعف الايمان لأنّك ما استكملته باليقين و إيمانك ظنيّا تخمينيا و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة، و العلاج ملازمة الفكر في اهوال القيامة و التدبّر في سيرة الأنبياء و الكمّلين فإنّهم مع عصمتهم و جلالة شأنهم كيف يخافون اللّه و يأخذهم الغشوة من الخوف و يتململون تململ السليم؟

و أما الغفلة فتزول بالتذكير و مجالسة الأخيار و مشاهدة أحوالهم فان فاتت المشاهدة فالسماع لا يخلو من تأثير. قال السجاد عليه السّلام سبحانك عجبا لمن عرفك كيف لا يخافك؟

ص: 30

أقول: ان الخوف إذا كان صادقا يظهر اثره في الظاهر و الباطن كما ترى المتصف بالغضب يحمر وجهه و يقف شعره و يشتد حركاته الى انتقام من ظلمه، كذلك من اتّصف بالخوف يصفر وجهه و من اتّصف برقة القلب تجرى دمعة عينيه بمجرّد سماع مصيبة، كلّ ذلك للعلاقة الذاتية بين الظاهر و الباطن. و هذا معنى قولهم بين الروح و الجسد علاقة طبيعية، ففي الروح كالأصل و اللب و في الجسد كالفرع و القشر و هما متلازمان، اما سمعت انّه عليه السّلام كان إذا قام الى الصلاة تغير لونه حتى يعرف ذلك من وجهه و كذلك ابنه السجاد عليه السّلام كان إذا قام للوضوء تغيرت حاله و ذلك لأنّه قد غلب عقولهم على شهواتهم فتركوا اللّذائذ الدنيويّة علما منهم بفنائها و خافوا من هيبة كبرياء اللّه و رجوا رضى اللّه و الرجاء مقام سنى. تمت سورة الفاتحة.

ص: 31

سورة البقرة مدنية

اشارة

سورة البقرة مدنيّة إلّا آية منها فانّها نزلت في حجّة الوداع بمنى و هي:

«وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مرّ تفسيره، و اعلم انّ المراد من قولهم مكيّة او مدنيّة انّه كلّما نزل قبل الهجرة يقال: مكيّة، و كلّما نزل بعد الهجرة يقال مدنيّة، سواء نزلت بالمدينة أو غيرها، و في الكافي عن العياشي عن أبى جعفر عليه السّلام قال: نزّل القرآن على أربعة أرباع ربع فينا و ربع في عدوّنا و ربع سنن و أمثال و ربع في فرائض.

و في رواية عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: نزّل القرآن أثلاثا ثلث فينا و في عدوّنا و ثلث سنن و أمثال و ثلث فرائض و أحكام. و المثل إتيان لفظ جلى لايضاح معنى خفيّ و فائدته التأكيد في اثبات الحكم للممثّل مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

مثل اهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجي و من تخلّف عنها هلك.

[سورة البقرة (2): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1)

و قد تكلّموا في شأن فواتح السور الكريمة فقيل انها من الأسرار المحجوبة، و العلوم المستورة و من المتشابه الذي استأثر اللّه بعلمه و هي سرّ القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها و نكل العلم فيها الى اللّه، و هذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام و فسّرها لآخرون على وجوه:

أحدها: انها أسماء السور.

و ثانيها: ان المراد الدلالة على أسماء اللّه فقوله الم معنى الالف: انا اللّه، و اللام:

اللطيف، و الميم: المجيد كما في قوله «الر»* أنا اللّه أرى، و «كهيعص»: انا اللّه الكريم الهادي الحكيم العليم الصادق، فهي حروف مقطعة كل منها مأخوذ من اسم من أسمائه، و قالوا الاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العربيّة كما قال الشاعر: قلت لها قفي فقالت: ق، أي وقفت. و القول الاول أقرب إلى القبول، فيكون من المواضع المعمّيات بالحروف بين المحبين، لا يطلع عليها غيرهما.

ص: 32

قال الرازي في المفاتيح أن الألفاظ التي يتهجّي بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة، لأنّ الضاد مثلا لفظة مفردة دالة على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى و ذلك المعنى هو الحرف الاول من ضرب، فثبت أنّها أسماء لذلك المسمّيات و لأنّها يتصرّف فيها بالتعريف و التنكير و الجمع و التصغير و الوصف و الاضافة و الاسناد، و حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الاعجاز كأسماء الاعداد؛ فيقال:

ألف، لام، ميم، كما تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، فإذا وليتها العوامل أدركها الاعراب كقولك هذه ألف؛ و كتب الفا، و نظرت إلى ألف، و إنّما سكنت سكون ساير الأسماء حيث لا يمسّها اعراب لفقد موجبه، و سكونها وقف لا بناء، لأنّها لو بنيت لحذي بها حذو كيف و أين، انتهى.

و الذين قالوا: انّ هذه الحروف المقطعة سرّ محجوب استأثر اللّه به، كما سئل الشعبي عن هذه الحروف، فقال سرّ اللّه فلا تطلبوه. و عن ابن عبّاس قال: عجزت العلماء عن إدراكها فقد ردّ عليهم المتكلّمون و قالوا لا يجوز أن يرد في كتاب اللّه ما لا يكون مفهوما للخلق، و احتجّوا بالآيات و الاخبار و المعقول مثل قوله تعالى: «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» أمرهم بالتدبر في القرآن و لو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه، و كذلك قوله: «وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» يدلّ على أنّه نازل بلغة العرب و إذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوما، و كذلك قوله: «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» و الاستنباط منه لا يكون يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه، و قوله: «أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» و كيف يكون الكتاب كافيا؟ و هو غير مفهوم.

و أما الأخبار: قال علي عليه السّلام: عليكم بكتاب اللّه، فيه نبأ ما قبلكم و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبّهار قصمه اللّه و من اتبع الهدى في غيره أضلّه اللّه، و هو حبل اللّه المتين، و الذكر الحكيم، هو الذي لا يزيغ به الأهواء، و لا تشبع منه العلماء، و لا يخلق على كثرة الرد، و لا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، و من حكم

ص: 33

به عدل، و من خاصم له فلج، و من دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.

أمّا المعقول انّه لو ورد شي ء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجري مخاطبة العربي باللّغة الزنجيّة و لمّا لم يجز ذلك فكذا هذا، و احتجّ مخالفوهم بالآية و الخبر و المعقول.

أما الآية فهو انّ المتشابه من القرآن و أنّه غير معلوم لقوله: «وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» و الجواب عن هذا الجواب انّه انّما استدلوا على مدّعاهم بهذه الآية حيث أوجبوا الوقف بقوله إلّا اللّه، و من أين ثبت وجوب الوقف، ثم من أين لزم فهم المتشابهات لكل احد بل كلّ احد يجب أن يفهم من القرآن ما بيّنه الشارع علي لسان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك مفهوم من المحكمات بتعليم النبي و بيانه، و أمّا العلم بتأويله و ما لا يجب عليهم فذلك علمه عند رسوله و إنّما يعرف القرآن من أنزل عليه، فيكون علم فواتح السور من العلوم المخزونة عنده و عند نبيّه، و من المعلوم أنّ معرفة كمال حقايق القرآن بأجمعها ليس من وظيفة عامّة الناس لأن القرآن بحر له بطون، و أين الثريا من يد المتناول، و لكن يجب معرفته لأداء ما يجب على المكلّف أدائه، فأيّ محذور يترتّب إذا لم يفهم المكاري من قوله (حم عسق) و هو علم غير مربوط بالاحكام، و العلم المتعلّق بالاحكام، فهو من المحكمات، و قد بينه الشارع؛ على أنّ القول بأنّ هذه الفواتح من السّور غير معلومة مروى عن أكابر الصحابة.

و الأفعال التي كلفنا بها قسمان: منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة كالصلاة، و الزكاة، و الصوم، مثل أن الصلاة تواضع محض و تضرّع للخالق، و الزكاة سعى في دفع حاجة الفقير و الصوم سعى في كسر شهوة النفس و الاستغفار مثلا حطّ للذنوب، فمن استغفر السبعين بهذا الاستغفار المذكور في صحيفة العلوية الذي في آخره: اللهمّ و استغفرك لكل ذنب جرى به علمك فيّ و علىّ الى آخر عمرى بجميع ذنوبي لأوّلها و آخرها و عمدها و خطائها و قليلها و كثيرها و دقيقها و جليلها و قديمها و حديثها و سرّها و علانيتها و جميع ما أنا مذنبه و أتوب إليك و أسألك أن تصلّي على محمّد و آل محمّد و أن تغفر لي جميع ما أحصيت من مظالم العباد قبلي فإنّ لعبادك عليّ حقوقا أنا مرتهن بها تغفرها لي

ص: 34

كيف شئت و أنّى شئت يا أرحم الراحمين، غفر اللّه ذنبه.

و منها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه و لا يلزم لنا معرفة حكمة أفعاله، مثل رمي الجمرات، و معرفة بعض متشابهات القرآن و فواتح السور يكون من هذا القبيل، انتهى رجعنا الى التفسير.

الم. قيل إنّ فواتح السّور أقسام أقسم اللّه بها و هي من أسمائه تعالى.

و قيل: إنّها أسماء القرآن و قيل: إنّها تسكيت للمشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن و أن يلغوا كما ورد به التنزيل من قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه فربّما صفقوا و صفروا ليغلطوا النبي، فأنزل اللّه هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا استمعوا إليه، و تفكّروا، و اشتغلوا عن تغليطه، فيقع القرآن في مسامعهم، و يكون ذلك سببا لدرك منافعهم.

و قيل: إنّ المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم و كلامكم، فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنّه من عند اللّه لأنّ العادة لم تجر بأنّ النّاس يتفاوتون في القدر من الكلام هذا التفاوت العظيم و إنّما كرّرت في مواضع استظهارا في الحجّة.

و قيل: انّ كل حرف منها يدلّ على مدّة قوم و آجال آخرين يعرفه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في تأويلات القاسانية، «ألف» إشارة إلى الذات الذي أول الوجود، و «ل» اشارة إلى العقل الفعّال المسمّى بجبرئيل و هو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ و يفيض إلى المنتهى، و «م» إشارة إلى محمّد الذي هو آخر الوجود و لذا ختم به. و قيل وجوه أخر لا يسعها هذا المختصر.

و أما إعراب موضع «الم» فيختلف بحسب اختلاف هذه الوجوه، فيجوز الرفع على الابتداء أو على الخبر لمبتدأ مقدر و يجوز النصب محلا على إضمار فعل، تقديره اتل أو اقرأ. و أما على قول من جعل هذه الحروف المقطعة قسما موضعها النصب أيضا بإضمار لأنّ حرف القسم إذا حذفت يصل الفعل الى المقسم به فينصبه، فانّ معنى قولك باللّه: أقسم باللّه، ثم حذف اقسم فبقى باللّه فلو حذفت الباء لقلت اللّه لأفعلنّ بنصب اللّه. و أما علي مذهب من جعل هذه الحروف اختصارا من كلام يعلمه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القائل ابن عبّاس فلا محلّ

ص: 35

لها من الاعراب لأنّها بمنزلة قولك زيد قائم في أنّ موضعه لا محلّ له من الاعراب، و إنّما يكون للجملة موضع إذا وقعت موقع المفرد، و هذه الحروف المتهجيّة و اسماء الاعداد إذا أخبرت عنها أدخلتها في جملة الأسماء المتمكّنة و أخرجتها بذلك من حيّز الأصوات و الّا فحكمها على السكون كالمبنى؛ او هو المبنى.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 2]

ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)

إن جعلت الم اسما للسورة ففيه وجوه:

أحدها: ان يكون الم مبتدأ و ذلك مبتدأ ثانيا، و الكتاب خبره، و الجملة خبر المبتدأ الأوّل، فيكون المعنى: انّ ذلك الموعود به، الكتاب الذي يستأهل ان يسمّى كتابا، كانّ ما سواه بالنسبة اليه ناقص، كما تقول هو الرّجل اى الكامل في الرجولية.

و الوجه الثاني: ان يكون الكتاب صفة، فيكون المعنى الم هو ذلك الكتاب الموعود.

و الوجه الثالث: ان يكون التقدير هذه الم، فيكون جملة «ذلِكَ الْكِتابُ» جملة اخرى، «ذلك» يشار الى البعيد كما انّ هذا اشارة الى ما قرب، و الاسم ذا، و الكاف للخطاب و اللام مزيدة للتأكيد. قال الأخفش ذلك في الآية بمعنى هذا لأنّ الكتاب كان حاضرا.

قال الحفاف بن ندبه:

أقول له و الرمح يأطر متنه تأمّل خفافا انني انا ذلكا

اى انا هذا، و هذا الاستشهاد غير تام لأنّه يمكن اجرائه على أصله، اى انّني ذلك الرّجل الّذي سمعت به و بشجاعته.

قال الزمخشري الإشارة وقعت الى الم بعد ما سبق التكلّم به و تقضى، و المنقضى في حكم المتباعد، و هذا جار في كلّ كلام، يحدث الرجل بحديث ثم يقول: و ذلك ممّا لا شكّ فيه، و يحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا و كذا، و قال تعالى: «لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ» و لأنّه لما وصل من المرسل الى المرسل اليه وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك و قد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك.

ص: 36

و الحقّ انّ هذه البيانات لا يطمئن إليها النفس و أضعف من حجة نحوي، لكنّ الأوجه هو انّ اللّه وعد نبيّة ان ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، و لا يخلق على كثرة الرد فلمّا انزل القرآن قال: هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك او هذا القرآن (و القرآن يشمل على الكل و البعض و لو آية) ذلك الكتاب الذي وعدت به في الكتب السالفة و الكتاب مصدر بمعنى المكتوب، كالحساب بمعنى المحسوب، و الكتب بمعنى الضمّ لانضمام بعض الحروف ببعض، و منه يقال للجند كتيبة، و من قال انّ المراد من الكتاب في الآية: التوراة و الإنجيل فقول فاسد، لأنّه وصف الكتاب بأنه لا ريب فيه و انه هدى، و وصف ما في ايدي اليهود و النصارى بأنه محرّف بقوله: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ»* و الكتاب جاء في القرآن على وجوه:

أحدها: الفرض مثل كتب عليكم الصيام و مثل ان الصّلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا.

و ثانيها: الحجّة و البرهان مثل فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين.

و ثالثها: الأجل مثل و ما أهلكنا من قرية إلّا و لها كتاب معلوم.

و رابعها: المكاتبة مثل كتابة السيّد عبده، و الذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت ايمانكم.

قوله «لا رَيْبَ فِيهِ»- اى لا ريب و شكّ كائن في الكتاب، و انّه حقّ و صدق و معجزة، و ريب اسم لا، و فيه خبرها. و الريب من رابنى الشي ء إذا حصل فيه الريبة، و هي قلق النفس و اضطرابها، و الريب أقبح اقسام الشكوك.

فإن قيل: انّه نفى الريب و نحن نرى انّ الكفار شكّوا فيه، و المبتدعون شكّوا في معاني متشابهه، فما معنى نفي الريب على سبيل الاستغراق؟ فالجواب انّ نفي الريب عن الكتاب يعنى انّ الكتاب ليس فيه سبب ريب و لا يتمكّن فيه ريب لصدقه، لا انّ الناس لا يشكّون فيه.

و قيل معنى الآية النهي و إن كان لفظها الخبر، اى لا ترتابوا و لا تشكّوا فيه كقوله:

«فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ».

ص: 37

هُدىً اى القرآن رشد، او فيه هدى.

لِلْمُتَّقِينَ المتّصفين بالتقوى، و تخصيص الهداية بالمتّقين و إن كان القرآن هدى لجميع الناس لأنّهم هم المهتدون به، فالشمس شمس و ان لم يرها الضرير، و العسل عسل و ان لم يجد طعمه المحرور و المتقين أصله الموتقيين مفتعلين من الوقاية فقلبت الواو تاء و أدغمت تاء الاولى في الثانية التي بعدها و حذفت الكسرة من الياء استثقالا لها ثم حذفت لالتقاء الساكنين فبقي متّقين، و التقوى أصله و قوى فقلبت الواو تاء كالتراث أصله وراث، و التقوى له ثلاث مراتب:

الاولى: التوقّي عن العذاب المخلّد بالتبرّى عن الكفر، و عليه قوله تعالى: و الزمهم كلمة التقوى.

و الثانية: التجنب عن كلّ ما يؤثم من فعل او ترك حتى الصغائر و هو المتعارف بالتّقوى في لسان الشرع، و هو المعنى بقوله: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا»، و الثالثة: ان يتنزّه عمّا يشغل ضميره عن الحقّ و يتبتّل اليه بكلّيته و هو التقوى الحقيقيّة المأمور بها في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» و هذا النوع من التقوى ما انتهى اليه همم الأنبياء و الأولياء، و ما عاقهم التعلّق بعالم الأشباح عن العروج الى عالم الأرواح و لم تصدّ هم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق في شئون الحق و لم يتعدوا الحدود، و لذا احتملوا في دين اللّه حتى شتموهم: يا مذلّ المؤمنين.

و روى الصدوق في اماليه باسناده عن المفضّل بن عمر قال سئلت الصّادق عليه السّلام عن العشق فقال قلوب خلت عن ذكر اللّه فأذاقها اللّه حب غيره.

قال أفلاطون الالهي العشق قوّة غريزية متولدة عن و ساوس الطبع و أشباح التخيل للهيكل الطبيعي يحدث للشجاع جبنا و للجبان شجاعة و يكسو كلّ انسان عكس طباعه قيل انّ بعض الصلحاء غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له فقال له: تعلّق الثوب في جدار الكروم، فقال لا تضرب الوتد في جدار الناس، فقال نعلّقه في الشجر فقال انّه لعلّ يكسر الاغصان او يضرّها فقال نبسطه على الأرض، فقال انّها معلف الدواب لا نستره عنها فولى ظهره حتى جفّ جانب ثم قلّبه حتى جفّ الجانب الاخر و كان بعض الصلحاء

ص: 38

لا يجلس في ظل شجرة غريمه، و يقول في الخبر كلّ قرض جرّ نفعا فهو ربا.

[سورة البقرة (2): آية 3]

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

: صفة للمتّقين، فحينئذ الجملة محلّها الجر، و يجوز ان يكون محلّها النصب، تقديره اعنى الذين يؤمنون بالغيب، و يجوز أن يكون محلّه الرفع اي هم الذين يؤمنون بما غاب عن العباد علمه، و خفى عن حواسهم من التوحيد و البعث و الجنّة و النار و قيام القائم و الرجعة و سائر الأمور التي يلزمهم الايمان بها ممّا لا يعرف بالمشاهدة، و انّما يعرف بدلائل نصبها اللّه عليهم. و الايمان هو التصديق بالقلب و الإقرار باللسان و العمل بالأركان، و قد جاء هذا المعنى بلفظ آخر، و هو انّ الايمان قول مقول و عمل معمول و عرفان بالعقول و اتباع الرّسول، و قيل انّ المراد من الغيب في الآية القرآن، فمن اخلّ بالاعتقاد به وحده فهو منافق، و من اخلّ بالإقرار و الاعتقاد فهو كافر، و من أخل بالعمل دونهما فهو فاسق عندنا و كافر عند الخوارج و خارج عن الايمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة: و الغيب قسمان، قسم لا طريق عليه كما قال تعالى: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» و قسم نصب عليه دليل كالتوحيد و النبوّات و اليوم الآخر و أمثاله و هو المراد هنا، و الباء للملابسة، و قيل المراد بالغيب القلب لأنّه مستور، و المعنى يؤمنون بقلوبهم حقيقة، لا كالمنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فحينئذ الباء للآلة و الاستعانة.

و قيل في معنى قوله «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» اى غائبين عن مرأى الناس متلبسين بالغيب كقوله تعالى: «يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ»*.

و عن عمر بن الخطاب قال: بينا نحن عند رسول اللّه إذا قبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه اثر السفر و لا يعرفه احد منا فاقبل حتى جلس بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ركبتيه يمس ركبة رسول اللّه، فقال يا محمّد أخبرني عن الإسلام، فقال النبي ان تشهد ان لا إله إلّا اللّه و انّ محمّدا رسول اللّه و تقيم الصلاة و تؤتى الزكاة و تصوم رمضان و تحج البيت ان استطعت اليه سبيلا، فقال: صدقت فتعجّبنا من سؤاله و تصديقه، ثمّ قال فما الايمان؟ قال: ان تؤمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و البعث بعد الموت و الجنّة و النار و بالقدر، فقال:

ص: 39

صدقت، ثم قال فما الإحسان؟ قال: ان تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فانّه يراك قال صدقت، ثم قال فاخبرني عن الساعة؛ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال صدقت، قال فاخبرني عن اماراتها، قال ان تلد الأمة ربتها و ان ترى الحفاة العراة دعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال صدقت، ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة، قال لي رسول اللّه: يا عمر هل تدري من الرّجل؟ قلت اللّه اعلم و رسوله، قال: ذاك جبرئيل أتاكم يعلّمكم امر دينكم، و ما اتاني في صورة إلّا عرفته فيها إلّا صورته هذه:

وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ- و إقامة الصلاة ادامتها على الوجه المأمور به، يقال أقام القوم سوقهم إذا لم يعطّلوها عن البيع و الشراء، و لعلّ معنى الصلاة مأخوذ أصله من رفع الصلا في الرّكوع و السجود، و الصلا عظم في العجزة و للصلاة إطلاقات. للدعاء كما في قوله: «وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ» اى ادع لهم، و للثناء كقوله: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» و القراءة مثل قوله: «وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ» و بالرحمة كقوله تعالي: (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) و بالصلوة المشروعة المخصوصة بأفعال و اذكار- سميت بها لما في قيامها من القراءة و في قعودها من الثناء و الدّعا و لفاعلها من الرحمة و المراد في الآية المداومة على الصّلوات الخمس المشتملة علي القيام و الركوع و السجود و التسبيح و مراعاة حدودها الظاهرة من الفرائض و السّنن و حقوقها الباطنة من الحضور و الإقبال بالقلب.

قال ابراهيم النخعي إذا رأيت رجلا يخفّف الرّكوع و السجود فترحم على عياله يعني من ضيق المعيشة:

فاستمع آداب الصلاة حتى لا تكون كالتاجر الذي اشتري حمل الابريشم و لم يره فلما اتي بالأحمال في معرض البيع راها التجار كلها خرق الصوف فقاموا يضحكون من بضاعته و هو مطرق برأسه خجلان، و أنت كذلك يوم تبلى السرائر قال اللّه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)

سرمايه عمر و كار و بار تو بحشربنگر چو گشايند چه خواهد بودن

فاعمل خالصا و نقّحه عن الشوائب مثل الرياء فان الرياء يتصور بصورة الحيه في قبرك و تنهشك و كذلك البخل بصورة العقرب فتلسعك، و قليل من العمل إذا كان

ص: 40

خالصا يكشف سدد الغفلة و يدفع الشبه القلبية و يزيل سوادها فتنور بنور الصدق و و يتطهر عن قذارة المعاصي السالفة و عن لوث الأجسام الرذلة المعلولة، فيكون أول باب بدر الهداية رؤية كوكب ضعيف ثم ينبسط بالخلوص و العمل شيئا فشيئا فصار قمرا و شمسا فينقلب الليل من شمس وجودك نهارا فعند ذلك تدرك ذوق حلاوة الخلوة و المناجاة و انما منعك عن الذوق و صرف وجهك عن الباب عاداتك المألوفة و شهواتك النفسيّة و مخالطتك مع أبناء الدنيا.

و في كتاب تنبيه الغافلين انّ حاتم الزاهد دخل على عاصم بن يوسف فقال له عاصم: يا حاتم هل تحسن أن تصلّي؟ فقال نعم، قال كيف تصلى؟ قال إذا تقارب وقت الصلاة أسبغ الوضوء ثم استوى في الموضع الذي أصلّي فيه حتى يستقر كل عضو منّي، و اري الكعبة بين حاجبي و المقام بحيال صدري و اللّه فوقي يعلم ما في قلبي، و كان قدمي على الصراط و الجنة عن يميني و النار عن شمالي و ملك الموت خلفي، و أظنّ انّها آخر صلاتي في الدنيا ثم أكبّر تكبيرا بإحسان و اقرأ قراءة بتفكر و اركع ركوعا بتواضع و اسجد سجودا بتضرع، فاجلس و أتشهد على الرجاء و أسلّم علي الإخلاص فأقوم و انا بين الخوف و الرجاء و اتعاهد علي الصبر، قال عاصم يا حاتم أ هكذا صلاتك قال كذا صلاتي منذ ثلاثين سنة فبكى عاصم و قال ما صلّيت من صلاتي مثل هذا قطّ.

و في ثواب الأعمال قال الصادق عليه السّلام فضل الصلاة في أول وقتها خير للمؤمن من ولده و ماله، و في حديث آخر ايضا عنه عليه السّلام كفضل الآخرة على الدنيا، و عن اصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال ان اللّه ليهمّ بعذاب اهل الأرض جميعا حتى لا يحاشي منهم أحدا إذا عملوا بالمعاصي و اجترحوا السيئات فإذا نظر الي الشيب ناقلي اقدامهم الى الصلاة و الولدان يتعلّمون القرآن رحمهم فاخّر ذلك عنهم. و النوافل لها آثار مخصوصة و هي مكمّلات لنواقص الفرائض. و للاذكار و للآيات آثار مخصوصة مثل انّ آية الكرسي مع قطع النظر عن ثواب قراءتها يدفع كيد العفاريت.

قال رسول اللّه أتانى جبرئيل فقال يا محمّد أنّ عفريتا من الجنّ يكيدك في منامك فعليك بقرائة آية الكرسي عند منامك فكان يقرئها حين منامه و إذا قام من نومه خرّ

ص: 41

للّه ساجدا ثم يقول، الحمد للّه الذي أحياني بعد موتى أنّ ربّي لغفور شكور؛ و من أفضل الطاعات الصلاة، و الصبر علي الطاعات شديد مطلقا لأنّ النفس بطبعها تنفر من العبوديّة و تشتهي الربوبيّة و من الطاعات و العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة فيحتاج الى الصّبر و منها ما يكره علي الطبع بسبب البخل و حبّ المال كالزكاة و الانفاق و كذلك الحج و الجهاد و يحتاج المطيع في أطاعته الى الصبر في ثلثة احوال، الاولي قبل الطاعة بتصحيح النية و الإخلاص، و الثانية حالة العمل كي لا يغفل عن اللّه في أثناء عمله لئلّا يكون العمل جسدا بلا روح فلا يتكاسل في آدابه و يدوم علي ذلك الى الفراغ، و الثالثة بعد الفراغ فيحتاج الي الصبر ايضا عن افشائه من السمعة و الرياء و العجب، و كذلك المعاصي يحتاج الى الصبر عن تركها، فاشدّ انواع الصبر عليها بالصبر عما كان مألوفا بالعادة فانّ العادة طبيعة خامسة فإذا انضافت الى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشياطين علي جند اللّه فلا يقوى الجند جندين، ثم ان كانت تلك المعصية مما تيسّر فعله كان الصبر عنه أثقل كالصبر عن معاصى اللسان من الكذب و الغيبه و الثناء علي النفس و جميع هذه المعاصي تحتاج الى الصبر و تركها شديد على النفس، و هيهات فأين الثريا من يد المتناول، فمن لم يقدر على حفظ لسانه كيف يتمكن من عفة بطنه و فرجه؟ مع أنّه عرف ان الصّمت سلّم الخلاص و النطق يحبس الهزار في الاقفاص. و لن تدرك لذة العبادة إلّا بالتدبّر و التفكر في خلوص العمل، و هذه القطعة من اللحم إذا ما حبسته بطابقين لا تبقي لك عملا في الغالب، أما سمعت ان الجرس آفة القوافل؟ خير القوس الكتوم و خير الشراب المختوم رشين الفتي يطرد الاحبّاء، و وسواس الحلي يوقظ الرقباء، يا اسفى على غفلة الملدوغ و معه الترياق يتداوله و لا يتناوله اما يعلم أنّ تأخير العمل عن العلم حبس الماء من النبت و إصلاح الظاهر مع فساد الباطن حيلة اصحاب السبت؟ دانق من الصلات أحب اليه من الصلاة. أ ترجو نجاة المخفين باوزار جمعتها و حقوق منعتها؟ عرض عليك زخارف الدنيا فنسيت كلمة اللّه العليا، سترى حين تبدوا الضمائر و تبلى السرائر. ثوب مطوى تبصر خروقه يوم النشر و بزّ مكتوم تظهر عيوبه يوم الحشر و لو انّ الحراثة ريعان الحداثة و الزّراعة في اوّل الخريف

ص: 42

لا في آخر المصيف، و لكن يا نفس لا تيأسي من روح اللّه ما دامت بقية فيك بشرط خلوص النيّة و الإقبال الكلي الى اللّه و الاعراض عن غيره «وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ». و القرآن شفاء و يختلف الأثر باختلاف الكلام و المتكلّم و قصة علقمة بن عطارد و تنصّره بعد إسلامه في زمن أبي بكر حيث ناقش في اهدنا الصراط المستقيم فشكى أبو بكر الى أمير المؤمنين فكتب عليه السّلام: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب ذي الطول، ثم فسّر معنى اهدنا الصراط المستقيم في الكتاب و بعثه الى علقمة فاسلم علقمة و رجع الى المدينة، فاستشف بالقرآن و تلاوته مع التدبر في فحاويه من الأمراض الروحانية و العقائد الفاسدة و الأخلاق المذمومة، فانه يهديك الى الذي ينفعك النفع الباقي لا الفاني، تأمّل في قوله تعالى: «اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» كيف عين لك الخير الباقي و هو اجابة ربكم بالطاعة، و وقت الاجابة في أيام عمرك، و اشارة الى أنّ الطريق إليه مفتوح، و عن قريب سيغلق الباب عليكم بالموت بغتة، تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشيّة من عرار فشمّ العرار في النجد فانّك ان انتقلت الى حدّ البرزخ بزوال شمس الحيوة لا يمكنك التدارك و شمه فلا تغلق على نفسك أبواب المواهب و الفتوحات حيث أقدرك على تحصيلها، فتتبّع القرآن في الليل و النّهار يوصلك الى مقام الايمان و مرتبة اليقين و الاجابة فان اللّه جعل القرآن علاجا للقلوب المريضة التي ناشئة من نسيان اللّه كما قال: «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ»، و العلاج يكون بالذكر كما قال: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» فإذا ذكر اللّه و تدبّر في القرآن استشفي، و يكون قلب الذاكر عرش الرحمن و المنظر الإلهي، و القرآن أعظم نعم اللّه و هو حبل اللّه المتين، فالويل لمن انقطع عن هذا الحبل فما تنفعه شفاعة الشافعين و كان السلف إذا فاتهم بعض آداب الليل من الصلاة و التلاوة يبكون طول النهار لما فاتهم من الليل و يقول ما أشد المى بابى مغلق و ستر الليل مسدل و لم أقرأ حزبى البارحة و ما ذاك الا بذنب أحدثته. في اخبار داود عليه السّلام: ان اللّه اوحى الى داود. يا داود ابلغ اهل الأرض اني حبيب لمن أحبني، مونس لمن آنس بذكري، جليس لمن جالسني، و صاحب لمن صاحبني و مختار لمن اختارني و مطيع لمن أطاعني، ما

ص: 43

احبّني عبد اعلم ذلك يقينا من قلبه الا قبلته لنفسي و أحببته حبالا يتقدمه احد من خلقي من طلبنى بالحق وجدني و من طلب غيرى لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها و هلمّوا الى كرامتي و مصاحبتي و أنسوا بي أو انسكم و أسارع الى محبتكم فانى خلقت طينة احبائى من طينة ابراهيم خليلي و موسى نجيي و محمد حبيبي، و روى ان اللّه اوحى الى بعض الأنبياء انّ لي عبادا يحبوني و أحبّهم و يشتاقون الي و اشتاق إليهم و يذكروني اذكرهم فان حذوت طريقهم أحببتك و ان عدلت عنهم مقتك قال يا رب و ما علامتهم قال سبحانه يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه و يحنّون الى غروب الشمس كما يحنّ الطائر الى وكره عند الغروب فإذا جنّهم الليل و اختلط الظلال و فرشت الفرش و نصبت الأسرة و خلا كل حبيب بحبيبه نصبوا اليّ اقدامهم و افترشوا الىّ وجوههم و ناجوني بكلامي و تملّقوا الى بانعامى، فبين صارخ و باك و بين متأوه و شاك و بين قاعد و قائم و راكع و ساجد بعيني ما يتحمّلون من اجلى و بسمعي ما يشتكون من حبّى اوّل ما أعطيهم ثلاث: اقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عنّى كما أخبر عنهم، و الثانية: لو كانت السموات و الأرض و ما فيها في موازينهم لاستقللتها لهم، و الثالثة:

اقبل بوجهي عليهم أفترى من أقبلت بوجهي عليه يعلم احد ما أريد أن أعطيه، و اوحي الى داود عليه السّلام: اعلم بني إسرائيل انه ليس بيني و بين احد من خلقي نسب فلتعظم رغبتهم عندي ضعنى بين عينيك و انظر الىّ ببصر قلبك، و خذ من نفسك لنفسك، و اقطع شهوتك لي فانّما ابحت بعض الشهوات لضعفة خلقي، و امّا الأقوياء فانّ نيل الشهوات المباحة تنقص حلاوة مناجاتي، فانى لا ارضى الدنيا لحبيبي و نزهته عنها، يا داود لو يعلم المدبرون عنّى كيف انتظاري لهم و رفقي بهم و شوقي الى ترك معاصيهم لماتوا شوقا الىّ و تقطعت اوصالهم من محبّتى يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني فكيف إرادتي في المقبلين علىّ و ما اجلّ ما يكون عندي إذا رجع إليّ.

قال قطب محيى: الخروج من زمرة الخاسرين بنص القرآن المجيد الايمان و و العمل الصالح و التواصي بالحق اى المعروف و الصبر اى تحمل مشقّة التكليف كما في سورة العصر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 44

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ»، فعلى هذا إذا كان المؤمن رأى انّ أخاه جاهلا في امور دينه فلا يهتم له و لا يرفع جهله لا يخرج من زمرة الخاسرين و لو آمن و عمل صالحا لأنّه مسامح في اقامة الحدود و مداهن في دينه بل يسري جهل الجاهل اليه فانّ العالم و الجاهل من نوع واحد و الناس مشتركون في القعود في سفينة الدّنيا فإذا كان واحد من اهل السفينة بسبب جهله أخذ قدوما و اشتغل بنقر السفينة ليشرب الماء من النقب فإذا ما منعوه و ما أخذوا القدوم من يده فيغرق السفينة و أهلها جميعا كما أن البدن إذا أصاب عضوه مرض فجميع الأعضاء تكون مؤفة و ايضا يسرى الجهل و الضلالة الى ذلك المؤمن العالم الصالح لأنّ السيل إذا كان جارفا يذهب الفيل و النجار إذا لم يجده المنشار و الخشب من اين يصنع الباب فيكون بطالا و ينقطع صنعة النجارة و لا يكون باب و لا نجّار، و بالجملة فهذان العمودان و هو الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر ان لم يكونا من اصول الدين كما قالته المعتزلة فهما قواما الدين و لو لا هما ما بقي الدين فاكشفوا يا أهل الدين صحائف التعليم و صفائح التعلم و أحيوا السنة بتواصى الحق و أكثروا مجالس مذاكرة العلم النافع على طريقة محافظة السلف من دون الجدل و المراء من بيان اسباب المنجية من النار و المؤدية الى دار السلام من السنة النبويّة و القرآن العظيم الذي اخرست آياته الفصحاء و حيّرت حكمته و معانيه العقلاء؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ و لا تضيّع الجوهر النفيس و هو ايّام عمرك في تحصيل بعض العلوم، و اعلم ان اجلّ العلوم ما دخل معك في القبر و هو علم التوحيد و لا ينكشف لك هذا الباب الّا بعد ان تعمل بقدر معلومك منه فما تصنع بالسيف إذا لم تك قتالا فالخرم التجنّب عن المعاصي حتى تكون النفس مطمئنة.

و أول ما يجب عليك بعد ان عرفت ان لك ربا صون النفس عن القبائح و الرذائل؛ ففي اقامة الفرائض فجاهد و على سنن الرسول فعاهد فمن لم يوقر السنة و لم يجلها لم يعرف قدر الفريضة و لا محلّها فانّ العروس يجب لها الزينة و السنة زينة الفريضة، ثم لا تغفل من هفوات تصدر منك و أنت غافل و لا تقل، انى اتقيت الكبائر فان السيل

ص: 45

اوّلها القطرة و ان شبل الزنبال تقطع أوصاله النمل و لا يقدر الزنبال دفع النمل الضعيف مع قوته عن شبله، و لا تقل انها صغيرة؛ النهاية الصغيرة تولد في قبرك حيّة؛ و الكبيرة ثعبانا، اما سمعت قول اللّه تعالى: (وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)؟

و في كتاب انس الجليل في تاريخ القدس و الخليل انّ بجانب الغربي من بيت المقدس مقبرة كانت معروفة بمقبرة ما ملا تصحيف ما من اللّه يسمّونها اليهود بيت مملو فاتّفق يوما ان قارى قرأ هذه الآية في تلك المقبرة في ضمن تلاوته فسمع من قبر؛ وجدنا وجدنا، و كان ذلك القبر معروفا بقبر وجدنا و ما عرف صاحب القبر.

و بالجملة فان كنت في ريب فعافاك اللّه و ان كنت من اهل اليقين فما هذه الغفلة فكما انّ الحكم في القود و القصاص يختلف في تنوين و اضافة في قولك: انا قاتل غلامك و انا قاتل غلامك كذلك بحركة أو كلمة أو فعلة تكون في الآخرة من اهل الشقاوة أو السعادة فاعمل و لا تغفل و لا تيأس.

اما سمعت قوله تعالى: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فانّ هذه الآية متضمنة كثرة الرحمة من وجوه الاول- خطاب اللطف بالنسبة الى ذاته، فقال يا عبادي و لم يقل يا أيّها العصاة مع ان الخطاب إليهم.

الثاني- قال: لا تقنطوا و لفظ القنوط مستلزم تحريم اليأس من المغفرة مع الإسراف و التجاوز في ارتكاب المعاصي.

الثالث- انّه تعالى لم يكتف بذكر لا تقنطوا بل أكّد بقوله: انّ اللّه يغفر الذنوب جميعا.

الرابع- وضع المظهر موضع المضمر و قال انّ اللّه و ذلك لاسناد المغفرة بصريح اسمه الذي قامت السموات و الأرض به.

الخامس- استوعب مغفرته بلفظ الجميع للتحقّق و التأكيد في وقوع المغفرة السادس- إتيان ضمير الفصل بين الاسم و الخبر ليفيد معنى الحصر من رحمته

ص: 46

و مغفرته للدلالة على التأكيد في المغفرة.

السابع- ضمّ الرحمة بالمغفرة دلالة على سعة رحمته.

عن ثوبان مولى رسول اللّه قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد نزول الآية ما أحب ان لي الدنيا و ما فيها بهذه الآية. في المنهج عن أمير المؤمنين عليه السّلام انّ هذه الآية أوسع آية دالة على الرحمة و قيل ان الحسنات يذهبن السيئات أوسع آية في القرآن

قائم باشى بخدمت حق صائم باشى ز شر مطلق

و هذا معنى قوله تعالى: (وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ)، فاسع ان تدرك المراتب الاربعة تخلية و تحلية و تجلية و فناء حتى يكون قلبك أزهر أجرد في الكافي: القلوب اربعة قلب فيه نفاق و ايمان إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك و ان أدركه على إيمانه نجى و قلب منكوس و هو قلب المشرك و الكافر و قلب مطبوع و هو قلب المنافق و قلب أزهر أجرد و هو قلب المؤمن فيه كهيئة السّراج ان أعطاه اللّه شكر و ان ابتلاه صبر فحينئذ أدرك مرتبة الرابعة من النفس و هي الامّارة و اللوامة و الملهمة و المطمئنة في البحار من الحديث: انّ في القيمة تنكشف خزانة ساعات يومك و ليلك، فساعة التي عملت فيها الخير و الحسنات يصيبك فرح و سرور لو قسم على اهل النار لما وجدوا الم النّار و كذلك ساعة التي عصيت فيها يصيبك خوف لو قسم على اهل الجنة لا يستلذّون من نعيمها، و كذلك ساعة اشتغلوا في المباحات يتحسرون غاية من تضييع الوقت فيا مغرور ترتكب الكبائر، فلو نصحك ناصح تعتّل بالضرورة، ما أشبه عذرك بعذر السارق للغمر؛ فلو اغتررت بانتسابك التشيّع و حبّ عليّ فما هذه النسبة مع إدمان المعاصي الا كذب محض و ادّعاء، انّما شيعة على عليه السّلام من شايعه و تابعه فما أشبه كلامك بكلام ذلك المداح السكران لمّا قيل له لم تشرب الخمر و ما تصنع ان لم يغفرك اللّه؟ فقال ان لم يغفرنى فعلىّ حىّ يوم القيمة فيغفر لي آه، آه! فما رعوها حق رعايتها.

و الحاصل ان اللّه سبحانه سنّ في الصلاة أمورا فبالمداومة عليها قال: «الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» و بالإقامة عليها بقوله: «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ»* و بأدائها في اوقات

ص: 47

مخصوصة بقوله: «كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً» و بأدائها في الجماعات بقوله:

«وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» و بالحضور و الخشوع فيها بقوله: «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» ثمّ بعد هذه الأوامر من اللّه في الصلاة صارت الناس على طبقات طبقة لم يقبلوها رأسا و رئيسهم أبو جهل، قال اللّه في حقّه: «فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى» فذكر سبحانه مصيرهم بقوله «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» الى قوله «وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ».

و طبقة قبلوها و لم يؤدوا حقها و هم اهل الكتاب قال اللّه: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ» فذكر سبحانه مصيرهم الى النّار فقال «فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» و هي دركة في جهنّم اهيب موضع فيها تستغيث الناس منها كل يوم كذا و كذا مرّة، و طبقة ادّوا بعضا و لم يؤدّوا بعضا متكاسلين و هم المنافقون قال اللّه تعالى «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى و ذكر ان مصيرهم الى النار و الويل، و هو واد في جهنّم لو جعلت فيها جبال الدنيا لماعت و سالت.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ترك صلاة حتّى مضى وقتها عذّب بالنار حقبا، و الحقب ثمانون سنة، كل سنة ثلاثمائة و ستون يوما، كل يوم ألف سنة مما تعدّون و تأخير الصلاة من غير عذر كبيرة.

و طبقة قبلوها و راعوها بشرائطها، و رأسهم المصطفى، قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ» و كذلك أصحابه، فذكرهم اللّه بقوله «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» و ذكر مصيرهم فقال: «أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ»، و هو ارفع موضع في الجنة و أبهاه، ينال المؤمن فيه مناه و ينظر الي رحمة مولاه.

و الصلاة خير موضوع فمن شاء فليستقلل و من شاء فليستكثر، قال اللّه تعالى:

«إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ». و قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصلاة قربان كل تقى.

و عليك بعد إتمام الفرائض بآدابها و إتيان قضاء ما فات من عمرك كما فات الاشتغال بالنوافل خصوصا نافلة الليل كما قال تعالى: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ

ص: 48

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 99

قِيلًا». و قد جاء في الحديث قم من الليل و لو قدر حلب شاة او قدر اربع ركعات او ركعتين. و قيل في تفسير «تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ» هو قيام الليل كسلا او تهاونا لقلة الاعتداد بذلك يليك عليه فقد حرم من الخير الكثير، و قد يكون العبد شائقا و تائقا لقيام الليل و لا يتوفق فالسبب فيه ان ذنوب النهار قد قيّدته فليحذر العبد في نهاره، حتي قال بعض المتهجّدين حرمت قيام الليل سبعة أشهر بذنب فقيل له ما كان ذلك الذنب، قال رأيت رجلا بكاّء فقلت في نفسي هذا مراء، و قد يكون ينقطع عنك التوفيق خمسين سنة بسبب أداء حق من حقوق اللّه او حقوق الخلق مثل ان تطلق مثلا امرأتك و هي تهب لك صداقها بمحضر القاضي و أنت مديون لها و ما أوفيت صداقها مع انّها وهبتك، اما سمعت قول اللّه «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً»؟ و ابرائها لك بسبب سوء العشرة معها لا عن طيب نفسها و القاضي الفقير لا يعلم بذلك و قد حكم لك بالتخليص من الصداق.

و من آداب الصلاة انّه إذا دخل الوقت يقدم السنة النوافل الراتبة ففي ذلك سرّ و حكمة، منها انّ العبد تشعث باطنه و تفرق همّه بسبب المخالطة من الناس و الدنيا و قيامه بمهامّ المعاش من صرف همّ الى أكل أو نوم بمقتضى الحيلة فإذا قدم النافلة ينجذب باطنه الى الحضور و يتهيّأ للمناجات فيذهب بالنافلة اثر الغفلة و الكدورة من الباطن فيصير مستعدّا حاضرا للفريضة يستنزل بها البركات و تطرق النفحات، ثم بعد النافلة يجدّد التوبة عند الفريضة عن كل ذنب عمله من الذنوب عامّة و خاصة، فالعامّة، الكبائر و الصغائر مما نطق الكتاب به، و اما الخاصّة ذنوب الحال فكلّ عبد على قدر صفاء حاله له ذنوب تلائم حاله و يعرّفها صاحبها كما قيل:؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين؛.

ثم إذا تمكّن لا يصلّى الّا جماعة، فانّها تفضّل صلاة الغد بسبع و عشرين درجة.

و بعد ان استقبل القبلة بظاهره و الحضرة الالهيّة بباطنه يقرأ سورة الناس و آية التوجّه قبل الصلاة فتوجّه ظاهرا و باطنا ثم يرفع يديه حذو منكبيه بحيث يكون كفّاه حذو منكبيه و ابهاماه عند شحمة أذنيه و يضمّ الأصابع، و الضمّ اولى من النشر، و يكبّر

ص: 49

و يجزم راء اكبر و يجعل المدّ في اللّه و لا يبالغ في ضمّ الهاء من اللّه ثم يرسل اليدين مع التكبير من غير نقص.

و صفوة الصلاة التكبيرة. و يكون النيّة باللّه للّه و من اللّه. و قال السلف كيفيّة الدخول في الصلاة هو ان تقبل على اللّه اقبالك عليه يوم القيمة و وقوفك بين يدي اللّه ليس بينك و بينه ترجمان و هو مقبل عليك و أنت تناجيه و تعلم بين يدي من أنت واقف، فان للّه عبادا إذا كبّر في الصلاة غاب في مطالعة العظمة و الكبرياء و امتلأ باطنه نورا فصار الكون بأسره في فضاء شرح صدره كخردلة في فلاة و إذا شرع في القراءة يطرق رأسه في قيامه و يكون نظره الى موضع السجود و يكمل القيام بانتصاب القامة و نزع يسر الانطواء عن الركبتين و يعاطف البدن و رعاية الاعتدال في الاعتماد على الرجلين جميعا، و يقول: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم قبل البسملة في الركعة الاولي، و يقرء الفاتحة و السورة بحضور قلب، و جمع همّ و خاطر، بين القلب و اللسان، بحظّ وافر من الوصلة و الدنو و الهيبة و الخشية و الوقار، و ان لم يكن كذلك و قال باللسان من غير مواطاة القلب، فما اللسان ترجمانا، و لا القاري متكلّما قاصدا، سماع اللّه حاجته، و لا مستمعا الى اللّه فاهما عنه سبحانه ما يخاطبه، فصلوته جسد بلا روح، و اقلّ مراتب الخاصّة الجمع بين القلب و اللسان في التلاوة، فتخرج الكلمة من لسانه، و يسمعها بقلبه، فتقع الكلمة من القرآن في فضاء قلب ليس فيه غيرها بكمال الرعي، و درك شريف فحواها من معان تلطّف عن تفصيل الذكر، فيكون الظاهر له من معاني القرآن قوت النفس، فالنفس المطمئنة متعوّضة من معاني القرآن، و بمثل هذه المطالعة يكون كمال الاستغراق في لجج الاشواق، كما حكى عن أمير المؤمنين انّه صلّى ذات يوم فاستخرجوا كسرة النشارة التي كانت في رجله و هو لم يحسّ بذلك.

ثم إذا أراد الركوع يتأملّ قدرا يسيرا، فيركع و النصف الأسفل بحاله في القيام من غير انطواء الركبتين، و تجافي مرفقيه عن جنبيه، و يمدّ عنقه مع ظهره، و يضع راحتيه على ركبتيه، منشورة الأصابع، و يستحب في الركوع نشر الأصابع و في السجود بالعكس و يقول سبحان ربي العظيم و بحمده ثلاثة، و هذا العدد ادنى الكمال، و الذكر يكون

ص: 50

بعد التمكّن من الركوع و يكون في ركوعه ناظرا نحو قدميه فهو اقرب الى الخشوع من النظر الى موضع السجود، و انّما النظر الى موضع السجود حال قيامه و يقول بعد الذكر راكعا: اللهمّ لك ركعت و لك خشعت و بك آمنت و لك أسلمت خشع لك سمعي و بصرى و عظمي و مخي و عصبي، و يكون قلبه في الرّكوع متصفا بالتواضع و الإخبات.

قيل علامة الهداية الصلاة مع الخشوع و التواضع، ثم يرفع رأسه قائلا سمع اللّه لمن حمده عالما بقلبه ما يقول، فإذا استوى قائما يحمد و يقول ربّنا لك الحمد ملأ السموات و الأرض و ملأ ما شئت الي آخر الدعاء فان أطال في القيام فيكون ذلك في النافلة بعد الرفع من الركوع فليقل لربي الحمد مكرّرا ما أراد، فامّا في الفرض فلا يطول تطويلا يزيد على الحدّ زيادة بيّنة تخرجه عن صورة الصلاة، ثم يهوى ساجدا و يكون في هويّه مستيقظا حاضرا خاشعا عالما بما يهوى فيه و اليه و له، فانّ من الساجدين من يتصور و يكاشف انّه يهوى الي تخوم الأرضين متغيّبا في أجزاء الملك من الحياء، و اظهار الانكسار و الذلّة و استشعار روحه عظيم كبريائه تعالي، كما ورد أن جبرئيل يستر بخافقة من جناحه استصغارا لنفسه، و حياء من اللّه، و يتفاوت الساجدون في مراتب العظمة و استشعار كنهها من الأنبياء و الأولياء و المؤمنين لكل منهم على قدر حظّه من ذلك، و فوق كل ذي علم عليم، فمنهم من يتّسع دعاؤه و ينشر صباؤه في سجوده و يخطى بالصنيعين و يبسط الجناحين فيتواضع بقلبه إجلالا و يرفع بروحه إكراما فيجتمع له الانس و الهيبة و الحضور و الغيبة و القرار و الفرار و الأسرار و الجهار فيكون في سجوده سابحا في بحر معرفته و شهوده لم يتخلّف منه عن السجود شعرة كما قال سيد البشر في سجوده سجد لك سوادي و خيالي الى آخره.

و يقول في سجوده الذكر ثلاثا الى السبع الذي هو الكمال و في الهويّ يضع ركبتيه أولا ثم يديه ثم جبهته و انفه، و يباشر بكفّيه من دون حائل من الأرض من ثوب و غيره، و يكون رأسه بين كفّيه و يداه حذو منكبيه من تيامن و تياسر منهما و لا يلصقهما بفخذه، و يقول بعد التسبيح بالدعاء المأثور اللهم لك سجدت و بك أمنت إلخ؛ ثم يرفع رأسه بكرا و يجلس على رجله اليسرى موجها بالأصابع الى الكعبة و يضع

ص: 51

اليدين على الفخذين و يقول: رب اغفر لي و ارحمني، و لا يطيل هذه الجلسة في الفريضة، اما في النافلة فلا بأس بالاطالة و يكرّر قوله رب اغفر و ارحم ثم يسجد السجدة الثانية مكبّرا ثم إذا أراد النهوض الى الركعة الثانية يجلس جلسة خفيفة للاستراحة، و هكذا بقيّة الركعات، و في الصلاة سرّ المعراج و هو معراج القلوب فليذهن و يفهم ما يفعل و يقول، فالتشهد مقرّ الوصول بعد قطع الهيئات على تدريج طبقات السموات و الدعوات و المناجاة و يدر ما يفعل و ما يقول، فبعد الشهادة يسلم على النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأدب كامل، ثم على عباد اللّه الصالحين، فإذا صلّى و سلّم لا يبقى عبد في السماء و لا في الأرض من عباد اللّه الصالحين الّا و يسلّم عليه بالنسبة الروحيّة و الخاصيّة الفطريّة، و يدعو في آخر صلاته لنفسه و للمؤمنين و ان كان المصلّى اماما لا ينفرد بالدعاء بل يدعو لنفسه و لمن ورائه و للمؤمنين فان الامام المتيقّظ كحاجب دخل على سلطان و ورائه اصحاب الحوائج يسأل لهم و يعرض على السلطان حاجاتهم، و المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضه بعضا و لهذا وصفهم اللّه بقوله كانّهم بنيان مرصوص، كلّما اجتمعت ظواهرهم تجتمع بواطنهم، فالبركات تسرى من البعض الي البعض بل جميع المؤمنين المصلّين في اقطار الأرض بالصلوة يقع بينهم تناصر و تعاضد بحسب القلوب، بل يمدّهم اللّه بالملائكة الكرام كما امدّ رسول اللّه بالملائكة المسوّمين، و هذا الإمداد يقع لهم إذا اصطفوا للجماعة كما حكى عن كعب الاخبار انّه سئل كيف تجد نعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يولد بمكّة و يهاجر بطيّبة ليس بفحّاش و لا يكافئ بالسيئة السيئة و ليكن يعفوا، و امّته الحمّادون للّه و يكبّرون اللّه علي كل نجد، يوضّئون أطرافهم و يأتزرون في أوساطهم، يصفّون في صلاتهم كما يصفّون في قتالهم، دويّهم في مساجدهم كدويّ النحل، و من اقام الصلوات الخمس في جماعة بحضور القلب فقد ملأ البرّ و البحر عبادة، و هي سرّ الدين و تمحيص للذنوب، لكن يجتنب المصلّي ان يكون باطنه مرتهنا بشي ء و يدخل الصلاة، و لذا قيل من فقه الرجل ان يبدأ بقضاء حاجته قبل الصلاة و لا يدخل في الصلاة و هو مغضبا بل يكون خاشعا. قال ابن عباس ان الخشوع في الصلاة ان لا يعرف المصلّى من علي يمينه و شماله. قال بعضهم إذا كبّرت التكبيرة الاولى ان اللّه ناظر الي شخصك عالم بما

ص: 52

في ضميرك فمثّل الجنة عن يمينك و النار عن شمالك. و هذا التمثّل يكون تداويا لدفع الوسوسة. قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من صلّى ركعتين صحيحتين و لم تحدّث نفسه بشي ء من الدنيا غفر اللّه ما تقدم من ذنبه. و قد قيل وردان المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعد عنه الشيطان خوفا منه لأنّه تأهّب للدخول علي الملك، و يضرب بينه و بين الشيطان سرادق، فإذا قال اللّه اكبر، اطّلع الملك في قلبه، فإذا لم يكن في قلبه اكبر من اللّه و اهمّ منه يقول الملك صدقت، اللّه في قلبك كما تقول، و تشعشع من قلبه نور يلحق بملكوت العرش و إذا كان في قلبه شي ء اكبر و اهمّ منه يقول له كذبت فيثور من قلبه دخان يلحق بعنان السماء فيكون حجابا لقلبه من الملكوت، فيلتقم الشيطان قلبه فلا يزال ينفخ فيه و ينفث و يوسوس اليه حتى ينصرف من صلاته. و القلوب الصافية تصير سماويّة فيدخل بالتكبير في السماء، و اللّه تعالي حرّس السماويّات من تصرّف الشياطين، و المؤمن لا زال يكون يرفع الحجاب، و رفع الحجاب لا يحصل الّا بعد فناء نفسه في رضي اللّه.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يستكمل العبد الايمان حتى تكون قلة الشي ء احبّ اليه من كثرته و حتى يكون ان لا يعرف، احبّ اليه من ان يعرف. و هذا مقام يحصل بعد مجاوزة عقبات، و طي مقامات كثيرة صعبة، أدناها الإخلاص و إلقاء حظوظ النفس بالكلّية ثم مكاتمة ذلك عن الخلق جملة، فإذا حصل هذا المقام لا يبقى للنفس انيّة و صار تسليما محضا و رضى بحتا، و لا يريد الّا ما يريد اللّه، فيتخلّص حينئذ من الكبر و الرياء و الحرص و العجب و المهلكات جميعا.

نردبان خلق اين ما و منيست عاقبت زين نردبان افتادنيست

حتى انّهم إذا لم تحضرهم النية لم يقدموا على العمل لأنّ النيّة انبعاث النفس و توجّهها الى ما ظهر، و ذلك ممّا يقدر عليه و ممّا لا يقدر عليه في بعض الأحيان، فانّ الدواعي لها اسباب مثل انّ إذا غلبت علي الإنسان شهوة النكاح كيف يتمكّن ان يكون غرضه ثواب كثرة النسل في امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل الداعي دفع الشهوة و درك اللذّة، فالقصد الشهوة لا السنّة، فمن مال قلبه الي الدنيا لم يتيسّر له القربة في غالب الأعمال حتى في الفرائض، و غايته ان يتذكّر النّار و يحذّر نفسه عقابها، او نعيم الجنة و يرغب في

ص: 53

ثوابها، فيكون ثوابه ناقصا بسبب انّه انبعثت له داعية ضعيفة فيكون الثواب بقدر الرغبة و القصد، و اما الطاعة على نيّة إجلال امر اللّه لاستحقاقه تعالى الطاعة و العبوديّة فلا يتيسّر للراغب في الدّنيا، و هي اعزّ النيّات و العبادات و يعزّ على بسيط الأرض من يفهمها فضلا عمن يتعاطاها، فافهم سبب قلة اثار الفيض من عبادتك، و قد غلط أقوام حيث اعتقدوا انّ المقصود من الصلاة ذكر اللّه فاىّ حاجة الى الصلاة و قد سلكوا سبيل الضلال، و قوم اخرون سلكوا طريقا ادّتهم الي نقصان الحال فانّهم راقبوا الفرائض و لكن أنكروا فضل النوافل و اغترّوا بسير روح الحال و أهملوا فضل الأعمال و لم يعلموا انّ لحكم اللّه في كلّ هيئة من الهيئات اسرارا و حكما لا توجد في شي ء من الاذكار فالأحوال و الأعمال روح و جسمان، فالاعمال تزكوا بالأحوال، و الأحوال تترّقى و تنمو بالأعمال، و صاحب الشريعة اعلم بصلاح الأمر منك يا فضول، و صاحب البيت ادري بما في البيت، و عليك بإجراء سنة اللّه، و عليك بالتناسب في الأحوال فمن المناسب ان يكون اللباس شاكلا للطعام و الطعام شاكلا للكلام و الكلام شاكلا للفعال، ترى بعض الناس يلبس عبائه بثلاثة دراهم، و شهوته في بطنه بخمسة دراهم، كل اكله و منكحه بدنانير، فمن خشن ثوبه ينبغي ان يكون مأكوله من جنسه، فمتى اختلف الثوب و المأكول او القول و الفعل فذلك دليل على كمون الهوى في احد الطرفين امّا في طرف الثوب لموضع نظر الخلق الى زهده و امّا في طرف المأكول لفرط الشره و كلا الوصفين مرض، الم تعلم انّ الّذين حفظوا علانيتهم و أضاعوا سرائرهم تسوّد وجوههم؟ و مما ينسب الى السجّاد عليه السّلام من الادعية؛ اللهمّ انّى أعوذ بك ان تحسن في لامعة العيون علانيتي و تقبح لك فيما أخلو سريرتي فيحلّ بي مقتك؛ و حكي عن بعض الكاملين انّهم لم يحضروا بعض الأوقات عند اساتيدهم فسئلوا عن السبب فقال انّى إذا رايته احسن له كلامي و تظهر نفسي عنده بأحسن أحوالها و في ذلك الفتنة و العجب، و كلّ ذلك لأجل التخلّص من شائبة الرياء.

في بيان حكم العمل المشوب، هل يستحق به الثواب أم هدر؟ فقد اختلف فيه بان يقتضى ثوابا أم عقابا أم لا ثوابا و لا عقابا، و ظاهر بعض الاخبار تدلّ على انّه لا ثواب

ص: 54

له، و ليس بعض الاخبار يخلو عن تعارض و العلم عند اللّه، و لعلّ ان ينظر الى قدر قوّة الداعي فان كان الداعيين مساويا في القوّة تقاوما و تساقطا فصار العمل لا له و لا عليه و ان كان باعث الدنيا اغلب فليس بنافع و مفض للعقاب نعم العقاب الذي فيه أخفّ من الرياء الخالص، و ان كان قصد التقرب اغلب بالإضافة الى الباعث الدنيوي و الرياء فله بقدر ما فضّل من قوّة الباعث الديني، و الدليل عليه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و بقوله «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها» فيحبط منه قدر الذي يساويه و بقيت زيادة، فداعية الرياء من المهلكات، و داعية الخير من المنجيات، فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادّتان فان كان يقوّيه هذا اغلب فهذا اغلب و كذلك بالعكس فكما ان المستضر بالحرارة لا يخلوا عن اثر فكذلك.

قال بعض اهل السلوك كن نجما فان لم تستطع فكن قمرا، فان لم تستطع فكن شمسا؛ اي كن مصلّيا جميع الليل كالنجم يشرق او كالقمر يضيئ بعض الليل او فصلّ بالنهار.

و أداء الفرائض بالجماعة من المستحبّات الاكيدة؛ خصوصا اليومية منها؛ و خصوصا لجيران المسجد؛ او من يسمع النداء، و قد ورد في فضلها و ذمّ تاركها من ضروب التاكيدات ما كاد تلحقها بالواجبات، ففي الصحيح الصلاة في جماعة تفضل على صلاة الفذ أي الفرد بأربع و عشرين درجة؛ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتاني جبرئيل مع سبعين ألف بعد صلاة الظهر فقال يا محمد انّ ربّك يقرئك السلام و اهدى إليك هديّتين، قلت ما تلك الهديتان؟ قال الوتر ثلث ركعات و الصلاة الخمس في الجماعة، قلت يا جبرئيل ما لأمّتي في الجماعة، قال إذا كان اثنين كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة مائة و خمسين صلاة، و إذا كانوا ثلاثة كتب اللّه لكلّ واحد بكل ركعة ستمائة صلاة، و إذا كانوا اربعة كتب لكل واحد الفا و ماتي صلاة و إذا كانوا خمسة كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة ألفين و اربعمائة صلاة، و إذا كانوا ستة فاربعة آلاف و ثمانمائة بكل ركعة، و إذا كانوا سبعة فلهم بكلّ ركعة تسعة آلاف و ستمائة صلاة، و إذا كانوا ثمانية كتب اللّه لكل واحد منهم بكل ركعة تسعة عشر الفا و مأتي صلاة، و إذا كانوا تسعة كتب لكل واحد منهم بكل ركعة ستة و ثلاثين الفا و اربعمائة صلاة، و إذا كانوا عشرة كتب اللّه

ص: 55

لكل واحد منهم بكل ركعة سبعين الفا و ألفين و ثمانمائة صلاة، فان زادوا على العشرة فلو صارت السموات كلّها مدادا و الأشجار أقلاما و الثقلان مع الملائكة كتّابا لم يقدروا ثواب ركعة، يا محمد تكبيرة يدركها المؤمن مع الأمام خير من ستين ألف حجة و عمرة، و خير من الدنيا و ما فيها بسبعين ألف مرة، و ركعة يصلّيها المؤمن مع الامام خير من مائة ألف دينار يتصدّق بها على المساكين و سجدة يسجدها المؤمن مع الأمام في جماعة خير من عتق مائة رقبه، و كذلك يتضاعف الثواب و الأجر بتضاعف الأمكنة و الائمة مثل مسجد الكوفة و ساير المساجد و مثل العالم الهاشمي و غيره. و لا يجوز ترك الجماعة رغبة عنها او استخفافا بها. ففي الخبر لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد إلا من علة، و لا غيبة لمن صلّى و رغب عن جماعتنا، و من رغب عن جماعة المسلمين وجب علي المسلمين غيبته و سقطت عدالته، و وجب هجرانه، و إذا دفع إلى امام المسلمين أنذره و حذّره فان حضر جماعة المسلمين و الا أحرقت عليه داره؛ و في خبر آخر ان امير المؤمنين عليه السّلام بلغه ان قوما لا يحضرون الصلاة في المسجد فخطب فقال: إنّ قوما لا يحضرون الصلاة معنا في مساجدنا فلا يواكلونا، و لا يشاربونا، و لا يناكحونا، أو يحضروا معنا صلاتنا جماعة، و اني لأوشك بنار تشعل في دورهم فأحرقها عليهم او ينتهون. و أمثال هذه الاخبار عندنا الامامية كثيرة. و اما عند اهل السنة: قال بعضهم: المراد من قوله تعالى: «يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ» المراد من الداعي المؤذنون الذين يدعون الى الجماعة في الصلوات الخمس و تارك الجماعة شرّ من شارب الخمر و قاتل النفس بغير حق، و من القتات و من العاق لوالديه، و من الكاهن و الساحر، و من المغتاب و هو ملعون في التورية و الإنجيل و الزبور و الفرقان، و هو ملعون على لسان الملائكة، لا يعاد إذا مرض، و لا يشهد جنازته إذا مات قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تارك الجماعة ليس منى، و لا أنا منه، و لا يقبل اللّه منه، صرفا و لا عدلا، اي نافلة و لا فريضة، فان ماتوا على حالهم، فالنار اولى بهم كذا في روضة العلماء، قال ابن عباس بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بشهادة أن لا إله إلا اللّه فلمّا صدّق زاد الصلاة فلمّا صدّق زاد الزكاة فلمّا صدّق زاد الصيام فلمّا صدّق زاد الحج ثمّ الجهاد ثمّ أكمل لهم الدّين، قال مقاتل كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّى بمكّة ركعتين بالغداة، و ركعتين بالعشاء، فلما عرج به الى السماء امر بالصلوة الخمس

ص: 56

و انما فرضت الصلاة ليلة المعراج لأنّ المعراج أفضل الأوقات و اشرف الحالات، و الصلاة بعد الايمان باللّه أفضل الطاعات، و في مرتبة العبودية احسن الهيآت، ففرض أفضل العبادات و لما اسرى به شاهد ملكوت السماء و عبادات سكانها من الملائكة، فاستكثرها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غبطة، و طلب ذلك لامته، فجمع اللّه له في الصلوات الخمس عبادات الملائكة كلّها، لأنّ منهم من هو قائم، و منهم من هو راكع، و منهم من هو ساجد، و حامد، و مسبّح، الي غير ذلك، فاعطى اللّه أجور عبادات اهل السموات لأمّته إذا أقاموا الصلوات الخمس. و قيل انّ الحكمة في كونها خمس صلوات، لأنّها كانت في الأمم السالفة متفرقة فجمعها لنبيّه و امّته مجمع الفضائل كلّها، فأوّل من صلّى الفجر آدم عليه السّلام و الظهر إبراهيم عليه السّلام و العصر يونس عليه السّلام و المغرب عيسى عليه السّلام، و العشاء موسى عليه السّلام: و قيل صلّى آدم عليه السّلام الصلاة الخمس كلّها، ثم تفرقت بعده بين الأنبياء، و اوّل من صلّى الوتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة المعراج، لذلك قال زادني ربي صلاة اى الوتر على الخمس او صلاة الليل، و اوّل من بادر الى السجود جبرئيل و لذلك صار رفيق الأنبياء، و اوّل من قال: سبحان اللّه جبرئيل، و الحمد للّه آدم، و لا إله إلا اللّه نوح، و اللّه اكبر ابراهيم، و لا حول و لا قوّة إلا باللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ذكر هذا في كشف الكنوز و حل الرموز، و في بعض الشروح لمّا أراد اللّه افاضة الخيرات لنبيّه و تيسير الأمر لهم كي لا يملوا من العبادات لوّن لهم الطاعات ليستريحوا من نوع الى نوع، فجعل في اليوم خمسا و في السنة شهرا و في المأتين خمسة و في العمر نورة كيلا ينفكون عن العبودية و لا يملون، و وسع عليهم الوقت حتى لا يتأسفون بفوت أوقاتها، و تبقي لهم صفة الاختيار، و فرّق بين يد المرتعشة من الفلج و اليد التي تحركها و ترعشها أنت، فتأمل يا أخي في هذه الدقيقة كي تبين لك نكتة الجبر و الاختيار انتهى.

«وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» اى و من الذي رزقناهم و أعطيناهم ينفقون، و الرزق في اللغة العطاء، و الإنفاق إخراج المال يقال أنفق ماله اى أخرجه عن ملكه و صرفه، و تقديم المفعول في الآيه للاهتمام به، و المحافظة على رؤس الآي، و المراد بهذا الإنفاق الصرف الى سبيل الخير فرضا كان او نفلا، و من فسّره بالزكوة ذكر أفضل أنواعه او خصّصه بها لاقترانه بما هي شقيقتها و أختها، و هي الصلاة. و الأظهر في الآيه انّ المراد من النفقة

ص: 57

الزكاة، و في الانفاق فضائل لا تحصى قال اللّه تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ» الآية. و اعلم انّ انفاق المال في الخيرات إحدار كان الدّين و السرّ فيه انّ المال محبوب الخلق و هم مأمورون بحبّ اللّه و مدعوّون للحبّ بنفس الايمان فجعل تعالى بذل المال امتحانا لصدقهم في دعواهم فانّ المحبوبات تبذل لأجل المحبوب، فانقسم الخلق الى ثلاث طبقات: الطبقة الاولى الأقوياء و هم الّذين أنفقوا جميع ما ملكوا و نصف ما ملكوا فهولاء صدقوا ما عاهدوا اللّه في دعواهم، و من اوفى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه اجرا عظيما، الطبقة الثانية المتوسطون و هم الذين لم يقدروا على أخلاء اليد عن المال دفعة و لكن أمسكوها لا للتنعم بل للإنفاق عند ظهور محتاج، و يقنعون في حق أنفسهم بما يقوّيهم على العبادة، و إذا عرض محتاج بادروا الى سدّ خلّته، و لم يقتصروا على قدر الواجب من الزكاة، و انما غرضهم العمدة في الإمساك ترصّد الحاجات. و الطبقة الثالثة الضعفاء و هم المقتصرون على أداء الواجب فلا يزيدون عليها و لا ينقصون منها و لا شكّ بانّا لسنا من الطبقة الاولى و الثانية لكن ينبغي ان نتجاوز الدرجة الثالثة و لوالي أواخر طبقات المتوسّطين، و نزيد على الواجب فانّ الاكتفاء بمجرّد الواجب حدّ البخلاء. قال اللّه تعالى «إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا» فاجتهد لا ينقضي عليك يوم الّا و تتصدّق بشي ء وراء الواجب و لو شيئا يسيرا فترتفع بذلك من طبقة البخلاء، و ان لم تملك شيئا فمعونة في حاجة او شفاعة خير فيكون بذلك في الخير ممّا تقدر عليه من جاه و كلمة طيّبة إذا كنت فقيرا. و حافظ في صدقتك على خمسة امور: الأوّل الأسرار، فانّ صدقة السّر تطفى غصّب الربّ. و قد قال اللّه تعالى «وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» و بذلك تخلص عن الرياء، و الرياء محبط و مهلك ينقلب في القلب في صورة حيّة إذا وضع في القبر او يولم إيلام الحيّة كما انّ البخل ينقلب في القبر في صورة عقرب. الثاني ان يحذر من المنّ و حقيقته ان ترى نفسك محسنا الى الفقير، و علامته ان تتوقّع شكر امنه. قال اللّه تعالى: «لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى مع انّ آخذ الصدقة هو الذي يكون له على المعطى حق بقبوله منه، و الزكاة و الصدقات او ساخ الأموال فإذا أخذ الفقير منك فقد طهّر لك طهرة فله الفضل عليك، أ رايت لو انّ فصّادا فصدك مجّانا و اخرج

ص: 58

من باطنك الدّم الّذى تخشى ضرره أ ليس هو المحسن لك؟ فالّذى اخرج من الباطن رذيلة البخل مع انّ ضرره في الحيوة الآخرة اولى بان تراه متفضّلا عليك. الثالث، ان تخرج من أطيب أموالك قال اللّه تعالى: «وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ» قال اللّه تعالى «لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ»، و الإنسان يؤثر الأعزّ لحبيبه دون الأخس. الرّابع ان تعطى بوجه طلق فرح غير مستكره، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سبق درهم بمائة ألف درهم، و انّما أراد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به ما يعطيه عن بشاشة و طيب نفس من انفس أمواله فذلك أفضل من مائة ألف درهم مع الكراهيّة. الخامس ان تتحرّى بصدقتك محلّا تزكوا به الصدقة مثل الرّجل المتّقى العالم الّذى يستعين بها على تقوى اللّه و الصالح المعيل ذي الرحم، و ان لم تجتمع تمام هذه الأوصاف فباحادها ايضا تزكوا الصّدقة. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أطعموا طعامكم الأتقياء و أولوا معروفكم المؤمنين، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تأكل الّا طعام تقىّ و لا يأكل طعامك الّا تقىّ. و في ثواب الأعمال عن ابى جعفر عليه السّلام قال انّ عابدا عبد اللّه ثمانين سنة ثم اشرف على امرأة فوقعت في نفسه فنزل إليها فراودها على نفسها فطاوعته فلمّا قضى منها حاجته طرق ملك الموت فاعتقل لسانه فمرّ سائل فاشار اليه ان خذ رغيفا كان في كسائه فأحبط- اللّه عمل ثمانين سنة بتلك الزنية و غفر اللّه له بذلك الرغيف، أ تظنّ ان ينفعك في غنمته لا بل الربح في خير أمضيته او خصم أرضيته فأدّ قرضك و أوف فرضك و لا تسع لقاعد و لا تسهر لراقد. روي انّه اوحى اللّه الى بعض أنبيائه انّى قضيت عمر فلان نصفه بالفقر و نصفه بالغنى فخيّره حتى اقدّم له ايّهما شاء فدعى النبىّ و طلبه فجاء الرّجل فأخبره النبىّ بما أخبره اللّه فقال الرجل حتى أشاور زوجتي فقالت زوجته اختر الغنى حتّى يكون هو الأوّل فقال لها الرّجل انّ الفقر بعد الغنى صعب شديد و الغنى بعد الفقر طيب لذيذ فقالت لا بل أطعني في هذا فرجع الى النبىّ فقال اختار نصف عمري الّذى قضى لي فيه بالغنى ان يقدّم، فوسّع اللّه عليه الدنيا، و فتح عليه باب الغنى، فقالت له امرأته ان أردت ان تبقى هذه النعمة فاستعمل السخاء مع خلق ربّك، فكان الرجل إذا اتّخذ لنفسه ثوبا اتّخذ لفقير ثوبا مثله، فلمّا تمّ نصف عمره الذي قضى له فيه بالغنى اوحى اللّه الى نبي ذلك الزمان انّى كنت قضيت نصف عمره بالفقر و نصفه بالغنى لكنّى وجدته شاكرا لنعمائى و الشكر

ص: 59

يستوجب المزيد فبشّره انّى قضيت باقى عمره بالغنى.

[سورة البقرة (2): آية 4]

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

ثم بيّن سبحانه صفة المتّقين فقال: «وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» اى القرآن بأسره و الشريعة عن اخرها و التعبير عن انزاله بالماضي مع كون بعضه مترقّبا و لم ينزل لتغليب المحقّق وقوعه على المقدّر و لتنزيل ما في شرف الوقوع لتحققه منزلة الواقع و لأنّ القرآن شي ء واحد في الحكم، او الإنزال في هذه الآية بمعنى الوحى، و هذا النزول الثانوى على عالمه البشريّة و النزول الأوّل الى عالم نوره من غير واسطة جبرئيل و النزول الثّاني الي عالم الخلق زيادة في علمه غير مسبوق بالجهل بل نزول علم على علم أو زيادة علم على علم، و اليه الإشارة بقوله تعالى: «وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» و «قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً». و يستفاد من هذه الآية و هي قوله: «وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» انّ الكلام مخلوق لأنّ المنزل لا بدّ و أن يكون حادثا و ممكنا و لا يكون قديما خلافا للاشاعرة فانّهم قالوا بالكلام النفسي فزعموا أنّ اللّه لم يزل متكلّما مع وضوح أنّ الكلام غير المتكلّم، و يمتنع اقترانهما كما يمتنع اتحادهما مع انّه يستلزم تعدّد القدماء و هو ينافي التوحيد، فالكلام الإلهي المنزل على أنبيائه كلّه حادث و مخلوق، و المتكلّم هو الخالق فيخلق الكلام بإرادته و مشيّته؛ و الاشاعرة يقولون بالصفات الزائدة مع ما يدّعون من الإقرار بالتوحيد و يقولون بالقدماء الثمانية و منها الكلام النفسي، و هذا ينافي التوحيد ضرورة انّ مفهوم الواجب لا يصدق على كثيرين، و حقيقة الوجود البحت لا يشوبه شي ء من التركيب الذاتي و الخارجي و الذهني و الجنس و الفصل و ما قاله الاشاعرة يستلزم تركّب الواجب من الذات و الصفات بشهادة انّ الصفة غير الموصوف. و القول بالصفات الزائدة يستلزم كون الذات فاقدا للكمالات الذاتية و افتقارها الى صفاتها، و كل محتاج ممكن و يستلزم النقص، و كل ناقص ممكن، قال امير المؤمنين عليه السّلام و نظام توحيد اللّه تعالى نفى الصفات عنه، فمن وصف اللّه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه ايقاظ: و امّا ما قرره الحكماء من أنّ الواحد لا يصدر عنه الّا الواحد و أنّ العقل الأوّل هو المخلوق من غير واسطة و انّ العقل الأوّل هو الخالق للعقل الثّاني، و هكذا إلى أن ينتهى إلى العقول العشرة، فهذه القاعدة مع

ص: 60

عدم ورود تصديقها في شي ء من الكتاب و السنّة مخالفة لما ينساق من هذه الآية الكريمة لأنّ العقل الأوّل هو الحقيقة المحمّديّة كما يستفاد من الحديث، و هو أوّل ما خلق اللّه نور نبيك: يا جابر و قوله تعالى: «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» صريح في أنّ المنزل بالكسر انّما هو اللّه، و القول بأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خالق للعقل الثاني مخالف للادلة الاربعة و هي الكتاب و السنة و الإجماع و دليل العقل، إذ نسبة الخلق و الصنع إلى غيره غير جائز، هل من خالق غير اللّه؟ و قد صحّ انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبد و نبىّ و قوله: بما انزل إليك إشارة إلى الهدايات و الإفاضات و الوحى النازلة من اللّه بالنسبة إليه، و قد جعلهم اللّه مجرى للفيوضات، و ليس علمه ذاتيّا مستغنيا عن الافاضة و اليه الإشارة بقوله تعالى:

«وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، و لا شكّ انه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممكن فيحتاج في هدايته و ساير صفاته الى الواجب، و الضالّة بمعنى الغيبوبة لأنّ مرتبته كانت خفيّة من أول الأمر، فهدى اللّه بإظهار تلك الحقيقة المقدّسة و اعلانها و إعلاء كلمتها و اللّه متمّ نوره و لو كره المشركون قال علىّ عليه السّلام أنا الأوّل، أنا الاخر، أنا الظاهر، أنا الباطن، قيل في معناه وجوه، الاول انّه أوّل من آمن برسول اللّه في عالم الغيب و الشهادة و انّه عليه السّلام أوّل من آمن في جميع العوالم من عالم الأنوار و المثال و عالم الأرواح و النفوس و عالم الذّر الأوّل الّذى قال اللّه: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟»، و عالم الذر الثاني المتّصف بالاجابة المشروطة و الذّر الثالث المشتمل على الاجابة المتخيّرة و عالم الملك و الناسوت، فانّه عليه السّلام اوّل من دعى و أجاب.

الثاني انّه اوّل من أجاب نداء ابراهيم حين اذّن للناس بالحجّ، و هو و الأئمّة حقيقة الرّسول و هم و الرسول اوّل الأولياء و آخرهم وجود او رتبة و تمام الأنبياء، و الأولياء و الأوصياء انّما خلقوا من اشعّة انواره محمد و اهل بيته صلوات اللّه عليهم و من قبسات فيضهم و نورهم، و هو قوله عليه السّلام بكم بدأ للّه و بكم يختم. و في الحديث قال الصادق نحن الأوّلون و نحن الآخرون، و ايضا في الحديث عنهم انّه اى عليّا عليه السّلام الأوّل و الآخر اى مرجع الأولياء بدأ و ختما و انّ له الولاية الكلّية في الدنيا و الآخرة و انّه اوّل الخلق شرفا و إياب الخلق إليهم لأنّه الواسطة في جميع الفيوضات.

ص: 61

«وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» التورية و الإنجيل و سائر الكتب السالفة و الايمان بالكلّ فرض عين جملة، و بالقرآن فرض عين تفصيلا حيث انّا متعبّدون بتفاصيله.

«وَ بِالْآخِرَةِ» تأنيث الآخر الذي يقابل الأول و سمّيت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة، و سمّيت الآخرة آخرة لتأخرها و لكونها بعد الدنيا، و الآخر بفتح الخاء الذي يلي الأوّل.

«هُمْ يُوقِنُونَ» الإيقان إتقان العلم بالشي ء بنفي الشكّ و الشبهة عنه نظرا و استدلالا.

و المراد من الآخرة الدار الآخرة بحذف الموصوف لأن الآخرة صفة، و لا بدّ لها من موصوف.

«و يُوقِنُونَ» اى يعلمون، و ذلك لأنّ الكافرين ما كانوا متيقّنين بها بل كانوا يقولون:

ان هي الا حياتنا الدنيا نموت و نحيى، و لمّا كان اهل الكتاب عليه من الشكوك، و كانوا يقولون: لم تمسّنا النار الّا ايّاما معدودات و كذلك مختلفاتهم في انّ نعيم الجنّة هل هو من قبيل نعيم الدنيا او لا و هل هو دائم أولا؟ فقال فرقة منهم يجرى حالهم في التلذّذ بالمطاعم و المشارب و المناكح على حسب مجراها في الدنيا، و قال آخرون انّ ذلك انّما احتيج اليه في هذه الدنيا من أجل نماء الأجسام و التوالد و التناسل و اهل الجنّة مستغنون عنه فلا يتلذّذون الّا بالنسيم و الأرواح العبقة و السّماع اللذيذ و الفرح و السرور، فهم عن الاعتقاد في امور الآخرة بمعزل من الصحّة فضلا عن الوصول الى مرتبة اليقين، و امّا المؤمنون فهم موقنون غير مختلفين و لا شاكّين، قال علماء الأخلاق اليقين علي ثلاثة أوجه: يقين عيان و يقين خبر و يقين دلالة، فامّا يقين العيان فهو انّه إذا رأى شيئا زال عنه الشك في ذلك الشي ء، و امّا يقين الدلالة فهو ان يرى الرّجل دخانا ارتفع من موضع فيعلم باليقين انّ هناك نارا و ان لم يرها، و امّا يقين الخبر فهو انّ الرجل يعلم باليقين انّ في الدنيا مدينة يقال لها بغداد و ان لم ينته إليها، فهيهنا يقين خبر، و العلم اليقين هو العلم الحاصل بالإدراك و الاستدلال و النظر. و درجات اليقين تكمل بدوام النظر و المجاهدات المشروعة مثل دوام الوضوء و قلّة الاكل و كثرة الذكر و السكوت بالفكر في ملكوت السموات و الأرض و بأداء السنن و الفرائض و ترك ما سوى الحق و تقليل المنام و أكل الحلال و صدق المقال و المراقبة بالقلب الى اللّه، فهذه مفاتيح العلوم و المشاهدة، و ثمرة اليقين، الاستعداد

ص: 62

للآخرة، و لذا قيل عشرة من المغرورين، من أيقن انّ اللّه خالقه و لا يعبده، و من أيقن انّ اللّه رازقه و لا يطمئنّ به و من أيقن انّ الدنيا زائلة و يعتمد عليها و من أيقن انّ الورثة اعداؤه و يجمع لهم و من أيقن انّ الموت آت فلا يستعدّ له و من أيقن انّ القبر منزله فلا يعمره و من أيقن ان الدّيان يحاسبه فلا يصحّح حسابه و حجته و من أيقن ان الصراط ممرّه فلا يخفّف ثقله و من أيقن انّ النار دار الفجّار فلا يهرب منها و من أيقن انّ الجنّة دار الأبرار فلا يعمل لها. قال رجل من الزّهاد رأيت غلاما في البادية يمشى بلا زاد فقلت ان لم يكن له يقين فقد هلك، فقلت يا غلام أ تمشي في مثل هذا الموضع بلا زاد؟ فقال يا شيخ ارفع رأسك، هل تري غير اللّه تعالى؟ فقلت له الآن فاذهب حيث شئت. قال ابراهيم الخواص:

طلبت المعاش لأكل الحلال فاصطدت سمكة وقعت في الشبكة و أخرجتها و طرحت الشبكة في الماء فوقعت اخرى فيها ثم عدت فهتف بي هاتف لم تجد معاشا الّا ان تأتى الى ما يذكر اللّه فتقتلهم، فكسرت القصبة و تركت.

فعاشر اهل الرشد تهتدى و لا بدّ للمبتدي من منبّه

من الاولى فالاولى بالنسبة الى حال السالك.

[سورة البقرة (2): آية 5]

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

أولاء جمع لا واحد له من لفظه، و مفردة ذلك و الكاف للخطاب، و ما في اشارة لفظ أولئك من البعد للاشعار بعلوّ درجتهم و بعد منزلتهم في الفضل، و هو مبتداء اى الموصوفون بالصفات المذكورة كائنون على هدى و تنكير هدى لكمال تفخيمه كأنّه قيل على هدى اى هدى لا يبلغ كنهه كما تقول لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا «مِنْ رَبِّهِمْ» من عنده تعالى، و انما قال من ربّهم لأنّ كل خير و هدى من اللّه و الهداية في اتباع الرسول.

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تكرير أولئك للتفخيم و للدلالة على انّ كلّ واحد من الحكمين مستقلّ لهم في التميّز به عن غيرهم فكيف بهما، و كلمة هم في مثل هذه المواضع يسمّونه البصريّون فصلا و الكوفيّون عمادا انما يأتون بها للدلالة على انّ الواقع بعده خبر لا صفة و انّ المسند ثابت للمسند اليه دون غيره، فالقصر قصر الصفة علي الموصوف لا العكس. و المفلح الفائز بالبغية و الفلح الشق و القطع و الفتح، و منه سمّى الزارع فلّاحا لأنه يشقّ الأرض، و حاصل المعنى هم الفائزون بالجنّة و الناجون من النار و تشبّثت الوعيدية

ص: 63

بالآية في خلود الفساق من اهل القبلة في العذاب، و أجيبوا بان المراد من المفلحين، الكاملون في الفلاح، فيلزم من المعني عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، فاما عدم الفلاح لهم رأسا لا يلزم. هذا ما اجابه البيضاوي و تمسك المرجئة بهذه الآية من وجه آخر و احتجوا بانّ اللّه حكم بالفلاح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية فوجب ان يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحا و ان زنى و ان سرق و شرب الخمر، و إذا ثبت في هذه الطائفة تحقق العفو ثبت في غيرهم ضرورة إذ لا قائل بالفرق. و الجواب عن قول المرجئة ان وصفهم بالتقوى يستلزم اتّقاء ترك الواجبات و المعاصي، و معلوم بالضرورة انّ من اتقي من المعاصي كيف يسرق و يزنى؟ و هو متّقي من المعاصي؟

[سورة البقرة (2): آية 6]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)

لما ذكر خاصة عباده بصفات الايمان و التقوي و الفلاح ذكر في هذه الآية العتاة المردة الذين لا يغني عنهم الآيات و النذر. و تعريف الموصول امّا للعهد و المراد به ناس بأعيانهم كابي لهب و ابى جهل و احبار اليهود او للجنس متناولا كل من صمّم على كفره تصميما لا يرعوي بعده، و الكفر لغة الستر و التغطية، و في الشريعة انكار ما علم بالضرورة مجيئي الرسول به. و الكافر له إطلاقات.

أحدها نقيض المؤمن، قال اللّه تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»*، و يطلق على الجاحد قال: «وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» اى جحد وجوب الحج، و يطلق نقيض الشاكر، قال تعالى: «وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ» و يطلق علي المتبري، قال تعالى: «يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ» اى يتبرأ بعضكم من بعض.

سواء عليهم اى متساو، و سواء اسم بمعني الاستواء، و خبر لأن، أ أنذرتهم يا محمد أم لم تنذرهم و هذا مثل قولك، سواء على أقبلت أم أدبرت؛ و اللفظ لفظ الاستفهام و معناه الخبر اى الإنذار و عدم الإنذار سيان لهم، و اصل الإنذار الأعلام بأمر مخوف و كان هؤلاء القوم كقوم هود الذين قالوا لهود، سواء علينا أ وعظت أم لم تكن من الواعظين.

لا يؤمنون جملة مؤكّدة مبيّنة لما قبلها من إجمال ما فيه الاستواء و تخفيف و تفريغ لقلبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فان قلت لما علم اللّه انهم لا يؤمنون فلم امر نبيه بدعائهم، فالجواب؛ لئلا يكون

ص: 64

للناس علي اللّه حجة بعد الرسل؛ و قال؛ و لو انّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك.

[سورة البقرة (2): آية 7]

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)

لما ذكر هم بصفاتهم الخبيثة ذكر عقوباتهم فهو تعليل للحكم السابق و بيان ما يقتضيه. و في معني الختم وجوه.

أحدها ان المراد بالختم العلامة فإذا انتهى الكافر من كفره الى حالة يستحق الحرمان من الفيض الأقدس ختم و طبع على قلبه علامة و نكتة سوداء تشاهدها الملائكة فيعلمون بها انّه لا يؤمن بعدها كما انّه يعلم و يكتب في قلب المؤمن علامة تعلم الملائكة بها انّه مؤمن فيمدحونه و يستغفرون له.

و ثانيها ان المراد بالختم ان اللّه شهد عليها و حكم بأنها لا تقبل الحق.

و ثالثها ان المراد بذلك انه ذمهم بأنها كالمختوم عليها في انّه لا يدخلها الايمان و لا يخرج عنها الكفر فتمكن الكفر في قلوبهم فصارت كالمختوم عليها.

و رابعها ان قلبه ضاق عن النظر و الاستدلال، فهو خلاف من ذكر في قوله: «أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» و مثل قوله «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» و الوجوه بحسب المعني متقاربة:

«وَ عَلى سَمْعِهِمْ» اى و ختم اللّه على آذانهم فجعلها بحيث تعاف استماع الحق و لا تصغى الى خبر و لا تعيه عقوبة لهم على سوء اختيارهم فعبر سبحانه من احداث هذه الكيفية و الهيئة بالطبع و الختم على الاستعارة، فلو قيل إذا ختم اللّه على قلوبهم و على سمعهم فمنعهم الهدى فكيف يستحقون العقوبة؟ فالجواب انّ الختم و الطبع و الضلال و أمثال هذه الأمور عقوبة و مجازاة من اللّه بكفرهم، و هي مستندة الى اللّه من حيث ان الممكنات بقدرته و من حيث انها جزاء منه تعالي لكن هذا الجزاء مسبب مما اقترفوه بدليل قوله «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ»، و قوله تعالى، «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ» فالختم لاستحقاق الكفر كالعذاب الواقع على الكافر، و اللّه تعالى قد يسرّ عليهم السبل فلو سلكوا سبيله لوفّقهم، فحاصل معنى الختم عقوبة من اللّه لا تمنع العبد جبرا و لا تحمله على الكفر كرها بل هي زيادة عقوبة له على سوء إختياره، و تماديه

ص: 65

و غيّه في الكفر تسبّب عن هذا الطبع. و الأمر لهم بالإيمان بقوله تعالى: «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» يدلّ على أنّهم متمكنين من الايمان و الخطاب بقوله: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ»* يدلّ على أنّهم غير عاجزين عن الايمان و الّا لزال الخطاب و سقط اللّوم، فالعبد هو الذي أورد هذا الختم على قلبه و على سمعه. و في توحيد السمع قيل السبب فيه انّه في الأصل مصدر و المصادر لا تجمع لصلاحيتها للمفرد و الجماعة مثل انّهم يكيدون كيدا و أكيد كيدا لكن الأبصار جمع البصر و هو اسم عين لا مصدر فجمع و الاضافة الى الجماعة تغنى عن الجماعة، و قال سيبويه انّه توسّط جمعين فدلّ على الجمع و ان وحّد مثل قوله: «يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ»* دلّ على الأنوار.

«وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» أى غطاء و المراد حدوث حالة تجعل أبصارهم بسبب كفرهم لا تجتلى الآيات كما تجتليها أعين المستبصرين و معنى التنكير في الغشاوة بيان انّه على أبصارهم ضربا من الغشاوة خارجا ممّا يتعارفه الناس و هي غشاوة التعامي عن الآيات، و ترتيب الذكر يوافق الخطابات حيث يقول: أفلا تعقلون، أفلا تبصرون، أ فلا تسمعون.

«وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» و التنكير أى لهم من الآلام نوعا عظيما لا يعلم كنهه الّا اللّه نعوذ باللّه من سوء الخاتمة. حكى انّ ملكا شابّا في بني إسرائيل، قال انّي أجد في الملك لذّة فلا ادرى أ كذلك يجده الناس أم أنا أجده، فقالوا له كذلك يجده الناس، قال فماذا يقيمه و يديمه؟ قالوا يديمه و يقيمه لك ان تطيع اللّه و لا تعصيه فدعا من في بلده من العلماء و الصلحاء و قال لهم كونوا بحضرتي و مجلسي فما رأيتم من طاعة اللّه فأمروني و ما رأيتم من المعصية فازجروني عنها فعل ذلك فاستقام له الملك أربعمائة سنة ثمّ أنّ إبليس أتاه يوما على صورة رجل و قال له من أنت؟ قال الملك رجل من بني آدم قال إبليس لو كنت من بنى آدم لمتّ كما يموت بنو آدم و لكنّك اله فادع الناس الى عبادتك فدخل في قلبه شي ء ثم صعد المنبر فقال أيّها الناس انّي أخفيت عليكم امرا حان و لزم إظهاره و هو انّي ملككم منذ كذا سنة و لو كنت من بنى آدم لمت و لكنّى اله فاعبدوني فأوحى اللّه الى نبيّ ذلك الزمان، و قال أخبره انّى استقمت له ما استقام لي فتحول

ص: 66

من طاعتي الى معصيتي فبعزّتى لأسلّطن عليه بخت نصر و لم يتحول عن ذلك فسلّطه عليه فضرب عنقه و اوقر من خزينته سبعين سفينة من ذهب.

[سورة البقرة (2): آية 8]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

لما افتتح اللّه السورة ببيان أحوال المؤمنين و اوصافهم و ثنّى بذكر اضدادهم الماحضين في الكفر ظاهرا و باطنا ثلّث في هذه الآية بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين و هم المنافقون الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم و هم أخبث الكفرة و أبغضهم الى اللّه لأنّهم موّهوا الكفر و خلطوا به خداعا و استهزاء. و الناس اسم جمع للإنسان سمّي به لأنّه عهد اليه فنسي قال اللّه: «وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و قيل سمّى به لظهوره بخلاف الجن من انس أى ابصر لأنّهم ظاهرون، و لذلك ايضا سمّوا بشر، و قيل من الانس الذي هو ضد الوحشة لأنّهم يستأنسون بأمثالهم و اللّام في؛ و من الناس؛ للجنس و من موصوفة، و تقدير الكلام؛ و من الناس ناس يقرّون باللّسان و يقولون صدقنا باللّه و باليوم القيمة؛ و سمّى آخرا لأنّه لا يوم بعده و لا ليلة بعده و متأخر عن جميع الأيّام. و الناس أصله أناس وزنه فعال فأسقطت الهمزة منها لكثرة الاستعمال إذا دخله الألف و اللّام و أدغمت اللّام في النّون كما قيل لكنا في لكن أنا.

«وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» و ما حرف مشبّه بليس من حيث يدخل على المبتدأ و الخبر كما يدخل ليس عليهما. و فيه معنى نفى الحال كما في ليس فأجرى مجراه في العمل، و الباء زائدة مؤكّدة للنفي أى ليسوا بمصدّقين في دعويهم و اظهارهم الايمان.

[سورة البقرة (2): آية 9]

يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9)

استيناف وقع جوابا عن سؤال ينساق اليه الذهن كأنّه قيل ما لهم يقولون ذلك و هم غير مؤمنين؟- فقيل يخادعون اللّه و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم آمنا و هم غير مؤمنين فانّهم كانوا يريدون بما صنعوا ان يطلعوا على أسرار المؤمنين فيشيّعوها الى مخالفيهم و أعدائهم و ان يدفعوا أنفسهم ما يصيب ساير الكفّار من القتل و النهب و الأسر و صنع اللّه معهم من اجراء احكام المسلمين عليهم و هم عنده أخبث الكفّار و اهل الدرك الأسفل من النار استدراجا لهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنع المخادعين فتكون المخادعة بين الاثنين.

ص: 67

«وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ» النفس ذات الشي ء و حقيقته أى ان ضرر مخادعهتم راجع إليهم لا يتخطاهم الى غيرهم و ما يضرون بذلك الّا أنفسهم فيستوجبون بذلك النفاق العقاب في العقبى و في الحديث يؤمر بنفر من الناس يوم القيمة الى الجنة حتى إذا دنوا منها و استنشقوا رائحتها و نظروا الى قصور الجنة و الى ما اعدّ اللّه تعالى لأهلها نودوا ان اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بندامة و حسرة ما رجع الأولون و الآخرون بمثلها فيقولون يا ربّنا لو أدخلتنا النار قبل ان ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك فيقول ذلك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بي بارزتمونى بالمعاصي فإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين و تظهرون خلاف ما تنطوى قلوبكم عليه هبتم الدنيا و لم تهابونى، اجللتم النّاس و لم تجلّلونى، فاليوم اذيقكم اليم عذابي. قال اللّه لعيسى يا عيسى: ليكن لسانك في السر و العلانية واحدا و كذلك قلبك، و عن الصّادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه: ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق انتهى. و المنافق قسم معادل للمشرك حيث قال: «وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ» بل اشدّ عذابا لأنّهم في الدرك الأسفل من النار.

«وَ ما يَشْعُرُونَ» حال من ضمير يخدعون اى ما يحسون بذلك الفعل القبيح لتماديهم في الغواية و نزّلهم منزلة الجمادات و حطّهم من منزلة البهائم حيث سلب عنهم الحسّ الحيواني. اعلم انّ كل واحد نوع من الموجودات له كمال خاص و فعل لا يشاركه فيه غيره من حيث هو ذلك الشي ء بمعنى انّه لا يجوز ان يكون موجود آخر سواه يصلح لذلك نوعا، و هذا حكم مستمر في الأمور العلويّة و السفليّة كالشمس و الكواكب و كأنواع الحيوان و كأنواع النبات و المعادن و كالعناصر، إذا تقرر هذا فاذن نوع الإنسان له كمال و فعل خاص به لا يشاركه فيه غيره و هو ما يصدر عن قوّته المميّزة، فكل من كان تميزه و اختياره أفضل كان أكمل في انسانيته لأنّ أفضل السيوف ما كان امضى، فمن كان اقدر على فعله الخاص به و اشدّ تمسكا بشرائط جوهره الذي تميّز به عن الموجودات كان أكمل، فانّ الفرس إذا قصّر عن كماله و لم تظهر أفعاله الخاصّة به و هو العد و حطّ عن مرتبة الفرسيّة و استعمل بالإكاف كما يستعمل للحمير، فإذا قصّر الإنسان عن أفعاله

ص: 68

التي خلق لها حطّ عن مرتبة الإنسانيّة الى مرتبة البهيميّة، هذا إذا صدرت أفعاله ناقصة غير تامّة، لكن إذا صدر منه افعال ضد ما خلق له يستحق المقت و العذاب و ان دام على الضدّ استحق العذاب الدائم كما إذا دام على فعل ما خلق له استحق النعيم الدائم، و سعادة كل موجود انّما هي صدور أفعاله التي تخصّ صورته عنه تامّة كاملة فسعادة الإنسان تكون في صدور أفعاله التي خصّ بها و خلق لأجلها بحسب تميّزه و رويّته و ان كان لهذه الرويّة و المروي فيه تفاوت، فأفضل الرويّة ما كان في أفضل مروي ثم ينزل رتبة فرتبة الى ان ينتهى الى النظر في الأمور الممكنة من العالم الطبيعي و الحسّي فيكون الناظر في هذه الأشياء اعرض عن خاصّته التي بها صار إنسانا و سعيدا و اقبل في أشياء دنيّة لا فائدة له بها و استعمل نظره و فكره فيما لم يخلق لأجله فتنزل عن درجته فإذا اشتغل بالشهوات صار في زمرة البهايم و إذا اشتغل في الفتنة و الفساد صار في زمرة المؤذيات و السباع، و إذا تعطل صار في زمرة الجمادات و هكذا الى ان تفنى خاصّته و دخل في خاصّة غيره على حسب اعماله و اختياره.

و اعلم انّ الحكماء الإلهي و علماء الأخلاق اجمعوا على انّ اصول أجناس الفضائل اربع و هي الحكمة و العفّة و الشجاعة و العدالة و يتنوع منها فروع كما انّ اصول أجناس الفضائل اربع و يتنوع منها فروع و هي الجهل و الشره و الجبن و الجور و هي أضداد الاربعة الاولى لكن اشخاص الأنواع من الطرفين بلا نهاية. أما الحكمة فهي فضيلة النفس الناطقة المميّزة و هي ان يعلم الموجودات من حيث هي موجودة و ثمرة علمه ان يعرف ايّها يجب ان يفعل و ايّها يجب ان يترك و امّا العفّة فهي فضيلة الحسّ الشهواني و ثمرة هذه الفضيلة ان يصرف شهواته بحسب النظر حتى لا ينقاد لها و يكون غير متعبّد لشي ء من شهواته الضارّة حتى يصير حرّا مالكا لا مملوكا، و أمّا الشجاعة فهي فضيلة النفس الغضبيّة فيستعمل ما يوجب الرأى الحاذق و لا يخاف من الأمور الهائلة المفزعة إذا كان فعلها جميلا و تحمّلها محمودا، و امّا العدالة فهي فضيلة للنفس و يحدث للنفس بعد اجتماع هذه الفضائل الثلاث المذكورة فيحدث للإنسان بالعدالة سمة يختار بها دائما الإنصاف من نفسه على نفسه اوّلا ثم الإنصاف و الانتصاف من غيره و الفضائل التي من فروع أجناس الأربع كثيرة مثل الفروع

ص: 69

التي تحت العفّة، الحياء و الصبر و القناعة و الدماثة و معنى الدماثة حسن انقياد النفس و تبرعها في الجميل و كذلك من فروع العفّة الانتظام و معناه حال للنفس تقودها الى تقدير الأمور، منها حسن الهدى و هو تكميل النفس بالزينة الحسنة، و من فروع العفة الورع و الوقار و هي لا تعدو كذلك فروع الرذائل الأربع كثيرة، و هي اجمالا ما يضاد الفضائل الأربع لأنّه يفهم من كلّ واحدة من الفضائل الأربع، و فروعها ما يقابلها مثل انّ الجهل يقابل العلم و الوقاحة يقابل الحياء الى ما لا يتناهى.

[سورة البقرة (2): آية 10]

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)

المراد بالمرض في الآية الشك و النفاق و انّما سمّى الشك و النفاق مرضا لأنّ المرض هو الخروج عن حدّ الاعتدال فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا و كذلك القلب ما لم يصبه آفة من الريب يكون صحيحا، و المراد انّه في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في توحيد اللّه و رسالة رسوله مرض، و زاد يجي ء متعدّيا كما في هذه الآية، و لازما كما في قوله: «وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» فالمرض حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال و مجاز في الاعراض النفسانيّة التي يخلّ بكمالها كالجهل و سوء العقيدة و الحسد و حبّ المعاصي من فنون الفسق و الكفر المؤدّى الى الهلاك الروحاني، و زوال الحيوة الابديّة و كانت قلوب المنافقين متألّمة تحرقا على ما فات عنهم من الرياسة، و حسدا على ما يرون من اثبات امر الرسول و استعلاء شأنه يوما فيوما فزاد اللّه غمّهم بما زاد في إعلاء امره فزاد المرض بأن طبع على قلوبهم لعلمه بأنّه لا يؤثّر فيها التذكير و الإنذار و بازدياد التكاليف الشرعية و تكرير الوحى و تضاعف النصر لأنّهم كلّما ازداد التكاليف بنزول الوحى يزدادون كفرا و يشقّ عليهم التكلّم بالشهادة حقيقة، و ازدادوا بذلك اضطرابا و امتناعا، و ازدادوا بذلك في الآخرة عذابا على عذاب كما قال سبحانه «زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ و لهم في الآخرة عذاب اليم» يصل ألمه الى القلوب.

«بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» بسبب كذبهم المستمر، او بمقابلة كذبهم الدائم، و هو قولهم، آمنّا؛ و الكذب من قبايح الذنوب، و فواحش العيوب، لا سيّما الكذب في الدين، و رأس كلّ معصية، به يتكدّر القلوب، و انّه ابغض الأخلاق و مجانب للايمان، بمعنى انّ

ص: 70

الايمان في جانب، و الكذب في جانب آخر مقابل له. و في الحديث: ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار، و بالجملة فقبح الكذب و حسن الصدق ضروريتان مطلقتان. انظر الى الصبح الكاذب طالما قتل القوافل و الصبح الصادق ظهر به تباشير الهداية و النور لأهل المراحل، فلا تكدّر جوهر النفس بترك الفضائل فضلا عن ارتكاب الرذائل و يكون أول تجريد افعال النفس ان ترفعها عن رتبة الأخس التي يستحق بها المقت من اللّه و العذاب الأليم ثمّ تكميلها بالعلوم الشريفة الاولى فالاولى، فانّ كسب الفضائل كالصناعات في مراتب الشرف فانّ في الصناعات ما هو اشرف و ما هو أدون كصناعة الطب و صناعة الدباغة التي يستصلح بها جلود البهائم، و السيف الصمصام، غير السيف الكهّام و اعلم ان وجود الجوهر الإنساني بقدرة فاعله و خالقه تعالى، فأمّا تجويد جوهره ففوض الى الإنسان ليستعمل قوتيه اعنى العالمة و العاملة فيما خلقا له، فيختار الأشرف فالأشرف في العالمة، و هو العلم بمعرفة خالقه، و كذلك العاملة لخدمة مولاه حيث انّه عبد؛ و ما خلقت الجنّ و الانس إلّا ليعبدون؛ و لا يهمل دقيقة و لا ساعة من عمره هاتين القوّتين، و لما كان هذا الإنسان مركّب و محتاج الى امور يتعيّش بها فلا بدّ ان يصرف بعض قواه العاملة لمعاشه بقدر ما يتوقف معاشه عليه و الزائد علية تفريط للنعمة و تفويت للسعادة الانسانيّة التي خلقه اللّه لها. و اعلم ان الإنسان من بين جميع الحيوان انسيّ الطبع لا يكتفى بنفسه في تكميل ذاته و لا بدّ له من معاونة قوم كثيري العدد حتى يجرى امره على السداد، و لهذا قال الحكماء، انّ الإنسان مدنيّ بالطبع؛ و كلّ انسان بالطبع و بالضرورة يحتاج الى غيره، و لا بدّ ان يعاشر الناس بقدر الضرورة لاحتياجه و لأنّهم يكملون ذاته و يتمّمون انسانيّته، و هو أيضا يفعل بهم مثل ذلك، فإذا كان الأمر كذلك كيف يؤثر الإنسان التفرّد و التخلّى بملازمة المغارات و الكهوف او الإسكان في الصوامع او التعيش الصعب في المفاوز و يمنع نفسه عن درك هذه الفضائل، و لذا قيل كن بين الناس و لا تكن مع الناس، و النهي بسبب ان الشرور فيهم غالبة على الخير لكن بالانفراد لا تظهر أفعاله الخاصّة و صار بمنزلة الجماد، و ليست الفضائل اعداما بل هي اعمال و افعال و هي تظهر عند مشاركة الناس و مساكنتهم من ضروب الاجتماعات لأنّ العفّة مثلا

ص: 71

او الحياء او الصبر أو السخاوة او الحلم و أمثالها كيف يتحقّق وجودها من دون ان يكون الإنسان متعاشرا في أمثاله؟ و بئس العادة الجهل، و الخلق حال للنفس داعية لها الى افعالها من غير فكر و رويّة، و هذه الحالة تنقسم الى قسمين، منها ما يكون طبيعيا من اصل المزاج كالإنسان الذي يحرّكه ادنى شي ء نحو غضب و يهيّج من أقلّ سبب او يجبن من السير شي ء او يرتاع من خبر يسمعه او يغتم و يحزن من أيسر شي ء يناله. و منها ما يكون مستفادا بالعادة أولا فأولا حتى يصير ملكة و خلقا. و اختلف الناس فقال بعضهم من كان له خلق طبيعيّ لم ينتقل عنه، و قال آخرون ليس شي ء من الأخلاق طبيعيّا للإنسان بل تنتقل بالتأديب امّا سريعا او بطيئا، و هو المختار لأنّا نشاهد خلافه عيلنا و لأنّ القول الأوّل يؤدّى الى ابطال قوّة العاقلة و الى رفض السياسات و ترك الناس همجا مهملين، و هذا ظاهر الشناعة، و الرواقيّون قالوا انّ الناس كلّهم يخلقون أخيارا بالطبع ثم بعد ذلك يصيرون اشرارا بمجالسة اهل الشرّ و الميل الى الشهوات الرديئة التي لا تقمع بالتأديب، و امّا قوم آخرون قبل الرواقيين قالوا: انّ الناس خلقوا من الطينة السفلى و هي كدر العالم فهم لأجل ذلك اشرار بالطبع و انّما يصيرون أخيارا بالتأديب إلّا انّ فيهم من هو في غاية الشرّ لا يصلحه التأديب، و فيهم من ليس هو في غاية الشرّ فيمكن ان ينتقل من الشرّ الى الخير بالتأديب، و امّا جالينوس قال انّ النّاس من هو خيّر بالطبع و فيهم من هو شرير بالطبع و فيهم من هو متوسّط بين هذين و أفسد المذهبين الأوّلين و اثبت مذهبه بأن قال انّا نرى من النّاس من هو خيّر بالطبع و هم قليلون و ليس ينتقل هؤلاء الى الشرّ و منهم من هو شرير بالطبع و هم كثيرون و ليس ينتقل هؤلاء الى الخير، و منهم من هو متوسّط بين هذين و هؤلاء قد ينتقلون بمصاحبة الأخيار الى الخير و قد ينتقلون بمصاحبة الأشرار الى الشرّ.

أقول انّ في كلام جالينوس نظرا بأن يكون من الناس شرير بالطبع لأنّه لو صح هذا لكان التكليف عليهم عبثا و لغوا، فانّهم يكونون بطبعهم خارجين عن حدّ تعلّق سياسة اللّه إليهم فانّ أحدا لا يروم ان يغير حركة النار التي الى فوق بأن يعودها الحركة الى أسفل، و لا ان يعود الحجر حركة العلو و لو رامه ما صحّ له، و بهذا البيان ثبت منع

ص: 72

الشرير بالطبع، و صحّ التوسط بينهما، فحينئذ الإنسان قابل الأخلاق في الخير و الشرّ، فليتخلّق بأخلاق اللّه و سياسته التي بيّنها في الكتاب على السنة أنبيائه، فأبواب هذه السياسة متابعة الكتاب كما انّ أبواب الشرّ مخالفة الكتاب و السنة، و بالمتابعة يظهر جوهر الإنسان و اسم الإنسان و ان كان يطلق على الطرفين من هذا الباب لكن البون بينهما كبون الاضداد. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس شي ء خيرا من ألف مثله إلّا الإنسان، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة واحدة و لم أر أمثال الرجال تفاوتا الى المجد حتى عدّ ألف بواحد. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وزنت بامّتى فرجحت بهم و لذا قال سبحانه (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) مع انّه سلام اللّه عليه واحد فكن الفا و لا تكن واحدا.

[سورة البقرة (2): آية 11]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)

اى و إذا قال المسلمون لهؤلاء المنافقين هذا القول و هو قولهم لا تفسدوا في الأرض. و الفساد خروج الشي ء عن الصلاح، و الفساد في الأرض تهيّج الحروب و الفتن المتتبّعة لزوال الاستقامة في احوال العباد و اختلال النظام و المعاش و المعاد و المراد ما نهوا عنه من افشاء امر المسلمين و أسرارهم الى الكفّار.

«قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ». جواب لإذا و ردّ للناصح انّ شأننا الإصلاح و حالنا متمحّضة عن شوائب الفساد، الا تنبيه اى اعلموا ايّها المؤمنون

[سورة البقرة (2): آية 12]

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)

أثبت سبحانه لهم ما نفوه و نفى عنهم ما أثبتوه اى هم مقصورون على الفساد لأنفسهم بالكفر و للناس بالتعويق عن الايمان «وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ» و لا يحسّون فيدركون الصلاح عن الفساد فيفسدون صلاح آخرتهم بإصلاح دنياهم، و لا شعور لهم.

[سورة البقرة (2): آية 13]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)

من طرف المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف آمِنُوا حذف المؤمن به لظهوره اى «آمنوا بالله و باليوم الآخر كما أمن الناس» إيمانا مماثلا لإيمانهم، و اللام في النّاس للجنس و المراد به الكاملون في الانسانيّة، العاملون بعطيّة العقل او للعهد، و المراد به الرسول و من معه.

ص: 73

«قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ» الهمزة للإنكار، و انّما نسبوهم الى السفاهة مع انهم في الغاية من الرشد و الرزانة و العقل لكمال انهماكهم في الغواية، فمن حسب الضلال هدى فسمّى الهدى لا محالة ضلالا، و كان حينئذ كثير من المؤمنين فقراء صعاليك، و منهم موالي كصهيب و بلال و أمثالهم. فان قيل كيف يصحّ النفاق مع المجاهرة بقولهم، أ نؤمن كما آمن السفهاء؛ فالجواب انّ المنافقين كانوا يتكلّمون بهذا الكلام في أنفسهم سرّا، دون ان ينطقوا به جهرا، لكن هتك اللّه استارهم، و اظهر أسرارهم، و كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فردّ اللّه عليهم هذا القول بقوله:

«أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ» و الآية تنبيه، و ردّ، و مبالغة في تسفيههم و تجهيلهم، فانّ الجاهل بجهله، الجازم على ما هو الواقع أعظم ضلالة و أتم جهالة من المتوقف، فانّه ربّما ينفعه الآيات و النذر، و قوله لا يعلمون، بيان على أن ذلك الجهل لازم لهم، لعدم علمهم بجهلهم، و ذلك لعدم تعقلهم بما ينفعهم و ما يضرّهم، فان العلم تابع للعقل، و بئس العادة و الخلق الجهل. روى انّه لما خلق آدم أتى اليه جبرئيل بثلاث تحف: العلم و الحياء و العقل، فقال يا آدم اختر من هذه الثلاث ما تريد فاختار العقل فأشار جبرئيل الى العلم و الحياء بالرجوع الى مقرّ هما فقالا انّا كنّا في عالم الأرواح مجتمعين فلا نرضى ان يفترق بعضنا عن بعض في الأشباح ايضا فنتبع العقل حيث كان فقال جبرئيل عليه السّلام استقرّا فاستقر العقل في الدماغ و العلم في القلب و الحياء في العين فليسارع العاقل الى تحصيل العلم و المعرفة، و للعقل نجوم و هي للشيطان رجوم و للعلوم أقمار و للقلوب أنوار و استبصار، و للمعارف شموس و لها في قلوب المتقين طلوع، و للعاملين بالتقوى مشارق ليس لها مغارب، فالعلم بلا عمل يتيم، و العمل بلا علم سقيم، و هما معا صراط مستقيم. في الكافي عن السجاد عليه السّلام قال: انّ المنافق ينهى و لا ينتهى، و يأمر بما لا يأتي، و إذا قام الى الصلاة اعترض، قلت يا بن رسول اللّه و ما الاعتراض قال الالتفات و إذا رمض يمسي و همّه العشاء و هو مقطر و يصبح و همّه النوم و لم يسهر، ان حدّثك كذبك و ان ائتمنت خانك و ان غبت اغتابك و ان وعدك أخلفك

[سورة البقرة (2): آية 14]

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)

روى انّ عبد اللّه بن ابي و أصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم

ص: 74

نفر من الصحابة فقال ابن ابى انظروا كيف اردّ هذه السفهاء عنكم فلمّا دنوا منهم أخذ عبد اللّه بيد على بن أبي طالب فقال مرحبا بابن عمّ رسول اللّه و ختنه و سيّد بنى هاشم ما خلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال على عليه السّلام يا عبد اللّه اتق اللّه و لا تنافق فانّ المنافقين شرّ خلق اللّه فقال له عبد اللّه مهلا يا أبا الحسن انّى تقول هذا و اللّه انّ أيماننا كايمانكم و تصديقنا كتصديقكم ثمّ افترقوا فقال ابن ابىّ لأصحابه كيف رأيتمونى فعلت فإذا رأيتموهم فافعلوا ما فعلت فاثنوا عليه خيرا و قالوا ما نزال بخير ما دمت فينا فنزلت الآية المعنى ساق القصة في تمهيد نفاقهم و بيان مذهبهم و معاملتهم مع المؤمنين بأن يظهرون معهم الايمان و إذا اجتمعوا في الخلوة، و الى في الآية بمعنى الباء او مع مثل خلوت بفلان و اليه إذا انفردت معه و المراد من شياطينهم المشاركون في النفاق و التمرّد و كل عات متمرّد فهو شيطان و قيل المراد من شياطينهم كهنتهم في بنى قريضة كعب ابن الأشرف و في جهينة عبد الدار و في بني اسد عوف ابن عامر و في الشام عبد اللّه بن سوداء و كانت العرب تزعم فيهم انهم مطلعون على الغيب و يداوون المرضى و يعرفون الأسرار و ليس من كاهن الّا و عند العرب انّ معه شيطانا «قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ» موافقوكم على اعتقادكم و دينكم و لا يفارقكم في حال من الأحوال و كأنّه قيل لهم عند قولهم انّا معكم فما بالكم يوافقون المؤمنين بكلمة الشهادة و الحضور في جماعاتهم و مساجدهم فقالوا انّما نحن في اظهار الايمان عندهم مستهزؤن بهم و انّما نكون معهم ظاهرا لنشاركهم في غنائمهم و ننكح بناتهم و نحفظ أموالنا و نسائنا من أيديهم

[سورة البقرة (2): آية 15]

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

فرد اللّه عليهم بقوله:

: اى يجازيهم على استهزائهم و يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم او يعاملهم معاملة المستهزئ بهم في الآخرة كما أشرنا اليه سابقا يروى انّه يفتح لهم باب الى الجنة و هم في جهنم فيسرعون نحوه فإذا وصلوا اليه سدّ عليهم و ردّوا الى جهنم و المؤمنون على الأرائك في الجنة ينظرون إليهم فيضحكون منهم كما ضحكوا من المؤمنين في الدنيا فذلك بمقابلة هذا، و يفعل بهم ذلك مرّة بعد مرّة، و يمدهم اى يزيدهم من

ص: 75

مدّ الجيش و امدّه إذا زاده، و المدّ الجذب، لأنّه سبب الزيادة في الطول و المادة، كلشي ء يكون مددا لغيره و قيل كلشي ء حدثت زيادته في نفسه فهو مدد بغير ألف و كل زيادة أحدثت في الشي ء من غيره فهو امده و يمدّهم في طغيانهم قيل معناه يملى لهم ليؤمنوا و هم معذلك متمسكون بطغيانهم و عمههم و العمه في البصيرة كالعمى في البصر و هو التحيّر و قيل المعنى يدعهم و يتركهم من فوائده و منحه التي يكرم المؤمنين ثوابا لهم و يمنعها الكافرين عقابا كشرح الصدور و تنوير القلب فهم في ضلالهم يتحيّرون و ذلك بسبب انهم اعرضوا عن الحق

[سورة البقرة (2): آية 16]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)

أولئك المنافقون الموصوفون الذين اشتروا الضلالة و هي الكفر و النفاق بالهدى و هو الايمان و قبول القرآن و استبدلوها به فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فاسناد التجارة الى مثل هذا الأمر على الاتساع و لمشابهتها ايّاه من حيث انّها سبب الربح و الخسارة و التاجر الرابح من اتفق له في الصبا ان يربى على ادب الشريعة و أخذ بوظائفها حتى تعودها فقد بلغ مراتب الانسانيّة فليكثر حمد اللّه على هذه الموهبة العظيمة و من لم يتفق له ذلك في مبدأ نشوه و ابتلى بمعاشرة اهل الخلاعة و المجون و رواية الشعر الفاحش و نيل اللذّات مثل اشعار امرئ القيس و النابغة و مال طبعه الى التغزّل و التعشّق فقد أدركه الشقاء و الخسران فما ربحت تجارته و مهما تنبّه و هيهات فليجتهد على التدريج الى نظام نفسه منها ممّا لا يدرك كلّه لا يترك بعضه فإن فاته الربح فلا يفوته رأس المال و ادخل السّفينة قبل ان تغرق.

«وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ» الى طريق التجارة لأنّه قد فات منهم الربح و رأس المال لأنّهم اكتسبوا من طول العمر خذلانا و من كثرة الأموال و الأولاد حرمانا قال اللّه سبحانه لحبيبه ليلة المعراج انّ من نعمتي على امّتك انّى قصّرت أعمارهم كيلا تكثر ذنوبهم و أقللت أموالهم كيلا يشتدّ في القيمة حسابهم و أخرت زمانهم كيلا يطول في القبور حبسهم قال بعض علماء الأخلاق ينبغي للسالك ان يتحفّظ رأس ماله ثم يطلب الربح حتى إذا فاته الربح في صفقة فربما يتداركه في صفقة اخرى لبقاء الأصل حكى انّه كان للشيخ أبى علي الدقاق مريد تاجر متمول فمرض يوما فعاده الشيخ و سأل منه سبب علّته فقال

ص: 76

التاجر اشتغلت نهاري في التجارة حتى تعبت فقمت هذه الليلة لمصلحة التهجد فلمّا أردت الوضوء بدء لي من ظهري حرارة فاشتد امرى حتّى صرت محموما فقال الشيخ لا تفعل فعلا فضوليا و لا ينفعك التهجد ما دمت لم تهجر دنياك و تخرج محبتها من قلبك و تحرص عليها فاللائق لك أولا هو ذاك ثم الاشتغال بوظائف النوافل فمن كان به أذى من صداع لا يسكن ألمه بالطلاء على الرجل و من تنجست يده لا يجد الطهارة بغسل ذيله و كمّه و من علامة اتّباع الهوى المسارعة الى نوافل الخيرات و التكاسل عن القيام بالواجبات ترى الواحد منهم يقوم بالأوراد الكثيرة و النّوافل الثقيلة و لا يقوم بفرض واحد على وجهه.

و في قوله تعالى وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ صنعة الإيغال فانّ الإيغال في اصطلاح البديعين ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها فانّ في قوله أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم تم المعنى و أفاد بقوله و ما كانوا مهتدين مبالغة في ضلالتهم لأنّ المطلوب في تجارتهم سلامة رأس المال و حصول الربح و ربما تضيع الطلبتان و يبقى لهم معرفة التصرف في طريق التجارة فبيّن هذه النكتة انّهم ضلّوا الطريق، و ليس لهم طريق و معرفة في التجارة بعده أبدا، فتاجروا مع اللّه، بالأعمال الصالحة، و الصدقات، و اطلب التجافي عن دار الغرور؛ و اقرع باب الاستغفار و الاعتذار، و دع المباهات و الافتخار و لا يغرّك عزّك في دنياك، و اقبال ايّامك، فانّ الإقبال مقلوب لا بقاء، فبموتك يذهب الذهب، و الغناء عناء، و الدرهم همّ، و الدينار نار، بل لا تضيع عمرك في تحصيل العلوم الفضول، فاقنع من العلوم بقدر حاجتك للعمل، فان النحو محو، و النجوم رجوم و الرياضي رياضة، و الفلسفة فلّ و سفه، و العلم النافع، علم القرآن و الحديث، و هما اصول الشريعة و قانون الطريقة، كل العلوم سوى القرآن مشغلة غير الحديث، و إلّا الفقه في الدين، العلم ما كان فيه قال حدثنا و ما سوى ذاك وسواس الشياطين.

[سورة البقرة (2): آية 17]

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)

: اى مثل هؤلاء المنافقين لمّا أظهروا الايمان و ابطنوا الكفر كمثل الذي أوقد نارا، و اصل المثل بمعنى النظير، ثم قيل للقول الناشر

ص: 77

و استعير لكل حال أو قصّة أو صفة لها شأن عجيب و غرابة، كقوله، و للّه المثل الأعلى اى الوصف الذي له شأن من العظمة و الجلال، و التمثل الطف ذريعة الى تفهيم الجاهل و يجعل المعقول محسوسا، و الخفي جليّا، و لذا اكثر اللّه في كتبه الأمثال، و في الإنجيل سورة تسمّى سورة الأمثال، قيل و في القرآن قريب من ألف آية من الأمثال و العبر، اعلم ان التمثيل الطف ذريعة الى تفهيم الجاهل الغبي، و قمع سورة الجامح الابى كيف لا، و هو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، و إبراز لها في معرض المحسوسات و كان من عادة الأنبياء و الرسل، بيان الحكم في بعض المقامات بالأمثال، و تصوير الحقائق الغامضة العقلية، بكسوة الامثلة الحسيّة، و ذلك لأنّ اكثر الناس يغلب عليهم الجهة الحسيّة؛ قال ابراهيم النظام، في المثل، اربع خصال، لا يجتمع في غيره من الكلام، إيجاز اللفظ، و أصابة المعنى، و حسن التنبيه، وجودة الكناية، ثمّ اعلم، انّ الأمثال، تتفاوت في الدرجات، نازلة مثلا ما بعوضة فما فوقها، و صاعدة حتى ينتهى الى آل محمد صلوات اللّه عليهم، كما في فقرة الزيارة الجامعة، و المثل الأعلى، و ليس فوقهم مثل، و قد ضرب اللّه الأمثال، في السور، لهذه الحكمة، في البقرة، و آل عمران، و الانعام، و الأعراف و يونس، و هود، و الرعد، و ابراهيم، و النحل، و بنى إسرائيل، و الكهف، و الحجّ، و النور، و الفرقان، و العنكبوت، و الروم، و يس، و الزمر، و زخرف، و محمد، و الفتح، و الحديد، و الحشر، و الجمعة، و التحريم، و المدّثّر، و غيرها، و التشبيه باعتبار المشبّه و المشبّه به، على اربعة اقسام.

الاول يقال له التشبيه الملفوف، و هو ان يؤتى على طريق العطف بالمشبهات أولا، ثم تمّ بالمشبه بها، يقول امرء القيس،

كان قلوب الطير رطبا و يابسالدى و كرها العناب و الحشف البالي

و الثاني يقال له التشبيه المفروق، و هو ان يؤتى بمشبّه، و مشبّه به ثمّ آخر و آخر، كقول المرقش، يصف النساء:

النشر مسك و الوجوه دنانيرو أطراف الأكف عنم

الثالث التسوية، و هو ان يتعدد المشبه دون المشبّه به، كقول الشاعر:

ص: 78

صدغ

الحبيب و حالي كلاهما كاللئالي و ثغره في صفاء و ادمعى كاللئالى

و الرابع المجمع، و هو ان يتعدّد المشبّه به دون المشبّه، كقول البختري.

كأنّما يبسم عن لؤلؤمنضّد او برد او اقاح

و قد مثّل اللّه حال المنافقين، في سورة البقرة، كمثل الذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم و تركهم في ظلمات لا يبصرون: ثم انه لزيادة التوضيح مثّل مثالا آخر: فقال او كصيّب من السماء فيه ظلمات و رعد و برق: فقوله او كصيب او هاهنا للاباحة، نحو جالس الفقهاء او المحدثين، يعنى كلا الفريقين اهل ان تجالس، كصيّب، اى كاصحاب مطر منزل من السماء، و تنكر الصيّب أريد به نوع تهويل شديد، كالنار في التمثيل الاول، فالمعنى مثل هؤلاء المنافقين، في جهلهم كاصحاب مطر منزل عليهم من السحاب، في هذا المطر ظلمات، لأنّ السحاب يغشى الشمس بالنهار، و النجوم باللّيل، فيظلم الجو، و رعد و برق، فحاصل المعنى، انّ اللّه شبّه حالهم، في حيرتهم، بحال من أخذته السماء، في ليلة مظلمة، مع هذه الأحوال، من الرعد و البرق و خوف من الصواعق، فكلّما دعوا الى خير و غنيمة، اسرعوا لطلب النفع، كما انّ أولئك كلّما أضاء لهم البرق مشوا بضوء البرق لكن إذا وردت شدّة على المسلمين، مثل يوم احد و قفوا و تحيّروا لكفرهم، كما وقف أولئك في الظلمات متحيّرين، تأمّل في هذا التمثيل، كيف جمع بيانا شافيا واضحا مفيدا، يتعقله كل جاهل، و يفهم منه معان كثيرة، دون اطناب، مع وضوح المقصود المعنّى به، و هذا التشبيه، من القسم الثالث، من الأقسام الاربعة، لأنّ القسم الثالث، هو ان يتعدد المشبه، دون المشبه به انتهى. و قد يحذف آلة التشبيه، لأنّه يستنبط التشبيه، من الكلام، مثاله في القرآن، قوله تعالى: أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً: فانّه مثل الاغتياب بأكل الإنسان، لحم انسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك، حتى جعله لحم الأخ، ثم لم يقتصر عليه حتى جعله ميتا، ثم جعل ما هو في غاية الكراهة، ففيه اربع دلالات، و فيه لطف آخر فانّه تعالى جعل المغتاب بمعنى المفعول، بمنزلة الميت، لأنه كما لا يقدر الميت، الدفاع من السّوء عن نفسه، كذلك حال الغائب الذي اغتيب، لا يعلم حتى يدفع عن نفسه ذكر السوء.

ص: 79

«اسْتَوْقَدَ ناراً»: الاستيقاد طلب سطوع النار، و ارتفاع لهبها، و المعنى أوقد في مفازة في ليلة ظلماء، «فَلَمَّا أَضاءَتْ»: الاضائة فرط الإنارة، «ما حَوْلَهُ»: أى حول المستوقد من الأماكن و الأشياء، و اصل الحول، الدوران، و منه الحول للعام، لأنّه يدور، و جواب لمّا «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» اى اذهب و اطفأ نارهم التي هي مدار نورهم وضوئهم «وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ»: بحيث لا يبقى من النور عين و لا اثر اى صيّرهم في ظلمات لا يبصرون ما حولهم فانّ المنافقين أظهروا كلمة الايمان غدرا و مكرا، فاستناروا بنورها، و استعزوا بعزّها، فناكحوا المسلمين، و اورثوهم، و قاسموهم الغنائم، و أمنوا على أموالهم و أولادهم، فإذا بلغوا آخر العمر، كلّ لسانهم عنها و حرموا من فائدتها، و بقوا في ظلمة النفاق و الكفر و سخط اللّه، و عادوا الى الخوف و الظلمة

[سورة البقرة (2): آية 18]

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)

: اى هم صم عن الحق لا يسمعونه، كأنه انسدت خروق مسامعهم، بكم، خرس، لا يقولونه، كأنّهم لا يتمكّنون ان ينطقوا به، مثل من به آفة في لسانه، «عُمْيٌ» فاقدوا الأبصار عن النظر، و هم في الآخرة يعاقبون بجنسها؛ قال اللّه «وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا» لا يسمعون سلام اللّه، و لا يخاطبون اللّه، و لا يرون آثار رحمته، و المؤمنون يكرمون يومئذ بخطابه، و لقاء كرامته، و سلامه؛ «فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ» بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة، لا يعودون عن الضلالة الي الهدى و الفطرة السليمة التي فطر النّاس عليها،

[سورة البقرة (2): آية 19]

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)

: مثّل اللّه مثالا آخر، عن حال المنافقين، اى حالهم كحال أصحاب مطر يصوّب و يقع، و صيّب أصله صيوب، على وزن فيعل، فاجتمعت الواو و الياء، و الاولى ساكنة، فقلبت ياء، و أدغمت، مثل سيّد و جيّد، و أو في الآية للتخيير و التساوي، اى كيفيّة قصة المنافقين، شبيهة بهاتين القصتين، فان مثلت بأحدهما، او بهما جميعا، فأنت مصيب، و أو، يكون بمعنى الواو أوجه، مثل قوله تعالى: «أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ» قال الشاعر:

ص: 80

و قد زعمت ليلى بأنّي فاجرلنفسي تقاها او عليها فجورها

«مِنَ السَّماءِ»: يتعلّق بصيّب، و الصيّب ليس بعاقل، و لا يعطف غير العاقل على العاقل، فالمراد اصحاب الصيّب المنزل من السماء، قال الامام الرازي: من الناس من قال: المطر انما يتحصل من ارتفاع ابخرة رطبة من الأرض، و من البحار الى الهواء، فينعقد هناك من شدة البرد، ثم ينزل مرة اخرى، و أبطل اللّه ذلك المذهب، بأنّ ذلك الصيب نازل من السماء، و مادته منها، و عن ابن عباس ان تحت العرش بحرا، ينزل منه أرزاق الحيوانات، بوحي اليه، فيمطر ما شاء من سماء الى سماء، حتى ينزل الى سماء الدنيا، و يوحى الى السحاب، ان غربله، فيغربله، فليس من قطرة يقطر إلّا و معها ملك، يضعها موضعها، و لا ينزل من السماء قطرة، إلّا بكيل معلوم، إلّا ما كان من يوم الطوفان، فانه ما نزل بكيل؛ «فِيهِ ظُلُماتٌ»: اى في الصيب، أو في السحاب، فأيّهما أريد، فظلمة المطر تكافئه، و انسجامه بتتابع القطر، و ظلمة لازمة، و هو الغمام، و كذلك ظلمة السحاب، تطبيقه، و انسجامه، و تراكمه، و ظلمة الليل، و لما كان التعلّق بين السحاب، و المطر شديدا، جاز اجراء أحدهما مجرى الآخر، في بعض الاحكام، «وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ»: الرّعد هو صوت قاصف يسمع من السحاب، و البرق هو ما يلمع من السحاب، و المشهور بين الحكماء، انّ الرعد يحدث من اصطكاك اجرام السحاب، بعضها ببعض، او من إقلاع بعضها عن بعض، عند اضطرابها، بسوق الرياح ايّاها سوقا عنيفا، و لا يعتمد على مثل هذه الكلمات، سواء صدرت من حكيم أو غيره، ما لم يوافق الروايات المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام، بل إذا خالف قول الحكيم، بما نطق به الأئمة المعصومون، فذلك ليس بحكمة، و القائل ليس بحكيم، بل هو حجّام قال المورج: الحكمة مأخوذة من حكمة اللجام، لأنّها تضبط الدابة، و لمّا كانت الحكمة تمنع السفه، فلذا سميت حكمة، فلو قيل انّ الحكيم، يؤوّل الحديث، و لا ينكره، فالجواب، ان الضرورة باعثة على التأويل في امور لا يجوز ان يحمل على ظاهر حكمها، لا في كلّ محكم ورد في لسان الشرع، فأرادوا ان يوافقوا معنى أرادوا فأولوه فمثل هذه التأويلات، آخر باب التعطيل، و فتح أول باب الإلحاد، و حكمة المحمدية،

ص: 81

اغنتنا عن كلّ حكمة، و انفع الحكم ما أمرنا به، و هو الزهد في الدنيا، حتى يكون سلامة لنا في أخرتنا، قال عبد المؤمن الأصبهانى، في رسالته الموسومة باطباق الذهب و هي مائة مقاله، عارض بها اطراق الذهب للزمخشري و قد صنع في تمام مقالات المأة، صنعة الاقتباس، قال في المقالة السابعة، طوبى للتقى الحامل الذي سلم من إشارات الأنامل و تبّا لمن قعد في الصوامع ليعرف بالأصابع، و الكامل، كامن متضائل، و الناقص، قصير يتطاول، و العاقل قبعة، و الجاهل طلعة، و الوجاهة فتنة، و الاشتهار محنة، اجعل كنزك في التراب، و سيفك في القراب، و لو علم الجزل، صولة النجار، و عضة المنشار، لما تطاول شبرا، و لا تخايل كبرا، و سيقول البلبل العيقل، يا ليتني كنت غرابا، و يقول الكافر، يا ليتني كنت ترابا، قال اللّه، ليس لك من الأمر، و انّ الأمر كلّه للّه، فلا تختر ما نهاك اللّه، و امتثل ما أمرك اللّه و لا تعتذر بالضرورة، و بالجملة فالصحيح، الذي يعول عليه انّ الرعد صوت ملك السحاب، يزجرها، و هو يسبّح، قال الطبرسي، روى ذلك عن ابن عباس، و مجاهد و هو المروىّ عن أئمتنا عليهم الصلاة و السلام و روى الترمذي، عن ابن عباس في روح البيان، قال أقبلت يهود، الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا أخبرنا عن الرعد، ما هو، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملك من الملائكة، موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار، تسوقه بها حيث شاء اللّه فقالوا ما هذا الصوت الذي يسمع، قال زجره حتى ينتهى الى حيث امر، فقالوا صدقت فعلى هذا المراد بالرعد، صوت ذلك الملك، لا عينه، و انّه يخور في نقرة إبهام الملك الماء و انّه يسبّح اللّه، لا يبقى ملك في السماء، الّا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل القطر؛ و في الحديث انّ الرعد، صوت ملك، اكبر من الذباب، و أصغر من الزنبور؛ و «بَرْقٌ»: قيل انه مخاريق الملائكة من حديد، يضرب بها السحاب، فينقدح منه النار، عن على سلام اللّه عليه؛ و قيل انّه سوط من نور، يزجر به الملك السحاب، و امّا في مناسبة المثل، قيل وجوه: أحدها انّه شبّه المطر المنزل من السماء بالقرآن، و ما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، و الوعيد بزواجر القرآن، و من البرق، و الصواعق، ببيانه، و وعيده و الأقرب في بيان التشبيه، ما روى عن ابن مسعود، و جماعة من الصحابة، ان رجلين،

ص: 82

منافقين، من اهل المدينة، هربا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأصابهما المطر الّذى ذكر اللّه في الآية، و رعد و برق و صواعق، فكلما أضاء لهما الصواعق، جعلا أصابعهما في آذانهما، مخافة ان تدخل الصواعق، في آذانهما، فتقتلهما، و إذا لمع البرق، مشيا في لمعه، و إذا لم يلمع لم يبصرا، فندما، و جعلا، يقولان يا ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمدا، فنضع أيدينا، في يده فأصبحا، فاتياه، و أسلما، و حسن إسلامها، فضرب اللّه شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقى المدينة، فان منافقي المدينة، كانوا إذا حضروا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعلوا أصابعهم في آذانهم، فرقا من كلام النبىّ ان ينزل فيهم شي ء، كما كان ذلك الرجلان، يجعلان أصابعهما في آذانهما؛ من الصواعق: جمع صاعقة، و هي الوقع من السحاب، تسقط معه نار محترق، لكنّها مع حدّتها سريعة الخمود، قالوا بين السماء و بين الكلة الرقيقة، التي لا يرى أديم السماء، الّا من ورائها نار منها تكون الصواعق، تخرج النار، فتفتق الكلة و تكون الصوت منها؛ او جرم، ثقيل، مذاب، مفرغ من الاجزاء اللطيفة الارضيّة الصاعدة، المسمّاة دخانا، و المائية المسمّاة بخارا حارّ حاد، في غاية الحدّة و الحرارة، لا تقع على شي ء الّا ثقب و احرق، و نفذ في الأرض حتّى بلغ الماء، فانطفأ و وقف؛ قال ابن عباس، من سمع صوت الرعد فقال، سبحان الذي يسبّح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته و هو على كلشي ء قدير، فان أصابته صاعقة فعليّ ديته، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا سمع الرعد، و صواعقه، يقول، اللهم لا تقتلنا بغضبك و لا تهلكنا بعذابك و عافنا قبل ذلك.

«حَذَرَ الْمَوْتِ» منصوب بيجعلون على العلة اى خوفا من الموت.

«وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ» الاحاطة الإحداق بالشي ء من جميع جهاته و هو مجاز في حقه تعالى اى محدق بعلمه و قدرته لا يفوتونه فيحشرهم يوم القيمة و يعذبهم و الحيل لا ترد بأس اللّه و وضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بانّ ما دهمهم من الأمور الهائلة بسبب كفرهم و التصريح بكفرهم.

[سورة البقرة (2): آية 20]

يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

الكلام وقع جوابا عن سؤال مقدّر كانّه قيل فكيف حالهم مع ذلك البرق فقيل يكاد

ص: 83

ذلك البرق يختلس و يستلب أبصارهم بسرعة، من شدّة ضوئه، و كاد من أفعال المقاربة و لا يتم بالفاعل، و يحتاج الى خبره، و خبره الفعل المضارع، و يخطف أبصارهم في موضع النصب، و خبر يكاد؛ و كلّما: أصله كلّ، و ضمّ إليه ما الجزاء، و هو منصوب بالظرف، و العامل فيه أضاء: فالمعنى متى ما أضاء البرق لهم؛ مشوا فيه: أى في ذلك المسلك و في مطرح نور البرق، خطوات يسيره.

«وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ»: و خفى البرق، و استتر صار الطريق مظلما، و وقفوا في أماكنهم متحيرين.

«وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ»: اى و لو أراد اللّه ان يذهب الأسماع التي في الرأس، و الأبصار لذهب بها بصوت الرعد و نور البرق عقوبة لهم لأنّه لا يعجز عن ذلك و ذلك مثل قول الشاعر

فلو شئت ان ابكى دما لبكيته عليه و ليكن ساحة الصبر أوسع.

«إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» فاعل له بقدرته و حاصل المعنى إن اللّه شبه حال المنافقين في حيرتهم و ضلالتهم بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد و برق و خوف من الصواعق و الموت فكلّما دعوا الى خير و غنيمة اسرعوا لطلب الخير و النفع كما إنّ أولئك كلّما أضاء لهم البرق مشوا فيه لاهتدائهم الطريق بضوء البرق فكذلك حال المنافقين لكن إذا وردت شدّة على المسلمين مثل يوم احد تحيّروا و وقفوا لكفرهم كما وقف أولئك في الظلمات متحيرين و قيل المراد انّهم إذا آمنوا صار الايمان لهم نورا و مشوا باهتداء نور الايمان فإذا ماتوا عادوا الى ظلمة العقاب لان ايمانهم ليس عن حقيقة.

[سورة البقرة (2): آية 21]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

ياء حرف نداء و اىّ اسم مبهم يقع على أجناس كثيرة و لا يتم الا بان يوصف و صفته تكون باسم الجنس مثل الناس و اىّ منادي مفرد معرفة لأنّه وقع موقع حرف الخطاب و هو الكاف و انما بنى على الحركة مع انّ الأصل في البناء السكون لأنه ليس بغريق في البناء و البناء عارض فيه و حرك بالضمّ لأنّه كان في أصله اىّ بالتنوين فلما سقط التنوين أشبه

ص: 84

قبل و بعد الذي قطع عنه الغاية و الناس مرفوع لأنه صفة لاىّ فتبعه على حركة لفظه و لا يجوز هاهنا النصب و ان كانت الأسماء المنادات المعرفة يجوز في صفاتها النصب و الرفع لان هنا الصفة هو المنادى في الحقيقة و اى وصلة اليه و يدل على ذلك لزومها هاء التنبيه و بالجملة الناس يصلح اسما للمؤمنين و الكافرين و المنافقين و النداء تنبيه الغافلين و تعريف الجاهلين و تهيج المطيعين اعبدوا ربكم يقول للكفار و حدّوا ربكم و للعاصين أطيعوا ربّكم، و للمنافقين أخلصوا معرفة ربكم، و للمطيعين اثبتوا على طاعة ربّكم و اللفظ قابل لهذه الوجوه كلها و هو من جوامع الكلم و العبادة استفراغ الطاقة في استكمال الطاعة.

«الَّذِي خَلَقَكُمْ» صفة تدل على التعظيم و التعليل و الخلق اختراع الشي ء على غير مثال سبق و خلق الذين من قبلكم من الأمم المتقدمة قبل زمانكم و انّ خلق أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» اى لعلّكم تتّقون الحرمات بينكم؛ و تكفون عما حرّم اللّه؛ و هذا كقول القائل: اقبل لعلّك ترشد؛ و إنّه ليس من ذلك على شك و إنّما يريدان يقبل فيرشد. قالوا فائدة إيراد لفظة لعلّ هي: ان لا يحل العبد ابدا محل الّا من المدلّ بعمله، بل يزداد حالا فحالا حرصا على العمل و حذرا من تركه.

و الحاصل انّ لعلّ للترجى و الأطماع؛ و هي من اللّه واجب لأنّه تعالى لا يطمع الّا فيما يفعل و استعمال لعلّ مشعر: بان العامل لا ينبغي ان يغتر بعبادته و عمله، بل يكون ذا خوف و رجاء فعليك في مراقبة الواردات من خزانة الخيال عن كتاب اسعاف الراغبين انّ الشيخ محمّدا بالمواهب الشاذلى رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال النبي له إذا كان لك حاجة فأنذر للطاهرة الخنسية و لو بدرهم يقضى اللّه حاجتك و هي بنت الحسن ابن زيد بن المجتبي عليه السّلام زوجة الإسحاق المؤتمن ابى جعفر الصادق عليه السّلام توفّت بمصر و دفن بها و كانت حفرت قبرها بيدها تنزل فيه و تصلّى و قرئت فيه ستة آلاف ختمه توفت سنة ثمان و مأتين احتضرت و هي صائمة فالتزموها لتفطر فقالت وا عجباه انّى منذ ثلثين اسئل اللّه ان ألقاه و انا صائمة أفطر الآن هذا لا يكون ثم قرئت سورة الانعام الى

ص: 85

ان وصلت لهم دار السلام عند ربهم و ماتت.

[سورة البقرة (2): آية 22]

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

صفة ثانية لربكم، الأرض بساط العالم و بسيطها، روى عن امير المؤمنين انّه قال انّما سمّيت الأرض أرضا لأنها تتأرّض ما في بطنها يعنى تأكل ما فيها و قيل لأنها تتأرض بالحوافر و الاقدام، قال اهل المساحة: انّ بسيطها من حيث يحيط بها البحر الذي يقال له المحيط اربعة و عشرون ألف فرسخ، كل فرسخ ثلاثة أميال، يصير اثنا عشر ألف ذراع و كلّ ذراع ست و ثلاثون إصبعا، كلّ إصبع ست حبّات شعير مصفوفة بطون بعضها الى بعض، فللسودان اثنا عشر ألف فرسخ، و للبيضان ثمانية، و للفرس ثلاثة، و للعرب ألف، كذا نقل صاحب الكتاب الملكوت و سمت وسط الأرض المسكونة حضرة الكعبة، و امّا وسط الأرض كلّها عامرها و خرابها فهو الموضع الذي يسمّى قبّة الأرض، و هو مكان يعتدل فيه الأزمان في الحرّ و البرد، و يستوي الليل و النهار ابدا، لا يزيد أحدهما على الاخر فِراشاً جعلها متوسطة بين الصلابة و اللين، صالحة للتوطن و القعود عليها، و النوم فيها كالبساط المفروش، و ليس من ضرورة ذلك كونها سطحا حقيقيّا، فإنها و ان سلّمنا كرويّتها لكن مع عظم جرمها قابلة للتسطيح و الافتراش، و جعل «السَّماءَ»: و هو ما علاك «بِناءً»: قبّة مضروبة عليكم، و كلّ سماء مطبّقة على الاخرى، مثل القبّة، و السماء الدنيا ملتزمة أطرافها على الأرض كذا نقل في بعض التفاسير كما في تفسير ابى الليث.

«وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» اى مطرا ينحدر من السماء على السحاب و منه على الأرض و لعلّ حكمة نزوله على السحاب بدوا ثم على الأرض لأجل ان يغربله السحاب حتى ينزل على ترتيب التقاطر حسب ما نشاهده.

«فَأَخْرَجَ بِهِ» اى أنبت اللّه بسبب الماء المنزول.

«مِنَ الثَّمَراتِ»: اى المأكولات من الحبوب و الفواكه من الأرض و الشجر.

«رِزْقاً لَكُمْ» و ذلك بانّ أودع في الماء قوّة فاعليّة و في الأرض قوّة منفعلة فتولد

ص: 86

من تفاعلهما اصناف الثمار لتعرفوه بالخالقيّة و الرازقية فتوحدوه.

«فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً»: جمع ند و هو المثل اى أمثالا تعبدونهم كعبادة اللّه، قال ابن عباس لا تقولوا لو لا فلان لأصابني كذا و لو لا كلبنا يصيح على الباب لسرق متاعنا، و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ايّاكم و لو، فانّه من كلام المنافقين، قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا.

«وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»: انّ اللّه هو الذي خلقكم و خلق الأرزاق لكم لتعبدوه و تعرفوه باستحقاقه الوحدانيّة و التفرد، و الآية تفيد انّ الإنسان لا بدّ ان يخلص عمله للّه فقط، و يترك ملاحظة الأغيار.

و اعلم انّ معرفة النفس من اهمّ الأمور فيكون نعرف ما هي، و اىّ شي ء هي، و لاىّ شي ء أوجدت فينا، حتى نستعملها فيما ينبغي، و نمنعها عمّا لا ينبغي، و ما الذي يزكيها فنفلح و ما الذي يدسيها فنخيب، كما قال اللّه قد أفلح من زكّيها و قد خاب من دسّيها، و قد اتضح انّ فينا شي ء ليس بجسم، و لا بجزء من جسم، و لا عرض، بل هو جوهر بسيط غير محسوس بشي ء من الحواس، و له افعال تضاد افعال الأجسام، و لا يشاركها في حال من الأحوال، و الدليل على انّه ليس بجسم و لا عرض، انّ كلّ جسم له صورة ما، فانّه ليس يقبل صورة اخرى، الا بعد مفارقة الصورة الاولى، مثل انّ الجسم إذا كان في صورة و شكل من الأشكال كالتثليث مثلا فليس يقبل شكلا أخر من التربيع و التدوير الا ان يفارقه الشكل الاول و ان بقي فيه شي ء من رسم الصورة الاولى، لم يقبل الصورة الثانية على التمام بل يخلط به الصورتان، و لا يخلص له أحدهما على التمام، و نحن نجد أنفسنا تقبل صور الأشياء كلها على اختلافها من المحسوسات و المعقولات على التمام من غير مفارقة للأولى و لا زوال رسم، بل يبقى الرسم الأول تاما كاملا و تقبل الرسم الثاني ايضا تاما كاملا ثم لا تزال تقبل صورة بعد صورة دائما، و هذه الخاصة مضادة الخواص الأجسام و بهذه العلّة يزداد الإنسان فهما كلما تخرج في العلوم و الآداب، فليست النفس جسما.

و امّا انّها ليست، بعرض لأن العرض في نفسه محمول ابدا، موجود في غيره، لا قوام له بذاته، فثبت ان طباع النفس و جوهرها من غير طباع الجسم و للبدن، و انها أكرم

ص: 87

جوهرا من كل ما في هذا العالم، من الأمور الجسمانية، و النفس و ان كانت تأخذ كثيرا من مبادي العلوم عن الحواس، لكن لها من نفسها مباد أخر، لا تأخذها عن الحواس، و هي المبادي العالية التي تبتنى عليها القياسات الصحيحة المقطوعة الصحة، بل الحواس تخطئ أحيانا مثل حركة السفينة و الشاطئ، لكن النفس العاقلة ترد علي الحواس هذا الحكم، و تغلطه في إدراكه، و تعلم انه ليس كما يراه، و هذا لعلم من ذاتها و جوهرها فهذه فضيلة النفس، و بهذه الفضيلة يدرك الإنسان السعادات، ما لم تتلوث النفس برذائل الشهوات الرديئة الجسمانية، فحينئذ تنقلب هذه الملكة الملكية الى ملكة الشيطانية، و خاب من دسيها.

فالعاقل ينبغي ان يقوى قوة ملكيته، و يضعف قوى بهيميّته، حتى يستدرك من فيض النور المودع فيه، و هو المعبّر بالنفس الناطقة، و بالروح القدسي و بالعقل، لان يستفيد من تلك القوة، السعادة الدائمة، و يبعد عن عالم البهيميّة و الشقاوة الابدية، و لا يحصل هذا الفيض الا إذا كان حريصا في الإطاعة و العبادة، قنوعا في الدنيا، و لم يكن حريصا في المال و زخارف الدنيا، لأن من أحب المال و الدنيا حبا مفرطا فقد هلك هلاك الأبد، و يكون حاله أسوأ من البهيمة، لان البهيمة إذا ماتت و هلكت استراحت، و هو أول عذابه، و معلوم ان حرصه على المال يصده عن استعمال الرأفة و بذل ما يجب، و يضطره الى الخيانة و الكذب و الاختلاق و منع الواجب و الاستقصاء و استجلاب الحبة و الدانق، و ربما يسعى في قتل نفسه، بسبب معارضة خصمه، فليستعمل الإنسان نفسه فيما خلق له، و لا يغير جبلّتها فيكون مستعملا الماء لإيقاد النار، و النار لدفع العطش، قد خسر و دسيها، و كان عليه ان يفلها، و معذلك جعل اللّه لك برحمته الواسعة مندوحة، و هي باب التوبة و الاستغفار، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طوبى لمن وجد في صحيفة عمله يوم القيمة تحت كل ذنب استغفر اللّه، قال الصادق عليه السّلام إذا اكثر العبد الاستغفار رفعت صحيفتة و هي تتلألأ، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يقوم من مجلس و ان خف، حتى يستغفر اللّه خمسا و عشرين مرة، و قال سلام اللّه عليه ان المؤمن ليذكره اللّه الذنب بعد بضعة و عشرين سنة، حتى يستغفر اللّه منه، فيغفر له، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قول لا اله الا اللّه و الاستغفار خير العبادة كما قال اللّه سبحانه فاعلم انه لا اله الا اللّه و استغفر لذنبك لا أقول تنسى طريقة الاستغفار من قول امير المؤمنين، أولها الندم، الثاني العزم على ترك العود،

ص: 88

الثالث أداء حقوق الناس، الرابع اذابة اللحم الذي نبت من الحرام، و ينبت لحم جديد، الخامس أداء فرائض المضيعة، السادس ان تذيق الجسم الم الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، ثم يقول استغفر اللّه.

و في توصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمعاذ يا معاذ انّي محدّثك بحديث ان أنت حفظته نفعك و ان أنت ضيّعته انقطعت حجّتك عند اللّه يا معاذ انّ اللّه خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السّموات و الأرض فجعل لكلّ سماء من السبعة ملكا بوّابا فيصعد عليه الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى له نور كنور الشمس حتّى إذا طلعت به الملائكة إلى السّماء الدنيا زكته و كثرته فيقول الملك الموكّل للحفظة قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربّي ان لا ادع عمل من اغتاب الناس يتجاوزني انه كان يغتاب الناس و كذلك الى السماء الثانية ملك الفخر يردّه و هكذا إلى السّماء الثالثة فيردّه ملك التكبّر و كذلك إلى الرابعة فيردّه ملك العجب و كذلك إلى السماء الخامسة فيردّه ملك الحسد و كذلك الى السماء السادسة فيردّه ملك الرحمة و كذلك الى السماء السابعة بعمله من صلاة و صوم و فقه و اجتهاد و ورع لها دويّ كدويّ النحل وضوء كضوء الشمس معها ثلاثة آلاف ملك فيقول لهم الملك الموكّل بها قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و اقفلوا على قلبه انا احجب عن ربّي كلّ عمل لم يرد به ربّي انّه كان يعمل لغير اللّه انّه أراد به رفعة عند الناس و ذكرا عند العلماء و صيتا في المدائن أمرني ربي ان لا ادع عمله يجاوزني الى غيري و كلّ عمل لم يكن للّه خالصا فهو رياء قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يصعد الحفظة بعمل من زكاة و صوم و صلاة و حج و عمرة و خلق حسن و ذكر للّه و يشيعه ملائكة السموات حتى يقطعون الحجب كلّها الى اللّه عز و جل فيقفون بين يديه ليشهدوا له بالعمل الصالح المخلص للّه فيقول اللّه أنتم الحفظة على عمل عبدي و انا الرقيب على قلبه انّه لم يردني بهذا العمل و أراد به غيري فعليه لعنتي فيقول الملائكة كلّهم عليه لعنتك و لعنتنا فتلعنه السّموات السبع و من فيهنّ قال معاذ قلت يا رسول اللّه كيف لي بالنجاة و الخلوص قال اقتد بي و عليك باليقين و ان كان في عملك تقصير و حافظ على لسانك من الوقيعة اى الغيبة في اخوانك من حملة القرآن و لا تزك نفسك عليهم و لا تدخل

ص: 89

عمل الدنيا بعمل الآخرة و لا تمزق الناس فيمزقك كلاب النار يوم القيمة في النار و لا تراء بعملك الناس.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 23]

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)

اى في شك من القرآن الذي نزلناه على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كونه وحيا منزلا من عند اللّه و التنزيل النزول على سبيل التدريج فاتوا جواب الشرط و هو امر تعجيز «بِسُورَةٍ» و حدّ السورة قطعة من القرآن معلومة الأول و الآخر أقلّها ثلاث آيات و انّما سميت سورة لكونها أقوى من الآية مأخوذة من سورة الأسد اى قوته هذا ان كانت واوها اصلية و ان كانت منقلبة عن همزة فهي مأخوذة من السؤر الذي بقيّة الشي ء فالسورة قطعة مفرزة ما فيه من غيرها.

«مِنْ مِثْلِهِ» اى مثل القرآن في البيان الغريب و المعنى الجامع النافع و علو الطبعة في النظم و التركيب اى ائتوا بمثل ما أتى هو، ان كنتم تزعمون انّه كلام البشر إذ أنتم و هو سواء في الجوهر و اللسان و الخلقة و ليس هو اولى منكم بالاختلاق منكم.

تأمّل في إبداع هذه الآية و قيل يا ارض ابلعي مائك و يا سماء اقلعي و غيض الماء و قضي الأمر و استوت على الجودي و قيل بعدا للقوم الظالمين و قد اجمع الفصحاء على أنّ هذه الآية اشتملت على اثنين و عشرين نوعا من البديع مع انّها سبعة عشر لفظة الأول المناسبة بين ابلعي و اقلعى الثّاني الاستعارة الثّالث الطباق بين الأرض و السماء 4 المجاز 5 الارداف 6 التمثيل 7 التعليل 8 صحة التقسيم 9 الاحتراس 10 حسن النسق 11 المساواة 12 ائتلاف اللفظ مع المعنى 13 الإيجاز فانّه امر و نهى و اخبر و نادى و أهلك و أبقى و اسعد و أشقى و قصّ من الأنبياء ما لو شرح لاحتاجت الى الظواهر باخصر لفظ و ابلغ معنى 14 التسهيم 15 التهذيب لأن مفرداته موصوفة بصفات الحسن كل لفظة سهلة المخارج سليمة عن التنافر بعيدة عن التباعد و عقادة التركيب 16 حسن البيان 17 الاعتراض و هو قوله و غيض الماء و استوت على الجودي 18 الكناية فانّه لم يصرّح بمن غاض الماء و لا بمن قضى الأمر و سوى السفينة و أتى على سبيل الكناية لأنّ تلك الأمور العظام لا تأتى إلّا من ذي قدرة لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره تعالى

ص: 90

19 التعريض 20 التمكين 21 الانسجام 22 الإبداع أقول انّ الفصيح التكلّم يعرف انّ هذه الصنائع في سبعة عشر لفظة في غاية الاعجاز مثلا المساواة هي ان اللفظ لا يزيد على معناها و هذه غاية لفصاحة لأنّ المعاني الدقيقة يحتاج بألفاظ كثيرة حتى يستخرج ذلك المعنى من تلك الألفاظ المتكثّرة فحينئذ إذا كان اللفظ لا يتكثّر و أفاد المعنى غاية الفصاحة.

«وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ»: جمع شهيد بمعنى الحاضر و الناصر «مِنْ دُونِ اللَّهِ» متعلّق بادعوا اى ادعوا متجاوزين اللّه من حضركم كائنا من كان للاستظهار في معارضة القرآن او المراد الحاضرين في مشاهدكم و انديتكم من رؤسائكم و فصحائكم و اشرافكم الذين تفزعون إليهم في الملمّات و المهمّات ليعينوكم في الإتيان بمثله و قيل ان الظرف متعلق بشهدائكم و المراد بالشهداء الأصنام و دون بمعنى التجاوز اى ادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم الهة و زعمتم انهم يشهدون لكم يوم القيمة انكم على الحق متجاوزين اللّه في اتخاذها.

«إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقوله من تلقاء نفسه و جواب ان محذوف اى ما فعلوا كذلك من الإتيان بمثله.

[سورة البقرة (2): آية 24]

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)

فان لم تفعلوا ما أمرتم من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم سعيكم «وَ لَنْ تَفْعَلُوا» فيما يستقبل ابدا فانّه معجزة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اعتراض بين الشرط و الجواب و قد وقع الأمر حيث اخبر بعدم وقوعه و لو عارضوه بشي ء يدانيه في الجملة لتناقله الرّواة خلفا عن سلف.

«فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا»: و لمّا لم تؤمنوا به صرتم من اهل النّار فاتّقوها و اتركوا العناد و احذروا النار التي حطبها و هو ما يوقد به النار «النَّاسُ»: اى العصاة «وَ الْحِجارَةُ» اى حجارة الكبريت و انّما جعل حطبها منها لسرعة التهابها و بطوء خمودها و قبح رائحتها و لصوقها بالبدن او المراد من الحجارة الأصنام التي عبدوها و نحتوها من الحجارة و انما جعل التعذيب بها ليتحقّقوا انّهم عذّبوا بعبادتها و ليست نار الجحيم كلّها توقد

ص: 91

بالناس و الحجارة بل هي نيران شتّى منها نار بهذه الصفة.

«أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ»: و هيئت للذين كفروا بما نزلناه و فيه دلالة على ان النار مخلوقة موجودة الآن خلافا للمعتزلة و في الآية اشارة الى ان ثمرة الأخذ بالقرآن و القبول به و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو النجاة من النار التي وقودها الناس و الحجارة.

[سورة البقرة (2): آية 25]

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)

البشارة الخبر السّار الذي يظهر به أثر السرور أى فرّح يا محمد قلوب الذين آمنوا بأنّ القرآن منزل من اللّه مثل قوله بشر المشائين الى المساجد في ظلم الليالى بالنور التام يوم القيمة.

«وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» و فعلوا الفعلات الصالحات و هي كل ما كان للّه تعالى حسب ما امر به و في عطف العمل على الايمان دلالة على تغايرهما و اشعار بأنّ مدار الاستحقاق مجموع الأمرين فانّ الايمان أساس و العمل الصالح كالبناء عليه و لا غناء بأساس لا بناء عليه و طلب الجنة بلا عمل حال السفهاء.

«أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ» بساتين فيها أشجار مثمرة قيل الجنة ما فيه النخيل و الفردوس ما فيه الكرم كذا قال الفراء، و لفرط التفاف اغصان أشجارها و تسترها سميت جنة كأنها ستره و الجنان ثمان دار الجلال كلّها من نور، مدائنها و قصورها و بيوتها و اوائيها و ابوابها و درجها و غرفها و أعاليها و أسافلها و خيامها و حليها، و دار القرار كلها من المرجان، و دار السلام كلها من الياقوت الأحمر، و جنة عدن من الزبرجد و هي قصبة الجنة و هي مشرفة على الجنان كلها و باب جنة عدن مصراعان من زمرد و ياقوت ما بين المصراعين كما بين المشرق و و المغرب و جنة المأوى من الذهب الأحمر، و جنة الخلد من الفضة، و جنة الفردوس من اللؤلؤ كلها و حيطانها لبنة من ذهب و لبنة من فضة و لبنة من ياقوت و لبنة من زبرجد و ملاطها و ما يجعل ما بين اللبنتين مكان الطين المسك و قصورها الياقوت و غرفها اللؤلؤ و مصاريعها الذهب و ارضها الفضة و حصباؤها المرجان و ترابها المسك و نباتها الزعفران و العنبر و جنة النعيم من الزمرد كلها و في الخبران المؤمن إذا دخل الجنة رأى سبعين ألف حديقة

ص: 92

في كل حديقة سبعون ألف شجرة، على كل شجرة سبعون ألف ورقة، و على كل ورقة مكتوب لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه على ولى اللّه، امة مذنبة، و رب غفور، كل ورقة عرضها من مشرق الشمس الى مغربها- «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ»: و الأنهار جمع نهر بسكون الهاء و فتحها و هو مجرى الواسع و عن مسروق انّ أنهار الجنّة تجرى من غير أخدود و شقّ في الأرض و أنزه البساتين و أكرمها منظرا ما كانت أشجارها مطلّلة و الأنهار في خلالها مطرّدة و الأنهار أربعة الخمر و العسل و اللبن و الماء فإذا شربوا من نهر الماء يجدون حيوة ثم انهم لا يموتون و إذا شربوا من اللبن يحصل في أبدانهم تربية ثم انهم لا ينقصون و إذا شربوا من نهر العسل يجدون شفاء و صحة ثم انهم لا يسقمون و إذا شربوا من نهر الخمر يجدون طربا و فرحا ثم انهم لا يحزنون.

روى انّه كتب عرضا على ساق العرش بسم اللّه الرحمن الرحيم فعين الماء تنبع من ميم بسم و عين اللبن تنبع من هاء اللّه و عين الخمر تنبع من ميم الرحمن و عين العسل تنبع من ميم الرحيم هذا منبع الأنهار و أمّا مصبّها فكلّها تصب في الكوثر و هو حوض النبي و هو في الجنة اليوم و ينتقل يوم القيمة الى العرصات لسقي المؤمنين ثم ينتقل إلى الجنّة و يسقى أهل الجنّة أيضا من عين الكافور و عين الزنجبيل و عين السلسبيل و عين الرحيق و مزاجه من تسنيم بواسطة الملائكة و يسقيهم اللّه الشراب الطهور بلا واسطة كما قال و سقاهم ربّهم شرابا طهورا.

«كُلَّما رُزِقُوا مِنْها»: اى متى أطعموا من الجنّة «مِنْ ثَمَرَةٍ» ليس المراد بالثّمرة التفّاحة الواحدة او الرمانة الفذة و انّما المراد نوع من انواع الثمار و من الأولى و الثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدئ من الجنّات و من الجنّات قد ابتدئ من ثمرة «رِزْقاً» مفعول رزقوا و هو ما ينتفع به الحيوان طعاما.

«قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» اى هذا مثل الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا و لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته و انّما جعل ثمر الجنّة كثمر الدنيا لتميل النفس إليه حين تراه فانّ الطباع مائلة الى المألوف متنفّرة عن غير المعروف كأنهم

ص: 93

قالوا هذا عين ما رزقناه في الدنيا مثلا انّ هذه الرّمانة مثل الرّمانة التي أكلناها في الدنيا فمن اين لها من اللّذّة و الطيب هذه اللذة و هذا البيان لفرط استعجابهم و استغرابهم ممّا يجدون من اللذّة مع اتحادهما في الشكل و اللون و لا يقدح فيه ما روى عن ابن عباس انّه قال ليس في الجنّة من أطعمة الدنيا إلّا الاسم فانّ ذلك لبيان كمال التفاوت بينهما من حسن اللذّة و الهيئة لا لبيان ان لا تشابه بينهما أصلا كيف لا و اطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعي قطعا و قيل معنى قوله هذا الذي رزقنا من قبل انّ ثمار الجنّة إذا اجتنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل قاله يحيى ابن كثير و ابو عبيدة و القول الأول قال ابن عبّاس و اختاره الشيخ أبو جعفر الطوسي.

«وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً»: على البناء للمجهول اى جيئوا بذلك الرزق و المراد جنس الرزق متشابها اى متشابه في الجودة خيار لا رذل فيه متساوى في الفصل كقول الشّاعر:

من تلق منهم فقل لاقيت سيّدهم مثل النجوم التي يسرى بها الساري

و قيل المعنى متشابها في الصورة و اللون مختلفا في الطعم و القول الآخر في الآية ان التشابه في كل ما أتوا به من حيث الموافقة بالمسكن يوافق الساكن و الخادم يوافق المخدوم و المسكن يوافق الفرش و كذلك جميع ما يليق به.

«وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» قيل انّها حور العين و قيل هن من نساء الدنيا مهذبة من الأحوال المستقذرة كالحيض و النفاس و البول و الغائط و الصداع و الولادة و جميع الأدناس و كلمة مطهّرة ابلغ من طاهرة و اشعار بأنّ مطهّرات طهّرهن اللّه قال الحسن هن عجائزكم العمش الغمص الرمص طهرن من الأقذار و الآثام و عن ابن عبّاس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلق الحور العين من أصابع رجليها الى ركبتيها من الزعفران و من ركبتيها إلى ثدييها من المسك الإدفر و من ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب اى الأبيض و من عنقها إلى رأسها من الكافور إذا أقبلت يتلألأ نور وجهها كما يتلألأ نور الشّمس لأهل الدنيا.

«وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ»: اى في الجنّة دائمون يبقون ببقاء اللّه لا انقطاع و لا نفاد

ص: 94

لأنّ النعمة تتمّ بالبقاء و الخلود كما تنتقص بالزوال و الفناء، و الخلود هو الدوام من وقت مبتدء و لذا لا يقال في حق اللّه خالد، قال عكرمة اهل الجنة ولد ثلاث و ثلاثين سنة رجالهم و نساؤهم و قامتهم ستون ذراعا على قامه أبيهم آدم عليه السّلام شباب جرد مرد مكحلون، عليهم سبعون حلّة، تتلون كل حلّة في كل ساعة سبعين لونا، لا يبترنون و لا يمتخطون، يزدادون كل يوم جمالا و حسنا، كما يزداد اهل الدنيا هرما و ضعفا، لا يفنى شبابهم، و لا تبلى ثيابهم.

قوله تعالى [سورة البقرة (2): الآيات 26 الى 27]

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)

وجه تعلّق الآية بما قبلها أنّه لما جاء في القرآن ذكر النحل و الذباب و العنكبوت و النمل أورد المنافقون و الكفار إنّ مثل هذه الأشياء لا يليق ان يذكر في القرآن و كلام الفصحاء و ذلك يقدح في فصاحة القرآن فضلا عن كونه معجزا، فأجاب اللّه عن شبهتهم بان ذكرها مشتملا على حكم بالغة و لذلك ضرب الأمثال بالنار و الظلمات و الرعد و البرق ليس بقبيح، حتى يستحى ان يضرب بها المثل، فنزلت الآية دفعا لمقالهم، المعنى: اعلم ان الحياء تغيير و كيفية يعترى الإنسان من خوف ما يعاب به، يقال حي الرجل كما خشي و نسى، فاستحال هذا المعنى على اللّه سبحانه لأنه تغير يلحق البدن و كيفية حاصلة، و ذلك لا يعقل الا إلى الجسم فيجب تأويله و هو انّ هذا الكلام جاء على سبيل أطباق الجواب على السؤال و الشبهة التي أوردوها حيث قالوا اما يستحيى ربّ محمّد ان يضرب مثلا بالذباب و العنكبوت، فردّ سبحانه كلامهم على طبق إيرادهم فقال ان اللّه لا يستحيى الآيه.

و وجه أخر في الكلام و هو ان كل صفة تطلق للعبد إذا وصف اللّه تعالى بذلك فهو محمول على نهايات الاعراض، لا على بدايات الاعراض، مثاله ان الحياء له مبدأ و منتهى فالمبدأ هو التغيير الجسماني و المنتهى ترك ذلك الفعل الذي ينسب فاعله الى القبيح، فإذا ورد الحياء في حق اللّه ليس المراد ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء و مقدمته، بل ترك

ص: 95

الفعل الذي هو منتهاه، و كذلك استعمال الغضب في حقه فان مبدأ الغضب غليان دم القلب و شهوة الانتقام و له غاية و هو إنزال العقوبة بالمغضوب عليه، فإذا وصف اللّه بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ أعنى شهوة الانتقام بل المراد إنزال العقاب و هو المنتهي، فهذا هو القانون الكلى في نسبة هذه الأوصاف الى جنابه تعالى، و قيل وجه آخر في معنى لا يستحى اى لا يخشى ان يضرب مثلا، و يستعمل الخشية بمعنى الحياء مثل هذا المورد، كما استعمل الخشية في معنى الحياء حيث قال: و تخشى الناس و اللّه أحق ان تخشيه، اى تستحيي الناس و اللّه أحق ان تستحييه، فالاستحياء بمعنى الخشية في هذه الآية، كما ان الخشية بمعنى الاستحياء في تلك الآية و استعمال المثل تفهيم المراد و تقريب الذهن الى المعنى، امر مستحسن شايع في العرب و العجم و لا استنكاف فيه و بالجملة.

«إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً» اى لا يخشى أن يضرب مثلا يوضحه به لعباده المؤمنين بما هو المثل، يعنى اىّ مثل كان و كلمة- ما- في الآية لزيادة الإبهام و الشيوع في النكرة، سواء كان المثل صغيرا او كبيرا «بَعُوضَةً» و تقدير الآية لا يستحيى ان يضرب مثلا بعوضة فيكون بعوضة مفعولا ثانيا ليضرب و ضرب بمعنى جعل، او يكون- ما- نكرة مفسرة ببعوضة فيكون بعوضة بدلا من ما و معنى، ما، شي ء، فحينئذ يفسر شيئا بعوضة، و قال الفراء إنّ معناه إن اللّه لا يستحيى ان يضرب مثلا، ما بين بعوضة الى ما فوقها و المثل يؤتى به لفهم المخاطب، سواء كان صغيرا كالبعوضة، او جليلا كالفيل و قد ورد في كلام العرب و العجم فقالوا في التمثيل أجرأ من الذباب و اسمع من القراد تزعم العرب انّ القراد يسمع الهمس الخفى، من مناسم الإبل، على مسافة سبع ليال، او سبعة أميال، و في المثل فلان اعمر من القراد، و ذلك انها تعيش سبعمائة سنة، و أجرأ من الذباب، لأنه يقع على أنف الملك، و جفن الأسد، فإذا ذبّ و دفع، آب و رجع، و لذلك سمّى بالذباب و في المثل يقال هو اجمع من ذرة يزعمون انها تدخر قوت سبع سنين، فانظر ايها المتأمل، كيف خلق اللّه الذباب و البعوض مع صغر حجمهما كل آلة و عضو أعطاه الفيل القوى الكبير بزيادة جناحين و اعطى البعوض و الذباب جرأة، أظهرها في طيرانهما، في وجوه الناس، مع مبالغة الناس في ذبهما و دفعهما بالمذبه، و كيف ركب الجبن في الأسد و اظهر ذلك الجبن فيه بتباعده عن

ص: 96

مساكن الناس، و طرقهم، و أمكنتهم، و لو تجاسر الأسد، تجاسر الذباب و البعوض، لهلك الناس، فجعل بقدرته في الضعيف التجاسر و الجرأة، و في القوى الجبن و اعجب من هذين الأمرين، عجزك عن هذا الضعيف، و قدرتك على ذلك الكبير.

حكى انّه خطب المأمون ذات يوم، فوقع ذباب على عينه، فطرده، فعاد مرارا حتّى عجز و قطع الخطبة، فلمّا صلّى، احضرا با هذيل شيخ الاعتزال، فقال له: لم خلق اللّه الذباب؟ قال الشيخ: ليزل به الجبابرة، قال: صدقت. و في خلق الذباب و أمثاله حكم و مصالح، قال وكيع: لو لا الريح و الذباب لا نتنت الدنيا، فسبحان القادر الذي ليس خلق العرش مع عظمته عليه أعسر، و لا خلق البعوضة عليه أيسر، و أنت ايّها الإنسان العاصي، إذا كان جزعك من هذا البعوض في الدنيا و عجزك عنه، فكيف حالك إذا تسلّطت عليك الحيّات و العقارب في لظى؟! اعلم انّه لمّا ثبت بضرورة العقل و العيان الحسّى، انّ لنا خالقا حكيما، لزم معرفة ان الموجودات، لم تخلق عبثا و انّما خلقوا ليعرفوا خالقهم، فيصيبوا بتلك المعرفة السعادة الدائمة و الفيض الدائم؛ و هذه المعرفة و العبادة تتوقف على بعث الرسل و إنزال الكتب، كي يحصل هذا الغرض من الحكيم و يعرفوا ما يصلحهم و ما يفسدهم و الّا لاختل النظام الأصلح، الواجب رعايته في مقام الحكمة، و بطل الغرض و ذلك لا يليق بالحكيم القادر، فوجب وجود الحجّة للناس و قد قام الاتفاق من جميع المذاهب و الأديان انّه اتى رجل اسمه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ادّعى النبوّة و اتى بكتاب، مجموع فيه جميع ما يحتاجونه، من النظام الأتمّ و تحدّى بذلك الكتاب، الآيتان بمثله، لفظا و معنى، حكما و حكمة، ثم انّه استقر في سنّة اللّه و طريقته، من لدن آدم في جميع الأعصار، على نصب الحجة، من رسول، او وصىّ، لئلا تبطل الحكمة و لا يفوت الغرض، و العلّة الباعثة، لوجوب الدعوة النبويّة، هي الباعثة لوجوب وجود وصىّ، يرشد الى بقاء دعوة النبي و مع القطع بعدم وجود وصىّ عن المسيح، نقطع بوجوب وجود النبي، إتماما للحجّة و معلوم بالبداهة، انّ في هذا الزمان، لا يكفى وجود المسيح، في السماء الرابعة، كما لا يمكن الاكتفاء بوجوده تعالى عن البعثة، فلو قيل؛ انّ شريعة عيسى

ص: 97

باقية، الى هذا العصر، فالجواب؛ انه لو كانت شريعته باقية، لوصل إلينا من طرف اوصيائه، لمعرفة مصالح الامّة و لم يجتمعوا امّته علي الشرك، لأنّ امّته متفقون على القول بالتثليث، و الحلول و الاتحاد، كما صرحوا به في الأناجيل، المجعولة، المحرفة المشتملة على أنحاء الكفر و الشرك و الارتداد و لم يبق عندهم شي ء مما جاء به المسيح و لو كان لمسيح، حافظا لدينهم، لم يجمعوا على الباطل، ثمّ ان المسيح، باعتقاد النصارى، مصلوب مقتول و باعتقادنا انّه رفع الى السماء، و لأجل عدم كونه متصرفا، في الشرعيات و عدم قيامه بمصالح العباد، بمنزلة النبىّ الميّت، فلا يكتفى به، في إتمام الحجّة، فالعلّة الباعثة لوجوب الدعوة من الأنبياء، هي الباعثة، لوجوب وجود الوصي، يرشد الى بقاء تلك الدعوة، في عصرنا، فمع القطع بعدم وجود وصىّ، عن المسيح، في آخر الزمان نقطع بوجود البعثة النبويّة الحقية الكاملة المحمّدية، إتماما للحجّة، و هذه الحجة منحصرة في محمّد و عترته المعصومين عليهم الصلاة و السلام.

و بوجه آخر نقول: كما انّ سائر الصفات، يستعلم من الأفعال و الأقوال و الحركات و السكنات، كذلك الصدق و الحق و العصمة و سائر كمالات الأنبياء و الأوصياء يستفاد من ملاحظة حالاتهم و سيرتهم و أقوالهم و من تتبّع و تأمل بعين الإنصاف، في اوصافهم و شئونهم، لا يبقى له ريب و لا شبهة، في حقانيتهم و يستعلم اوصافهم من التسامع و التواتر من اتصافهم بتلك الصفات الملائمة للنبوّة و الوصاية، كما انّ العادل، يعرف بالمعاشرة التامة؛ فانظر الى ما ظهر عنه و منه و به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من سيرته و أحواله و العلوم الكاملة و الحكم الربانية، التي اندرست من أجلها، الحكمة التي كانت متداولة بين الحكماء و اليونانيّين و اتفقت العقلاء، على هجران كتبهم، لعدم حاجتهم، الى تلك الكتب و الحكم، بعد ظهور القرآن، في هذه الامة المرحومة، كما لا حاجة في الاستصباح بالسراج، عند طلوع الشمس، مع وضوح انّه، ما حضر عند معلّم، في مقام التحصيل، بل كان يتيما، ما بين قوم، لا يعرفون شيئا، من الحكم و الآداب، فهذه الحكمة، الربانية و التربية الإلهية، من أعظم المعجزات، الدالة على صدقه، و تماميّة هذه الشريعة و ناسخيّته، لجميع الأديان فعلم انّ هذا الأمر، خارج عن الطبع البشرى و الحكم البالغة، المستفادة من كلماته، و

ص: 98

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 149

أفعاله، من أعظم الشواهد على نبوّته و حقيّة دينه، و الحاصل: قد ورد كثير من الأمثال، في الإنجيل، فقد مثّل سبحانه، غل الصدر، في الإنجيل بالنخالة، قال: لا تكونوا كمنخل، يخرج منه الدقيق الطيب، و يمسك النخالة كذلك أنتم، تخرج الحكمة من أفواهكم و تبقون الغلّ في صدوركم و كذلك مثل سبحانه، مخاطبة السفهاء، باثارة الزنابير، قال: لا تثيروا الزنابير، فتلدغكم، فكذلك لا تخاطبوا السفهاء، فيشتموكم و قال في الإنجيل: لا تدّخروا ذخائركم حيث السوس و الارضة، فتفسدها و لا في البرية، حيث اللصوص، و السموم، فيسرقها اللصوص و يحرقها السموم و لكن ادّخروا ذخائركم عند اللّه.

و جاء في الإنجيل مثل ملكوت السماء، كمثل رجل، زرع في قريته حنطة جيدة نقية، فلمّا نام الناس، جاء عدوّه، فزرع الزوان و هو بفتح الزاى و ضمها، حبّ، مرّ، يخالط البر، فقال الزارع لمولاهم: يا سيدنا، أ ليس حنطة جيدة، زرعت في قريتك، قال بلى، قالوا: فمن اين هذا الزوان قال غفلتم عن عدوّكم و سامحتموه، فاخلط في زرعكم فالزارع، الإنسان و القرية، العالم و الحنطة الطاعة و الزوان المعاصي.

أقول لا يجوز لأحد من المسلمين- مطالعة كتاب الإنجيل و التورية، الّا إذا كان مقصوده الاحتجاج على النصارى و اليهود، بسبب اثبات حقية القرآن، خصوصا إذا كان قليل المؤنة في العلم، فانّ فيها التحريف و الأكاذيب المحكيّة، من لسان المسيح عن قول اللّه، فمنها ما في الأناجيل الاربعة، من الاختلافات في نسب المسيح، مع انّ الإنجيل المنزل من اللّه كان منحصرا في واحد:

و منها ما في الإنجيل، من انّ المسيح، صنع خمرا و أعطاها لأمّه مريم، مرسلا ايّاها و الخمر لأهل المجلس.

و منها ما في الإنجيل، من انّ الأبن في الأب حلّ، و الأب في الأبن و هذا يستلزم تضاد الحال و المحل و مناف لمراتب التوحيد، و منها ما في التوراة من انّ نوحا، شرب الخمر، بعد خروجه من السفينة و منها ايضا في التوراة، من انّ لوطا، شرب الخمر و زنا بابنتيه،

ص: 99

و منها ما في التورية، من انّ هارون، امر بصنع العجل، فمع هذه القبائح، الّتى دونوها و سموها، الإنجيل و التورية و نسبوا الأفعال القبيحة، الى الأنبياء، كيف يكون حال امّة، ينسبون الى أنبيائهم، ما يأنف الفاسق، المتجاهر من مثل هذه الأمور و ليس ذلك الا الإلحاد او تفسيقا لأهل الوحى و اشدّ حمقا من أولئك، بعض اهل السنّة حيث كتبوا هذه الأكاذيب، في مصنفاتهم، و اعتقدوها؛ و سموا كتابهم، بخطيئة الأنبياء و الحاصل ان اللّه سبحانه، مثّل الأمثال، في هذه الآيات، لأن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف صنعه؛ ليقرّوا بوحدانيته، و كمال قدرته و حكمته، ليهتدوا.

«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا» بالقرآن و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ» اى: التمثّل «الْحَقُّ»: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره «مِنْ رَبِّهِمْ» فيفكرون و يوقنون ان اللّه خالق هذه الأشياء؛ فيؤمنون به «وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» و هم المشركون و اليهود «فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» اى: لاعراضهم عن طريق الاستدلال، و انكارهم، و جحودهم؛ ماذا أراد اللّه، بهذا المثل و اى شي ء أراد، بهذا المثل الخسيس، فلمّا حذف الالف و اللام في المثل نصب على الحال، او التميز، فأجابهم اللّه بقوله: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً» فيه و جهان، قال الفراء انّه حكاية عن قولهم، و من بقية كلامهم حيث قالوا، ماذا أراد اللّه بهذا مثلا يضلّ به كثيرا و يهدى به كثيرا؛ ثم قال اللّه: «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» و هذا وجه حسن، استحسنه الطبرسي، و الوجه الاخر، انه كلامه تعالى و إذا كان كلامه تعالى، فمعنى قوله يضل به كثيرا، انّ الكفار يكذّبونه، و ينكرونه، و يقولون: ليس هو من عند اللّه، فيضلّون بسببه، فإذا حصل الضلال بسببه، أضيف اليه، و كذلك لمّا حصلت الهداية بسببه أضيف، فمعنى الإضلال، على هذا، تشديد الامتحان الذي، يكون عنده، الضلال، لأنّ المحنة، إذا اشتدت على الممتحن، فضلّ عندها، سميت اضلالا، و إذا سهلت، فاهتدى عندها، سميت هداية، و حاصل المعنى: ان اللّه يمتحن بهذه الأمثال، عباده، فيضل بها، قوم كثير، لإنكارهم و يهدى بها، قوم كثير، لقبولهم و مثله قوله تعالى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ

ص: 100

اى ضلوا عندها، و هذا كما يقال للرجل، إذا ادخل الفضة، النار، ليظهر فسادها، من صلاحها، فظهر فسادها، أفسدت فضّتك و هو لم يفعل فيها.

و انّما يراد انّ فسادهم، ظهر عند امتحانه، و قريب من ذلك، قولهم، فلان أضل ناقته، و لا يريدون انّه اضلها، و انّما يريدون، من هذا الكلام، انها ضلّت عنه، لا من غيره، و يمكن ان يكون، الاضلال، بمعنى التخلية، على وجه العقوبة، و منع الألطاف، التي تنعل بالمؤمنين، جزاء على ايمانهم، و هذا كما يقال، لمن لا يصلح سيفه أفسدت سيفك، أريد به، انّك لم تحدث، فيه الإصلاح، في كل وقت، بالصيقل، و قد يكون الإضلال، بمعنى الإهلاك و العذاب و التدمير و منه قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ، فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ و قوله تعالى: إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ اى: هلكنا، فعلى هذا، يكون المعنى، ان اللّه، يهلك و يعذب بالكفر به، كثيرا، بان يضلّهم، عن الثواب و طريق الجنة فبسببه، يهلكوا؛ و يهدى الى الثواب، و طريق الجنة، بالإيمان به كثيرا، و هذا القول، عن ابى على الجبائي، و يدل على ذلك، قوله: و ما يضل به الّا الفاسقين. انتهى بيان وجوه المعنى، في الإضلال من كلام علمائنا.

لكن علماء العامة، المعتزلة منهم، قالوا: و اسناد الإضلال، اليه تعالى، اى: خلق الضلال مبنى علي انّ جميع الأشياء، مخلوقة له تعالى، و ان كانت، افعال العباد، من حيث الكسب، مستندة إليهم.

و امّا الاشاعرة، فتفسيرهم و عبائرهم، في مثل، موضوع الضلال و الهداية، غير قابل، للذكر، بسبب غلوّهم في الجبر.

قال الطبرسي: و كلّ ما في القرآن، من الإضلال، المنسوب اليه تعالى، فهو بمعنى المذكور، من الوجوه و لا يجوز ان ينسب، الى اللّه تعالى، إضلال، اوّلا لإضلال قبله، و لا يكون الإضلال، من فعله، بل إضلاله، سبحانه، تبعا، لضلال المكلّف، و اما الإضلال التي يضاف، الى الشيطان، مثل قوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً و قوله: وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ و كذلك اضافة الإضلال، الى السامري، و هو ان يكون، بمعنى التلبيس و التغليط و التشكيك و الإيقاع في الفساد، ممّا يؤدّى الى التظليم، فذلك في حق اللّه، غير

ص: 101

جائز، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا! انتهى بيان الإضلال.

و امّا الهداية في القرآن، يطلق على وجوه:

فتارة، بمعنى الدلالة، و الإرشاد، يقال هداه الطريق، و الى الطريق، إذا دلّه عليه و هذا الوجه، عام لجميع المكلّفين، فانّه سبحانه، اهدى كلّ مكلّف و أرشده، الى الحق، على لسان رسله و كتبه، كما قال: و لقد جاءهم من ربّهم الهدى و قوله «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ» و قوله «وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى و تارة المراد بالهداية: زيادة الألطاف، التي بها، نثبت على الهدى، و منه قوله.

«وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً»، اى شرح صدورهم و ثبّتها.

و تارة يكون الهداية: بمعنى الاثابة، مثل قوله: «وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ» و معلوم، ان الهداية، التي تكون بعد القتل، هي الاثابة لا محالة، لأنه ليس بعد الموت تكليف، و رابعها الحكم بالهداية، كقوله «وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» و هذه الوجوه الثلاثة خاصّة بالمؤمنين، لإيمانهم.

و خامسها ان تكون الهداية، بمعنى جعل الإنسان، اى بخلق الهداية فيه، كما يجعل الشي ء، متحركا، بخلق الحركة، و اللّه يجعل، العلوم الضرورية، في القلوب فذلك هداية منه، و هذا المعنى الخامس، عام لجميع العقلاء كالوجه الاول.

و امّا الهداية التي، كلّف اللّه، العباد فعلها، كالايمان به، و أنبيائه، و غير ذلك، فانّها من فعل العباد، و ان كان قد أنعم عليهم، بدلالتهم، على ذلك، لكنّهم يستحقون على فعلهم، المدح و الثواب، كما انّ الكافر، بفعله، يستحق الهوان و العذاب، و الهداية، تسكن في قلب، فارغ من الدنيا، نسئل اللّه ان لا يحرمنا، من الطافه بسوء أفعالنا.

[سورة البقرة (2): آية 27]

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)

ثم وصف اللّه، احوال المنافقين، الموصوفين، في الآية السابقة فقال: «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ»: النقض، فك التركيب، و النسخ، و استعمال

ص: 102

النقض، في ابطال العهد، من حيث تسمية العهد، بالحبل، على سبيل الاستعارة، لما فيه من علاقة الوصلة، بين المتعاهدين، قيل: عهد اللّه ثلاثة، الاول، ما اخذه، على ذريّة آدم، بان تقرّوا بربوبيّته.

و الثاني، ما اخذه على الأنبياء، بان اقيموا الدين، و لا تفرقوا فيه، و الثالث، على العلماء، بان يبينوا الحق و لا يكتموه،

در روز الست بلى گفتى امروز ببستر لا خفتى.

«مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ»: اى بعد الوثيقة و توكيده بالقبول، و الضمير، راجع الى العهد أوالي اللّه، اى: بعد توثيق اللّه، ذلك العهد، بإرسال الرسل، و إنزال الكتب، و قيل:

المراد في الآية، كفار اهل الكتاب، و عهد اللّه الذي نقضوه، هو ما أخذ عليهم في التورية من اتباع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و التصديق بما جاء به، و نقضهم لذلك، تركهم و جحودهم به بعد معرفته و كتمانهم ذلك، عن الناس، و مغالطتهم، على الناس، بعد ان بينه اللّه، في كتابهم و أمرهم ان لا يكتمونه، فكتموا و نقضوا العهد.

«وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» اى: يقطعون، ما امر اللّه، بوصله، و هو يشمل كلّ قطيعة، لا يرضى اللّه، قطعه، كقطع الرحم، و موالاة المؤمنين، و إيقاع الفتنة و الفساد، بين المسلمين، و التفرقة بين الأنبياء و الكتب، في تصديق البعض و انكار البعض قال: صاحب كشف الغطاء، العجب، ثم العجب، من قوم يعترفون بنبوّة موسى عليه السّلام و عيسى عليه السّلام و غيرهما و ينكرون نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّهم، ان ادعوا، عدم حجيّة المعجزات، لزمهم انكار جميع النبوّات، فينتفى الوسائط، في اثبات الشرائع، بيننا و بين رب السموات، و ان ادعوا، نفى المعجزات: من نبينا، فما بالهم، لا ينفون المعجزات، بالنسبة الى أنبيائهم، مع تقدم عهدهم، و زيادة بعدهم، و زمانهم، فانّ انكار الاخبار، بالنسبة الى ما تقادم عهده، و طالت سلسلته، اقرب من إنكاره، بالنسبة الى القريب.

و كلّ رفض خير، فهو قطيعة، بل تعاطى الشر، ايضا، فانه يقطع الوصلة، فيما بين اللّه، و العبد.

ص: 103

و في الحديث: إذا اظهر الناس، العلم، و ضيّعوا العمل، و تحابوا بالألسن و تباغضوا بالقلوب، و تقاطعوا الأرحام، لعنهم اللّه، عند ذلك، فاصمّهم و أعمى أبصارهم انتهى.

«وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ»: بالمنع عن الايمان، و الاستهزاء بالحق، و قطع الوصل، التي عليها يدور فلك نظام العالم، و صلاحه، و قيل: أراد كلّ معصية، تعدّى ضررها، الى غير فاعلها، و الاولى، حمله على العموم.

«أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ»: المغبونون، بالعقوبة في الآخرة مكان المثوبة في الجنّة لأنّهم استبدلوا النقض بالوفاء و القطع بالوصل، و الفساد بالصلاح و عقابها بثوابها.

[سورة البقرة (2): آية 28]

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

الاستفهام انكارىّ، لا بمعنى انكار الوقوع، بل بمعنى انكار الواقع، و استبعاده، و التعجيب منه لأنّ التعجب من اللّه، يكون على وجه التعجيب، كأنه يقول: الا تتعجبون انّهم يكفرون باللّه، و معهم ما يصرفهم، عن الكفر، الى الايمان، من الدلائل.

«وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ»: و الحال انكم كنتم أجساما، لا حيوة لها، عناصرا، و اغذية، و نطفا، و مضغا، و قبل هذه الحالات كنتم اعداما، «فَأَحْياكُمْ» بخلق الأرواح و نفخها فيكم، في أرحام أمهاتكم و هذا البيان الزام لهم بالبعث، فكما انّ الأحياء أمكن لهم بعد ان كانوا أمواتا، كذلك يمكن حصوله بعد ان يموتوا، و حاصل المعنى انكم لم تكونوا أشياء فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيمة، و قيل انّ المعنى كنتم نطفا في أصلاب آبائكم، و بطون أمهاتكم، و النطفة موات، فاخرجكم في الدنيا احياء، ثمّ يميتكم، ثمّ يحييكم في القبر للمسألة، ثمّ يحييكم و يبعثكم يوم الحشر للمجازاة على الأعمال، و سمّي الحشر رجوعا الى اللّه، لأنّ رجوع أمركم اليه و في هذه الآية، دلالة على انّه لم يرد من عباده الكفر و لا خلقه، لأنّه لو أراد منهم او خلقه فيهم لم يجزان يضيفه إليهم، بقوله كيف تكفرون باللّه، كما لا يجوز ان يقال لهم، كيف كنتم طوالا، او قصارا، او ذكرا او أنثى، ممّا هو فعله فيهم؛ «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» للسؤال في القبور

ص: 104

فيحيى حتى يسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين؛ و يقال له: من ربّك و من نبيّك؛ و ما دينك، و يدل كلمة، ثم، التي للتعقيب؛ على انّه لم يرد به حيوة البعث، فان تلك الحيوة يومئذ، بالرجوع الي اللّه، بالحساب، بقوله: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

[سورة البقرة (2): آية 29]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29)

: لما استعظم المشركون امر الإعادة، عرّفهم اللّه خلق السموات و الأرض؛ ليدلّهم بذلك على قدرته على الإعادة: اى قدّر خلقها لانتفاعكم بها في دنياكم و دينكم.

و تمسّك بعض الجهلة المتصوفة، من اهل الاباحة بهذه الآية، و حملوا اللام في لكم على الإطلاق و الاباحة، و قالوا لا حظر و لا نهى و هذا منهم كفر صريح، و مخالف لتمام كتب اللّه و رسله. و قد نهى اللّه، و امر و أباح و حظر و وعد، و أوعد و بشرّ و هدّد و النصوص ظاهرة، و الدلائل متظاهرة، و الاخبار متظافرة، فمن حمل هذه الآية، على الاباحة المطلقة، فقد انسلخ من الدين بالكليّة؛ «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» قيل فيه وجوه أحدها و هو الأقرب قصد الى خلقها، بإرادته، و مشيّته، قصدا سويّا بلا صارف يلويه و لا عاطف يثنيه، فسوّاها، و هذا كقول القائل: كان الأمير يدبر امر الشام، ثمّ استوى الى الحجاز: اى تحوّل تدبيره إليهم.

و ثانيها انّه بمعنى استولى على السماء كما قال لتستووا على ظهورها: اى تقهروه، فيكون المعنى: ثمّ استوى الى السماء في تفرّده بملكها، و لم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه.

و ثالثها ما روى عن احمد ابن يحيى ابن تغلب: انّه سئل عن معنى الاستواء في صفة اللّه، فقال الاستواء، الإقبال على الشي ء، يقال فلان كان مقبلا على فلان ثم استوى الىّ يكلمنّى.

أقول: هذا المعنى، هو المعنى الأوّل الّذي ذكره الطبرسي و هذا المعنى الثالث، ايضا ذكره الطبرسي، مع انّ الإقبال و القصد متساويان، او متلازمان و لا يظن ظانّ انّ بين هذه الآية و بين قوله «وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» تناقض، لأنّ الدحو، البسط.

ص: 105

روى انّ اللّه خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر: اى الحجر ملئ الكف عليها دخان يلتزق بها، ثم اصعد الدخان، و خلق منه السموات و امسك الفهر في موضعه ثم بسط منه الأرض و قال اوّل ما خلق اللّه، جوهرة طولها و عرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة، فنظر إليها بالهيبة فذابت و اضطربت، ثم ثار منها دخان، فارتفع و اجتمع زبد فقام فوق الماء، فجعل الزبد أرضا و الدخان سماء فالسماء من دخان خلقت، و بريح ارتفعت و باشارة تفرقت، و بلا عماد قامت، و بنفخة تكسرت «فَسَوَّاهُنَّ» اى: اتمهن، و قوّمهنّ مصونات عن العوج و الفطور، و الضمير فيه مبهم فسر بقوله: «سَبْعَ سَماواتٍ» منصوب على التميز، نحو ربّه رجلا، قال سلمان الفارسي: هي سبع، اسم الاولى رفيع و هي من زمردة و اسم الثانية، ارقلون، و هي من فضة بيضاء و الثالثة قيدوم و هي من ياقوتة حمراء و الرابعة ما عون و هي من درة بيضاء و الخامسة دبقاء و هي من ذهب احمر و السادسة و قناء و هي من ياقوتة صفراء و السابعة عروباء و هي من نور يتلألأ.

«وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»: فيه تعليل كانّه قال لكونه عالما بكنه الأشياء كلّها، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل و الوجه الأنفع و في الآية دلالة على انّ الأصل في الأشياء، الاباحة لأنّه سبحانه ذكر انّه خلق ما في الأرض؛ لمنفعة العباد.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 30]

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)

و إذ: مفعول اذكر مقدرة: اى اذكر لهم و اخبر وقت «قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ» قيل الخطاب لجميع الملائكة، و قال ابن عباس: الخطاب لسكنة الأرض بعد الجان من الملائكة لا جميع الملائكة: و الملائكة جمع ملك، و التاء لتأكيد الجماعة، و سموا بها، فانّهم وسائط و رسل بين اللّه و الخلق، و اختلف في اشتقاقه: قيل من الالوكة و هي الرسالة، قال الخليل؛ الألوك الرسالة، و هي المألكة على مفعله، مأخوذ من ألك الفرس

ص: 106

اللجام، و قيل، انّما سمّيت الرسالة الوكا، لأنّها تمضغ و تؤلك في الفم تألك الشكيم و اللجام، فالملائكة، وزنها معافلة مقلوبة، و وزن ملأك، معفل مقلوب، مألك مفعل؛ و قال بعض: الكلمة مهموزة، و ألقيت حركة الهمزة، على اللام و حذفت الهمزة فقيل ملك؛ و قال ابو عبيدة: انّ أصله لأك، إذا أرسل، فملأك مفعل و ملائكة مفاعلة غير مقلوبة، و الميم في هذه الصور زائدة، لكن ذهب ابن كيسان، ان الميم أصليّة، و انّه من الملك، و ان وزن ملاك، فعال، مثل ثمال، و ملائكه فعائلة، و الهمزة زائدة، و قوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا،: يدل: على انّ جميع الملائكة ليسوا برسل، فعلى هذا يكون اسم جنس؛ و الملائكة عند اهل الإسلام و اكثر المسلمين، أنوار و أجسام لطيفة، قادرة على التشكل باشكال مختلفة، و الدليل على هذا، ان الأنبياء كانوا يرونهم روى في شرح كثرة الملائكة، انّ بنى آدم، عشر الجن، و هما، عشر حيوانات البر، و الكلّ، عشر الطيور، و الكلّ، عشر حيوانات البحر، و هؤلاء كلّهم، عشر ملائكة السماء الدنيا، و كلّ هؤلاء، عشر ملائكة السماء الثانية، و هكذا الى السماء السابعة، ثم كلّ أولئك في مقابلة الكرسي، نزر قليل، ثم جميع هؤلاء، عشر ملائكة سرادق، و احدى سرادقات العرش، التي عددها ستمائة ألف، طول كلّ سرادق و عرضه و سمكه إذا قوبلت به السموات و الأرض و ما فيهما و ما بينهما، لا يكون لها، عنده، قدر محسوس و ما منه من مقدار شبر، الّا و فيه ملك، ساجد، او راكع، او قائم.

«إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»: الجعل، و الخلق، و الفعل، و الأحداث، نظائر، الّا انّ الجعل قد يتعلّق بالشي ء، لا على سبيل الإيجاد، بخلاف الفعل، و الأحداث يقول جعلته متحركا، و حقيقة الجعل تغيير الشي ء عمّا كان عليه، و حقيقة الفعل و الأحداث الإيجاد، انّى جاعل، اى مصيّر؛ قيل ان اللّه خلق السماء و الأرض و خلق الملائكة و الجن فاسكن الملائكة، السماء، و اسكن الجن، الأرض، و الجنّ هم بنوا الجان، و هو ابو الجنّ، كآدم ابو البشر، و خلق اللّه الجان، من لهب، من نار، لا دخان لها، بين السماء و الأرض، قيل: الصواعق تنزل منها، ثمّ لمّا سكنوا فيها، كثر نسلهم، و ذلك قبل آدم بسنين متطاولة، قيل بألفي عام، قال الحقي: في روح البيان بستين ألف سنة، فعمروا

ص: 107

دهرا طويلا، في الأرض، مقدار سبعة آلاف سنة، ثمّ ظهر فيهم، الحسد و البغي، فأفسدوا و قتلوا، فبعث اللّه إليهم، ملائكة سماء الدنيا، و امرّ عليهم، إبليس، فهزموا الجنّ، و أخرجوهم من الأرض، الى جزائر البحور، و شعوب الجبال، و سكنوا الأرض، و اعطى اللّه إبليس، ملك الأرض، و ملك السماء الدنيا، و خزانة الجنّة، و كان له جناحان، من زمرد اخضر، و كان يعبد اللّه، تارة في الأرض، و تارة في السماء، و تارة في الجنّة، فدخله العجب، فقال في نفسه، ما أعطاني اللّه هذا الملك، الّا لأنّى أكرم الملائكة عليه.

و انما عبرّ سبحانه خليفة أراد بالخليفة آدم، لأنّه خليفته في ارضه، يحكم بالحق و كان سبحانه قد اعلم ملائكته انّه يكون من ذريته من يفسد فيها، عن ابن عباس و قيل انّما سمّى اللّه آدم خليفة لأنّه جعل آدم و ذريّته خلفاء للملائكة، لأنّ الملائكة كانوا من سكّان الأرض؛ و قيل خليفة عن الجنّ الذين أفسدوا و قتلوا و اخرجوا، فجعل آدم بدلهم، و قيل عنى بالخليفة ولد آدم، يتخلّف بعضهم، بعضا، و هم خلّفوا آدم، في اقامة الحق، و عمارة الأرض، «قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها» استيناف لبيان ما قالته الملائكة، قالوا ا تجعل في الأرض «مَنْ يُفْسِدُ فِيها» كما أفسدت الجن، و فائدة التكرار في الظرف تأكيد الاستبعاد، «وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ» ظلما كما فعل بنوا الجانّ او لأنّ اللّه أخبرهم بانّه سيكون من ذرّية هذه الخليفة من يعصى و يسفك الدماء، و انّما قالت الملائكة هذا الكلام، على سبيل الاستعلام، على وجه المصلحة و الحكمة، لا على وجه الإنكار؛ «وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ»: اى و الحال انا ننزّهك، عن كل ما لا يليق بشأنك، مشتغلين بحمدك، و التسبيح نفى ما لا يليق، و التقديس اثبات ما يليق به، و السبّوح هو المستحقّ للتنزيه، و القدوس المستحق للتطهير، و القدس السطل الذي يتطهر به؛ قال اللّه في جوابهم: «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» من الحكمة، و المصلحة باستخلاف آدم، و انّ من ذريّته، الطائع، و العاصي، فيظهر الفضل و العدل و اوّل شي ء أظهره اللّه بنور قدرته من ظلمة العدم، كان نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اوّل ما خلق اللّه نوري ثم خلق العالم بما فيه من نوره، بعضه من بعض، فلمّا ظهرت الأنوار من وجود نوره،

ص: 108

سمّى نورا، و كلّما كان اقرب الى الاختراع، كان اولى باسم النور، كما انّ عالم الأرواح، اقرب الى الاختراع من عالم الأجسام، فلمّا كان نور النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اقرب نظر في فائدة خلقه، كان اولى باسم النور، و لهذا كان يقول، انا من اللّه و المؤمنون منّى، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كنت نورا بين يدي ربي قبل خلق آدم باربعة عشر ألف عام و كان يسبّح ذلك النور و يسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق اللّه آدم القى ذلك النور في صلبه و لو لاه لما خلق اللّه آدم و لا العرش، فليس كلّ مخلوق يطّلع على غيب الخالق.

و روى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّه قال انّ الملائكة سئلت اللّه و لم يكن جميعهم، بل بعضهم، ان يجعل الخليفة منهم و قالوا نحن نقدّسك، و نطيعك، و لا نعصيك كغيرنا، قال فلما أجيبوا بقوله انى اعلم ما لا تعلمون، علموا انّهم تجاوزوا عن حدّهم، فلاذوا بالعرش استغفارا، يقولون لبيك، ذا المعارج لبّيك، و سئلوه التوبة، فأمرهم ان يطوفوا بالضراح، و هو البيت المعمور، فمكثوا به سبع سنين، يستغفرون اللّه بما قالوا، ثمّ تاب عليهم من بعد ذلك، و رضى عنهم، فكان هذا اصل الطواف، ثم جعل اللّه البيت الحرام، حذاء البيت المعمور، توبة لمن أذنب من بنى آدم و طهورا؛ و في العلل عن الصادق عليه السّلام فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام، فرحمهم و تاب عليهم.

[سورة البقرة (2): آية 31]

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)

اى علم اللّه آدم معاني الأسماء، و المراد معانيها، إذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها، و في المجمع و العياشي عن الصادق عليه السّلام انّه عليه السّلام سئل ماذا علّمه قال علّمه الأرضين، و الجبال، و الشعاب، و الأودية، ثمّ نظر الى بساط تحته، فقال و هذا البساط ممّا علّمه، و في تفسير الامام، عن السجاد عليه السّلام علّمه اسماء كلشي ء، و اسماء أنبياء اللّه و أوليائه، و عتاة أعدائه، فيكون المعنى، و علّم آدم اصحاب الأسماء، يعنى المسمّيات، فان قيل انّه كان في المسمّيات، و اصحاب الأسماء ما لا يكون عاقلا، فلم قال عرضهم؛ و لم يقل عرضها، لأنّه لمّا كان في جملتها الأنبياء و الائمة، و الملائكة، و الجن، و الانس، و هم العقلاء، فغلب الأكمل لأنّه جرت عادة اهل اللسان، و العرب بتغليب الكامل على الناقص.

ص: 109

و قال ابن عباس، و سعيد بن جبير، و مجاهد، انّه تعالى علّمه، جميع الصناعات و عمارة الأرضين، و الأطعمة، و الأدوية، و استخراج المعادن، و غرس الأشجار، و منافعها و جميع ما يتعلق بأمور الدين و الدنيا، و هذا القول، هو الحديث المنقول عن الصادق عليه السّلام الذي ذكره العياشي؛ و في كيفيّة تعليم اللّه، آدم الأسماء، فقيل علّمه بان أودع قلبه معرفة الأسماء و المسمّيات، و فتق لسانه بها، و عرّفه خواص الأشياء و هوان الفرس يصلح لما ذا، و الحمار لما ذا، فكان آدم يتكلّم بتلك الأسماء، و يعرف المعاني و اللغات، و كان ذلك معجزة له، لكونه خارقا للعادة، و اختلف في كيفيّة العرض على الملائكة، فقيل انما عرضها بان خلق معاني الأسماء التي علّمها آدم، حتى شاهدتها الملائكة، و قيل صوّر في قلوبهم هذه الأشياء، فصارت كانّهم شاهدوها، و قيل عرض عليهم من كل جنس واحدا نموذجا يتعرّف منه احوال البقية.

«فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»: إظهارا لعجزهم، و بيانا بأنّ آدم عليه السّلام أصلح لامارة الأرض، و عمارتها، الى ما يهتدى الملائكة اليه و تبكيتا لهم عن اقامة ما علّقوا به رجائهم، من امر الخلافة، فان التصرف و التدبير، بغير وقوف على مراتب الاستعدادات و مقادير الحقوق، بما لا يكاد يتحقّق و يمكن.

«إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»: اى في زعمكم انكم أحقاء بالخلافة ممّن استخلفته، فانّ ادنى مراتب الاستحقاق، هو الوقوف على العلم بأسماء ما في الأرض، و جواب الشرط محذوف لدلالة الكلام: اى ان كنتم صادقين فيما طننتم، فأخبروا بهذه الأسماء، و ذلك لأنّه خطر ببالهم انّه لم يخلق اللّه خلقا الّا و هم اعلم منه، و أفضل في سائر انواع العلم، فخوطبوا بهذا الخطاب، فان قيل، كيف أمرهم اللّه و كلّفهم بان يخبروا بما لا يعلمون، فالجواب انّ الأمر مشروط بالعلم لا مطلقا، كما يقول العالم للمتعلم ما تقول في كذا، و يعلم انّه لا يحسن الجواب، و ليس غرضه الجواب بل غرضه، ان ينبّهه على عدم علمه، فإذا تنبه المتعلّم، على انّه لا يمكنه الجواب، اجابه حينئذ، فيكون جوابه بهذا الترتيب أوقع في قلبه و اثبت، فالأمر بقوله انبئونى، للتنبيه لا للتكليف.

[سورة البقرة (2): آية 32]

قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

ص: 110

استيناف واقع موقع الجواب، كانّه قيل فماذا قالت الملائكة حينئذ، هل خرجوا من عهدة ما كلّفوه، فقالوا سبحانك لا علم لنا، قيل، سبحان، علم للتسبيح، و لا يكاد يستعمل الّا مضافا، و قد يجي ء غير مضاف على الشذوذ، و غير منصرف للتعريف، و الالف و النون، المزيدتين، و قيل مصدر منكر، لا اسم، كغفران، و معناه على الاول: نسبّحك عمّا لا يليق، و على الثاني: تنزهت عن ذلك تنزها، و هي كلمة تقدم على التوبة، و المراد الاعتذار، قال موسى عليه السّلام سبحانك تبت إليك، و قال يونس عليه السّلام سبحانك انى كنت من الظالمين.

«لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا»: اشعارا بانّ سؤالهم، لم يكن اعتراضا، و لا قدرة لنا على ما هو خارج عن دائرة استعدادنا، و انّما علمنا، ما علّمتناه، «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ» الذي لا يخفى عليه خافية «الْحَكِيمُ»: المحكم في مبتدعاته؛ سئل ابو يوسف القاضي عن مسألة، فقال لا ادرى، فقالوا له ترتزق من بيت المال كل يوم كذا و كذا، ثم تقول لا ادرى، فقال انّما ارتزق بقدر علمي، و لو أعطيت بقدر جهلي، لم يسعني مال الدنيا؛ و حكى انّ رجلا عالما، سئل عن مسألة، و هو فوق المنبر، فقال لا ادرى، فقيل له ليس المنبر موضع الجهّال، فقال انّما علوت بقدر علمي، و لو علوت بقدر جهلي لبلغت السماء.

[سورة البقرة (2): آية 33]

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

ثمّ خاطب اللّه سبحانه، فقال يا آدم، اخبر الملائكة بأسمائهم، يعنى اسمائهم الذي عرضهم عليهم، و قد مضى بيانه، «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» روى انّه رفع على منبر و أمران ينبئ الملائكة بالأسماء، فلما انبأهم بها و هم جلوس بين يديه و ذكر منفعة كلشي ء و خواصّه، «قالَ» اللّه تعالى: «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»، و الاستفهام للتقرير اى قد قلت لكم انّى اعلم ما غاب فيهما «وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ». و تظهرون من قولكم، حيث قلتم، أ تجعل فيها من يفسد الآيه.

«وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»: تسترون حيث زعمتم لن يخلق اللّه خلقا أكرم عليه منّا، و هو تعريض

ص: 111

بمعاتبهم على ترك الأولى من السؤال، و في الآية، دلالة صريحة، بانّ العلم شرط في الخلافة، بل العمدة فيها، و انّ آدم. تفضّل على الملائكة بالعلم، فالأعلم أفضل، لقوله هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون و ليت شعري، كيف قدموا المفضول على الفاضل، مع ذلك العلم الجم، و لو لم يكن له من الفضائل الّا القضايا التي صدرت من أحكامه التي لا تعدّ، مثل صاحب الارغفة، و الحالف ان لا يفكّ قيد غلّ عبده الّا ان يتصدّق بوزنه فضّة، و مثل جواب الأعرابي حين سأله، فقال انّى رأيت شاة فأولدها كلب ولدا، فما حكم ذلك في الحل، فقال عليه السّلام اعتبره في الأكل، فان أكل لحما فكلب، و ان أكل علفا فشاة، فقال الأعرابي، رأيته يفعل تارة هذا، و تارة هذا، فقال عليه السّلام اعتبره في الشرب، فان كرع فهو شاة، و ان ولغ فكلب، فقال الأعرابي رايته يلغ مرة، و يكرع مرة فقال عليه السّلام في المشي مع الماشية، فان تأخر عنها فكلب، و ان تقدّم او توسّط فهو شاة فقال الأعرابي: وجدته مرّة هكذا و مرّة هكذا، فقال عليه السّلام، اعتبره في الجلوس، فان برك، فشاة و ان أقعى فكلب، قال انّه يفعل مرّة هكذا و مرّة هكذا، فقال عليه السّلام اذبحه فان وجدت له كرشا فهو شاة و ان وجدت له أمعاء فكلب، فبهت الأعرابي و كيف لا و هم عيبة علم اللّه و وجهه.

روي في عدّة كتب كالقمى، و العياشي، و البرهان، و نور الثقلين، و غير ذلك في تفسير قوله تعالى «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»:

قال عليه السّلام انّ في العرش تمثال جميع ما خلقه اللّه في البرّ و البحر، فتبّصر في هذا الحديث كي تعلم، احاطة مرتبتهم، صلوات اللّه عليهم، علي العرش، بل العرش المعنوي هو حقيقتهم المقدسة المحيطة، على العرش الجسماني، فهم، مطلعون على تمثال جميع ما خلقه اللّه و لا شكّ، انّهم نقطة العلم السارية في جميع الحروف الامكانيّة و هو النقطة تحت الباء و ألف الابتداء في الآلاء.

في معاني الاخبار و غيره انّه جاء يهودي الى النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال ما معنى حروف الهجاء، و ما فائدتها، قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلّى عليه السلام اجبه، فقال علىّ عليه السّلام ما من حرف من حروف الهجاء الّا و له اسم من اسماء اللّه تعالى، امّا الالف: فاللّه الذي لا اله

ص: 112

الّا هو، و الباء: باق بعد فناء خلقه، و التاء توّاب الّذى يقبل التوبة عن عباده، و الثاء:

الثابت الكائن الذي ثبّت الذين أمنوا بالقول الثابت، الجيم: جلّ ثناؤه، الحاء: حليم حكيم، الخاء: خبير بأفعال عباده، الدال: ديّان يوم الدين، الذال: ذو الجلال و الإكرام الراء: رؤف بعباده، الزاء: زين المعبودين، السين: سميع بصير، الشين: شاكر لعباده المؤمنين، الصاد: صادق الوعد، الضاد: الضار النافع، الطاء: الطاهر، الظاء: المظهر للآيات، العين: عالم بالأمور، الغين: غياث المستغيثين، الفاء: فالق الحب و النوى، القاف قادر على خلقه؛ الكاف: كاف لم يكن له كفوء، اللام: لطيف بعباده، الميم: مالك الملك، النون: نور السموات من نور عرشه، الواو: واحد احد لم يلد و لم يولد، الهاء:

هاد لخلقه، اللّا: لا اله الّا هو، الياء: يد اللّه باسطة بالعطاء.

قال اللّه تعالى «وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» قال ابن عباس: رب الأرض امام الأرض و في الزيارة و أشرقت الأرض بنوركم، و قوله عليه السّلام الصورة الانسانيّة هي اكبر حجج اللّه على خلقه، اشارة الى مرتبة المظهريّة الجامعة، و تعبير الربية بمعنى الواسطة في الفيوضات الرحمانية، و ليس المراد من ذلك الربّ الحقيقي، بل الربّ هنا بمعنى الولىّ و الهادي و المرشد و الأب و المربى و اطلاق ذلك كلّه على الولىّ المطلق صحيح من باب الاشتراك المعنوي و هم في الممكنات بمنزلة القطب من الرحى، و الماء الذي به حيوة كلّشي ء، و خزانة الجود، و ماء الوجود، و مجرى الفيوضات، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنا عرف اللّه و لو لأنا ما عرف اللّه، و بنا عبد اللّه و لو لا نا ما عبد اللّه، و اليه الإشارة بقوله، كلّشي ء هالك الّا وجهه؛ روى الصدوق في توحيده عنه قال نحن وجه اللّه الّذى لا يهلك و ان كبر عليك هذا المقال فأقول انّ حقيقة نورانيّتهم محيطة بسائر الأنوار الامكانيّة، كاحاطة النفس و القلب في بدن الإنسان و اعلم انّ الاعتقاد باحاطة علومهم لجميع الممكنات ليس مستلزما للتشبيه المنافي للتنزيه و التقديس، فانّ علمه تعالى، قديم، ازلىّ سرمدىّ، متّحد مع ذاته تعالى، و علمهم صلوات اللّه عليهم حادث، فقير، الى اللّه، حصلت بتعليم اللّه ايّاهم متّصف بجميع لوازم الإمكان: محتاج في وجوده و بقائه الى الواجب، و النسبة بين الواجب و الممكن تباين؛ و على هذا البيان فالقول بالعلم الحضوري للنبىّ و الائمة

ص: 113

في مقامهم النورانيّة و باعتبار حقائقهم المقدّسة ليس مستلزما لشي ء من الشرك و التشبيه لكن جماعة من الشيعة فصّلوا بين مرتبتهم النورانية و الجسمانية، فقالوا بالعلم الحضوري في الاولى، و الحصولى في الثانية، و اهل النظر و التحقيق من العلماء قالوا انّ علمهم حصولى، يعنى انّما يعلمون الممكنات كلّها بتعليم اللّه ايّاهم، و احاطة علومهم بالجميع على ترتيب الحصول، و ليس لازما لذواتهم المقدّسة، و ليس العلم متّحدا، مع حقائقهم على سبيل الحضور حتى يكون حضوريّا، و استدلّ القائلون، بالعلم الحضوري، ببراهين عديدة، أحدها: انّهم حقيقة الوجود الامكانى، و العقل الأوّل، و الفيض المقدّس، و خزّان اللّه في ارضه و سمائه على علمه، و هذه المراتب مساوقة لمفهوم العلم، إذ العقل مقابل و ضدّ للجهل حيثما يستفاد من الأحاديث الواردة في العقل، فظلمة الجهل ضدّ لحقيقته، و الوجود المنبسط هو النّور لأنّه الظاهر في نفسه، و الوجود المنبسط هو الواسطة في جميع الفيوضات، و مجرى للرحمة الواسعة الرحمانيّة و الرحيميّة؛ الثاني انّهم النور و نور الأنوار الّذى نوّرت منه الأنوار باعتبار العلل الثلاثة المادّية و الصوريّة و الغائبة، و النور مساوق للعلم و ليست حقيقتهم مركّبة من العلم و الجهل، كي تتركب من النّور و الظلمة و ظلمة الجهل ضد لحقيقة النور، فساحتهم منزّهة من الجهل.

الثالث انّهم الصادر الأوّل فمرتبتهم محيطة باللوح المحفوظ، و احاطتهم على ذلك دليل على الاحاطة العلميّة إذ العالي مطّلع على ما دونه، قال اللّه تعالى وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ و هذا مفسّر بعلى عليه السّلام و الكتاب كناية عن اللوح المحفوظ و قد صحّ تنزيههم عن السهو و النسيان فكلّما علّمهم اللّه في العالم الأوّل من العلوم الربانيّة، و الفيوضات السبحانيّة من علومهم و اطلاعاتهم المحيطة باللوح المحفوظ فهي بأسرها باقية في حقائقهم الى السرمد لا يغفلون، و لا ينسون، و لا يجهلون، و هم عين اللّه الناظرة، منزهون، و مقدّسون عن شائبة العمى المستلزم للجهل المعنوي.

في الحديث: أول ما خلق اللّه نور نبيّك يا جابر فصح انّهم القلم الأعلى، و

ص: 114

بحقيقتهم حصل الانتقاش في اللوح المحفوظ، و الاحاطة بالعالي يستلزم لإحاطته بما دونه و قد صحّ بالبرهان و السمع، انّ لهم الولاية الكليّة، الى كافّة الممكنات، و هذه الولاية محيطة بامّ الكتاب و اللوح مشتمل على تمام العلوم.

الحاصل فالعلم اشرف جوهر لكن بشرط العمل و الانتفاع بثمرته، في الحديث روى أبو ذرّ حضور مجلس العلم أفضل من صلاة ألف ركعة، و عيادة ألف مريض، و شهود ألف جنازة، فقيل او من قراءة القرآن، قال و هل ينفع القرآن الّا بالعلم، و يكفيك ما في هذا الحديث الشريف من فضيلة العلم و العالم، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النظر الى وجه الوالد عبادة، و النظر الى الكعبة المكرّمة عبادة، و النظر في المصحف عبادة، و النظر الى وجه العالم عبادة، من زار عالما فكانّما زارني، و من صافح عالما فكانّما صافحنى، و من جالس عالما فكانّما جالسني، و من جالسني في الدنيا، أجلسه اللّه معى يوم القيمة؛ و في الحديث من أراد ان ينظر الى عتقاء اللّه من النار، فلينظر الى المتعلّمين، فو الّذى نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيده ما من متعلّم يختلف الى باب العالم الّا يكتب اللّه له بكلّ قدم عبادة سنة، و يبنى له بكلّ قدم مدينة بالجنّة، و يمشى على الأرض، و الأرض تستغفر له، و يمسي و يصبح مغفورا له، و بالعكس في الخبر الصحيح حكاية عن اللّه، من عادى لي وليّا، فقد بارزني بالحرب، و انّى لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث لشبله، و في التأويلات النجميّة و انّما كان آدم مخصوصا بعلم الأسماء، لأنّه خلاصة العالم، و كان روحه بذر شجرة العالم و شخصه ثمرة شجرة العالم، و كان في كلّ جزء من أجزاء الشجرة له منفعة، و مضرّة و مصلحة، و مفسدة، فسمّى كلّشي ء من تلك الاجزاء باسم ملائم تلك المنفعة و المضرّة بعلم علّمه اللّه، و هذا ما كان اللّه علّم آدم و الملائكة لا يعلمون، أقول انّما صار روحه بذر شجرة العالم و فضّل بهذه الفضيلة الّتى ما فضّل بها الملائكة من تعليم الأسماء باعتبار ثمرة الّتى كان في علم اللّه ان تحصل من تلك الشجرة، و مسمّيات حاصلة من تلك الأسماء، و هي ثمرة المحمديّة المخاطبة بلولاك لما خلقت الأفلاك، و لذلك شرّفه بهذا التشريف فاتّصف بسبب ذلك النّور المستور في صلبه هذا المقام العالي، و كان من كمال حال آدم انّ تمام اسماء اللّه او أكثرها جاءت على منفعته فضلا عن

ص: 115

اسماء غيره تعالى، و بيان ذلك انّه لمّا كان مخلوقا، كان اللّه خالقا له، و لمّا كان مرزوقا كان اللّه رازقا، و لمّا كان عبدا كان اللّه معبودا، و لمّا كان عاصيا كان اللّه غفّارا، و لما كان تائبا كان اللّه توّابا، و لمّا كان منتفعا كان اللّه نافعا، و لمّا كان متضرّرا كان اللّه ضارا، و لمّا كان مظلوما كان اللّه منتقما فعلى هذا قسّ البواقي؛ قال السيّد المرتضى ان قيل من اين علمت الملائكة صحّة قول آدم، و مطابقة الأسماء المسميّات و هي لم تكن عالمة بذلك من قبل و الكلام يقتضى انّهم لمّا انبأهم آدم بالأسماء علموا صحّتها، فالجواب انّه جعل اللّه العلم الضروري بصحّة الأسماء و مطابقاتها للمسمّيات امّا عن طريق الى العلم، او ابتداء بلا طريق، فعلموا بذلك صحّة قوله لهم، و امّا علم الملائكة بانّه نبىّ فذلك ليس بالعلم الضرورىّ، حصل لهم، بل حصل لهم بالاستدلال،

[سورة البقرة (2): آية 34]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)

ثمّ بيّن تعالى: ما أتاه آدم من الإجلال فقال و اذكر يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقت قولنا، «للملائكة لجميعهم لقوله فسجد الملائكة كلّهم أجمعون «اسْجُدُوا لِآدَمَ» اى خرّوا له، و السجود في الأصل تذلّل مع تطامن، فالمسجود له في الحقيقة، هو اللّه، فجعل اللّه آدم قبلة سجودهم تفخيما لشأنه، و هو المروىّ عن ائمّتنا و جماعة مثل قتادة، و علىّ ابن عيسى و عيسى بن الرماني، و استدلّوا بهذه الآية على انّ الأنبياء أفضل من الملائكة، لأنّه لا يجوز تقديم المفضول على الفاضل، و قال الجبائي، و ابو القاسم البلخي، و جماعة انّه تعالى جعله قبلة للملائكة فأمرهم بالسجود الى قبلتهم، و اختلف في انّ الأمر، للملائكة بالسجود: قيل: كان بخطاب من اللّه للملائكة و لإبليس و قيل بوحي من اللّه الى من بعثه من رسل الملائكة و هل كان لجميع الملائكة حيثما ذكر و قال قوم: انّ الأمر كان خاصّا لطائفة من الملائكة كانوا مع إبليس، أولئك الّذين طهّر اللّه الأرض من الجانّ، ثم اختلف في إبليس، هل كان من الملائكة أم من الجنّ، فذهب قوم انّه كان من الملائكة، و هو المروىّ عن ابن عبّاس، و ابن مسعود، و قتادة، و اختاره الشيخ السعيد ابو جعفر الطوسي، قال و

ص: 116

هو المروىّ عن أبي عبد اللّه و الظاهر في تفسيرنا، ثم اختلف من قال انّه من الملائكة، فمنهم من قال انّه كان سلطان سماء الدنيا، و سلطان الأرض، و منهم من قال انّه كان خازنا على الجنان، و منهم من قال انّه يتردّد ما بين السماء و الأرض، و قال الشيخ المفيد ابو عبد اللّه محمد بن محمد بن نعمان انّه كان من الجنّ، و لم يكن من الملائكة، قال و قد جاءت الاخبار متواترة، عن ائمّة الهدى، و هو مذهب الاماميّة، و هو المروىّ عن الحسن البصري و علىّ بن عيسى الرماني و البلخي و جماعة و احتجّوا على صحّة هذا القول بوجوه.

الأوّل قوله الّا إبليس كان من الجنّ، و من اطلق لفظ الجنّ، لم يجز له ان يعنى به الّا الجنّ المعروف، و كلّ ما في القرآن من ذكر الجنّ مع الانس يدلّ عليه، و الثاني قوله لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون فنفى المعصية عنهم نفيا عامّا، و الثالث انّ إبليس له نسل و ذريّة، قال اللّه أ فتتّخذونه و ذريّته اولياء من دوني و هم لكم عدوّ و الملائكة روحانيّون، خلقوا من الريح على قول، و من النور على قول بعض، لا يتناسلون و لا يطعمون، و لا يشربون، و قالوا انّ استثناء اللّه منهم لأنّه كان مأمورا بالسجود معهم، فلمّا دخل معهم في الأمر، جاز إخراجه بالاستثناء، و قيل انّ الاستثناء هنا منقطع، و عن جميل ابن درّاج عن أبي عبد اللّه، قال سألته عن إبليس أ كان من الملائكة او كان يلي شيئا من امر السماء، فقال لم يكن من الملائكة، و لم يكن يلي شيئا من امر السماء، و كان من الجنّ، و كانت الملائكة ترى انّه منها، و كان اللّه يعلم به و يأمره، فلما امر بالسجود لآدم كان منه الذي كان، كذا رواه العياشي في تفسيره و امّا من قال انّه من الملائكة فانّه احتجّ بانّه لو كان من غير الملائكة، لما كان ملوما بترك السجود، فانّ الأمر انّما يتناول الملائكة، دون غيرهم، فالجواب انّه يمكن ان يكون مأمورا بالسجود و ما كان من الملائكة، و يزيد هذا القول بيانا قوله «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» و لا ملازمة بين كونه ملكا و مأمورا بالسجود فما كان ملكا، لكنّه كان مورا بالسجود، و كان مخاطبا و لم يكن في جملتهم، و الدليل على كونه مخاطبا قوله «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» و لمّا أجاب بقوله خلقتني من نار و خلقته من طين، بل كان يجيب انّك ما أمرتني بالسجود، و الخطاب في الآية للملائكة و خصّو

ص: 117

بالذكر لأنّهم اكثر، و أجاب القائلون بانّه من الملائكة عن الاحتجاج الأول بانّ قوله من الجنّ بانّ الجنّ جنس من الملائكة لاجتنانهم عن العيون، و عن الثاني و هو قوله لا يعصون اللّه ما أمرهم بانّه صفة لخزنة النيران لا لجميع الملائكة، و لا يوجب عصمة لغيرهم، و عن الثالث بانّه يجوز ان يكون اللّه ركّب في إبليس شهوة النكاح تغليظا عليه في التكليف و ان لم يكن لسائر الملائكة، او بعد ان اهبطه اللّه الى الأرض تغيّرت بنيته، و أمّا أنّ الملائكة خلقوا من النور، و الجنّ من النار، و النار و النور سواء «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» أبى و استكبر اللعين عن السجود، و إبليس، قيل اسم أعجميّ، لا ينصرف للعلمية و العجمة، و قيل انه عربىّ مشتق من الإبلاس، و وزنه افعيل، و له نظائر في لغة العرب كإذميل للشفرة و اعريض للطلع، و اضريح لصبغ احمر، و سيف اصليب، ماض كثير الفرند، و ثوب اضريج مشبع الصبغ، و قيل انّه اسم كان أعجميّ فعرّب و سبيله سبيل إنجيل في انّه معرّب غير مشتق و منصوب على الاستثناء المتّصل من الكلام الموجب، او المنقطع على اختلاف القول في المسألة.

الاستثناء من المحسّنات البديعيّة لكن ليس كلّ استثناء بل يشترط فيه اشتماله على معنى يزيد على المعنى الاستثناء اللغوي و الّا لم يكن من البديع، مثل قوله تعالى فسجد الملائكة، فان في هذا الكلام معنى زائد على معنى الاستثناء اللغوي و هو تعظيم امر الكبيرة الّتى ارتكبها اللعين، من خرق اجماع الملائكة المؤكّدين بلفظ كلّ و اجمع و ذلك مثل قولك امر الأمير بالمثول بين يديه فامتثل امره جميع الناس من وزير و امير الّا فلانا، فأنت ترى ما في هذا التعبير معصية هذا العاصي، و ليس كذلك قولك امر الأمير بكذا فعصى فلان.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خلقت الملائكة من نور و من شأن النور الانقياد و الطاعة، و اوّل من سجد جبرئيل، فأكرم بانزال الوحى على النبيّين، ثمّ ميكائيل، ثم اسرافيل ثمّ عزرائيل، ثمّ ساير الملائكة، و قيل اوّل من سجد اسرافيل فرفع رأسه، و قد ظهر كلّ القرآن مكتوبا على جبهته كرامة له على سبقه الى الائتمار، و الفاء في قوله «فَسَجَدُوا» لإفادة مسارعتهم الى الامتثال الّا إبليس مرّ شرحه فما سجد

ص: 118

و انقاد طبعه الناري، و عن الحافظ انّ الجن و الملائكة جنس واحد، فمن طهر منهم فهو ملك، و من خبث فهو شيطان و من كان بين بين فهو جنّ؛ «أَبى وَ اسْتَكْبَرَ»: اى تعظّم و اظهر كبره، و التكبّر ان يرى الرجل نفسه اكبر من غيره، و الاستكبار طلب ذلك بالتتبّع و بالتزيّن بالباطل و بما ليس له، فامتنع اللعين، و لم يتوجّه الى آدم، بل ولّاه ظهره و انتصب هكذا الى ان سجدوا و بقوا في السجود مائة سنة، و قيل خمسمائة سنة و رفعوا رؤسهم و هو قائم معرض لم يندم من الامتناع و لم يعزم على الأتباع فلمّا رأوه عدل و امتنع و لم يسجد، و هم وفّقوا للسجود. سجدوا للّه تعالى، فصار لهم سجدتان، سجدة للأمر، و سجدة للّه شكرا، و إبليس ينظر ما فعلوه، قيل غيّر اللّه خلقه و هيئته، فصار أقبح من كل قبيح، و قيل جعل ممسوخا على مثال الخنازير، و وجهه كالقردة؛ و الممسوخ و ان كان لا يكون له نسل و لا يبقى، لكنّه لمّا سئل النظرة و انظر صار له نسل، و في الخبر، قيل له من قبل الحق اسجد لقبر أدم، اقبل توبتك، و اغفر معصيتك، فقال ما سجدت لجثته و قالبه، فكيف اسجد لقبره، و في الخبر قال الحقي في تفسيره انّ اللّه تعالى يخرجه على رأس مائة ألف سنة من النار، و يخرج أدم من الجنّة و يأمره بالسجود لآدم، فيأبى ثم يردّ الى النار، «وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ»: في علم اللّه او صار منهم باستقباحه امر اللّه ايّاه بالسجود لآدم و انّما قال سبحانه من الكافرين و لم يكن حينئذ كافر غيره لأنّه كان في علم اللّه ان يكون بعده كفّارا و انّ الذي علم اللّه من حاله انّه يتوفّى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذا لعبرة بالخواتم و ان كان بحكم الحال مؤمنا، في العيون عن امير المؤمنين عليه السّلام انّه اوّل من كفروا نشأ الكفر: و عن الصادق عليه السّلام الاستكبار هو اوّل المعصية عصى اللّه به، قال عليه السّلام فقال إبليس رب اعفنى عن السجود لآدم و انا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب و لا نبىّ مرسل، فقال عزّ و جل لا حاجة لي في عبادتك، انّما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد، في الصافي قال على ابن الحسين عليه السّلام حدّثنى ابى عن أبيه عن رسول اللّه قال يا عباد اللّه انّ آدم لمّا رأى النور ساطعا من صلبه إذ كان اللّه قد نقل أشباحنا من

ص: 119

ذروة العرش الى ظهره رأى النور و لم يتبيّن الأشباح. فقال يا ربّ ما هذه الأنوار، فقال تعالى أنوار أشباح نقلتهم من اشرف بقاع عرشي الى ظهرك و لذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح، فقال آدم لو بينتها لي، فقال اللّه انظر الى ذروة العرش فنظر آدم و وقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا الّتى في ظهره كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرآى أشباحنا، فقال ما هذه الأشباح يا ربّ، قال: يا آدم أفضل خلائقى و بريّاتى هذا محمّد و انا الحميد المحمود في فعالي، شققت له اسما من اسمى، و هذا علىّ و انا العلىّ العظيم شققت له اسما من اسمى، و هذه فاطمة و انا فاطر السموات و الأرض فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي و فاطم أوليائي عمّا يضرّهم و يشينهم، فشققت لها اسما من اسمى، و هذا الحسن و الحسين، و انا المحسن و المجمل، شققت اسميهما من اسمى، هؤلاء، خيار خليقتي، و كرام بريّتى، بهم أخذوا بهم اعطى، و بهم أعاقب، و بهم أثيب، فتوسل يا آدم بهم الىّ، و إذا دهتك داهية، فاجعلهم الىّ شفعائك. فانّى اليت على نفسي قسما حقّا ان لا اخيّب بهم آملا، و لا اردّ بهم سائلا انتهى الحديث. فحقيقة الفيض و السعادة من اوّل وجود الممكنات و إيجادهم:

طاعتهم؛ و حقيقة الشقاوة مخالفتهم، فهم اصل الشجرة الطيّبة، و سدرة المنتهى، و مرجع الكلّ إليهم، و الهداية، بهم، و فيهم، و منهم، و إليهم، و عنهم، و هذا معنى الزيارة، ن ذكر الخير كنتم اوّله و أصله و معدنه، و كلّما كثرت الإطاعة قربت منهم، و بالعكس.

قال صدر الدين الباغنوى: يا هذا اجعل دنياك وقاية لآخرتك؛ و لا تجعل اخرتك وقاية لدنياك، يا هذا كلّ محنة الى زوال، و كلّ نعمة الى انتقال، مال لا ينفعك وبال، و علم لا يصلحك ضلال.

قال يحيى الرازي: الليل طويل فلا تقصره بالنوم، و النهار مضيى ء فلا تظلمه بالذنوب، قيل لبشر الحافي لم لا تنام بالليل، قال انّى سليم، و السليم لا ينام و ما دمت مطيعا لهواك لا تحتاج الى أزر فلو كانت في الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما ففي صدرك اكثر، و النفس هي الصنم الأكبر،

ص: 120

مادر بتها بت نفس شما است زانكه آن بت مار و اين بت اژدها است

و لا أقول لك قم الليل الّا قليلا، بل نم الليل الّا قليلا، ما هذه النسبة الكاذبة تدّعي انّك شيعة عليّ و لا تتأسّى به مطلقا، و ان كان لو بذلت جهدك كلّ المجهود لا تحتذى حذو عبيده فضلا عن ذاته الشريفة، فانّه الامام المبين الّذى باحرفه يظهر المضمر، و هو مظهر الأسماء فانّ حروف الهجاء الّتى خزانة الكلمة و الاسم صفاته عليه السّلام فاوّل الحروف، الألف: هو الأمر عن اللّه بالعدل و الإحسان، و الباء: هو الباقر لعلوم الدين، و التاء: التالي لسور القرآن، و الثاء، الثاقب لحجاب الشيطان و الباطل، و الجيم: الجامع لأحكام القرآن، و الحاء: الحاكم بين الخلق من الانس و الجانّ و الخاء: الخلى من المعصية و العيب و النقصان، و الدال: الدليل لأهل الايمان، و الذال: الذاكر ربّه في السّر و الإعلان، و الراء: الراهب ربّه في الليالى إذا اشتدّت الظلمان، و الزاء:

الزائد في الفضل بلا نقصان، و السين: الساتر لعورات العريان، و الشين: الشاكر لمنّ الواحد المنّان، و الصاد: الصابر يوم الضرب و الطعان، و الضاد: الضارب بحسامه رؤس اهل الشرك و الطغيان، و الطاء: الطالب بحق اللّه غير متوان، و الظاء: الظاهر كلمة الحق على اهل الخسران، و العين: العالي علمه على اهل الزمان، و الغين: الغالب بنصر اللّه للشجعان، و الفاء: الفارق بين اهل الحق و البطلان، و القاف: القوى الأركان و الكاف: الكامل بلا نقصان، و اللام: اللازم لا و امر الرحمن، و الميم: المتزوّج بخير النسوان، و النون: النامي ذكره في القرآن، و الواو: الوليّ لمن والاه بالإيمان، و الهاء الهادي الى الحق لمن طلب البيان، و الياء: اليسر السهل لمن طلب منه الإحسان و بالجملة فالحقّ احقّ ان يتّبع و لا تتبّع الهوى فيضلّك عن سبيل اللّه، و قد جعل اللّه الهداية في متابعته كما انّ الغواية في مخالفته، و لا تنقص الكيل و الميزان من عبادتك، فانّ بعض الناس استحوذ عليهم الهوى، فوقع في خاطرهم من الشبهات الفاسدة مثل ان يقول انّ اللّه غنى عن العالمين، و لا يتفاوت بشأنه تعالى الطاعة و المعصية، لكنّى محتاج الى الطاعة، و عن الاحتراز عن المعصية، قال اللّه سبحانه و من تزكّى فانّما

ص: 121

يتزكّى لنفسه، و قال و من عمل صالحا فلنفسه؛ فمثل هذا الأحمق مثل المريض الّذى يأمره الطبيب بالدواء و الاحتماء، و المريض يتكاهل في الدواء و لا يحتمي، و يقول إذا لم اشرب الدواء و لا احتمى لا يترتب على الطبيب ضرّ، و لا يحصل له نفع، نعم لا يترتّب على الطبيب امر لكنّك تموت من مرضك؛ و ايضا طائفة اخرى من الحمقاء يتجاوزون من حدود اللّه؛ معتمدين بقولهم انّ اللّه كريم رحيم، هلّا يقول انّ اللّه شديد العقاب، اما يرى انّ الخلق مادام لا يزرعون و لا يحصدون، و لا تيعبون، لا يأكلون فانّ اللّه كريم، فلم لا يعطيهم من غير حصاد، و بذر، و تعب؛ و ايضا طائفة اخرى من الحمقاء اغترّوا بالتقدير في الأزل، و عطّلوا العمل و يقولون السعيد سعيد في بطن امّه و الشقىّ شقىّ في بطن امّه فاذن لا يتغيّر الحال بالطاعة و المعصية، اما سمعوا انّ النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال اعملوا و كلّ ميسّر لما خلق له، و كلّ هذه الترهات من حبائل الشيطان، و طلب الراحة من النفس الخبيثة، و النفاق، الكامن في القلب، قال اللّه لعيسى ليكن لسانك و قلبك واحدا في السرّ و العلانية، قال الصادق عليه السّلام قال رسول اللّه، ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق، فاستسلم مخلصا للأمر، فانّه العلم النافع، و اعمل خالصا، و دع هذه الفضوليّات و التصرفات فربّ علوم لا تنفع، و اعمال لا ترفع، ليس لأهلها منها الّا كدّ القرائح و كدح الجوارح، و ذلك لعدم الخلوص، لن ينال اللّه اعطاف تتهافت، و لا أطراف تتماوت، و ليكن يناله قلب مشفق من النار يتلظّى، و شوق الى الجنّة يتشظّى؛ و عمل بالخلوص و الامتثال مشفوع، و عن النقائص مدفوع، و المرء باكبريه، عمله و إيمانه، ربّ معروف بالمكارم و المساعى و هو عند اللّه اهل المكاره و المساوى، و موصوف بالحلم الراسى و العلم الراسخ و هو منها على أميال و فراسخ، لأنّه يملأ عينه من زينة الحيوة الدنيا، و تقرّ عينه برؤيتها و إقبالها، و العبادة فيها حكم و مصالح لا يعلمها الّا من امر بها، منها انّها طهرة للقلوب عن احداث الذنوب و اشتغال النفس بها عمّا فيه ضرر في الدين و النظم، و بها يكمل صلاح المعاد، و معرفتك لخالقك بالوحدانية، و بنبيّك بالرسالة، و وصيّه بالخلافة، كل هذه نافعة لك، لأنّ العبد إذا لم يعرف مولاه و اسمه و رسمه، ممّن يطلب رزقه و مسكنه،

ص: 122

و الاسم ما دلّ على الذات الموصوفة بصفة معيّنة سواء كان لفظا او حقيقة من الحقائق الموجودة في الأعيان فانّ الدلالة كما تكون بالألفاظ، كذلك تكون بالذوات، من غير فرق بينهما بل كلّ موجود من الأعيان بمنزلة كلام، و دليل صادر عنه تعالى، دالّ على معرفته بالربوبيّة، و لسان ناطق بوحدانيّته، كما انّ احتياجك شاهد، دالّ، ناطق بعبوديتك، و لما كانت النفوس جاهلة و قاصرة عن درك هذا المعنى، خلق في عالم الأنوار ابتداء نفوسا و ذوات مقدسة عن الجهل، كانوا يسبّحون اللّه و يقدّسونه، فجعلهم سبلا للخلق لمعرفته، ثم ادرجهم في عالم الهيكل النورانى العلوي، كي يعرفون الخلق خالقهم بسببهم، لأنّ اللّه لا يعرّف من نحو ذاته لاحد، و الّا لكان مدركا، و محاطا، و هو علامة الحدوث و انّما تعرّف الى عباده، بما وصف به نفسه، و لذا قال امير المؤمنين عليه السّلام معرفتي بالنورانيّة، معرفة اللّه، و معرفة اللّه معرفتي بالنورانيّة، فحصر عليه السّلام معرفة اللّه، في معرفته، و كما انّ لفظ كلمة لا اله الّا اللّه، يدلّ على التّوحيد باللفظ، كذلك ذلك الهيكل النورانى، دالّ على توحيده تعالى بالعين، و هذا التقرير معنى حديث حذيفة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا حذيفة انّ حجّة اللّه عليكم بعدي على ابن أبي طالب، الكفر به كفر باللّه، و الشرك به شرك باللّه و الشك فيه شك في اللّه، و الإلحاد عنه الحاد في اللّه، الحديث على ما في الأمالي لشيخ الصدوق قال: في شرح قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكفر به كفر باللّه إلخ ما هذا لفظه كانّي بالمتكلّفين يرتكبون المجاز في توجيهه لأنّهم يثبتون كفرين، أحدهما غير الاخر، و ليس كذلك بل الكفر واحد، و الحاصل، افهم معنى قوله عليه السّلام، معرفتي بالنّورانية معرفة اللّه، ليس المراد انّك تعرفه انّه عليه السّلام ختن رسول اللّه، او انّه قلع باب خيبر، او انّه كان يصلّى بالليل ألف ركعة بل انّه من اللّه خليفة على الخلق، فإذا خالفت ذرّة من امره، فقد خالفت اللّه، تأمّل كيف نصحك بكلمة جامعة لجميع الخير مانعة من جميع الشر، و هي الزهد في الدنيا لأنّ العبادة و العبوديّة، لا تحصل الّا بالفراغة، فلو يتصوّر انسان، انّه يتمكّن من الجمع بينهما، هيهات، فقد ضرب في حديد بارد، و يكون مثاله مثال العابد الذي تعبّد تحت شجرة، خضرة، عظيمة، كثيرة الاغصان، كلّما توجّه في محرابه للصّلاة، و قد اجتمعت عصافير كثيرة، و بلابل و صوّتت، و شوّشت صلاته، و هو يطردها بعصاه، فيطردها

ص: 123

و يرجع الى محرابه، فترجع العصافير، الى ان أخذ مارسا فقطعها، فاستراح، و هكذا حال الدنيا، فاقلع شجرة محبة الدنيا حتّى تتمكّن من اقامة وظيفة عبوديّتك، و الّا فلا، و إذا استولت بك السلامة، فجدّد ذكر العطب، و إذا اطمئن بك الأمن استشعر الخوف، و إذا أحببت نفسك فلا تجعلنّ لها في الإساءة إليها سبيلا، و التزم بكلمة التقوى حتّى يصبك من عمل قليل خير كثير، اما سمعت حديثا رواه الكفعمي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال لعلىّ عليه السّلام ما فعلت البارحة، فقال عليه السّلام صلّيت ألف ركعة قبل ان أنام، فقال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كيف ذاك، فقال على عليه السّلام سمعتك يا رسول اللّه تقول: من قال عند منامه ثلاثا «يفعل اللّه ما يشاء بقدرته و يحكم ما يريد بعزّته» فقد صلّى ألف ركعة، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صدقت يا على؛ أقول:

بشرط الولاية، و جميع الطاعات مرهونة تحت نطاق الولاية.

في الوافي عن الصادق عليه السّلام قال: انّ اللّه تعالى خلقنا من علّيين، و خلق أرواحنا من فوق ذلك! و خلق أرواح شيعتنا من عليّين، و خلق اجسادهم من دون ذلك، فمن أجل تلك القرابة بيننا و بينهم تحنّ قلوبهم إلينا.

في امالى الطوسي عن الباقر عليه السّلام: ما اثبت اللّه حبّ على ابن أبي طالب في قلب احد فزلّت له قدم الّا ثبت له قدم اخرى، أقول انّ كلّنا يزعم انّه يحبّ عليّا لكنّ الأمر ليس بالدعوى و لكل امر حقيقة، و علامة محبّته صادقا، ان يكون المحبّ متطهّرا بطهارات الثلاث: صغيرة، و كبيرة، و وسطى، فالصغرى: غسل البدن الشهادى بالماء العنصري عن الخبث و الحدث، و الوسطى: غسل الخاطر و اللسان بماء الذكر التلقينى من خبث الشرك الخفى، و حدث الظلمة الطبيعي، و الكبرى: عبارة عن غسل القلب عن التعلق من تلويثات الدنيا، فهذه المراتب الثلاث، آداب غسل المحبّ، كما انّه ينبغي ان يتوضّأ خمسة وضوء. الأول، وضوء القلب عن المكر و الخدعة و الحسد و الكبر و العداوة، و الثاني، وضوء اللسان عن الكذب و الغيبة و الزور و البهتان، و الثالث، وضوء البطن عن الحرام و الشبهة، قال اللّه كلوا من الطيّبات، و الرابع، وضوء الطهر عن لبس الحرام قال اللّه و ريشا و لباس التقوى ذلك خير، و الخامس: وضوء الظاهر قال اللّه إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم الى المرافق، فحينئذ وقيت نفسك عما يضرّك، و دخلت في

ص: 124

حزب التقوى، و صرت من تبعة علىّ عليه السّلام، و الزمتك كلمة التقوى، و لا تصلح النفس، و لا ينجلي عنها غشوات العمى، الّا بهذه الآداب و التكاليف، و ما من شي ء يقرّب العبد من اللّه، و يبعّد من الطاغوت الّا و قد أمركم به الشرع، و نهاكم عنه حتّى آداب بطنك و أكلك، قال عليه السّلام: كلوا انصاف البطون، قال علماء الأخلاق لا تطعم و لا تشرب حتّى تشتاق النفس إليهما، و ان تناولت منهما شيئا فلتبق من شهوتك لهما، و ادّب لسانك ان تصمت عن كلّ كلمة لا يعنيك، و لا تتكلّم بكلمة الّا ان تقطع بعدم ضرر تلك الكلمة، و بدّل كلامك بذكر اللّه، و لا تنساه، فانّك ان ذكرته ذكرك، و من ذكره لا يذلّ و لا يخزى و كن عند امره و نهيه كالميّت بين يدي المغسل؛ هذا في الحال و امّا المال ان لا ترى لنفسك بما خوّلك اللّه ملكا فانّك لو صرت كذلك، هان عليك الدنيا بما فيها، و عامل الناس كما تحبّ ان يعاملوك، و قلّل معاريفك بل تنكّر ما عرفت فانّ اعلم طبقات الناس ذئاب في ثياب، و اوّل مفاسد المخالطة انّ اغلب طبقات الناس أبناء الدنيا الّا القليل من الاقلّ من الالف و احد، فإذا خالطت معهم تستكسب من طباعهم، و الطبع مكتسب من كلّ مصحوب، فتنهمك شيئا فشيئا في الدنيا فيضيع دينك، و لو تصوّرت انّك تقدر ان تجمع راحة الدنيا، و لذّت النفس مع سعادة الآخرة، فهذا امر لم يخلقه اللّه و الجمع غير ممكن، و لعلّك بحمقك زعمت انّ ايّام ظهور الحجّة تستريح من التعب و يطيب عيشك، فتستلذّ يومئذ من الدنيا لأنّك سمعت الحديث انّ في دولة الحقّة يحملون الزكاة في القرى على رؤسهم فلا يجدون من يستحقّه و ما عرفت معنى الحديث فذلك لا لأجل اقبال الدنيا عليهم قال المحدّث النوري في النجم الثاقب، انّ السبب كثرة قناعة المؤمنين، و الاقتصاد على قدر الضرورة، من المأكول، و الملبوس، و المسكن و النكاح، فلا يحتاجون الى الزائد عن قدر الحاجة، فلا يشتغلون في تحصيل كثرة المال و العقار، و ذلك لأنّه مناف مع الغرض من ظهوره عليه السّلام لأنّه انّما يأتي ليدعوا الناس الى اللّه، فيكمل علمهم، و عملهم، و حاشاه غير الزهد، كما في غيبة النعمائى عن الصادق عليه السّلام قال تطلبون خروج القائم، فو اللّه إذا خرج لا يلبس الّا الخشن، و لا يأكل الّا الجشب او من غير ادام و ليس له شغل الّا السيف، و في رواية اخرى: ذكر عند الرضا عليه السّلام

ص: 125

خروج الحجّة، فقال عليه السّلام: اليوم أنتم في الراحة، و إذا خرج ليس الّا الدّم و العرق و القوم على متون الخيل؛ و في رواية اخرى عن معلى بن خنيس، قال قلت للصادق عليه السّلام ان كان يتمّ هذا الأمر لكم كنّا في الراحة معكم، قال عليه السّلام: لو كان الأمر يردّ إلينا، ما كان عيشنا الّا عيش رسول اللّه و علىّ صلوات اللّه عليهما؛ فكن من اهل الهداية بان ترشد ضالًّا، او من اهل الاهتداء بان تقبل نصح ناصح في دينك، تكن من اهل الحكمة و من اهل القبول، قال اللّه و من يؤتى الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا، و مقرّ الحكمة، قلب فارغ من محبّة الدنيا، و لا تسكن في بطن مملوّ من الحرام، و لا تكن من الذين قضوا بالغفلة أعوامهم و شهورهم و نبذوا الحق وراء ظهورهم، إذا وجدوا زخارف الدنيا نشطوا و تحلّوا، و إذا تلوت لهم آية من القرآن ولّوا، فانتبه يا نائم، أ نسيت تاريخ عمرك، اما ترى في المرآة وجهك و قد جفّت غصون المورقات، أ زعمت ان يعود العمر، و كيف للإنسان راحة و فرح و هو لا يدرى انّ يوم القيمة حيث يقول اللّه هؤلاء في الجنّة و هؤلاء في النار و هو لا يدرى من اىّ الفريقين، او حين يقال، و امتازوا اليوم ايّها المجرمون؟ فلا تحملك القدرة اليوم على تناول ما ليس لك، و الشهوة في ارتكاب باطل، و الراحة في العدول عن حقّ، فاخرج الفضل من مالك، ليوم لا ينفع مال و لا بنون و امسك الفضل من قولك، قال الصادق عليه السّلام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه، و حضر عذابه، و ذلك لأنّ اللسان له تصرّف في كلّ موجود و موهوم و معدوم و له يد، في العقليّات، و الخيالات، و المسموعات، و المشمومات، و المبصرات، و المذوقات و الملموسات فيجتمع عليه من كلّ وجه خطيئة فتكثر خطاياه، و امّا غير اللسان فخطاياه محصورة قليلة مثل انّ السمع فقط خطيئته من المسموعات، و البصر من المبصرات، قال امير المؤمنين عليه السّلام من كثر كلامه، كثر خطاؤه و من كثر خطاؤه، قلّ حياؤه و من قلّ حياؤه، قلّ ورعه، و من قلّ ورعه، مات قلبه: و من مات قلبه، دخل النار؛ اما تعلم انّ اوّل منازل الآخرة، القبر، و هو لك بمنزلة المهد للطفل، و هو روضة دار، او حفرة نار، فما تلقاه من الكرامة فيه بواسطة الايمان و العمل، و ما يلقاه من العقاب بواسطة التقصير في العبادات و الحقوق، فأوثق نفسك بقيد التقوى، و لا تغتر بكثرة

ص: 126

الأسباب و طول الأمل، و كل رزقك باسنانك قبل ان تضرس، و أدر بالحق لسانك قبل ان تخرس، و استقم قبل ان يصير الطهر حينه و المنية منيّة.

رجعنا الى التفسير- فلذلك حين زلّت منه الزّلة دعا اللّه تعالى بهم فيتوب عليه و غفرت له، و هذا كان سبب فضيلة آدم على الملك، و سجودهم ايّاه، فاعترفوا بالعجز و القصور، و قالوا سبحانك لا علم لنا الّا ما علّمتنا لمّا قد بان لهم من فضل آدم و علمه و ما أودع فيه من الحكمة و الأنوار الطّيبة، فصغر حالهم عند أنفسهم، فغرقوا في بحر العجز و فوّضوا العلم الى اللّه، و قالوا انّك أنت العليم الحكيم، قال الفيض: و انّما لم يعرفوا حقائق الأشياء كلّها لاختلافها و تباينها و هم وحدانيّة الصفة إذ ليس في جبلّتهم خلط و تركيب و لهذا لا يفعل كلّ صنف منهم الّا فعلا واحدا، فالراكع منهم، راكع ابدا، و الساجد منهم ساجدا أبدا، و القائم منهم كذلك، كما حكى اللّه عنهم بقوله: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ و لهذا ليس لهم تنافس و تباغض الى أمثالهم مثال الحواس، فانّ البصر لا يزاحم السمع في ادراك الأصوات، و لا الشّم يزاحمهما، و لا هما يزاحمان الشّم، و الذوق، فلا جرم مجبولون على الطاعة، يسبّحون الليل و النهار لا يفترون، فكلّ صنف منهم، مظهر لاسم واحد من الأسماء الالهيّة لا يتعدّاه و فاقهم آدم بمظهريّته الشاملة. انتهى كلامه.

[سورة البقرة (2): آية 35]

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

قيل: انّ اللّه تعالى اخرج إبليس، عند كفره، و أبعده عن الجنّة، و بعد إخراجه قال يا آدم اسكن، أى لازم الاقامة، و اتخذها سكنا، و استقرّ الجنّة و زوجك حوّاء، يقال للمرء الزوج، و الزوجة، و الزوج افصح، و انّما لم يخاطبها اوّلا تنبيها على انّه المقصود بالحكم و المعطوف عليه تبع له.

«الْجَنَّةَ» هي دار الثواب، خلافا لبعض المعتزلة حيث قالوا المراد بالجنّة هنا بستان كان في ارض فلسطين: او بين فارس و كرمان خلقه اللّه امتحانا لآدم، و اوّلوا الهبوط بالانتقال منه الى ارض الهند، كما في قوله تعالى مصرا، و قال ابو هاشم هي جنّة من جنان السّماء، غير جنّة الخلد، لأن جنّة الخلد أكلها دائم، و لا تكليف فيها، و استدل

ص: 127

بعضهم على انّها لم تكن جنّة الخلد، فقوله حكاية عن إبليس هل ادلّك على شجرة الخلد فلو كانت جنّة الخلد لكان آدم عالما بذلك و لم يحتج الى دلالته، و لم يخرج منها، و هذا الكلام ليس بمحكم لأنّ ذلك انّما يكون إذا استقرّ اهل الجنّة فيها للثواب لا يخرج منها، فامّا قبل ذلك فما ثبت و انّما كان وسوسة إبليس لعلّ من خارج الجنّة من حيث يسمعان كلامه، و اختلفوا في خلقة حواء، هل كانت قبل دخول الجنّة او بعده، و يدلّ على الأوّل ما روى عن أبن عباس انّه بعث اللّه جندا من الملائكة، فحملوا آدم و حوّاء على سرير من الذهب مكلّل بالياقوت و اللؤلؤ و الزمرّد و على آدم منطقة مكلّلة بالدّر و الياقوت حتّى أدخلوهما الجنّة، و يدلّ على الثاني ما روى عن ابن مسعود: انّه لمّا خلق اللّه الجنّة و اسكن آدم فيها، بقي فيها وحده، فالقى اللّه عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه، من الجانب الأيسر، و وضع مكانه لحما، و خلق منه حوّاء، و من الناس من يقول لا يجوز هذا، لأنّه يكون نقصانا منه و لا يجوز ينقص الأنبياء، لكن هذا الكلام ليس بشي ء لو كان واقعا لأنّه جعلها سكنه، و أزال بها وحشته و حزنه، فلمّا استيقظ آدم من نومه، وجدها عند رأسه قاعدة، فسألها من أنت، فقالت انّى امرأة، فقال و لم خلقت، قالت لتسكن الىّ، و اسكن إليك، فقالت الملائكة يا آدم ما اسمها، قال: حوّاء، قالوا: و لم، قال: لأنّها خلقت من حىّ، او لأنّها اصل حىّ او لأنّها كانت في ذقنها حوّة، اى حمرة مائلة الى السواد، و سمّيت مرأة لأنّها خلقت من المرء، كما انّ آدم سمّى بآدم لأنّه خلق من أديم الأرض، و عاشت بعد آدم سبع سنين و سبعة أشهر، و عمرها تسع مائة سنة، و سبع و تسعون سنة، و اعلم انّ اللّه خلق واحدا من اصل دون امّ و هو حوّاء، و آخر من امّ دون أب و هو عيسى، و آخر من أب و امّ و هو أولاد آدم، و آخر من غير أب و امّ و هو آدم.

سبحان من اظهر من عجائب صنعه ما يتحيّر العقول، في كتاب السماء و العالم قال سيّد ابن طاوس وجدت في صحف إدريس من نسخة عتيقة في حديث المشهور، و هو خلق اللّه آدم على صورته ما هذا لفظه من حديث طويل و هو فخلق اللّه آدم على صورته الّتى صوّرها في اللوح المحفوظ، قال سيّد بن طاوس: فاسقط بعض المسلمين، بعض هذا الكلام و قال انّ اللّه خلق آدم على صورته، فاعتقد التجسّم، فاحتاج المسلمون الى التأويلات في

ص: 128

الحديث، و لو نقله بتمام الحديث استغنى عن التأويل؛ و انّ اللّه خلق حواء لأمر يقتضيه الحكمة، ليدفع آدم وحشته بها لكونها من جنسه، و ليبقى الذريّة على ممرّ الأزمان، الى ساعة القيام، فانّ بقائها سبب لبعثه الأنبياء، و تشريع الشرائع، و نتيجة الأمر معرفة اللّه، و في الزوجيّة منافع كثيرة دينيّة و دنيويّة و اخرويّة، قيل فضل المتأهّل على العزب كفضل المجاهد على القاعد، و قالوا انّ يحيى قد تزوّج لنيل الفضل، و اقامة السنّة، و لكن لم يجامع لكون ذلك عزيمة في تلك الشريعة، و لذلك مدحه اللّه بكونه حصورا.

و في الحديث ركعة من المتأهّل، أفضل من سبعين ركعة من عزب؛ قال الحقىّ في روح البيان: هذا كلّه لكون التزوّج سببا لبقاء النسل، و حفظا من الزنى، و الترغيب في النكاح يجرى الى ما يجاوز المائة الاولى من الالف الثاني، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا اتى على امّتى مائه و ثمانون سنة بعد الالف، فقد حلّت العزوبة و العزلة، و الترهّب على رؤس الجبال و ذلك لأنّ الخلق في المأتين اهل الحرب و القتل فتربية جرد حينئذ خير من تربية ولد و ان تلد المرأة حيّة، خير من ان تلد الولد.

«وَ كُلا مِنْها» اى: من ثمار الجنّة اكلا «رَغَداً» واسعا رافها من غير تقدير و لا تقتير، و الأمر امر اباحة، و قيل امر تكليف قاله قتادة.

«حَيْثُ شِئْتُما»: اى مكان من الجنّة أردتما؛ «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» بالأكل، و الشجرة منصوب على انّه بدل من اسم الإشارة او نعت له بتأويلها بمشتق: اى هذه الحاضرة من الشجر، و علّق النهى بالقربان منها، مبالغة في المنع عن الأكل، و لزوم الاجتناب عنها، و المراد بها البرّ و السنبلة عن ابن عباس؛ و قيل هي الكرمة عن ابن مسعود، و قيل هي التينة، و قيل هي شجرة الكافور، و قيل غير ذلك، و المراد بالسنبلة، الحنطة، و هو اقرب عند الصوفية، لأنّ النوع الإنسانىّ ظهر في دور السنبلة و كان عليها من كلّ لون، و ثمرها احلى من العسل، و ألين من الزبد، و اشدّ بياضا من الثلج، كلّ حبّة من حنطتها مثل كلية البقر: و قد جعلها اللّه رزق أولاده في الدنيا فلمّا تناول هو السنبلة، ابتلى أولاده بحرث السنبلة.

قال الرازي: قوله و لا تقربا، انّ هذا نهى تحريم، او نهى تنزيه، فيه خلاف،

ص: 129

فقال قائلون هذه الصيغة لنهى التنزيه، و ذلك لأنّ هذه الصيغة وردت تارة في التنزيه و اخرى في التحريم و الأصل عدم الاشتراك، فلا بدّ من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين القسمين، و ما ذلك الّا ان يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل من غير ان يكون دلالة على المنع من الفعل، او على الإطلاق فيه، لكنّ الإطلاق فيه كان ثابتا بحكم الأصل فانّ الأصل في المنافع، الاباحة، فإذا ضممنا مدلول اللفظ الى هذا الأصل صار المجموع دليلا على التنزيه، قالوا و هذا هو الاولى بالمقام لأنّه حينئذ يرجع امر آدم الى ترك الاولى، و معلوم انّ كلّ مذهب يفضى الى عصمة الأنبياء كان اولى بالقبول، و قال بعض: انّ هذا النهى تحريم، و احتجّوا بدلائل ضعيفة، مثل ان قالوا انّ قوله و لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ، مثل قوله وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ و قوله فتكونا من الظالمين و قالوا: لو انّ هذا النهى نهى تنزيه لما استحقّ آدم بفعله الإخراج من الجنّة، و الجواب عن الأوّل انّ النهى و ان كان في الأصل للتنزيه، و لكنّه قد يحمل على التحريم لدلالة منفصلة، و عن الثاني انّ قوله «فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» اى فتظلما أنفسكما بفعل ما الاولى بكما تركه، لأنّكما إذا فعلتما ذلك، أخرجتما من الجنّة الّتى لو كنتما فيها لا تظمئان و لا تجوعان، و عن الثالث انّه: لا نسلّم انّ الإخراج كان لهذا السبب، أقول: انّ جملة من الناس بسبب فرعونيّتهم و كفرهم، يحسدون ذوى النعمة حيث انّهم فاقدوا تلك النعم، فيريدوا ان يستروا قبائحهم و هي لا تستر فينسبون قبيحة الى غيرهم حتّى إذا أرادوا ان يشاركوهم في الرتبة لا يكون قبائحهم مانعة عن المشاركة و يأبى اللّه الّا ان يتمّ نوره؛ فمنهم الحشويّة الذين يجوّزون الكبائر، على جهة العمد للأنبياء، و منهم من لا يجوّز عليهم الكبائر، لكنّه يتجوّز عليهم الصغائر، على جهة العمد، الّا ما ينفر كالكذب و التطفيف و أمثالها و هذا قول اكثر المعتزلة، و قال بعضهم انّه لا يقع منهم الذنب، الّا على السهو و الخطاء و لكنّهم مأخوذون بما يقع منهم على هذه الجهة، و ان كان ذلك موضوعا عن امّتهم، و ذلك لأنّ معرفتهم أقوى و دلائلهم

ص: 130

اكثر و انّهم يقدرون من التحفّظ على ما لا يقدر عليه غيرهم، و هذه الأقوال كلّها سخيفة، و القول الصحيح و المذهب الحقّ انّه لا يقع منهم الذنب، لا الكبيرة و لا الصغيرة لا على سبيل القصد، و لا على سبيل السهو و الخطاء و لا على سبيل التأويل، لأنّه لو صدر الذنب عنهم، لكانوا اقلّ درجة من الامّة، الا ترى الى قوله تعالى «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» و بتقدير اقدامه على المعصية و الفسق وجب حينئذ ان لا يكون النبىّ مقبول الشهادة لقوله «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» لكنّه مقبول الشهادة، و الّا كان اقلّ حالا من عدول الامّة، و لا معنى للنبوّة و الرسالة، الّا انّه يشهد على اللّه بانّه شرع هذا الحكم و ذاك، و ايضا فهو يوم القيمة شاهد على الكلّ لقوله «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» و ايضا فبتقدير اقدامه على المعصية يجب زجره عنها، فلم يكن إيذائه محرّما، لكنّه محرّم لقوله «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ» و الدليل الأقوى من الكلّ انّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أتى بالمعصية، لوجب علينا الاقتداء به فيها لقوله فاتّبعونى، فيفضى الى الجمع، بين الحرمة و الوجوب، و هو محال، و إذا ثبت ذلك في حقّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثبت ايضا في سائر الأنبياء ضرورة أنّه لا قائل بالفرق، ثمّ انّه وقع الاختلاف في وقت العصمة فمنهم من قال انّ وقت عصمتهم، وقت بلوغهم، و لم يجوّزوا ارتكاب الكفر و المعصية منهم قبل النبوّة، و هو قول اكثر المعتزلة، و منهم من ذهب الى انّ ذلك لا يجوز وقت النبوّة و امّا قبل النبوّة فجائز و هو قول اكثر اصحاب السنّة و الجماعة، و هذين القولين فاسد و الصحيح انّهم مهذّبون معصومون من وقت مولدهم و هو قول الاماميّة، و كيف يجوز ان يكون صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معصوما من حين بعثته و نبوّته، و امّا قبل ذلك فلا و هو يقول:

كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين، و لأنّ اللّه تعالى قال في حقّهم «وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» و قال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ» فهذه الآيات دالّة على كونهم موصوفين بالخيريّة و الاصطفاء، و هو تعالى لا يختار من هو شانه المعصية، و لا يصطفى الّا الماحض الخير، و ذلك ينافي صدور الذنب انتهى.

«فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» اى: ان تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين،

ص: 131

قيل استحقاق اللوم بالنهى التنزيهي، من قبيل حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

[سورة البقرة (2): آية 36]

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)

اى: اذهب آدم و حوّاء، و أبعدهما عن الجنّة، و الازلال: الازلاق، و الزلّة بالفتح: الخطاء و الزوال عن الصواب و قد حصلت الزلّة لهما بالوسوسة و الغرور و في كيفيّة وصول إبليس الى آدم حتّى وسوس لهما بعد ان اخرج من الجنّة، قيل انّه لم يكن ممنوعا من الدّنو منهما، بل منع من الدخول على وجه التكرمة كما يدخلها الملائكة، و لم يمنع من الدخول للوسوسة، ابتلاء لآدم و حوّاء، و قيل انّه يكلّمهما من الأرض بكلام عرفاه و فهماه منه، و قيل انّه دخل جانب الشدق من الحيّة، و القول الأوّل اصحّ لأنّه لو يقدر ان يدخل في شدق الحيّة و يدخل في شدق الحيّة و يدخل الجنّة يقدر ان يصير حيّة، و كذلك الوسوسة كلام خفىّ، و الخطاب من الأرض بحيث سمعاه مناف مع معنى الوسوسة.

«فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ»: من النعيم و الكرامة، و طريق وسوسته، بقوله ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة الّا ان تكونا ملكين، او تكونا من الخالدين فصدّقه هو و زوجته، و سئل ابو مدين عن خروج آدم من الجنّة على وجه الأرض، و لم تغذّى بأكل الشجرة بعد النهى، فقال لو كان أبونا يعلم انّه يخرج من صلبه مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكان يأكل عرق الشجرة فكيف ثمرها ليسارع في الخروج على وجه الأرض ليظهر الكمال المحمّدى و الجمال الأحمدى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و في صدور الزلّة قال جماعة: انّها صدرت عنه ناسيا، لا عامدا، و احتجّوا عليه بقوله تعالى «فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و مثّلوه بالصائم، فيشتغل بأمر يستغرقه، فيصير ساهيا عن الصوم، و يأكل في أثناء ذلك السهو، قال الرازي: و هذا باطل لأنّ قوله تعالى:

ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ و قوله: وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ يدلّ على انّه كان ذاكرا حال الاقدام، و رواية ابن عباس يدلّ على انّ آدم تعمّد لأنّه قال لمّا اكلا منها فبدت لهما سوءاتهما، خرج آدم، فتعلّقت بآدم شجرة من شجر الجنّة فحبسته، فناداه اللّه: ا فرار منّى، فقال: بل حياء منك، فقال له اما كان فيما

ص: 132

منحتك من الجنّة مندوحة عمّا حرّمت عليك، قال بلى و لكنّى و عزّتك ما كنت ارى انّ أحدا يحلف بك كاذبا، فقال و عزّتى لأهبطنّك منها ثمّ لا تنال العيش الّا كدّا، و ردّ بعض تعمّد آدم في الأكل، و قال كان على وجه النسيان كما في الآية فنسي و لم نجد له عزما، و قالوا و ما روى عن ابن عباس في الحديث المذكور فهو مروىّ بالآحاد فكيف يعارض القرآن، و كيف نسلّم انّ آدم و حوّاء قبلا من إبليس ذلك الكلام، لأن اللعين القى إليهما سوء الظّن باللّه، و دعاهما الى ترك التسليم لأمره، و مثول الأمر بان يعتقدا فيه كون إبليس ناصحا لهما، و انّ اللّه قد غشّهما، و لا شكّ مثل هذا الأشياء أقبح من أكل الشجرة، ثمّ انّ آدم كان عالما ببغضه ايّاه لمسئلة السجود و الحسد له، فكيف يقبل من مثل هذا العدوّ فان قيل إذا كان الأمر كذلك كيف مثل هذا العتاب قالوا انّما حصل على ترك التحفّظ من اسباب النسيان، و لعلّ هذا الضرب من السهو موضوع عن الامّة، و قد كان يجوز انّه يؤاخذوا به و لا يكون بموضوع عن الأنبياء لعظم خطرهم، و مثّلوه بقوله: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ الآية» و اشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ، الأولياء، ثمّ الأمثل، فالأمثل، قالوا و لقد كان على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من التشديدات في التكليف ما لم يكن على غيره (انتهى كلامهم) و الحاصل انّ الجواب في الكلمات من اهل الطبقات، انّ النهى في الآية محمولة الى التنزيه، و الأمور المترتّبة بعد الأكل من مقتضيات الحكمة؛ و الّا لا يسع هذا المختصر بيان مختلفات الكلام و اسئلتهم و اجوبتهم.

«وَ قُلْنَا اهْبِطُوا»: من قال انّ جنّة آدم في السماء فسرّ الهبوط بالنزول، من العلو الى السفل، و من قال انّها كانت في الأرض فسّره بالتحوّل من موضع الى غيره كقوله: اهبطوا مصرا، و الخطاب بالجمع، خاطب آدم و حوّاء و إبليس، لأنّ إبليس و لو كان قبل ذلك مخرجا من الجنّة، لكن ما كان إبليس ممنوعا من الدنوّ الى آدم امتحانا، فالخطاب شملهم جميعا او لأنّهم قد اجتمعوا في الهبوط، و ان كانت أوقاتهم متفرّقة، و قيل انّه أراد آدم، و حوّاء، و ذريّتهما، لأنّهما لمّا كانا اصل الذريّة، جعلا كانّهم الانس كلّهم، و الحكم عمّهم و ان لم تكن الذريّة موجودين، و قيل اقلّ الجمع اثنان، فخوطبا

ص: 133

بالجمع، قال الطبرسي و لم يكن اهباطهما الى الأرض على وجه العقوبة، لأنّ الدليل قد دلّ على انّ الأنبياء لا يجوز عليهم القبائح على حال و من أجاز العقاب على الأنبياء فقد أساء عليهم الثناء، و أعظم الفرية على اللّه، و انّما اهبطه ليكون خليفة اللّه في ارضه، و هذه منقبة عظيمة، و انّ المصلحة قد تغيّرت بتناوله الشجرة، فاقتضت حكمته ابتلاء آدم بالتكليف و المشقّة، و سلبه ايّاه من ثياب الجنّة، لأنّ انعامه عليه بذلك ابتداء كان على وجه التفّضل، فله ان يمنع ذلك بتشديد الامتحان و البلوى، و هو تعالى بحسب المصلحة، يسقم بعد الصّحة، و يفقر بعد الإغناء، و يعقّب المحنة بعد المنحة، و له ان يفعل ما يشاء، ثمّ انّه تعالى إذا سلبه ثياب النعمة من الجنّة، البسه خلعة الخلافة الالهيّة.

«بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» يعنى: آدم و ذرّيته، و إبليس و ذرّيته، فعداوة آدم له ايمان، و عداوة إبليس له كفر، و قوله بعضكم لبعض عدوّ حال استغنى فيها عن الواو بالضمير، اى متعادين بعضكم لبعض، و ليس في الآية امر بالتعادى، بل امر بالهبوط و اخبار بحصول العداوة، و انّما اسّس إبليس العداوة حيث استكبر و حسد آدم، فالعداوة حصلت بفعله اللعين، و لو انّ آدم امر بعداوته بعد عداوة إبليس ايّاه، حيث قال سبحانه «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا» و العدوّ يصلح للواحد و الجمع.

«وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ» اى: موضع قرار، و استمتاع الى حين، قيل الى فناء الآجال، و حصول الموت، او المراد مدّة الحيوة، و القبر، الى يوم القيمة. و قوله الى حين، ليعلم آدم انّه غير باق فيها، و لمّا هبطوا وقع آدم بأرض الهند على جبل سرانديب، و لذلك طابت رائحة أشجار تلك الأودية لما معه من علاقة الجنّة، و وقعت حوّاء بجدّه، و بينهما سبعمائة فرسخ، و الحيّة بسجستان او بأصفهان، بناء على صحّة الحيّة، و الطاوس بمرج الهند، و إبليس بسدّ يأجوج و مأجوج فبعد الهبوط ابتلى آدم بالحرث و الكسب، و حوّاء بالحيض و الحبل و الطلق و نقصان العقل، و جعل اللّه قوائم الحيّة في جوفها و جعل قوتها التراب، و قبح رجلي الطاوس، و جعل إبليس بأقبح صورة، و افضح حالة، و كان مكث آدم و حوّاء في الجنّة، من وقت الظهر الى وقت العصر من يوم من ايّام الآخرة، و كلّ يوم من ايّام الآخرة كألف سنة من ايّام الدنيا.

ص: 134

[سورة البقرة (2): آية 37]

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

التلقّى نظير التلقّن، تلقّنت منه اى أخذت و قبلت منه، و أصله من لقيت خيرا، اى قبل و أخذ و تناول آدم على سبيل الطاعة من ربّه كلمات و استقبلها بالقبول، و على قراءة من قرء فتلقّى آدم كلمات لا يكون معنى التلقّى، القبول، بل معناه انّ الكلمات تداركته بالنجاة و الرحمة، و اختلف في الكلمات ما هي، فقيل هي قوله تعالى ربّنا ظلمنا أنفسنا الآية.

و في الكافي عن أحدهما عليهما السلام انّ الكلمات لا اله الّا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و أنت خير الغافرين، لا اله الّا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فتب علىّ انّك أنت التوّاب الرحيم، و في رواية بحقّ محمّد و علىّ و فاطمة و الحسن و الحسين، و في رواية آخر بحقّ محمّد و آل محمّد صلاة اللّه عليهم أجمعين، و في تفسير الامام لمّا زلّت من آدم، الخطيئة و اعتذر الى ربّه قال يا ربّ تب على، و اقبل معذرتي و أعدني الى مرتبتي، و ارفع لديك درجتي، فلقد تبيّن نقص الخطيئة و ذلّها بأعضائي و سائر بدني، قال اللّه يا آدم اما تذكر امرى ايّاك، بان تدعوني بمحمّد و آله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند شدائدك و دواهيك و في النوازل تبهظك، قال آدم بلي، قال اللّه: فبهم اي بمحمّد و علىّ و فاطمة و الحسن و الحسين خصوصا فادعني أجبك الى ملتمسك و ازدك فوق مرادك، فقال آدم: يا ربّ و قد بلغ عندك من محلّهم انّك بالتوسّل بهم تقبل توبتي و تغفر خطيئتي و انا الّذى أسجدت له ملائكتك، و أبحته جنّتك، و زوّجته حوّاء أمتك، و أخدمته كرام ملائكتك، قال اللّه: يا آدم انّما أمرت الملائكة بتعظيمك بالسجود لك، إذ كنت وعاء لهذه الأنوار و لو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك ان أعصمك منها و ان أفطنك لدواعى عدوّك إبليس حتّى تحترز منه، لكنت قد جعلت ذلك و لكنّ المعلوم في سابق علمي يجرى موافقا لعلمي، و لكنّ فالان فبهم ادعني لأجبك، فعند ذلك قال آدم: اللّهم بجاه محمّد و علىّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الطيّبين من آلهم لمّا تفضّلت بقبول توبتي و غفران ذنوبي و زلّتى، و إعادتي من كراماتك الى مرتبتي، فقال اللّه: قد قبلت توبتك، و أقبلت برضواني

ص: 135

عليك، و صرفت آلائي و نعمائي إليك، و أعدتك الى مرتبتك من كراماتي، و وفّرت نصيبك من رحماتي فذلك قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه انّه هو التوّاب الرحيم انتهى. و قد صحّ بالبرهان و القرآن، افضليّة وجود محمّد و اوصيائه صلوات اللّه عليهم و انّهم هم العلّة الغائية لجميع المخلوقات، و تقدّم وجودهم في العوالم الستّة من الأنوار و العقول و الأرواح و الذّر و الطينة و هذا العالم الدنيوي؛ قال امير المؤمنين عليه السّلام انا الّذى ولايتي ولاية اللّه، و قال عليه السّلام: معرفتي بالنورانية معرفة اللّه، و معرفة اللّه معرفتي، فهم احقّ بوسائط الفيض من اللّه على العباد من كلّ خلق خلقه اللّه تعالى، فاحتاج آدم عليه السّلام الى التوسّل بانوارهم فانّ حقائقهم المقدّسة جامعة للمراتب النورانيّة و البشريّة، و اوّل الدرجات الامكانيّة، و فاق فضلهم فضل العالمين؛ و عن ابن مسعود: انّ احبّ الكلام الى اللّه تعالى، ما قال أبونا آدم عليه السّلام حين اقترف الخطيئة سبحانك اللّهم و بحمدك و تبارك اسمك و تعالى جدّك لا اله الّا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي انّه لا يغفر الذنوب الّا أنت.

قال الحقّى في روح البيان: و عن النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ آدم قال بحقّ محمّد ان تغفر لي، قال اللّه و كيف عرفت محمّدا، قال لمّا خلقتني، و نفخت فيّ الروح، فتحت عيني، فرأيت على ساق العرش، لا اله الّا اللّه، محمّد رسول اللّه، فعلمت انّه أكرم الخلق عليك حتّى قرنت اسمه باسمك، فقال اللّه نعم و غفر له بشفاعته، او الكلمات هي قول آدم عليه السّلام عند هبوطه من الجنّة: يا ربّ الم تخلقني بيدك من غير واسطة، قال بلى، قال يا ربّ الم تسكنّى جنّتك، قال بلى، قال الم تسبق رحمتك غضبك، قال بلى، قال أ رأيت ان أصلحت و رجعت و تبت، أ راجعني أنت الى الجنّة، قال نعم؛ فالكلمات هي العهود الانسانيّة و المواثيق الآدميّة، و المناجاة الربّانية، من الخليفة الى حضرت الحقّ تعالى، فتاب آدم الى اللّه بالرجوع و الاعتراف بذنبه و خطاه و سهوه، و قيل الكلمات: سبحان اللّه، و الحمد للّه و لا اله الّا اللّه، و اللّه اكبر.

«فَتابَ عَلَيْهِ»: اى فرجع الربّ عليه بالرحمة و قبول التوبة؛ «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»: اى كثير القبول للتوبة. يقبل مرّة بعد اخرى، و معنى فتاب عليه: فتاب عليهما

ص: 136

و انّما لم يقل عليهما للتغليب كقوله «وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ».

و معنى التوبة: الرجوع فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية الى الطاعة، و إذا وصف به الباري أريد به الرجوع عن العقوبة الى المغفرة؛ قال ابن عباس: بكى آدم و حواء على ما فاتهما من نعيم الجنّة مائتي سنة، و لم يأكلا و لم يشربا، أربعين يوما و لم يقترب آدم حوّاء مائة سنة، قال شهر ابن حوشب: بلغني انّ آدم لمّا هبط الى الأرض مكث ثلاثمائة سنة، لا يرفع رأسه، حياء من اللّه تعالى، قالوا لو انّ دموع اهل الأرض جمعت، لكانت دموع داود اكثر حيث أصاب الخطيئة، و المراد بالخطيئة ترك الأولى، و لو انّ دموع داود و دموع اهل الأرض جمعت لكانت دموع أدم اكثر، فإذا كان حال من اقترف دون صغيرة و هو ترك الأولى، فكيف حال من انغمس في بحر العصيان و الكبائر، و معذلك فقد جعل اللّه برحمته لهذا الدرن و الوسخ صابونا يزيله بشرط الرجوع و الإصلاح بالعمل الصالح فانّه يمحو الخطيئات و انّه تعالى يجيب المضطرّ إذا دعاه و يكشف السوء.

قال الغزاليّ: التوبة يتحقّق في ثلاثة امور، علم، و حال، و عمل، امّا العلم: فهو معرفة ما في الذنب من الضرر و كونه حجابا بين العبد و رحمة الرّب فإذا عرف ذلك معرفة محقّقه حصل له من هذه المعرفة تألمّ القلب بسبب فوات هذا المحبوب، فإذا كان فواته بفعل من جهته تأسّف، فذلك التأسّف يسمّى ندما، و ذلك التأسّف و الندم له تعلّق بالماضي و الحال و المستقبل، امّا تعلّقه بالحال فيترك الذنب الّذى كان ملابسا له، و امّا بالمستقبل فالعزم على ترك ذلك الفعل المفوّت للمحبوب الى أخر العمر، و امّا بالماضي فيتلافى ما فات بالجبر و القضاء ان كان قابلا للجبر، فالعلم و الندم و القصد المتعلّق بالترك في الحال و الاستقبال، و تدارك ما فات بالقضاء و الجبران معان مترتّبة في الحصول و يصدق اسم التوبة على مجموعها، و قد يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده، و يجعل العلم السابق كالمقدّمة، و الترك كالثمرة، و بهذا الاعتبار قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الندم توبة إذ لا ينفك الندم عن علم أوجبه، و عن عزم يتبعه، و قيل، لا بدّ في التوبة من ترك ذلك الذنب، و من الندم على ما سبق، و من العزم على عدم العود الى مثله، و من الإشفاق فيما بين ذلك كلّه

ص: 137

لأنّه مأمور بالتوبة، و لا سبيل له الى القطع بانّه اتى بالتوبة كما لزمه فيكون خائفا، قال اللّه تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ في البحار قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الا أخبركم بدائكم و دوائكم، دائكم الذنوب، و دوائكم الاستغفار، لكن اعلم انّ المرض إذا لم يعالج سريعا، يصعب دفعه عن البدن و لعلّ إذا طال لم يقبل العلاج، و لا ينفع الدرياق كذلك الذنوب إذا كثرت يمرض الروح و لا يقبل العلاج و يهلك صاحبه و أنت سمعت امر التوبة و قبولها لكن تسامح فيها و تؤخّرها و قد اغتررت برجاء كاذب، فانّ من رجى شيئا تقدّم اليه لا ان يتأخّر و يقول أنا راج، فما أشبه حالك بالمدّاح السكران، نعم كما يحصل للبدن امراض تارئة و تدفعها بالأدوية، يحصل ايضا من الذنوب للروح امراض فعالجها سريعا كي لا يفسد، قال امير المؤمنين عليه السّلام: التوبة اسم جامع لمعان ستّة، اوّلهنّ الندم على ما مضى، الثاني، العزم على الترك في المستقبل، الثالث، أداء كلّ فريضة ضيّعتها فيما بينك و بين اللّه، الرابع، أداء المظالم الى المخلوقين في أموالهم و اعراضهم، الخامس، اذابة كلّ لحم و دم نبت من الحرام، السادس، إذاقة البدن الم الطاعات، كما ذاق حلاوة المعصية فانّ هذه التوبة اجمع المسلمون على سقوط العقاب عندها و اختلفوا فيما عداها، و كلّ معصية اللّه فانّه يحب التوبة منها لكونها قبيحة، و عند الاماميّة يصحّ التوبة إذا كانت عن ترك المندوب و يكون ذلك على وجه الرجوع الى فعله و عليهذا يحمل توبة الأنبياء في جميع ما نطق به القرآن، قال الطبرسي و إسقاط العقاب عند التوبة تفضّل من اللّه، غير واجب عليه عندنا، لكن عند جميع المعتزلة واجب، و قد وعد اللّه بذلك، و ان كان تفضّلا، علمنا انّه لا يخلف الميعاد، و امّا التوبة عن قبيح مع الاقامة على قبيح أخر يعلم او يعتقد قبحه، فعند اكثر المتكلّمين هي صحيحة، و عند ابى هاشم و أصحابه لا يصحّ و اختلفوا في التوبة عند ظهور اشراط الساعة و علاماتها هل تصحّ أم لا، فقال الأكثرون يحجب عنها عند الآيات كما روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال بادروا بالأعمال ستّا، طلوع الشمس من مغربها، و الدجّال، و الدخان، و دابّة الأرض و خويصة أحدكم يعنى الموت، و امر العامّة يعنى القيامة، فالعبد لا بدّ و ان يكون مشتغلا بالتوبة في كلّ حين و أوان، روى انّ رجلا سئل امير المؤمنين عليّا عليه السّلام عن الرجل يذنب ثمّ يستغفر، ثمّ يذنب ثمّ يستغفر، ثمّ يذنب ثمّ يستغفر، فقال

ص: 138

امير المؤمنين، يستغفر ابدا حتّى يكون الشيطان هو الخاسر، فيقول لا طاقة لي معه، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم توبوا الى ربّكم فانّى أتوب اليه في كلّ يوم مائة مرّة، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه ليغان على قلبي فاستغفر اللّه في اليوم مأة مرّة و تاب و آب بمعنى رجع، و الغين شي ء يغشى القلب فيغطّيه بعض التغطية و هو كالغيم الرقيق الّذى يعرض في الجوّ فلا يحجب عين الشمس و لكن يمنع كمال ضوئها و ذكروا لهذا الحديث تأويلات.

قال الرازي: أحدها انّ اللّه اطّلع نبيّه على ما يكون في امّته من بعده من الخلاف و ما يصيبهم فكان إذا ذكر ذلك وجد غينا في قلبه فاستغفر لأمّته، و ثانيها انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ينتقل من حالة الى حالة ارفع من الاولى فكان الاستغفار لذلك، و ثالثها انّ الغين عبارة عن السكر الّذى كان يلحقه في طريق المعرفة و المحبّة حتّى يصير فانيا عن نفسه بالكلية فإذا عاد الى الصحو، كان الاستغفار من ذلك الصحو، و هذا المعنى تأويل اهل الحقيقة، و رابعها و هو معنى اهل الظاهر انّ القلب لا ينفك عن الخطرات و الخواطر و انواع الميل و الإرادات فكان يستعين بالرّبّ في دفع تلك الخواطر انتهى.

و سئل ابن مسعود عن توبة النصوح قال: هو ان يهجر الذنب، و يعزم على ان لا يعود اليه ابدا؛ روى انّ جبرئيل سمع ابراهيم و هو يقول، يا كريم العفو، فقال جبرئيل او تدرى ما كريم العفو، فقال لا يا جبرئيل، قال ان يعفو عن السيّئة و يكتبها حسنة، أقول و هذا البيان مشروط بالتوبة عن السيّئة لا مطلقا، و في المفاتيح عن ابى سعيد الخدري قال، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة و تسعين نفسا فسأل عن اعلم اهل الأرض فدلّ على راهب، فأتاه، فقال انّه قتل تسعة و تسعين نفسا، فهل للقاتل من توبة، فقال لا، فقتله، فكمل المائة، ثم سئل عن اعلم اهل الأرض، فدلّ على رجل عالم فأتاه فقال انّه قتل مائة نفس، فهل لي من توبة، فقال نعم، و من يحول بينك و بين التوبة، انطلق الى ارض كذا و كذا، فانّ بها ناسا يعبدون اللّه، فاعبده معهم، و لا ترجع الى أرضك فانّها ارض سوء فانطلق حتّى اتى نصف الطريق، فأتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه الى اللّه، و قالت

ص: 139

ملائكة العذاب انّه لم يعمل خيرا قط. فأتاه ملك في صورة آدميّ و توسّط بينهم، فقال قيسوا ما بين الأرضين فالى ايّهما كان ادنى فهو له، فقاسوه فوجدوه ادنى الى الأرض الّتى أراد و قصد فقبضته ملائكة الرحمة، رواه مسلم انتهى.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 38]

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

استيناف مبنيّ عن سؤال ينصحب عليه الكلام كانّه قيل فما وقع بعد قبول توبته فقيل «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها» من الجنّة «جَمِيعاً» و في تكرير الهبوط فقيل الهبوط الأول، من الجنّة الي السماء و هذا لهبوط من السماء الى الأرض، و قيل: التكرير للتأكيد و الخطاب لآدم و حوّاء و ذريّتهما باعتبار ما يكون، و قيل: الخطاب لآدم و حوّاء، و إبليس و الحيّة، و الطاوس، و المراد اهبطوا أنتم أجمعون، و لذلك لا يستدعى اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد، و كرّر الأمر بالهبوط إيذانا بتحقّقه لا محالة و دفعا لما وقع في امنيّته عليه السّلام من استتباع قبول التوبة للعفو عن الهبوط و لأنّ الأمر الثاني بالهبوط، مشعر بالتكليف و الابتلاء بالعبادة، و الثواب، و العقاب، و لذلك اقترن الهبوط الثاني بإيتاء الهدى المؤدّى الى النجاة، و ما فيه من وعيد العقاب، فليس بمقصود من التكليف قصدا اوّليا بل انّما هو دائر على سوء اختيار المكلّفين، قوله «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ»:

الفاء لترتيب ما بعد الهبوط، و ان، شرطيّة، و دخلت، ما، ليصحّ دخول نون التأكيد في الفعل، و لو أسقطت، ما، لم يجز دخول النون، كقولك زيد ليأتينّك و لو قلت بغير لام لم يجز، فدخول، ما، هنا، كدخول اللام هناك، و المعنى أن ياتينّكم «مِنِّي هُدىً» فيدخل في الهدى كلّ دلالة و بيان، فيشمل دليل العقل و كلّ كلام ينزل من اللّه، و الحقّ انّ المراد من الهدى، الأنبياء، فحينئذ المخاطب آدم و ذريّته، اى ان أتاكم رشد و بيان شريعة برسول ابعثه إليكم، و كتاب أنزله عليكم و جواب الشرط هو الشرط مع جوابه؛ «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» اقتدى بشريعتى، و كرّر لفظ الهدى و لم يأت بالضمير بان يقول فمن تبعه لأنّه أراد بالثاني اعمّ من الأوّل، و هو ما اتى به الرسل و اقتضاه العقل السليم بمتابعة الرسل من الأدلّة الآفاقيّة و الأنفسيّة «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ»: في الآخرة

ص: 140

«وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» امنين عن الفزع الأكبر.

من آيات الدالة على عدم التفويض المطلق، و على عدم الجبر قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» و كذلك قوله تعالى:

هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ و يُؤْتُونَ الزَّكاةَ* الآية، و كلّ هذه العبارات قاضية ببطلان الجبر و التفويض، و اثبات الأمر بين الأمرين فانّ قوله هدى يدلّ على بطلان التفويض المطلق، إذ مع كون الهداية من اللّه، مفتقرة الى الواجب في وجودها و بقائها و الممكن يحتاج الى المؤثّر كما قال عليه السّلام لو لا انّا نزداد لا نفدنا او لينفد ما عندنا، و الحاصل انّ إيصال الفيض من خزانة الأمر و عالم المشيّة، و هذا البيان مبطل للتفويض.

و امّا ما يبطل الجبر فهو قوله: للمتّقين، إذ التقوى لا يتحقّق الّا بالاختيار و المدح المستفاد من الآية ايضا لا يصدق على التقوى الغير الاختياري لأنّ نسبة الفعل الى المتّقين يدلّ على اختيارهم في ذلك، و الّا لم يصحّ استناد الايمان بالعباد، و مع ملاحظة مجموع ذلك يستنبط معنى الأمر بين الأمرين، و معرفة ذلك يتوقّف على معرفة حقيقة المشيّة و الارادة، و الاذن، و الأجل، و القضاء و القدر، و الاستطاعة، و التوفيق؛ و الخذلان و السعادة و الشقاوة، و غير ذلك مما يتعلّق بهاتين المسألتين.

تحقيق شريف- و هو انّه قد ثبت بالبراهين انّ الأئمّة كانوا عالمين بجميع ما كان و ما يكون و انّهم بمنزلة الّزيت في المشية، و لا يجوز عليهم السهو و النسيان، و قد صحّ ايضا انّ إلقاء النفس الى التهلكة غير جائز عقلا و شرعا، فكيف اقدموا على إهلاك أنفسهم، و لدفع هذا الأشكال وجوه: الأول انّ إلقاء النفس الى التهلكة، حكم ظاهرىّ و ليس من المستقلات العقليّة الغير القابليّة للتخصيص، و لذا ترى انّ الجهاد و الدفاع واجبان و ان استلزما الضرر، و ذلك من جهة الرعاية المصلحة القويّة الراجحة على مفسدة إهلاك النفس، كما انّ التمكين من القصاص و الحدّ واجب شرعا و العقل لا يحيط بالمصالح الواقعيّة، و انّما الملازمة بين حكمى الشرع و العقل ظاهريّة فالوجوب و التحريم ظاهريّان ثابتان ما لم يحكم الشرع بخلافهما فحينئذ مع علمهم بقضاء الحكمة البالغة

ص: 141

المتعلّقة بالشهادة و تعلّق القضاء الحتمىّ الموجب للمصلحة لا مناص لهم من تحمّله كي تجرى تقادير اللّه.

الثاني: انّ تلك القواعد مثل حرمة إلقاء النفس الى التهلكة او الضرر و ما أشبه ذلك من القواعد القابلة للتخصيص و هي من قبيل المقتضى فلو زاحمها المصلحة القويّة الراجحة على ذلك يقتضى التكليف ملاحظة الرجحان كما هو القاعدة في جريان قاعدة التزاحم في سائر المقامات.

الثالث: انّ رضاهم و تكليفهم تابع لرضى اللّه، و لا يشاؤن الّا ان يشاء اللّه، فعلمهم ليس مانعا من جريان قضاء اللّه، و ارادته، و اجله، و كتابه، عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بامره يعملون، الا ترى انّهم كانوا يحفظون أنفسهم عن الضرر و الهلكة في عامّة المقامات و ربما دعوا اللّه سبحانه في دفعه و يدفعه عنهم لما علموا انّ ذلك ليس محتوما عليهم، و ربما يسعون في سلوك مسالك الضرر لعلمهم بانّ اللّه قد كان قدّر ذلك عليهم، و قضاه، و لا بدّ ان يجرى، و علموا انّ ذلك التقدير مبنيّ على الحكم و المصالح.

الرابع: انّ ذلك ليس ضررا، بل بمنزلة المعاوضة الرابحة، قال اللّه: انّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأنّ لهم الجنّة، و انّما هي تبديل الفاني بالحيوة الباقية الا ترى انّ أداء الخمس و الزكاة و أشباههما ليس ضررا، بل تبديل بنفع عظيم، و الى هذا المعنى أشار علىّ عليه السّلام بقوله: فزت و ربّ الكعبة، و قال عليه السّلام: ليس هذا موضع الصبر انّما هو موضع البشرى انتهى. رجعنا الى التفسير.

[سورة البقرة (2): آية 39]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)

«وَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ذكر سبحانه قسيم فمن تبع هداي اى: و من لم يتبع و إيراد الموصول بصيغة الجمع للاشعار بكثرة الكفرة اى: و الذين كفروا برسلنا المرسلة إليهم «وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة عليهم، و كفروا جنانا، و كذّبوا لسانا، «أُولئِكَ» اشارة الى الموصول «أَصْحابُ النَّارِ» ملازموها، و ملابسوها، فسمّوا بالأصحاب لاتصالهم بها و بقائهم فيها «هُمْ فِيها» اى في النار «خالِدُونَ» دائمون، و الجملة في حيّز النصب على الحاليّة و في هاتين الآيتين دلالة على انّ الجنّة في جهة عالية،

ص: 142

دلّ عليه اهبطوا منها، و انّ متّبع الهدى مأمون العاقبة، لقوله فلا خوف، و انّ عذاب النار دائم، و الكافر مخلّد فيه، و انّ غيره لا يخلّد فيه، بمفهوم قولة تعالى «هُمْ فِيها خالِدُونَ» فانّه يفيد الحصر.

حكى انّ مالك ابن دينار مرّ يوما على صبيّ و هو يلعب بالتراب يضحك تارة و يبكى اخرى، قال مالك فهممت ان أسلّم عليه، فامتنعت نفسي تكبّرا، فقلت يا نفس كان النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسلّم على الصغار و الكبار، فسلّمت عليه، فقال و عليك السلام يا مالك، فقلت من اين عرفتني و لم تكن رأيتنى، فقال حيث التفت روحي بروحك في عالم الملكوت، عرّف بيني و بينك الحىّ الّذى لا يموت، فقلت ما الفرق بين العقل و النفس، قال نفسك الّتى منعتك عن السلام، و عقلك الّذى بعثك عليه، فقلت ما بالك تلعب بهذا التراب، فقال لأنّا منه خلقنا و اليه نعود، فقلت أراك تضحك تارة و تبكى اخرى، قال نعم: إذا ذكرت عذاب ربّى بكيت، و إذا ذكرت رحمته ضحكت، فقلت يا ولدي اىّ ذنب لك حتى تبكى، فقال يا مالك لا تقل هذا فانّى رأيت امّى لا توقد الحطب الكبار الّا و معه الحطب الصّغار، و نقل مثل هذه الحكاية يعنى فقرة الاخيرة منها عن يحيى بن زكريّا.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 40]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

«يا بَنِي إِسْرائِيلَ» الابن، و الولد، و النسل، و الذريّة متقاربة المعاني، الّا انّ الابن للذكر، و الولد يقع على الذكر و الأنثى، و النسل و الذريّة يقع على الجميع، و الابن أصله من البناء، و هو وضع الشي ء على الشي ء و الأبن مبنيّ على الأب، لأنّ الابن فرع الأب، فبنى عليه، و البنوّة مصدر الأبن و ان كان من الياء كالفتوّة مصدر الفتى؛ و إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل، و اسرا معناه العبد، و ايل:

اللّه، بلغة العبرانيّة، فمعناه عبد اللّه، و كذلك جبرئيل و ميكائيل، و لمّا ذكر انعاماته العامّة بذكر دلائل التوحيد و ما شرّف به آدم عليه السّلام عقّبها بذكر الإنعامات الخاصّة على إسلاف اليهود الذين في عهد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الخطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب و حولها من بنى قريضة و النضير و هم كانوا من أولاد يعقوب و

ص: 143

تخصيص هذه الطائفة بالذكر لما انّهم اكثر الناس كفرا بنعمة اللّه.

«اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ»: الذكر بضم الذال بالقلب خاصّة بمعنى الحفظ الّذى يضادّ النسيان، و الذكر بكسر الذال، يقع على الذكر باللسان، اى احفظوا بالجنان، و اشكروا باللسان نعمتي، و النعمة اسم جنس بمعنى الجمع «الَّتِي أَنْعَمْتُ» بها «عَلَيْكُمْ» و فيه اشعار بانّهم قد نسوها بالكلّية و لم يخطروها بالبال، و أهملوا شكرها «وَ أَوْفُوا» اتمّوا و لا تتركوا «بِعَهْدِي» الّذى قبلتم: و هو ما عهده إليهم في التورية من اتّباع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و العهد حفظ الشي ء و مراعاته حالا فحالا؛ «أُوفِ بِعَهْدِكُمْ»: اتمّم جزائكم بحسن الاثابة و دخول الجنّة، و العهد يضاف الى المعاهد و المعاهد، و هو هنا مضاف الى المفعول، كما انّ العهد الأوّل مضاف الى الفاعل، فانّ اللّه قد عهد إليهم و إلينا بالإيمان و العمل الصالح، بنصب الدلائل و إرسال الرسل و وعد للكلّ بالثواب على الحسنات، فاوّل مراتب العهد منّا، هو الإتيان بكلمتي الشهادة، و آخرها الاستغراق في بحر التوحيد بحيث نغفل عن أنفسنا، فضلا عن غيرنا، و منه تعالى حقن المال و الدم في الدنيا، و الفوز باللقاء الدائم في الآخرة؛ «وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ»: اى ارهبونى فيما تأتون و تذرون خصوصا في نقض العهد و حذف الياء في فارهبون تخفيفا لموافقة رؤس الآي كانّه قيل: ان كنتم ترهبون شيئا فارهبونى، و الآية متضمّنة على وجوب الشكر، و الوفاء بالعهد، و ان لا يخاف العبد الّا اللّه للحصر المستفاد من تقديم ايّاى، و التضمّن للوعد بقوله: أوف، و الوعيد بقوله: و ايّاى فارهبون، و النعم الّتى أنعمها على أسلافهم معلومة مثل انجائهم من فرعون، و كثرة الأنبياء منهم، و انجائهم من الغرق، و إنزال المنّ و السلوى عليهم و كون الملك فيهم منهم في زمن سليمان و غير ذلك؛

[سورة البقرة (2): آية 41]

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

ثمّ قال مخاطبا لليهود «وَ آمِنُوا» يا بنى إسرائيل «بِما أَنْزَلْتُ» اى القران «مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» اى حالكون القرآن مصدّقا للتوراة، لأنّ القرآن نازل

ص: 144

حسبما نعت في التوراة، فانّ ايمانهم بما معهم ممّا يقتضى الايمان بالقرآن.

قال الرازي: قد اثبت في التوراة و في الكتب المتقّدمة من وصف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كتابه، و البشارة بمقدمه مثل ما جاء في الفصل التاسع من السفر الأوّل من التوراة، انّ هاجر لمّا عضبت عليها سارة، تراءى لها ملك، فقال لها يا هاجر، انّى تريدين، و من اين أقبلت، قالت اهرب من سيّدتى سارة، فقال لها: ارجعي الى سيّدتك، و اخفضى لها، فان اللّه سيكثر زرعك و ذرّيتك، و ستحبلين و تلدين ابنا و تسمّيه إسماعيل من أجل انّ اللّه سمع تبّتلك و خشوعك، و هو يكون عين الناس، و يكون يده فوق الجميع و يد الجميع مبسوطة اليه بالخضوع، و معلوم انّ إسماعيل و ولده لم يكونوا متصرّفين في معظم الأمم، و لا كانوا مخالطين للكلّ على سبيل الاستيلاء بحيث يكون يده فوق الجميع، و انّهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية و لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق و أوائل الشام، الّا على خوف، و ليس يجوز ايضا للملك ان يبشّر من قبل اللّه بالظلم و الجور بناء على انّ من أولاد إسماعيل من العرب كان فيهم مستولين بالغلبة و الجاهليّة، فلو لم يكن النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك المبشّر، لكانت هذه المخالطة منهم للأمم، و من الأمم منهم معصية للّه و خروجا عن طاعة اللّه الى طاعة الشيطان، و الملك يتعالى من ان يبشّر بما هذا سبيله، فتحقّق انّ المراد من بشارة الملك وجود محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذى من نسل إسماعيل، و ايضا جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: انّ الرّب إلهكم يقيم لكم نبيّا مثلي من بينكم، و من إخوانكم، و في هذا الفصل: انّ الربّ تعالى قال لموسى انّى مقيم لهم نبيّا مثلك من بين إخوانهم، و ايّما رجل لم يسمع كلماتي الّتى يؤدّيها عنّى ذلك الرّجل باسمي أنا أنتقم منه، و هذا الكلام يدلّ على انّ النّبى الّذى يقيمه اللّه ليس من بنى إسرائيل، كما انّ من قال لبنى هاشم انّه سيكون من إخوانكم امام، فهم من هذا الكلام انّه لا يكون من بنى هاشم، ثمّ انّ يعقوب هو إسرائيل و لم يكن له أخ الّا العيص: و لم يكن للعيص ولد من الأنبياء سوى ايّوب، و انّه كان قبل موسى، فلا يجوز ان يكون موسى مبشّرا به، و امّا إسماعيل فانّه كان أخا لإسحاق والد يعقوب، ثمّ انّ كلّ نبىّ بعث بعد موسى، كان من بنى إسرائيل، فالنّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

ص: 145

ما كان منهم لكنّه كان من إخوانهم لأنّه من ولد إسماعيل الّذى هو أخو اسحق، فان قيل قوله من بينكم يمنع من ان يكون المراد محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه لم يقم من بين بنى إسرائيل، قلنا بلى: قد قام من بينهم لأنّه ظهر بالحجاز فبعث بمكّة، و هاجر الى المدينة، و بها تكامل امره، و قد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر و بنى قينقاع و النضير و غيرهم و الحجاز يقارب الشام و جمهور اليهود كانوا، إذ ذاك، هناك، فإذا قام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحجاز، فقد قام من بينهم، و ايضا فانّه إذا كان من إخوانهم، فقد قام من بينهم، فانّه ليس ببعيد منهم؛ و قال في الفصل العشرين من هذا السفر: انّ الرّب تعالى جاء في طور سيناء، و و طلع لنا من ساعير و ظهر من جبال فاران، و صفّ عن يمينه عنوان القدّيسين، فمنحهم العزّ، و حبّبهم الى الشعوب، و دعا لجميع قدّيسيه بالبركة؛ و وجه الاستدلال انّ جبل فاران هو بالحجاز لأنّه مذكور في التوراة: إنّ إسماعيل (ع) تعلّم الرومي في بريّة فاران، و معلوم انّه انّما سكن بمكّة، إذا ثبت هذا فقوله فمنحهم العزّ لا يجوز ان يكون المراد إسماعيل (ع) لأنّه لم يحصل عقيب سكنى إسماعيل هناك عزّ و لا اجتمع هناك ربوات المقدّسين، فوجب حمله على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال الرازي: و في كتاب حبقوق بيان ما قلنا، و هو جاء اللّه من طور سيناء و القدس من جبل فاران، لو انكشفت السماء من بهاء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و امتلأت الأرض من حمده، يكون شعاع منظره مثل النور، يحفظ بلده بعزّه، تسير المنايا امامه؛ و يصحب سباع الطير اجناده، قام فمسح الأرض، و تأمل الأمم، و بحث عنها، فتضعضعت الجبال القديمة، و اتضعت الروابي الدهريّة، و تزعزعت ستور اهل مدين، ركبت الخيول، و علوت مراكب الانقياد و الغوث و ستنزع في قسّيك إغراقا و نزعا، و ترتوى السهام بأمرك يا محمّد ارتواء و تخور الأرض بالأنهار و لقد رأتك الجبال فارتاعت، و انحرف عنك شؤبوب السّبل؛ و نفرت المهارى نفيرا و رعبا، و رفعت أيديها وجلا و فرقا، و توقّفت الشمس و القمر عن مجراهما، و سارت العساكر في برق سهامك و لمعان بيانك، تدوخ الأرض غضبا، و تدوس الأمم زجرا، لأنّك ظهرت بخلاص أمّتك و إنقاذ تراب آبائك، هكذا نقل عن ابن رزين الطبري.

قال الرازي: و امّا النصارى فقال ابو الحسين في كتاب الغرر قد رأيت في نفولها

ص: 146

و ظهر من جبال فاران لقد تقطّعت السماء من بهاء محمّد المحمود، و ترتوى السهام بأمرك المحمود، لأنّك ظهرت بخلاص امّتك، و إنقاذ مسيحك، فظهر من هذا الكلام انّ قوله تعالى في التوراة: ظهر الرّب من جبال فاران ليس معناه ظهور النار منه، كما زعمه اليهود لأنّهم يقولون انّ النار لمّا ظهرت من طور سيناء ظهرت ايضا من ساعير نار و من جبل فاران، و هم لايقاع الشكوك في محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اوّلوا هذه العبارة بظهور النار في جبل فاران، فظهر ممّا نقل ابو الحسين عن نقول النصارى انّه ليس معناه ظهور النار منه و لو كان ظهر منه النار على قول اليهود؛ بل معناه ظهور شخص موصوف بهذه الصفات، و ما ذاك الّا رسولنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه كيف يوصف اللّه بأنّه يركب الخيول، و جاء في كتاب اشعياء في الفصل الثاني و العشرين منه قومي فازهرى مصاحبك يريد مكّة، فقد دنا وقتك، و كرامة اللّه طالعة عليك، فقد تجلّل الأرض الظلام، و غطى على الأمم، الضباب، و الربّ يشرق عليك إشراقا و يظهر كرامته عليك، تسير الأمم الى نورك و الملوك الى ضوء طلوعك، و ارفعى بصرك الى ما حولك، و تأمّلي فانّهم مستجمعون عندك، و يحجّونك و يأتيك ولدك من بلاد بعيدة لأنّك امّ القرى فأولاد ساير البلاد كانّهم أولاد مكّة، يميل إليك ذخائر البحر، و يحجّ إليك عساكر الأمم، و يساق إليك كباش مدين، و يأتيك اهل سبا، و يتحدّثون بنعم اللّه، و تسير إليك أغنام فاران، و يرفع الى مذبحى ما يرضيني، و أحدث حينئذ لبيت محمدتى حمدا، و وجه الاستدلال انّ هذه الصفات كلّها موجودة لمكّة، فانّه قد حجّ إليها عساكر الأمم، و مال إليها ذخائر البحر، و قوله و أحدث لبيت محمدتى حمدا: معناه انّ العرب كانت تلبّى قبل الإسلام فتقول لبّيك لا شريك لك الّا شريك هو لك، تملكه و ما ملك، ثم صار في الإسلام لبّيك اللهم لبّيك لا شريك لك لبّيك، فهذا هو الحمد الّذى حدّده اللّه لبيت محمدته؛ روى السمان في تفسيره في السفر الاول من التوراة: انّ اللّه تعالى اوحى الى ابراهيم (ع) قد أجبت دعائك في إسماعيل (ع)، و باركت عليه، فكبّرته و عظّمته جدّا، و سيلد اثنى عشر عظيما و اجعله لامّة عظيمة، و الاستدلال به انّه لم يكن في ولد إسماعيل (ع) من

ص: 147

كان لأمّة عظيمة غير نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و امّا دعاء ابراهيم و إسماعيل عليهما السلام فكان لرسولنا لمّا فرغا من بناء الكعبة، فهو قوله ربّنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلّمهم الكتاب و الحكمة و يزكّيهم انّك أنت العزيز الحكيم، و لهذا كان يقول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انا دعوة ابراهيم (ع) و بشارة عيسى (ع)، و هو قوله و مبّشرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال المسيح للحواريّين: انا اذهب و سيأتيكم الفارقليط روح الحقّ الّذى لا يتكلّم من قبل نفسه و الفارقليط معناه الّذى يميّز بين الحقّ و الباطل و قيل: معناه الشافع المشفّع و هذه الكلمة فاروقليط و فاروق المميّز، و ليط معناه التحقيق في الأمر.

(فائدة) و لو قيل لو كان الأمر كما قلتم، فكيف يجوز من جماعتهم جحد هذا الأمر، فالجواب انّ هذا العلم كان نصّا خفيّا لا جليّا في اغلب آياته، فجاز إيقاع الشكوك و الشبهات فيه، و دواعي إيقاع الشبهات كانت لأهلها كثيرة، و ايضا انّ هذا العلم كان حاصلا عند العلماء بكتبهم، لكن لم يكن لهم العدد الكثير، فجاز منهم كتمانه انتهى.

قوله: و «آمِنُوا» يا بنى إسرائيل «بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» من كتاب و رسول تجدونه مكتوبا في التوراة و الإنجيل، اى حالكون القرآن مصدّقا للتوراة، و مذكور في القرآن انّ موسى و عيسى حقّ، و انّ التوراة و الإنجيل حقّ، فكان الايمان بالقرآن مؤكّدا للايمان بالتوراة و الإنجيل، هذا احد الوجهين في تفسير مصدّقا لما معكم، و الوجه الثاني: انّه حصلت البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالقرآن في التوراة و الإنجيل، فالإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن، ايمان و تصديق للتوراة و الإنجيل، و تكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن، تكذيبا للتوراة و الإنجيل، و الوجه الثاني انسب.

«وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ»: اى بالقرآن، فانّ وزر المقتدى يكون على المبتدي، فان قيل كيف قال اوّل كافر و قد سبقهم مشركو العرب: اى لا تكونوا اوّل كافر به من اهل الكتاب، و قيل وجه آخر و هو انّ هذا تعريض لهم بانّه كان يجب ان يكونوا اوّل من يؤمن، لمعرفتهم بخبر نزول القرآن، لأنّهم كانوا هم المبشّرون بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بكتابه، فلمّا بعث كان أمرهم على العكس، لقوله: فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا و قيل و لا تكونوا مثل اوّل كافر به، و قيل الضمير راجع الى كتابهم، يعنى لا تكونوا

ص: 148

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 199

اوّل من كذّب كتابه، لأنّ تكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تكذيب التوراة، لأنّ فيه بشارة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتكذيبه تكذيب كتابهم، و قيل وجه آخر: اى لا تكونوا اوّل من جحد مع المعرفة، لأنّ كفر قريش و غيره في الغالب مع الجهل، لامع المعرفة، بخلاف اهل الكتاب، فانّ فيهم علماء، نحارير، احبار، و فيهم من يستفتح بمقدمه الشريف، و يبشّر بزمانه.

«وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي»: اى لا تأخذوا لأنفسكم بدلا منها «ثَمَناً قَلِيلًا» من الحظوظ الدنيويّة، و كانت عامّتهم يعطون الأحبار و علمائهم، من زروعهم و ثمارهم و يهدون إليهم الهدايا و الرشى على تحريفهم الكلم، و تسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع و الحدود، و كان ملوكهم يجرون عليهم الرواتب و الأموال ليكتموا و يحرّفوا حكى انّ كعب ابن الأشرف قال لأحبار اليهود و هم جماعة، ما تقولون في محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالوا انّه نبىّ، قال لهم كان لكم عندي صلة و عطيّة لو قلتم غير هذا، قالوا أجبناك من غير تفكّر، فأمهلنا نتفكّر و ننظر في التوراة، فخرجوا و بدّلوا نعت النبىّ، ثم رجعوا و قالوا غير قول الأوّل، فاعطى كلّ واحد منهم صاعا شعيرا و اربعة اذرع من الكرباس، فهو القليل الّذى ذكره اللّه في هذه الآية.

«وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ»: بالإيمان و الاعراض عن حطام الدنيا، و إعادة لأنّ معنى الأوّل اخشوني في نقض العهد، و هذا معناه في كتمان نعت النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و في الآية دلالة على تحريم أخذ الرشى في الدين، لأنّه لا يخلو امّا ان يكون امرا يجب إظهاره او يحرم إظهاره، فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام، و هذا الخطاب يتوجّه ايضا على علماء السوء من هذه الامّة إذا اختاروا الدنيا على الدين، فتدخل فيه الشهادات، و القضايا، و الفتاوى، و غير ذلك؛

[سورة البقرة (2): آية 42]

وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

«وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ»: اى لا تخلطوا الحقّ المنزل، بالباطل الّذى تخترعونه، و تكتبونه، حتّى لا يميّز بينهما، و تجعلوا الحقّ ملتبسا بسبب الباطل الذي تكتبونه في خلاله، و تأوّلونه بغير ما هو صحيح؛ «وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ»: بإضمار، لا، و هو نهى عن الكتمان، في اظهار الحقّ؛

ص: 149

«وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»: حالكونكم عالمين بأنّكم، لابسون، كاتمون، و الخطاب و ان كانت خاصّة ببني إسرائيل، فهي تتناول من فعل فعلهم، من تغيير حقّ و إبطاله؛ فمن أخذ رشوة، على تغيير حق و إبطاله، او امتنع من تعليم ما وجب عليه، او أداء ما علمه، و قد تعيّن و وجب عليه ادائه، حتّى يأخذ عليه اجرا، فقد دخل في مقتضى الآية، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يمنعنّ أحدكم هيبة احد، ان يقول، او يقوم بالحقّ حيث كان، و قيل: معنى قوله «وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ». اى و أنتم تعلمون ما نزّل ببني إسرائيل، حين عصوا، من المسخ و غيره، مثل كفّار اهل المائدة، و لعنهم عيسى عليه السّلام، فمسخوا خنازير، و كانوا خمسة آلاف رجل، ما فيهم، امراة، و لا صبيّ، و عمدة السبب، انّهم اصطلحوا على الكفّ عن نهى المنكر، كما قال اللّه: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، اى: لا ينهى بعضهم بعضا عن قبيح يعلمونه، في الحديث: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحشر يوم القيمة، أناس من امّتى، من قبورهم الى اللّه، على صورة القردة، و الخنازير، و ذلك بما داهنوا اهل المعاصي، و كفّوا عن نهيهم، و هم يستطيعون، او، و أنتم تعلمون البعث و الجزاء.

[سورة البقرة (2): آية 43]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

قوله تعالى: الصلاة عند اكثر اهل اللغة، الدعاء، و قيل، أصلها اللزوم، فكان معنى الصلاة في الأصل ملازمة العبادة على وجه امر اللّه به، و في اصطلاح الشرع، اسم لهذه الهيئة المخصوصة بآدابها؛ «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ»: خطاب لبنى إسرائيل، اى، ادّوها، و اقبلوها، و اعتقدوا وجوبها، و افعلوها كصلوة المسلمين، فانّ غيرها، كلا صلاة، «وَ آتُوا الزَّكاةَ»: كزكوة المسلمين، على ما بيّنه النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكم، و هذا حكم جميع ما ورد في القرآن من الاحكام مجملا، فانّ بيانه موكول الى النبىّ، كما قال: و ما آتيكم الرسول فخذوه و ما نهيكم عنه فانتهوا، فلذلك أمرهم بالصلوة، و الزكاة، على طريق الإجمال، و أحال في التفصيل الى بيانه،

ص: 150

«وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ»: و انّما خصّ الركوع بالذكر، و هو من افعال الصلاة بعد قوله و اقيموا الصلاة لاحد وجوه، الأوّل: انّ الخطاب لليهود، و لم يكن في صلاتهم ركوع، و كان الأحسن ذكر المختصّ، دون المشترك؛ و ثانيها: انّه عبّر بالركوع عن الصلاة بقول القائل فرغت من ركوعي، اى صلاتي، و انّما قيل للركوع، الصلاة، لأنّ الركوع اوّل ما يشاهد من الأفعال الّتى يستدلّ بها على انّ الإنسان يصلّى فكأنّه كرّر ذكر الصلاة و الأمر بها تأكيدا، و اشارة الى الصلاة الشرعيّة اى صلّوا مع هؤلاء المسلمين، الراكعين، حتّى تكون الصلاة متخصّصة بالصلوة المتقرّرة في شرع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لا صلاتهم، و ثالثها: انّه حثّ على صلاة الجماعة، فانّ صلاة الجماعة، تفضّل صلاة الفذ بسبع و عشرين درجة لما فيها من تظاهر النفوس في التعبّد، فانّ الصلاة، كالغزو، و المحراب كمحلّ الحرب، و لا بدّ للقتال مع العدوّ، من صفوف الجماعة، فالجماعة قوّة قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما اجتمع من المسلمين في جماعة، أربعون رجلا، الّا و فيهم رجل، مغفور له، فاللّه تعالى أكرم من ان يغفر له، و يردّ الباقي خائبين، و في الحديث: ما افرض اللّه على خلقه، بعد التوحيد، فرضا احبّ اليه من الصلاة، و لو كان شي ء احبّ اليه من الصلاة، لتعبّد به ملائكته، فمنهم راكع، و ساجد و قائم، فكان من شأن المصلى، ان يبالغ في الحضور، فكان السلف، لو شغلهم في الصلاة ذكر مال، يتصدّقون به تكفيرا، و لا ينظر اللّه تعالى، الى صلاة، لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه، و بعد قبول العبد، التوحيد، و هو الركن الأعظم، كلّف بالصلوة، ثمّ بالزكوة؛ لأنّ فيها إصلاح النفس، بازالة شحّها، و إصلاح الغير، بقوام معيشته، و إيصال حقّه اليه:

و الصلاة: قربان كلّ تقيّ، و خير موضوع، فاجتهد في هذا العمل، و دع الكسالة، حتّى توثّق نفسك بقيد التقوى، فان تكن رأيت احوال السابقين المتداركين ليومهم الآتي، كيف تحمّلوا المشقّات، خوفا من التقصير، و الحرمان، من ذخيرة المعاد فقد سمعت بأحوالهم، قال محمّد التستري: رأيت كهلا اجهد به العبادة في الطواف، و

ص: 151

اصفرّ لونه، و بيده عصا، و هو يطوف معتمدا بعصاه، قال: فسئلت عنه، من اين أنت، قال: من أقصى بلاد خراسان، من نواحي المشرق، فقلت له، في كم قطعت هذه المسافة، قال خرجت من بلدي، و لم يكن في رأسي و لحيتي شيب، فقلت هذه و اللّه الطاعة، فضحك، و إنشاء يقول:

زر من هويت و ان شتّت بك الدارانّ المحب لمن يهواه زوّار.

و اعلم انّ خراب الدين، بشهوتين الفرج و البطن، و الاولى هي الكبرى، فان كنت تحبّ الدين، فاحكم الحصنين، و معلوم انّ الدنيا و الآخرة، ضرتان، و لك إليهما كرّتان، لكن إحداهما، حرّة خريدة، و الاخرى امة مريدة، فاجعل للحرّة يومين، فانّ لها قسمين و للامة قسما، فاضعف نصيبك من العقبي، و لا تنس ان لم تقدر، نصيبك من الدنيا، و احفظ القسمة العادلة، و لا تكن ممّن يحبّون العاجلة، فالويل ثم الويل، ان تميلوا كل الميل، و الآخرة خير لك من الاولى، و أنت عنها مسؤلا، فان خفت على دينك، فطلّق الدنيا، فانّها زائدة، و ان خفتم ان لا تعدلوا فواحدة.

رجعنا الى التفسير «أَقِيمُوا الصَّلاةَ»: و هي عبادة عن الأفعال المخصوصة، بناء على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، او الحقيقة المتشرّعة، او المجاز المشهور، و المراد خصوص الصحيح، إذ الفاسد لا يخرج عن عهدة التكليف، و لا مدح له، و هي بعد التوحيد اصل العبادة و العبوديّة، و بوجه أخر تنطبق الصلاة، مع حقيقة الولاية، من وجوه كثيرة، منها: انّ الصلاة، كمال العبودية، و تمام مراتب العبوديّة، مندرجة في الولاية، بل لا تتحقّق الّا بها، و منها: انّ الصلاة ذكر اللّه، قال اللّه تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي و هم اهل الذكر، و مذكّر، و ذاكر، و منها: انّ الصلاة، تنهى عن الفحشاء و المنكر، و ولايتهم، تنهى عن الكفر و الشرك، و عن المعاصي، بل عن مطلق الذنب، لأنّها كفّارة للذنوب كما في الحديث: حبّ عليّ حسنة لا يضرّ معها سيّئة، و منها:

انّ الصلاة، بمعنى الرحمة، و هم معدنها، و اصل الرّحمة، و منها: انّ الصلاة، قربان كلّ تقيّ، و هم الوسيلة بين اللّه، و بين عباده الأتقياء، في مقام القرب، لأنّهم أبواب اللّه الّتي لا يؤتى إلّا منها، و بهم يسلك إلى اللّه، و منها: انّ الصلاة، تشتمل على أسرار التوحيد، و المعارف الربّانية، و في الزيارة و أحكمتم توحيده، و منها: انّ الصلاة،

ص: 152

أفضل من سائر العبادات، و ولاية محمّد و آله أفضل الولايات، و منها: انّ الصلاة، عمود الدّين، إن قبلت قبل ما سواها، و الولاية أيضا كذلك، و منها: انّ الصلاة، شافعة للمصلّين يوم القيمة، و الوليّ أيضا شفيع الخلائق؛ و الحاصل: انّ تمام الفضائل، المأثورة الثابتة، للصلاة، فهي بعينها جارية، و ثابتة للإمام و الولاية، و لهذا اوّلوا الصلاة، اهل التفسير، بأمير المؤمنين، و المتّقين مفسّر بشيعتهم، فانّهم الّذين أقاموا امر الولاية، و بالجملة، فكلّ خير خلقه اللّه، انّما يفيض إليهم أوّلا، ثمّ بهم، و عنهم إلى من سواهم، لأنّهم مساكن بركة اللّه حتّى الأرزاق، و لهم الولاية على ميكائيل الّذي هو الواسطة في قسمة الأرزاق، و في قوله تعالى: و السماء و الطارق: ففي الحديث، السّماء، أمير المؤمنين، و الطارق، ما يطرق فيه من العلوم البدائيّة، و بهذا الاعتبار، انّ الرزق نزل بواسطة، لأنّه الواسطة في كافّة الفيوضات، و الرزق من الفيوضات، لكن خالق الرزق، و الفيض، و مقدّره، هو اللّه، و لا رازق، و لا معطى إلّا اللّه، اللّه يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر.

[سورة البقرة (2): آية 44]

أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44)

«أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ»: الهمزة للتوبيخ و التعجيب، و الخطاب لعلماء اليهود، و المراد بالناس سفلتهم «بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ»: و البرّ، التوسّع في الخير، من البرّ الّذي هو الفضاء الواسع، و المراد في الآية، الإيمان بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك لأنّهم كانوا يقولون لفقرائهم، و أقربائهم من المسلمين، اثبتوا ما أنتم عليه من الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هم لا يؤمنون، وبّخهم اللّه على ما كانوا يفعلون من امر الناس بالإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ترك أنفسهم عنه و قال أبو مسلم كانوا يأمرون العرب بالإيمان به إذا بعث، فلمّا بعث أنكروا، و قال قتادة كانوا يأمرون الناس بطاعة اللّه و هم يخالفونه.

و روى أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هم خطباء من أهل الدنيا، ممّن كانوا يأمرون الناس بالبرّ و ينسون أنفسهم؛

ص: 153

و قال بعضهم: المراد أ تأمرون الناس بالصدقة، و تتركونها أنتم، و إذا أتتكم الصدقة لتفرّقوها على المساكين خنتم فيها «وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ»: و الحال أنتم تتلون و تقرءون التوراة، الناطقة بنعوته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، او الامتناع عن مثل هذه القبائح؛ الكتاب وعاء ملي ء علما، و ظرف حشى ظرفا، إن شئت كان اعي من باقل و لو أردت أبلغ من سحبان وائل، و الكتاب نعم الظهر و العدّة، و نعم الكنز و العقدة، و هو الأنيس في الوحدة، و الجليس الّذي لا يغويك، و الصديق الّذي لا يغريك، و متى رأيت يا فتى بستانا تجمّل في ردن، و روضة تقلّب في حجر، ينطق عن الموتى، و يترجم كلام الأحياء، ناسك، فاتك و ساكت، ناطق، طبيب اعرابيّ، فارسيّ، يونانيّ، قديم، مولد ميّت، حيّ، و لولاه لبطل العلم و الفكر، و غلب سلطان النسيان على جنود الذكر، الكتاب معقل العقلاء، إليه يلجئون و بستانهم فيها يتنزّهون؛ «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» و تعرفون بعقلكم انّه قبيح منكم، و العقل في الأصل، المنع و الإمساك، و منه العقال الّذي يشدّ به وظيف البعير إلى ذراعيه، لحبسه عن الحراك سمّى به النور الروحاني الّذي به تدرك النفس الإنسانى، العلوم الضروريّة و النظريّة، لأنّه يحبس عن تعاطى ما يقبح، و يعقل على ما يحسن، و محلّه الدماغ عند بعض، و عند البعض محلّه القلب، و عند البعض هو نور منبسط في بدن الآدميّ؛ قال المولى إسماعيل الحقّي، في تفسيره «روح البيان»: إنّ هذا التوبيخ و الإنكار في قوله تعالى: أ تأمرون، ليس على أمر الناس بالبرّ، بل الترك العمل به، فمدار الإنكار، جملة تنسون أنفسكم، دون أ تأمرون الناس، فلا يستقيم قول من لا يجوز الأمر بالمعروف، لمن لا يعمل به، لهذه الآية، بل يجب العمل به، و يجب الأمر به، و هذا لأنّه إذا أمر به مع أنّه لا يعمل به، فقد ترك واجبا، و إذا لم يأمر به فقد ترك واجبين، فالأمر بالمعروف، معروف، و لكن قلّما نفعت موعظة من لم يعظ نفسه، و من نهى غيره، فليكن أشدّ الناس انتهاء عنه، و هذه الآية ناعية على من يعظ غيره، و لا يعظ نفسه، سوء صنيعه، و عدم تأثّره، و المراد، حثّ الواعظ على تزكية النفس و

ص: 154

الإقبال عليها بالتكميل لتقوم بالحقّ، و تقيم غيرها، لا انّ الفاسق ممنوع عن الأمر بالمعروف و المواعظ الشافية، فانّ الإخلال بأحد المأمورين، لا يوجب الإخلال بالآخر؛ حكى انّه كان عالم من العلماء، قوىّ التصرف في القلوب، مؤثّر الكلام، و ربّما يموت من اهل مجلسه واحد و اثنان، من شدة تأثير وعظه، و كان في بلده، عجوز لها ابن صالح رقيق القلب، سريع الانفعال، و كانت تحرز عليه، و تمنعه من حضور مجلس- الواعظ، فحضره على حين غفلة منها، فوقع من امر اللّه ما وقع، ثم انّ العجوز لقيت الواعظ يوما في الطريق، فقالت:

أ تهدي الأنام و لا تهتدى الا انّ ذلك لا ينفع

فيا حجر الشحذ حتّى متى تسنّ الحديد و لا تقطع

فلمّا سمعها الواعظ، شهق شهقة، فخرّ مغشيّا عليه، فحملوه الى بيته فتوفّى!! قال الأوزاعي: شكت النواويس الى اللّه، ما تجده من جيف الكفّار، فأوحى اللّه إليها، بطون العلماء السوء، أنتن ممّا أنتم فيه- انتهى؛ أقول: انّ الواعظ سواء كان عاملا، او غير عامل، لا بدّ منه إن يلاحظ هذه النكتة الدقيقة، و هي انّه يثبت للمستعين جهلا، و لنفسه فضلا عليهم، و هو محض كبر و عجب و حيل النفس و الشيطان كثيرة، و هذا الأمر يهلكه.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 45]

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)

قيل: الخطاب لليهود، و كان حبّ الرياسة و أخذ الأموال يمنعهم عن اتّباع النبيّ، فأمرهم اللّه بان استعينوا على الوفاء بعهدي الّذى عاهدتكم عليه من طاعتي، بالصبر على ما أنتم عليه من ضيق المعاش، الّذى كنتم تأخذون عن عوامكم بسببه، و روى عن ائمّتنا عليم السلام انّ المراد بالصبر، الصوم، فيكون فائدة الاستعانة، كسر سورة النفس و الشره، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصوم و جاء، و فائدة الاستعانة.

«وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ» الاستعانة بالصلوة، انّه يتلى فيها ما يرغب فيما عند اللّه، و يزهد في الدنيا و حبّ المال و الجاه، كما قال: انّ الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر، و كان النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا حزنه امر، استعان بالصلوة و الصوم.

ص: 155

حكى انّ ابن عباس نعي له بنت، و هو في سفر فاسترجع، و قال عورة سترها اللّه، و مؤنة كفاها اللّه، و اجرا ساقه اللّه، ثمّ تنحّى عن الطريق، و صلّى ثم اتى راحلته، و هو يقرء و استعينوا بالصبر و الصلاة؛ و من قال انّ الخطاب للمسلمين: قال: المراد: استعينوا على مشقّة التكليف بالصبر؛ اى بحبس النفس على الطاعات و بالصلوة، و ليس في افعال القلوب أعظم من الصبر، و لا في افعال الجوارح أعظم من الصلاة، فأمر اللّه سبحانه بالاستعانة و الاستمداد بهما، و روى عن الصادق عليه السّلام انّه قال: ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه غمّ من غموم الدنيا ان يتوضّأ ثمّ يدخل المسجد، فيركع ركعتين، يدعو اللّه فيها، اما سمعت، اللّه يقول و استعينوا بالصبر و الصلاة.

«وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ»: اى انّ الاستعانة بهما لكبيرة ثقيلة كقوله كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الّا على الخائفين و الخاشعين، و الخشوع بالجوارح، و الخضوع بالقلب، و قيل الخشوع بالبصر، و الخضوع بسائر الأعضاء، و انّما لم يستثقل عليهم لأنّهم يستغرقون في مناجاة ربّهم، فلا يدركون ما يجري عليهم من المشاقّ و التعب، و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و قرّة عيني الصّلوة، او في الصلاة، لأنّ اشتغاله بالصلوة، كان راحة له، و بعض قال: الضمير راجع الى الصلاة، لأنّها الأغلب، الأفضل، و قيل: انّ المراد الاثنان، و ان كان اللفظ واحد، مثل قوله: و الّذين يكنزون الذهب و الفضّة و لا ينفقونها في سبيل اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 46]

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)

الظنّ، يكون بمعنى اليقين و بمعنى الشك الراجح، فهو من الاضداد، كالرجاء، يكون أمنا و خوفا، و هنا بمعنى اليقين، و الظنّ ما قوى عند الظانّ كون المظنون على ما ظنّه، مع احتماله على خلافه، و بالاحتمال ينفصل عن العلم، و بالقوّة ينفصل عن الشك، «الَّذِينَ يَظُنُّونَ» في موضع الجرّ، صفة للخاشعين، «أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» اى الخاشعين يوقنون انّهم ملاقوا ما وعد ربّهم؛ و قيل:

انّ الظنّ في الآية، بمعنى الظنّ غير اليقين، و المعنى: انّهم يظنّون انقضاء آجالهم، و سرعة

ص: 156

موتهم، و ملاقوا ربّهم بذنوبهم، و لشدّة إشفاقهم من ذنوبهم، يكونون على وجل و حذر، و لا يركنون الى الدنيا؛ و المراد من اللقاء ليس لقاء الرؤية، بل لقاء ما يسرّه و يضرّه.

«وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ»: فان قيل انّهم ما كانوا قطّ في الآخرة، فيعودوا و يرجعوا إليها، فالمراد انّهم بالإعادة راجعون في الآخرة، و قيل يرجعون بالموت كما كانوا في الحال المتقدّمة على حياتهم لأنّهم كانوا أمواتا و اعداما ابتداء، فأحيوا ثمّ يموتون، فيرجعون بحال الأوّل أمواتا كما كانوا، او المعنى انّهم يرجعون الى موضع لا يملك لهم احد ضرّا و لا نفعا، لأنّهم في حال حياتهم قد يملك عليهم الأمر و الحكم، و رجوعهم الى المحشر و حكمه رجوع اليه تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 47]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)

«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا»: اى اشكروا «نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ» بها «عَلَيْكُمْ» بانزال المنّ و السلوى، و تظليل- الغمام، و تفجير الماء من الحجر و غيرها، و ذكر النعم على الآباء الزام الشكر على الأبناء، فانّهم يشرّفون بشرفهم، و لذلك خاطبهم بقوله «وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ»: اى فضّلت ايّامكم على عالمي زمانهم بما منحتهم من العلم و الايمان، و العمل الصالح، و جعلتهم أنبياء و ملوكا مقسطين، و هذا كما قال في حقّ مريم: و اصطفاك على نساء العالمين، اى نساء زمانك فالاستغراق في العالمين عرفىّ لا حقيقىّ

[سورة البقرة (2): آية 48]

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

و كان اليهود يقولون نحن من أولاد الأنبياء، و اللّه يقبل شفاعتهم فينا، فأنزل اللّه هذه الآية ردّا عليهم، فقال «وَ اتَّقُوا»: و اخشوا يا بنى إسرائيل، «يَوْماً» يوم القيمة اى حساب ذلك اليوم، فهو من ذكر المحلّ، و ارادة الحال «لا تَجْزِي» و لا تؤدّى، و لا تغنى و العائد محذوف «نَفْسٌ» مؤمنة «عَنْ نَفْسٍ» كافرة «شَيْئاً» ما من الحقوق الّتى لزمت

ص: 157

عليها، و إيراد، شيئا، منكّرا مع تنكير النفس، للتعميم و الاقناط الكلّى «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها» اى من النفس الاولى المؤمنة «شَفاعَةٌ» ان شفعت للنفس الثانية الكافرة عند اللّه، لتخليصها من عذابه، و الشفاعة مصدر الشافع، و الشفيع مأخوذ من الشفع، لأنّه يشفع نفسه، بمن يشفع له في طلب مراده، و لا شفاعة في حقّ الكافر، بخلاف المؤمن؛ قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من امّتى، فمن كذّب بها لم ينلها.

و الآيات الواردة في نفى الشفاعة، خاصّة بالكفّار «وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها» اى من المشفوع لها، و هي النفس الثانية الكافرة «عَدْلٌ» اى فداء من مال، او رجل مكانها، او توبة تنجو بها من النار، و العدل بالفتح مثل الشي ء من خلاف جنسه، و بالكسر مثله من جنسه، و سمّى به الفدية لأنّها تماثله و تساويه «وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ»: و لا يمنعون من عذاب اللّه، و من أيدي المعذّبين، فلا نافع و لا دافع، و لا شافع.

[سورة البقرة (2): آية 49]

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

أى اذكروا وقت تنجيتنا إيّاكم اى آبائكم، فانّ، تنجيتهم، تنجية لأعقابهم و النجو: المكان المرتفع من الأرض لأنّ من صار إليه، يخلص، ثمّ سمّي كلّ فائز ناجيا بخروجه من ضيق إلى سعة «مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ»:

و اتباعه، و فرعون لقب من ملك العمالقة، ككسرى لملك الفرس، و قيصر لملك الروم، و تبّع لملك اليمن، و العمالقة، الجبابرة، و هم أولاد عمليق بن لاوذ ابن آدم بن سام بن نوح، سكّان الشام، سمّوا بالجبابرة، و ملوك مصر منهم سمّوا بالفراعنة و لقّبوه، يقال تفرعن الرّجل إذا عتا و تمرّد، و فرعون موسى هو الوليد بن مصعب بن الريّان، و كان من القبط، و عمّر أكثر من أربعمائة سنة، و قيل انّه كان عطّارا أصفهانيّا، ركبته الديون، فأفلس فاضطرّ إلى الخروج، فدخل مصر فرى في ظاهرها حملا من البطّيخ بدرهم، فتوجّه إلى السوق، فرأى يبيعون بطّيخة بدرهم، فقال في نفسه ان تيسّر لي أداء الديون فهذا طريقه، فخرج إلى السواد فاشترى حملا

ص: 158

بدرهم فتوجّه به إلى السوق، فكلّ من لقيه من المكاسين أخذ بطيخة فدخل السوق و ما معه إلّا بطيخة فباعها بدرهم، و مضى بوجهه، و رأى أهل البلد متروكين سدى، لا يتعاطى أحد سياستهم، و كان قد وقع بمصر و باء عظيم، فتوجّه نحو المقابر، فرأى ميّتا يدفن فتعرّض لأوليائه، فقال: أنا أمير المقابر، فلا أدعكم تدفنونه حتّى تعطوني خمسة دراهم، فدفعوها إليه و مضى لآخر و آخر حتّى احرز في مقدار ثلاثة أشهر مالا عظيما، و لم يتعرّض له أحد قطّ، إلى أن تعرّض يوما لأولياء ميت، فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم، فأبوا ذلك فقالوا من نصبك هذا المنصب، فذهبوا به إلى فرعون فقال: من أنت، و من أقامك بهذا المقام، قال لم يقمنى أحد و إنّما فعلت ما فعلت، ليحضرني أحد إلى مجلسك، فانبّهك على اختلال حال ملكك، و قد جمعت بهذا الطريق هذا المقدار العظيم من المال، فأحضره و دفعه إلى فرعون، فقال: ولّني أمورك ترني أمينا كافيا، فولّاه إيّاها، فسار بهم سيرة حسنة، فانتظمت مصالح العسكر، و استقامت أحوال الرعيّة، و لبث فيهم دهرا طويلا، و ترأى امره في العدل و الصلاح، فلمّا مات فرعون أقاموه مقامه، فكان من امره ما كان، و كان فرعون يوسف اسمه الرّيان، و بينهما أكثر من أربعمائة سنة؛ «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ»: اى يبغونكم و يكلّفونكم، و قيل يؤلونكم سوء العذاب و سامه خسفا إذا أولاه ذلّا، و قيل معناه يعذّبونكم، و أصل الباب السوم الّذي هو إرسال الإبل في الرعي، أو من سام السلعة إذا طلبها، فمعناه الطلب، و تقدير الكلام نجّيناكم مسوّمين منهم أقبح العذاب كقولك رأيت زيدا يضربه عمرو، اى رأيته حالكونه مضروبا لعمرو؛ قال وهب بن منيه: كانوا أصنافا في أعمال فرعون، فصنف يبنون، و صنف يحرثون و صنف يخدمون، فذو و القوة ينحتون السواري من الجبال، حتّى قرحت أيديهم و أعناقهم و دبّرت ظهورهم من قطعها و نقلها، و طائفة يضربون اللبن و يطبخونها للآجر و كذلك و الضعفة من الناس يضرب عليهم الحراج ضريبة، و يؤدّونها كلّ يوم، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدّي ضريبته، غلّت يمينه إلى عنقه شهرا، و النساء يغزلن الكتّان و ينسجن

ص: 159

و قيل: يفسّر قوله يسومونكم سوء العذاب، قوله: «يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ»:

كأنّه قيل ما حقيقة سوء العذاب الّذي يبغونه لهم، فأجيب بأنّه يذبحون أبناءكم، و التشديد للتكثير، كما يقال فتّحت الأبواب، و المراد من الأبناء، الذكور خاصّة، و إن كان الإسم يقع عليهما في غير هذا الموضع، كالبنين في قوله: يا بني إسرائيل، و كانوا يذبّحون الغلمان لا غير، و كذا الصغار دون الكبار.

«وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ»: و يستبقون بناتكم، و ذلك انّ فرعون رأى في منامه كانّ نارا أقبلت من بيت المقدّس، فأحاطت بمصر، و أخرجت كلّ قبطيّ بها، و لم تتعرّض لبنى إسرائيل، فهاله ذلك، و سأل الكهنة و السحرة عن الرؤيا، فقالوا يولد في بنى إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك، و زوال ملكك، فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بنى إسرائيل، و جمع القوابل فقال لهنّ، لا يسقط على ايديكنّ غلام يولد في بنى إسرائيل الّا قتل، فكنّ يفعلن ذلك، حتّى قتل في طلب موسى اثنى عشر ألف صبيّ، و تسعون ألف وليد، ثمّ اسرع الموت في مشيخة بنى إسرائيل، فدخل رؤس القبط على فرعون، و قالوا انّ الموت وقع في بنى إسرائيل، فتذبح صغارهم، و يموت كبارهم، فيوشك ان يقع العمل بنا، فأمر فرعون ان يذبحوا سنة، و يتركوا سنة، فولد هارون في السنة التي لا يذبح فيها، و ولد موسى في السنة الّتى يذبحون فيها، و قد شمر فرعون عن ساق الاجتهاد و حسر عن ذراع العناد، فأراد ان يسبق القضاء، هيهات و يأبى اللّه الّا ان يتمّ نوره.

«وَ فِي ذلِكُمْ»: اشارة الى التذبيح و الاستحياء، «بَلاءٌ»: محنة و بليّة، لأنّ الأعمال الشاقّة و ذبح الأولاد و الاسترقاق ممّا يشقّ على الإنسان، غاية، لا سيّما بعد ذبح الولد «مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ»: يحتمل ان يكون من اللّه هذا الامتحان، بان خلّى بينكم و بين فرعون، حتى فعل هذه الأفاعيل، فيكون هذا الامتحان لمحنته لكم، و يحتمل ان يكون الإشارة في قوله و في ذلكم، الي التخلّص من فرعون، فيكون نعمة و منحة عظيمة من اللّه عليكم لا محنة، و البلاء، الاختبار، و اللّه تعالى يختبر عباده، تارة بالمنافع، و تارة بالمضارّ، ليشكروا و يصبروا، كما قال و نبلوكم بالشرّ و الخير، و سنّة اللّه تعالى استدعاء العباد بعبادته، بسعة الأرزاق، و دوام

ص: 160

المعافاة ليرجعوا اليه بنعمته، و يشكروه بالطاعة و لزوم الايمان، فان لم يفعلوا ابتلاهم بالسرّاء و الضرّاء لعلّهم يرجعون.

[سورة البقرة (2): آية 50]

وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

: و اذكروا يا بنى إسرائيل وقت تفريقنا و تفصيلنا بسبب انجائكم، فالباء للسببيّة، و قيل بمعنى اللام لقوله تعالى ذلك بأنّ اللّه هو الحقّ، أى لأنّ اللّه؛ «الْبَحْرَ»: هو بحر القلزم من بحار فارس، او بحر يقال له اساف، حتّى حصل اثنى عشر مسلكا بعدد أسباط بنى إسرائيل، و السبط ولد الولد، و هم أولاد يعقوب، «فَأَنْجَيْناكُمْ»: من الغرق، باخراجكم الى الساحل، و فرقنا بين المائين، فوقع بين كلّ فريقين من البحر، سبط من الأسباط يسلكون طريقا يابسا، بسبب هبوب الريح دفعة؛ «وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ»: يريد فرعون و قومه للعلم بدخوله فيهم، و كونه اولى به منهم، «وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ»: بابصاركم انفراق البحر لكم، و انطباقه على آل فرعون حين رمى موتاهم البحر الى الساحل.

روى انّه لمّا دنا هلاك فرعون، أمر اللّه موسى ان يسرى ببني إسرائيل من مصر ليلا، فأمرهم ان يخرجوا و ان يستعيروا الحلي من القبط، و أمر ان لا يناد احد صاحبه، و ان يسرجوا في بيوتهم الى الصبح، و من خرج لطخ بابه بكف من دم، ليعلم انّه قد خرج، فخرجوا ليلا، و هم ستمائة ألف و عشرون ألف مقاتل، لا يعدون فيهم ابن العشرين لصغره، و لا ابن الستّين لكبره، و القبط لا يعلمون بذلك، و كان قد وقع في القبط موت فجعلوا يدفنونهم، و شغلوا عن طلبهم، فلمّا أراد بنو إسرائيل السير، ضرب عليهم التيه، فلم يدروا اين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بنى إسرائيل، و سألهم عن ذلك، فقالوا ان يوسف لمّا حضره الموت، أخذ على اخوته عهدا ان لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم، فلذلك انسدّ عليهم الطريق، فسألهم عن موضع قبره، فلم يعلمه أحد غير عجوز، قالت لو دللت على قبره أ تعطيني كلّما سألتك، فأبى عليها موسى و قال حتى اسئل ربّى، فأمره اللّه بإيتاء سؤلها، فقالت انى عجوز كبيرة، لا أستطيع

ص: 161

المشي، فاحملني و أخرجني من مصر، هذا في الدّنيا و امّا في الآخرة فأسئلك ان لا تنزل غرفة إلا نزلتها معك، قال موسى نعم، قالت انّه في جوف الماء في النيل، فادع اللّه ان يجيز عنه الماء، فدعا اللّه ان يؤخر طلوع الفجر الى ان يفرغ موسى من امر يوسف فحفر ذلك الموضع، و استخرجه في صندوق من صنوبر، و سبب ان قبره كان جوف النيل لأمر يطول شرحه، و المجمل منه استبراك اهل مصر بماء النيل، بمجاورة الماء قبره، حتى تعم البركة، الفقير و الغنى، و القريب و البعيد من صعيد مصر، فاستخرج تابوت يوسف من قعر النيل، و حمله و دفنه في أرض الشام، ففتح لهم الطريق، ثم ساروا، فكان هارون أمام بني إسرائيل، و موسى على ساقتهم، فلمّا علم بذلك فرعون جمع قومه، و خرج في طلب بنى إسرائيل، و على مقدّمته هامان في ألف ألف و سبعمائة ألف جواد ذكر ليس فيه رمكة، على رأس كلّ واحد منه بيضة، و في يده حربة، فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا الى البحر، فأدركهم فرعون حين أشرقت الشمس، فقال فرعون في اصحاب موسى، انّ هؤلاء لشرذمة قليلون، فلمّا نظر اصحاب موسى إليهم، بقوا متحيّرين، فقالوا لموسى أنّا لمدركون يا موسى أوذينا من قبل ان تأتينا و من بعد ما جئتنا اليوم نهلك، فانّ البحر أمامنا، ان دخلناه غرقنا، و فرعون خلفنا، ان أدركنا قتلنا، كيف نصنع، و اين ما وعدتنا، قال موسى كلّا انّ معى ربّى سيهدينى، فأوحى اللّه الى موسى، أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فلم يطعه، و اوحى اللّه اليه ان كنّه فضربه، و قال انفلق يا أبا خالد، فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقا، كلّ طريق كالجبل العظيم، فكان لكلّ سبط طريق يأخذون فيه، فخاضت بنو إسرائيل البحر، و لا يرى بعضهم بعضا، فقالوا ما لنا لا نرى إخواننا، و قال كلّ سبط قد قتل إخواننا، قال موسى سيروا فانّهم على طريق مثل طريقكم، قالوا لا نرضى حتّى نراهم، فقال موسى اللهم أعنّي على أخلاقهم السيّئة، فأوحى اللّه الى موسى اشر بعصاك يمنة و يسرة فصار فيها كوىّ ينظر بعضهم بعضا، و يسمع بعضهم بعضا، فساروا حتّى خرجوا من البحر.

فلمّا جاز آخر قوم موسى، هجم فرعون على البحر، فرآه منفلقا، قال لقومه

ص: 162

انظروا الى البحر، انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الّذين ابقوا، فهاب قومه ان يدخلوه و قيل له ان كنت صادقا فادخل البحر كما دخل موسى، و كان فرعون على حصان أدهم، و لم يكن في قوم فرعون فرس أنثى، فجاء جبرئيل على أنثى وديق، و هي التي تشتهي الفحل و تقدمه الى البحر، فاقتحم أدهم فرعون خلفها البحر و دخله و لم يتملك فرعون من أمره شيئا، و هو لا يرى فرس جبرئيل و تبعته الخيول، و جاء ميكائيل على فرس خلف القوم يسوقهم حتى لا يشذّ رجل منهم، حتّى خاضوا كلّهم البحر، و دخل آخر قوم فرعون، و جاز آخر قوم موسى، و همّ اولهم بالخروج، فأمر اللّه البحر أن يأخذهم، فانطبق البحر على قوم فرعون فاغرقوا، فنادى فرعون، لا اله الّا الذي آمنت به بنو إسرائيل و أنا من المسلمين، القصة؛ و قالت بنو إسرائيل الآن يدركنا فرعون، فيقتلنا، فلقط منهم البحر ستمائة و عشر الفا الذين عليهم الحديد، و لفظ البحر جثّة فرعون، فذلك قوله تعالى فاليوم ننجيك ببدنك، و هو كأنّه ثور أحمر فبعد هذه المعجزة العظيمة، ما مضى وقت حتى اتخذوا العجل إلها بعد الإنجاء، ثم صار أمرهم الى ان قتلوا أنبيائهم، فهذه معاملتهم مع ربّهم، ثم بدلوا التورية و افتروا على اللّه و كتبوا التحريفات و اشتروا به ثمنا قليلا و كفروا بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع علمهم بصدقه، فيا لها من عصابة ما اعصاها و طائفة ما أطغاها.

و كان يوم الإنجاء و الإغراق، يوم عاشورا و لذا كان اليهود يصومونه و يتّخذونه عيدا، و قيل: و كان رسول اللّه يصومه، فلمّا فرض صوم رمضان في المدينة، ترك صيام يوم عاشوراء.

[سورة البقرة (2): آية 51]

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)

و اذكروا يا بني إسرائيل، وقت وعدنا، و صيغة المفاعلة بمعنى الثلاثي، أو على أصلها، فانّ الوعد و ان كان من اللّه تعالى، فقبوله كان من موسى، فقبول الوعد، شبه الوعد، أو ان اللّه تعالى وعده الوحى و موسى وعد المجي ء للميقات إلى الطور؛ «مُوسى : مفعول أول لواعدنا، مو، بالعبرانية، الماء، وشى، بمعنى الشجر فقبلت شين المعجمة، سينا في العربيّة و انّما سمّى به لأنّ امّه جعله في التّابوت،

ص: 163

حين خافت عليه، و ألقته في البحر، فدفعته أمواج البحر، حتى أدخلته بين أشجار، عند بيت فرعون، فخرجت جواري آسية، امرأة فرعون يغسلن، فوجدن التابوت، فأخذنه، فسمى باسم المكان الذي أصيب به و هو الماء و الشجر، و نسبه موسى بن عمران ابن يصهر بن فاهث ابن لاوى ابن يعقوب إسرائيل اللّه ابن اسحق بن ابراهيم الخليل عليه السّلام؛ «أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»: على حذف المضاف، امره اللّه تعالى بصوم ثلثين و هو ذو- القعدة ثم زاد عليه عشرا من ذي الحجة و عبّر عنها بالليالي، لأنّها غرر الشهور، و شهور العرب، وضعت عليها سير القمر و لذلك وقع التاريخ بها، فالليالى، اوّل الشهور، و الأيّام تبع لها، أو لأنّ الظلمة اقدم من الضوء؛ «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ»: و هو ولد البقرة، بتسويل السامري، إلها و معبودا «مِنْ بَعْدِهِ»: اى من بعد مضيّه من الميقات؛ «وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ»: باشراككم و وضع عبادة اللّه، في غير موضعها، قال ابن عباس: كان السامري رجلا صائغا من اهل باجرمى، اسمه ميحا و قيل موسى بن ظفر و كان من قوم يعبدون البقر، و كان حبّ عبادة البقر في نفسه، و كان اظهر الإسلام في بني إسرائيل، فلمّا قصد موسى عليه السّلام الى الميقات خلّف هارون في بني إسرائيل، قال هارون لقومه، قد حملتم أوزارا من زينة القوم، يعنى آل فرعون، فتطهروا منها، فانّها نجس و كانوا استعاروا من القبط حليّا، فقال هارون: طهّروا انفسكم منها، فانّها نجسة و أوقد لهم نارا، فقال اقذفوا بما كان معكم فيها، فجعلوا يأتون بما كان معهم، من تلك الامتعة و الحلّى، فيقذفون به فيها، قال: و كان السامرىّ، رأى اثر فرس جبرئيل، فأخذ ترابا من تراب حافره، ثم اقبل على النار و قال لهارون: يا نبي اللّه القى ما في يدي، قال نعم و هو لا يدرى ما في يده، و يظنّ انّ ما في يده ممّا يجيئ به غيره من الحلىّ و الامتعة، فقدف فيها و قال: كن عجلا جسدا له خوار! فكان البلاء و الفتنة! فقال: هذا إلهكم و إله موسى، فعكفوا عليه! فاحبّوه حبّا لم يحبّوا مثله شيئا قطّ!!؛

ص: 164

قال ابن عباس: فكان البلاء و لم يزد على هذا؛ قال الحسن: صار العجل لحما و دما، و قال غيره: لا يجوز ذلك، لأنّه من معجزات الأنبياء، و من وافق الحسن، قال: انّ القبضة من اثر الملك، كان اللّه قد جرى العادة بأنّها إذا طرحت على اىّ صورة، كانت حيّيت، فليس ذلك بمعجزة أ إذ سبيل السامري فيه سبيل غيره و من لم يجز انقلابه حيّا، تأوّل الخوار، على ان السامري صاغ عجلا و جعل فيه خروقا، يدخل فيه الريح، فيخرج منه صوت كالخوار، و دعاهم الى عبادته، فأجابوه! و عبدوه! عن على للجبائى.

[سورة البقرة (2): آية 52]

ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

اى: محونا جريمتكم، حين تبتم من بعد الاتخاذ، الذي هو متناه في القبح و لم نعاجلكم بالعذاب و الإهلاك، بل أمهلناكم الى مجي ء موسى، فينبّهكم بكفّارة ذنوبكم؛ «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»: لكي تشكروا نعمة العفو و تستمرّوا بعد ذلك على الطاعة.

[سورة البقرة (2): آية 53]

وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

اى: و اذكروا وقت اعطائنا موسى، الكتاب، و هو التوراة و الفرقان، قال ابن عباس: انّ المراد به التوراة ايضا، و انّما عطف عليه لاختلاف اللفظين، مثل قولهم:

و الفى قولها كذبا و مينا: و المين هو الكذب- و قيل: الكتاب، التوراة، و الفرقان، انفراق البحر، او الفرق بين موسى و أصحابه المؤمنين، و بين فرعون و أصحابه الكافرين، أو الفرقان: بعض التوراة، الذي فيه الحلال و الحرام، و ذلك انّه لمّا رجع موسى و وجدهم على عبادة العجل، ألقى الألواح، فرفع من جملتها ستة أجزاء، و بقي جزء واحد، و هو الحلال و الحرام و ما يحتاجون و احرق العجل و ذراه في البحر، فشربوا من مائة حبّا للعجل، فظهرت على شفاههم صفرة، و رمث بطونهم، فتابوا، و لم تقبل توبتهم، دون ان يقتلوا أنفسهم

[سورة البقرة (2): آية 54]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

، و ذلك قوله:

ص: 165

و اذكروا يا بني إسرائيل «إِذْ قالَ مُوسى وقت قوله لقومه، الذين عبدوا العجل «يا قَوْمِ»: اى: يا قومي و الاضافة للشفقة؛ «إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ» و ضررتم انفسكم بإيجاب العقوبة عليها بسبب «اتخاذكم العجل» معبودا، قالوا اى شي ء نصنع، قال (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) فاعزموا على التوبة، و الفاء للسببيّة، لأنّ الظلم سبب للتوبة، فارجعوا الى خالقكم و من خلقكم بريئا من العيوب و النقصان و أنتم من الجهالة و الغباوة، بحيث تركتم عبادة مثل هذا الخالق و عبدتم البقر، الذي هو مثل في الغباوة و انّ من لم يعرف حقوق منعمه، حقيق بأن تستردّ النعمة منه و لذلك أمروا بالقتل و فكّ التركيب و انفصال نعمة الحيوة؛ فقالوا كيف نتوب؟ قال: «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» اى: ليقتل البري ء، المجرم، فأوحى اللّه الى موسى انّ توبة المرتد لا تتم إلّا بالقتل «ذلِكُمْ» اى: التوبة و القتل «خَيْرٌ لَكُمْ» انفع لكم عند اللّه، لأنّ القتل وصلة الى الحيوة الأبديّة و طهرة من الشّرك.

انفصالى اتصالش در عقب اتصال منفصل باشد تعب

«فَتابَ عَلَيْكُمْ» اى: ففعلتم ما أمرتم به، فتاب عليكم و قبل توبتكم و انّما قال عليكم مع ان الضمير لاسلافهم، لما انّ هذا الأمر من النعم العظيمة و أريد التذكير بها للمخاطبين بانّ هذه النعمة شملتكم، لأنّه رفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكليّة فلو لم يرفع القتل عن آبائهم، لما وجد الأبناء، فحسن الخطاب؛ و معنى اقتلوا انفسكم: لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، أو يكون معناه استسلموا للقتل و جعل استسلامهم للقتل، قتلا منهم لأنفسهم، على وجه التوسع؛

ص: 166

روي انّ موسى، أمرهم ان يقوموا صفّين، فاغتسلوا و لبسوا أكفانهم و جاء هارون باثنى عشر الفا ممّن لم يعبدوا العجل و معهم الشفار المرهفة و كانوا يقتلونهم، فلمّا قتلوا سبعين ألف قتيل و كان موسى و هارون، واقفين، يدعو ان اللّه و يتضرّعان اليه- و هم يقتل بعضهم بعضا، حتى نزل الوحى، برفع القتل و قبلت توبة من بقي؛ قال ابن جريح: السبب في أمرهم بقتل أنفسهم، انّ اللّه علم انّ ناسا منهم، ممّن لم يعبد العجل، لم ينكروا عليهم، مع علمهم بانّ العجل باطل، فلذلك ابتلاهم بأن يقتل بعضهم، بعضا، و إنّما امتحنهم اللّه، بهذه المحنة، لكفرهم بعد الآيات العظام؛ «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» اى: قابل التوبة عن عباده، مرّة بعد اخرى، أو معناه: قابل التوبة عن الذنوب العظام، «الرَّحِيمُ»: إذا تبتم و في هذه الآية دلالة، على انّه، يجوز ان يشترط في التوبة سوى النّدم ما لا يصحّ التوبة، إلّا به، كما أمروا بالقتل؛ أقول: لما وصلت الى نقل بيان هذه الآية، رأيت جماعة ضالّة، من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عدلوا عن دينه و هم أشقى من أولئك اليهود، لأنّهم رضوا بقتل أنفسهم، في قبول توبتهم، و بذلوا بأعز ما عندهم و هو النفس؛ و لا يرغب الواحد منّا، في التوبة بما هو أسهل من توبتهم بدرجات، فهم اقدموا و تابعوا مع هذا الحكم الشديد. و نحن ولينا مدبرين و جسرنا معرضين، مع هذه السهولة، في حكم توبتنا، فان قلت انّهم كفروا، فرضوا في توبتهم، بقتل أنفسهم، ليتخلّصوا من العذاب الدائم، بخلاف الامّة المرحومة، فالجواب: أنّ القرآن مشحون بما أوعد اللّه فيه على الكبائر، بالنّار، هب، ان لم تكفر، لم تكن مخلّدا، لكن كيف تتحمل عذاب احقاب من الزمان، على أنّ ملكات بعض المعاصي الخبيثة، يوجب ذهاب الايمان، و ليس إيماني و إيمانك سدّ اسكندر و مآرب و معذلك، فقد خرب سدّ مآرب فارة و انّما يكفى في ذهاب إيماني و إيمانك خطرة، واحدة، مع الثبات و الترديد، على تلك الواحدة، و هذا كلّه إذا كانت المعاصي، من جنس الفسوق، امّا إذا كانت المعصية، مستلزمة لذهاب الايمان

ص: 167

و الإسلام و تشييد الكفر، بل يكون ذلك الأمر و تلك المعصية، علّة موجبة، لتعطيل احكام القرآن و دروسها، المقدم على مثل هذه الأمور، يقال له فاسق، أم يقال له مضلّ، و يرتدّ عن الإسلام، ثمّ انّه، هل يكفى، في حقّه، مجرّد الندم، أم عليه ردّ ما أفسده باقدامه، و معلوم انّ تكليف الإصلاح و الرد، متوقف على القدرة و الإمكان و هو لا يمكنه فالجواب: راجع الى مسألة الامتناع بالاختيار، لا ينافي الاختيار و على كلّ التقادير، فلا بدّ و ان المرتكب في مثل هذه الأمور، لا اقلّ أن يرجع عن هذه المسالك الخبيثة و لا يكفيه الرجوع، باستنكاره في القلب، بل لا بدّ و ان يظهر إنكاره و يبيّن قبحه، حتى يكون متداركا في الجملة و يصحّ عليه صحّة السلب، في دخوله في العنوان و إلّا لما كان تائبا، لأنّ التدارك، لا بدّ منه في التوبة، ثم انّ الرد و الإصلاح في مثل هذه الأمور، التي وجود نسخ القرآن و ضعف الإسلام، بل نفى الإسلام مسبب عنها، هل يشترط فيه الأمن، من الضرر، للذي أحدث مثل هذه الأمور، أم لا، كما اشترط هذا الشرط في المعارف و المنكرات مطلقا، ثم لو سلّمنا، انّ الأمن من الضرر، في مثل هذه الأمور، التي توجب نسخ القرآن، او الزام النّاس، بالعمل بغيره، كالمشروطيّة مثلا، هل هو، جار، في تمام طبقات الناس، من غير فرق، بين الجاهل و العالم، بحيث لا يجب على العالم إنكاره، حيث لم يأمن الضرر على نفسه، لم يخصص هذا العالم و أمثاله، بتخصيصات في الحكم، لمقتضيات مصالح الإسلام، فالمسألة غامضة جدّا، خصوصا إذا كان العالم، مطاعا في الإسلام و مستبصرا في الفساد، فإذا لم يأمن الضرر على نفسه، او قطع وجود الضرر على نفسه، فهل هذا الحكم يعمّه، بحيث تكون نفسه محفوظة، و القرآن ضائعا، أم انّ التخصيص، يخرجه عن هذا الحكم، او عليه بأن يبذل مهجته في دين اللّه؛ و قد حيّرني سكوت بعض العارفين بأمور المبتدعة و لا يمكن ان يتصوّر انّهم توقّفوا في ادلّة التعادل و التراجيح، بين حفظ نفوسهم و الإسلام، مع انّ القاعدة في التزاحم، ملاحظة الرجحان، فلا بدّ ان أقول: ان السر في هذا الأمر، قد اختفى عليك ايّها الجاهل، في حيرتك، الى ان يذهب جلّ القرآن و يضيع عنوان الإسلام، و بالجملة:

ص: 168

فتب الى ربك، ايّها العاصي و ايّها الكافر، فانّك قد وقعت في زمان، يسهل عليك التوبة، هذا إذا كان المقدم على هذا الأمر، غير عالم بفساده و يكون في دعواه صادقا، بأن أراد ان يكون خلالا، فصار نباذا، لكن لو كان عالما بمفسدته، انّى يكون له التوبة، و هيهات كما يفصح عن هذا الحكم، حديث ذلك العالم الإسرائيلي و لا تكن شرّا من اليهود، فانّ اليهود لمّا أمرهم، موسى، بالقتل قبلوا قوله و قالوا: نصبر لأمر اللّه، فجلسوا مخبتين، مذعنين؛ و قيل لهم: من حلّ حياته، او مدّ طرفه الى قاتله، او اتقاه بيده او رجله، فهو ملعون، مردود توبته، فقبلوا، فاصلت القوم عليهم السيوف و الخناجر و حملوا عليهم و ضربوهم بها؛ و كان الرجل، يرى ابنه و أباه و أخاه و قرينه و جاره، فلم يمكنهم المضيّ لأمر اللّه، قالوا يا موسى، كيف نفعل؟! فأرسل اللّه سبحانه، سوداء، لا يبصر بعضهم بعضا، فكانوا يقتلونهم الى المساء، فلمّا كثر القتل دعا موسى و هارون و بكيا و قالا: يا ربّ هلكت بنو إسرائيل، البقيّة البقيّة، فكشف اللّه السحابة و نزلت التوبة و أمرهم أن يكفّوا عن القتل، فقتل منهم، سبعون الفا، فكان من قتل شهيدا و من بقي، مغفورا.

و روى: انّ الأمر بالقتل، من الأغلال التي كانت عليهم و هي من التكاليف الشاقّة عليهم من لزوم الغلّ في أعناقهم، كقطع الأعضاء الخاطئة و مثل عدم جواز صلاتهم في غير المساجد و عدم التطهير بغير الماء و منع الطيّبات عنهم بالذنوب و كون الزكاة، ربع مالهم و كتابة ذنب الليل، على أبوابهم بالصبح.

و قد روى: انّ بنى إسرائيل، إذا قاموا، يصلّون، لبسوا المسوخ و غلّوا أيديهم الى أعناقهم و ربّما ثقب الرجل ترقونه و جعل فيها طرف السلسلة و أوثقها الى سارية المسجد و حبس نفسه على العبادة، فهذه الأغلال، التي كانت عليهم و قد رفعها اللّه، عن هذه الامّة تكريما للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أعظم جميع نعم اللّه، على هذه الامّة المرحومة، بعد نعمة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، نعمة التوبة، التي أنعم اللّه بها، عليهم و لها مراتب، فأقلّ مرتبتها ترك المنهيات و القيام بالواجبات و قضاء الفوائت و ردّ الحقوق و الاستحلال من المظالم و الندم على ما

ص: 169

جرى و العزم على عدم العود؛ قال اهل المعنى: انّ لكلّ قوم عجلا يعبدونه من دون اللّه، فقوم يعبدون عجل الدراهم و الدنانير و قوم يعبدون، عجل الكبر و الحسد و قوم يعبدون، عجل لجاه و قوم يعبدون، عجل الهوى و هذا القسم الأخير، رئيس الأقسام الثلاثة الاول و كلها مندرجة في هذا الأخير.

[سورة البقرة (2): آية 55]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)

قوله تعالى: «وَ إِذْ قُلْتُمْ» اى: و اذكروا يا بنى إسرائيل، وقت قول السبعين من اسلافكم الذين اختارهم موسى، حين ذهبوا معه الى الطور، للاعتذار عن عبادة العجل و هم غير السبعين الذين اختارهم موسى، أول مرّة، حين أراد الانطلاق الى الطور، بعد غرق فرعون، لإتيان التوراة و ذلك لأنهم قالوا «يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ»: و لن نصدّقك، لأجل قولك و دعوتك، على أنّ هذا كتاب اللّه و انك سمعت كلامه؛ «حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» اى: عيانا لا ساتر بيننا و بينه، كالجهر في الوضوح و الانكشاف، لأنّ الجهر في المسموعات و المعاينة في المبصرات، و نصبها على المصدرية اى نرى اللّه مجاهرا بفتح الهاء، او نرى اللّه مجاهرين، على انّه حال من الفاعل، «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ»: هي نار محرقة، فيها صوت نازلة من السماء و هي امر هائل، مميت او مزيل للعقل و الفهم، تكون صوتا، او نارا و غير ذلك و انّما أحدثت الصاعقة، لسؤالهم ما هو مستحيل على اللّه، لفرط العناد و التعنت، «وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» الصاعقة النازلة و قيل معنى جهرة، صفة لخطابهم لموسى انّهم جهروا بهذه القول الفاسد و أعلنوه و المعنى الأول أقوى.

[سورة البقرة (2): آية 56]

ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

و كانت تلك لهم، كالسكتة لغيرهم و لما كانت تلك الموتة، قبل انقضاء آجالهم، أحياهم ليستوفوا بقيّة آجالهم و أرزاقهم و لو ماتوا بآجالهم، لم يبعثوا الى يوم القيمة

ص: 170

و ذلك قوله «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ» اى أحييناكم «مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ» بتلك الصاعقة «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» نعمة الحيوة، بالتوحيد و الطاعة و تشكرون وقت مشاهدتكم بأس اللّه بالصاعقة، فلا تعودون الى اقتراح مثل هذه الأمور، بعد ظهور المعجزات و اصل القضيّة انّ موسى عليه السّلام لمّا رجع من الطور الى قومه و رأى قومه، ما هم عليه من عبادة العجل، و قال لأخيه و السامري ما قال و احرق العجل و ندم القوم على ما فعلوا، امر اللّه موسى ان يأتيه في ناس من إسرائيل، يعتذرون من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين من قومه، من خيارهم، فلمّا خرجوا الى الطور، قالوا لموسى، سل ربّنا، حتّى يسمعنا كلامه، فسأل موسى ذلك فأجابه اللّه، و لمّا دنا من الجبل، وقع عليه عمود من الغمام و تغشّى الجبل كلّه، و دنا من موسى ذلك الغمام، حتى دخل فيه و قال للقوم، ادخلوا، فكلّم اللّه موسى، يأمره و ينهاه و كلّما كلّمه تعالى، أوقع على جبهة موسى، نورا، ساطعا، لا يستطيع احد من السبعين، النظر اليه و سمعوا كلامه تعالى، مع موسى، افعل و لا تفعل، فعند ذلك طمعوا في الرؤية و قالوا، ما قالوا، فأخذتهم الصاعقة، فخرّوا صعقين، ميّتين، يوما و ليلة، فلمّا ماتوا، جعل موسى، يبكى و يتضرّع، رافعا يديه، يدعو و يقول: يا إلهي، اخترت من بني إسرائيل، سبعين رجلا، ليكونوا شهودا، بقبول توبتهم و ماذا أقول لهم، إذا أتيتهم و قد أهلكت، لو شئت أهلكتهم قبل هذا اليوم مع اصحاب العجل، أ تهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟ فلم يزل، يناشد ربّه، حتّى أحياهم اللّه؛ و طلب توبة بني إسرائيل، من عبادة العجل، فقال اللّه، لا، الّا أن يقتلوا أنفسهم، قالوا انّ موسى، سأل الرؤية، في المرّة الاولى، في الطور و لم يمت، لأنّ صعقته، لم يكن موتا و لكن غشيته غشية، بدليل قوله تعالى: فلمّا أفاق؛ و سئل قومه، في المرّة الثانية، حين خرجوا، للاعتذار، و ماتوا و ذلك لأنّ، سؤالهم، سؤال افتراء و تكذيب و سؤال موسى، كان عن لسانهم، أو عن اشتياق و استرشاد.

ص: 171

قوله: [سورة البقرة (2): آية 57]

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

«وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ» اى: و من أنعامنا عليكم، يا بني إسرائيل، ان ظللنا عليكم و جعلنا الغمام، ظلّة عليكم و هذا جرى في التيه، بين المصر و الشّام، فانّهم حين خرجوا من مصر و جاوزوا البحر، وقعوا في صحراء، لا أبنية فيها، أمر اللّه بدخول مدينة الجبّارين و قتالهم، فقبلوا، فلمّا قربوا منها، سمعوا، بأنّ أهلها، جبّارون، أشدّاء، قامة أحدهم، سبعمائة ذراع، و نحوها، فامتنعوا و قالوا لموسى: اذهب أنت و ربّك فقاتلا انّا هاهنا قاعدون، فعاقبهم اللّه، بأن يتيهوا في الأرض، أربعين سنة و كانت المفازة و التيه، اثنى عشر فرسخا، فأصابهم، حرّ شديد و جوع مفرط، فشكوا الى موسى، فرحمهم اللّه، فأنزل عليهم عمودا من نور، يدلى لهم، من السماء، فيسير معهم، بالليل يضيئ لهم، مكان القمر، إذا لم يكن قمر و أرسل غماما ابيض رقيقا، أطيب من غمام المطر، يظلّهم من حرّ الشمس، في النهار و سمى السحاب غماما، لأنّه يغمّ السماء و يسترها و الغم، حزن يستر القلب.

ثمّ سئلوا، موسى، الطّعام، فدعا ربّه، فاستجاب له و هو قوله: «وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ» اى: الترنجبين، كان ابيض، مثل الثلج، كالشهد المعجون بالسمن و قيل: المنّ، الذي يعرفه الناس، يسقط على الشجرة، عن ابن عباس، و قيل: انّه الخبز المرقق، عن وهب، و قيل: المنّ جميع ما أنعم اللّه و منّ به، على عباده، من غير تعب و لا زرع و منه قوله الكماة من المنّ، و ماؤها شفاء للعين؛ قالوا: يا موسى، قتلنا هذا المنّ، بحلاوته، فادع لنا ربّك، ان يطعمنا اللّحم، فأنزل اللّه عليهم، السّلوى، و ذلك قوله: «وَ السَّلْوى هو السمانى كانت تحشره عليهم، الريح الجنوب، و كانت الريح تقطع حلوقها و تشق بطونها و تملط شعورها و ريشها و كانت الشمس تنضجها، فكانوا يأكلونها مع المنّ، لكنّ أكثر المفسّرين، على أنّهم يأخذونها، فيذبحونها، فكان ينزل عليهم المنّ، نزول الثلج، من طلوع الفجر الى طلوع

ص: 172

الشمس، و تأتيهم السلوى فيأخذ كلّ انسان منهم كفايته الى الغد، إلّا يوم الجمعة، يأخذ ليومين، لأنّه لم يكن ينزل يوم السبت، لأنّه كان يوم عبادة، فانّ أخذ اكثر من ذلك، دود و فسد؛ «كُلُوا» اى: قلنا لهم كلوا «مِنْ طَيِّباتِ»: حلالات «ما رَزَقْناكُمْ»: من المنّ و السلوى و لا ترفعوا منه، شيئا، ادّخارا و لا تعصوا امرى، فرفعوا و جعلوا اللحم، قديدا، مخافة ان ينفد و لو لم يرفعوا، لدام عليهم ذلك، و الطيب ما لا يعاقه الطبع و لا يكرهه الشرع «وَ ما ظَلَمُونا»: و ما بخسوا بحقّنا؛ «وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»: بأن كفروا بالنعم الجليلة، و باستيجابهم العذاب و قطع مادة الرزق، الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة و مشقّة، في الدنيا و لا حساب في العقبى.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو لا بنوا إسرائيل، لم يخبث الطعام و لم يخبز اللحم و الحاصل:

فبعد ان أدّبهم اللّه، بسوط الغربة، في وادي التيه، أدركهم بالرحمة، في وسط الكربة و أكرمهم بالأنعام و ظلّلهم بالغمام و منّ عليهم بالمنّ و سلّاهم بالسلوى، فلا شعورهم كانت تطول و لا اظفارهم كانت تنبت و لا ثيابهم كانت تخلق، او تدرن، بل كانت تنمو صغارها، حسب نموّ الصغار و الصبيان و لا شعاع الشمس ينبسط و كذلك سنّة اللّه تعالى، بمن حال بينه و بين اختياره بكون ما اختاره خيرا له، ممّا اختاره العبد، لنفسه و معذلك، ما ازدادوا بشؤم هواهم، إلّا الوقوع في البلوى، كما يحكى عنه، قوله، و ما ظلمناهم الآية؛ قال اهل التحقيق، من علماء الأخلاق، في كتاب التنوير و ما أدخلك اللّه فيه، تولى اعانتك عليه، و ما دخلت فيه بنفسك، و كلك اليه و الكاملون من أهل السلوك، كانوا يخافون من النعمة، حذرا من ان تكون نعمة الاستدراج، او محنة، فمن ذلك، كان بعضهم، يسير في البادية، و قد اصابه العطش، فانتهى الى بئر، فارتفع الماء، الى رأس البئر، فرفع رأسه الى السماء و قال: اعلم انّك قادر و لكن لا اطيق هذا، فلو قبضت لي بعض الاعراب، يصغنى صقعات و يسقيني، شربة ماء، كان خيرا لي.

ص: 173

[سورة البقرة (2): آية 58]

وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

ذكر سبحانه في الآيات السابقة، نعمة الدنيوية عليهم، كتظليل الغمام، و إنزال المنّ و السلوى و ذكر في هذه الآية، نعمة الدينية عليهم، فقال: و اذكروا يا بني إسرائيل «إِذْ قُلْنَا» قولنا، لآبائكم، بعد ما أنفذتم، من التيه «ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» و اختلف في القرية، قال جماعة، مثل قتادة و ابي مسلم، و الربيع انّها بيت المقدس و استدلّوا عليه، بقوله في المائدة «ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» و قيل انّها مصر و قال ابن عباس و جماعة: انّها أريحا و هي قرية قريبة من بيت المقدس و قالوا:

لا يجوز ان تكون القرية، بيت المقدس، لأنّ الفاء في قوله: فبدّل الذين ظلموا قولا يقتضى التعقيب، فوجب ان يكون، ذلك التبديل، وقع منهم عقيب الأمر بالدخول، في حيوة موسى و موسى مات في التيه و لم يدخل بيت المقدس، فحينئذ ليس المراد من هذه القرية، بيت المقدس، و أجاب الأوّلون بانّه، ليس في هذه الآية، انّا قلنا لهم ادخلوا هذه القرية، على لسان موسى، او على لسان يوشع، فيمكن ان يكون علي لسان يوشع، فيزول الأشكال.

«فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً»: الأمر للاباحة، اى أكلا واسعا هنيئا و أبحنا لكم، فتعيشوا منها، انّى شئتم بلا مشقّة و لا منع و دخولهم على وجه السكونة و الدوام، لقوله في سورة الأعراف: اسكنوا هذه؛ «وَ ادْخُلُوا الْبابَ»: اى بابا من أبواب القرية و كان لها، سبعة أبواب و المراد من الباب الثاني و يعرف اليوم، بباب حطّة، او باب القبّة، التي يتعبّد موسى و هارون و يصليان مع بنى إسرائيل، إليها؛ «سُجَّداً» اى ركّعا منحنين، ناكسي رؤسكم بالتواضع، على ان يكون المراد به، معناه الحقيقي و قيل: المراد من السجود، نفس السجود، الذي هو الصاق الوجه، بالأرض، على ان يكون المراد به معناه الشرعي، قال الرازي و هذا بعيد، لأنّ الظاهر، يقتضى وجوب الدخول، حال السجود، فيمتنع ذلك، و المعنى الأول، أولى و أقرب؛

ص: 174

«وَ قُولُوا حِطَّةٌ»: قرء الحطة بالرفع، خبر لمبتدأ محذوف، اى: مسألتنا، من اللّه، حطّ ذنوبنا و مغفرتنا و قرء بالنصب، اى: الهنا حطّ عنّا، ذنوبنا، حطّة و قيل:

معناه، أمرنا حطّة، اى: أمرنا، ان نحطّ رحالنا، في هذه القرية و نقيم بها و قيل:

أريد بالحطّة، كلمة الشهادة، اى: قولوها و هي الحاطّة للذنوب، لكن الأكثرين، على انّ، معنى قوله، و قولوا حطّة، امر من اللّه، بأن يستغفروا و يطلبوا من اللّه، حطّ ذنوبهم و هذه المعاني، كلّها يصحّ، ان يترجم عنه، بحطّة، لأنّها دواعي المغفرة و حطّ الذنوب، روي عن الباقر عليه السّلام، انّه قال، نحن باب حطّتكم، انّ عليّا، باب حطّة، التي من دخل، في ولايته، أمن و نجى، قال الصادق عليه السّلام: نحن الأوّلون و نحن الآخرون و في الحديث، انّ عليّا، الاول و الآخر، اى: مرجع الأولياء بدءا و ختما و انّ له الولاية الكليّة، في الدنيا و الآخرة و انّه أول الخلق شرفا و رتبة و إياب الخلق إليه، لأنّه الواسطة في جميع الفيوضات و هذا معنى حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا جابر أول ما خلق اللّه، نور نبيّك و عليّ عليه السّلام نفس الرسول؛ قال علي عليه السّلام: أنا الأول، أنا الآخر، أنا الظّاهر، أنا الباطن و في معنى هذا الحديث وجوه: الأوّل- انّه عليه السّلام اوّل من آمن بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عالم الغيب و الشهادة من عالم الأنوار و المثال و الأرواح و النفوس و عالم الذرّ الاول و الناسوت، فانّه عليه السّلام من دعي و أجاب و أول من أجاب نداء جدّه ابراهيم حين اذّن للناس بالحج و ايضا أول الأولياء و آخرهم رتبة و وجودا؛ و تمام الأنبياء و الأولياء انّما خلقوا من أشعّة أنوار محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و عن الصادق عليه السّلام عن آبائه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا علي أنت منّي بمنزلة هبة اللّه من آدم و بمنزلة سام من نوح و بمنزلة إسحاق من ابراهيم و بمنزلة هارون من موسى و بمنزلة شمعون من عيسى، الّا انّه لا نبىّ بعدي، يا على أنت وصيي و خليفتي، فمن جحد وصيّتك و خلافتك فليس منّي و لست منه و أنا خصمه يوم القيامة، يا على أنت أفضل امّتى فضلا و أقدمهم سلما، و أكثرهم علما و أوفرهم حلما و أشجعهم قلبا و أسخاهم كفّا، يا على أنت الامام و الأمير بعدي و الوزير و مالك في امّتى من نظير، يا على أنت

ص: 175

قسيم الجنّة و النار، بمحبتك يعرف الأبرار من الفجّار، و يميز بين الأخيار و الأشرار و بين المؤمنين و الكفّار.

قوله تعالى: «نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ»: أصله خطائي، أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الالف، فاجتمعت همزتان و أبدلت الثانية ياء، ثم قلبت ألفا، و كانت الهمزة بين ألفين، فأبدلت ياء، فصار خطايا مثل بقايا. مجزوم بجواب الأمر. اى: ان فعلتم و أتيتم بما أمرتم به، من الدعاء و طلب المغفرة و الجود، لا نجازيكم بذنوبكم، و نعفو عنكم و هم الذين عبدوا العجل ثم تابوا.

«وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ»: ثوابا من فضلنا، و هم الذين لم يعبدوا العجل، و المحسن من احسن لنفسه و لغيره.

[سورة البقرة (2): آية 59]

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)

«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا»: اى الذين ظلموا أنفسهم و غيّروا ما أمروا به، من التوبة و الاستغفار «قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ»: قولا آخر بما لا خير فيه. روى انّهم قالوا مكان حطة، حنطة، و قيل: قالوا بالنبطية- و هي لغتهم- حطا سمقاتا، يعنون حنطة حمراء، استخفافا بأمر اللّه، قال بعض اهل التفسير: طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤسهم فأبوا ان يدخلوه سجدا، فدخلوا يزحفون على أستاههم مدبرين، مخالفة في الفعل، كما بدّلوا القول، و قالوا: ما شاء موسى ان يلعب بنا، الّا لعب حطّة حطّة، اىّ شي ء حطة.

قال ابن عباس: انّهم أمروا بخصوص هذه اللفظة، مع انّ هذه اللفظة عربيّة و هم ما كانوا يتكلّمون بالعربيّة. و قال الآخرون: المراد ان يقولوا قولا دالّا على الخضوع و الذلّة و التوبة، مثل هذه اللفظة، حتى انّهم لو قالوا مكان قولهم: اللهمّ إنّا نستغفرك و نتوب إليك، لكان المقصود حاصلا، لأنّ المقصود من التوبة بالقلب و باللسان، فالقلب الندم و اللسان فذكر لفظ يدلّ على حصول الندم في القلب و ذلك

ص: 176

لا يتوقف على ذكر لفظة معيّنة.

«فَأَنْزَلْنا» عقيب ذلك «عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا»: و غيّروا ما أمروا به و لم يقل عليهم لأنّ منهم المحسنين «رِجْزاً مِنَ السَّماءِ» اى عذابا، فويل للمبدّل، و قد بدّلت مصحفا بطنبور، و عسلا بزنبور. اما سمعت قول ابن عباس حيث قال: ضمن اللّه لمن اتبع القرآن ان لا يضلّ في الدنيا و لا يشقى في الآخرة. اما سمعت قول اللّه: انّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم. فحينئذ كيف بدلت الجلدة، بموجبات الحلاوة، من كتاب اللّه في الزنا و الخمر. و لم بدلت المعروف بالمنكر و المنكر بالمعروف. فان قلت: لا، فلم تؤاخذني إذا وبّخت الزانية، و لا تؤاخذها. و هل التبديل غير هذا. فان تعذرت بالاقتضاء فذلك لو سلّم، ففي ما لا يمكن غير المقتضى بمعنى المفعول و امّا فيما يمكن، فليس ذلك إلا خروجا من الدين هذا في الحدود؛ و امّا في الحقوق، فعليك بمراجعة كتاب القضاء و الشهادات، حتى تبيّن لك الأمر من فساد محاكماتك. و أوّل فسادها، أنّ ما يؤخذ و يسترد من الحقوق بحكمك، فكأنما أخذ بحكم الجبت و الطاغوت، إذا لم يقع التراضي بين المتخاصمين، لأنّك لست أهلا للحكم. و اما مجلسك العالي، فيا للّه و الشورى. و قد جعلت أصله المتأصل و امّ كتابه، الأكثريّة!! فهل كانت مادّة من امور الدين او الدنيا أهملها اللّه في كتابه و سنّته، حتّى جعلت حكم تلك المادّة برأيي و رأيك و انّي استغفر اللّه ممّا طغى به القلم.

و الرجز في الأصل ما يعاف و يستكره، و كذلك الرجس. و المراد في الآية، الطّاعون.

روى انّه مات في ساعة واحدة، منهم أربعة و عشرون الفا، و دام حتّى بلغ سبعين الفا و في الحديث: الطاعون رجز، أرسل على بنى إسرائيل، او على من بدّل، فإذا سمعتم انّ الطاعون بأرض، فلا تدخلوها، و إذا وقع بأرض و أنتم بها، فلا تخرجوا منها.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الطاعون شهادة لأمّتي المؤمنين، و رحمة لهم، و رجس على الكافرين. و من مات من الطاعون، مات شهيدا، و يأمن فتنة القبر، و كذا المبطون و الاستسقاء داخل في المبطون. و عقله لا يزال حاضرا الى حين موته، و كذلك صاحب السلّ

ص: 177

و كذا الغريق، و كذا من يهدم عليه، و صاحب ذات الجنب و الحرق و المرأة الجمعاء، و هي من تموت حاملا، جامعا ولدها.

و في الحديث: إذا بخس الكيل، حبس القطر و إذا كثر الزنى، كثر الموت و القتل، و إذا كثر الكذب، كثر الهرج؛ و الحكمة، انّ الزنى إهلاك النفس، لأنّ ولد الزناء هالك حكما، فلذلك وقع الجزاء بالموت الذريع، لأنّ الجزاء من جنس العمل، كما انّ بخس المكيال، يجازى بحبس القطر الذي هو سبب لنقص أرزاقهم. و كذلك الكذب سبب التفرق و العداوة بين الناس و لهذا يجازى بالهرج الذي هو الفتنة. و انما تعم البلاء أينما وقعت، لتكون عقوبة على اخوان الشياطين، و شهادة و رحمة للمؤمنين.

[سورة البقرة (2): آية 60]

وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

«وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ» اى: اذكروا يا بنى إسرائيل، وقت الذي سأل موسى السقيا لأجل قومه. و كان ذلك في التيه، حين استولى عليهم العطش الشديد، فاستغاثوا بموسى، فدعا موسى ربّه ان يسقيهم «فَقُلْنَا» له بالوحي ان «اضْرِبْ بِعَصاكَ» و كانت من آس الجنّة، طولها عشرة اذرع، على طول موسى و لها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا. حملها آدم من الجنّة، فتوارثها الأنبياء، حتى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى.

«الْحَجَرَ»: اللّام للعهد، و الإشارة الى معهود. فقد روى انّه كان حجرا طوريّا، حمله معه. و كان حفيفا مربعا، له اربعة أوجه، في كلّ وجه ثلاث أعين او هو الحجر الذي فرّ بثوبه، حين وضع ثوبه عليه ليغتسل و برأه اللّه ممّا رموه به من الادرة، فأشار اليه جبرئيل ان ارفعه، فانّ اللّه فيه قدرة و لك فيه معجزة.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كان بنو إسرائيل ينظر بعضهم الى سوأة بعض، و لكن موسى

ص: 178

يغتسل وحده، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فخرج موسى بأثره، يقول ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى، فقالوا: و اللّه ما بموسى ادرة و هي بالضم، نفخة بالخصية. و امّا للجنس، اى اضرب الشي ء الذي يقال له الحجر. و هو الأظهر في الحجّة، و أبين على القدرة، فانّ إخراج الماء، بضرب من العصا من الحجر اىّ حجر كان، ادلّ على ثبوت نبوّة موسى من إخراج الماء من حجر معهود، لاحتمال ان يذهب الى تلك الخاصيّة، في ذلك الحجر المعيّن، كخاصيّة جذب الحديد في حجر المغناطيس.

«فَانْفَجَرَتْ»: و الانفجار- الانسكاب و الانبجاس- الترشح «مِنْهُ» اى: من ذلك الحجر «اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً»: ماء عذبا، على عدد الأسباط، لكلّ سبط عين. و كان يضربه بعصاه إذا نزل فيتفجر. و يضربه إذا ارتحل فييبس «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ» أى كلّ سبط من الأسباط الاثنى عشر «مَشْرَبَهُمْ» اى عينهم الخاصّة بهم و المشرب، المصدر و المكان. و الحكمة في ذلك، انّ الأسباط كانت بينهم عصبيّة و مباهاة. و كلّ سبط منهم لا يتزوّج من سبط آخر و كلّ سبط أراد تكثير نفسه، فجعل اللّه لكلّ سبط مشربا لكيلا يقع بينهم جدال و خصومة. و كانوا ستمائة ألف. و سعة المعسكر، اثنى عشر ميلا، و من أنكر أمثال هذه المعجزات، فلغاية جهله باللّه و قدرته، فانّه لمّا أمكن ان يكون من الأحجار، ما يجذب الحديد، لم يمنع أن يخلق اللّه حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض، أو لجذب الهواء من الجوانب و يجعله ماءا بقوة التبريد. و معنى المعجزة ان تكون خارجة عن العاديّات و الأسباب، كما ظهر اعجب منها من انفجار الماء من يد نبيّنا، من بين أصابعه، من لحم و دم؛ «كُلُوا»: اى قلنا لهم او قيل لهم «كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»: العثى، اشدّ الفساد، لأنّ الفساد قد يكون ظاهره فسادا لكن باطنه ليس بفساد، و أمّا العثى، الفساد القبيح ظاهرا و باطنا. اى لا تتمادوا في الفساد، حالكونكم مفسدين.

و قد استسقى نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم روى عن جندبه: انّ اعرابيّا دخل عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم

ص: 179

الجمعة، و قال: يا رسول اللّه ملكت الكراع و المواشي، و اجدبت الأرض، فادع اللّه ان يسقينا، فرفع يديه، و دعا متذلّلا، متواضعا، متخشعا؛ قال انس: و السماء كأنّها زجاجة، ليس فيها قزعة، فنشأت سحابة و مطرت الى الجمعة القابلة. و ترك الدعاء لكشف الضرّ مذموم عند اهل الطريقة، لأنّه كالمقاومة مع اللّه، و دعوى التحمّل لمشاقّه. قال ابن الفارض:

و يحسن اظهار التجلد للعدى و يقبح غير العجز عند الأحبّة

قال امير المؤمنين عليه السّلام: للدعاء شروط، الأول همّ مجموع. و الثاني اخلاص السريرة و الثالث معرفة المسئول و الرابع الإنصاف في المسألة.

روى انّ موسى عليه السّلام مرّ برجل ساجد يبكى و يتضرع، فقال موسى يا ربّ، لو كانت حاجة هذا العبد بيدي، لقضيتها، فأوحى اللّه اليه، يا موسى انّه يدعوني و قلبه متعلق و مشغول بغنمه، فلو سجد حتى ينقطع صلبه و شق عيناه، لم استجب له حتى يتحوّل عمّا ابغض الى ما أحب.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ العبد ليرفع يديه الى اللّه و مطعمه حرام و ملبسه حرام، فكيف يستجاب له و هذه حاله؛ قال امير المؤمنين عليه السّلام: لو أنّ الناس إذا زالت عنهم النعم، و حلّت بهم النقم، فزعوا الى اللّه بصدق نيّاتهم، و وله من نفوسهم، لردّ عليهم كل شارد، و لأصلح لهم كلّ فاسد و لأصلح لهم كلّ فاسد، و لكنّهم اخلّوا بشكر النعم، فسلبوها و ان اللّه يعطى بشرط الشكر لها و القيام فيها بحقوقها، فإذا اخل بالشكر، كان للّه التغيير و التقتير. و اللّه ما نزع اللّه من قوم نعماؤه، إلّا بذنوب اجترحوها، فقيّدوها بالطاعة و اقرب الناس الى الاجابة، الطائع المضطرّ، الذي لا بدّ له ممّا سئله، خصوصا عند نفاد الصبر.

و اعلم، انّ كرمه و جوده لا يتعدّيان حكمته، قال اللّه: و لو اتّبع الحق اهوائهم لفسدت السموات و الأرض و من فيهن، سبحان من عطائه كرم، و منعه عدل و فضل، و لا ييأس العبد من تأخير الإجابة، فيقصر في الدعاء. و قد كان بين اجابة موسى و هارون، في فرعون، أربعين سنة، من حين قال لهما: قد أجيبت دعوتكما.

ص: 180

قال الصادق عليه السّلام: آداب الدعاء: تبدأ و تذكر نعمه عندك، ثم تشكره، ثم تصلى على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم تذكر ذنوبك خائفا، ثم تستغفروا اللّه منها، ثمّ تطلب حاجتك.

قال تعالى: [سورة البقرة (2): آية 61]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61)

«وَ إِذْ قُلْتُمْ»: تذكير جناية اخرى لاسلافهم، و كفرانهم بنعمة اللّه. خاطبهم تنزيلا لهم مكان آبائهم، لما بينهم من الاتحاد في الطريقة. و كان هذا القول منهم في التيه، حين سئموا من أكل المن و السلوى، لأنّهم تذكروا عيشهم الأول بمصر، لأنّهم كانوا اهل فلاحة، و اشتاقت طباعهم الى ما جرت عادتهم، فقالوا «يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ»: و كنوا عن المن و السلوى بطعام واحد، و هما اثنان، لأنّهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر، فيصير ان طعاما واحدا، او أريد بالواحد، نفى التبدّل و الاختلاف و لو كان على مائدة ألوان عديده، يداوم عليها، فقال لا يأكل فلان الّا طعاما واحدا «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ» اى سله «يُخْرِجْ لَنا»: و يظهر لأجلنا، و الجزم لجواب الأمر اى ان تدع لنا ربّك، يخرج لنا «مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ» و- من- تبعيضية- و ما- موصلة «مِنْ بَقْلِها» و البقل ما نبت الأرض، من الخضر. و المراد اصناف البقول، التي تأكلها الناس كالكراث و النعناع و الكرفس و أشباهها و «قِثَّائِها» من انواع الخيار و «فُومِها» قيل: هو الحنطة، لأنّ ذكر العدس، يدلّ على أنّه المراد، لأنّه من جنسه، و قيل هو الثوم، لأنّ ذكر البصل يدلّ على انّه هو المراد، فإنّه من جنسه. قال ابن التمجيد: و حمله على الثوم أوفق من الحنطة و «عَدَسِها»: حبّ معروف يستوي كيله

ص: 181

و وزنه «وَ بَصَلِها»: بقل معروف، تطيب به القدور، «قالَ»: استيناف وقع عن سؤال مقدّر، كأنّه قيل: فماذا قال اللّه لهم او موسى، فقيل إنكارا عليهم، «أَ تَسْتَبْدِلُونَ» اى ا تأخذون و تختارون لأنفسكم، «الَّذِي هُوَ أَدْنى اى أدون مرتبة؛ إذا قرأ ادنأ مهموزا. و إذا قرأنا قصرا، اى اقرب و أحط منزلة؛ «بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ»: اى بمقابلة ما هو خير، كما انّ خيرية المن و السّلوى في اللذاذة و سقوط المشقّة بالنسبة الى العدس و البصل واضحة «اهْبِطُوا» و انزلوا من التيه، ان كنتم تريدون هذه الأشياء «مِصْراً» من الأمصار، لأنّكم في البريّة و لا فيها ما تطلبون، و انّما يوجد ذلك في الأمصار و ليس المراد بمصر، مصر فرعون، لقوله: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة و إذا وجب عليهم دخول تلك الأرض، لكن قال الحسن و الربيع: أراد مصر فرعون، الّذى خرجوا منه قال ابو مسلم: أراد بيت المقدس «فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ»: و المصر البلد العظيم، من مصر الشي ء: اى قطعه، سمّى به لانقطاعه عن الفضاء، بالعمارة و انّما صرف، لسكون وسطه، كهند و نوح، او لتأويله بالبلد دون المدينة «وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ» و الهوان «وَ الْمَسْكَنَةُ»: اى الفقر: اى جعلنا محيطتين بهم، احاطة القبّة بمن ضربت عليه، او المعنى بتعبير الضرب، انّه الصقنا بهم و جعلنا ضربة لازب لا تنفك عنهم، مجازاة على كفرانهم كما يضرب الطين على الحائط، فهو استعارة بالكناية. فترى اكثر اليهود و ان كانوا مياسير كأنّهم فقراء «وَ باؤُ»: اى رجعوا «بِغَضَبٍ» عظيم كائن «مِنَ اللَّهِ» استحقوه و لزمهم ذلك. و اطلاق الغضب في حق اللّه، المراد لازم الغضب، و هو العقوبة «ذلِكَ» اى البوء بالغضب العظيم «بِأَنَّهُمْ» بسبب انّ اليهود «كانُوا يَكْفُرُونَ» على الاستمرار «بِآياتِ اللَّهِ» و المعجزات الساطعة على موسى، مما عدّا و لم يعدّ، و كذّبوا بالقرآن و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنكروا صفته، و كفروا بعيسى و الإنجيل «وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» كشعيب و زكريّا و يحيى عليهم السلام و فائدة التقييد مع انّ قتل الأنبياء يستحيل ان يكون بحق، للإيذان بانّ ذلك عندهم ايضا بغير الحق.

قال ابن عباس: لم يقتل قطّ من الأنبياء، إلّا من لم يؤمر بقتال. و ذلك القتل كرامة لهم و ليس بخذلان لهم. و كلّ امر بقتال، نصر. فظهر ان لا تعارض بين قوله: و يقتلون

ص: 182

النبيّين بغير الحقّ، و قوله: إنّا لننصر رسلنا، و قوله: و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انّهم لهم المنصورون، مع انّه يجوز ان يراد، به النصرة بالحجة و البرهان، لا بالسيف و السنان «ذلِكَ»: اى ما ذكر من العذاب و البوء بالغضب و الذلة؛ «بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ»: اى فعلت لهم ما فعلت، بعصيانهم امرى و تجاوزهم عن حدودي. و قوله ذلك بما عصوا، فهو تأكيد بتكرير الشي ء بغير اللفظ الأول، و بيان استمرارهم في العصيان.

و في الآية الكريمة دليل و بيان على جواز أكل الطيّبات و المطاعم المستلذات و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحبّ الحلوى و العسل و يشرب الماء البارد. و العدس و الزيت طعام الصالحين. في الحديث: عليكم بالعدس، فانّه مبارك، مقدس و انّه يرقق القلب و يكثر الدمعة، بارك فيه سبعون نبيّا، آخرهم عيسى بن مريم عليه السّلام، و لو لم يكن فيه فضيلة غير انّ ضيافة ابراهيم الخليل من مأدبته لا تخلو منه، لكان فيه كفاية و هو يخفف البدن فيخف للعبادة، و لا تثور منه الشّهوات و لهذا السّبب كان رغبة الأنبياء فيه اكثر من غيره.

و كذلك في الآية دلالة على اباحة أكل البصل و الثوم و ما له رائحة كريهة. في الحديث: من أكل الثوم و البصل و الكراث فلا يقر من مسجدنا، فانّ الملائكة تتأذى ممّا يتأذّى منه بنو آدم. و المراد بالملائكة، الحاضرون مواضع العبادات، لا الملازمون للإنسان في جميع الأوقات. و يمكن ان الملازمين ايضا يتأذّون، فلا وجه للتخصيص قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ان كنتم لا بدّ لكم من أكلها، فاميتوها طبخا- و انما كره النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أكل الثوم و البصل و غيره، لما انّه يأتيه الوحى و يناجى اللّه، و لكن رخص للسائر حتى قيل:

آخر ما اكله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم البصل، إيذانا لامته بإباحته رجعنا الى التفسير: التذييل يؤتى به لتأكيد معنى الجملة السّابقة، مثل جاء الحق الآية، على انّه أراد استمرار كفرهم، قال الشاعر:

للّه لذة عيش بالحبيب مضت فلم تدم لي و غير اللّه لم يدم

و التذييل، تكرار الشي ء بغير اللفظ الاول للتأكيد و الثبوت، كما انّ هذا المعنى في الاعتراض، لكن في الاعتراض ثبوت تأكيد و معان أخر، مثل التنزيه، مثل و يجعلون

ص: 183

للّه البنات- سبحانه- و لهم ما يشتهون. و النكتة: تنزيه اللّه عن هذه النسبة القبيحة. و ايضا فائدة الاعتراض، التنبيه كقوله: و وصّينا الإنسان بوالديه حملته امّه وهنا على وهن و حمله و فصاله في عامين ان اشكر لي و لوالديك، فقوله: حملته الى قوله في عامين. معترضة إيجابا و تأكيدا للوصيّة بالوالدين. و من فائدة الاعتراض. الاستعطاف كقول المتنبّي:

و خفوق قلبي لو رأيت لهيبه يا جنّتى لرأيت فيه جهنّما

استعطاف في قوله يا جنتي، و طباق.

[سورة البقرة (2): آية 62]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا»: اختلفوا في هؤلاء المؤمنين في هذه الآية، قيل: المراد منهم، الذين آمنوا بعيسى، ثم لم يتهودوا و لم ينتصروا و لم يصبئوا، و انتظروا خروج محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: هم طلاب الدين، منهم حبيب النجار و قيس بن ساعدة و زيد بن عمرو بن نفيل و ورقة بن نوفل و البراء الشتى و أبو ذرّ الغفاري و سلمان الفارسي و أصحابه النصارى الذين كان قد تنصّر على أيديهم، قبل مبعث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و كانوا قد اخبروه بانّه سيبعث، و انّهم يؤمنون به ان أدركوه. و قيل: هم مؤمنوا الأمم الماضية. و قيل: المراد المنافقون الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم بقرينة انتظامهم في سلك الكفرة، و انّما عبّر عنهم بذلك، دون تصريح عنوان النفاق، للاشعار بانّ تلك المرتبة و ان عبّر عنها بالإيمان، لا تجديهم نفعا أصلا، فعلى هذا يكون معنى الآية: انّ الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم من المنافقين و اليهود و النصارى، إذا آمنوا بعد النفاق، و اسلموا بعد العناد كان لهم أجرهم عند ربّهم، كمن آمن في أول استدعائه الى الايمان من غير نفاق. و ذلك انّ قوما من المسلمين قالوا: انّ من اسلم بعد نفاقه و عناده، كان ثوابه انقص و اجره اقلّ، فأخبر اللّه بهذه الآية انّهم سواء في الأجر و الثواب.

«وَ الَّذِينَ هادُوا»: اى صاروا يهوديّا و بقوا على دين اليهودية. و اختلف في اشتقاق هذا الاسم، قيل عربىّ، من هاد، إذا تاب و رجع سموّ بذلك حين تابوا عن عبادة

ص: 184

العجل و خصّوا به، لما كانت توبتهم توبة هائلة- و امّا لأنّهم سمّوا للنسبة الى يهودا اكبر أولاد يعقوب. و قيل سمّوا بهذا الاسم، لأنّهم إذا جاءهم رسول او نبىّ، هادوا الى ملكهم، فدلوه عليه، فيقتلونه.

«وَ النَّصارى : جمع نصران، مثل ندامى جمع ندمان، سمّوا بذلك لأنّهم نصروا المسيح، او لأنّهم كانوا معه في قرية، يقال لها ناصرة، فسمّوا باسمها.

«وَ الصَّابِئِينَ»: من صبأ. إذا خرج من الدين. و هم قوم عدلوا عن دين اليهودية و النصرانية و عبدوا الكواكب و الملائكة، فكانوا كعبدة الأصنام و ان كانوا يقرؤن الزبور و في روضة العلماء: انّه جاء أعرابي الى النبي، فقال: لم يسمّى الصابئون، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لأنّهم إذا جاءهم رسول او نبىّ، أخذوه و عمدوا الى قدر عظيم فاغلوه، حتى إذا كان يحمى صبوه على رأسه حتى ينفسخ.

«مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ»: اى من آمن منهم ايمانا خالصا بالمبدإ و المعاد، «وَ عَمِلَ» عملا «صالِحاً» مرضيّا عند اللّه «فَلَهُمْ» بمقابلة تلك. و الفاء للسببيّة «أَجْرُهُمْ» الموعود لهم «عِنْدَ رَبِّهِمْ» اى مالك أمرهم «وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» عطف على جملة فلهم أجرهم. اى لا خوف عليهم، حين يخاف الكفار، العقاب «وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» حين يحزن المقصّرون على تضييع العمر، لأنّهم تداركوا ما فات منهم و نهوا النفس عن الهوى. أولئك على هدى من ربّهم و هذه الهداية من النعم التكوينيّة، اعنى الفطري الذي فطر الناس عليها. و الفطري الذي يتعلق به التكليف في العوالم الستة: ثلاثة منها في عالم الغيب، و هو عالم العقل و الروح و المثال. و ثلاثة في عالم الشهادة، و هو عالم الذرّ و الطينة و الخلق.

في الحديث: إذا أراد اللّه بعبد خيرا فتح عيني قلبه، فلا يسمع بمعروف الّا عرفه و لا بمنكر الّا أنكره. و المراد من ذلك، مقام المعاينة و مرتبة الشهود القلبي، فانّ للإنسان قوة درّاكة ينتقش فيها حقايق الأشياء، كما في المرآة، إذا كانت صافية، لكنّ القلب المتلبّس بالغواشى و العلائق، محروم عن عالم المشاهدة و هو في عماء. و من لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور. و النفس إذا فنت في الطاعة، تكون ارادتها تابعة لرضى اللّه

ص: 185

و ترتبط بالفيض، و نور امامه و حجّته، كما قال اللّه: و جعلنا له نورا يمشى به في الناس، كأنّه يرى الامام بالعين القلبيّة و يستمدّ منه، و ان غاب عنه في عالم الحسّ و هذا المقام أعلى المقامات، قريب من العلم اللدني. و لا يحصل الّا للخواصّ من الشيعة- رزقنا اللّه بفضله- و لا يحصل هذا المقام، مع حبّ الدنيا؛ و يحصل لأهل الخوف و الخشية.

[سورة البقرة (2): آية 63]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ»: تذكير جناية اخرى، لأسلاف بنى إسرائيل اى اذكروا يا بني إسرائيل وقت أخذنا بعهد آبائكم، بالعمل على ما في التوراة و ذلك قبل التيه، حين خرجوا مع موسى من مصر، و نجوا من الغرق «وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ»: كأنّه ظلّة حتى قبلتم و أعطيتم الميثاق. و الطور الجبل بالسريانية. و ذلك انّ موسى جاءهم بالألواح، فرأوا ما فيها من الإجبار و التكاليف الشاقّة، فكبرت عليهم و أبوا قبولها، فأمر جبرئيل، فقلع الجبل من أصله و رفعه و ظلّله فوقهم. و قال لهم موسى: ان قبلتم و الّا القى عليكم، فلمّا رأوا، ان لا مهرب لهم منها، قبلوا و سجدوا و جعلوا يلاحظون الجبل- و هم سجود- لئلّا ينزل عليهم. فصارت عادة في اليهود، لا يسجدون الا هم على انصاف وجوههم. و يقولون بهذا السجود رفع عنّا العذاب، ثمّ رفع الجبل، فالجئوا الى قبوله كارهين، الّا من عصمه اللّه من العناد، فانّه قبله طائعا، مختارا،- و منهم آمنوا كرها و سجدوا و قلوبهم غير مطمئنّة. و هذا الإلجاء جائز، كالمحاربة مع الكفار؛ و امّا قوله لا اكراه في الدين و أمثاله، فمنسوخ بآية السيف و القتال. و من الميثاق الذي أخذ منهم، العمل بالتوراة، و من احكام التوراة، بيان ما فيه من نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وصيّة علىّ عليه السّلام و الطيّبين من أولاده، و ان يؤدوا هذا الأمر الى اخلافهم قرنا بعد قرن، فأبوا قبول ذلك و استكبروا و ذلك قوله: ثمّ تولّيتم من بعد ذلك الآية؛ «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ»: اى قلنا لهم خذوا ما آتيناكم من الكتاب بجدّ و عزيمة «وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ»: و احفظوا ما في الكتاب، و لا تنسوه، و لا تغلفوا عنه

ص: 186

«لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»: لكي تكونوا متقين.

[سورة البقرة (2): آية 64]

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)

«ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ»: اى ثم أعرضتم عن الميثاق و الوفاء. قال القفال: تولّوا بأمور كثيرة، فحرّفوا التوراة، و تركوا العمل بها، و قتلوا الأنبياء، و كفروا بهم، و عصوا أمرهم. و لعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض و منها ما عمله اوائلهم و منها ما فعله متأخروهم. و لم يزالوا في التيه، مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا و نهارا، يخالفون موسى و يعترضون عليه و يلقونه بكلّ أذى، و يجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك، حتّى لقد خسف ببعضهم، و أحرقت النار بعضهم، و عوقبوا بالطاعون. و كل هذا مذكور في تراجم التوراة، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به- و كفروا بالمسيح- و همّوا بقتله و القرآن. و الجملة معروفة؛ «فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ»: من امهالكم و تأخير العذاب عنكم، «لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ»: لكنتم من الهالكين، فدلّ هذا القول على انّهم خرجوا من هذا الخسران، لأنّ اللّه تفضّل عليهم بالإمهال حتى تابوا. و قيل في معنى الآية: انّ الكلام ثمّ عند قوله: ثم توليتم من بعد ذلك، ثم قيل: فلو لا فضل اللّه رجوعا بالكلام الى اوّله، فيكون معنى الآية: لو لا لطف اللّه بكم، برفع الجبل فوقكم، لدمتم على ردّكم و انكاركم قبول التوراة، و كنتم كافرين، فلطف بكم بذلك، حتى تبتم و قبلتم و فزتم بسبب التفضل على التوبة و الايمان.

مركب توبة عجائب مركب است بر فلك تازد بيك لحظه ز پست

چون برآرند أز پشيمانى أنين عرش لرزد أز أنين المذنبين

جمله ماضيها أز اين نيكو شوندزهر پارينه أز اين گردد چو قند

فان كنت في لباس الفسوق، فبدّل لباسك بلباس التقوى، و كن من الطبقة الرابعة فانّ الناس على اربع طبقات: سعيد بالنفس و الروح، و هم الأنبياء و المعصومون- و الثانية شقىّ بالنفس و الروح، و هم الكفّار و المصرّون على الكبائر- و الثالثة شقي بالنفس

ص: 187

في لباس السعادة، على سبيل العارية، مثل بلعم و برصيصا و ابراهيم و بعض ما تراه في عصرك و الرابعة سعيد بالنفس في لباس الشقاوة كبلال و صهيب و التائبين الراجعين عن هوى النفس. و نهوا النفس عن الهوى، فانّ الجنّة هي المأوى. و العبد المذنب شأنه انّه مع التوبة لا يفارقه الخوف. و لو كان في اى طبقة، فخوف المذنبين من العقوبات. و خوف العابدين من فوات الشروط و عدم القبول و خوف العالمين من الشرك الخفى في الطاعات و خوف العارفين من الهيبة و التعظيم. و هذا اشدّ الخوف لأنّه لا يزول ابدا، و باقى الأنواع إذا قوبلت بالرحمة سكنت في الجملة. و رأس مال المذنب، الخوف، و هو سدّ محكم من معاصى اللّه، إذا كان صادقا. و لمن خاف مقام ربّه جنّتان. و اعلم انّ في جميع ما أمرك المشرّع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوائد لا تحصى، حتى في كيفيّة مشيك و نومك و أكلك، مثل ان أمرك بقلّة الأكل. و من الفوائد منها، قلّة الحدث و دوام الطهارة و خفّة النفس للعبادة و قلّة التعب للمؤنة و صفاء القلب و تيقّظ الفطنة و ذهاب التخمة و غنى عن الأدوية و بقاء الصحّة و زيادة نور البصر و تقوية الكبد و طرد الكسل و تنقية الجسد و هكذا هلمّ جرّا، مثل الجهر بالتكبيرة و رفع اليدين حتى ينتقل الى الصلاة. فلازم الخوف و اليقين، تكن من المتقين. و لا تقنع فقط بالفريضة، بل اتبعها بالسنّة. و أفضل القرب، الفريضة، و بعدها سنّة مستفيضة. فكما لا تورق الجذل بدون الفنن، لا يكمل الفرض بدون السنن. ازدد لجوعة القيامة من رواتب الفرائض، و اجعل ادامها و فاكهتها النوافل، فانّ الفرض كالقوت و النفل كالحلاوة. و نعم ذلك الحمل و نعمت هذه الحلاوة. ذلك حتم مقضىّ و هذا ادب مرضىّ، فمن لزم جادة الفرض و النفل، ملك حظائر الجنان او أكثرها، و ورد سلسبيلها و كوثرها.

[سورة البقرة (2): آية 65]

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)

خطاب لمعاصرى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اليهود «وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ»: و باللّه قد عرفتم يا بنى إسرائيل «الَّذِينَ اعْتَدَوْا» و تجاوزا الحد ظلما منكم اى اسلافكم «فِي السَّبْتِ» في يوم السبت و جاوزوا ما حدّ لهم فيه من التجرّد للعبادة و اشتغلوا بالصيد. و اصل السبت، القطع، لأنّ اليهود أمروا بأن يقطعوا الأعمال و يشتغلوا بعبادة اللّه- و يسمّى

ص: 188

النوم سباتا، لأنّه يقطع الحركات الاختيارية. و حاصل الكلام: انكم تعملون ما أصابهم من العقوبة، فاحذروا كيلا يصبكم مثل ما أصابهم. و القصة فيه: انّهم كانوا في زمن داود عليه السّلام بأرض يقال لها- أيلة- بين المدينة و الشام، على ساحل بحر القلزم، حرّم اللّه عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل السبت، لم يبق حوت في البحر الّا اجتمع هناك، امّا ابتلاء لأولئك القوم، و امّا لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس، ففي كلّ سبت يجتمعن لزيارتها و تخرجن خراطيمهن من الماء، بحيث لا يرى الماء من كثرتها. و إذا مضى السبت، تفرقن و لزمن مقل البحر، فعمد رجال من اهل تلك القرية فحفروا الحياض حول البحر، و شرعوا منه إليها الأنهار، فإذا كانت عشية الجمعة، فتحوا تلك الأنهار، فاقبل الموج بالحيتان الى الحياض، فلا يقدرون على الخروج، لبعد عمقها و قلّة مائها، فإذا كان يوم الأحد يصطادونها، فأخذوا و أكلوا و ملحوا و باعوا، فكثرت أموالهم، ففعلوا ذلك زمانا، أربعين سنة أو سبعين لم يزل عليهم عقوبة. و كانوا يتخوفون العقوبة؛ فلمّا لم يعاقبوا، استبشروا و تجرئوا على الذنب. و قالوا ما نرى الذنب إلّا قد أجل لنا. ثم استنّ الأبناء، سنّة الآباء، فلمّا فعلوا ذلك صار اهل القرية و كانوا نحوا من سبعين الفا، ثلاثة اصناف، صنف امسك و نهى و صنف امسك و لم ينه، و صنف انتهك الحرمة. و كان الناهون اثنى عشر الفا، فنهوهم عن ذلك، و قالوا يا قوم انكم عصيتم ربّكم و خالفتم سنّة نبيّكم، فانتهوا عن هذا العمل، قبل ان ينزل عليكم البلاء، فلم يتّعظوا و أبوا قبول نصحهم، فعاقب اللّه بالمسخ الطائفتين الممسكة الغير النّاهية و العاصية.

«فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً»: جمع قردة، كالديكة جمع ديك، فحول اللّه صورهم الى صورة قردة، من غير امتناع و لا لبث «خاسِئِينَ»: و الخسئ- الصغار و الطرد و ذلك انّ المجرمين لمّا أبوا قبول النصح، قال الناهون: و اللّه لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار و صيّروها بذلك ثنتين، فلعنهم داود، فمسخوا ليلا، فلمّا أصبح الناهون، أتوا ابوابها فإذا هي مغلقة، لا يسمع منها صوت، و لا يعلو منها دخان، فتسورا الحيطان، و دخلوا فرأوهم، قد صار الشبّان قردة، و الشيوخ خنازير، لها

ص: 189

اذناب، يتعاوون، فعرفت القردة أنسابهم من الانس، و لم يعرف الانس أنسابهم من القردة فجعلت القردة تأتى نسيبها من الانس، فتشمّ ثيابه و تبكى فيقول: الم ننهكم من ذلك، فكانوا يشيرون برءوسهم ان نعم. و لم يكن ابتداء القردة من هؤلاء، بل كان جنس القردة قبلهم. و ماتوا بعد ثلاثة أيّام، و لم يتوالدوا. و القردة التي في الدنيا، هي نسل القردة التي كانت قبلهم.

[سورة البقرة (2): آية 66]

فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

«فَجَعَلْناها نَكالًا»: اى صيّرنا مسخة تلك الامة، عبرة تنكل و تمنع من اعتبر بها «لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها»: من ان يقدم على مثل صنيعهم، لما بين يديها و ما بعدها من القرون، لأنّ مسختهم ذكرت في كتب الأولين، فاعبروا بها. و كذلك اعتبر من بلغته من الآخرين، فاستعبر ما بين يديها للزمان الحال و ما خلفها للمستقبل «وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ»: و موعظة لكلّ متقى سمعها. و معلوم انّ من لم يعرف قدر الإحسان و يكافئ المنعم بالكفران، يردّ من عزّة الوصال، الى ذلّ الهجران و لا ينبغي ان يغترّ من لا يعاقب بمثل هذه العقوبات، من الخسف و المسخ و أمثالهما، فان الاستدراج و عقوبة القلوب اشدّ، أشدّ من عقوبات النفوس و الأجساد. قال تعالى: و نقلّب افئدتهم و أبصارهم، الآية. و لا شكّ انّ مسخ القلب عين الحرمان. و علامة مسخ القلب، أكل مال الحرام، و عدم المبالات به، و ان لا يجد ممسوخ القلب حلاوة الطاعة، و لا يخاف من المعصية، و لا يعتبر بموت احد، كذا ذكر في كتاب زهرة الرياض: قال عوف بن عبد اللّه: من عمل لآخرته كفاه اللّه امر دنياه. و من أصلح ما بينه و بين اللّه، أصلح اللّه ما بينه و بين الناس. و من أصلح سريرته، أصلح اللّه علانيته. و صلاح اربعة في اربعة:

الصبيان في المكاتب و خدمة الأساتيد للصنعة. و صلاح القطاع في السجن. و صلاح النساء في البيوت. و صلاح الكهول في المساجد.

ص: 190

[سورة البقرة (2): آية 67]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)

«وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ»: توبيخ آخر لا خلاف بنى إسرائيل، بتذكير جنايات صدرت من أسلافهم، حتى ينتهوا، فقال: و اذكروا قول موسى لأسلافكم و أجدادكم «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً»: هي الأنثى من نوع الثور، او واحد البقر، ذكرا كان او أنثى، و أصله من الشقّ، سميت به لأنّها تبقر و تشق الأرض للحراثة.

قال صاحب تفسير روح البيان و ذلك انّه كان في بنى إسرائيل شيخ موسر، فقتله بنو عمّه، طمعا في ميراثه، فطرحوه على باب المدينة، او حملوه الى قرية اخرى و القوه بفنائها، ثمّ جاءوا يطالبون بديته، و جاءوا بناس يدّعون عليهم القتل، فسألهم موسى فجحدوا، فاشتبه امر القتيل على موسى. و كان ذلك قبل نزول الامامة في التوراة، فسألوا موسى ان يدعوا اللّه ليبيّن لهم بدعائه، فدعا، فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة و يضربوه ببعضها، فيحيى، فيخبرهم بقاتله؛ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا بأس بفكاهة يخرج بها الإنسان من حدّ العبوس.

ثمّ انّ القوم علموا ذبح البقرة، عزم وجد، فاستوضعوها؟

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و لو انّهم عمدوا الى ادنى بقرة فذبحوها، لاجتزت عنهم.

«قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً»: اى قالوا لموسى: أ تجعلنا مكان هزء و سخريّة و تستهزئ بنا، نسألك عن امر القتيل، فتأمرنا بذبح البقرة، «قالَ» موسى «أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ»: لأنّ الهزء في تبليغ امر اللّه، جهل و سفه و استهزاء بأمر الدين كبيرة. و صاحبه مستحق للوعيد و ليس المزاح من الاستهزاء.

و لكنّهم استوضعوها، فشدّد عليهم الأمر و كانت تحته حكمة و هي انّه كان في بنى إسرائيل رجل صالح، له ابن طفل، و له عجلة اتى بها الى غيضة. و قال اللهم انّى استودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر. و مات الرجل، فصارت العجلة قي الغيضة عوانا، اى بين المسنة و الشابّة. و كانت تهرب من كلّ من رآها، فلمّا كبر الابن، كان بارّا بوالدته

ص: 191

و كان يقسم الليل أثلاثا، فيصلّى ثلثا و ينام ثلثا و يجلس عند رأس امّه ثلثا، فإذا أصبح انطلق، فاحتطب على ظهره، فيأتى به الى السوق، فيبيعه بما شاء اللّه، ثم يتصدّق بثلثه و يأكل ثلثه و يعطى والدته ثلثه، فقالت له امّه يوما: انّ أباك قد ورّثك عجلة استودعها اللّه في غيضة كذا فانطلق و ادع إله ابراهيم و إسماعيل و إسحاق ان يردّها عليك- و علامتها انّك إذا نظرت إليها يخيل إليك انّ شعاع الشمس يخرج من جلدها و كانت تسمى البقرة المذهّبة لصفرتها، فاتى الفتى الغيضة، فرآها ترعى، فصاح بها و قال اعزم عليك بإله ابراهيم و إسماعيل و اسحق و يعقوب، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها يقودها، فتكلّمت البقرة باذن اللّه- و قالت: ايّها الفتى البارّ لوالدته اركبنى فانّ ذلك أهون عليك، فقال الفتى: انّ امّى لم تأمر بذلك و لكن قالت خذ بعنقها، فقالت البقرة باله بنى إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علىّ ابدا، فانطلق، فانّك ان أمرت بالجبل، ان ينقلع من أصله و ينطلق معك لفعل لبرّك بامّك. فسار الفتى بها الى امّه. فقالت له امّه: انّك فقير لا مال لك و يشقّ عليك الاحتطاب بالنهار و القيام بالليل، فانطلق، فبع هذه البقرة. قال: بكم أبيعها، قالت بثلاثة دنانير و لا تبع بغير مشورتي- و كان ثمن البقرة ثلاثة دنانير- فانطلق بها الى السوق، فبعث اللّه ملكا ليرى خلقه قدرته، و ليختبر الفتى، كيف برّه بامّه و كان اللّه به خبيرا، فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة، قال بثلاثة دنانير و اشترط عليك رضى والدتي، فقال الملك لك ستّة دنانير و لا نستأمر والدتك، فقال الفتى لو أعطيتني وزنها ذهبا، لم آخذها الّا برضى امّى، فردّها الى امّه و أخبرها بالثمن، فقالت ارجع فبعها بستة على رضى مني، فانطلق بها الى السوق، فأتى الملك، فقال الملك استأمرت امّك، فقال الفتى:

انّها أمرتني ان لا أنقصها من ستّة على ان استأمرها، فقال الملك انّى أعطيك اثنى عشر على ان لا تستأمرها، فأبى الفتى، و رجع الى امّه و أخبرها بذلك، فقالت انّ الذي يأتيك، ملك بصورة آدمىّ ليختبرك، فإذا أتى، فقل له، أ تأمر ان نبيع هذه البقرة أم لا، ففعل فقال له الملك: اذهب الى امّك و قل لها أمسكي هذه البقرة، فانّ موسى بن عمران

ص: 192

يشتريها منك، لقتيل يقتل في بنى إسرائيل، فلا تبيعوها إلّا بمل ء مسكها ذهبا فامسكوها و قدّر اللّه على بنى إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتّى وصف لهم تلك البقرة بعينها مكافاة على برّه بوالدته.

قيل: و الوجه في تعيين البقرة دون غيرها من البهائم، انّهم كانوا يعبدون البقر و العجاجيل و حبّب ذلك لهم كما قال سبحانه: و اشربوا في قلوبهم العجل، ثمّ تابوا و عادوا الى طاعة اللّه، فأراد اللّه ان يمتحنهم بذبح ما حبّب إليهم، ليظهر منهم حقيقة التوبة و انقلاع ما كان منهم في قلوبهم و كان أفضل قرابينهم حينئذ البقر، قيل: و قد مضى من أول هذا الأمر، الى الامتثال، أربعون سنة، لغلاء ثمنها، و ذلك قوله: و ما كادوا يفعلون و قال الفيض في الصافي: في قصّة القتل و البقرة، انّهم لمّا قتلوا القتيل و طرحوا جثّته في محلّة سبط من أسباط بنى إسرائيل، الزم موسى اهل القبيلة بأمر اللّه، ان يحلف خمسون من أماثلهم، باللّه القوىّ الشديد، إله بني إسرائيل، مفضّل محمد و آله الطيبين صلوات اللّه عليهم، على البرايا أجمعين: انّا ما قتلناه و لا علمنا له قاتلا، فان حلفوا بذلك غرموا دية المقتول و ان نكلوا نصبوا على القاتل، او اقرّ القاتل، فيقاد منه، فإن لم يفعلوا حبسوا في مجلس ضنك إلى ان يحلفوا و يقرّوا او يشهدوا على القاتل، فقالوا:

يا نبىّ اللّه، ما وفت أيماننا أموالنا و لا أموالنا أيماننا. قال موسى: لا هذا حكم اللّه و كان السبب ان امرأة حسناء، ذات جمال و فضل بارع و نسب شريف كثر خطابها و كان لها بنو أعمام ثلثة فرضيت بأفضلهم علما و أرادت التزويج به، فاشتدّ حسد ابني عمّه الآخرين له و غبطاه عليها لإيثارها إيّاه، فعمدا الى ابن عمّه المرضى، فأخذاه الى دعوتها، ثمّ قتلاه و حملاه الى محلّة تشتمل على أكثر قبيلة من بنى إسرائيل، فألقياه بين أظهرهم ليلا، فلمّا أصبحوا وجدوا القتيل هناك، فعرف حاله، فجاء ابنا عمه القاتلان له فمزقا على أنفسهما ثيابهما و حثيا التراب على رؤسهما و استعديا عليهم، فاحضرهم موسى و سئلهم، فأنكروا ان يكونوا قتلوه و علموا قاتله، فقال موسى حكم اللّه ما عرفتموه فالتزموه، فقالوا يا موسى: اىّ نفع في أيماننا إذا لم تدرأ منّا الغرامة الثقيلة، أم أىّ

ص: 193

نفع في غرامتنا إذا لم تدرأ عنّا الايمان، فقال موسى كلّ النفع في طاعة اللّه و الائتمار بأمره و الانتهاء عمّا نهى عنه، فقالوا يا نبي اللّه، غرم ثقيل و لا جناية علينا و أيمان غليظة و لا حق في رقابنا. لو أنّ اللّه عرفنا قاتله بعينه و كفانا مؤنته، فادع لنا ربّك ان يبيّن لنا هذا القاتل لينزل به ما يستحقّه من العذاب و ينكشف امره، فقال موسى انّ اللّه قد بيّن ما حكم به في هذا، فليس لنا ان نقترح عليه غير ما حكم، الا ترون انّه لمّا حرّم العمل يوم السبت و حرّم لحم الحمل، لم يكن لنا ان نقترح عليه، ان يغيّر ما حكم به علينا، فأوحى اللّه اليه يا موسى: أجبهم الى ما اقترحوه و سلني ان ابيّن لهم القاتل ليقتل- و سلم غيره من التهمة، فانّي أريد بإجابتهم الى ما اقترحوا توسعة الرزق على رجل من خيار امّتك، دينه الصلوات على محمّد و آله الطيبين و التفضيل لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علىّ عليه السّلام على سائر البرايا اغنيه في الدنيا، في هذه القضيّة ليكون بعض ثوابه على تعظيمه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كيف لا و قد عظم عين العالم بل العوالم كما في تفسير الديلمي عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى ألم نجعل له عينين و لسانا و شفتين: قال العينان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اللسان امير المؤمنين عليه السّلام و الشفتان الحسن و الحسين و بيان قوله: العينان رسول اللّه.

أنّ فيه عين النبوّة و الولاية و العين الدنيويّة و الاخرويّة و يرى من قدّامه و خلفه، او يعاين الملك و الملكوت، او الظاهر و الباطن و مراتب الغيب و الشهادة و عالم الخلق و الأمر، فينظر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإحدى عينيه المعنويّة الى الربّ لقبول الفيوضات و بعينه الاخرى الى الخلق للفيضان و بالجملة فمن توجه الى عين العالم فلا بدّ من أن يظهر أثراته إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة أو كليهما إذا اقتضت المصلحة- و جميع آثار الخيريّة في العالم من هذه العين و كم صدرت المعجزات، من ظاهر بدنه و جسده العنصري، فضلا عن عالمه النوري فمن جبهته كان النور ساطعا في اللّيل و عيناه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرى من خلف و اذنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسمع الصوت في النوم كما في اليقظة و لسانه خاطب الضبّ: من انا، فقال الضبّ: أنت رسول اللّه. أصابعه جريان الماء منها و شق القمر و جلاه. صبّ فضالة غسالتها في البئر و فيضان الماء حين اشتكى جابر، لعاب فمه تفل في عين عليّ عليه السّلام. عورته مختونا ولد.

بدنه ليس له ظلّ. نفث نفسه اشفاء المرضى. شعره لا يحترق بالنار.

ص: 194

الحاصل فقال موسي: يا ربّ بيّن لنا قاتله، فأوحى اللّه الى موسى: قل لبني إسرائيل: ان اللّه يأمركم ان تذبحوا بقرة فيضربوا بعضها بالمقتول، فيحيى، أ فتسلمون لربّ العالمين ذلك و الّا فكفّوا المسألة و التزموا ظاهر حكمى. فذلك ما حكى اللّه في قوله: و إذ قال موسى لقومه. و القمىّ عن الصادق عليه السّلام انّ رجلا من بنى إسرائيل و علمائهم خطب امرأة منهم فأنعمت له و خطبها ابن عمّ لذلك الرجل و كان فاسقا فردوه فحسد ابن عمّه الذي انعموا له، فرصده و قتله غيلة، ثمّ حمله الى موسى، فقال يا نبي اللّه- هذا ابن عمّي قد قتل، فقال من قتله، فقال له لا ادرى- و كان القتل في بني إسرائيل عظيما جدّا، فعظم قتل ذلك الرجل على موسى، فاجتمع اليه بنو إسرائيل: فقالوا أما ترى يا نبي اللّه- و كان في بنى إسرائيل رجل له بقرة، و كان له ابن بارّ، و كان عند ابنه سلعة. فجاء قوم يطلبون سلعته. و كان مفتاح بيته في تلك الحال تحت رأس أبيه و هو نائم. فكره ابنه ان ينغص عليه نومه، فانصرف القوم و لم يشتروا سلعته، فلمّا انتبه أبوه، فقال يا بنىّ: ما صنعت في سلعتك. قال: هي قائمة لم أبعها، لأن المفتاح كان تحت رأسك، فكرهت ان أزعجك من رقدتك و انغص عليك نومك. فقال أبوه:

قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عمّا فاتك من ربح سلعتك و شكرا للّه للابن ما فعل بابيه، فأمر اللّه موسى، ان يأمر بنى إسرائيل بذبح تلك البقرة بعينها، ليظهر قاتل ذلك الرجل الصالح، فلمّا اجتمع بنو إسرائيل أمرهم اللّه بذبح البقرة.

ايقاظ: فحياة الروح بذبح بقرة النفس و شهواتها، فارجع الى ربّك بالتوبة و الطاعة و لا تيأس، يعود عليك بالرحمة، فانّه غفور رحيم. انّ الخضر فارق موسى بان عاوده في السؤال ثلاث مرّات و قال له: هذا فراق بيني و بينك و أنت عاودت الذنب اكثر من ثلاثين ألف مرّة و اللّه سبحانه لم يقل لك هذا فراق بيني و بينك بشرط ان ترجع اليه حقيقة. انّه تعالى نهى عن حبس المعسر في السجن لعجزه عن الأداء، فقال:

و ان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة. فكيف يحبس المذنب التائب في سجن النار، فجاهد في سبيل ربّك بالرجوع و الطاعة.

ص: 195

و العبد و ان كان عاصيا إذا تقدم الى الحق شبرا، تقدم الحق اليه ذراعا، و بذلك الشبر ينفتح في زاوية قلبه روزنة من النور، ثمّ بالعمل يكثر ذلك النور شيئا فشيئا، فينفتح عينا قلبه، فلا يسمع بمعروف الّا عرفه و قبله و لا بمنكر الّا أنكره الى ان يئول امره بمرتبة الشهود القلبي الكشفي، فانّ للإنسان قوّة درّاكة ينتقش فيها حقايق الأشياء، كما في المرآة إذا كانت صافية- و هذه القوّة في كلّ انسان و غير مختصّ بالمؤمن، بل للفاسق ايضا هذه القوّة مكمونة، لكنّ القلب الملتبس بالغواشي و العلائق و الشهوات محروم عن هذا المعنى و هو في عمى، لكن إذا زالت هذه العوائق و فنيت النفس و هواها في الطاعة يرى الفيض بعين قلبه، بل يرى الامام بالعين القلبيّة و يستمدّ منه، كما قال اللّه: و جعلنا له نورا يمشي به في الناس، بحيث يقرب من العلم اللدني و هذا هو المقام الرابع من ترتيبات الهداية، فانّ المقام الأول إعطاء القوى المدركة، كما قال سبحانه: و اعطى كلشي ء خلقه ثم هدى، و المقام الثاني من الهداية، نصب الدلائل و البراهين، كما قال: و هديناه النجدين؛ و المقام الثالث دعوة الناس الى ما ينفعهم من العلم و العمل بواسطة الرسل و الكتب، كما قال سبحانه: و جعلناهم ائمّة يهدون بأمرنا، و المقام الرابع كشف الأستار و الأسرار على الضمائر بواسطة الإلهام و الحدس و الوحي و غيرها، كما قال: و الذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا.

ص: 196

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): الآيات 68 الى 71]

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)

فلمّا توجّهوا للامتثال «قالُوا» يا موسى «ادْعُ لَنا» سل لأجلنا «رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا» و يوضح و يعرف من البين و الفراق «ما هِيَ» ما مبتداء و هي خبره و قد سألوا عن حالها و صفتها، لأنّه قرع اسماعهم ما لم يعهدوه من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميتا فيحيى، كقولك: ما زيد و شانه فيقال طبيب «قالَ» موسى بعد ما دعا ربّه و أتاه الوحى «إِنَّهُ» اى أنّ اللّه تعالى «يَقُولُ إِنَّها» اى البقرة المأمور بذبحها «بَقَرَةٌ لا» هي «فارِضٌ» اى مسنّة من الفرض و هو القطع كأنّها قطعت سنّها و بلغت آخره «وَ لا بِكْرٌ» اى فتية صغيرة و لم يؤنث البكر و الفارض، لأنّهما كالحائض في الاختصاص بالأنثى «عَوانٌ» اى نصف «بَيْنَ ذلِكَ» المذكور من الفارض و البكر «فَافْعَلُوا» امر من جهة موسى «ما تُؤْمَرُونَ» به من ذبح البقرة.

«قالُوا» كأنّه قيل ماذا صنعوا بعد هذا البيان و الأمر المكرّر، فقيل قالوا «ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها» من الألوان حتّى تتبين لنا البقرة و اللون عرض مشاهد يتعاقب على بعض الجواهر «قالَ» موسى بعد المناجاة إلى اللّه و مجي ء الوحى «إِنَّهُ» اللّه تعالى «يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ» و الصفرة لون بين البياض و السواد و هي الصفرة المعروفة و ليس المراد هنا السواد كما في قوله: كأنّه جمالة صفر، اى سود

ص: 197

و التعبير في قوله صفر و أراد به السواد لما انّها في مقدّماته «فاقِعٌ لَوْنُها» مبتداء و خبر و الجملة صفة للبقرة و الفقوع نصوع الصفرة و خلوصها و بريقها، فيقال في التأكيد اصفر فاقع و أسود حالك أى صفراء شديدة الصفرة و خلوصها و بريقها، فيقال في التأكيد أصفر فاقع و أسود حالك أى صفراء شديدة الصفرة، قيل: كانت صفراء الكل حتّى القرن و الظلف «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» إليها، يعجبهم حسنها و صفاء لونها و يفرح قلوبهم للطافة شكلها و لونها.

قال أمير المؤمنين: من لبس نعلا صفراء قلّ همّه، لأنّ اللّه يقول: تسر الناظرين و نهى جماعة عن لبس النعال السود، لأنّها تهمّ- و قيل إنّ الخفّ الأحمر خفّ فرعون و الخفّ الأبيض خفّ وزيره هامان.

«قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ»: أ سائمة هي، أم عاملة، تكرير للسؤال و استكشاف زائد، ليزدادوا بيانا لوصفها؛ و في الحديث: أعظم الناس جرما من سئل عن شي ء لم يحرم، فحرم لأجل مسألته.

«إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا»: اى جنس البقر الموصوف و الصفرة كثيرة، فاشتبه علينا أيّها تذبح، فذكر البقر لإرادة الجنس، أو لأنّ كلّ جمع حروفه أقلّ من واحده، جاز تذكيره و تأنيثه، «وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ»: لذبح البقرة. و في الحديث:

لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد «قالَ» موسى «إِنَّهُ» تعالى «يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ» مذلّلة ذلّلها العمل بيّنة الذل من شدّة النصب و التعب و لم يقل ذلولة لأنّ فعولا إذا كان وصفا لم تدخله الهاء كصبور «تُثِيرُ الْأَرْضَ»: أى تقلبها للزراعة و هي صفة ذلول: اى لم يذلّلها العمل باثارة الأرض بأظلافها «وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ» اى لم تكن بستانية يسقى عليها بالسواقى، كأنّه قيل: لا ذلول مثيرة و ساقية. «مُسَلَّمَةٌ» اى سالمة و بريّة من العيوب و قيل مسلمة من الشبه، ليس لها لون مخالف لونها و قيل سليمة من آثار العمل لأنّ ما كان من العوامل لا يخلو من آثار العمل في قوائمه و

ص: 198

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 249

بدنه، قال الحسن: انّها كانت وحشيّة «لا شِيَةَ فِيها»: و لا وضح فيها يخالف لون جلدها، من وشى الثوب و هو استعمال ألوان الغزل في نسجه «قالُوا»: عند ما سمعوا هذه النعوت «الْآنَ»: اى هذا الوقت بنى لتضمّنه معنى الإشارة «جِئْتَ بِالْحَقِّ» اى ظهر لنا الحق الآن و ما بقي في أمرها اشكال و هي بقرة فلان. قال بعض اهل التفسير، مثل ابى منصور الحازم: انّ البقرة كانت ذكرا لأنّ إثارة الأرض و سقى الحرث من عمل الذكران. و الضمائر الراجعة إليها على التأنيث، فللفظها كما في قوله و قالت طائفة و التاء للتوحيد، لا للتأنيث و يمكن أن يكون أهل ذلك الزمان يحرثون بالأنثى «فَذَبَحُوها»: الفاء فصيحة، اى فحصلوا البقرة الموصوفة بأن وجدوها عند الفتى، فاشتروها بمل ء مسكه ذهبا، فذبحوها «وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ» و الجملة حال من فاعل، ذبحوا اى فذبحوها، و الحال انّهم في التوقّف و البطوء، لثقل غرامة ثمن البقرة. و اختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل، فقيل لسانها و قيل فخذها اليمنى و قيل ذنبها و قيل غيرها.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): الآيات 72 الى 73]

وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

«وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها» هذا مؤخّر لفظا، مقدّم معنى، لأنّه أوّل القصّة، اى: و اذكروا وقت قتلكم النفس و هي عاميل بن شراحيل و أتيتم موسى و سألتموه، فقال لكم انّ اللّه يأمركم. الآية، فقدّم المؤخّر و أخّر المقدّم و نحو ذا كثير في القرآن و الشعر، مثل قوله، الحمد للّه الذي انزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا قيما، تقديره انزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا، قال الشاعر: إنّ الفرزدق صخرة ملمومة، طالت فليس ينالها الاوعالا- اى طالت الأوعال- و قيل: إنّ الآية قد تعلّقت بما هو متأخّر في الحقيقة و تقدير الكلام فذبحوها و ما كادوا و لأجل

ص: 199

انّكم قتلتم نفسا فتدافعتم فيها أمرناكم بأن تضربوه ببعضها ليكشف امره و أضيف القتل الى اليهود المعاصرين لرسول اللّه على عادة العرب، في خطاب الأبناء و الأحفاد بخطاب الاسلاف و الأجداد و خطاب العشيرة لواحد يقال فعلت بنو تميم و إن كان الفاعل واحدا و فيه وجه آخر و هو أن يكون الخطاب لمن كان في زمن موسى و تقديره و قلنا لهم:

و إذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها، اى كلّ واحد دفع قتل النفس عن نفسه و الضمير في قوله فيها، راجع الى النفس، او الى القتلة، اى اختلفتم، لأنّ قوله قتلتم، تدلّ على المصدر، لكن عودها الى النفس أولى.

«وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»: اى مظهر ما كنتم تسترون من القتل او مخرج من غامض اسراركم و مطلع ما كان آباؤكم يكتمونه و أنتم تكتمونه و الخطاب لليهود في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و استعمل مخرج في الكلام مع انّه في معنى الماضي لأنّه على سبيل الحكاية، فحكى ما كان مستقبلا في وقت التدارؤ، كما حكى الحاضر في قوله: باسط ذراعيه.

«فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها»: فضربوه فحيي و لعلّ السرّ في هذا الأمر بهذا الترتيب مع انّه قادر على أن يحييه بأقل من طرفة العين، لاغناء ذلك الفتى البار بوالده و أمر اللّه بتقديم هذه القربة تعليما لكلّ من غمض عليه امر من الأمور، ان يتقدّم نوعا من القرب، قبل ان يسأل اللّه كشف ذلك عنه، ليكون اقرب الى الاجابة.

«كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى على إرادة القول، اى و قلنا كذلك، فالخطاب في كذلك للحاضرين عند حياة القتيل، اى مثل ذلك الأحياء العجيب، يحيى اللّه الموتى يوم القيامة، أو الخطاب لمنكري البعث، من مشركي العرب، في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الحاضرين عند نزول الآية الكريمة، فلا حاجة حينئذ على تقدير القول، بل تنتهي الحكاية عند قوله ببعضها.

«وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ»: اى دلائله الدالّة على أنّه على كلشي ء قدير.

«لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»: اى لكي تكمل عقولكم و تعلموا انّ من قدر على احياء

ص: 200

نفس واحدة، قدر على احياء الأنفس كلّها- و تعلمون انّ المؤثّر، هو اللّه، لا الأسباب فهو تعالى إذا أراد، يجعل الأثر في الأسباب، و لو لم يكن لها تأثيرات أبدا، فإنّ الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل ان يتولّد منهما حياة، جلّت قدرته تعالى.

قال بعض اهل المعرفة: انّما جعل اللّه احياء المقتول في ذبح البقرة، تنبيها لعبيده، انّ من أراد منهم احياء قلبه، لم يتأتّ له الّا باماتة نفسه، فمن ذبحها بأنواع العبادات و الرياضات المشروعة و أعظمها الورع من المحرّمات و الشبهات، احيى اللّه قلبه بأنوار المشاهدات، فمن مات بالطبيعة، يحيى بالحقيقة و يجب علينا ان نتقيّد باحياء نفوسنا بالحيوة الحقيقيّة، لا الحيوة البقريّة، فانّ المنظر الإلهي انّما هو القلوب و الأعمال، لا القصور و الأموال، كما ورد في الحديث: إنّ اللّه لا ينظر الى صوركم و أحوالكم، بل الى قلوبكم و أعمالكم و العاقل من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و ما يعقل ذلك الّا العالمون و ايّاك ان تغترّ في دنياك بساعة سرور أدركته، او بسرير ملكته و لو كان ذلك السرير و السرور ايّام عمرك، فانّه بالنسبة الى عمرك. في الآخرة اقلّ من ساعة و قد مثّلوا للدنيا بالمياس، امّا يكون ضيقا حرجا، او واسعا منفرجا، ان ضاق فمرحبا بالحفا و ان رحب فموجب الصقع على القفا، الضيق يفرّج الكعوب و العرقوب و الرحب يغيّر الذيول و الجيوب، انظر إليها بعين الاعتبار و طالعها فانّها صحيفة ابنائك و خالعها فهي حليلة آبائك و اغتنم فؤادك الفاحم قبل ان يبيض و احذر من جدار يريد ان ينقض، امنيّة جوفاء، و وارمة عجفاء يؤذيك اعباؤها و لا بدّ فيك عباؤها، لا يغرنك قطفها النضيج، فهو غيث اعجب الكفّار نباته ثمّ يهيج، هب انّك صرفت عمرك في تحصيل الدنيا و ملكت الدنيا بأسرها، فهل تبقى لك او تبقى لها و بعد ان ملكتها، مثلك معها، مثل الفارة و الجمل، فأخذت الفارة بخطامها الى جحرها، فلمّا وقف الجمل الى باب بيتها، نادى بلسان حالها: امّا ان تتّخذي دارا تليق بمحبوبك، او محبوبا يليق بدارك، فيا اقل من الطائر، فانّ الأنثى متى ما علمت انها حملت، نقلت العيدان لبناء العش قبل الوضع و أنت ما مهّدت لقبرك فراشا و ضيّعت ايّام فرصتك بالملاهي و المعاصي، او بالمباحات التي لا طائل لك فيها، اما سمعت قول اللّه تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما

ص: 201

تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، فيا ايّها المغرور، من اين لك هذا الاطمينان، كانّك ما عصيت اللّه قط!! بلى، التفرج الى هذه المتنزّهات و السينمايات اذهب عن قلبك الخوف، بدّلت زيارة المقابر الموجبة للتنبّه، بموجبات الغفلة و كان السلف إذا رجعوا من زيارة المقابر، يستعدّون للتزوّد و هم كالحيارى؛ قال بعض السلف: رأيت شابّا راجعا من الجبانة و صعد في سفح جبل و عليه آثار الغلق و دموعه جارية، فقلت من أنت و من اين، فقال الشابّ: آبق من مولاه، فقلت: يعود العبد الآبق فيعتذر، فقال: العذر يحتاج الى حجّة- و لا حجّة للمفرّط، قلت: فيتعلّق بشفيع، فقال: كلّ الشفعاء يخافون منه، قلت: من مولاك، قال: ربّاني صغيرا فعصيته كبيرا، فوا سوأتاه من حسن صنيعه و قبح فعلى، ثم صاح و وقع فمات!! فخرجت عجوز، فقلت لها: أقيم عندك أعينك على غسله و تجهيزه، فقالت: خلّه ذليلا بين يدي قاتله، عسى يراه بغير معين، فيرحمه. و العجب انّ واحدنا يصلّى خمسين سنة و هو يقول في كلّ يوم: اهدنا الصراط المستقيم و هو باق على طريق الفساد، مع انّ الصلاة صلة بين العبد و الربّ و أنت منقطع عنه و مالك من هذه الصلة عائد و هاك نصيحة و هاك مثالا آخر للدنيا، فانّها نهر طالوت و انّ اللّه مبتليكم به، فمن شرب منه فليس منّي الّا من اغترف و قنع بكفّ عنه و اقتصر بسدّ جوعته و ستر عورته، ففاز و نجى و من لم يقنع فالأمر صعب جدّا، كما انّ جيش طالوت ما قنعوا و هلكوا، فانّ مراتب النفس اربعة: نفس النامية النباتية- و نفس الحسيّة الحيوانيّة- و نفس الناطقة القدسيّة- و نفس الكليّة الالهيّة- و هذه الاخيرة الكاملة و هي بقاء في فناء- و نعيم في شقاء- و عزّ في ذلّ- و صبر في بلاء- و فقر في غناء و معلوم انّ هذه الملكات صعب جدّا و هيهات و اين الثريا من يد المتناول!

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 74]

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

«ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ»: خطاب لأهل عصر النبىّ من الأحبار و اهل الكتاب و ثم

ص: 202

في الآية لاستبعاد القسوة، من بعد ذكر ما يوجب لين القلوب و رقّتها- و القساوة ذهاب اللّين و الرأفة عن القلب و الصلابة في كلشي ء. «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ»: اى من بعد سماع ما ذكر مما ورد باسلافكم، من احياء القتيل و مسخ القردة و الخنازير و رفع الجبل و القوارع الّتي من عظمتها تميع الجبال و الصخور، «فَهِيَ»: اى القلوب، «كَالْحِجارَةِ»: في شدّتها و قسوتها و الفاء لتفريع مشابهتها لها في القساوة، كقولك: احمرّ خدّك فهو كالورد «أَوْ أَشَدُّ» منها «قَسْوَةً»: تميز. و «أو» يجوز أن يكون بمعنى التخيير: اى ان شئتم فاجعلوها اشدّ منها مثل الحديد، فأنتم مصيبون في ذلك و انّما لم تحمل على معنى أصلها و هو الترديد، لما انّ ذلك على اللّه محال، او يكون بمعنى بل، قال الشاعر:

فو اللّه ما أدري أ سلمى تغوّلت أم النّوم أم كلّ إلىّ حبيب

اى: بل كلّ و انّما أتى بكلمة «أَشَدُّ» مع انّ فعل القسوة ممّا يخرج منه افعل التفضيل و فعل التعجّب، لكونه أبين على فرط القسوة من لفظ أقسى.

اعلم انّ اللّفظ كالصورة، و المعنى كالروح، فان اتّفقا وقع الكمال في الكلام و لذا قد يؤتى في شعر واحد بكلمة مكرّرة و هي حسنها و بالعكس، مثل قول المعرى:

الرّسل احمد اوصافا و احمدهم في الوصف احمدنا و في الآية صنعة الجمع مع التفريق.

«وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ»: بيان لقساوة قلوبهم «لَما يَتَفَجَّرُ» و اللام للتأكيد:

اى الحجر يتفجّر و يتفتّح «مِنْهُ»: راجع الى ما، اى انّ بعض الأحجار يتفجّر منه «الْأَنْهارُ» جمع نهر و هو المجرى الواسع «وَ إِنَّ مِنْها»: من الحجارة «لَما يَشَّقَّقُ» و يتصدّع «فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ»: و المراد بالشقوق، العيون الّتى تخرج من الشقوق و الإصداع، دون الأنهار «وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ». اى يتردّى و ينزل من أعلى الجبل الى أسفله «مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»: و هنا مجاز عن انقيادها لأمر اللّه و قلوب هؤلاء اليهود و من سلك مسلكهم لا تنقاد و لا تلين و لا تخشع «وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ»، بساه و ذاهل «عَمَّا تَعْمَلُونَ»: قالت المعتزلة: خشية الحجر وجه المثل، يعنى لو كان له عقل لفعل

ص: 203

ذلك- و مذهب اهل السنّة: انّ الجحر و ان كان جمادا لكنّ اللّه يلهمه، فيخشى بالهامه، فانّ اللّه تعالى علما في الجمادات و سائر الحيوانات، سوى العقلاء لا يقف عليه غيره، فلها صلاة و تسبيح و خشية، كما قال سبحانه: و ان من شي ء إلّا يسبّح بحمده و قال: و الطير صافّات كلّ قد علم صلاته و تسبيحه، فيجب على المرء، الايمان به و يجعل علمه الى اللّه- و يؤيّد هذا المعنى ان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان على ثبيرة و الكفّار يطلبونه، فقال الجبل: انزل عنّي فانّي أخاف ان تؤخذ عنّي، فيعاقبنى اللّه بذلك، فقال له جبل حراء: الىّ يا رسول اللّه. و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا خطب استند الى جذع نخلة من سوارى المسجد، فلمّا صنع المنبر، فاستوى عليه، اضطربت تلك السارية من فراق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حنّت كحنين الناقة، حتى سمعها اهل المسجد، و نزل رسول اللّه، فاعتنقها، فسكنت.

لكنّه قال أبو مسلم: انّ الضمير في قوله: و انّ منها لما يهبط من خشية اللّه- راجع الى القلوب، لا الى الحجارة، لأنّ الهبوط من الخشية صفة الأحياء و العقلاء- و الحجر جماد- و قد تقدّم ذكر القلوب، كما تقدّم ذكر الحجارة، أقصى ما في الباب، انّ الحجارة اقرب المذكورين، الّا انّ هذا الوصف لمّا كان لائقا بالقلوب دون الحجارة وجب رجوع هذا الضمير الى القلوب دون الحجارة و اعترضوا على ابى مسلم بأنّا لا نسلّم انّ الحجارة ليست حيّة عاقلة و لا نقول انّ الحجارة كلّها عاقلة و المراد من ذلك، جبل موسى حين تجلّى له ربّه له و تقطّع و ذلك لأنّ اللّه خلق فيه العقل و الإدراك و هذا غير مستبعد من قدرة اللّه و نظيره قوله تعالى: وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ- و كذلك الجبل و الحجر وصفه بالخشية، فحينئذ الضمير راجع الى الحجارة، ثمّ انّ الهبوط لائق بالحجارة لا بالقلوب، فليس تأويل الهبوط، اولى من تأويل الخشية- و قيل وجه آخر في معنى الآية و هو انّ معنى «وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» انّه يدعو المتفكّر و المتأمّل فيه الى خشية اللّه و يوجب الخشية اللّه، فالحجارة من موجبات الخشية، بدلالته على صانعه و خالقه و أضاف الخشية إليها لأنّ التفكّر فيها هو الداعي الى الخشية، كما قال جرير بن عطيّة:

ص: 204

و أعور من نبهان أمّا نهاره فأعمى و أمّا ليله فبصير

فجعل الصفة للّيل و النهار و هو يريد صاحبه النبهاني الّذي يهجوه (تنبيه) فإذا كانت الخشية في الحجارة، كيف لا تخشى و لا تتوب من ذنوبك فمن لم يساعده نفسه بالرجوع و التوبة، كيف يترك العزّ و يقبل الذلّ و الغنى على الفقر مع انّ التوبة واجبة و في فوريته فقد صرّح بها المعتزلة و أصحابنا، لكنّ المعتزلة يقولون حتى انّه لو اخّر توبته عن الكبيرة ساعة واحدة فقد فعل كبيرتين و ساعتين فقد فعل اربع كبائر و هكذا. و أصحابنا سكتوا عن هذا التفصيل و دليل المعتزلة قوىّ، لأنّ ترك الواجب كبيرة ثانية و الخطب الأعظم انّ المعصية ليست عندنا عظيمة و من كثرة ما اكتسبناه خفّت عقوبتها عندنا و لا نبالى بأصلها فضلا عن توبتها، اما سمعت ما رواه الشيخ في التهذيب عن الصادق عليه السّلام: انّ رجلا جاء اليه و قال انّ لي جيرانا و لهم جوار يتغنين و يضربن بالعود، فربّما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعا منّى لهنّ، فقال لا تفعل، فقال و اللّه ما هو شي ء آتيه برجلي انّما هو استماع اسمعه باذنى، فقال عليه السّلام اما سمعت اللّه يقول: انّ السمع و البصر و الفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولا، فقال انّى تركتها و استغفر اللّه، فقال الصادق عليه السّلام: قم فاغتسل و صلّ ما بدا لك، فقد كنت مقيما على امر عظيم، ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك.

أقول: تجرّع مرارات النوائب في ايّام معدودة، لحلاوة موعودة، انّما هي محنة بائدة، تتلوها فائدة، و كربة ناقدة، بعدها نعمة خالدة- و من عشق المعالي ألف الغمّ و من طلب اللئالى، ركب اليمّ، فلا تشربن و ردا يعقبك سقاما. و لا تشمنّ وردا يورثك زكاما. فمن طلب الجنّة، زهد في الدنيا بقوته عنها و من يرد ثواب الآخرة نؤته منها، قم و اعمل، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سيّد الأعمال، انصاف الناس من نفسك و مؤاساة الأخ في اللّه و ذكر اللّه على كلّ حال، امّا لا أقول سبحان اللّه و الحمد للّه إلخ و ان كان هذا من ذكر اللّه و لكن ذكر اللّه في كلّ موطن على طاعة أو على معصية، بمعنى انّك تكون متذكّرا في جميع ما يخطر لك في قلبك، فعله أو تركه، هل هو في الطاعة فتأتى بها، او في المعصية فتدعها و هذا هو الذكر الأكبر القلبي و امّا الذكر

ص: 205

اللساني من الأسماء و الصفات، فتذكره سبحانه مع التوجّه الى معانيها مثل ان تقول يا رحيم، او مثلا يا جواد، تكون تعرف معنى هذه النسبة اليه تعالى، فانّ معنى الجود بالنسبة اليه افادة ما ينبغي لا لغرض و كلّ احد غيره انّما يجود و يعطى، ليأخذ عوضا لطلب الخدمة، او لطلب ثناء الجميل، او لطلب الإعانة، او لطلب الثواب، او لدفع الرقّة الجنسيّة من القلب، او ليزيل حبّ المال عن قلبه و كلّ هذه في الحقيقة معاوضة و تحصيل كمال، لكنّ الحق سبحانه كامل في ذاته، فإذا قلت يا جواد، اعرف ما تقول، حتى لا يكون ذكرك لقلقة اللسان.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 75]

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)

كان النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شديد الحرص على الدعاء الى الحق و قبولهم الايمان منه و كان يضيق صدره بسبب عنادهم و تمرّدهم، فقصّ اللّه سبحانه عليه اخبار بنى إسرائيل في العناد العظيم مع مشاهدة الآيات الباهرة، تسلية لرسوله فيما يظهر من اليهود في زمانه من قلّة القبول و الاستجابة. و الخطاب للنبىّ و أصحابه.

و حاصل المعنى: أبعد ان علمتم تفاصيل شئونهم المؤيسة «أَ فَتَطْمَعُونَ»:

في «أَنْ يُؤْمِنُوا» جميع اليهود أو علمائهم فانّهم متماثلون في شدّة الشكيمة و الأخلاق الذميمة و لا يتأتّى من اخلافهم الّا مثل ما اتى من أسلافهم، فلا تحزنوا على تكذيبهم «لَكُمْ» اى لأجل دعوتكم «وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ» و الحال قد كان فريق كائن «مِنْهُمْ» و طائفة ممّن سلف منهم- و الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالرهط «يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ» و هو ما يتلونه في التوراة «ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ» و يغيّرون ما فيه من الأحكام، كتغييرهم لصفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آية الرجم و قيل: كان قوم من السبعين المختارين، سمعوا كلام اللّه، حين كلّم اللّه موسى بالطور، و ما امر به و ما نهى، ثمّ قالوا سمعنا اللّه يقول في آخره: ان استطعتم ان تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا و ان شئتم ان لا تفعلوا فلا بأس. و هذه الأمور من تحريفاتهم.

ص: 206

قال صاحب كتاب التيسير: و الصحيح انّهم لم يسمعوا كلام اللّه بلا واسطة، فانّ ذلك كان لموسى على الخصوص لم يشركه فيه غيره- و معنى يسمعون كلام اللّه من التوراة، من موسى بقرائته.

«مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ» و فهموه و ضبطوه بعقولهم و لم يبق لهم شبهة في صحّته يقول: كيف يؤمن هؤلاء و هم يقلّدون أولئك الآباء، فهم من اهل السوء الّذين مضوا بالعناد، فلا تطمعوا في الايمان منهم.

«وَ هُمْ يَعْلَمُونَ»: و الحال انّهم يعلمون انّهم محرّفون، كاذبون، و قد نسب اللّه الى طائفة منهم المعاندة و ان كانوا بأجمعهم كافرين و في الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع و هو عامّ في اظهار البدع في الفتاوى او القضايا و جميع تحريفات الدينيّة.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 76]

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76)

النزول، روى عن ابى جعفر عليه السّلام انّه قال: كان قوم من اليهود، ليسوا من المعاندين المتواطئين إذ المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنهاهم كبرائهم عن ذلك و قالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيحاجّوكم به عند ربّكم، فنزلت الآية.

و قيل: هؤلاء قوم من اليهود، آمنوا ثمّ نافقوا، فكانوا يحدّثون المسلمين من العرب، بما عذّب به أسلافهم، فقال بعضهم لهم: أ تحدثونهم بما فتح اللّه عليكم من العذاب ليحاجّوكم به، فيقولون نحن أكرم على اللّه منكم.

«وَ إِذا لَقُوا» اى اليهود «الَّذِينَ آمَنُوا» من اصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «قالُوا» اى:

منافقوهم «آمَنَّا» كايمانكم و انّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الرسول المبشّر به «وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ» الذين لم ينافقوا «إِلى بَعْضٍ» اى الى الذين نافقوا بحيث لم يبق معهم غيرهم «قالُوا» اى الساكتون عاتبين لمنافقتهم على ما صنعوا «أَ تُحَدِّثُونَهُمْ» و تخبرونهم و الاستفهام

ص: 207

بمعنى النهى اى لا تحدثوا المسلمين «بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» و بيّنه اللّه لكم خاصّة من نعت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في التوراة «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ» اللّام متعلّقة بالتحديث دون الفتح اى لتحتجّوا عليكم به، فيقطعوكم بالحجّة «عِنْدَ رَبِّكُمْ» اى في حكمه و كتابه، كما يقال: هو عند اللّه كذا، اى في شرعه و كتابه كذا و حاصل المعنى انّكم لا تقرّوا بان محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبي لأنّكم إذا أقررتم انّه نبيّ حقّ و هو مذكور في كتابكم فحينئذ يجادلكم المسلمون و تكون الحجّة عليكم «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» متّصل بكلامهم اى أفلا تفقهون ايّها القوم، انّ إخباركم محمّدا و أصحابه بما تخبرون من وجود نعت محمّد في كتبكم، حجّة عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم. و قيل معناه: أ فلا تعقلون أيّها المؤمنون فلا تطمعوا في ذلك، فيكون كلاما مستأنفا. و قيل انّه خطاب لليهود اى أ فلا تعقلون أيّها اليهود إذ تقبلون من رؤسائكم مثل هذه الكلمات السخيفة، فيكون الكلام تحذيرا لهم عن اتّباعهم لرؤسائهم.

فاطلب العلم حتى يكون عملك على المنهج المستقيم و تستفيد من العمل و المراد من العلم، ما قاله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّما العلم ثلاثة، آية محكمة، أو فريضة عادلة، او سنّة قائمة و ما عداها فضول.

و المراد من آية محكمة، التي لم يكن للريب و الشكّ مجال فيها و الّا لم تكن محكمة كالأحكام مثل قوله: للذكر مثل حظّ الأنثيين. و المراد من الفريضة العادلة:

العلوم النفسانيّة المتعلّقة بالرذائل و الخصال المحمودة باعتبار التخلية و التحيلة و التعبير بالعادلة: لأنّها المتوسّطة المحفوظة من الإفراط و التفريط. و المراد بالسنّة القائمة العادات المأخوذة من النبيّ و الوصيّ، مستقيمة منتصبة عن الاعوجاج، تكفى مهامّ عاملها في الدنيا و الآخرة و تكون قائمة بأمور فاعلها و يستغنى بها في أموره.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تركتم على الحجّة البيضاء. فلا تغيّر السنّة بالتقليد من هاهنا و هاهنا فتفسد جميع أمورك.

ص: 208

[سورة البقرة (2): آية 77]

أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77)

اى جميع ما يسرّونه و ما يعلنونه، عالم به و من ذلك أسرارهم الكفر و اعلانهم الايمان.

[سورة البقرة (2): آية 78]

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)

«وَ مِنْهُمْ» اى من اليهود «أُمِّيُّونَ» لا يحسنون الكتب و لا يقدرون على القراءة.

و الأمّي منسوب الى امّة العرب و هي الامّة الخالية عن العلم و القراءة، فاستعير لمن لا يعرف القراءة و الكتابة «لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ»: يعنى التوراة ليطالعوها و يتحقّقوا ما فيها من دلائل نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيؤمنوا «إِلَّا أَمانِيَّ» جمع امنيّة من التمنّى و الاستثناء منقطع لأنّ الأمانىّ ليست من جنس الكتاب و هي الشهوات الباطلة الثابتة عندهم و المفتريات، من تغيير صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعض الأقاويل الفاسدة من زعمهم أنّهم لا يعذّبون في النّار الّا ايّاما معدودة و أنّ آبائهم الأنبياء يشفعون لهم و أنّ اللّه لا يؤاخذهم بخطاياهم و لا حجّة لهم في هذه الأمور «وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» اى و ما هم إلّا يظنّون ظنّا من غير تيقّن بها و قصارى أمرهم، الظنّ و التقليد لآبائهم و أنّى يرجى منهم الايمان و اليقين.

و الامنيّة لها معان مشتركة في اصل واحد، أحدها ما تخيّله الإنسان فيقدّر في نفسه وقوعه و يحدّثها بوجوده و كونه. و ثانيها، الأمانىّ: الأكاذيب المختلقة سمعوها من علمائهم، فقبلوها على التقليد. قال أعرابي لابن دأب في كلام حدّث به: أ هذا شي ء رويته، أم تمنيته اى اختلقته. و ثالثها بمعنى القراءة قال كعب بن مالك: تمنّى كتاب اللّه اوّل ليلة. و حمل معنى الآية على القراءة أليق و حينئذ الاستثناء متّصل، فكأنّه قال: لا يعلمون الكتاب، الّا بقدر ما يتلى عليهم، فيسمعونه و بقدر ما يذكر لهم، فيقبلونه لأنّهم اميّون و كلّ هذه المعاني مناسب لحالهم.

ص: 209

[سورة البقرة (2): آية 79]

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

الويل، كلمة يقولها كلّ واقع في هلكة بمعنى الدّعاء على النّفس بالعذاب «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ»: اى عقوبة عظيمة، و هو مبتداء، و ما بعده خبره، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

الويل واد في جهنّم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا، قبل ان يبلغ قعره. و قال سعيد بن المسيّب عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه واد في جهنّم لو سيّرت فيه جبال الدنيا، لماعت من شدّة حرّه.

«يَكْتُبُونَ الْكِتابَ» المحرّف «بِأَيْدِيهِمْ» تأكيد لدفع توهّم المجاز، فقد يقول الإنسان كتبت الى فلان إذا امر غيره ان يكتب عنه «ثُمَّ يَقُولُونَ» لعوامهم و تابعيهم «هذا» المحرّف «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» في التوراة. روى انّ احبار اليهود، خافوا ذهاب مأكلهم و رئاستهم حين قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المدينة، فاحتالوا في تعويق عوام اليهود و سفلتهم عن الايمان، فعمدوا إلى نعوت النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في التوراة- و كانت هي مذكورة في التوراة حسن الوجه، جعد الشعر، اكحل العين، ربعة- فغيّروها و كتبوا مكانه، طوال، أزرق، سبط الشعر، فإذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفا لصفته، فيكذّبونه و انّما فعلوا ذلك «لِيَشْتَرُوا بِهِ»، اى يأخذوا لأنفسهم بمقابلة المحرّف «ثَمَناً قَلِيلًا» و هو ما أخذوه من الرشى، بمقابلة التحريف و التأويل الزائغ. قليلا لا يعبأ به و قد وصفه بالقلّة، لكونه حراما و لا يربوا عند اللّه و هو فان، قال الواحدي في الوسيط: و قيل المراد في الآية: كاتب كان يكتب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيغيّر ما يملى عليه، ثمّ ارتدّ و مات، فلفظته الأرض. و الأوّل أوجه «فَوَيْلٌ لَهُمْ» اى العقوبة العظيمة ثابتة لهم «مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ» من أجل كتابتهم ذلك المحرّف «وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» من أخذهم الرشوة. و اصل الكسب: الفعل لجرّ نفع، او دفع ضرّ. و الخطب الأعظم و البلاء الاطم، العالم المحرّف و لو في مسألة و الجاهل المقلّد و هو متمكّن من العلم، فانّ فساد الدنيا و الدين من هذين. و قد حذر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امّته لمّا علم ما يكون

ص: 210

في آخر الزمان، فقال: الا انّ من قبلكم من اهل الكتاب، افترقوا على اثنتين و سبعين ملّة و انّ هذه الامّة ستفترق على ثلاث و سبعين، كلّها في النار الّا واحدة و حذّرهم ان يحدّثوا من تلقاء أنفسهم في الدين، ما هو يخالف كتاب اللّه، أو سنّته، فيضلّوا به الناس.

و قد وقع ما حذّره و شاع و كثر و ذاع، حتى أنّهم أرادوا ان يخرجوا عن دين الإسلام لميل طباعهم لحبّ ديدن النصارى، فموّهوا على ضعفاء الامّة بل حمقائهم و أظهروا لهم العلم و الاطّلاع بكتاب اللّه و اسّسوا مواد مؤلفة بعضها يشبه بعض القرآن في الصورة لكن في المعنى يخالفه و بعضها يخالفه في الصورة و المعنى و بعضها القليل يوافقه و ذلك لتمزيج الباطل بالحق و لإسكات بعض المتعالمين- و سمّوه قانونا و قد نسخوا القانون الإلهي بهذا القانون الموصوف، فويل لهم ممّا كسبت أيديهم.

فأقول: و اقسم باللّه و صفاته و آياته انّ من يعرّف نفسه، انّه من اهل القرآن و يدّعى الإسلام ان يحترز من هذا القانون الموضوع، بل يجب على المسلم ردّه و إنكاره، فلو وافقه و احبّه و ايّده، فهو من أهل الويل في الآية و من تأمّل في وجوب الإنكار و حرمة القبول، إمّا ملحد و لكن يظهر التنسك و إمّا من الطبقة الثانية من المموّهين بصيغة المفعول لا الفاعل، كما ذكرنا قبيل هذا، ثمّ أقول: في وجوب الردّ لهذا الأمر الذي به نسخ أديان تمام الأنبياء، كما امر اللّه في الحج و أوجب و للّه على اللّه الناس و التبرّى عن هذا الأساس انتهى.

[سورة البقرة (2): آية 80]

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80)

«وَ قالُوا» اى اليهود- زعما منهم-: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ» و لا تصل إلينا في الآخرة «إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» قليلة محصورة، سبعة أيّام فانّهم كانوا يقولون: انّ ايّام الدنيا سبعة آلاف سنة، فنعذّب مكان كلّ ألف سنة، يوما؛ او يراد من ايّام معدودة:

أربعون يوما، مقدار عبادة آبائهم العجل و كانوا يقولون: نعذّب تعذيب الأب ابنه، و نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه و لا نعذّب ابدا، فكذّبوا تمام الكتب السماويّة و تمام رسله،

ص: 211

لأنّه بيّن اللّه في كتابه على السنة رسله: انّ عقوبة الكفر ابديّة.

«قُلْ» يا محمّد تبكيتا لهم «أَتَّخَذْتُمْ» بقطع همزة الاستفهام، اى أ اتخذتم «عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً» و خبرا و وعدا بما تقولون؟ فانّ ما تقولون، لا يكون الّا الى بناء و عهد محكم أخبركم اللّه به! و هل أخبركم عن اللّه احد من الأنبياء: انّكم لا تعذّبون ابدا، بل تعذّبون أيّاما قلائل، فان كان لكم هذا «فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ» الّذي عهده إليكم و الفاء في فلن يخلف اللّه فصيحة معربة عن شرط محذوف، مثل قول الشاعر:

قالوا خراسان أقصى ما يراد بناثم القفول فقد جئنا خراسانا

«أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»: قيل: أم، منقطعة على تقدير تمام الكلام قبله، فيكون بمعنى بل. أو تكون متّصلة، معادلة لهمزة الاستفهام، كأنّه قال:

أنتم على اىّ الحالتين: أ تقولون على اللّه ما تعلمون أم تقولون عليه ما لا تعلمون و قد تمسّك نفاة القياس و خبر الواحد بهذه الآية قالوا لأنّ القياس و خبر الواحد لا يفيد ان العلم، فوجب ان لا يكون التمسّك بهما جائزا لقوله: أم يقولون، الآية.

قال الرازي: لمّا دلّت الدّلالة على وجوب العمل عند حصول الظنّ المستند الى القياس، أوالي خبر الواحد كان وجوب العمل معلوما، فكان القول به قولا بالمعلوم، لا بغير المعلوم.

[سورة البقرة (2): الآيات 81 الى 82]

بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)

«بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً»: بلى جواب لقولهم: لن تمسّنا النّار. و الفرق بين بلى و نعم، انّ بلى، جواب النفي و نعم جواب الإيجاب، اى بلى تمسّكم ابدا، بدليل قوله:

هم فيها خالدون. و السيّئة تتناول جميع المعاصي، فبيّن سبحانه انّ الّذي يستحق به الخلود ان يكون سيّئة محيطة به و اختلف في السيّئة، فقال ابن عباس و مجاهد و قتادة و غيرهم: السيّئة هاهنا الشرك، و قال الحسن: هي الكبيرة الموجبة للنار و قال السدىّ:

ص: 212

هي الذنوب التي أوعد اللّه عليها النار. و القول الأوّل يوافقنا الشيعة، لأنّ ما عدا الشرك لا يستحق به الخلود في النار عندنا. «وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ»: اى أحدقت به من كلّ جانب، او المعنى أهلكته «و احيط بثمره» اى أهلك و قال عكرمة و مقاتل: انّ الاحاطة، الإصرار على الذنب «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»: اى دائمون في العذاب. و الاختلاف في تفسير هذه الآية من معنى السيّئة و الخلود بين الوعيديّة و الخوارج و المعتزلة و الأشاعرة كثير.

قال الطبرسي: و الذي يليق بمذهبنا، قول ابن عباس لأنّ اهل الايمان لا يدخلون في حكم هذه الآية و قوله: و أحاطت به خطيئته، يقوّى ذلك، لأنّ المعنى انّ خطاياه قد اشتملت عليه و أحدقت به حتّى لا يجد عنها مخلصا و لا مخرجا و لو كان معه شي ء من الطاعات لم تكن السيّئة محيطة به من كلّ وجه و قد دلّ الدليل على بطلان التحابط و لأنّ قوله: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» فيه وعد لأهل التصديق و الطاعة بالثواب الدائم، فكيف يجتمع الثواب الدائم مع العقاب الدائم و يدلّ أيضا على أنّ المراد بالسيّئة في الآية، الشرك، أنّ سيّئة واحدة، لا تحبط جميع الأعمال، فلا يمكن اجراء الآية على العموم، فيجب ان يحمل على أعظم السيّئات و اكبر الخطيئات و هو الشرك ليمكن الجمع بين الآيتين.

قال الرازي: اختلف اهل القبلة في وعيد أصحاب الكبائر، فمن الناس من قطع بوعيدهم و هم فريقان: منهم من اثبت الوعيد المؤبّد و هو جمهور المعتزلة و الخوارج و منهم من اثبت وعيدا منقطعا و هو البشر و الخالدي. و من الناس من قطع بانّه لا وعيد لهم و هذا القول شاذّ، ينسب الى مقاتل المعروف المفسّر. القول الآخر و هو انّا نقطع بانّه سبحانه يعفوا عن بعض العصاة و عن بعض المعاصي و لكنّا نتوقف في حقّ كلّ احد على التعيين انّه هل يعفو عنه أم لا و نقطع بانّه إذا عذّب أحدا منهم مدّة فانّه لا يعذّبه ابدا، بل يقطع عذابه و هذا القول قول الصحابة و التابعين و اهل السنّة و الجماعة و اكثر الاماميّة.

و أما دليل المعتزلة في الوعيد المؤبّد، فانّهم عوّلوا على العمومات الواردة في

ص: 213

هذا الباب و تلك العمومات على وجهين: بعضها وردت بصيغة «من» في معرض الشرط و بعضها وردت بصيغة الجمع، امّا النوع الأوّل مثل قوله تعالى في آية المواريث: و من يعص اللّه و رسوله و يتعدّ حدوده يدخله نارا خالدا فيها. و قد علمنا انّ من ترك الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و ارتكب شرب الخمر و الزّنا و قتل النّفس المحرّمة، فهو متعدّ لحدود اللّه، فيجب أن يكون من أهل العقاب و ذلك لأنّ من في معرض الشرط تفيد العموم على ما ثبت في اصول الفقه، فمتى حمل الخصم هذه الآية على الكافر، دون المؤمن، كان ذلك على خلاف الدليل.

و من الآيات الّتي تمسّكوا بها في المسألة لاشتمالها على صيغة «من» في معرض الشرط و قالوا انّها تفيد العموم قوله تعالى في قاتل المؤمن عمدا: و من يقتل مؤمنا متعمّدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها. قالوا فدلّت الآية على أنّ ذلك جزاؤه، فوجب ان يحصل له هذا الجزاء لقوله تعالى: من يعمل سوءا يجز به. و الآية الثالثة الّتي استدلّوا بها: يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا، الى قوله: و من يولّهم يومئذ دبره إلّا متحرّفا لقتال أو متحيّزا الى فئة فقد باء بغضب من اللّه و مأواه جهنّم و بئس المصير.

و من الآيات أيضا: فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره.

و منها: يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، الى قوله تعالى: و من يفعل ذلك عدوانا و ظلما فسوف نصليه نارا.

و منها قوله تعالى: انّه من يأت ربّه مجرما فانّ له جهنّم لا يموت فيها و لا يحيى. و منها: و قد خاب من حمل ظلما. و هذا يوجب ان يكون الظالم من أهل الصلاة، داخلا تحت هذا الوعيد. و منها بعد تعداد المعاصي: و من يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا. بيّن أنّ الفاسق كالكافر، في أنّه من أهل الخلود، الّا من تاب من الفساق، أو آمن من الكفّار.

و منها: فأمّا من طغى و آثر الحيوة الدنيا فانّ الجحيم هي المأوى. و منها:

من يعص اللّه و رسوله فانّ له نار جهنّم، الآية. و لم يفصل بين الكافر و الفاسق و منها:

ص: 214

بلى من كسب سيّئة و أحاطت به خطيئته فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون. فهذه هي الآيات الّتي تمسّك بها المعتزلة في المسألة لاشتمالها على صيغة «من» في معرض الشرط و استدلّوا على انّ هذه اللّفظة تفيد العموم، لأنّه لو كانت موضوعة للخصوص لما حسن من المتكلّم ان يعطى الجزاء لكلّ من أتى بالشرط لأنّهم اجمعوا على أنّه إذا قال: من دخل دارى أكرمته. يكون ان يكرم كلّ من دخل داره، فعلمنا انّ هذه اللّفظة ليست للخصوص.

النوع الثاني من دلائل المعتزلة: التمسّك بالوعيد بصيغة الجمع المعرّف بالألف و اللّام و هي في آيات مثل قوله: وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لأنّ معناه: انّ الّذين فجروا في الجحيم و ذلك يفيد العموم، لكن أنكر ابو هاشم و أصحابه انّ الجمع المعرّف يفيد العموم و قال: اللّام في قوله: و انّ الفجّار. ليست لام التعريف، بل هي بمعنى الّذي. الآية الثانية من استدلال المعتزلة في انّ الجمع المعرّف يفيد العموم في الوعيد قوله: وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً. و ثالثها: وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا.

النوع الثالث من العمومات: صيغ الجموع المقرونة بحرف «الذي» مثل قوله:

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ و مثل قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً. و مثل قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ و مثل: وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.

و لم يفصل في الوعيد بين الكافر و غيره. و كذلك قوله: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ الآية. و كذلك قوله: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ و لو لم يكن الفاسق من اهل العذاب، لم يكن لهذا القول معنى، بل لم يكن له الى التوبة حاجة.

النوع الرابع من العمومات، قوله: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وعيد على منع الزكاة.

النوع الخامس من العمومات، لفظة كلّ، قوله: وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ فبين ما يستحق الظالم على ظلمه.

النوع السادس من أدلّة المعتزلة، قوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ

ص: 215

بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ و هذا صريح في انّه تعالى لا بدّ و ان يفعل و لا مخلص من عذابه، فهذا مجموع ما تمسّكوا به من عمومات القرآن.

و أمّا عمومات الاخبار فكثيرة، فالمذكور بصيغة من، ما روى وقّاص ابن ربيعة، قال: قال رسول اللّه: من أكل بأخيه أكلة، أطعمه اللّه من نار جهنّم و من أخذ بأخيه كسوة، كساه اللّه من نار جهنّم، و من قام مقام رياء و سمعة، اقامه اللّه يوم القيامة مقام رياء و سمعة. و هذا نصّ في عذاب الفاسق. و كذلك المذكور بصيغة من، قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

من كان ذا لسانين و ذا وجهين كان في النّار. و لم يفصل بين المؤمن و المنافق. و كذلك المذكور بصيغة من. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ظلم قيد شبر من ارض، طوّقه يوم القيامة من سبع ارضين. و كذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلّ مسكر خمر و كلّ خمر حرام و من شرب الخمر في الدنيا و لم يتب منها لم يشربها في الآخرة. و هو صريح في وعيد الفاسق و انّه من اهل الخلود، لأنّه إذا لم يشربها لم يدخل الجنّة، لأنّ فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين. عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصلاة من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيمة، و من لم يحافظ عليها لم تكن له نورا و لا برهانا و لا نجاة و لا ثوابا و كان يوم القيمة مع قارون و هامان و فرعون و ابيّ بن خلف. و هذا نصّ في انّ ترك الصّلوة يحبط العمل و يوجب عذاب الأبد. و أمثال هذه الاخبار كثيرة لا تحصى.

النوع الثّانى من العمومات: الاخبار الواردة لا بصيغة «من». و هي كثيرة لا تحصى. عن نافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يدخل الجنّة مسكين متكبّر و لا شيخ زان و لا منّان بعمله على اللّه. و من لم يدخل الجنّة من المكلّفين فهو من اهل النار. و أمثال هذه الاخبار ايضا كثيرة. هذا مجموع استدلال المعتزلة الوعيديّة بعمومات القرآن و الاخبار.

و أجاب الاشاعرة عنها من وجوه: اوّلها لا نسلّم انّ صيغة «من» في معرض الشرط للعموم. و لا نسلّم انّ صيغة الجمع إذا كانت معرّفة باللّام للعموم.

الاول: انّه يصحّ إدخال لفظتي الكلّ و البعض على هاتين اللّفظتين، فيقال كلّ من دخل دارى أكرمته و بعض من دخل دارى أكرمته و يقال كلّ الناس كذا و بعض

ص: 216

الناس كذا فلو كانت لفظة «من» للشرط، يفيد الاستغراق، لكان إدخال لفظ الكلّ عليه زائدا و كذلك في لفظ الجمع المعرّف، فثبت انّ هذه الصيغ لا تفيد العموم. و كذلك الموصول، مثل قوله تعالى: انّ الّذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. فظاهر الآية حكم على كلّ الذين كفروا انّهم لا يؤمنون، ثمّ انّا شاهدنا قوما منهم قد آمن، فعلمنا انّه لا بدّ من احد الأمرين، إمّا لأنّ الصيغة ليست موضوعة للشمول، او لأنّها و ان كانت موضوعة لهذا المعنى الّا انّه قد وجدت قرينة انّ مراد اللّه من هذا العموم، هو الخصوص، فلمّا كان ذلك العموم يخصّص بسبب القرينة كذلك هاهنا، فانّ عمومات الوعيد، معارضة بعمومات الوعد و لا بدّ من الترجيح و ليس ترجيح، بل الترجيح معنا من وجوه: الأوّل: انّ الوفاء بالوعد، ادخل في الكرم، من الوفاء بالوعيد.

الثاني: انّه قد اشتهر في الاخبار انّ رحمة اللّه سابقة على غضبه، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى.

الثالث: انّ الوعيد حقّ اللّه و الوعد حقّ العبد و هو اولى بالتحصيل من حقّ اللّه لاحتياجه. و قد رأينا انّ كثيرا من الألفاظ العامّة وردت في الأسباب الخاصّة، بل قطع بعض انّ العذاب منفىّ عن أهل الكبائر و احتجّوا بقوله تعالى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ و قوله: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى قالوا: دلّت الآية على انّ ماهيّة الخزي و السوء و العذاب مختصّة بالكافرين. و قال اللّه: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. حكم بأنّه تعالى يغفر كلّ الذنوب و لم يعتبر التوبة و لا غيرها و هذا الكلام.

يفيد القطع بغفران كلّ الذنوب.

و الثالث من الآيات الدالّة على مرامنا: قوله تعالى: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ و كلمة «على» تفيد الحال، كقولك رأيت الملك على أكله، اى رأيته على اشتغاله بالأكل، فكذا هاهنا وجب ان يغفر لهم اللّه حال اشتغالهم بالظلم و حال اشتغالهم بالظلم يستحيل وجود التوبة منهم، فعلمنا انّه يحصل الغفران بدون للتوبة.

ص: 217

الرابع: قوله: فأنذرتكم نارا تلظّى، لا يصليها الّا الأشقى الذي كذّب و تولّى.

و كلّ نار متلظّية.

الخامس: انّ صاحب الكبيرة لا يخزى لأنّ صاحب الكبيرة مؤمن و المؤمن لا يخزى لقوله: يوم لا يخزى اللّه النبىّ و الذين آمنوا معه. و صاحب الكبيرة من الذين آمنوا بالغيب و ليس بكافر. و حكم سبحانه بالفلاح على كلّ من آمن، بقوله: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و معلوم انّ صاحب الكبيرة، قد آمن بما انزل اللّه و موقن بالاخرة لأنّه لو لم يؤمن فهو كافر، و الكلام في المؤمن العاصي. و بالجملة، فالعمومات في الوعد و الوعيد معارضة بعضها ببعض. و الحقّ انّ العبد يكون يتوقّف عند هذه المدلولات و يكون مضطربا خائفا من الوعيد و راجيا بالوعد، لأنّه لا يحصل القطع بأحد الأمرين من العمومات.

و بالجملة، فاقصر عن الشهوات و تدارك لساعة لا أنت الى دنياك عائد و لا في حسناتك بزائد، معانقة الحسان و التفرّج في المنتزهات، لا تنفع لظلمة القبر و ضيقه و أنت لا تعلم ما بقي من أجلك فازهد في طول املك قبل الحسرة و الندامة. نعوذ باللّه من قسوة قلوبنا، فانّ القلب إذا لم يكن قاسيا يتأثّر بكلمة، كما اتّفق للشيخ جعفر المرتعش النيشابوري و كان اوّل امره ابن دهقان كثير المال، فسئله رجل شيئا، فقال في نفسه: شابّ، جلد، صحيح البدن، لا يأنف من هذا. قال فزعق في وجهى زعقة أفزعتني، ثمّ قال أعوذ باللّه ممّا خامر في سرّك، قال فغشى علىّ، فلمّا أفقت لم أر أحدا فندمت على ما كان منى فبتّ ليلة بغمّ شديد، فرأيت في الرؤيا على بن أبي طالب عليه السّلام و معه ذلك الشابّ و علىّ عليه السّلام يشير الىّ و يوبّخنى و يقول: إنّ اللّه لا يجيب سؤال مانع سائليه. فانتبهت و فرّقت جميع ما كان لي و لزمت مسجدا ببغداد. و كان وقت موته عليه من الدين بضع و عشرون درهما يعادل ما يملك. و نحن في كلّ يوم نقرأ من القرآن و لا نجيب سائلا. قلوبنا مريضة و لا نحسّ حتى نعالجها، فكما انّ البدن بعدم المراقبة في حفظ الصحّة يهزل

ص: 218

و يضعف، كذلك الروح و النفس بكثرة المعاصي يفسد بحيث لا يقبل العلاج، الا ترى انّ بعض الأمراض لا يعالج، كذلك بعض المعاصي صعب العلاج، أو غير ممكن العلاج، فتشتغل خمسين سنة بالمعاصي برجاء التوبة و انّى لك التوبة، تشرب السم برجاء الترياق و الطبيب و لعل الترياق لا ينفع بعض الأوقات في بعض الأمزجة، كما شوهد مرارا و المعاصي إذا كثرت يغلظ الحجاب و لا يحصل لك نور، حتى تهتدى الى سبيل العبوديّة، فتكون خارجا عن العبوديّة.

حكى عن ذي النون المصرى، قال: كنت في بعض الجبال فإذا بجارية مكشوفة الرأس و الوجه و قد نحل جسمها و تغيّر لونها و تقول: اللّه اللّه. فقلت لها: اين الخمار يا جارية، فأجابتنى ما يصنع بالخمار وجه علاها الذلّ و الصفار. فقلت لها لما ذا علاها الصفار. فقالت: من الخمار. فقلت سبحان اللّه، تناولت شيئا من الخمر. قالت: يا بطال شربت البارحة من كأس المعرفة، فأصبحت اليوم من الشوق مخمورا، فقلت: عظينى يا جارية. قالت: عليك بالسكوت حتّى يقال انّك مبهوت، و ارض بالقوت حتّى يبنى لك في الجنّة بيت من الياقوت، تضرّع بالأسحار الى عالم الأسرار، و تب اليه توبة نصوحا، و البس مكان الحرير مسوحا، و اقبل من ناصح أمين، قبل ان تكون في عذاب مهين، و كلّ محنة الى زوال، و كلّ نعمة الى انتقال، و مال لا ينفعك في آخرتك وبال، و علم لا يصلحك ضلال، و ليكن وجهك أزهر. لا اغبر، قال اللّه: وجوه يومئذ مسفرة. لابيضاضها في الدنيا بالتزكية و زوال كدورة المعاصي عنها. ضاحكة. لأنّها بكت في الدنيا حتّى صارت عمياء عن رؤية غير اللّه و الدنيا. مستبشرة. و هذه البشارة عوض خوفها في الدنيا، فافيقوا عن سكرتكم و انظروا بعين الإفاقة.

رجعنا الى التفسير «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»: اى الّذين صدقوا باللّه تعالى و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقلوبهم و ادّوا الفرائض و انتهوا عن المعاصي، مؤيّدون في الجنّة، لا يموتون و لا يخرجون منها أبدا.

جرت السنّة الالهيّة على شفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة في ارشاد العباد، من الترغيب تارة و الترهيب اخرى، و البشير مرّة و الإنذار اخرى و العجب مع هذه

ص: 219

الآيات الصريحة في الخلود للكافر و المؤمن، في الجنّة و النار، انّ بعض المغرورين بالعقل من الفلاسفة و الطبائعيّة لفرط غفلتهم كذّبوا هذه الآيات و ظنّوا انّ قبائح أفعالهم و أعمالهم، لا تؤثّر في صفاء أرواحهم و قلّدوا اليهود و قالوا: إذا فارقت الأرواح الأجساد، يرجع كلشي ء الى أصله، فالاجساد ترجع الى العناصر و الأرواح الى حظائر القدس و لا يزاحمها شي ء من نتائج الأعمال الّا ايّاما معدودة. و هذا فاسد لأنّ العاقل يشاهد حسّا ان تتبّع الشهوات الحيوانيّة و استيفاء اللذّات النفسانيّة، تورث الأخلاق الذميمة، من الحرص و الأمل و الحسد و البغض و البخل و الكبر و الكذب و غير ذلك و هذه من صفات النفس الامّارة بالسوء، فتصير بالمجاورة و يتبدّل اخلاق الروح كأخلاق النفس الخبيثة فحكمه حكمها و ما تستحق فيستحقّ فكلّما تدنّست الأجسام، تدنست الأرواح و كذّبهم اللّه تعالى بقوله: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الآية.

[سورة البقرة (2): آية 83]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ»: و اذكروا وقت أخذنا العهد من بني إسرائيل و الميثاق. قيل هو مواثيق الأنبياء على أممهم، و العهد لا يكون الّا بقول اى أمرنا بلسان رسلنا و أكّدنا عليهم في التوراة بأن لا تعبدوا الّا اللّه و قيل: المراد من العهد من جهة السمع و العقل كليهما «وَ بِالْوالِدَيْنِ» يحسنون «إِحْساناً» «وَ ذِي الْقُرْبى اى و تحسنون الى ذي قرابتكم.

في تفسير الامام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أفضل والديكم و احقّهما بشكركم، محمّد و علي صلوات اللّه عليهما و قال امير المؤمنين عليه السّلام: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول أنا و علي عليه السّلام أبوا هذه الامّة و حقنا عليهم أعظم من حق ابوى ولادتهم، فانّا ننقذهم من النار ان أطاعونا.

قال الفيض: و لهذه الأبوّة صار المؤمنون اخوة، كما قال اللّه تعالى: انّما

ص: 220

المؤمنون اخوة.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من رعى حق قرابات أبويه اعطى في الجنّة ألف ألف درجة، ثمّ فسرّ الدرجات. ثمّ قال و من رعى حق قربى محمد و عليّ صلوات اللّه عليهما اوتى من فضائل الدرجات و زيادة المثوبات على قدر زيادة فضل محمّد و عليّ على ابوى نسبه. و القربى مصدر كالحسنى.

«وَ الْيَتامى : جمع يتيم و هو الصغير الّذي مات أبوه قبل البلوغ و من الحيوانات:

الصغير الذي ماتت امّه. في الحديث: ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فلا يقرب قصعتهم الشيطان. و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كافل اليتيم و انا كهاتين في الجنّة- و أشار بسبّابتيه- و سميت بسبّابة لأنّهم كانوا يسبّون بها في الجاهليّة، فكرهوا ذلك و سمّوه بالمشيرة قال الصادق عليه السّلام: و اشدّ من يتم هذا اليتيم، يتيم عن امامه، لا يقدر على الوصول اليه، و لا يدري كيف حكمه فما يبتلى به من شرائع دينه، الا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا و هذا الجاهل بشريعتنا، المنقطع عن مشاهدتنا، يتيم في حجره، الا فمن هداه و أرشده و علّمه شريعتنا، كان معنا في الرفيق الأعلى حدّثني بذلك ابي عن آبائه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

«وَ الْمَساكِينِ»: المسكين من اسكنه الضرّ و الفقر. عن الحرائر، التوصية بحسن القول و إيصال الصدقة إليهم، قال ايضا عليه السّلام الا، فمن واساهم بحواشي ماله، وسّع اللّه عليه جنانه و انا له غفرانه و رضوانه. ثمّ قال: انّ محبّي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مساكين، مواساتهم أفضل من مواساة مساكين الفقراء و هم الذين سكنت جوارحهم و ضعفت قواهم عن مقاتلة اعداء اللّه الذين يعيرونهم و يسفهون أحلامهم. الا، فمن قواهم بفقهه و علمه حتى أزال مسكنتهم و جهلهم، ثم سلّطهم على اعداء اللّه الظاهرين من النواصب و على الأعداء الباطنين، إبليس و مردته، حتى يهزموهم عن دين اللّه و يذودهم عن اولياء آل الرسول، حوّل اللّه تلك المسكنة الى شياطينهم و أعجزهم عن اضلالهم- قضى اللّه بذلك قضاء حقّا على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- «وَ قُولُوا لِلنَّاسِ»: اى و قولوا للناس قولا «حُسْناً»: قرء بفتح الحاء و السين

ص: 221

و قرء بضمّ الحاء و اسكان السين مبالغة لفرط حسنه. امر اللّه سبحانه بالإحسان بالمال في حقّ أقوام مخصوصين و هم الوالدان و الأقرباء و اليتامى و المساكين. و لمّا كان المال لا يسع الكلّ، امر بمعاملة الناس كلّهم بالقول الجميل الّذى لا يعجز عنه كلّ احد، اى ألينوا لهم القول بحسن المعاشرة و حسن الخلق و أمروهم بالمعروف و انهوهم عن المنكر قيل:

المراد: قولوا للناس صدقا و حقّا في شأن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فمن سألكم عنه فاصدقوا و بيّنوا صفته و لا تكتموا امره و قد امر اللّه الخلق في هذه الآية بما هو صلاح دينهم و ديناهم.

قال الصادق عليه السّلام: قولوا للناس حسنا كلّهم، مؤمنيهم و مخالفيهم، امّا المؤمنون فيبسط لهم وجهه و بشره و امّا المخالفون فيكلّمهم بالمداراة لاجتذابهم الى الايمان، فان يئس من ذلك يكف شرورهم عن نفسه و إخوانه المؤمنين. قال: انّ مداراة اعداء اللّه من أفضل الصدقة من المرء على نفسه و إخوانه. كان رسول اللّه في منزله إذا استأذن عليه عبد اللّه بن ابى بن سلول، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بئس أخو العشيرة. ائذنوا له، فلمّا دخل أجلسه و بشر في وجهه، فلمّا خرج قالت له عائشة: يا رسول اللّه قلت فيه ما قلت و فعلت فيه من البشر ما فعلت. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عويش يا حميراء انّ شرّ الناس عند اللّه يوم القيامة من يكرم اتقاء شرّه. و في الكافي و العياشيّ عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: قولوا للناس احسن ما تحبّون ان يقال لكم، فانّ اللّه يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين المتفحش السائل المتلحّف و يحبّ الحييّ الحليم العفيف المتعفّف.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: لا تقولوا الّا خيرا حتى تعلموا ما هو. و في التهذيب و الخصال و العياشي عن الباقر عليه السّلام: انّها نزلت في اهل الذمة ثم نسخها قوله: فاقتلوا الذين لا يؤمنون باللّه و اليوم الاخر و لا يحرّمون ما حرّم اللّه و رسوله و لا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون. و القمي، نزلت في اليهود، ثمّ نسخت بقوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، فان قيل: فما وجه التوفيق بين نسخها و بقاء حكمها، فالجواب: انّها نسخت في حقّ اليهود و أهل الذمّة المأمور بقتالهم و من هو في حكمهم و بقي حكمها في سائر النّاس الى يوم القيامة.

ص: 222

«وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ»: كما فرضا عليهم، ذكرهما تخصيصا مع دخولهما في العبادة المذكورة. تلخيصه أخذنا عهدكم يا بنى إسرائيل بجميع المذكور فقبلتم «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» و رفضتم الميثاق «إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ» و هم من الاسلاف من ايّام اليهوديّة على وجهها و من الأخلاف كعبد اللّه بن سلام و أضرابه فهولاء مستثنون و الباقون ضلّوا و اضلّوا.

«وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ»: جملة تذييليّة اى و أنتم قوم عادتكم العناد و الاعراض عن الحق و اصل الاعراض الذهاب عن المواجهة. و العبادة من وظيفة العبوديّة و لا يحصل العبوديّة الّا بها و هي تفرّد العبد لإطاعة خالقه و تجرّده عن كلّ مقصود سواه، فمن لاحظ خلقا، او استجلى ثناء، او استجلب بطاعته الى نفسه حظّا من حظوظ الدنيا.

مع قصده بها، او داخله مزج او شوب، فهو ساقط عن مرتبة الإخلاص، و إذا حصل هذا المقام للإنسان يتمّ امره بساعة و ينقلب الى أهله مسرورا، كما وقع لجماعة كثيرة رجعوا الى اللّه و تجافوا عن دار الغرور بلحظة.

[سورة البقرة (2): آية 84]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ»: و اذكروا ايّها اليهود، وقت أخذنا إقراركم و عهدكم في التوراة و قلنا لكم لا يريق بعضكم دم بعض. جعل غير الرجل نفسه، لما بينهم من الاتصال القوىّ نسبا و دينا فأجرى كلّ واحد منهم مجرى أنفسهم. و قيل: إذا قتل غيره فكأنّما قتل نفسه، لأنّه يقتصّ منه و هو اخبار في معنى النهى.

«وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ»: اى لا يخرج بعضكم بعضا من دياره او لا تسبّوا و لا تؤذوا جيرانكم، فتلجؤهم الى الخروج و في اقتران الإخراج من الديار بالقتل، إيذان بأنه بمنزلة القتل.

«ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ»: بالميثاق و ألزمتم على أنفسكم و اعترفتم بوجوب المحافظة عليه «وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ»: عليها، تأكيد للإقرار، مثل قولك: فلان مقرّ على نفسه بكذا،

ص: 223

شاهد عليها، او المعنى و أنتم اليوم تشهدون على اقرار اسلافكم بهذا الميثاق. و تخليص البيان: انّ هذه الأحكام و الأمور كلّها كانت عليكم مذكورة في التوراة. و أنتم كنتم محكومين بها و متعاهدين على العمل بها.

[سورة البقرة (2): آية 85]

ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

«ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ»: ثمّ أنتم هؤلاء، مبتداء و خبر و مناط الإفادة اختلاف المنزل منزلة اختلاف الذات، اى أنتم بعد ذلك هؤلاء النّاقضون المتناقضون، او التقدير ثمّ أنتم يا هؤلاء. و يجوز أن يكون هؤلاء تأكيدا لأنتم و الخبر تقتلون، او يكون بمعنى الذين و تقتلون صلته و في موضع الرفع خبر للمبتدأ: اى أنتم الذين تقتلون انفسكم: اى يقتل بعضكم بعضا و تتعرضون للقتل.

«وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ» الضمير في ديارهم راجع الى الفريق. و الفريق: الطائفة، تظاهرون: بحذف احدى التائين حال من فاعل تخرجون: اى متعاونين عليهم في إخراجهم، ملتبسين بالإثم و المعصية و العدوان و التطاول، و تقوّون ظهوركم للغلبة عليهم. و الإثم: الفعل الذي يستحقّ فاعله الذمّ و اللوم. و دلت الآية على أنّ الظلم كما هو محرّم، فالتعاون عليه ايضا كذلك، فان قيل: أليس اللّه لمّا أقدر الظالم على ظلمه فقد أعانه، فالجواب: انّه كما امكنه فقد زجره عن الظلم، بالتهديد و المنع: فلو لم يمكّنه و يسلب عنه القوّة بحيث لم يقدر إتيانه، لقبح التكليف، لأنّه لا يقال للأعمى لا تنظر و لا يقال للعنين لا تزن.

وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى اى جاؤكم حالكونهم مأسورين و ظهروا لكم على

ص: 224

هذه الحالة. و الأسارى جمع أسير و هو من يؤخذ قهرا بمعنى الأسر و هو الشدّ و الإيثاق. و الفرق بين أسارى و أسرى: انّهم إذا قيّدوا و أوثقوا فهم أسارى و إذا حصلوا في يدهم و سلطتهم من غير قيد فهم اسرى.

«تُفادُوهُمْ»: اى تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء. و المفاداة تجري بين الفادي و المفتدي.

«وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ»: الضمير مبتدأ مبهم يفسّره إخراجهم:

اى الإخراج و القتل حرام عليكم و اصل القصّة: انّ اللّه حكم على بني إسرائيل في التوراة: ان لا يقتل بعضهم بعضا و لا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم و ارضهم و ايّما عبد او امة وجدتموه من بني إسرائيل، فاشتروه و أعتقوه و كانت بنو قريظة حلفاء الأوس، و النضير حلفاء الخزرج، حين كان بينهما أى بين الأوس و الخزرج من العداوة و الحرب، فكان كلّ فريق يقاتل مع حلفائه، فإذا غلبوا، خرّبوا ديارهم و أخرجوهم منها، ثمّ إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا فيفدونهم، فعيّرتهم العرب و قالت كيف تقاتلونهم ثمّ تفدونهم، فيقولون أمرنا في التوراة: ان نفديهم و حرّم علينا قتالهم- و لكنّ نستحيي أن نذل حلفائنا، فذمّهم اللّه بأنّكم إذا وجدتم أسيرا في يد غيركم من أعدائكم تفدونهم و هذا الحكم قبلتموه و ما تركتموه، فكيف قتلكم و إخراجكم إياهم ترتكبونه، فكما انّ تركهم اسرى في أيدى عدوّكم حرام و اعتاقهم عليكم واجب، كذلك قتلهم و إخراجهم حرام عليكم.

«أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ» الّذي فرضت عليكم فيه فرائض و هو التوراة «وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» و قد علمتم انّ الكفر منكم ببعضه نقض بعهدي و هو قبول التوراة و العمل بأحكامه.

«فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»: اى ليس جزاء من يفعل ذلك اى الكفر بالبعض و الايمان بالبعض منكم يا معشر اليهود الأذلّ و فضيحة في الدنيا و هو قتل بني قريظة و اسرهم و اجلاء بني النضير إلى أذرعات و أريحا من الشام و أخذ

ص: 225

الجزية و الاستصغار. و يوم يقام فيه الاجزية- و لذا سميت القيامة- يردّون و يرجعون الى اشدّ العذاب و هو التعذيب في جهنّم، لأنّ كلّ عذاب ينقطع و عذابهم لا ينقطع و اللّه ليس بغافل عن أعمالكم.

[سورة البقرة (2): آية 86]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

«أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ»: اشارة الى الذين اخبر عنهم بأنّهم يؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض: اى الموصوفون بهذه الصفة الذين استبدلوا الحيوة الفانية بالحيوة الباقية و اعرضوا عنها لبعض منافعهم و أغراضهم الفاسدة؛ فاقطع علاقتك عمّا يفارقك بالموت و الزم الاقتصار في الالتفات الى لازمك الذي لا بدّ لك منه و هو اللّه. و قد أوحى اللّه إلى داود: يا داود انا بدّك اللازم فالزم بدّك. و هو الكمال الحقيقي و المال و البنون شهوات و زينة الحيوة الدنيا و هي كمالات وهميّة و ليست الشهوة واحدة و عشرة. و قد يكون الإنسان قد قمع عن نفسه جميع الشهوات، لكن لم يقمع عن طلب حسن الثناء و الخلوص و هو قاتله، فلو فرضنا انّ جميع اهل الأرض سجد لك، أليس في مدّة قليلة لا يبقى الساجد و المسجود فكيف تترك الجاه العريض الطويل عند اللّه و تختار هذا الكمال الوهميّ الزائل من قبول جماعة من الناس الذين لا يملكون لك موتا و لا حيوة و لا رزقا و لا أجلا و خطر الجاه أعظم من خطر المال، لأنّ قليل الجاه يدعو إلى كثيره، لأنّه الذّ من المال. و لا يسلم من هذه الآفة إلّا خامل مجهول.

قال عيسى عليه السّلام: يا طالب الدنيا للبر، تركك لها أبرّ. اعلم ان المال كالدواء و النافع منه قدر مخصوص، و الإفراط منه قاتل، و القرب من الإفراط ممرض، و العبد مسافر إلى اللّه، و الدنيا منزل من منازل سفره، و بدنه راحلته، و لا يمكنه السفر إلّا بالرّاحلة، و الراحلة لا بدّ لها من علوفة، و لم يؤخذ من العلوفة إلّا قدر مسافة السفر، و الزائد ثقل و وبال، فاقنع من الدنيا بزاد الراكب، كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لسلمان:

ص: 226

فليكن بلاغك من الدنيا كزاد الراكب و الزائد يلهى عن ذكر اللّه، قال اللّه تعالى:

ألهيكم التكاثر. و الخطب الأعظم انّه ما من غنى إلّا و يدّعى أنّ ما في يده مقدار كفايته و ضرورته. و لم يعرف مقدار الضرورة لكثرة شهواته مع انّ الضرورة في المطعم و الملبس و المسكن، و قد عيّن الحذّاق من أطبّاء الدين مقدارها و هو أنّه إن تركت التجمّل في الملبس فيكفيك في السنة ديناران لشتائك و صيفك، و كذلك ان تركت التنعّم في مطعمك فيكفيك في كلّ يوم مدّ و يكفيك لادامك ان اقتصرت على القليل في بعض الأوقات ثلاثة دنانير في السنة، فإذا مبلغ ضرورتك خمسة دنانير و خمسمائة رطل و إذا كنت معيلا فكذلك القياس، لكن لما كان لا يحتمل بعض الأشخاص القناعة بالقدر الذي قدّره الزاهدون و لا حرج في الدّين فلهم الضعف في هذا المقدار. و لا يخرج عن حزب أبناء الاخوة مادام يقصد بذلك دفع الألم الشاغل عن ذكر اللّه و العبادة و معلوم ان فائدة البذل أعظم من فائدة الإمساك، لأنّ إمساك المال إن كان للتنعّم في الشهوات فتلك سجيّة البهائم و إن كان يتركه لولده و يحرم نفسه مع أنّه هو اولى به، خصوصا إذا كان الولد فاسقا يستعين بذلك المال على المعصية فيكون معدّ الأسباب المعصية و الكمال الحقيقي، الحريّة و هو انقطاع علائق الدنيا و ما يفارقك بالموت.

«فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ»: و لا يمنعون و لا ينصرون بدفعه عنهم بشفاعة و انتصار.

[سورة البقرة (2): آية 87]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)

«وَ لَقَدْ آتَيْنا»: هذا نوع آخر من مقابلة النعم بالكفران من اليهود: اى باللّه لقد أعطينا يا بني إسرائيل «مُوسَى الْكِتابَ»: اى التوراة جملة واحدة، قال ابن عباس: انّ التوراة لما نزلت، أمر اللّه تعالى موسى بحملها، فلم يطق ذلك، فبعث

ص: 227

لكلّ آية منها ملكا، فلم يطيقوا حملها، فخفّفها اللّه على موسى فحملها.

«وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ»: قفاه به، إذا اتبعه إيّاه، اى اتبعنا من بعد موسى رسولا بعد رسول، متّفقين اثره، و هم: يوشع و شموئيل و داود و سليمان و شمعون و شعيا و ارميا و عزير و حزقيل و الياس و اليسع و يونس و زكريّا و يحيى و غيرهم.

«وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ»: و معنى عيسى بالسريانية: اليسوع. و معناه: المبارك.

و ابن بإثبات الألف في الكتابة و إن كان واقعا بين العلمين لندرة الاضافة إلى الام و مريم بالسريانيّة بمعنى العابدة و الخادمة للمعبد. و قد جعلتها امّها محرّرة لخدمة المسجد و لكمال عبادتها لربّها سمّاها مريم. و صرّح باسمها في القرآن مع الأنبياء سبع مرّات و خاطبها كما خاطب الأنبياء، كقوله: يا مريم اقنتى لربّك و اسجدي و اركعي مع الراكعين. فشاركها مع الرجال؛ و لو كانت النساء بمثل هذه لفضّلت النساء على الرّجال.

«الْبَيِّناتِ»: المعجزات الواضحات، من أحياء الأموات و إبراء الأكمه و الأبرص و الأخبار بما يدّخرون و الإنجيل.

«وَ أَيَّدْناهُ»: و قوّيناه «بِرُوحِ الْقُدُسِ» من اضافة الموصوف إلى الصفة اى بالروح المقدّسة المطهّرة و هي روح عيسى، و صفت بالقدس للكرامة، لأنّ القدس هو اللّه. أو الروح جبرئيل و وصف بالطهارة لأنّه لم يقترف ذنبا. و سمّى روحا لأنّه كان يأتى الأنبياء بما فيه حيوة القلوب. و معنى تأييده و تقويته به: انّه عصمه من أوّل حاله إلى كبره، فلم يدن منه الشيطان عند الولادة و رفعه إلى السماء حين قصد اليهود قتله. و كان بين موسى و عيسى أربعة آلاف نبيّ و قيل: سبعون ألف نبيّ.

«أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ»: خاطب أهل عصر النبيّ بهذا و قد فعله أسلافهم لأنّهم يتولّونهم و يرضون بفعلهم. و الفاء للعطف على مقدّر يناسب المقام و التقدير:

ألم تطيعوهم فكلما جاءكم «رَسُولٌ بِما لا تَهْوى و لا تحبّ «أَنْفُسُكُمُ» و لا يوافق هواكم من الحق «اسْتَكْبَرْتُمْ» و تعظّمتم عن الاتّباع له «فَفَرِيقاً» منهم: اى من

ص: 228

الأنبياء كعيسى عليه السّلام و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كَذَّبْتُمْ» و نسبتم إليهم الكذب «وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» و قال تقتلون و لم يقل قتلتم لشناعة هذا الأمر و لثبوت عارها عليهم و على من بعدهم من أخلافهم، لأنّهم رضوا، بل كانوا على هذه النيّة، بل الفعل لأنّهم حاولوا قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو لا ان عصمه اللّه و سمّوا الشاة حتّى قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند موته ما زالت أكلة جزر تواجعنى، فهذا أوان انقطاع أبهري. و هو عرق منبسط في القلب إذا انقطع مات و اعلم: أنّ هوى النفس داء قتّال، و للنفس صفات سبع كلّها مذمومة: العجب و الكبر و الرياء و الغضب و الحسد و حب المال و حبّ الجاه. و لجهنّم سبعة أبواب؛ فمن زكّى نفسه عن هذه السبع فقد اغلق السبعة و دخل الجنّة. فيا حملة الأوزار و حفظة المال المستعار ألهاكم حب الرزق عن الرزّاق و اشتغلت طول النهار في الصفق بالأسواق، يا عمّار الخراب و يا شرّاب السراب الى متى؟ و قد قاربت الخمسين! فاقتصر و قد وهنت ركبتاك و ذابت أليتاك و لا عطر بعد عروس، ما هي إلّا أنفاس تتردّد و ستنقطع، و قامات تتمدّد و تتقوس فتنقطع، فارغم أنف الشيطان و خالف هواك؛ الحرص فقابله بالقناعة، و الأمل فاكسر بمفاجاة الأجل، و التمتّع باللذائذ فقابله بطول الحساب في الموقف الصعب الكبير، و الأنانيّة بالتواضع للفقراء من المؤمنين، و حبّ المال و البخل فأكسره بالبذل و العطاء حتّى تكون من أهل الورع، و لا أقلّ من أقلّ درجتهم، فإنّ درجات الورع اربعة الاولى: من الحرام و هي الدّرجة العامّة. الثانية: ورع الصالحين و هي التي يتطرّق فيها الشبهة، قال اللّه: الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه. الثالثة: ورع المتّقين يتورع عن الزينة و أكل اللّذائذ و الشهوات مع انّها حلال خيفة ان يجمح النفس و يدعو الى الشهوات المحظورة كالنظر إلى تجمّل أهل الدنيا فانّه يحرّك دواعي الرغبة في الدنيا قال اللّه: و لا تمدّنّ عينيك الى ما متّعنا به أزواجا. قال عيسى عليه السّلام لا تنظروا الى اموال اهل الدنيا فانّ بريق أموالهم يذهب بحلاوة ايمانكم و قد قيل من رقّ ثوبه رقّ دينه الرابعة: ورع الصدّيقين و هو الحذر عن كلّ ما لا يراد بتناوله القوّة على طاعة اللّه او كان قد تطرّق إلى بعض أسبابها معصيته و من ذلك انّ بشر الحافي كان لا يشرب الماء من الأنهار التي حفرها الأمراء و السلاطين.

ص: 229

تأمّل في وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمعاذ بن جبل: أوصيك بتقوى اللّه و صدق الحديث و خفض الجناح و الوفاء بالعهد و ترك الخيانة و صلة الأرحام و رحمة الأيتام و لين الكلام و بذل السلام و حسن العمل و قصر الأمل و التفقّه في الدين و تدبّر القرآن و ذكر الآخرة و الحرج من الحساب و كثرة ذكر الموت و لا تسب مسلما و لا تطع آثما و لا ترض بقبيح تكن كفاعله و اذكر اللّه عند كلّ شجر و مدر و بالأسحار و على كلّ حال، فان اللّه ذاكر من ذكره و شاكر من شكره و جدّد لكل ذنب توبة: السرّ بالسرّ و العلانية بالعلانية. و اعلم: انّ اصدق الحديث، كتاب اللّه. و أوثق العرى التقوى. و احسن القصص القرآن. و شرّ الأمور محدثاتها.

و أعمى العمى الضلالة بعد الهدى. و خير العلم ما نفع. و اليد العليا خير من يد السفلى. و ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و الهى. و شرّ المعذرة عند الموت. و شرّ الندامة يوم القيامة. و من أعظم خطايا اللسان الكذب. و خير الغنى غني النفس. و رأس الحكمة مخافة اللّه في السرّ و العلانية. و انّ جماع الإثم، الكذب و الارتياب. و النساء حبائل الشيطان. و الشباب شعبة من الجنون. و شرّ الكسب كسب الريا. و شرّ المآثم أكل مال اليتيم. و ليس لجسم نبت على الحرام الّا النار. و من تغذّى بالحرام فالنّار اولى له و لا يستجاب له دعاء.

أقول: تأمّل في جوامع كلماته و قد بيّن صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، جميع مراتب الحكمة النافعة لك في دينك و دنياك، مثل انّه نهى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الشرك الخفى، و هذا الشرك و ان كان لا يذهب بأصل الايمان بان يكون صاحبه مشركا و يترتّب عليه احكام الكافر، لكن يقع في حقيقة الايمان عيب و نقص كالذهب المخلوط بالحديد، فيكون قليل القيمة و ان كان ذهبا. و خفايا معايب الشرك الخفّى كثيرة، فيطلب صاحبه الشرف و التعزّز من هذا الفعل الشنيع من الناس، فيعجب بمدح الناس ايّاه و يطلب النفع بسبب هذا الرياء من غير اللّه. و يتوسل في دفع الضرر عن نفسه من غير اللّه، مع انّه لا معطى لما منع و لا مانع لما اعطى. و دقائق الرياء و الشرك الخفى خفية جدا، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء. فانّ النمل إذا دبّ

ص: 230

على التراب، يرى اثر دبيبه، خصوصا في النهار؛ لكن في الليلة الظلماء لا يرى اثر دبيبه على الحجر الأملس، فانّ النمل اسود و الليل اظلم و لا يسمع دبيبه و رؤية الشي ء غالبا و العلم به من هاتين القوتين. فإذا عرفت هذا الأمر فأينا غير مبتلى بهذه البلية و لا نأتي بهذا الأمر الشنيع كلّ يوم مرّات. و لعلك تسمع كلامي فتبادر الى ملامى و تقول:

فحينئذ عملنا هباء؛ فانا أعذرك في ملامتى، فانّ الفطام عن المعهود شديد و النزول عمّا تلقاه الفتى من آبائه و عاداته صعب جدا، حقا كان او باطلا، اما ترى هذه الكبيرة العظيمة المنهية في القرآن لمّا شاعت في عادات الناس لا يتخلّص منها الّا الأقلّون، بحيث لا يعدّون الغيبة من المعاصي مع انها عظيمة و صارت عادة بحيث انّ المغتاب حين اغتيابه إذا رأى منك قهقهة، يعدّها قبيحة عظيمة و ينسبك الى الفسق و لا يبالى بهذه العظيمة، فجعلت دينك ما يوافق العادة و عندك الحسن ما وافق عادة الناس و القبيح ما تركته العادة، لا ما حسّنه العقل، فيكون معتزليّا اماميّا و لا ما حسّنه الشرع فتكون أشعريا بل هذا مسلك جديد خبيث.

[سورة البقرة (2): آية 88]

وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)

«وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ»: اى اليهود الموجودون في عصر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالوا قلوبنا غلف، مستعار من الأغلف الذي لم يختن اى مغشاة بأغشية جبليّة لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا نفقهه، فرد اللّه ان تكون قلوبهم مخلوقة كذلك، لأنّها خلقت على الفطرة و التمكن من قبول الحق، فاضرب و قال: «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» اى خذلهم و طردهم و خلّاهم و شأنهم بسبب كفرهم العارض الّذى اقدموا عليه بسوء اختيارهم و إبطالهم الاستعداد الفطري الإسلامي.

«فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» ما مزيدة للمبالغة اى فايمانا قليلا يؤمنون و هو ايمانهم ببعض الكتاب. و الفاء لسببيّة عدم الايمان الموجب للّعن. ثم انّ في القراءة اختلاف، فقرء بعض، غلف، بسكون اللام، فالمعنى على ما بينّاه. و قرء بعض، غلف، بضم اللّام كأبي عمرو، جمع غلاف، فيكون معناه: انّ قلوبنا اوعية للعلم و نحن علماء

ص: 231

فلو كان ما تقوله شيئا يفهم اوله طائل لفهمناه، او يكون المراد ليس في قلوبنا ما تذكره فلو كان علما لكان فيها. و يجوز في معنى فقليلا ما يؤمنون: اى فافراد قليلة منهم يؤمنون، كعبد اللّه بن سلام و أصحابه.

و في الآية ردّ صريح على المجبرة، لأنّ هؤلاء اليهود ادّعوا انّ على قلوبهم، ما يمنع من الايمان و يحول بينها و بينه، فكذبهم في ذلك بان لعنهم و طردهم و لو كانوا صادقين بانّ اللّه خلق الكفر في قلوبهم و جعله المانع لهم، لما استحقّوا اللعن و الطرد و يلزم انّ اللّه كلّفهم مالا يطاق- تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا. و ربّك اعلم بمن هو أهدى سبيلا- و الضلالة و الهداية سبيلهما باختيار العبد. و انّ المادة المعبّرة عنها بالهيولى في نفسها خالية عن الحكم لها و عليها من حيث هي هي. و انّما الاحكام تلحق الصورة، الا ترى انّ القلم إذا أصاب مدادا فانّما يلحقه حكم ذلك من غير الحكم بالحسن و القبيح، فإذا كتبت بذلك المداد اسمى ذاتين مختلفين في الخير و الشرّ، كان اسم الذات المقدسة حسنا و اسم الآخر سيّئا. و هاك مثالا آخر، و هي حروف الهجاء فانّ الالف لا تدلّ على غير نفسها و ليس فيها معنى غير وجودها، فإذا ألّفت من ثلاثة او اربعة، يوجب معنى محدث لم يكن قبل ذلك، كذلك المادّة لا تجرى عليها الاحكام من حيث هي و انما تجرى عليها بالصورة و التأليف، الا ترى انّه إذا نزى حيوان محرم على حيوان محلّل، كان حكم التحليل و التحريم في نسلهما للاسم الذي هو خاصّة الصورة و ظاهرها. و تلك الحقيقة تحقّقت و تميّزت بالصورة، فحقق بهذا البيان معنى الحديث: السعيد سعيد في بطن امّه. و الأمّ هي الصورة و المادّة هي الأب و بعبارة اخرى: المادّة هي الوجود و الصورة هي الماهية، فالحسن انّما حسن في بطن امّه و كذلك القبيح و الحكم لا يتعلق بالمادة و الّا لتساوت الإفراد من الجنس في الحكم، فيكون السرير و الصنم واحدا، لأنّ السرير و الصنم من الخشب، فلو كانت الأمّ هي المادة، لكان الصنم انّما قبح لكونه من الخشب و لم يقل به احد و كان يقال: السعيد سعيد في صلب أبيه. و من شأن العاقل ان ينتقد نفسه و يتأمّل انّ الشيطان من اىّ طريق أفسده، مثل انّ بعض الحمقاء بسبب هذا الحديث قالوا: السعادة و الشقاوة من المقدرات

ص: 232

و إذا كان كذلك، فما الفائدة في العمل! و عطّلوا العمل و هذا غلط، لأنّ اللّه أمركم بالعمل، قال: اعملوا و كل ميسّر لما خلق له. فأطع حتى تكون سعيدا، و لا تعص حتى تكون شقيّا. و بعض أخر من الحمقاء أفسده الشيطان و يقول ان اللّه غنىّ عنّى و عن عبادتي و ليس له حاجة الى عبادتنا. و هذا جهل، نعم انّ اللّه غنىّ عنك، لكن أنت تحتاج الى العبادة، قال اللّه: و من تزكّى فانّما يتزكّى لنفسه. و قال: و من عمل صالحا فلنفسه. و هذا الكلام يشبه مريضا يصف له الطبيب دواء فيقول المريض ما ينفع الطبيب إذا ما شربت الدواء!، و طبقة اخرى من الناس يتجاوزون من حدود الشرع معتمدين على رحمة اللّه و كرمه، مع انّه إذا جاع لا يشبع الا بالأكل. و كذا لا يبرأ من مرضه الّا بعد شرب الدواء و هو كريم لكن لا تخرج حبّة من الحنطة الّا بعد مشقّة الحرث و السقي و المدة و العدة و هو كريم و شديد.

[سورة البقرة (2): آية 89]

وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)

«وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ» كائن «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» و هو القرآن- و وصفه بقوله من عند اللّه، للتشريف «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ»: اى موافق للتوراة في التوحيد و النبوّات- و المصدق به ما يدل عليها من العلامات من بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و ليس المراد انّ القرآن مصدق تمام احكام التوراة و شرائعها، بل القرآن نسخ أكثرها «وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ» من قبل مجي ء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» اى، يستنصرون به على مشركي العرب و كفّار مكّة و يقولون: اللهمّ انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة. و يقولون لأعدائهم: ننتظر زمان نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عاد و ارم.

«فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا» من الكتاب بمجيئه و نعوته «كَفَرُوا بِهِ» حسدا و حرصا على الرياسة. و غيّروا صفته و هو جواب، لما، الاولى و الثانية، تكرير للأولى «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ»: اى عليهم و وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على أنّ

ص: 233

اللعنة لحقتهم لكفرهم. و الفاء للدلالة على ترتيب اللعنة على الكفر. و اللعنة في حقّ الكافر: الطرد و الابعاد من الرحمة و الجنّة على الإطلاق و في حقّ العاصين و المذنبين من المؤمنين، الابعاد من الكرامة التي وعد بها من لا يكون في ذلك الذنب مثل لعنة المحتكر و أمثاله.

[سورة البقرة (2): آية 90]

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)

ثمّ ذم اللّه تعالى اليهود بايثارهم الدنيا على الدين فقال «بِئْسَمَا» اى بئس شيئا باعوا به أنفسهم، ما، نكرة منصوبة تميز- و المميز لا يكون إلّا نكرة، الا ترى انّ أحدا لا يقول عشرون الدرهم، كقولك: نعم رجلا زيد- مفسرة لفاعل بئس و تقديره بئس الشي ء شيئا «اشْتَرَوْا» بمعنى باعوا «بِهِ» اى بذلك الشي ء «أَنْفُسَهُمْ» المراد، الايمان و حاصل المعنى: انّهم باعوا ايمانهم بكفرهم، لأنّ الذي حصلوه على منافع أنفسهم لما كان هو الكفر، صاروا بائعين أنفسهم بذلك و بذلوا الأنفس به. و المخصوص بالذمّ، قوله:

«أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»: فبيّن سبحانه تفسير ما اشتروا به أنفسهم بقوله:

ان يكفروا بما انزل اللّه- و المراد كفرهم بالقرآن، لأنّ الخطاب الى اليهود و كانوا مؤمنين بالتوراة، ثمّ بيّن الوجه الذي اختاروا الكفر بما أنزل اللّه، فقال: «بَغْياً» اى علّة كفرهم، البغي و الحسد، لأجل «أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» و ذلك لأنّهم طمعوا انّ هذا الفضل العظيم بالنبوّة المنتظرة يحصل لهم و لقومهم، فلمّا وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي و الحسد- و اللّه اعلم حيث يجعل رسالته- «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ»: اى احتملوا بغضب على غضب مترادف و لعنة اثر لعنة حيثما اقترفوا كفرا على كفر، مثل تكذيبهم عيسى عليه السّلام و ما انزل عليه، و تكذيبهم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذلك عبادتهم العجل. و قولهم:

انّ اللّه فقير و نحن اغنياء. و قولهم: يد اللّه مغلولة، فدخلوا في سبب بعد سبب. و

ص: 234

للكافرين: اي لهم عذاب مهين مقرون بالإهانة و الذلّ. و فيه اشعار بانّ عذاب المؤمنين، تأديب و تطهير. و عذاب الكفّار، اهانة و تشديد. و ذلك كله لحبهم الدنيا لشهواتهم.

قال عيسى: عليه السّلام لا يستقيم حب الدنيا و الآخرة في قلب مؤمن، كما لا يستقيم الماء و النار في إناء واحد.

قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اتّقوا الدنيا فانّها أسحر من هاروت و ماروت، ارضوا بدنىّ الدنيا مع سلامة الدين، كما رضى اهل الدنيا بدنىّ الدين مع سلامة الدنيا.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ اللّه لم يخلق خلقا ابغض اليه من الدنيا و انّه لم ينظر إليها منذ خلقها. و القرآن مشحون من ذمّ الدنيا و ذمّ أهلها، مثل قوله تعالى:

فامّا من طغى و آثر الحيوة الدنيا. و مثل قوله تعالى: ذلك بانّهم استحبّوا الحيوة الدنيا على الآخرة.

مثال الخلق في الدنيا، كمثال قوم ركبوا في السّفينة فانتهت بهم الى جزيرة، فأمرهم الملّاح الى الخروج لقضاء الحاجة و خوفهم المقام ليغرقوا فيها، فبادر بعض و قضى حاجته و رجع الى السفينة، فوجد مكانا خاليا واسعا و وقف بعضهم ينظر في أزهارها و نعمات طيورها، فرجع الى السفينة، فلم يجد الّا مكانا ضيّقا و اكبّ بعضهم على تلك الاصداف و الأحجار إذا أعجبه حسنها، فلم يقدر على رميها و لم يجد لها مكانا، فحملها على عنقه و هو ينوء تحت ثقلها. و ولج بعضهم الرياض و نسى المركب و اشتغل بالتفرّج في تلك الازهار و التناول من تلك الثمار و هي في تفرّجه غير ملتفت الى النكبات، فلمّا رجع الى السفينة، لم يصادفها، فبقى على الساحل، فافترسته السباع و الهوام، فهذه صورة مثال الخلق في الدنيا فتأمّل.

ص: 235

[سورة البقرة (2): آية 91]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

بيان لنوع آخر من قبائح أفعالهم «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»:

اى و إذا قال اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليهود اهل المدينة و من حولها آمنوا بما انزل اللّه من الكتب الالهيّة جميعا «قالُوا نُؤْمِنُ»: اى نستمرّ على الايمان «بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا»: يعنى التوراة «وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ»: يريد الإنجيل و القرآن و ما سوى التوراة من الكتب المنزلة «وَ هُوَ الْحَقُّ» اى و الحال انّ ما وراء التوراة هو الحق، يعنى القرآن «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» اى حالكون القرآن موافقا للتوراة و فيه ردّ لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة، فقد كفروا بالتوراة «قُلْ» يا محمّد تبكيتا لهم من جهة اللّه لبيان التناقض، بين أقوالهم و أفعالهم «فَلِمَ» أصله لما، لامه للتعليل دخلت على، ما، الّتى للاستفهام و سقطت الالف، فرقا بين الاستفهامية و الخبريّة «تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ»: صيغة الاستقبال لحكاية حال الماضي و هو جواب شرط مقدر: اى قل لهم ان كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون، فلاىّ شي ء تقتلون أنبياء اللّه من قبل و هو فيها حرام و أسند فعل الآباء، الى الأبناء، لرضاهم بفعل آبائهم و الآية دليل على انّ من رضى بالمعصية: فكانّه فاعل لها، لأنّ اليهود كانوا راضين بقتل آبائهم ايّاهم، فسمّاهم اللّه قاتلين «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»: جواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه اى ان كنتم مؤمنين، فلم تقتلونهم و هو تكرير للاعتراض و تشديد للتهديد.

[سورة البقرة (2): آية 92]

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)

من تمام التبكيت و التوبيخ و اللام للقسم «وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ» اى باللّه قد جاءكم موسى، ملتبسا بالمعجزات الظاهرة، من العصا و اليد و فلق البحر و نحوه «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ» الها من بعد مجيئي موسى بها «وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ»

ص: 236

[سورة البقرة (2): آية 93]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» التكرار في هذه البيانات و أمثالها لإيجاب الحجّة على الخصم. و المعنى اذكروا وقت أخذنا العهد و رفعنا فوقكم الجبل قائلين لكم:

«خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا»: اى اعملوا بما أمرتم به في التوراة و اسمعوا ما فيها سمع طاعة و قبول «قالُوا»: استيناف مبنيّ على سؤال سائل كأنّه قيل فماذا قالوا؟ فقيل قالوا: «سَمِعْنا» قولك «وَ عَصَيْنا» أمرك و لو لا مخافة الجبل ما قبلنا في الظاهر، فإذا كان حال إسلامهم هكذا، فكيف يتصوّر من اخلافهم الايمان.

«وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ» بيان لمكان الإشراب، اى حلّ حبّ العجل محلّ الشراب و اختلط به كما خلط الصبغ بالثوب: اى جعلوا شاربين حبّ العجل، نافذا في قلوبهم نفوذ الماء «بِكُفْرِهِمْ» اى بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك قيل: كانوا مجسّمة و حلوليّة و لم يروا جسما أعجب منه، فتمكّن في قلوبهم ما سوّل لهم السامريّ. و في القصص انّ موسى عليه السّلام لما خرج إلى قومه، أمر أن يبرد العجل بالمبرد، ثمّ يذرى في النهر، فلم يبق نهر يجري يومئذ إلّا وقع فيه منه شي ء، ثمّ قال لهم اشربوا منه، فمن بقي في قلبه شي ء من حبّ العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه.

«قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ»: اى بئس شيئا يأمركم بذلك الشي ء «إِيمانُكُمْ» بما انزل إليكم من التوراة.

و حاصل المعنى أنّه قل يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهؤلاء اليهود، بئس الشي ء الذي يأمركم به ايمانكم من حبّ العجل و قتل أنبياء اللّه و التكذيب بكتبه بزعمكم انّكم مصدقون

ص: 237

بالتوراة و تدعون بقولكم: نؤمن بما انزل علينا. و ليس المعنى أنّهم اشربوا حبّ العجل، جزاء على كفرهم، لأنّ محبّة العجل كفر قبيح و اللّه تعالى لا يفعل الكفر في العبد، لا ابتداء و لا جزاء، بل دعاهم إلى حبّ العجل، السامريّ، و زيّنه في قلوبهم. و قول من قال: فعل اللّه ذلك لهم، عقوبة و مجازاة على كفرهم، غلط فاحش- تعالى اللّه عمّا نسبوا إليه من هذه الأمور و أمثالها- و في اسناد الأمر الى الايمان تهكم و اضافة الايمان إليهم للإيذان بأنّه ليس بإيمان حقيقة كما ينبئ عنه قوله «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» بالتوراة و إذا لا يسوغ الايمان بها مثل تلك القبائح، فلستم بمؤمنين. و في هذا نفي عن التّوراة ان يكون يأمر لشي ء يكرهه اللّه و اعلام بأنّ الّذي يأمرهم بذلك أهواءهم.

اعلم: أنّ اعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن تظهر في الخارج على الجوارح بعضها معفوّة و بعضها غير معفوّة، فأوّل ما يرد على القلب هو الخاطر، فيخطر بباله الشي ء و تهيج رغبته اليه، فالأوّل حديث النفس، و الثاني هو رغبة النفس، يسمّى الميل ثمّ يحكم القلب بانّ هذا ينبغي ان يفعل و هذه الدرجة الثالثة، ثمّ يعزم على الفعل، فهذه اربعة احوال قبل العمل بالجارحة، فخاطر و ميل و اعتقاد و عزم، فالخاطر لا يؤاخذ به و كذلك الميل لأنّه لا يدخل تحت الاختيار و هما المرادان بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عفى عن امّتي ما حدّثت به أنفسهم. و الثالث و هو الاعتقاد؛ فهذا يؤاخذ به إذا كان اختياريّا و إلّا فلا. و العزم على الفعل فانّه يؤاخذ به، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المتقاتلين: انّ المقتول في النار، لأنّه كان حريصا على قتل صاحبه و هذا نصّ في أنّه من اهل النار بالعزم، قال اللّه: انّ السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا. و في عبارات الشيخ البهائي و الأنصاري في مبحث التجرّي بيانات في أهوائهم و قلوبهم. و ارض القلب لا ينبغي إفسادها و أعظم اسباب فسادها التحريف و لو في الجملة، فانّ الشرائع سنن موضوعة بين العباد فإذا تمسّك الخلق بها زال العدوان و لزم كلّ أحد شأنه فحقنت الدماء و ضبطت الأموال و حفظت الفروج، فكان ذلك صلاح الدنيا و صلاح القلوب. امّا إذا حرفت الشريعة او أهملت، فيقدم كلّ احد على ما يهواه، فيظهر الفساد في البرّ و البحر و من أعظم

ص: 238

اسباب فساد القلوب اظهار مقامات دينيّة بقول او عمل ظاهريّ، او تكلف حال لا يوافقه القلب مظهرا له على صورته الواقعيّة، تلبيسا على نفسه، او على الناس و محدثون عادات غير موافقة للشريعة و الطبيعة، مجبولة على التقليد و متابعة افعال أبناء نوعه و هذه مفسدة لأحوال القلب و هو لا يحسّ بها كيف انقلبت قلبه النهاية و انّه يقتصر على امور ظاهرها عبادات و باطنها عادات و لا يطلب حقائق الايمان و الإخلاص و التوجّه التامّ في الأعمال الخفيّة التي لا يطلع عليها إلّا اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 94]

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94)

«قُلْ» لهم يا خير الأنبياء «إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ» ان صح قولكم ان لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا و انّ الجنّة لكم «خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ»: خاصّة بكم من دون محمّد و أصحابه «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ»: فاسئلوا الموت بالقلب و اللسان، فانّ من أيقن بدخول الجنّة اشتاق إليها و تمنّى سرعة الوصول الى النعيم و التخلّص من دار الكدّ و التعب و قرارة الاكدار لأنّه لا سبيل الى دخولها الا بعد الموت، فاستعجلوه «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» و مؤمنين و المؤمن ينبغي ان يكون فعله مصدّقا لقوله. و أصل الايمان افراد القديم عن الحدوث و نفي الشريك مطلقا، ثمّ الامتثال لأوامره تعالى، فإذا حصل هذا المعنى فقد تمّت السعادة.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لما دخل على يعقوب عليه السّلام، بشير يوسف عليه السّلام و بشّره بحياته، قال له يعقوب عليه السّلام: على اىّ دين تركته، قال: على دين الإسلام، قال يعقوب عليه السّلام: قد تمّت النعمة على يعقوب.

و اعلم يا أخي، انّ اصل الأصول و مناط القبول و مكفّر الخطايا و مستجلب العطايا، التوحيد. قال صاحب تفسير روح البيان، المولى إسماعيل الحقّي: حكى انّ رسول اللّه كان يحب اسلام دحية الكلبي، لأنّه كان تحت يده سبعمائة من أهل بيته و كان مطاعا عندهم و كانوا يسلمون بإسلامه و لذلك كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حريصا على إسلامه و كان

ص: 239

يقول: اللهمّ ارزق دحية الإسلام، فلما أراد دحية الإسلام، اوحى اللّه الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد صلاة الفجر، ان: يا محمد انّ اللّه يقرؤك السلام و يقول: إنّ دحية يدخل عليك الآن.

و كان في قلوب الأصحاب شي ء من دحية، من وقت الجاهليّة، فلمّا سمعوا ذلك، كرهوا ان يمكّنوا دحية فيما بينهم، فلمّا علم ذلك الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كره ان يقول لهم مكّنوا دحية، و كره ان يدخل دحية، فيوحّشوه، فيبرد قلبه عن الإسلام، فلمّا دخل دحية المسجد، رفع النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ردائه عن ظهره و بسطه على الأرض بين يديه فقال لدحية: هاهنا- و أشار الى ردائه- فبكى دحية من كرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و رفع ردائه و قبّله و وضع على رأسه و عينيه و قال: ما شرائط الإسلام، اعرضها علىّ. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ان تقول اوّلا، لا اله الّا اللّه، محمّد رسول اللّه. فقال دحية ذلك، ثمّ وقع البكاء على دحية. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما هذا البكاء و قد رزقت الإسلام. فقال: انّي ارتكبت خطيئة و فاحشة كبيرة، فقل لربّك، ما كفّارته، ان امرني أن أقتل نفسي، قتلتها و ان امرني ان اخرج من جميع مالي، خرجت، فقال: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما ذلك يا دحية، قال: كنت رجلا من ملوك العرب و استنكفت ان تكون لي بنات، لهنّ ازواج، فقتلت سبعا من بناتي كلّهنّ بيدي، فتحيّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك حتّى نزل جبرئيل، فقال: يا محمّد انّ اللّه يقرؤك السلام و يقول: قل لدحية: و عزّتي و جلالي، انّك لما قلت: لا إله إلّا اللّه غفرت لك كفر ستّين سنة و سيّئات ستّين سنة، فكيف لا اغفر لك قتل البنات. فبكى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إلهي غفرت لدحية قتل بناته بشهادة أن لا إله إلّا اللّه مرة واحدة، فكيف لا تغفر للمؤمنين بشهادات كثيرة و بقول صادق و بفعل خالص.

[سورة البقرة (2): آية 95]

وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)

: لن، تأييد للنفي، اى لا يتمنّوا الموت، هؤلاء اليهود، ابدا «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ»: لحرصهم على الحيوة، لأجل استدراك شهوات أنفسهم و بسبب كثرة معاصيهم و مخالفتهم في دينهم «وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ»: و اللّه عالم بظلمهم في حقّ أنفسهم و مخالفتهم في كتابهم.

ص: 240

فيا مغرور لو نصحك ناصح، لم ترتكب الكبائر و تعير على الظلم، تعتل بالضرورة مع أنّ الضرورة لو كانت صادقة فبقدر الضرورة. ما أشبه عذرك بعذر الشارب المدّاح فما رعيت حقّ رعايتها و أدنى مراتب الرعاية أن يصون العبد نفسه من المخالفة عمّا كتب اللّه عليه من الأعمال و أعلاها أن يقف في سيره مع كلّ خطوة حتّى يصحّحه و يخرج عن عهدة ما عليه في تلك الخطوة من الآداب و ينسب هذا التوفيق إلى اللّه لا من فعل نفسه و لا يخلو من هذه الملكة ساعة واحدة، قال اللّه سبحانه: و من يعظّم حرمات اللّه فهو خير له عند ربّه: و المراد من الحرمات التحرج و التجنّب عن المخالفات و الامتثال بإتيان الأوامر، على سبيل التعظيم و الرغبة و الميل، لا على سبيل الكره، فإنّ العبد الكامل إذا عرف عظمة اللّه، يعبده طوعا، و لا يعبده عبادة العبيد كرها، إذ لو لا خوفه من العقوبة، لم يعبده، و لو لا طمعه المثوبة، لم يعمل فهو أجير، يعمل للاجرة فهو عبد الاجرة، لا عبد سيّده، فان الاجرة إنّما هي مطلوبة لمصلحة النفس و نفعها و راحتها، فعبادته إنّما هي لنفع نفسه، لكن لما كانت الطبقة العامّة لا يقدرون ان يأتوا بمثل هذه العبادة، فهم محكومون ان يعبدوا بالظاهر المتعارف، من مفاد ظاهر الكتاب و السنّة و تلك العبادة الكاملة للأولياء الخاصّة، كما قال امير المؤمنين عليه السّلام: ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنّتك، بل وجدتك أهلا للعبادة. لكن فليعلم الطبقة العامّة انّهم محكومون ان يعبدوا بالشروط المقرّرة في الكتاب و السنّة، لا ان يتسامحوا فيها من آدابها المفروضة و اوّل ادب العبادة، الإخلاص، و هو تصفية العمل من كلّ شوب و لو من الألف جزء واحد و من كمال الخلوص ان لا يعتدّ بعمله، بل يرى العامل، عمله محض الموهبة، أجراه اللّه على يده و لا يرى نفسه مستحقّا للثواب، فانّه لا حول و لا قوّة إلّا باللّه و يكون خجلا من عمله، مع بذل المجهود خوفا من القصور بحقّ العبوديّة، لأنّه عبد لسيّده، مأمور بالإخلاص عن النقصان و الشوائب و احتمال النقيصة و القصور كاف لخجله و العبد إذا ما هذّب عمله عن الشوب و النقصان، يحرم الخير الكثير و لا يكون له استقامة في الخدمة و يحصل له تلوّن، فيغلب الجسم

ص: 241

الروح و الهوى العقل و ينتكس الأمر و لا ينبعث له ذوق في العبادة و الخدمة، بل يحصل له فتور.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: آفة العبادة، الفترة يمرض القلب شيئا فشيئا، إلى أن يكره العبادة و يزيد إلى أن يصل الى درجة المنافقين، قال اللّه تعالى: وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى و هذا المرض بسبب التلوّن و عدم الاستقامة و لهذا شبّهوا الاستقامة بالرّوح الذي يتقوّى به البدن، فإذا فارق الروح البدن يتلاشى و يفنى. و الاستقامة على ما امر به من نهج السنة و لا يخترع من عند نفسه عبادة، فيقع في الشيطنة و يحرم بركة المتابعة.

[سورة البقرة (2): آية 96]

وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)

(وَ لَتَجِدَنَّهُمْ): و لتعلمنّ يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الوجدان العقلي و هو جار مجرى العلم، خلا انّه مختص بما يقع يد التجربة و نحوها عليه. و اللام لام القسم، اى و اللّه تجدن اليهود يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ): لا يتمنّون الموت. و التنكير للنوع و هي حياتهم الّتى هم فيها، لأنّها نوع من مطلق الحيوة (وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) اى انّ اليهود احرص على الحيوة من سائر الناس و من الذين أشركوا، قيل هم مشركو العرب و قيل هم المجوس، لأنّهم كانوا يحبّون ملكهم عشّ ألف نيروز و ألف مهرجان و المهرجان يوم الاعتدال الخريفي، كما انّ النيروز يوم الاعتدال الربيعي و هذا كقولك: زيدا سخى الناس و أسخى من هرم بن سنان.

(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ): بيان لزيادة حرصهم، اى يريد و يتمنّى و يحبّ احد هؤلاء المشركين ان يعطى البقاء و العمر ألف سنة. و لو، فيه معنى التمنّى و المجوس هم القائلون بيزدان و أهرمن و النور و الظلمة و الخير و الشر.

ص: 242

(وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ)، اى ما أحدهم من يزحزحه من النار تعميره و الزحزحة، التبعيد. و، با، زائدة للتأكيد و ان يعمّر، فاعل مزحزحه.

(وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) البصير: العالم بكنه الشي ء، اى عليم بخفيّات أعمالهم.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: طوبى لمن طال عمره و حسن عمله و من احبّه للفساد فقد ضلّ و لا ينجو ممّا يخاف، انتهى. و معلوم ان الموت ينزل على كل نفس، راضية كانت، او كارهة، روى شارح الخطب عن وهب بن منبه انّه قال: مرّ دانيال ببرية، فسمع يا دانيال قف تر عجبا، فوقف فلم ير شيئا، ثم نودي الثانية، قال فوقفت فظهر لي بيت يدعوني الى نفسه، فدخلت فإذا سرير مرصّع بالدر و الياقوت، فإذا النداء من السرير اصعد يا دانيال تر عجبا، فارتقيت السرير، فإذا فراش من ذهب مشحون بالمسك و العنبر، فإذا رجل عليه ميت، كانّه نائم و عليه من الحلىّ و الحلل ما لا يوصف و في يده اليسرى خاتم من ذهب و درّ و فوق رأسه تاج و على منطقته سيف اشدّ خضرة من البقل، فإذا النداء من السرير، ان احمل هذا السيف و اقرأ ما عليه، قال فإذا مكتوب عليه: سيف صمصام من عوج بن عنق بن عاد بن ارم و انّى عشت ألف عام و سبعمائة سنة و افتضضت اثنى عشر ألف جارية و بنيت أربعين ألف مدينة و خرجت بالجور و العنف عن حدّ الإنصاف و كان يحمل مفاتح الخزائن اربعمائة بغل و كان يحمل الى خراج الدنيا، فلم ينازعني احد من اهل الدنيا، فادعيت الربوبيّة، فأصابني الجوع حتّى طلبت كفّا من ذرة بألف قفيز من درّ فلم اقدر عليه، فمتّ جوعا، يا اهل الدنيا اذكروا الموت كثيرا و اعتبروا بي و لا تغرّنكم الدنيا كما غرّتنى، فانّ أهلي لم يحملوا من وزري شيئا.

قيل لكعب الأحبار: يا كعب حدّثنا عن الموت. قال: هو كشجرة الشوك، ادخلت في جوف ابن آدم فأخذت كلّ شوكة بعرق ثمّ اجتذبها رجل قوى شديد

ص: 243

الجذب، فقطع ما قطع و أبقى ما أبقى. و في الحديث: لو انّ شعرة من وجع الميّت وضعت على اهل السماوات و الأرضين، لماتوا أجمعين. و ان في القيامة لسبعين هولا و انّ ادنى هو لها ليضعف على الموت سبعين ضعفا. فعلى القلوب القاسية ان يعالجوا قلوبهم بحضور مجالس العلم و المواعظ و مشاهدة المحتضرين و ذكر الموت و شدائده.

فاستعد ليوم رجوعك و القلب القابل لان يكون عرش الرحمن، لا تجعله للذّة الفانية عرش إبليس و مربع الشيطان. و اعلم انّ كل ما خلق، خلق لأجل حكمة و ما امر به و ما نهى عنه لبقاء تلك الحكمة و حصولها و هذا القانون المنزل فائدته بقاء تلك الحكمة و حصولها، فلا تفتهم فيختلط امر المعاش و المعاد، فإذا جاوزت ذرّة من ذلك القانون، فبقدر التجاوز فسدت و نقصت الحكمة و هلمّ جرّا فكلّ ادب من آدابه من فعل تركته، او ترك فعلته يوجب نقصا في حاشية دينك، بل دين غيرك و غيّرت حكمة اللّه و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يطلع على الرجل من أصحابه كذبة فما ينجلي من صدره حتّى يعلم انّه أحدث توبة منها و تطهّر من تلك القذرة الباطنية و استقصاء الإنسان في الطهارة الباطنية واجب كالنجاسات الظاهرة فانّك تنكر على الشخص لو داس الأرض حافيا على فراشك و لا تبالي من مستقذرات باطنك و مهما لم ينقّ الإنسان باطنه من الخبائث، لم ينتفع من إيمانه و عباداته و لم يظهر أثرها، فانّ الذي مشتغل بالبئر و البالوعة و هو ملوّث كيف يتمكّن من الورود على الملك و يظهر هذه القذارات الباطنية على الجسم لمتابعة الهوى لا مادة الهوى و قد جبّل عليه و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما استعاذ من الهوى و لكن استعاذ من متابعته فقال: أعوذ بك من هوى متّبع و شحّ مطاع و لم يستعذ من وجود الشحّ، فانّه طبيعة النفس و لكن استعاذ من طاعته.

و معرفة دقائق متابعة الهوى، على قدر صفاء القلب و قلّة التلوّث، فانّ كثير التلوّث لا يصل له هذه المعرفة، فانّه قد يكون، يتّبع باستحلاء معاشرة الخلّان، او التجاوز في الأمور المباحة كالأكل و النوم و النكاح و هو لا يشعر بانّه متّبع الهوى، و لا يعلم المسكين انّه مادام حبّ عليه ان ينزع نفسه عن متابعة الهوى، فانّ النفس دائما

ص: 244

يشتهى هواها و نافرة عن العبوديّة و العبادة بسبب طلب الراحة و هيهات من هذه الفراغة الّا بعد الموت. قال اللّه تعالى: وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى و لكن اين أنت من نهى النفس و ما عرفت في ايّام عمرك الّا اتعاب السّن و النوم في الظلال و الكنّ و قد بنى على الهوى طبعك و غرس على محبّتها نبعك مع ان طارف الدنيا و تليدها نسج العناكب وضوء الحباحب فاستقبل الموت قبل هجومه، فلعلّه قرب ابان نجومه، فانّ ضرّ الذنوب سموم قاتلة و حجاب بين العبد و الرب و الحجاب إذا غلظ لا يرى من ورائه شي ء و من شرب السم فليبادر في القئي و الّا يهلكه.

[سورة البقرة (2): الآيات 97 الى 98]

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)

بيان أخر من قبائح اليهود و هذا الكلام لا بدّ له من سبب و هو انّه لمّا قدم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة، أتاه عبد اللّه بن صوريا، فقال يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجي ء في أخر الزمان، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تنام عيني و لا ينام قلبي.

قال: صدقت يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبرني عن الولد، اىّ عضو من الرجل و اىّ من المرأة، فقال: امّا العظام و العصب و العروق فمن الرجل و امّا اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة، فقال: صدقت، فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله، او يشبه أخواله دون أعمامه، فقال، ايّهما غلب ماؤه ماء صاحبه، كان الشبه له، قال: صدقت، فقال:

أخبرني اىّ الطعام حرم إسرائيل على نفسه ففي التوراة انّ النبىّ الأمّي يخبر عنه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنشدكم باللّه الّذى انزل التوراة على موسى هل تعلمون ان إسرائيل مرض مرضا شديدا، فطال سقمه، فنذر للّه نذرا لئن عافاه اللّه من سقمه ليحرمنّ على نفسه احبّ الطعام و الشراب و هو لحمان الإبل و ألبانها، فقالوا: نعم، فقال له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 245

بقيت خصلة واحدة ان قلتها أمنت بك: اىّ ملك يأتيك بما تقول عن اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، جبرئيل، قال انّ ذلك عدونا، ينزل بالقتال و الشدّة و رسولنا ميكائيل، يأتي بالبشر و الرخاء، فلو كان هو الّذى يأتيك، آمنّا بك، فقال عمر: و ما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا: انّ اوّل هذه العداوة انّ اللّه تعالى، انزل على نبيّنا، انّ بيت المقدس سيخرب في زمان رجل يقال له بختنصر و وصفه لنا، فطلبناه فلمّا وجدناه بعثنا لقتله رجالا، فدفع عنه جبرئيل و قال ان سلّطكم اللّه على قتله، فهذا ليس هو ذاك الّذى اخبر اللّه عنه: انّه سيخرب بيت المقدس؛ فلا فائدة في قتله، ثم انّه كبر و قوى و ملك و غزانا و خرّب بيت المقدس و قتلنا، فلذلك نتخذه عدوّا و امّا ميكائيل فانّه عدوّ جبرئيل! فانزل اللّه هاتين الآيتين.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) و جواب «من» محذوف، اى يكون عدوّا اللّه: (فَإِنَّهُ) يعنى جبرئيل (نَزَّلَهُ) اى القرآن، أضمره لوضوحه و كمال شهرته (عَلى قَلْبِكَ) بيان لمحلّ الوحى، فانّه القابل الأوّل و مدار الحفظ و الفهم، و حقّ صورة الكلام ان يقال: على قلبي، لكنّه جاء على حكاية قول اللّه (بِإِذْنِ اللَّهِ) و امره و تيسيره (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) حال كون القرآن موافقا لما قبله من الكتب الالهيّة من معارف التوحيد و بعض الشرائع (وَ هُدىً) الى دين الحقّ (وَ بُشْرى و مبشّرا بالجنّة مصدر بمعنى الفاعل (لِلْمُؤْمِنِينَ) فحينئذ لا وجه لمعاداته فلوا نصفوا، لأحبّوه و شكروا له صنيعه في انزاله ما ينفعهم.

فالمؤمن يشكر و الفاسق يكفر، قال الجنيد: الشكران لا تستعين بنعمه على معاصيه، فنعمة إدراكك تصرفها في الدهاء و قواك في المعاصي و مالك في اللهو، فمن لامك في معصية و نهاك عنها، فشكر هذه النعمة ان تحبّه لا ان تبغضه.

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) و مخالفا لأمره (وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ) أفردهما بالذكر لإظهار شرفهما، قال عكرمه: جبر، و ميك، و اسراف، هي العبد بالسريانيّة- و ايل و آئيل، هو اللّه و معناها عبد اللّه و عبد الرحمن قال الرازي في المفاتيح:

ص: 246

قرء ابن كثير، جبرئيل بفتح الجيم و كسر الراء من غير همزة و الكسائي و ابو عمر عن عاصم بفتح الجيم و الراء مهموزا و الباقون بكسر الجيم و الراء، غير مهموز على وزن قنديل و فيه سبع لغات، ثلاث منها ما ذكرناها و جرائل على وزن جراعل و جرائيل على وزن جراعيل و جرايل على وزن جراعل و جراين بالنون و منع عن الصرف للتعريف و العجمة.

(فَإِنَّ اللَّهَ) جواب الشرط و لم يقل فانّه، لاحتمال ان يعود الى جبرئيل و ميكائيل (عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) اى لهم، جاء بالظاهر ليدلّ على انّ اللّه انّما عاداهم لكفرهم

[سورة البقرة (2): آية 99]

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)

فقال ابن صوريا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد تلك السؤالات، ما جئتنا بشي ء نعرفه و ما انزل عليك من آية فنتّبعها، فانزل هذه الآية: (وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) اى و باللّه قد أنزلنا إليك آيات واضحة الدلالة على معانيها و على كونها من عند اللّه، (وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ): و ما يكفر بهذه الآيات الّا المتمردون في الكفر، الخارجون عن حدوده.

[سورة البقرة (2): آية 100]

أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)

(أَ وَ) الهمزة للإنكار و الواو للعطف على مقدّر يقتضيه المقام اى اكفروا بالبيّنات و «كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً» أراد به العهد الّذى بلغهم الأنبياء، ان يؤمنوا بالنبىّ الأمّي، او العهود الّتي كانت بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بين اليهود، فنقضوها لفعل قريظة و النضير عاهدوا ان لا يعينوا عليه احد، فنقضوا ذلك و أعانوا عليه قريشا يوم الخندق «نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» جماعة منهم «بَلْ أَكْثَرُهُمْ» اى اكثر المعاهدين «لا يُؤْمِنُونَ» و لا يعود الضمير الى فريق، لأنّ الفريق النابذة كلّهم غير مؤمنين، لكن من المعاهدين من آمن كعبد اللّه بن سلام و كعب الأحبار و غيرهما و قرء

ص: 247

ابو السمال او، بسكون الواو على انّ الالف و اللام في الفاسقون بمعنى الّذين، فيكون المعنى: و ما يكفر بها الّا الذين فسقوا او نقضوا عهد اللّه مرارا.

[سورة البقرة (2): آية 101]

وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)

«وَ لَمَّا جاءَهُمْ»: و لمّا جاء اليهود الّذين كانوا في عصر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» يعنى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن اكثر المفسّرين و قيل: أراد بالرسول، الرسالة و هذا القول ضعيف «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» اى هو معترف بنبوّة موسى عليه السّلام و بصحّة توراة، او معنا من حيث انّ التوراة بشّرت بمقدم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإذا اتى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مجيئه تصديقا للتوراة «نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» اى ترك و القى طائفة منهم و انّما قال: من الّذين و لم يقل: منهم. لأنّه أراد علماء اليهود «كِتابَ اللَّهِ» يحتمل ان يريد به القرآن، او التوراة «وَراءَ ظُهُورِهِمْ» كناية عن تركهم العمل به، قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه و لكن نبذ و العمل به، فحينئذ المراد: التوراة، ادرجوه في الحرير و الديباج و حلّوه بالذهب و الفضة و لم يحلّوا حلاله و لم يحرّموا حرامه، قال السدى: نبذوا التوراة و أخذوا بكتاب اصف و سحر هاروت و ماروت، قال قتادة: النابذون جماعة معدودة من علمائهم و لذا ذكر سبحانه: فريقا لأنّ الجمع العظيم و الجمّ الغفير و العدد الكثير، لا يجوز عليهم كتمان ما علموه، لأنّه خلاف المألوف من العادات الّا إذا كانوا عددا يجوز على مثلهم، التواطؤ على الكتمان «كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» انّه صدق و حقّ و المراد انّهم علموا و كتموا، بغيا و طمعا في الرياسة، او المراد كانّهم لا يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب.

ص: 248

[سورة البقرة (2): آية 102]

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 299

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)

و اتّبع اليهود، عطف على ما تقدّم من انّه نبذ فريق من اليهود كتاب اللّه وراء ظهورهم و اختلف في اليهود، فقيل: المراد اليهود الذين كانوا على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: انّهم اليهود الذين كانوا في زمن سليمان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: المراد به الجميع لأنّ متّبعي السحر لم يزالوا منذ عهد سليمان الى ان بعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اى اتبع اليهود ما يقرء الشياطين، من السحر و النيرنجات على عهد سليمان و زعموا بزعمهم الباطل انّ سليمان عليه السّلام كان كافرا ساحرا ماهرا به و نال ما نال و ملك ما ملك و قدر ما قدر و قالوا و نحن ايضا نعمل به و نظهر العجائب حتّى ينقاد الناس لنا و نستغني عن الانقياد لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

القمي و العياشي عن الباقر عليه السّلام قال: لمّا هلك سليمان عليه السّلام وضع إبليس السحر و كتبه في كتاب و طواه و كتب على ظهره: هذا ما وضعه اصف بن برخيا للملك سليمان بن داود، من ذخائر كنوز العلم، من أراد كذا و كذا، فليفعل كذا و كذا، ثم دفنه تحت سرير سليمان، فدلّاهم عليه و قرأه عليهم، فقال الكافرون:

ما كان يغلبنا سليمان الا بهذه و قال المؤمنون: بل هو عبد اللّه و نبيّه، فقال اللّه «وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ» اى على عهده، اوفى عهده،

ص: 249

فكذّبهم اللّه، و قال «وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ» و لا استعمل السحر، كما قال هؤلاء الكفرة «وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» قرء، لكن، مخفّفة و مشدّدة و على قراءة التّخفيف ملغاة عن العمل و رفع اسم ما بعدها، اى و لكن كفر الشياطين بتعليمهم الناس السحر الّذى نسبوه الى سليمان (وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) و بتعليمهم ايّاهم ما انزل على الملكين «بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ» قال الصادق عليه السّلام: و كان بعد نوح كثر السحرة و المموّهون فبعث اللّه ملكين الى نبىّ ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة و ذكر ما يبطل به سحرهم و يردّ به كيدهم، فتلقّاه النّبى عن الملكين و ادّاه الى عباد اللّه بأمر اللّه و أمرهم ان يقفوا به على السحر و ان يبطلوه و نهاهم عن ان يسحروا به الناس و هذا كما يدلّ على كيفيّة السمّ و على ما يدفع به غائلة السمّ، ثمّ يقول لمتعلّم ذلك العلم هذا السمّ فمن رايته سم، فادفع غائلته بكذا و إياك ان تقتل بالسمّ أحدا، قال و ذلك النبىّ امر الملكين، ان يظهرا للناس بصورة بشرين و يعلماهم ما علموا و ذلك قوله «وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ» ذلك السحر و إبطاله (حَتَّى يَقُولا) للمتعلّم «إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ» امتحان للعباد ليطيعوا اللّه فيما يتعلّمون من هذا و يبطلوا به كيد السحر و لا تسحروا «فَلا تَكْفُرْ» ايّها المتعلّم باستعمال هذا السحر و طلب الإضرار به و دعاء الناس الى ان يعتقدوا انّك تفعل ما لا يقدر عليه الّا اللّه، فانّ ذلك كفر «فَيَتَعَلَّمُونَ» يعنى طالبي السحر «مِنْهُما» اى ممّا تتلوا الشياطين على عهد سليمان و ممّا انزل على الملكين ببابل من هذين الصنفين «ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ» يتعلّمون للإضرار بالناس و التفريق بين الزوج و الزوجة و بين المتحابين و ما يؤدّى عمله الى الفراق بينهما «وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» اى لا يضرّون بذلك السحر الّا بتخلية اللّه، فانّه تعالى لو شاء لمنعهم بالقهر و قيل: معنى باذن اللّه بعلم اللّه.

قال صاحب كتاب نصاب الاحتساب: انّ الرجل إذا لم يقدر على مجامعة اهله و قدر على ما سواها، فانّ المبتلى بذلك يأخذ حزمة من القصب و يطلب فأسا

ص: 250

ذا فقارين و يضعه في وسط تلك الحزمة ثمّ يؤجج نارا في تلك الحزمة حتّى إذا حمى الفأس استخرجه من النار وبال على حوّة فيبرأ باذن اللّه.

«وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ» لأنّهم إذا عملوا السحر و تعلّموا ليسحروا به، فقد تعلّموا ما يضرّهم في دينهم، فانّهم ينسلخون عن دين اللّه بذلك «وَ لَقَدْ عَلِمُوا» اى علم هؤلاء المتعلّمون «لَمَنِ اشْتَراهُ» قيل: اللام، في لمن اشتراه، لام الابتداء و قيل لام القسم، و «مِنْ» قيل شرطيّة و الجواب «ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» و قيل: من، موصولة، اى و اللّه لقد علم الّذى اشترى السحر ماله في الآخرة من نصيب في الجنّة «وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» اى بئس ما باعوا به حظّ أنفسهم من نصيب الجنّة حيث اختاروا التكسب بالسحر لداعية الفرار من التكليف و حبّ الدنيا لو كانوا يعلمون كنه ما يصيرون اليه من العقاب الدائم.

فان قيل: كيف اثبت سبحانه لهم العلم في قوله و لقد علموا، ثمّ نفاه عنهم في قوله: لو كانوا يعلمون، فالجواب: انّ الّذين علموا، غير الّذين لم يعلموا، فالّذين علموا، هم الّذين علموا السحر و دعوا الناس الى تعلّمه و هم الّذين نبذوا كتاب اللّه و امّا الجهّال الذين يرغبون في تعلّم السحر، فهم الّذين لا يعلمون، او انّ القوم واحد و لكنّهم علموا شيئا و جهلوا شيئا أخر، علموا انّه ليس لهم في الآخرة خلاق و لكن جهلوا ما حصل لهم لهذا الأمر، من العقوبة و النكال.

ثمّ في الآية قول آخر: و هو انّه قرأ، ملكين بكسر اللام، عن الضحّاك و ابن عبّاس، فقال الحسن: كانا علجين، أقلفين ببابل، يعلّمان الناس السحر و قيل: كانا رجلين، صالحين من الملوك، مستدلّا بأنّه لا يليق بالملائكة تعليم الباطل، لكن يمكن الجواب بأنّه تعليم الباطل لأجل معرفة بطلانه، ليس فيه ضرر كما شرح اوّلا، او انزلا و هما ملكان من الملائكة، انزلا لتعليم السحر، ابتلاء و امتحانا من اللّه للناس كما ابتلى قوم طالوت بالنهر، او انزلا تمييزا بينه و بين المعجزة لئلّا يغتر به الناس

ص: 251

و ذلك لأنّ السحرة كثرت في ذلك الزمان و استنبطت ابوابا غريبة في السحر و كانوا بذلك يدّعون النبوّة و الناس يصدّقونهم بالنبوّة، فبعث اللّه هذين الملكين ليعلّما الناس أبواب السحر، حتّى يتشخّص السحر عن المعجزة، فلهذه الحكمة انزل السحر على الملكين، لأنّ التشخيص بين المعجزة و السحر متوقّف على العلم بماهيّة السحر، فبعث اللّه هذين الملكين لتعريف ماهيّة السحر و قد نهيا الناس عن اعماله بقولهما: انّما نحن فتنة، فلا تكفر ايّها المتعلّم بعمله و هذا من احسن الأغراض و احسن الوجوه. و أنكر ابو مسلم في الملكين ان يكون السحر نازلا عليهما و قال:

انّ السحر لو كان نازلا عليهما، لكان منزله هو اللّه و ذلك غير جائز لأنّ السحر كفر و عبث و لا يليق به إنزال ذلك، لأنّ قوله تعالى و لكنّ الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر، يدلّ على انّ تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة انّهم يعلّمون السحر، لزمهم الكفر و ذلك باطل و السحر لا يضاف الّا الى الكفرة و الفسقة و الشياطين، فكيف يضاف الى اللّه ما ينهى عنه و يتوعّد عليه العذاب و قد أجيب عن قول ابى مسلم قبيل هذا.

و بالجملة فعلى كونهما من الملائكة قالوا في سبب نزولهما و اختلفت الروايات في هذه القضيّة، حتّى في رواياتنا الخاصّة، فبعض منها يدلّ على وقوعها و بعض على عدم وقوعها كما في الصافي، قال الراوي: قلت لأبي محمّد الرضا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّ قوما عندنا يزعمون انّ هاروت و ماروت، ملكان من الملائكة، فانزلهما اللّه الى الدنيا و انّهما افتتنا بالزهرة و أرادا الزنا بها و شربا الخمر و قتلا النفس المحرّمة و انّ اللّه يعذّبهما ببابل و انّ السحرة منهما يتعلّمون السحر و انّ اللّه مسخ تلك المرأة بهذا الكوكب الّذى هو الزهرة، فقال الامام: معاذ اللّه من ذلك، انّ ملائكة اللّه معصومون، محفوظون من الكفر و المعاصي بألطاف اللّه، قال اللّه تعالى فيهم، لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون و قال اللّه تعالى، بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بامره يعملون. و عن الرضا عليه السّلام، انّه سئل عمّا يرويه الناس من امر الزهرة و انّها كانت امرأة فتن بها هاروت و ماروت و ما يروونه من امر سهيل انّه كان عشارا باليمن،

ص: 252

فقال عليه السّلام: كذبوا في قولهم و ما كان اللّه ليمسخ أعدائه أنوارا مضيئة، ثمّ يبقيها مادامت السموات و الأرض و انّ المسوخ لم يبق اكثر من ثلاثة ايّام و ما يتناسل منها شي ء و ما على وجه الأرض، اليوم مسخ و انّ الّتى وقع عليها اسم المسوخيّة مثل القرد و الخنزير و الدّب و أشباههم انّما هي مثل ما مسخ اللّه على صورها و امّا هاروت و ماروت.

فكانا ملكين، علما الناس السحر ليحترزوا به سحر السحرة و يبطلوا به كيدهم و ما علّما أحدا من ذلك شيئا الّا قالا له: انّما نحن فتنة فلا تكفر، فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه و جعلوا يفرّقون بما تعلّموا بين المرء و زوجه- انتهى.

قال الفيض: أقول و امّا ما كذّبوه عليهم السلام من امر هاروت و ماروت فقد ورد عنهم في صحّتها ايضا روايات، القمّى و العياشي عن الباقر عليه السّلام: انه سئله عطا عن هاروت و ماروت، فقال: انّ الملائكة كانوا ينزلون من السماء الى الأرض في كلّ يوم و ليلة يحفظون اعمال اوساط اهل الأرض من ولد آدم و الجنّ و يعرجون بها الى السماء، فضجّ اهل السماء من اعمال اوساط اهل الأرض في المعاصي و الكذب على اللّه و جرأتهم عليه سبحانه و نزّهوا اللّه عمّا يقولون و يصفون، فقالت طائفة من الملائكة: يا ربّنا اما تغضب ممّا يعمل خلقك في أرضك و ممّا يصفون فيك الكذب و عمّا يرتكبونه من المعاصي الّتي نهيتهم عنها و هم في قبضتك، فاحبّ اللّه يرى الملائكة سابق علمه في جميع خلقه و يعرفهم ما منّ به عليهم ممّا طبعهم عليه من الطاعة و عدل به عنهم من الشهوات الانسانيّة، فأوحى اللّه إليهم ان انتدبوا منكم ملكين حتّى أهبطهما الى الأرض و أجعل فيهما الطبائع البشريّة من الشهوة و الحرص و الأمل كما هو في ولد آدم، ثمّ اختبر هما في الطاعة الىّ و مخالفة الهوى، قال:

فندبوا لذلك هاروت و ماروت و كانا من اشدّ الملائكة في العيب لولد آدم و استيثار غضب اللّه عليهم، فأوحى اللّه إليهما ان اهبطا الى الأرض، فقد جعلت فيكما الشهوات، كما جعلتها في بنى آدم و انّى آمركما ان لا تشركا بي شيئا و لا تقتلا النفس الّتى حرّمتها و لا تزنيا و لا تشربا الخمر، ثمّ اهبطا الى الأرض في صورة البشر و لباسهم، فهبطا ناحية

ص: 253

بابل، فرفع لهما بناء مشرف، فأقبلا نحوه فإذا ببابه امرأة حسنة، جميلة، حسناء، متزيّنة، مستبشرة، مسفرة نحوهما؛ فلمّا تأمّلا حسنها و جمالها و ناطقاها وقعت من قلبهما اشدّ موقع و اشتدّت بهما الشهوة الّتي جعلت فيهما، فما لا إليها ميل فتنة و خذلان و حادثاها و راوداها عن نفسها. فقالت لهما انّ لي دينا أدين به و ليس في ديني أن أجيبكما الى ما تريدان، الّا ان تدخلا في ديني، فقالا: و ما دينك، فقالت: انّ لي الها من عبده و سجد له فهو من ديني و انا مجيبه لما يسأل منّى، فقالا: و ما إلهك، فقالت، الهى هذا الصنم، فنظر كلّ الى صاحبه، فقالا: هاتان خصلتان ممّا نهينا عنه، الزّنا و الشرك، لأنّا إذا سجدنا بهذا الصنم و عبدناه، أشركنا باللّه و هوذا، نحن نطلب الزنا و لا نقدر على مغالبة الشهوة فيه و لن يحصل بدون هذا، قالا لها: انّا نجيبك الى ما تريدين، قالت: فدونكما هذه الخمر، فاشربا، فانّها قربان لكما منه و به تبلغا مرادكما، فائتمرا بينهما. و قالا: هذه ثلاث خصال نهينا عنها و انّا لا نقدر على الزنا الّا بهاتين، ما أعظم البليّة بك، قد أجبناك، قالت فدونكما اشربا، فشربا و سجدا، ثمّ راوداها، فلمّا تهيّأت لذلك، دخل عليها سائل، فرآهما على تلك الحالة، فذعرا منه، فقال السائل ويلكما قد خلوتما بهذه المرأة العطرة الحسناء و قعدتما منها على مثل هذه الفاحشة، إنكما لرجلا سوء، لأفعلنّ بكما و خرج على ذلك فنهضت و قالت: لا و الهى لا تصلان الآن الىّ و قد اطّلع هذا الرجل علينا و عرف مكانكما و هو لا محالة مخبر بخبركما، فبادرا و اقتلاه قبل ان يفضحنا جميعا، ثمّ دونكما فاقضيا وطركما مطمئنين آمنين، فاسرعا الى الرجل، فأدركاه، فقتلاه، ثمّ رجعا إليها فلم يرياها و بدت لهما سوآتهما و نزع عنهما رياشهما و سمعا هاتفا: إنكما اهبطتما الى الأرض بين البشر من خلق اللّه ساعة من النهار، فعصيتماه بأربع من كبار المعاصي و قد نهاكما ربّكما عنها فلم تراقباه و لا استحييتما منه و قد كنتما اشدّ من نقم و لام على اهل الأرض المعاصي و لما جعل فيكما من طبع خلقة البشرى و كان قد عصمكم

ص: 254

من المعاصي، كيف رأيتم موضع خذلانه فيكم، قال عليه السّلام: و كان قلبهما من حبّ تلك المرأة ان وصفا و أسسا طرايق من السحر، ما تداوله اهل تلك الناحية. قال الامام عليه السّلام: فخيّرهما اللّه بين عذاب الدنيا و عذاب الآخرة، فقال احد هما لصاحبه:

نتمتّع من شهوات الدنيا الى ان نصير الى عذاب القيامة، فقال الاخر: انّ عذاب الدنيا له انقطاع و عذاب الآخرة لا انقضاء له و ليس حقيق بنا ان نختار عذاب الآخرة، الدائم الشديد، على عذاب المنقطع، قال عليه السّلام: فاختارا عذاب الدنيا و كانا يعلّمان الناس، السحر، بأرض بابل، فرفعا من الأرض الى الهواء، فهما معذّبان، منكوسان، معلّقان في الهواء الى يوم القيامة و قيل: يضربان بسياط من حديد الى يوم القيامة و روى: انّه استشفع لهما إدريس فخيّرا بين العذابين، فاختارا عذاب الدنيا، قيل، هما في بئر بابل من نواحي الكوفة معلّقان بشعورهما، او بأرجلهما، قال مجاهد:

ملئ الجبّ نارا فجعلا فيه و قيل: يعذّبان بالعطش، لأنّه إذا قلّب اللّه بنيتهما بنية البشر، خرجا عن الملكيّة و يحتاجان الى ما يحتاج اليه البشر، فحينئذ يندفع الأشكال ان صحّ هذا القول و لعلّ اختلاف الأقوال من المرموزات و الّذى خوطب بالقرآن، اعرف به، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اتّقوا الدنيا، فو الّذى نفس محمّد بيده، انّها لا سحر من هاروت و ماروت.

إياك ان تسحرك الدنيا بلذاتها و علاقتها، فتبتّل الى اللّه و احترز عن النفس، فانّ أباك آدم أصبح محسود الشياطين و مسجود الملائكة و على رأسه تاج الكرامة و على جسده لباس الوصلة و في وسطه نطاق القربة و في جيده قلادة الزلفى يتوالى عليه النداء كلّ لحظة، يا آدم، يا آدم، فلم يمس حتّى نزع عنه لباسه و سلب منه استيناسه فإذا كان شؤم زلّة، او صغيرة واحدة كذلك، فكيف بك. و لذلك كان المخلصون يحترزون من المباحات، فاعرض عن ملاذ الدنيا و اعتزل عن ابنائها، فطوبى لمن عوّد نفسه بالعزلة، فتمّت له النعمة و يكون أنسه باللّه و بسبب العزلة لا يتيسّر له اسباب المعاصي، اما سمعت قضيّة ابى بكر الورّاق و

ص: 255

كان مشيّقا منذ زمان ان يرى الخضر و كان لهذا الأمر قرب عشرين سنة، كان يخرج كلّ صباح الى المقابر و يقرء جزوا من الكتاب الكريم، ثمّ يرجع، قال الى ان اتّفق يوما في الطريق، رأيت شيخا نورانيا، فسلّم علىّ، فقال: هل تحبّ ان اصاحبك الى المقابر، فصاحبني، فاشتغلت بكلامه الى ان رجعت، فلمّا وصلنا الى باب البلدة، قال لي: كنت تشتاق ان ترى الخضر، فنلت الى مرامك اليوم، لكن بمصاحبتي فاتك قراءة الجزء و هاك نصيحة، فعليك بالاعتزال و غاب عنّى، و ابو بكر هو الّذى مات ابنه لمّا سلّمه الى المعلّم لقراءة القرآن، فلمّا وصل الى هذه الآية «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» غلب الخوف على هذا الطفل، بسبب قراءة هذه الآية الى ان مرض و توفّي.

و أنت تسعى في عمرك لدفع ضرّ او جلب نفع لئلا تحتاج لتمتّع من نيل مشتهياتك مع انّ ما هو سبب عزتك و نيلك الشهوات سبب ذلّتك في الآخرة و طول الحساب، فاخلع نعليك و فرّغ قلبك عن علائق الدنيا، حتّى تصل الى واد المقدّس من القرب من غير مانع، فانّ النعلين حاجبتان بين مساس رجليك و بساط القرب و لا تتجوهر النفس الّا بزوال الاعراض الفاسدة من الشهوات، فاجهد في العمل و لا تجحد، لكن تستبعد هذا المعنى و الحقّ معك لأنّك معصّب العين بعصابة حطام الدنيا و لذا همّتك ضعيفة، اين كثافة الكثيف و المقام الشريف و أول ما عليك استماع الزواجر و الآيات المخوّفة الرّادعة القرآنيّة، هذا إذا كنت مبتديا و ان كنت منتهيا، فالوعديّة و التشويقيّة، كما قيل: خوّفوا المبتدي و شوّقوا المنتهى؛ فانّه لا بدّ للجمل من حاد لقطع البوادي.

أنت ارضىّ و الأرض تحيى بوابل المطر، فتربو و تنبت، ثمّ ان كنت كثير الأكل قلّل في أكلك شيئا فشيئا، فلو يصعب عليك هذا الأمر لأنّ العادة طبيعة خامسة، فزن اوّل يوم مأكلك بعود رطب، فانقص كلّ يوم على قدر جفاف العود و اذكر الحديث: أكثركم شبعا في الدنيا، أطولكم جوعا يوم القيامة، فكن من اصحاب اليمين ان لم تكن من المقرّبين و اعلم انّه ما بينك و بين القيامة الّا ايّاها، فانّه جميع ما في الكبرى، في الصغرى، لكن في الكبرى اشدّ، فاجمع بين المقال و الحال و العلم و العمل و اتبع الراسخين في العلم و علماء الآخرة الذين ليس لهم رغبة في هواهم و لا يطلبون الدنيا

ص: 256

الّا بقدر الحاجة، بل لا يناظرون الّا لإظهار الحقّ لا الغلبة و لا صيقل كلام و لا نقض في الحديث الصحيح و لا تأويل باطل في متن آية محكمة و لا مزاعقة و لا مخاصمة، بل على طريق الفائدة و الكشف، لا المشتغلين لأجل الدنيا و الرياسة.

في الحديث: انّ العلم يهتف بالعمل فان اجابه و الّا ارتحل. المحبوب من العلم هو العلم الّذى ينفعك في الآخرة، فاطلبه و اعمل به و لا تطلب علما ينفعك في دنياك و يضرّك في آخرتك، ففي العلوم ما يضرّ مثل علم السحر و صبغ الصفر إذا قلّبها بالصناعة فضة و كذلك بعض العلوم الّتى تشغلك عن امر دينك، فكما انّ في المكاسب، مكاسب خسيسة، تأباها النفوس الشريفة، كالحفر و الكناسة و الحجامة و كما في الرياح مورق و محرق، كذلك العلوم، فالعلم النافع، هو الّذى لو عملت به يجعلك في جنّات و نهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فاكتسب من جواهر الأعمال، تشرّف بها عند عرض البضايع، فمثالك في العمل و البطالة كجماعة سافروا في الظلمات، فقال لهم الخبير بالمكان: احملوا من حصاها، تغنموا، فالمطيع و صاحب حسن الظنّ حمل فأوقر و المتشكّك البّطال ما حمل، فلمّا خرجوا الى الضوء شاهدوا بضائعهم، فإذا درّ و جواهر، فندم البّطال، فاقبل قول المتشرّع الصادق، و دع كبرك و توانيك و قلّل شبعك و من النوم عينك و احفظ بطنك من الحرام، فأنت العاجز الّذى تؤذيك البقّة و تقتلك الشرقة، قنعت من نعيم الجنّة بحلاوة في الدنيا من نحلة: بخبزة من تبنة و تعلم انّك غدا مستور بلبنة، مع انّك مؤاخذ بنعيمك، قال اللّه: لتسألنّ يومئذ عن النعيم و كن موقنا بما أمرك الشارع و لا تكن ضعيف اليقين في الدين و ضعف اليقين و الشك يوردك الهلكة و يورث الغفلة و البطالة.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حبّك الشي ء يعمى و يصمّ. مراده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ من الحبّ ما يعمى عن طريق الحقّ و يصمّك عن استماع الرشد و يعمى العين عن النظر الى مساويه.

قال الرازي: انّ لفظ السحر في عرف الشرع مختصّ بكل امر يخفى سببه و بتخيّل

ص: 257

على غير حقيقته و يجرى مجرى التمويه و الخداع و متى اطلق و لم يقيّد، أفاد ذم فاعله، قال اللّه تعالى. و سحروا أعين الناس اى موّهوا عليهم حتّى ظنّوا انّ حبالهم و عصيّهم تسعى. و قال: يخيّل اليه من سحرهم انّها تسعى. و قد يستعار لفظ السحر فيما يحمد و يمدح.

روى انّه قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، زبرقان بن بدر و عمرو بن الأهتم، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لعمرو: خبّرنى عن زبرقان، فقال: مطاع في ناديه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره، فقال زبرقان: هو و اللّه يعلم انّى أفضل منه، فقال عمرو: انّه ذميم المروّة، ضيق العطن، أحمق الأب، لئيم الخال، يا رسول اللّه، صدّقت فيهما، أرضاني فقلت احسن ما علمت و اسخطنى فقلت أسوأ ما علمت، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ من البيان لسحرا، فسمّى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعض البيان سحرا، لأنّ صاحبه يتصرّف في الذهن بكلامه اللطيف و يوضح الشي ء المشكل، فأشبه السحر الّذى يستميل القلوب بأعماله و يستنفر و لأنّ المتكلّم يحسن ما يكون قبيحا و يقبح ما هو حسن، قال الشاعر:

في زخرف القول تزيين لباطله و الحق قد يعتريه سوء تعبير

تقول هذا حجال النحل تمدحه و ان ذممت فقل قي ء الزنابير.

[سورة البقرة (2): آية 103]

وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

«وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا»: الضمير راجع الى اليهود اى أمنوا بالقرآن و النبىّ «وَ اتَّقَوْا» الشرك و السحر «لَمَثُوبَةٌ» مفعلة من الثواب و ثاب اى رجع و سمّى الجزاء ثوابا، لأنّه عوض عمل المحسن، يرجع اليه و مثوبة، مبتداء جواب «لو» و التنكير للتقليل، اى شي ء قليل من الثواب «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ» خير، خبر المبتداء، أصله: لأثيبوا مثوبة من عند اللّه خيرا ممّا شروا به أنفسهم، فحذف الفعل و غيّر السبك الى ما عليه المنظم الكريم، للدلالة على اثبات المثوبة لهم و الجزم بخيريّتها و حذف المفضّل عليه،

ص: 258

إجلالا للمفضّل من ان يكون طرف النسبة «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» انّ ثواب اللّه خير.

[سورة البقرة (2): آية 104]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»: خاطب اللّه المؤمنين في القرآن بقوله: يا ايّها الذين أمنوا، في ثمانية و ثمانين موضعا، قال ابن عباس: و كان تعالى يخاطب اليهود اوّلا في التوراة بقوله: يا ايّها المساكين و لمّا اعتدوا على أنبيائه و خالفوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، اثبت لهم المسكنة اخرا «لا تَقُولُوا» لرسول اللّه «راعِنا»: المراعاة المبالغة في الرعي و هو حفظ الغير و تدارك مصالحه، كان المسلمون يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا القى عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول اللّه، اى تأنّ بنا و انتظرنا حتّى نفهم كلامك و كانت هذه الكلمة لليهود، كلمة عبرانيّة او سريانيّة يتسابّون بها فيما بينهم، فلما سمعوا قول المؤمنين: راعنا، يخاطبون الرسول افترصوه و خاطبوا به الرسول و هم يعنون به تلك المسبة، فنهى اللّه تعالى المؤمنين عنها قطعا لألسنة اليهود عن التلبيس و أمروا بما هو في معناها و لا يحتمل التلبيس فقال «وَ قُولُوا انْظُرْنا» اى انتظرنا من نظره إذا انتظره «وَ اسْمَعُوا» بآذان واعية و أذهان حاضرة، حتّى لا تحتاجوا الى الاستعادة «وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» و للذين تهاونوا برسول اللّه، عذاب موجع لما اجترءوا على الرسول من المسبّة. و في الآية دلالة على تجنّب الألفاظ المحتملة الّتى فيها التعريض. و المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يبلغ العبدان يكون من المتّقين، حتّى يدع ما لا بأس به، حذرا ممّا به البأس و قال: انّ من الكبائر، شتم الرجل أباه، قالوا: يا رسول اللّه و هل يشتم الرجل والديه، قال: نعم يسبّ أبا الرجل، فيسّب أباه و امّه، قال اللّه تعالى: و لا تسبّوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبّوا اللّه عدوا بغير علم. فمنع من

ص: 259

سبّ آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك، فالإنسان لا بدّ و ان يحترز عن الذريعة و هي عبارة عن امر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع و هذا معنى التعريض.

[سورة البقرة (2): آية 105]

ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

«ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا»: كان فريق من اليهود يظهرون المحبّة للمؤمنين و يزعمون انّهم يودّون لهم الخير، فنزلت الآية و نفى سبحانه عن قلوبهم الودّ و المراد من نفى الودّ، الكراهة، اى ما يحبّ الذين كفروا «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ» و المعنى انّ الكفّار بأجمعهم لم يحبّوا «أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ» اى على نبيّكم، لأنّ المنزل عليه، منزل على أمته «مِنْ خَيْرٍ» و «مِنْ» مزيدة لاستغراق الخير. و الخير، الوحى و القرآن و النصرة «مِنْ رَبِّكُمْ» اى انّهم يرون أنفسهم احقّ بان يوحى إليهم، فيحسدونكم بناء على انّهم اهل الكتاب و الوحى و أبناء الأنبياء، الناشئون في مهابط الوحى و أنتم اميّون. و امّا المشركون، فادلالا بما كان لهم من النجدة و الجاه زعما منهم انّ رئاسة الرسالة كسائر الرياسات الدنيويّة و لذا قالوا لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. و هم كانوا يتمنّون ان يكون النبوّة في احد الرجلين: نعيم بن مسعود الثقفي بالطائف و وليد بن مغيرة بمكّة، فأجاب اللّه بقوله «وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» و مفعول، من يشاء، محذوف. و المراد بالرحمة:

النبوة و الوحى و الحكمة و النصرة و ليس لاحد عليه حقّ «وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» على من يختاره بالنبوّة و الوحى، فمن حسد بعبد من عباد اللّه بنعمة خصّه بها فقد بارز اوّلا، ربّه، لأنّه يتسخّط قسمته تعالى، فكانّه يقول لربّه: لو قسمت هكذا و الثاني: انّ فضل اللّه يؤتيه من يشاء و هو يبخل بفضله و الثالث: انّه يريد خذلان ولىّ اللّه و زوال النعمة عنه و الرابع: انّه أعان عدوّ اللّه يعنى إبليس. ثمّ انّ حسدك

ص: 260

لا ينفذ على عدوّك بل على نفسك. قال امير المؤمنين عليه السّلام: قاتل اللّه الحسد ما اعدله، بدء بالحاسد قبل المحسود.

قال بكر بن عبد اللّه: كان رجل يأتى بعض الملوك و له مكانة عنده، فحسده رجل على تلك المكانة، فسعى به الى الملك و قال انّ هذا الرجل يزعم انّ الملك ابخر، فقال الملك و كيف يصحّ ذلك عندي، قال: تدعو به إليك، فانظر فانّه إذا دنا منك يضع يده على انفه، ان لا يشمّ ريح البخير، فخرج من عند الملك و دعا الرجل الى منزله، فأطعمه طعاما فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، فقام بحذاء الملك و يكلّم مع الملك على عادته، فقال الملك له: ادن منّى، فدنا منه، واضعا يده على فيه، مخافة ان يشمّ الملك منه ريح الثوم، فلمّا رأى الملك ما فعل، صدّق في نفسه قول الساعى.

و كان عادة الملك ان لا يكتب بخطّه الّا الجائزة، فكتب له بخطّه الى عامل له: إذا أتاك الرجل، فاذبحه و اسلخه و احش جلده تبنا و ابعث به الىّ، فأخذ الكتاب و خرج فلقيه الرجل الّذى سعى به، فاستوهب منه ذلك الكتاب و اخذه منه بأنواع التضرع و الامتنان زعما منه انّه الأمر بالجائزة و مضى به الى العامل، فقال العامل: انّ في كتابك ان أذبحك و اسلخك، قال: انّ الكتاب ليس هو لي، اللّه اللّه في امرى حتّى أراجع الملك، قال له العامل: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه و سلخه و حشى جلده تبنا و بعث به الى الملك، ثمّ عاد الرجل كعادته، فتعجّب الملك من مجي ء الرجل، فقال ما فعلت بالكتاب، قال لقيني فلان فاستوهبه منّى، فوهبته، قال الملك: انّه ذكر لي انّك تزعم انى ابخر، فقال كلّا، قال: فلم وضعت يدك على انفك، قال أطعمني طعاما فيه ثوم فكرهت ان تشمّه، قال: ارجع الى مكانك فقد كفى المسي ء إساءته.

[سورة البقرة (2): آية 106]

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106)

طعن اليهود في الإسلام، فقالوا الا ترون انّ محمّدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافه فنزلت الآية «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ»: النسخ في اللغة، الازالة و

ص: 261

النقل، يقال نسخت الريح الأثر، إزالته و نسخت الكتاب اى نقلته من نسخة الي نسخة و منه تناسخ الأرواح، المراد: التحوّل من واحد الى واحد و قرء ننسخ بضمّ النون و و النسوء هو التأخر و ننسها قرء بفتح النون و الجمهور من المسلمين على جواز النسخ و وقوعه و تمسّكوا بهذه الآية و آيات اخرى، مثل قوله: و إذا بدّلنا آية مكان آية و مثل قوله: يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده امّ الكتاب. و أنكر بعض، النسخ و وقوعه في القرآن، مثل ابى مسلم بن بحر و قال: انّ المراد من الآيات المنسوخة، هي الشرائع الّتي في الكتب المتقدّمة، من التوراة و الإنجيل، كالسبت و الصلاة الى المشرق و المغرب و حرمة لحم الإبل و أمثالها، لكنّ القائلين بوقوع النسخ، دلائلهم كثيرة و حججهم قويّة، مثل ان قالوا بوقوع النسخ في القرآن، انّ اللّه امر المتوفّى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا و ذلك في قوله: و الّذين يتوفّون منكم و يذرون أزواجا وصيّة لأزواجهم متاعا الى الحول. ثمّ نسخ ذلك باربعة أشهر و عشرا بقوله:

و الذين يتوفّون منكم- الآية- و أجاب ابو مسلم: بانّ الاعتداد بالحول ما نسخ بالكليّة، لأنّها لو كانت حاملا و مدّة حملها حولا كاملا، لكانت عدّتها حولا كاملا و إذا بقي هذا الحكم في بعض الصور، كان ذلك تخصيصا لا ناسخا و هذا الجواب ضعيف و حجّة القائلين بوقوع النسخ، آية تقديم الصدقة عند نجوى الرسول و كذلك قوله: سيقول السفهاء ما ولّاهم عن قبلتهم الّتى كانوا عليها، ثمّ أزالهم عنها بقوله: فولّ وجهك شطر المسجد الحرام. و أجاب ابو مسلم: انّ حكم تلك القبلة ما زال بالكليّة لجواز التوجّه إليها عند الأشكال، او مع العلم إذا كان هناك عذر. و جوابه: انّ على الوصف الذي ذكره، لا فرق بين بيت المقدّس و سائر الجهات و بالجملة فعمدة دليل ابى مسلم في هذه المقولة، انّ اللّه وصف كتابه بانّه لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل و هذا ليس بدليل، لأنّ المراد انّ هذا القرآن لم يتقدّمه من كتب اللّه ما يبطله و لا يأتيه من بعده ايضا ما يبطله- انتهى- ثمّ انّ المنسوخ امّا ان يكون هو الحكم فقط، او التلاوة، او هما معا، امّا الأول: مثل آية عدّة الوفاة و هي: و الذين يتوفّون- الآية- و امّا الثاني: فكآية

ص: 262

الرجم، فكما روى انّ ممّا يتلى عليكم في كتاب الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما، فهو منسوخ التلاوة، دون الحكم و معنى النسخ في مثلها، انتهاء التكليف لقراءتها، اى نسخ تلاوتها و بقي حكمها و امّا الثالث الّذى منسوخ الحكم و التلاوة: قالت عائشة: كان تتلى في كتاب اللّه عشر رضعات يحرمن، ثمّ نسخ بخمس رضعات يحرمن، فهو منسوخ الحكم و التلاوة جميعا، ثمّ انّ النسخ يختصّ بالأوامر و النواهي، لكنّ الخبر لا يدخله النسخ ابدا، لاستحالة الكذب على اللّه، انتهى.

«أَوْ نُنْسِها» او نتركها على حالها، او نؤخّرها لوقت آخر لمصلحة و المعنى:

انّ كلّ آية نذهب بها على ما يقتضيه الحكمة «نَأْتِ بِخَيْرٍ» اى بآية و حكم هي خير «مِنْها» للعباد في النفع و الثواب و التفاضل فيها، بحسب ما يحصل منها الخير «أَوْ مِثْلِها» في المنفعة و الثواب، فكلّ ما نسخ الى الأيسر، فهو للسهولة للعباد و ما نسخ الى الاشقّ، فهو في الأجر اكثر، فالايسر: كنسخ الاعتداد في الوفاة و الاشقّ كنسخ ترك القتال بإيجابه و قد يكون النسخ بمثل الأوّل، لا اخفّ و لا اشقّ، كنسخ القبلة، فحينئذ طعن اليهود له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيكون هذه الآية ردا عليهم.

و الأنبياء هم المباشرون لإصلاح النفوس، مثل اطبّاء البدن للأجسام، و النسخة كتاب اللّه و تغيير الأعمال الشرعيّة و الاحكام الخلقيّة الّتى هي منزلة عليهم للنفوس بمنزلة العقاقير، فيغيّرها الشارع و هو اللّه على حسب مصالحها كما انّ الشي ء يكون دواء للبدن في وقت، ثمّ قد يكون داء في وقت آخر لكن لمّا ختمت النبوّة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كذلك ختمت المعالجة بالقرآن الّذى هو شفاء و لا يتغيّر بعده امر ابدا ما دامت السموات و الأرض، فمن حرّفه او بدّل فرعا من فروعه، فقد كفر به و خرج عن دين الإسلام، سواء تعلّق نظره بالمصلحة أم لا.

«أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» فيقدر على النسخ و الإتيان بمثل المنسوخ و بما هو خير منه.

آنكه داند دوخت او داند دريدهر چه را بفروخت نيكوتر خريد.

ص: 263

[سورة البقرة (2): آية 107]

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107)

«أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»: اى هو المالك للسموات و الأرض، فيفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و هو كالدليل على قوله: انّ اللّه بكل شي ء قدير. و تخصيص السموات و الأرض بالذكر- و ان كان اللّه تعالى له ملك الدنيا و الآخرة جميعا- لكونهما أعظم المصنوعة «وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من، زائدة للاستغراق «مِنْ وَلِيٍّ» ناصر، قيّم بالأمور «وَ لا نَصِيرٍ» معين لكم، فلا يجوز الاعتماد على غيره و حسن منه الأمر و النهى و التغيير و التبديل و النسخ لكونه مالكا للخلق.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عباد اللّه أنتم كالمرضى و ربّ العالمين كالطبيب، فصلاح المرضى فيما يعمله الطبيب و يدبّره لا فيما يشتهيه المريض، الا فسلّموا اللّه امره تكونوا من الفائزين.

[سورة البقرة (2): آية 108]

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)

«أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ»: أم، على قسمين، متّصلة و منقطعة، فالمتصلة بمعنى همزة الاستفهام و المنقطعة بمعنى بل، و لا يكون الّا بعد كلام تامّ و في هذه الآية متّصلة و اختلفوا في المخاطب به، قيل: انّهم المسلمون، قالوا: كان المسلمون يسئلون رسول اللّه عن امور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها، كما سأل اليهود موسى و قيل: سأل قوم من المسلمين ان يجعل لهم النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات انواط كما كان للمشركين ذات انواط و هي شجرة كانوا يعبدونها و يعلقون عليها المأكول و المشروب، كما سألوا موسى ان يجعل لهم إلها كما لهم آلهة و القول الآخر: انّه خطاب لأهل مكة و هو قول ابن عباس و مجاهد قال: انّ عبد اللّه بن امية المخزومي

ص: 264

اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في رهط من قريش؛ فقال يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما او من بك حتّى تفجر لنا ينبوعا او تكون لك جنّة من نخيل و عنب او يكون لك بيت من زخرف او ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيّك حتّى تنزّل علينا كتابا من اللّه الى عبد اللّه بن اميّة انّ محمّدا رسول اللّه و قال له بقيّة الرهط فان لم تستطع ذلك فأتنا بكتاب من عند اللّه، جملة واحدة فيه الحلال و الحرام و الحدود و الفرائض، كما جاء موسى الى قومه بالألواح من عند اللّه فيها كلّ ذلك، فنؤمن لك عند ذلك، فانزل اللّه تعالى هذا الآية.

و القول الثالث: انّ الخطاب لليهود، قال الرازي: و هو الأصحّ، لأنّ هذه السورة من اوّل قوله: يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتي. حكاية عنهم و محاجّة معهم و لأنّ هذه السورة مدنيّة و جرى ذكر اليهود و ما جرى ذكر غيرهم.

و بالجملة: فالمعنى أ تريدون و تقترحون بالسؤال كما اقترحت بنوا إسرائيل سابقا على موسى ان تسألوا رسلكم و هو في تلك الرتبة من علوّ الشأن «كَما سُئِلَ مُوسى مشبّها بسؤال موسى «مِنْ قَبْلُ» محمّد متعلق بسئل، جي ء به للتأكيد «وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ» و يأخذه لنفسه «بِالْإِيمانِ» بمقابلته بدلا منه «فَقَدْ ضَلَّ» و عدل و جاز من حيث لا يدرى «سَواءَ السَّبِيلِ» عن الطريق المستقيم و تاه في تيه الهوى و تردّى في مهاوي الرّدى و سواء السبيل، وسط الطريق السويّ الذي هو بين الغلوّ و التقصير و هو الحقّ. و ليس للمؤمن ان يحبّ مالا يرضيه اللّه او يكره ما يرضى اللّه و متى ما لم يراع هذه المرتبة، يسقط عن رتبة الايمان الكامل، قال في بستان العارفين: مثل الايمان مثل بلدة لها خمسة من الحصون: الأوّل من الذهب و الثاني من فضّة و الثالث من حديد و الرابع من حبوكل و الخامس من لبن، فما دام اهل الحصن يعاهدون الحصن الّذى من اللبن، فالعدوّ لا يبلغ فيهم، فإذا تركوا الحصن الأوّل، طمع العدوّ في الثاني، ثمّ في الثالث حتّى خرب الحصون، فكذلك الايمان في خمسة من الحصون، اوّلها اليقين، ثمّ الإخلاص، ثمّ أداء الفرائض، ثمّ إتمام السنن، ثمّ حفظ الأدب فما دام يحفظ الأدب و يتعاهده، فانّ الشيطان لا يطمع فيه، فإذا ترك

ص: 265

الأدب، طمع اللعين في السنن، ثمّ في الفرائض، ثمّ في الإخلاص، ثمّ في اليقين، فينبغي ان يحفظ الأدب في جميع أموره، حتّى في المباحات و انّما ارتدّ من ردّ لعدم رعاية الأدب كإبليس و غيره من المردودين.

اعلم انّه لا يكفيك تزكية النفس عن البعض، حتّى تزكّى عن جميعها و لو تركت واحدا من الأخلاق السيّئة غالبا عليك، فذاك يدعوك الى البقيّة، مثل انّ الحسن، لا يحصل بحسن بعض الأعضاء ما لم يحسن جميع الأطراف، فانّك لو كنت يوسفي الوجه و كنت اعور، لست في زمرة الملاح و الصباح، فانّ الخلق و هو الصورة الظاهرة بسبب عيب يكون ناقصا، فكذلك الخلق و هو السيرة الباطنة، يكون معيبا و ناقصا، فانّ الإنسان مركّب من جسد يدرك بالبصر و من روح و من نفس يدرك بالبصيرة و لكلّ واحد منهما هيئة، امّا قبيحة او حسنة. و الروح و النفس أعظم قدرا و لذلك اضافة اللّه الى نفسه و أضاف الجسد الى الطين، فقال: انّى خالق بشرا من طين و وصف الروح بانّه امر ربّانى، فقال تعالى: قل الروح من امر ربّى و كما للبدن أركانا كالعين و الاذن و الفم و. و لا يوصف بالحسن ما لم يحسن جميعها، كذلك الصورة الباطنة، لها اركان لا بدّ من حسن جميعها، حتّى يحسن الخلق و هي اربعة معان و قوى: قوّة العلم و قوّة الغضب و قوّة الشهوة و قوّة العدل بين هذه القوى الثلاث، فإذا استوت هذه الأركان الاربعة، حصل حسن لخلق، امّا قوّة العلم، فاعتدالها ان يصير بحيث يدرك بها الفرق بين الصدق و الكذب في الأقوال و الحقّ و الباطل في الاعتقادات و بين الجميل و القبيح في الأعمال، فإذا حصلت هذه القوّة حصلت منها ثمرة الفضائل و الحكمة، و من يؤتى الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا.

و امّا قوة الغضب و الشهوة: فاعتدالها ان يقتصر انقباضها و انبساطها على موجب اشارة الحكمة و الشرع.

و امّا قوّة العدل: فهي ضبط قوّة الغضب و الشهوة، تحت اشارة الدّين و الشرع بالعقل الّذى هو بمنزلة الناصح، و لا بدّ في قوّة الغضب، الاعتدال، لأنّها ان مالت الى طرف الزيادة سمّى تهورا، و ان مالت الى النقصان سمّى جبنا، و افراط الغضب

ص: 266

يحصل منه الصلف و البذخ و الاستطالة و الكبر و العجب، و تفريطها يحصل منه الجبن و الذّلة و المهانة و عدم الغيرة و ضعف الحميّة على الأهل و المال و امّا في اعتدالها يحصل الخلق الكريم و الشهامة و الحلم و الثبات و كظم الغيظ و و و.

و امّا اعتدال الشهوة: فهو العفّة و افراطها يعبّر بالشره و عن تفريطها بالخمود، فيصدر من العفّة، السخاء و الحياء و المسامحة و القناعة و الورع و قلّة الطمع و يصدر عن افراطها، الحرص و الوقاحة و التبذير و العجب و الرياء و الهتكة و المجانة و و الملق و الحسد و التذلل للأغنياء و الاستحقار للفقراء.

و امّا قوّة العقل: فيصدر من اعتدالها حسن التدبير و نقابة الرأى في اصابة الظنّ و التفطّن لدقائق الأعمال و خفايا آفات النفوس و امّا افراطه فيحصل منه المكر و الدهاء و الخداع و يحصل من تفريطه، البله و الغمارة و الحمق و البلادة و الانخداع و حسن الخلق في الجميع وسط بين الإفراط و التفريط و كلا طرفيها ذميم و مهما مال واحد من هذه الجملة الى الإفراط و التفريط، فبعد لم يكمل حسن الخلق و العلاج الرياضة و المجاهدة و معنى الرياضة ان يكلّف الصفة المفرطة الغالبة، خلاف مقتضاها و يعمل بنقيض موجبها، مثلا ان غلب البخل، يتكلّف البذل مرّة بعد اخرى، حتّى يسهل عليه البذل في محلّه و هكذا الى ان ينقلب الطبع، فانّ العادة طبيعة خامسة.

و اعلم انّ تفاوت الناس في حسن الباطن، كتفاوتهم في حسن الظاهر و لم يسلّم الحسن المطلق الّا على الندرة كما حصل له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انّك لعلى خلق عظيم.

اعلم: انّ اصول الأخلاق المحمودة عشرة: التوبة و الخوف و الزهد و الصبر و الشكر و الإخلاص و التوكّل و المحبّة و الرضا و ذكر الموت.

الأصل الأوّل، التوبة و انّها مبدأ طريق السالكين و مفتاح سعادة المقبلين- و التائب محبوب اللّه، قال اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ اللّه افرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في فلاة مهلكة، معه راحلته و عليها طعامه و شرابه، فوضع رأسه، فنام نومة، فاستيقظ و قد ذهبت راحلته، فطلبها حتّى اشتدّ

ص: 267

الحرّ و العطش، قال: ارجع الى مكاني الّذى كنت فيه، فأنام حتّى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها زاده و شرابه، فاللّه اشدّ فرحا بتوبة العبد المؤمن، من هذا براحلته و هي واجبة على الفور مع الشرائط، على كلّ احد، لأنّ الإنسان مركّب من صفات بهيميّة و سبعيّة و شيطانيّة و ربوبيّة و قد عجنت في طينته عجنا محكما و اوّل ما يظهر فيه، البهيميّة فيغلب عليه الشهرة و الشره، ثمّ السبعيّة فيغلب عليه المنافسة و المعاداة، ثمّ الشيطانيّة فيغلب عليه المكر و الخداع، ثمّ يظهر فيه بعد ذلك صفات الربوبيّة و هو الكبر و الاستعلاء، فاذن لا يستغنى احد عن التوبة و هي ارث أبيه و لو فرضنا انّه سلم من هذه الآفات و خلا عن جميع ذلك، فلا يخلو عن غفلة عن اللّه و ذلك طريق البعد، قال اللّه: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ و توبة العوام من الذنوب الظاهرة و توبة الصالحين عن الأخلاق الذميمة و توبة المتّقين من الغفلة المنسية للذكر و توبة العارفين عن الوقوف على مقام يكون ورائه مقام، فتوبة العارفين لا نهاية لها.

الأصل الثاني: الخوف: قال اللّه: هدى و رحمة للّذين هم لربّهم يرهبون.

قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رأس الحكمة مخافة اللّه، قال اللّه تعالى في الحديث القدسي: و عزّتى لا اجمع على عبدى خوفين و لا اجمع له امنين- الحديث- و الخوف سوط يسوق العبد الى السعادة و حقيقة الخوف: الم القلب و اضطرابه بسبب توقع مكروه في الاستقبال. اوحى اللّه الى داود عليه السّلام: خفني كما تخاف السبع الضاري. و اللّه تعالى كم أهلك من عباده و عرضهم لانواع العذاب و لم يأخذه رقّة و شفقة و أخوف الخلق الأنبياء و آمن الخلق الأغبياء، او ما سمعت انّ العبد يكون خوفه و رجاؤه متساويا فذلك للمطيع المتجرّد للّه، لكن ما دام العبد مفارقا للذنوب ينبغي ان يغلب الخوف على الرجاء.

قال بعض السالكين: لو نودي ليدخلنّ الجنّة جميع الخلق الّا واحدا، لخفت ان أكون ذلك الرجل، لكن إذا قارب الموت ينبغي ان يغلب الرجاء و حسن الظنّ، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تموتنّ أحدكم الّا و هو حسن الظّن بربّه و الرجاء غير التمني

ص: 268

و المتمنّي مغرور يحسب نفسه راجيا فمن رجا شيئا طلبه و من خاف شيئا هرب منه و مالا يحمل على ذلك فهو حديث نفس لا وزن له و الخوف يوجب الزهد لا الحرص الأصل الثالث: الزهد، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ازهد في الدنيا يحبك اللّه و ازهد عمّا في أيدي الناس يحبك الناس. و قال إذا أراد بعبد خيرا زهّده في الدنيا و رغّبه في الآخرة و بصّره بعيوب نفسه. و بداية الزهد، التزّهد، لأن نفسه مائلة الى الدنيا لكنه يجاهدها و حقيقة الزهد ان ينزوى عن الدنيا طوعا مع القدرة عليها و امّا ان تنزوى عنك و أنت راغب فيها، فذلك فقر و ليس بزهد.

الأصل الرابع: الصبر: قال اللّه تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ و ذكر اللّه، الصبر في القرآن في نيف و سبعين موضعا، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصبر كنز من كنوز الجنّة. و التخلية و التزكية لا تتم الّا بالصبر لأنّ جملة اعمال الايمان على خلاف باعث الشهوة و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصبر نصف الايمان. و الإنسان لا يزال في جميع الحالات يحتاج الى الصبر لأنّ جميع ما يلقى العبد في حياته امّا ان يوافق هواه او يخالفه، فان وافق كالثروة و كثرة الجاه و الصحة فما أحوجه الى الصبر فانه ان لم يضبط نفسه طغى و أفسد و امّا ما يخالف الهوى ففي الطاعات يحتاج الى مجاهدة النفس و تحمّل مشاقّ العبادة و تخليصها عن الرياء و مكائد النفس و كلّ طاعة تحتاج الى الصبر في اوّله بتصحيح النيّة و الإخلاص و ايضا حين الاشتغال كيلا يتكاسل عن آدابه و سننه و الحضور و نفى الوسواس و ايضا بعد العمل ليصبر عن ذكره و افشائه تخلّصا عن الرياء و السمعة، كما انّ المعاصي لا بدّ من تركها على الصبر و المجاهدة مع الهوى، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المجاهد من جاهد هواه و المهاجر من هجر السوء. و الصبر عن المعاصي اشدّ لا سيّما عن معصية صارت عادة مألوفة كمعاصى اللسان كالكذب و الثناء على النفس.

قال بعض الأكابر: ما كنّا نعدّ ايمان الرجل ايمانا، إذا لم يصبر على الأذى، قال اللّه تعالى: وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا. قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من إجلال اللّه ان لا تشكو وجعك و لا تذكر مصيبتك.

ص: 269

الأصل الخامس: الشكر: قال اللّه تعالى: وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ و قال:

ما يفعل اللّه بعذابكم ان شكرتم. و الشكر من المقامات العالية و هو أعلى من الصبر و الخوف و الزهد و جميع المقامات المذكورة لأنها ليست مقصودة في أنفسها و انما يراد لغيرها، مثل انّ الصبر يراد منه قمع الهوى و الخوف سوط يسوق الخائف الى المقامات المحمودة و الزهد هرب من العلائق الشاغلة عن اللّه؛ لكن الشكر مقصود لنفسه و لذلك لا ينقطع في الجنة. قال اللّه تعالى: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و لا يتحقّق الشكر الّا مع العلم بالنعمة و المنعم، فليعلم الشاكر انّ النعمة من اللّه و الوسائط كلّهم مسخرون مقهورون. و متى اعتقدت انّ لغير اللّه دخلا في النعمة الواصلة إليك، لم يصحّ حمدك و شكرك، بل ذلك اشراك في النعمة و المنعم و معلوم بالضرورة ان الخازن و الوكيل، مضطرّان الى العطاء بعد الأمر فهما مسخّران، لا دخل لهما بأنفسهما في النعمة و حكمهما حكم القلم و الكاغذ و الحبر في التوقيع و انّ قلوب الخلق خزائن اللّه و مفاتيحها بيد اللّه و فتحها بان يسلّط عليها دواعي جازمة حتى يعتقد انّ خيرها في البذل مثلا فعند ذلك لا يستطيع ترك البذل و من لا يعلم انّ منفعته في انفاعك، فلا يعطيك شيئا فإذا هو ليس منعما عليك، لأنّه يسعى لنفسه، انّما المنعم من سخّره بتسليط هذه الدواعي عليه و لا بد للشاكر ان يستعمل نعمه تعالى في محابّه لا في معاصيه، مثل ان يستعمل عينه في مطالعة كتاب اللّه و شواهد قدرته و في مطالعة السماوات و الأرض و يستعمل اذنه في سماع الذكر و ما ينفعه في الآخرة و يعرض عن الإصغاء الى الهجر و الفضول و هكذا؛ فحينئذ من شرح اللّه صدره تمكن من الشكر فهو على نور من ربّه، فيرى من كلشي ء حكمته و محبوب اللّه فيه و من لم ينكشف له ذلك، فعليه باتباع السنة و حدود الشرع فليعلم انّه مثلا إذا نظر الى محرم فقد كفر نعمة العين و نعمة الشمس و كفر بكلّ نعمة لا يتم النظر الّا بها، فان الأبصار انّما يتمّ و يتحقق بالعين و نور الشمس انّما يتمّ بالسموات فهو قد كفر أنعم اللّه في السموات و الأرض. و قس على هذا كل معصية، فانّها انّما يمكن بأسباب يستدعى وجود جميعها خلق السماوات و الأرض. و هاك مثالا آخر و هو: انّ اللّه سبحانه

ص: 270

خلق الدراهم و الدنانير لتكون حاكمة في الأموال و الأمور و يعدل بهم القيم و العوض و لو لا هما لتعذرت المعاملات إذ لا يمكن اشتراء مثقال من الزعفران بالجمل، و الفرس بالتمر، فمن كنزهما او اتخذ منهما آنية، كان كمن حبس حاكما من حكام المسلمين حتّى تعطّلت الاحكام او استعمل حاكما من حكّام المسلمين في الحياكة و الفلاحة و تعطل الحكم و كلّ ذلك ظلم و تغيير لحكمة اللّه في خلقه و عباده و معاداة اللّه في محابّه و من لا ينكشف له بنور البصيرة هذه الأسرار لم يعرف صورة الشرع و معناه و لم يعرف قوله: و الذين يكنزون الذهب و الفضّة و لا ينفقونها- الى ان يقول- فبشرهم بعذاب اليم.

فلا يتصوّر الشكر الّا لمن قام للّه بنواميس الشرع و لا يتحقق الشكر الا مع العلم بالنعمة و المنعم فاعرف المنعم و اشكره.

الأصل السادس و السابع: الإخلاص و التوكل: قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو انكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا و تروح بطانا، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من انقطع الى اللّه كفاه كل مؤنة و رزقه من حيث لا يحتسب و من انقطع الى الدنيا و كله اللّه إليها. و المتوكل من لا يرى فاعلا سوى اللّه و يترجمها قولك: لا اله الّا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شي ء قدير. فمن قال ذلك صادقا مخلصا فقدتم توحيده و ثبت في قلبه الأصل الذي منه ينبعث حال التوكل، فان زعمت انّ من اعطاك طعاما فتقول: انما يطعمنى باختياره، ان شاء اعطى و ان شاء منع، فكيف لا أراه فاعلا. فهذا الزعم باطل لأنك ترى الكثير من الأسباب، و لا ترى ارتباط السلسلة بمسبّبها، مثل انّك رأيت المطر سببا في النبات، فاعلم انّ المطر مسخر بواسطة الغيم و الغيم مسخّر بواسطة الريح و كذلك الى ان ينتهى الى اوّل لا محالة. و لا يحصل التوكل للمتوكّل الّا ان يعتقد جزما او ان ينكشف له بالبصيرة بانّه لو خلق الخلائق كلّهم على عقل اعقلهم ثمّ زادهم أضعاف ذلك علما و حكمة، ثمّ كشف لهم عواقب الأمور و اطّلعهم على اسرار الملك و الملكوت، ثم أمرهم ان يدبّروا الملك و الملكوت، لما دبّروه بأحسن ممّا هو عليه و لم يمكنهم ان يزيدوا او

ص: 271

ينقضوا جناح بعوضة، بل شاهدوا جميع ذلك، عدلا محضا و حقّا صرفا لا نقص فيه و انّ كلّ ما يرون فيه نقصا فيرتبط به كمال آخر أعظم منه و ما ظنّوه ضررا فتحته نفع أعظم منه، لا يتوصّل الى ذلك النفع الّا به، فإذا حصل للإنسان هذه المعرفة، يحصل التوكّل و يطمئنّ قلبه بالتفويض و غير مستعين بآحاد الناس، لعلمه بانّ وكيله كافيه و هو جواد كريم، فيكون هذا المتوكل حكمه، حكم الصبىّ في ثقته بامّه و فزعه إليها و قسم آخر و هو أعلى درجة بل يكون بين يدي اللّه، كالميّت بين يدي الغاسل، لا كالصبىّ يزعق بامّه و يتعلّق بذيلها، بل يعلم انه ان لم يطلب امّه، فامّه تطلبه و تبتدى بارضاعه و ان لم يتعلق بذيلها. و لهذا في بعض المقامات يأبون الدعاء و السؤال.

لكن اعلم: انّه ليس من شرط التوكل ترك الكسب و التداوى و الاستسلام للمهلكات و ذلك خطاء لان ارتباط هذه المسببات بهذه الأسباب من السنة التي لا تجد لها تبديلا. و مثال التارك للكسب، مثال من لا يمدّ يده الى الطعام و هو جائع و يقول هذا سعى و انا متوكل، او يريد الولد و لا يواقع اهله او يريد الحنطة و لا يبثّ البذر فانّ تعطيل الأسباب المقدّرة من الخالق، ابطال الحكمة و هو جهل، ثم لا يتكل على اليد فربما يفلج و على الطعام فربّما يهلك و يفسد، بل يتكل بقلبه على خالقهما و لا حول و لا قوّة الّا باللّه، فالحول هو الحركة و القوّة هي القدرة، فإذا كان هذا حالك فأنت متوكّل و ان سعيت. و ترك الادّخار محمود لمن غلب يقينه و امّا الضعيف الّذى يضطرب قلبه، لو لم يدّخر، لم يتفرّغ للعبادة، فالأفضل له ان يدع طريق المتوكّلين و لا يحمل نفسه ما لا يطيقه؛ إذ فساد ذلك في حقّه اكثر من صلاحه و كلّ على حسب قوّته و قد ينتهى القوّة الى ان يسافر في البوادي من غير زاد، لكن الضعيف إذا فعل ذلك فهو عاص ملق نفسه الى التهلكة و لا شكّ انّ طول الأمل يناقض التوكّل، فان قنع بقوت يومه و فرّق الباقي فهو تامّ التوكّل، كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مهما قلّت مدّة الادّخار كانت الرتبة أعظم- جعلنا اللّه من المتوكّلين- الأصل الثامن: المحبّة، قال اللّه تعالى: يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ قال النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 272

لا يؤمن أحدكم حتّى يكون اللّه و رسوله احبّ اليه ممّا سواهما. قال بعض الأكابر: من ذاق من خالص محبّة اللّه منعه ذلك من طلب الدنيا و اوحشه من جميع البشر. و اكثر المتكلّمين فسّروا محبّة اللّه بامتثال أوامر اللّه و ما لا يشبه شيئا و لا يشبهه شي ء و لا يناسب طباعنا بوجه من الوجوه، فكيف نحبّه و انّما يتصوّر منّا ان نحبّ من هو من جنسنا و تحقيق المسألة انّه كلّ لذيذ محبوب يميل النفس اليه و اللذّة تتبع الإدراك و الإدراك ادراكان ظاهر و باطن و ادراك الظاهر بتوسط الحواس الخمس، لكن ادراك الباطن بتوسّط اللطيفة الّتى محلّها القلب، تارة يعبّر عنها بالعقل و تارة بالنور و تارة بالحس السادس الّذى خاصيّة الإنسان و نحن نرى ان الإنسان يحبّ الملك الرءوف العادل العطوف على الرعيّة، كما انّه يبغض الظالم الجاهل الغليظ و كذلك يحبّ الموصوفين بالكمال مثل الأنبياء و الصلحاء و يجد الإنسان في نفسه هزّة و ارتياحا و ميلا الى هذه الطبقة، بل يوجبون على أنفسهم الذّب عنهم و بذل المال لهم و في سبيلهم، ثمّ إذا أحببت هؤلاء لهذه الصفات الحسنة و علمت انّ النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان اجمع منهم لهذه الخصال، كان حبّك له اشدّ بالضرورة، فإذا رفعت نظرك الآن من النبىّ الى مرسل النبي و خالقه و المتفضّل على الخلق ببعثته لعرفت انّ بعثة الأنبياء حسنة من حسناته و قطرة من بحر علمه و قدرته تعالى، فانّ الأنبياء مع هذه الأوصاف الحسنة مربوبون، لأقوام لهم بأنفسهم و لا يملكون موتا و لا حيوة و لا رزقا و لا أجلا. و الكلّ تحت قبضته فحينئذ كيف يمكنك ان لا تحبّ خالقك الذي محيط و محسن على الذرّة و الدرّة و تأمّل: هل لا لأحد في العالم احسان إليك سوى اللّه، و هل لك لذّة و تنعّم في شي ء و ميل على نعمة الّا و اللّه خالقها و خالق الشهوة إليها و التلذّذ بها، فلا تكوننّ اقل من الكلب، فانّه يحبّ صاحبه الّذي يحسن اليه فان لم تقدر ان تحبّه لجلاله و عظمته و جماله كما تحبّه الملائكة فانظر الى لطف صنعه في اعضائك لحبّه بإحسانه إليك، فتكون اقلا من عوام الخلق و أعظم نعم اللّه علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ» و بوجوده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تمت النعم و لو كنت تعرف حقيقة هذه النعمة العظيمة لكنت تبذل روحك بذكر اسمه مرّة واحدة و زادت درجة محبتك و القلب لسليم غير غافل عن هذه المعرفة و كما انّ

ص: 273

أوفق الأشياء للأبدان، الاغذية اللطيفة، فكذلك أوفق الأشياء للقلوب، المعرفة؛ لكنّ الشهوات و نيلها ممرضة للقلوب شيئا فشيئا حتّى لا يقبل شهوة معرفة اللّه أصلا، كما يفسد مزاج المريض، فيسقط شهوته عن الغذاء و ينعكس طبعه فيشتهى الطين و الأشياء المضرّة المهلكة و هو مقدّمات الموت.

و اعلم انّ مرض القلب ينتهى الى حدّ يستكره معرفة اللّه و يبغضها و يبغض أهلها، بل يبغض و يكره جميع الأنبياء و الصلحاء و لا يدرك حينئذ الّا لذة المطعم و المنكح و الرياسة و ذلك هو القلب المنكوس و هو الميّت الّذى لا يقبل العلاج، فيكون اهل هذه الآية: انّا جعلنا على قلوبهم أكنّة ان يفقهوه و في آذانهم وقرا و ان تدعوهم الى الهدى فلن يهتدوا إذا ابدا أموات غير احياء و ما يشعرون.

و بالجملة فجميع الناس يدّعون محبّة اللّه لكن لها علامات و أعظم علاماتها تقديم امر اللّه على هوى النفس مطلقا و الشوق الى الموت، او الخلوّ عن كراهيّة الموت، الّا إذا تشوّق الى زيادة المعرفة، فلهذه الجهة لا يحبّ الموت.

الأصل التاسع: الرضاء بالقضاء، قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا احبّ اللّه عبدا ابتلاه، فان صبر اجتباه و ان رضى اصطفاه و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اعبدوا للّه بالرضا، فان لم تستطيعوا ففي الصبر على ما تكره خير كثير. و اعلم انّه قد أنكر الرضا جماعة و قالوا: لا يتصوّر الرضا بما يخالف الهوى و انّما يتصوّر الصبر فقط. و قال بعض: يمكن الرضا بما يخالف الطبع و الهوى، لأنّه و لو يكره بالطبع ما يخالف هواه و لكن رضى به لعقله و إيمانه بجزالة ثواب البلاء، كما رضى المريض بالم الفصد و شرب الدواء، لعلمه بانّه سبب الشفاء، حتّى انّه يفرح ممّن يأتي له الدواء و الفصّاد.

روى: انّ نبيّا كان يتعبّد في جبل و كان بالقرب منه عين فاجتاز بها فارس و شرب و نسى عندها صرّة فيها ألف دينار، فجاء آخر و أخذ الصرّة، ثمّ جاء رجل فقير و على ظهره حزمة حطب، فشرب و استلقى ليستريح، فرجع الفارس في طلب الصرّة، فلم يرها، فأخذ الفقير و طالبه و عذّبه فلم يجد عنده فقتله، فقال النبىّ يا الهى ما هذا الأمر، أخذ الصرّة ظالم آخر و سلّطت هذا الظالم على هذا الفقير حتّى قتله،

ص: 274

فأوحى اللّه اليه: اشتغل بعبادتك، فليس معرفة اسرار الملك من شأنك، انّ هذا الفقير كان قتل أبا لفارس، فمكّنته من القصاص و انّ أبا الفارس كان قد أخذ ألف دينار من آخذ الصرّة، فرددته اليه من تركته. و من أيقن بسبب تفاصيل القضاء لم ينطو ضميره الّا على الرضا بكلّ ما يجرى من اللّه.

و اعلم: انّه لا ينبغي ان يظنّ ظانّ انّ معنى الرضا بالقضاء ترك الدعاء و الأسباب و تترك السهم الذي أرسل إليك حتّى يصيبك مع قدرتك على دفعه بالترس و ترك الأسباب مخالفة لمحبوبه و مناقشة لرضاه، إذ ليس من الرضا للعطشان ان لا يمدّ اليد الى الماء البارد زاعما انّه رضى بالعطش الّذى من قضاء اللّه، بل من قضاء اللّه و محبّته ان يزول العطش بالماء؛ بل رعاية سنة اللّه هي الرضا بالقضاء.

الأصل العاشر: ذكر الموت و هو عظيم النفع، إذ به يبغض الدنيا و ينقطع علاقة القلب عنها، قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أكثروا من ذكر هادم اللّذات و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو يعلم البهائم من الموت، ما يعلم ابن آدم، لما أكلتم منها سمينا. و أكرم الناس و أكيسهم أكثرهم للموت ذكرا و اشدّهم له استعدادا، فانّ الموت عظيم هايل و ما بعده أعظم منه و في ذكره منفعة، فانّه ينقص الدنيا و يبغضها الى القلب و بغض الدنيا رأس كلّ حسنة، كما انّ حبّها رأس كلّ خطيئة و لا سبب لإقبال الخلق على الدنيا الّا قلّة التفكّر في الموت. و طريق الفكر فيه ان يفرغ الإنسان قلبه و يجلس في خلوة و يباشر ذكر الموت بصميم قلبه و يتفكّر في اقرانه الّذين مضوا فيتذكّرهم واحدا واحدا، و حرصهم و أملهم، ثمّ يتذكّر مصارعهم عند الموت و اجسادهم كيف تمزّقت في التراب، ثمّ يرجع الى نفسه، فيعلم انّه كواحد منهم، أمله كأملهم و أعضائه كأعضائهم كيف صاروا جيفة. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعبد اللّه: إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء و إذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح و خذ من حياتك لموتك و من صحّتك لسقمك، فانّك يا عبد اللّه لا تدرى ما اسمك غدا. و اشثرى اسامة وليدة الى شهرين بمائة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الا تعجبون من اسامة انّه لطويل الأمل و الّذى نفسي بيده ما طرفت عيناي الّا ظننت انّ شفريها لا يلتقيان و لا لقمت لقمة الّا ظننت انّى لا أسيغها حتّى

ص: 275

اغصّ بها من الموت، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا بني آدم ان كنتم تعقلون فعدّوا انفسكم من الموتى و الّذى نفسي بيده انّ ما توعدون لآت و ما أنتم بمعجزين و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

نجا اوّل هذه الامّة باليقين و الزهد و يهلك اخرها بالبخل و الأمل.

و اعلم: انّ الروح الإنساني، لا يفنى و لا يموت، بل يتبدّل بالموت حالها فقط و يتبدّل منزلها فيرمى من منزل الى منزل و القبر في حقّها امّا روضة او حفرة.

[سورة البقرة (2): آية 109]

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109)

روى انّ فنحاص بن عازوراء اليهودي و زيد بن أقيس و نفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليماني و عمّار بن ياسر بعد وقعة احد: الم تروا ما أصابكم، و لو كنتم على الحقّ ما هزمتم، فارجعوا الى ديننا، فهو خير لكم و أفضل، و نحن اهدى منكم سبيلا، فقال عمّار كيف نقض العهد فيكم، قالوا شديد، قال فانّى قد عاهدت ان لا اكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما عشت، فقالت اليهود: امّا عمّار، فقد صبا، اى خرج عن ديننا بحيث لا يرجى منه الرجوع اليه ابدا، فكيف أنت يا حذيفة، الا تبايعنا، قال حذيفة:

رضيت باللّه ربّا و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبيّا و بالإسلام دينا و بالقرآن اماما و بالكعبة قبلة و بالمؤمنين إخوانا، فقالوا: و إله موسى لقد اشرب في قلوبكما حبّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبراه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، اصبحتما خيرا و افلحتما.

الحاصل «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» اى احبّ و ودّ كثير من اليهود «لَوْ يَرُدُّونَكُمْ» اى ان يردوكم، فانّ «لو» من الحروف المصدريّة إذا جاءت بعد فعل، يفهم منه معنى التمنّى، قوله: ودّوا لو تدهن، اى احبّوا ان يصرفوكم عن التوحيد «مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ» يا معشر المؤمنين «كُفَّاراً» مرتدين، حال من ضمير

ص: 276

المخاطبين، او مفعولا ثانيا ليرودّنكم على تضمينه معنى يصيرونكم «حَسَداً» علّة لقوله «وَدَّ» اى من أجل الحسد «مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» و من قبل ميلهم و مشتهياتهم، لا من قبل الميل الى الحقّ و التديّن بل منبعثا من اصل الحسد «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» و ظهر لهم انّ محمّدا قوله حقّ و رسول لأنّه مذكور في كتابهم على ما رأوا منه المعجزات «فَاعْفُوا» العفو ترك عقوبة المذنب، يقال عفت الريح المنزل اى درسته. و من ترك عقوبة المذنب فكانّه درس ذنبه، حيث انّه ترك المجازاة، و الفرق بين العفو و الصفح، انّه قد يعفو الإنسان المجازاة و لا يصفح، لأنّ الصفح ترك التقريع باللسان و الاستقصاء في اللوم و لذا قال «وَ اصْفَحُوا» و ليس المراد بالعفو و الصفح في الآية الرضا بما فعلوا بل المراد ترك المقاتلة و الاعراض عن مساويهم «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» و يحكم اللّه بحكمه الّذى هو الاذن في قتالهم و ضرب الجزية عليهم «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» فيقدر على الانتقام منهم إذا جاء أوانه.

[سورة البقرة (2): آية 110]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

«وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ» الآية عطف على قوله: فاعفوا، أمرهم بالعبادة و البرّ من الواجبات بإقامة الصلاة و أداء الزكاة، عمّ بعد التخصيص، فأمرهم بالتطوّعات بقرينة «وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ» فانّ الخير يتناول اعمال الخير كلّها، واجبا كان او نفلا و قدّم الواجب لعظم شأنه، فالصلاة قربة بدنيّة و الزكاة قربة ماليّة و الصلاة شكر الأعضاء و الزكاة شكر الأغنياء و ما، في قوله: و ما تقدّموا، شرطيّة: اىّ شي ء من امور الخير تقدّموه و تسلفوه، فهو لمصلحة انفسكم و «تَجِدُوهُ» اى ثوابه و جزائه، لاعينه، محفوظا «عِنْدَ اللَّهِ» في الآخرة، فتجدوا الثمرة و اللقمة مثل جبل احد، كما في الحديث: إذا مات العبد، قال الناس: ما خلف و قالت الملائكة: ما قدّم.

«إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» بأعمالكم لا يخفى عليه القليل و لا الكثير و هو عامّ في الخير و الشر و الإنسان إذا مات انقطع عمله، الّا ان يبقى بعده واحد من الأولاد

ص: 277

الثلاثة الّتى لا ينقطع أجرها: الأوّل- ما يتولّد من مال الإنسان، كبناء المساجد و القناطر في طرق المسلمين للتسهيل عليهم و الرباط و الأوقاف و أمثالها. و الثاني- ما يتولّد من عقله و علمه المنتفع به في الدين، من استنباط حكم شرعىّ و تأليف و تصنيف كتب الحديث و ما يحتاج اليه في امور الدين. و الثالث- ما يتولّد من النفس، كالبنين و البنات، بشرط الصلاح و التقوى، لأنّ الأجر لا يحصل من غيره. و لا يمكن هذا الأمر.

[سورة البقرة (2): الآيات 111 الى 112]

وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

«وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى : نزلت في وفد نجران و كانوا نصارى اجتمعوا في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع اليهود، فكذّب بعضهم بعضا، فقالت اليهود لبنى نجران: لن يدخل الجنّة الّا اليهود و قال بنو نجران لليهود:

لن يدخلها الّا النصارى، فحكى اللّه مقالتهم و لم يقل كانوا، حملا على لفظ «من» و انّما جمع الخبر مع انّ المطابقة شرط في المبتداء و الخبر، فباعتبار معنى «من» و اليهود، جمع هائد: اى تائب، لتوبتهم عن عبادة العجل. و النصارى جمع نصران، كسكارى جمع سكران.

«تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» اى تلك الأمانىّ الباطلة امانيّهم و هي امنيّتهم دخول الجنّة و ان يردّوكم كفارا و ان لا ينزل عليكم الخير «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» أصله آتوا، قلبت الهمزة هاء، اى أحضروا حجّتكم على اختصاصكم بدخول الجنّة و لم يقل براهينكم، لأنّ دعواهم كانت واحدة و هي نفى دخول غيرهم الجنّة. و الجنّة على تلك الدعوة واحدة «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في دعواكم.

ص: 278

«بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» اثبات لما نفوه من دخول، غيرهم الجنّة: بلى يدخلها من أخلص نفسه للّه تعالى و لا يشرك به شيئا «وَ هُوَ مُحْسِنٌ» حال من ضمير اسلم و قد فسّره النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: ان تعبد اللّه كانّك تراه و ان لم تكن تراه، فانه يراك.

و هذا المعنى حقيقة الايمان «فَلَهُ أَجْرُهُ» و ثوابه ثابت «عِنْدَ رَبِّهِ» و العنديّة القرب و التشريف «وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» إذا كانوا بهذه الصفات بنيّات صادقة خالصة عن مطلق الشوائب و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّما الأعمال بالنيّات، و نيّة المرء خير من عمله. لأنّ المقصود من العمل، الامتثال للأوامر، حتى يحصل به تنوير القلب و معرفة اللّه و يطهّره عما سوى اللّه حتى يحصل العبوديّة و النيّة صفة القلب و تأثير صفة القلب أقوى من تأثير صفة الجوارح، فانّ القلب اشرف الجوارح، ففعله اشرف الأفعال، فكانت النيّة أفضل من العمل و بكثرة النيّة، تكثر الحسنة، كمن قعد في المسجد و ينوى فيه نيّات كثيرة، مثل ان يعتقد انّه بيت اللّه و يقصد به زيارة مولاه، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قعد في المسجد، فقد زار اللّه و حقّ على المزور إكرام زائره، ثم ينتظر الصلاة بعد الصلاة، فيكون حال الانتظار كمن هو في الصلاة. و ثالثها اغضاء السمع و البصر و سائر الأعضاء عمّا لا ينبغي، فانّ الاعتكاف كفّ و هو في معنى الصوم و هو نوع ترهّب، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رهبانيّة امّتى القعود في المساجد. و رابعها ان يقصد افادة علم أوامر من الدين. و خامسها ان ترك الذنوب حياء من اللّه، فهذا طريق تكثير النيّة و قس عليه سائر الطاعات و النية تغيّر الموضوع، مثل انّ التطيب إذا أراد به التنعّم بلذّات الدنيا و اظهار التفاخر على الناس او ليتودّد به الى قلوب النساء، فكلّ ذلك يجعل التطيّب معصية و جاء يوم القيامة و ريحة أنتن من الجيفة، كما ورد به الخبر و ان كان قصد به الامتثال و تعظيم المسجد و دفع الروائح الموذية عن عباد اللّه، فهو عين الطاعة. و الضابط ان يكون الفعل مشروعا و يكون القصد الداعي الحق فقط. ثمّ ان الناوى إذا اشتهى امرا فيقول مثلا عند تدريسه او تجارته ان ادرس للّه، او اتّجر للّه، يظنّ ان ذلك نيّة و هيهات فذاك حديث نفس، او حديث لسان و النية بمعزل عن ذلك، انّما النيّة انبعاث النفس و ميلها الى ما ظهر لها انّ فيه بوجه القربة و ذلك

ص: 279

قد يتيسّر في بعض الأوقات و قد يتعذر و كذا الكلام في المطاعم و المناكح و لا يمكن هذا الأمر الّا بعد تحسين الأخلاق و لعلّك تظنّ بنفسك حسن الخلق و أنت عاطل عنه و ينبغي ان يحكم فيه غيرك و تسأل صديقا بصيرا لا يداهن، لأنّ اكثر الأخلاق يتعلّق بالغير، فبعدان تبيّن لك معائب اخلاقك، فتبدأ بالأهم فالأهم و اوّل ما تدفعه عن نفسك حبّ الدنيا فانّ سائر المعاصي و الأخلاق الذميمة تتبعه فاطلب خلوة خالية و تفكر في سبب اقبالك على الدنيا و اعراضك عن الآخرة، فلا تجد له سببا الّا الشهوة الفانية و انّ أقصى عمرك في الشهوات مائة سنة و قد فاتك ملك لا آخر له و إذا كانت الدنيا مملوّة ذرة و قدّر طائرا في كلّ ألف سنة و يلتقط في كلّ ألف سنة حبّة واحدة، فيفنى الذرّة و لا يفنى الأبد، لأنّ الباقي لا نهاية له و جملة عمرك بالإضافة الى بقائك في الآخرة اقصر من لحظة الى جميع عمرك و لعلّك تقول: انّما افعل ذلك على توقّع العفو، فانّه رحيم كريم فأقول: و لم لا تترك الحراثة و التجارة و طلب المال على توقّع العثور على كنز في خراب، فان اللّه كريم و توقّع العفو مع الحرص على الدنيا و خراب الأعمال، كتوقّع الكنز في الخراب، بل ابعد، مع انّ اللّه تعالى نبّهك، فقال: و ان ليس للإنسان الّا ما سعى. ثمّ رغّبك عن طلب المال فقال: و ما من دابّة في الأرض الّا على اللّه رزقها. فما بالك تكذب بكرمه في الدنيا و لا تكل عليه؛ ثمّ تخدع نفسك بالكرم في الآخرة و أنت تعلم انّ ربّ الدنيا و الآخرة واحد. و لعلّك تقول: انّ امور الدنيا قد انكشفت لي بالعيان و امّا امر الآخرة فلم أشاهده و لست أجد التصديق الحقيقي في قلبي فلذلك فترت رغبتي في ترك الدنيا نقدا، بما هو موعود نسية و لست أثق به. فحينئذ تفكّر في اقاويل اهل البصائر من صدر العالم و الناس في امر الآخرة اصناف: صنف- و هم الأكمل و الأكثر- اثبتوا الجنّة و النار كما ورد به الكتب السماويّة و الاخبار من لدن آدم عليه السّلام الى نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد سمعت انواع نعيمها و نكال جحيمها. و صنف لم يثبتوا اللذات و الآلام الحسيّة، بل أثبتوها على سبيل التخيّل كما في المنام حتى يكون كلّ واحد في جنّة او نار وحده و زعموا

ص: 280

انّ تأثير ذلك فيه كتأثير الحقيقة، لأنّ تألّم النائم كتألم اليقظان و انّما يخلصه عنه التنبيه و ذلك في الآخرة دائم لا انقطاع له. و صنف من الأطبّاء و المنجّمين، اقتصر نظرهم على الطبائع الأربع و مزاجها و لم يدركوا الا الروح الجسماني الذي هو بخار أنضجته حرارة القلب، ينتشر في العروق الضوارب الى جميع البدن و يقوم به الحسّ و الحركة و ظنّوا انّ الموت عدمه و انه يرجع الى فساد المزاج. و الصنفان الأوّلان قائلون و متفقون على اثبات سعادة مؤبّدة و متفقون بان السعادة لا تنال الّا بالاطاعة و ترك الدنيا، فأنت في حق هؤلاء اى الصنف الآخر امّا ان تجوز غلطهم، او تعتقد صدقهم فان جوّزت خطاءهم لزمك الاعراض عن الدنيا بمجرّد الاحتمال، فانّك لو كنت جائعا و ظفرت بطعام و هممت بأكله فأخبرك صبيّ انّ فيه سمّا او حيّة و لغت فيه فآسيت الجوع و تركت الأكل و تقول ان كان كاذبا فليس يفوتني الّا الاكل و ان كان صادقا ففيه الهلاك، فحينئذ كيف يستجيز العاقل الهجوم على الدنيا و لا يحذر من هذا السم الّذى لم يخبر به الصبىّ، بل اخبر به جميع الكتب السماوية و اهل الوحى.

و ان قلت: انى اعلم ضرورة صدق قول الصنف الآخر و ان الموت عدم و انه لا عقاب و لا ثواب و انّ الأنبياء كلّهم مغرورون ملبّسون و انّما الحقّ ما أقول، فمن كان هكذا لا ريب في فساد مزاجه و ركاكة عقله و لكن معهذا يقال له: ان كنت تطلب الراحة في الدنيا فقط، فانّ الراحة في الحريّة و الخلاص عن قيد الشهوات و ما المستريح في الدنيا الّا تاركها لكثرة عنائها و قيل في حقهم قال اللّه تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

ص: 281

[سورة البقرة (2): آية 113]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

«وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ» بيان لتضليل كلّ فريق صاحبه اى ليست النصارى على امر يصح و يعتد به «وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ» اى قالوا ما قالوا «وَ هُمْ» و الحال انّ كلّ فريق منهم «يَتْلُونَ الْكِتابَ» و الكتاب للجنس و هذا الكلام توبيخ و منع لهم لأنّ حق من حمل التوراة او الإنجيل او غيرهما من كتب اللّه و آمن به ان لا يكفر بالباقي، لأنّ كلّ واحد من الكتابين مصدّق للثاني فانّ التوراة مصدّقة بعيسى و الإنجيل مصدّق بموسى فإذا كانوا مع العلم و التلاوة و المعرفة يختلفون هذا الاختلاف، فكيف حال من لا يعلم «كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» منهم «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» مثل قول العالمين و قيل: المراد من الذين لا يعلمون، كفار العرب و مشركيهم، قالوا: انّ المسلمين ليسوا على شي ء فالمراد انّ اليهود و النصارى الذين يقرؤن الكتب إذا قالوا كذلك، فكيف بهؤلاء الأمّيّين «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ»: بين الفريقين «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» من امر الدين.

[سورة البقرة (2): آية 114]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)

«وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ» «من» في الأصل كلمة استفهام و هي هاهنا بمعنى النفي اي لا احد اظلم ممّن منع مساجد اللّه. و اختلف في الذين منعوا و ذكروا

ص: 282

اقوالا: اوّلها- قال ابن عباس: انّ طنطيوس الرومي ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه و القى فيه الجيف و سبى ذراري بنى إسرائيل و احرق التوراة و ذبح فيه الخنازير و حاصر اهله و قتلهم و سبى البقيّة و لم يزل بيت المقدس خرابا حتى بناه الإسلام في زمن عمر. و ثانيها- قال الحسن و قتادة و السدّى: نزلت في بخت النصر حيث خرب بيت المقدس مع بعض النصارى. قال ابو بكر الرازي في كتاب احكام القرآن هذان الوجهان غلطان، لأنّه لا خلاف بين اهل السير انّ عهد بخت نصر كان قبل مولد مسيح عليه السّلام بدهر طويل، و النصارى كانوا بعد المسيح، فكيف يكونون مع بخت النصر في تخريب بيت المقدس و ايضا فانّ النصارى يعتقدون في تعظيم بيت المقدس، مثل اعتقاد اليهود، فكيف أعانوا على تخريبه. و ثالثها- انّ الآية نزلت في مشركي العرب الذين منعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الدعاء الى اللّه بمكّة و الجئوه الى الهجرة فصاروا مانعين له و لأصحابه ان يذكروا اللّه في المسجد الحرام و طرح ابو جهل الكثافات على ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقيل: و من اظلم ممّن منع- الآية- و رابعها- قال ابو مسلم: المراد منه الذين صدّوه عن المسجد الحرام حين ذهب اليه من المدينة عام الحديبيّة و استشهد بقوله: هم الّذين كفروا و صدّوكم عن المسجد الحرام و بقوله: و ما لهم الا يعذبهم اللّه و هم يصدّون عن المسجد الحرام فان قيل كيف يجوز حمل لفظ المساجد على المسجد الحرام، فهذا كمن يقول لمن أذى صالحا واحدا: لم تؤذى الصالحين. او المسجد موضع السجود، فالمسجد الحرام، مساجد و لا يكون مسجدا واحدا.

«أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» ثانى مفعولي منع فانّه ممنوع، اى من ان يسبّح و يقدّس و يصلّى له فيها «وَ سَعى و عمل «فِي خَرابِها» بالهدم و التفريق، و الخراب اسم للتخريب، كالسلام بمعنى التسليم و أصله التتليم و التفريق «أُولئِكَ» المانعون «ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ» اى ما كان لهم ان يدخلوها الّا بخشية و خضوع، فضلا عن الاجتراء على تخريبها اى حقهم الذلة و ارتعاد الفرائض من المؤمنين إذا أرادوا ان يدخلوها، فضلا عن إيذاء المؤمنين لو لا ظلم الكفرة و عتوّهم: و قيل ان المعنى بشارة من اللّه للمسلمين، بانه سيظهرهم على المسجد الحرام و على سائر المساجد

ص: 283

و انّه سيذلّ المشركون لهم، حتى لا يدخلوها الّا بطريق الخوف فيعاقب او يقتل، ان لم يسلم و قد أنجز اللّه وعده و ما كان يجتري احد من المشركين ان يحجّ و امر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإخراج اليهود من جزيرة العرب و قد وقع عليهم من الصغار و الذلّ بالجزية كما قال سبحانه: ما كان للمشركين ان يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر.

و قال قتادة و السدّى: قوله «إِلَّا خائِفِينَ» بمعنى انّ النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلّا خائفين و لا يوجد فيه نصراني الّا أوجع ضربا و هذا القول مردود، لأنّ بيت المقدس غزاه طنطيوس الرومي و صارفي أيدي النصارى اكثر من مائة سنة، حتى استخلصه الملك الناصر صلاح الدين يوسف من آل ايّوب شاه الدوينى و قصّته مشهورة و قد وقع بيد المسلمين ثانيا و كان فتح الملك الناصر سنة خمسمائة و خمس و ثمانين بعد الهجرة الى يومنا هذا و على ما اشتهرت انّه عاد إليهم ثالثة او كاد و ذلك بشؤم العجوز الملعونة و هي الدنيا، فاحتالت بأنواع الدهى و المكر، فاشترت يوسف الصديق بدراهم مموّهة و استعبدها، فالويل لمن باع الحرّ باسم الحرية و لم يعرف معناها و اخسف القمر باطماع البدرة و كان من باعه من تلامذة ابن المقنع بل استاذه و ابن المقنع صاحب البدر المعروف بالتخشب. و هذا الأستاد صاحب بدرة الذهب، فيا لها من صفقة ما اخسرها و اضرّها على الإسلام؛ اللهم انّى أبرئ ممّن باع و اشترى و خدع و افترى، فاقسمك بكتابك المنزل- و فيه اسمك الأكبر و أسماؤك الحسنى- ان يؤيّد دين نبيك و تعزّ الإسلام و اهله و محلّه و ظهر بيتك للطائف و العاكف و اجعل لي هذه البرائة وسيلة إليك لغفران ذنوبي و اجعلها حجة لي يوم ألقاك- انتهى- قال بعض العلماء: تعطيل المسجد عن العبادة و الذكر، تخريب له، لأنّ المقصود من بنائه، هو الذكر و العبادة فيه، فمادام لم يترتّب عليه هذا المقصود، صار كانّه هدم و خرب.

قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا رأيتم الرّجل يعتاد المساجد، فاشهد و اله بالإيمان لقوله

ص: 284

تعالى: انما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه، فجعل حضور المساجد عمارة لها.

قال امير المؤمنين عليه السّلام: ستّ من المروّة، ثلاث في الحضر و ثلاث في السفر، فامّا اللاتي في الحضر: فتلاوة كتاب اللّه و عمارة مساجد اللّه و اتخاذ الاخوان في اللّه- و امّا اللاتي في السفر، فبذل الزاد و حسن الخلق و المزاح في غير معصية اللّه و عدّ من علامات الساعة: تطويل المنارات و تنقيش المساجد- و تخريبها تخليتها عن ذكر اللّه فتعطيل المساجد عن التلاوة و عن الصلاة و عن اظهار شعائر الإسلام أقبح سيئة.

و في الحديث: من زار بيت المقدس محتسبا، أعطاه اللّه ثواب ألف شهيد و حرّم اللّه جسده على النار، و من زار عالما فكانّما زار بيت المقدّس- كذا في مشكوة الأنوار-.

و بالجملة: فظاهر قوله (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها) يقتضي ان يكون الساعى في تخريب المساجد و تعطيلها بسبب من الأسباب عن العبادة، أسوأ حالا من كلّ فاسق و هو في أعظم درجات الفسق، كما انّ الساعى في عمارته بالعبادة في أعظم درجات الايمان لقوله: انّما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه و اليوم الاخر لأنّ كلمة «انّما» للحصر فالويل كلّ الويل لمن اغلق أبواب المساجد بتعطيلها عن العبادة و فتح أبواب بيوت الخمر.

و في الحديث عن ابى هريرة، قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أحب البلاد الى اللّه، المساجد و أبغضها اليه أسواقها و السرّ العقلي في الحديث انّ المسجد مكان لذكر اللّه، حتى إذا دخله الغافل اشتغل بالذكر و السوق على الضدّ من ذلك، لأنّه موضع البيع و الشراء و الإقبال على الدنيا و ذلك ممّا يورث الغفلة عن اللّه، حتّى انّ الذاكر إذا دخله فانّه يصير غافلا في الغالب.

و في الحديث: من يطهّر في بيته، ثمّ مشى الى بيت من بيوت اللّه ليقضى فريضة من فرائض اللّه، كانت خطواته احداها تحط خطيئة و الاخرى ترفع درجة- رواه مسلم- و عن ابى سعيد الخدري: انّ هذه الآية (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ

ص: 285

آثارَهُمْ) نزلت في حقّهم.

روى عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إذا تطهّر الرجل، ثمّ مرّ الى المسجد يراعى الصلاة، كتب له كاتبة او كاتباه بكلّ خطوة يخطوها الى المسجد، عشر حسنات و القاعد الّذى يرعى الصلاة، كالقانت و يكتب من المصلّين من حين يخرج من بيته الى ان يرجع. فعليك بالطهارتين ظاهرة و باطنة، فالباطنة طهارة القلب عن كل شي ء سواه و تخلية النفس عن القذرات المعنوية كالحسد و الكبر و أمثالها و طهارة الظاهرة عن الأحداث و القذارات، فاستقم كما أمرت.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من بنى للّه مسجدا و لو كمفحص قطاة بنى اللّه له بيتا في الجنة

[سورة البقرة (2): آية 115]

وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)

النزول، لمّا حوّلت القبلة عن بيت المقدس، أنكر اليهود ذلك، فنزلت الآية ردا عليهم، «وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ»: بين سبحانه انّ المشرق و المغرب للّه و جميع الجهات و الأطراف له «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» فأينما أمركم باستقباله فهو قبلة، فكما انّ بيت المقدّس، قبلة، كذلك جعل الكعبة، قبلة، فلا تنكروا ذلك، يدبر عباده بما يريد.

في كتاب التوحيد، عن السماء و العالم، قال الرضا عليه السّلام: المشيّة من صفات الأفعال، فمن زعم انّ اللّه لم يزل مريدا شائيا، فليس بموحّد، قال المجلسي: لعل الشرك باعتبار انّه إذا كانت الارادة و المشيّة ازليّتين بكونهما دائما معه سبحانه، يوجب قديمين آخرين. و عن عاصم بن حميد: قال سألت الصادق عليه السّلام: لم يزل اللّه مريدا فقال عليه السّلام: انّ المريد لا يكون الّا المراد معه، بل لم يزل عالما قادرا، ثمّ أراد.

قال بعض مثل قتادة و ابن زيد: انّ اللّه نسخ بيت المقدس بالتخيير الى اىّ جهة شاء بهذه الآية، فكان للمسلمين ان يتوجهوا الى حيث شاءوا في الصلاة، الّا انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يختار التوجّه الى بيت المقدس مع انّه كان له ان يتوجّه حيث شاء، ثم انّه نسخ ذلك بتعيين الكعبة و قيل انّ الآية نزلت في النوافل للمسافر، حيث

ص: 286

تتوجّه به راحلته.

عن سعيد بن جبير، قال: انما نزلت الآية في الرجل يصلى الى حيث توجهت به راحلته في السفر في التطوّع، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رجع من مكة صلّى على راحلته تطوّعا يومئ برأسه نحو المدينة، فيكون معنى الآية على هذا القول: فأينما تولّوا وجوهكم لنوافلكم في اسفاركم فثم وجه اللّه و صادفتم المطلوب، انّ اللّه واسع الفضل غنىّ، فمن سعة غناه و فضله رخّص لكم في ذلك، لأنّه لو كلّفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحالة لزم احدى الضررين، امّا ترك النوافل و امّا النزول عن الراحلة و التخلّف عن الرفقة، بخلاف الفرائض، فانّها صلوات مفروضة، محصورة، معيّنة و الكل مكلّفون بالأداء، فلا يلزم منه التخلّف عن الرفقة و الى الحرج. و المراد من قوله «فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» الحضور العلمي منه سبحانه، فيكون الوجه مجازا من قبيل اطلاق اسم الجزء على الكلّ، إذ ليس سبحانه جوهرا و لا عرضا حتّى يكون في جانب و هذا معنى الحديث: لو انكم وليتم بجبل الى الأرض السفلى، لهبط على اللّه.

اى لهبط على علم اللّه و اللّه منزّه عن الحلول في الأماكن، لأنّه كان قبل ان يحدث الأماكن «عليم» بمصالحهم و أعمالهم.

قيل: انّ امام الحرمين انّه نزل ببعض الأكابر ضيفا فاجتمع عنده العلماء، فقام واحد من اهل المجلس، فقال: ما الدليل على تنزّهه عن المكان و هو قال:

الرحمن على العرش استوى، فقال الغزالي، الدليل عليه قول يونس عليه السّلام في بطن الحوت «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» فتعجب الحاضرون من العلماء في جوابه، فالتمس صاحب الضيافة بيانه، فقال الغزالي: هاهنا فقير مديون بألف درهم، أدّ عنه حتّى أبيّنه، فقبل صاحب الضيافة دينه، فقال: انّ يونس لما ابتلى بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت، قال: لا اله الّا أنت و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الأسرى:

لا احصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فكلّ منهما خاطبه بقوله أنت و هو خطاب الحضور، فلو كان في مكان لما كان ذلك بصحيح، فدل ذلك على انّ اللّه تعالى ليس في مكان لأنهما في السير- انتهى-

ص: 287

و أمّا قصّة القبلة، روى انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّى بمكّة إلى الكعبة، فلمّا هاجر إلى المدينة أمره اللّه أن يصلّى نحو بيت المقدس ليكون اقرب الى تصديق اليهود، فصلّى نحوه ستّة عشر شهرا و كان يقع في روعه و يتوقّع من ربّه ان يحوّله الى الكعبة لأنّها قبلة أبيه إبراهيم عليه السّلام و اقدم القبلتين و ذلك قوله: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» و ذلك في مسجد بنى سلمه، فصلّى الظهر و لمّا صلّى الركعتين نزل «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» فتحوّل في الصلاة، فسمّى ذلك المسجد، مسجد القبلتين، فلمّا تحوّلت القبلة أنكر من أنكر، فكان هذا ابتلاء من اللّه كما قال «وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» فاتّبع الرسول و استقل في مبدء طريق السالكين.

[سورة البقرة (2): الآيات 116 الى 117]

وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

«وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً»: و الضمير راجع اما الى قوله «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ» و في المانعين اختلف الأقوال كما ذكرنا من اليهود، او مشركي العرب او غيرهم و على كلّ الأقوال، الآية في اتخاذ الولد، يشملهم لأنّ اليهود قالوا: عزير ابن اللّه- و النصارى قالوا: المسيح ابن اللّه- و مشركوا العرب قالوا: الملائكة بنات اللّه، فلا جرم صحّت هذه الحكاية على جميع التقادير، قال ابن عباس: انّها نزلت في كعب بن الأشرف و كعب بن اسد و وهب بن يهودا، فانّهم جعلوا عزيرا ابن اللّه، و الاتخاذ أما بمعنى الصنع و العمل و يتعدّى الى مفعول واحد- و امّا بمعنى التصيّر، و المفعول الأوّل محذوف، اى صيّر بعض مخلوقاته ولدا و ادعى انّه ولده، لا انّه ولده حقيقة، فكما يستحيل عليه تعالى ان يلد حقيقة، كذا يستحيل عليه التبنّي، فنزّه اللّه تعالى نفسه عما قالوا، بقوله «سُبْحانَهُ» فهو كلمة تنزيه، ينزّه بها عمّا نسبوا اليه، كما قال في موضع آخر: سبحانه أن يكون له ولد فمرّة أظهره و مرّة اقتصر عليه لدلالة الكلام عليه و احتجّ على هذا التنزيه بقوله «بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» لأنّ

ص: 288

السبب المقتضى لاتّخاذ الولد، الاحتياج الى من يعينه في حياته- و يقوم مقامه بعد مماته و لا بدّ أن يكون الولد من جنس والده، فكيف يكون له ولد و هو لا يشبهه شي ء و منزّه عن التركيب و الاحتياج و هو تعالى خالق السماوات و الأرض و ما فيهما جميعا الذي يدخل فيه الملائكة و عزير و المسيح، و كان المستفاد من الدليل، امتناع أن يكون شي ء ما، ممّا في السماوات و الأرض ولدا، سواء كان ذلك ممّا زعموا أم غيره.

«كُلٌّ» أى كلّ ما فيهما من اولى العلم و غيرهم، في الخصال بحذف (1) الأسانيد، عن الصادق عليه السّلام قال: إن للّه اثنى عشر ألف عالم، كلّ عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين، ما يرى عالم منهم ان للّه عالما غيرهم و انّى الحجّة عليهم. في كتاب التوحيد و الخصال، عن جابر بن يزيد قال: سئلت أبا جعفر الباقر، عن قول اللّه:

افعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد، فقال عليه السّلام: يا جابر تاويل ذلك انّ اللّه إذا أفنى هذا الخلق و هذا العالم و سكن اهل الجنّة الجنّة و اهل النار النار جدّد اللّه عالما غير هذا العالم و جدّد خلقا من غير فحولة و لا إناث، يعبدونه و يوحّدونه و يخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم و سماء غير هذه السماء تظلّهم، لعلّك ترى انّ اللّه انّما خلق هذا العالم الواحد، او ترى انّ اللّه لم يخلق بشرا غيركم، بلى و اللّه لقد خلق اللّه ألف ألف عالم و ألف ألف آدم و أنت في آخر تلك العوالم و أولئك الآدميّين. و في حديث آخر عنه عليه السّلام: لعلّكم ترون انّه إذا كان يوم القيامة و صار اهل الجنّة الى الجنة و أهل النار الى النار، لا يعبد بعده اللّه بلى ليخلقنّ اللّه (الحديث).

«لَهُ» تعالى «قانِتُونَ»: اى منقادون و عبرّ سبحانه، اوّلا عن جميع الموجودات بقوله (كُلٌّ) ثمّ عبّر ثانيا بما يختصّ بالعقلاء بقوله (قانِتُونَ) اشعارا بانّ العالي و الداني سواء في هذا الحكم- و السبب في هذه النسبة و هي نسبة الولد الى اللّه:

انّ ارباب الشرائع المتقدّمة كانوا يطلقون على ارباب الأنواع اسم الأب و على الكبير منهم اسم الإله، حتّى قالوا انّ الأب، هو الربّ الأصغر، و انّ اللّه هو الربّ الأكبر، و كانوا يريدون من هذا الإطلاق و المعنى: انّه تعالى هو السبب الأوّل في وجود الإنسان و إنّ الأب هو السبب الآخر في وجوده، فانّ الأب هو مخدوم الإبن و كأنّه موجده

ص: 289


1- في المجلد الرابع عشر من بحار الأنوار ص 79 نقلا عن الخصال مع ذكر الأسانيد

من وجه، ثمّ ظنّت الجهلة منهم انّ المراد به معنى الولادة الطبيعيّة، فاعتقدوا ذلك تقليدا، من غير فهم المراد، و لذلك منع قائله مطلقا، بل كفر، سواء قصد به معنى السّببيّة، او معنى الولادة الطبيعيّة حسما لمادّة الضلالة و الفساد.

قال الرازي في تفسيره: و وجه الاستدلال بهذه الآية في ردّ قولهم و ابطال عقيدتهم من وجوه، الأوّل: انّ كلّ ما سوى الموجود الواجب، ممكن لذاته، و كلّ ممكن لذاته، محدث، و كل محدث فهو مخلوق للواجب، امّا بيان أنّ ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته فلأنّه لو وجد موجودان واجبان لذاتهما لاشتركا في وجوب و لامتاز كلّ واحد منهما عن الآخر بما به التعيّن، و ما به المشاركة غير ما به الممايزة، فيلزمهما قيد المشاركة و قيد الممايزة، و حصل التركيب و كلّ مركّب مفتقر الى اجزائه، فهو ممكن لذاته، فكلّ واحد من ذينك الواجبين لذاتهما ممكن لذاته و هذا خلف.

و الوجه الثاني: انّ هذا الّذى أضيف إليه بأنّه ولده، امّا ان يكون قديما ازليّا، او محدثا، فان كان ازليّا لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولدا و الآخر والدا اولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكما مجرّدا من غير دليل و ان كان الولد حادثا، كان مخلوقا لذلك القديم و عبدا له، و العبد لا يكون ولدا و لا يستحق المعبوديّة.

قال الرضا عليه السّلام: انّ اللّه قديم، و القدم صفة دلّت على انّه لا شي ء قبله و لا شي ء معه في ديمومته و بطل قول من زعم أنّه كان قبله او كان معه شي ء و ذلك أنّه لو كان معه شي ء في بقائه لم يجزان يكون خالقا له لأنّه لم يزل معه فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه، و لو كان قبله شي ء، كان الأوّل ذلك الشي ء، لا هذا، و كان الأوّل اولى بان يكون خالقا للثاني.

و في شرح نهج البلاغة للكيدري، ورد في الخبر: لمّا أراد اللّه خلق السماوات و الأرضين. خلق جوهرا خضرا فنظر إليها بعين الهيبة، فذابت و صار ماء مضطربا، ثمّ اخرج منه بخارا كالدخان، و خلق منه السماء، كما قال: ثم استوى الى السماء و هي دخان؛ ثم فتق تلك السماء، فجعلها سبعا، ثمّ جعل من ذلك الماء زبدا، فخلق منه

ص: 290

ارض مكّة، ثمّ بسط الأرض كلّها من تحت الكعبة، و لذا سمّيت امّ القرى، ثمّ شقّت من تلك الأرض سبع ارضين و جعل بين كلّ سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام و كذلك بين كلّ ارض و ارض إلخ.

[سورة البقرة (2): آية 117]

بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

اى إذا أراد شيئا- و اصل القضاء: الاحكام و القطع، عبّر سبحانه تعالى الارادة بالقضاء لإيجابها و وقوعها البتّة، «فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»، فيحصل في الوجود سريعا من غير توقّف و هذا التعبير عبارة عن سرعة حصول المخلوق بإيجاده- و القضاء يستعمل بمعنى الخلق، مثل قوله: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ اى خلقهنّ- و بمعنى الأمر، نحو: وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ و بمعنى الإخبار، مثل: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ اى اخبرناهم- و هذا المعنى لا بدّ و ان يأتى بالى- و بمعنى الفراغ من الشي ء مثل قوله: فلمّا قضى و انّما فسرّ كلمة كن بسرعة الحصول: لأنه تعالى رتب تكوّن المخلوق على قوله كن بفاء التعقيب فيكون قوله: كن مقدما على تكوّن المخلوق بزمان واحد و المتقدّم على المحدث بزمان واحد محدّث، فقوله: كن، لا يجوز ان يكون قديما و لا يجوز ايضا ان يكون قوله، كن، محدّثا لأنّه لو افتقر كلّ محدث الى قوله، كن و قوله، كن، ايضا محدّث، فيلزم افتقار «كن» الى كن آخر و يلزم امّا الدور او التسلسل و هما محالان، فثبت انّه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله: كن، ثمّ قالوا ان الأشياء المعدومة لا يصحّ ان يخاطب و يؤمر و أجيب عن هذا الا يراد انّ الأشياء، المعدومة لمّا كانت معلومة عند اللّه، صارت كالموجود، فيصحّ خطابها و الصحيح انّ المراد سرعة الحصول من الارادة، و الكلام نزل على لسان العرب و مثل هذه المعاني شايع لقولهم امتلأ الحوض و قال قطني: قال ابو الهذيل: هذه الكلمة علامة يفعلها اللّه للملائكة، إذا سمعوها علموا انّه أحدث و خلق امرا، و قيل: انه خاصّ بالّذين قال لهم: كونوا قردة خاسئين و من جرى مجراهم و هو قول الاصمّ- و قيل: المراد انّه امر للأحياء بالموت و للموتى بالحياة.

ص: 291

[سورة البقرة (2): آية 118]

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

لمّا بيّن سبحانه قبائح أقوالهم في التوحيد و نسبة اتّخاذ الولد اليه في الآية السابقة حكى قبايح أقوالهم في انكار النبوّة فقال: «وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» المراد: مشركوا العرب او النصارى او اليهود او كلّهم «لَوْ لا» اى هلّا «يُكَلِّمُنَا اللَّهُ» معاينة، فيخبرنا بأنّك نبيّ، او هلّا يكلّمنا شفاها بكلامه، كما كلّم موسى «أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ» موافقة لدعوتنا كما جاءت آيات موافقة لدعوتهم و لم ترد انّه لم يأتهم آية، لأنّه لأنّه قد جاءتهم الآيات و المعجزات.

«كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ» قيل: هم اليهود، حيث اقترحوا الآيات على موسى، حيث قالوا: أرنا اللّه جهرة- و لن نصبر على طعام واحد و نحوه و كذلك النصارى قالوا لعيسى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ، كذلك- أى مثل ذلك القول الشنيع قالوا قديما- مثل قولهم تشبيه المقول بالمقول.

«تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ»: اى تماثلت قلوب أولئك هؤلاء في العمى و العناد و القسوة و تشابه مقالتهم بمقالة من قبلهم، فانّ الألسنة ترجمان القلوب.

«قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ»: و أنزلناها بيّنة «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»: و يطلبون اليقين و يريدون تحصيله.

[سورة البقرة (2): آية 119]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)

قرء بفتح التاء و الجزم على النهى، روى ذلك عن ابى جعفر عليه السّلام و ابن عباس و قرء على لفظ الخبر، على ما لم يسمّ فاعله، و على كون الجزم المراد النهى عن المسألة و قيل: النهى ظاهرا و لفظا، لكنّ المراد تفخيم ما اعدّ اللّه لهم من العقاب، لقول القائل: لا تسأل عن حال فلان، فقد صار امره الى فوق ما تتصوّر.

«إِنَّا أَرْسَلْناكَ» يا محمّد «بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً» حالكونك مؤيّدا بالحجج

ص: 292

و القرآن و الآيات، لتكون مبشّرا لمن اتّبعك و اهتدى بدينك و منذرا لمن كفر بك و ضلّ عن دينك.

«وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ»: فعلى قراءة الرفع و الخبر، اى أنت غير مسئول بهم، و معصيتهم لا تضرّك، فانّما عليك البلاغ و علينا الحساب و لا تغتم لكفرهم.

[سورة البقرة (2): آية 120]

وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120)

بيان حال الكفّار من تشدّدهم و ثباتهم على كفرهم و قد بلغ من حالهم انّهم يريدون ان يتّبع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملّتهم و الموافقة لهم فيما هم عليه- و النزول، كانت اليهود و النصارى يسئلون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الهدنة و يرونه انّه إن هادنهم و امهلهم اتّبعوه، فآيسه اللّه من موافقتهم، فقال تعالى «وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى اى قل لهم يا محمّد: انّ دين اللّه الذي يرضاه، هو الهدى، اى القرآن و هو يهدى الى الجنة و هو الذي أنت عليه و أنت مهتديه، لا طريقة اليهود و النصارى- و قيل معناه: انّ دلالة اللّه هي الدلالة و هدى اللّه هو الهداية، كما يقال: طريقة فلان هي الطريقة.

«وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» و مراداتهم، قال ابن عباس: معناه ان صلّيت على قبلتهم «بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ»: اى من البيان من اللّه، او من الدّين «ما لَكَ» يا محمّد «مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ» و ناصر يحفظك من عقابه «وَ لا نَصِيرٍ» و ظهير يعاونك و الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المراد امّته، كقوله: لئن أشركت ليحبطنّ عملك، قال ابن عباس: جميع مثل هذه الخطابات في القرآن، المراد منه الامّة، و الذين قالوا: انّ الخطاب متوجّه الى الكلّ، له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لأمّته، قالوا لا بأس بالخطاب اليه مع علمه سبحانه بعصمته، لأنّ التكليف و التحذير مع وجود الآلات و القوى البشريّة حسن

ص: 293

و العلم بعدم الوقوع لا ينافي الإمكان الذاتي الّذى هو متعلّق التكليف.

[سورة البقرة (2): آية 121]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)

«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ»: الذين آتيناهم مبتداء و أولئك مبتداء ثان، يؤمنون خبره، يريد عبد اللّه بن سلام و أصحابه الذين اسلموا من اليهود- و انّما خصّهم بذكر الإيتاء مع ان الكلّ من اليهود مأتيّون بالكتاب، لأنّهم هم الذين عملوا به «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ»: بمراعاة لفظه عن التحريف و بالتدبّر في معانيه و العمل به- و قيل: المراد من، الّذين آتيناهم، اهل السفينة الّذين قدموا مع جعفر بن ابي طالب عليه السّلام من الحبشة و كانوا أربعين رجلا، اثنان و ثلاثون من الحبشة و ثمانية من رهبان الشام، عن ابن عباس قال: نزلت الآية فيهم و قيل: المراد اصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على هذا فالمراد بالكتاب، القرآن «أُولئِكَ» الموصوفون «يُؤْمِنُونَ بِهِ» اى بالكتاب «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ» بالكتاب، سواء كان كفره بالتحريف، او بالإنكار «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» الهالكون المغبونون.

[سورة البقرة (2): الآيات 122 الى 123]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ»: فمن جملة النعمة، التوراة و ذكر النعمة انما يكون بشكرها و شكرها الايمان به و من جملتها نعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فمن ضرورة الايمان بالتوراة، الايمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فاعرف منعمك، انّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، عن اصبغ ابن نباتة: قال امير المؤمنين عليه السّلام: انّ السماوات و الأرض و ما فيهما، من مخلوق في جوف الكرسي، و له اربعة أملاك يحملونه باذن اللّه فامّا ملك منهم ففي صورة

ص: 294

الآدميّين و هي أكرم الصور على اللّه و هو يدعو اللّه و يطلب الرزق لبنى آدم، الثاني في صورة الثور، و هو يطلب الرزق و السعة للبهائم، و الثالث في صورة النسر و هو سيد الطيور، يطلب الرزق لجميع الطيور، و الرابع في صورة الأسد و هو يطلب الرزق للسباع، و لم يكن في هذه الصور احسن من الثور و لا اشدّ انتصابا منه، حتّى اتّخذ الملاء من بنى إسرائيل العجل فلمّا عكفوا عليه و عبدوه خفض الملك الذي بصورة الثور حياء من اللّه ان عبد من دون اللّه شي ء يشبهه و تخوّف ان ينزّل به العذاب، ثمّ قال عليه السّلام: انّ الشجر لم يزل حصيدا مخضودا حتّى دعى للرحمن ولد، فعند ذلك اقشعر الشجر و صار له شوك حذارا ان ينزل به العذاب، فما بال قوم غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عدلوا عن وصيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يخافون ان ينزل بهم العذاب، ثمّ تلا: الم تر الى الذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و احلّوا قومهم دار البوار.

«وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ»: اى عالمي زمانكم «وَ اتَّقُوا يَوْماً»: اى عذاب يوم «لا تَجْزِي»: و لا تقضى في ذلك اليوم «نَفْسٌ» من النفوس «عَنْ نَفْسٍ» اخرى «شَيْئاً» من الحقوق التي لزمتها و لا تؤخذ نفس بذنب اخرى و لا تدفع من اخرى و اما إذا كان عليها شي ء، فإنه يقتصّ منها بغير اختيارها، بما لها من حسناتها ممّا عليها من الحقوق كما جاء في الحديث: انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من كانت عليه مظلمة لأخيه من عرض او غيره، فليستحلل منه اليوم، قبل ان لا يكون دينار و لا درهم ان كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته و ان لم يكن له حسنات، أخذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه.

«وَ لا يُقْبَلُ مِنْها»: من النفس العاصية «عَدْلٌ»: اى فداء، و الفدية ما يماثل الشي ء قيمته و عوضه و ان لم يكن من جنسه «وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ» ان شفعت للنفس الثانية «وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ»: و لا يمنعون من عذاب اللّه، و لا تقع الشفاعة للكافر، و لا تنفع ابدا، لا من الملائكة و لا من الأنبياء.

و في الحديث: من اتبع قوما على أعمالهم حشر في زمرتهم و حوسب يوم القيامة بحسابهم و ان لم يعمل بأعمالهم، و ربما يكون للإنسان شركة في اثم القتل و الزنا

ص: 295

و غيرهما إذا رضى به من عامل، و مال إلى ذلك الفعل: كما انّ من حضر معصية فكرهها فكانّما غاب عنها و من غاب عنها فرضيها كان كمن حضرها.

و في الحديث: سيأتي على الناس زمان تخلق فيه سنّتى و تتجدّد البدعة فيه فمن اتبع سنتي يومئذ صار غريبا و بقي وحيدا و من اتبع بدع الناس و جد خمسين صاحبا و اكثر.

[سورة البقرة (2): آية 124]

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

قال القرطبي: إبراهيم بالسريانية على ما ذكره الماوردي و في العربية على ما حكى ابن عطيّة: أب رحيم، و كثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني و العربيّ، قيل:

اسمه، ابرايم، فزيد: ها، في اسمه و الهاء في السريانية: للتفخيم و التعظيم، و قرء ابراهام و انّما حكى سبحانه في هذا المقام قصّة ابراهيم، لأنّه كان معروف الفضل، عند تمام الطوائف و الملل، فالمشركون كانوا معترفين بفضله، متشرّفين بانّهم من أولاده و من ساكني حرمه، و اهل الكتاب من اليهود و النصارى كانوا ايضا مقرّين بفضله، متشرفين بانّهم من أولاده، فحكى سبحانه أمورا توجب على المشركين و على اليهود و النصارى قبول قول محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاعتراف بدينه و الانقياد لشرعه و ذلك لأنّ ابراهيم عليه السّلام ما نال الى منصب النبوّة و الامامة الّا بقبول التوحيد و ترك التمرد، و الانقياد لحكم اللّه و طلب الامامة لأولاده، فقال اللّه: لا ينال عهدي الظالمين، فدلّ على انّ منصب الامامة و الرياسة في الدين، لا يصل الى الظالم، فهؤلاء متى أرادوا الخير وجب عليهم ترك اللجاج و الظلم و قبول الباطل و انكار اليهود و النصارى تحويل القبلة من غير وجه، لأنّ هذا البيت قبلة ابراهيم عليه السّلام الّذى يعترفون بفضله و يفتخرون بنسبه.

«وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ»: الابتلاء (1) على ضربين، أحدهما يستحيل على اللّه و الآخر جائز، فالمستحيل هو ان يختبره ليعلم ما يكشف له عنه و هذا ما لا يصحّ لأنّه علّام

ص: 296


1- و هذا مضمون الرواية التي المجلد الخامس من بحار الأنوار ص 130 نقلا عن الأمالي.

الغيوب و الآخران يبتليه حتّى يصبر فيما يبتليه به، فيكون ما يعطيه من العطاء على سبيل الاستحقاق و لينظر الناظر اليه، فيقتدى به و يكون إرشادا للغير.

المعنى: و اذكر وقت امتحان اللّه ابراهيم، و هو مجاز و حقيقته انّه امره و كلّفه و حقيقة الابتلاء من اللّه تشديد التكليف.

«بِكَلِماتٍ» و روى عن الصادق عليه السّلام: اوّل ما ابتلاه اللّه في نومه، من ذبح ولده إسماعيل عليه السّلام ابى العرب، فعزم عليها و سلم لأمر اللّه، فأتمه، فقال اللّه ثوابا له لما صدق و عمل بما امره اللّه: انى جاعلك للناس اماما، ثمّ أنزل اللّه عليه الحنيفية، و فسّرت، الكلمات بوجوه، قال ابن عباس: هي عشر خصال كانت فرضا في شرعه و سنّة في شرعنا خمس منها في الرأس و هي: المضمضة و الاستنشاق و فرق الرأس و قص الشارب و السواك و خمس في البدن و هي: الختان و حلق العانة و نتف الإبط و تقليم الأظفار و الاستنجاء بالماء، اى غسل مكان الغائط و البول بالماء- و المراد من فرق الرأس تقسيمه الى نصفين، و كان المشركون يفرقون شعور رؤسهم و اهل الكتاب يرسلون شعورهم على الجبين و يتخذونها كالقصة و هي شعر الناصية، قيل: و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحب موافقة أهل الكتاب ثمّ نزل جبرئيل عليه السّلام، فأمره بالفرق و اكثر حال النبىّ كان الإرسال و حلق الرأس منه معدود و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقصّ شاربه كل جمعة قبل ان يخرج الى صلاة الجمعة و القصّ في الشارب لا بدّ و ان يبدوا طراف الشفه و لا يبقى فيه غمر الطعام و السنة تقصير الشارب و حلقه، قيل: بدعة كحلق اللحية، و في الحديث: جزّوا الشوارب و اعفوا اللحي و الجزّ:

القصّ و القطع: و الإعفاء: التوفير و الترك على حالها، و حلق اللحية حرام و قبيح و مثلة:

كما انّ حلق شعر الرأس، في حق المرأة مثلة، منهىّ عنه و تشبّه بالرجال و تفويت للزينة، كذلك حلق اللحية، تشبّه بالنساء.

في وسائل الشيعة، عن الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حفّوا الشوارب و اعفوا اللحى و لا تشبهوا بالمجوس، جزّوا لحاهم و وفّروا شواربهم، و نحن نجزّ الشوارب و نعفي اللحى و هي الفطرة و حديث آخر و في تفسير على بن ابراهيم، في قوله تعالى:

ص: 297

و إذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فاتمّهن، قال: انّه ابتلاه في نومه بذبح إسماعيل، فاهمّها ابراهيم و سلّم لأمر اللّه، قال اللّه ثوابا له: انى جاعلك للناس اماما، ثمّ انزل عليه الحنيفيّة و هي عشرة: خمسة في الرأس و خمسة في البدن، امّا التي في الرأس: أخذ الشارب و اعفاء اللحى و طم الشعر من الرأس و السواك و الخلال و لو لا هذه الاخبار ففي النهى التحريمي في مشاكلة اعداء الدين و سلوك طريقتهم و تشبّه الرجال بالنساء و حكم وجوب الدية الكاملة في حلق اللحية إذا لم تنبت و إذا نبتت فثلث الدية لكفى دليلا في حرمة حلق اللحية.

و اعلم: انّ دية أعضاء الرجل و المرأة متساوية الى ان تبلغ الثلث من الدية الكاملة، فإذا بلغت الثلث فتضاعف دية أعضاء الرجل.

قال ابان ابن تغلب: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة، كم فيها من الدية، قال عليه السّلام: عشرة من الإبل، قلت: قطع اثنتين، قال عليه السّلام عشرون، قلت: قطع ثلاثا، قال عليه السّلام: ثلاثون، قلت: أربعا، قال عليه السّلام: عشرون، قلت:

سبحان اللّه، يقطع ثلاثا، فيكون عليه ثلاثون و يقطع أربعا و عليهن عشرون، قال عليه السّلام مهلا هذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ المرأة تعادل الرجل الى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت الى نصف دية الرجل.

في تفسير روح البيان: و من تسبيح الملائكة: سبحان من زيّن الرجال باللحى و زيّن النساء بالذوائب.

و في رواية اخرى عن ابن عباس ايضا انّه تعالى ابتلاه بثلاثين خصلة من شرايع الإسلام، فأقامها كلّها ابراهيم و اتمّهن فكتب له البراءة، فقال سبحانه: و ابراهيم الذي وفي و هي عشرة في سورة براءة: التائبون العابدون الى اخرها و عشرة في الأحزاب:

انّ المسلمين و المسلمات الى اخرها و عشرة في سورة المؤمنين: قد أفلح المؤمنون الى قوله: أولئك هم الوارثون، و روى و عشرة في سورة سأل سائل، الى قوله: و الذين هم على صلاتهم يحافظون، فجعلها أربعين و في رواية عن ابن عباس انّه امره بمناسك

ص: 298

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 1 349

الحج و قيل ابتلاه اللّه بالكوكب و القمر و الشمس و الختان و بذبح الولد و بالنار و بالهجرة فكلّهنّ وفّاهن و الآية يحتمله الجميع.

قال الشيخ ابو جعفر: يشمل الكلمات المقام اليقين الّذى اتى به و ذلك قوله:

و ليكون من الموقنين و المعرفة بالتنزيه عن التشبيه حين نظر إلى الكوكب و القمر و الشمس و ذلك قوله: فلمّا افل قال: انّى لا احبّ الآفلين، و منها الشجاعة بدلالة قوله: فجعلهم جذاذا الّا كبيرا منهم، و مقاومته اعداء اللّه فريدا بنفسه، و منها الحلم و ذلك قوله: انّ ابراهيم لحليم اوّاه منيب، و منها السخاء و يدلّ عليه قوله: هل أتيك حديث ضيف ابراهيم المكرمين، ثمّ العزلة عن العشيره و قد تضمّنه قوله: و اعتزلكم و ما تدعون من دون اللّه، ثمّ الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و بيان ذلك في قوله:

يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر، ثمّ التوكّل و بيان ذلك في قوله: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ثمّ المحنة حين جعل في المنجنيق و قذف به الى النار، ثمّ الصبر على سوء خلق سارة، ثمّ الزلفة، في قوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا، ثمّ الجمع لشروط الطاعات، في قوله: انّ صلاتي و نسكي إلى قوله و انا اوّل المسلمين، ثمّ استجابة دعوته، حين قال: ربّ أرني كيف تحيى الموتى، ثمّ اصطفاؤه في قوله: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثمّ اقتداء من بعده من الأنبياء به في قوله: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ الآية، انتهى كلام الشيخ.

فاتّبع سنة من قد خلق اللّه نوره قبل الظهور في عالم البشريّة بدهور و دع قياسات الفكريّة و الاستحسانات العقليّة، فتكون تحرف النواميس بعقلك القاصر، فانّ صاحب الناموس اعرف منك و لا تكن كبعض السفهاء الذين يدّعون العقل في زماننا، فانّهم قاسوا بعقولهم انّ قسمة الأنثى إذا كان بالعكس، كان اقرب بالعدل، لأنّ النساء أضعف في الاكتساب و ليس لهنّ تدبير و عقل كما في الرجال و هذا الكلام مع قطع النظر عن مخالفة الشريعة، مخالف للعقل، لأنّ الرجل أفقر للمال منهنّ بسبب القيام بامورهنّ، ثمّ انّ لهنّ من يقوم بامورهنّ

ص: 299

و اقلّ حاجة من الرجال بسبب الأنوثة، فان لم يقبّلها ذا، يقبّلها ذاك، فيقوم بأمرها لكن الرجل ليس له هذه المنفعة و لا اقل من ان يقوم بأمر نفسه، فحاجته بالمال اكثر من حاجة المرأة، ثمّ انّه في الغالب تتساوى المرأة مع الرجل في المال مع ما تأخذ نصف الرجل في الميراث، مثل ان إذا أخذ الرجل ألف درهم و المرأة خمسمائة درهم، فلمّا تزوّجت تأخذ من الصداق مثلا خمسمائة درهم فتساوى أخاها في المال و الأخ إذا أراد أن يتزوّج فلا بدان يجعل و يعطى صداق زوجته خمسمائة درهم، فيكون مساويا لأخته في المال و امور أخر، لا حاجة بالاطالة، فاجعل عقلك تابعا للشرع لا العكس، تكن مؤمنا و لا تكن زنديقا، اما قرأت القرآن؟ الرجال قوّامون على النساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعض، و فضل الرجال، العقل و القوّة و الغزو و انّ منهم الأنبياء و الحكماء و فيهم الخلافة و الامامة و الاقتداء بهم في الصلوات و الأذان و الخطبة و الاعتكاف و الشهادة و زيادة السهم و تحمل الدية في القتل الخطاء و الولاية في النكاح و الطلاق و عدد الأزواج.

«فَأَتَمَّهُنَّ»: اى وفّي بهنّ و عملها بالتمام و قيل: ضمير الفاعل في اتمهنّ راجع الى اللّه على قول ابي القاسم البلخي «قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً»: قل انى جاعلك لأجل الناس مقتدى يأتمّون بك في هذه الخصال، فهو مقتدى الصالحين الى قيام الساعة و قد أنجز اللّه وعده لأنّه امر نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: ثمّ أوحينا إليك ان اتبع ملّة ابراهيم، و اجتمع اهل الأديان على تعظيمه، كما انّ امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقولون في آخر صلواتهم: اللّهم صلى على محمّد و آل محمّد كما صليت على ابراهيم و آل ابراهيم انّك حميد مجيد و في الخبر: انّ ابراهيم رأى في المنام جنّة عريضة مكتوب على أشجارها، لا اله الّا اللّه محمّد رسول اللّه، فسأل جبرئيل عليه السّلام عنها فأخبره بالقصّة، فقال: يا ربّ أجر على لسان امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكرى، فاستجاب اللّه دعاءه «قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي» عطف على الكاف في جاعلك و «من» تبعيضيّة، اى و اجعل بعض ذريّتي اماما يقتدى به الناس، لكنّه راعى الأدب بالاحتراز عن صورة الأمر و لم يقل، و اجعل، و تخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة امامة الكلّ و ان كانوا على الحق، و الذريّة نسل الرجل و قد

ص: 300

يطلق على الآباء و الأبناء من الذكور و الإناث و منه قوله تعالى: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أراد آبائهم و تطلق الذريّة ايضا على الواحد، كقوله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً: يعنى ولدا صالحا «قالَ» اللّه «لا يَنالُ» و لا يصيب «عَهْدِي الظَّالِمِينَ»: اى ان أولادك منهم مسلمون و منهم كافرون، فلا يصل الامامة و النبوّة للظالم، لأنّ الامام انّما هو يمنع الظلم، فمن استرعى الذئب للغنم ظلم و في الآية دليل على انّ الفاسق لا يصلح للامامة، بل لا يقدّم للصلاة ايضا و قالت الاشاعرة: أريد بالظالم، الكافر.

أقول: و في تعبير الظالم بخصوص الكافر، تعنّت و تعسّف، لأنّ كون الكافر ظالما لا يخرج الظالم عن إطلاقه فلا ينالهما فمن اين تعيّن التخصيص و في الآية أيضا دليل علي عصمة الأنبياء من المعاصي قبل البعثة و بعد البعثة، لأنّه يصدّق عليه انّه كان ظالما و لو و قتاما قال الطبرسي: فان قيل انّما نفى ان يناله ظالم في حالة ظلمه، فإذا تاب لا يسمّى ظالما فيصحّ ان يناله، فالجواب انّ الظالم و ان تاب فلا يخرج من ان تكون الآية قد تناولته في حالكونه ظالما فإذا نفى سبحانه ان يناله فقد حكم عليه بانّه لا يناله، لأنّ الآية مطلقة غير مقيّدة بوقت دون وقت، فيجب ان تكون محمولة على الأوقات كلّها، فلا ينالها الظالم و ان تاب فيما بعد انتهى.

في كتاب السماء و العالم، بعض الحديث: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال عيسى ابن مريم في الإنجيل: يا معشر الحواريين، خلق اللّه الليل لثلاث امور و خلق النهار لسبع خصال، فمن مضى عليه الليل و النّهار و هو في غير هذه الخصال، خاصماه يوم القيامة؛ خلق اللّه الليل لتسكن فيه العروق الفاترة التي أتعبتها في نهارك و تستغفر لذنبك الذي كسبتها بالنهار ثمّ لا تعود فيه و تقنت فيه قنوت الصابرين، فثلث تنام و ثلث تقوم بالعبادة و ثلث تضرّع الى ربّك و هذا ما خلق له الليل. و امّا النّهار لتؤدى الصلاة المفروضة التي عنها تسئل و ان تبرّ بوالديك و ان تضرب في الأرض تبتغى لمعيشة يومك و ان تعودوا فيه وليّا للّه و ان تشيعوا جنازة كيما تنقلبوا مغفورا لكم و ان تأمروا بمعروف و ان تنهوا عن منكر فهو ذروة الايمان و قوام الدين و ان تجاهدوا في سبيل اللّه.

ص: 301

[سورة البقرة (2): آية 125]

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

«وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ»: اى و اذكر يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقت تصييرنا الكعبة «مَثابَةً» معاذا و ملجأ و مآبا و مباءة و مرجعا يتوبون اليه في كل عام- و في الحديث: من خرج من مكة و هو ينوى الحج من قابل زيد في عمره و من خرج من مكّة و هو لا ينوى العود إليها فقد قرب اجله او المعنى يحجّون اليه فيثابون عليه.

«وَ أَمْناً»: موضع أمن، لأنّ من أعاذ به لا يخاف على نفسه مادام فيه، فانّ المشركين كانوا لا يتعرّضون لسكّان الحرم و كان الرجل منهم يرى قاتل أبيه فيه فلا يتعرّض له و هذا شي ء توارثوه من دين إسماعيل، فبقوا عليه الى ايام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم او المعنى يأمن حاجّه من عذاب الآخرة من حيث انّ الحج يجبّ و يقطع و يمحو ما وجب قبله من حقوق اللّه الغير الماليّة، مثل الزكاة و كفّارة اليمين و أما حقوق النّاس فلا يحبّها الحج؛ لكن نقل صاحب تفسير روح البيان رواية و اللّه عالم بصحتها و فسادها، قال:

و لكن روى انّ اللّه استجاب دعاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة المزدلفة، في الدماء و المظالم و نقل عن كتابهم الكافي و تفسير الفاتحة للقونوى؛ «وَ اتَّخِذُوا»: اى و قلنا: اتّخذوا على ارادة القول، لئلّا يلزم عطف الإنشاء على الاخبار.

«مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى»: اى موضع الصلاة و «من»: للتبعيض و مقام ابراهيم الحجر الذي فيه اثر قدميه او الموضع الذي كان فيه حين دعى الناس و قام عليه، او حين رفع بناء البيت.

قال ابن عباس: الحج كلّه مقام ابراهيم و قال عطاء: مقام ابراهيم، عرفة و المزدلفة و الجمار و قال مجاهد: الحرم كلّه مقام إبراهيم و قال قتادة و الحسن و السّدى: هو الصلاة عند مقام ابراهيم، أمرنا بالصلوة عنده بعد الطواف و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام و هذا هو الظاهر: لأنّ مقام ابراهيم إذا اطلق، لا يفهم منه الّا المقام المعروف اليوم بمقام ابراهيم

ص: 302

الّذى هو في المسجد الحرام و في المقام دلالة على نبوّة ابراهيم، فإنّ اللّه جعل الحجر تحت قدميه كالطين حتّى دخلت قدماه فيه؟ قال ابو جعفر عليه السّلام: نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة، مقام ابراهيم عليه السّلام و حجر بنى إسرائيل و الحجر الأسود، استودعه اللّه إبراهيم عليه السّلام حجرا ابيضا و كان اشدّ بياضا من القراطيس فاسودّ من خطايا بنى آدم، و في قصّة مهاجرة إسماعيل و هاجر: روى عن على بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن النصر بن سويد، عن هشام، عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ إبراهيم كان نازلا في بادية الشام، فلمّا ولد له من هاجر، إسماعيل اغتمّت سارة من ذلك غمّا شديدا، فكانت تؤذى إبراهيم في هاجر و تغمّه، فشكى إبراهيم عليه السّلام إلى اللّه، فأوحى اللّه إليه: إنّما مثل المرأة مثل الضلع المعوج، ان تركته استمتعت به و ان رمت ان تقيمه كسرته، قال الشاعر:

هي الضلع العوجاء لست تقيمهاالا انّ تقويم الضلوع انكسارها

ثمّ امره اللّه ان يخرج إسماعيل عليه السّلام و هاجر عنها، فقال: اى ربّ إلى اىّ مكان؟ قال:

الى حرمي. و أمني و أول بقعة خلقتها من ارضى و هي مكة و أنزل عليه جبرئيل بالبراق فحمل إبراهيم و هاجر. و إسماعيل عليه السّلام، فكان لا يمر إبراهيم عليه السّلام بموضع حسن فيه شجر و نخل و زرع، الّا قال إبراهيم عليه السّلام الى هاهنا، فيقول لا امض حتّى وافى مكّة، فوضعه في موضع البيت و قد كان عاهد إبراهيم عليه السّلام سارة، ان لا ينزل حتّى يرجع إليها، فلمّا نزلا في ذلك المكان، كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلّا تحته، فلمّا سرحهم إبراهيم عليه السّلام و وضعهم و أراد الانصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: لم تدعنا في هذا الموضع الّذي ليس فيه أنيس و لا ماء و لا زرع، فقال إبراهيم عليه السّلام: أمرني ربّى ان أضعكم في هذا المكان، ثمّ انصرف عنهم، فلمّا بلغ كدى و هو جبل بذي طوى، التفت إليهم إبراهيم عليه السّلام فقال: ربّنا انّى أسكنت من ذريّتى بواد غير ذي زرع، الى قوله: لعلّهم يشكرون؛ ثم مضى و بقيت هاجر و إسماعيل عليه السّلام، فلمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل عليه السّلام، فقامت هاجر في الوادي، حتّى صارت في موضع المسعى، فنادت. هل في الوادي أنيس، فغاب عنها إسماعيل عليه السّلام، فصعدت على الصفا و لمع لها السراب في الوادي، فظنّت انّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت،

ص: 303

فلمّا بلغت المروة غاب عنها إسماعيل عليه السّلام، ثمّ لمع لها السراب في ناحية الصفا، فهبطت إلى الوادي بطلب الماء؛ فلمّا غاب عنها إسماعيل عليه السّلام، عادت حتّى بلغت الصفا، فنظرت إلى إسماعيل عليه السّلام حتّى فعلت ذلك سبع مرّات، فلمّا كان في الشوط السابع و هي على المروة، نظرت إلى إسماعيل عليه السّلام و قد ظهر الماء من تحت رجليه فعدت حتّى جمعت حوله رملا و إنّه كان سائلا فزممته بما جعلت حوله الرمل، فلذلك سمّيت زمزم.

و كانت جرهم نازلة بذي المجاز و عرفات فلمّا ظهر الماء بمكّة، عكفت الطيور و الوحوش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكّف الطير على ذلك المكان فاتّبعوها حتّى نظرت إلى امرأة و صبيّ نزلوا في ذلك المكان و قد استظلّوا الشجر و قد ظهر لهم الماء، فقالت لهاجر: من أنت و ما شأن هذا الصبيّ؟ قالت: أنا أمّ و لد إبراهيم خليل الرحمن و هذا ابنه، أمره أن ينزلنا هذا الموضع، فقالوا لها: أ تأذنين أن نكون بالقرب منكم؟

فقالت: حتّى أستأذن إبراهيم عليه السّلام فزارهما إبراهيم عليه السّلام يوم الثالث، فاستأذنت هاجر من إبراهيم عليه السّلام في الإذن لهم، فأذن إبراهيم عليه السّلام، فنزلوا بالقرب منهم و ضربوا خيامهم و أنست و إسماعيل عليه السّلام بهم.

فلمّا زارهم إبراهيم عليه السّلام في المرّة الثالثة و نظر إلى كثرة الناس حولهم، سرّ بذلك سرورا شديدا، فلمّا تحرّك إسماعيل عليه السّلام و كانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كلّ واحد منهم شاتا و شاتين و كانت هاجر و إسماعيل عليه السّلام يعيشان بها.

فلمّا بلغ إسماعيل عليه السّلام مبلغ الرجال، أمر اللّه إبراهيم عليه السّلام أن يبني البيت، فقال: يا ربّ في أيّ بقعة؟ فقال في البقعة الّتي أنزلت على آدم عليه السّلام القبّة، فأضاءت الحرم و لم تزل القبّة الّتي أنزلها اللّه على آدم عليه السّلام قائمة، حتّى كان أيّام الطوفان زمن نوح عليه السّلام، فلمّا غرقت الدنيا رفع اللّه تلك القبّة و غرقت الدنيا و لم تغرق مكّة فسمّي البيت العتيق لأنّه أعتق من الغرق.

و بعث اللّه جبرئيل عليه السّلام على إبراهيم عليه السّلام فخطّ له موضع البيت و كان الحجر الّذي أنزله اللّه على آدم عليه السّلام أشدّ بياضا من الثلج كما ذكرنا فبنى إبراهيم عليه السّلام البيت

ص: 304

و نقل إسماعيل عليه السّلام الحجر من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع.

ثمّ دلّه جبرئيل عليهم السّلام على موضع الحجر في الأرض، فاستخرجه إبراهيم و وضعه في الموضع الّذي هو فيه و جعل له بابين، بابا إلى المشرق و بابا إلى المغرب، فالباب الّذي إلى المغرب يسمّى المستجار، ثمّ ألقى عليه الشبح و الإذخر.

فلمّا تمّ البناء نزل جبرئيل يوم التروية، فقال: قم يا إبراهيم فادنوا من الماء لأنّه لم يكن بمنى و عرفات ماء، فسمّيت التروية لذلك، ثمّ أخرجه إلى منى، فبات بها، ففعل بها ما فعل بآدم.

[وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أي أمرناهما أمرا مؤكّدا و وصّينا إليهما، فإنّ العهد قد يكون بمعنى الأمر و الوصيّة؛ يقال عهد إليه: أي أمره و وصّاه، و منه قوله تعالى: «أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ» (1).

و قيل: سمّي إسماعيل لأنّ إبراهيم عليه السّلام كان يدعو إلى اللّه أن يرزقه ولدا و يقول: اسمع يا إيل و «إيل» هو اللّه، فلمّا رزق سمّاه به.

[أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ بأن طهّراه عن الأوثان و الأنجاس و المراد من «طَهِّرا» أي أقرّاه على طهارته و احفظاه من أن يصيب حوله شي ء منها، و يقرّبون إليه المشركون و هذا كقوله: «وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» (2) فإنّهن لم يطهّرن من نجس، بل خلقهنّ طاهرات، كقولك للخيّاط: وسّع كمّه، و الكمّ ما كان ضيّقا حتّى يوسّعه، بل المراد اصنعه ابتداء واسع الكمّ.

[لِلطَّائِفِينَ الزائرين حوله [وَ الْعاكِفِينَ المجاورين الّذين عكفوا و أقاموا عنده، و هذا في المتوطّنين و الأوّل في القادمين للزيارة و الطواف [وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ] أي المصلّين؛ جمع راكع و ساجد. و لتقارب الركوع و السجود ذاتا و زمانا ترك العاطف بين موصوفيهما.

و الجلوس في مسجد الحرام ناظرا إلى الكعبة من جملة العبادات المرضيّة.

ص: 305


1- يس: 61.
2- البقرة: 24.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ للّه تعالى في كلّ يوم عشرين و مائة رحمة تنزل على هذا البيت، ستّون للطائفين و أربعون للمصلّين و عشرون للناظرين.

و اعلم: أنّه لمّا قال: «أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ» دخل فيه بالمعنى جميع بيوته، فيكون حكمها حكمه في التطهير، و خصّ الكعبة بالذكر لأنّه لم يكن في ذلك الوقت هناك غيره. و في روح البيان: في الحديث: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اوحي إليّ: يا أخا المنذرين، يا أخا المرسلين، أنذر قومك أن لا يدخلوا بيتا من بيوتي إلّا بقلوب سليمة و ألسنة صادقة و أيدي نقيّة و فروج طاهرة، و لا يدخلوا بيتا من بيوتي ما دام لأحد عندهم مظلمة فإنّي ألعنه مادام قائما بين يديّ حتّى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الّذي يسمع به و بصره الّذي يبصر به و يكون من أوليائي و أصفيائي و يكون جاري مع النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين.

و كلّ أمر له ضدّ مثل أنّ المظلمة عظيمة، و ردّها أعظم منها.

ثمّ اسع في ردّ مظالم الخلق؛ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ ردّ درهم مظلمة أفضل عند اللّه من أربعين حجّة مقبولة، أو أربعين ألف.

و الانقطاع في الخلوة و دوام الذكر إلى أن ينخرق من روزنة الغيب نور، و ذلك نور اليقين، فتكون بعد حصول ذلك النور مؤمنا حقّا كما قال عليّ عليه السّلام لحارث:

كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت باللّه مؤمنا حقّا، فقال عليه السّلام: إنّ لكلّ حقّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عرفت عزّ الدنيا فاستوى عندي ذهبها و مدرها و كأنّي بأهل الجنّة في الجنّة يتزاورون، و بأهل النار يتعاوون، و كأنّي بعرش ربّي بارز، فقال عليه السّلام: مؤمن نوّر اللّه قلبه، الآن عرفت فالزم. و القلب المؤمن عرش الرحمن فلا بدّ من تصفيته حتّى تعكف عنده الأنوار الإلهيّة و تنزل عليه السكينة و الوقار؛ فعند وصول العبد إلى هذه الرتبة فهو من الركّع السجّد، و ناجى اللّه بسرّه فيكون من أهل اليقين.

[سورة البقرة (2): آية 126]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

ص: 306

[وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ المراد من الآية دعاء إبراهيم عليه السّلام للمؤمنين من سكّان مكّة بالأمن و السعة: [رَبِّ اجْعَلْ هذا] المكان و هو الحرم [بَلَداً] ذا أمن يأمن أهله من المخاوف و الزلازل و الخسف و الجنون و نحو ذلك من المثلات الّتي تحلّ بالبلاد، و «آمن» من باب النسب، مثل لابن و تامر، و هذا الدعاء كان في أوّل ما قدم إبراهيم عليه السّلام مكّة لمّا قالت له هاجر: إلى من تكلنا في هذا البلقع؟

[آمِناً] مأمونا، قال ابن عبّاس: يريد محرّما، لا يصاد طيره و لا يقطع شجره و لا يؤذى جاره، و إلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق عليه السّلام، من قوله: من دخل المسجد مستجيرا باللّه فهو آمن من سخط اللّه، و من دخله من الوحش و الطير كان آمنا من أن يهاج عليه حتّى يخرج من الحرم.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم فتح مكّة: إنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السماوات و الأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحلّ لأحد قبلي و لا تحلّ لأحد بعدي و لم تحلّ لي إلّا ساعة من النهار.

و هذه الرواية و أمثالها يدلّ على أنّ الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم عليه السّلام و قد تأكّدت حرمته بدعائه.

و قيل: إنّما صار حرما بدعائه و كان قبل ذلك كسائر البلاد و استدلّ بصحّة هذا القول الثاني بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ إبراهيم عليه السّلام حرّم مكّة و إنّي حرّمت المدينة.

و قيل: كانت مكّة حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الّذي صارت به حراما بعد الدعوة، فالأوّل بمنع اللّه إيّاها من الخسف و الائتفاك، كما لحق ذلك غيرها من البلاد. و بما جعل في النفوس لها من الهيبة و العظمة. و الثاني بالأمر بتعظيمه على ألسنة الرسل و بالمناسك و آداب الحجّ، فأجابه اللّه إلى ما سأل.

و قيل: إنّه سأل الأمرين على أن يديمها و إن كان أحدهما مستأنفا و الآخر قد كان.

[وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ و المأكولات ممّا يخرج من الأرض، فاستجاب له في

ص: 307

ذلك [مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] بدل من «أهله» أي و ارزق المؤمنين خاصّة [قالَ اللّه: [وَ مَنْ كَفَرَ] أي قال اللّه: فقد استجيب دعوتك فيمن آمن، و من كفر [فَأُمَتِّعُهُ أي أمدّ له ليتناول من لذّات الدنيا [قَلِيلًا] تمتيعا قليلا و زمانا قصيرا، و هو مدّة حياته.

[ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ] و لا شي ء أشدّ من عذاب النار، و اضطرارهم وقوعهم فيها بحيث يتعذّر عليهم التخلّص منه، لأنّهم ليسوا مختارين و لا يملكون الامتناع منه [وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ] و المخصوص بالذم محذوف أي بئس المرجع و المقام المصير إلى النار.

[سورة البقرة (2): آية 127]

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

[وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ الرفع و الإصعاد و الإعلاء نظائر كما أنّ القواعد و الأساس و الأركان نظائر، و أصلها الثبوت و الاستقرار، و قاعدة البناء أساسه الّذي بني عليه.

بيّن سبحانه بناء إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام البيت. و اذكر يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقت رفع إبراهيم أساس البيت الّتي كانت قبل ذلك لأنّ أوّل من حجّ البيت آدم عليه السّلام.

قال الصادق عليه السّلام: و كانت البيت درّة بيضاء، فرفعه اللّه إلى السماء و بقي أساسه و كان يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون إليه أبدا، قاله العيّاشيّ بإسناده.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ أوّل شي ء نزل من السماء إلى الأرض لهو البيت الّذي بمكّة أنزله اللّه ياقوتة حمراء، ففسق قوم نوح في الأرض فرفعه اللّه.

و كان يرفع إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام أساس الكعبة و يقولان: [رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا] و في قراءة عبد اللّه بن مسعود بزيادة «و يقولان».

و قيل: إنّ إبراهيم عليه السّلام وحده رفع القواعد و كان إسماعيل عليه السّلام صغيرا في وقت رفعها، قال الطبرسيّ: و هو قول شاذّ غير مقبول و الصحيح: كان إبراهيم عليه السّلام يبني و إسماعيل عليه السّلام يناوله الحجر، و إنّما عبّر بالمستقبل إشعارا في البيان بلفظ الحال،

ص: 308

كانّه يراه المخاطب على وجه العيان و المشاهدة و المراد برفع الأساس البناء عليه، لأنّ البناء بنقله من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع.

و كان لإبراهيم عليه السّلام أربعة بنين: إسماعيل و هو المذكور و إسحاق و مدين و مدائن، و قيل: ثمانية: زمران و يقتان و يشبق و نوح؛ و البناء الّذي بنى إبراهيم عليه السّلام كان على الأساس الأوّل حسبما ذكر في الحديث.

و كان البناء الأوّل، بناء آدم عليه السّلام بإعانة الملائكة من خمسة أجبل: طور سيناء، طور زيتاء، طور لبنان، طور الجودي، طور حراء.

قال ابن عبّاس: حجّ آدم عليه السّلام أربعين حجّة من الهند إلى مكّة على رجليه، فبقي البيت يطوف به هو و المؤمنون من ولده، إلى أيّام الطوفان، فرفعه اللّه في تلك الأيّام إلى السماء الرابعة، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك و بعث اللّه جبرئيل حتّى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، صيانة له من الغرق.

و كان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السّلام ثمّ إنّ اللّه أمر إبراهيم عليه السّلام ببناء البيت، فسأل اللّه ان يبين له موضعه، فبعث اللّه جبرئيل فخطّ له موضع البيت فرفع البيت ابراهيم و إسماعيل عليهما السّلام حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود، فقال لابنه:

يا بنيّ ائتني بحجر ابيض حسن يكون للناس علما، فأتاه بحجر، فقال عليه السّلام: ائتني بحجر احسن من هذا، فمضى إسماعيل عليه السّلام يطلبه، فصاح ابو قبيس: يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها فإذا هو بحجر ابيض من ياقوت الجنّة، كان آدم عليه السّلام قد نزل به من الجنّة، او أنزله اللّه قبل ذلك، فأخذ ابراهيم عليه السّلام الحجر، فوضعه مكانه.

فلما رفع القواعد جاءت سحابة مربّعة فيها رأس، فنادت: أن ارفعا على تربيعي، فهذا بناء إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام.

[رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا] قائلين: يا ربّ تقبّل منّا الطاعات و الدعاء. و الفرق بين التقبّل و القبول أنّ التقبّل على بناء التكلّف و يطلق حيث يكون العمل ناقصا لا يستحقّ أن يقبل إلّا على طريق التفضّل و الكرم و لفظ القبول لا دلالة فيه على هذا المعنى و لذلك قالا:

«رَبَّنا تَقَبَّلْ» اعترافا منهما بالقصور في العمل خضوعا [إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بجميع

ص: 309

المسموعات و كلّ المعلومات.

[سورة البقرة (2): آية 128]

رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

[رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي مخلصين و منقادين بالرضاء لكلّ ما آمرت و قدّرت، فإنّهما و إن كانا مستسلمين في زمان صدور هذا الدعاء، لكنّهما طلبا الزيادة في الخلوص.

[وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ أي و اجعل بعض ذرّيّتنا جماعة مسلمة و خصّا البعض من ذرّيّتهما لما علما أنّ منهم محسنا و ظالما، و طريق علمهما قوله تعالى «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (1).

[وَ أَرِنا مَناسِكَنا] أي بصرّنا و أعلمنا مواضع نسكنا، أو أعمال الحجّ من قبيل المواقيت و الموقف و موضع الطواف و المسعى و غيرها. و النسك كلّ ما يتعبّد به إلى اللّه، لكنّه شاع في أعمال الحجّ، و أصل النسيكة شاة كانوا يذبحونها في الجاهليّة.

[وَ تُبْ عَلَيْنا] أي ارجع إلينا بالمغفرة و الرحمة، أو تكلّما بهذه الكلمة على وجه التسبيح و الانقطاع و الخضوع إلى اللّه و قيل: إنّهما سألا التوبة على ظلمة ذرّيّتهما [إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ القابل للتوبة و الكثير القبول لها، مرّة بعد اخرى المنعم عليهم.

[سورة البقرة (2): آية 129]

رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

[رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الضمير في قوله «فيهم» راجع إلى الامّة المسلمة و المراد بقوله: «وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ» هو نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم روي أنه أجيب بأنّه قد استجيب لك و هو في آخر الزمان؛ و في الحديث: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّي عند اللّه مكتوب خاتم النبيّين و إنّ آدم لمحدل في طينته- أي لملقى على الأرض- و سأخبركم بأوّل أمري: أنا دعوة أبي إبراهيم عليه السّلام و بشارة عيسى عليه السّلام و رؤيا امّي الّتي رأت

ص: 310


1- البقرة: 118.

حين وضعتني و قد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام.

[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ و يبلّغهم ما يوحى إليه من دلائل التوحيد و الشرائع [وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ القرآن [وَ الْحِكْمَةَ] و ما يكمل به نفوسهم، و كلّ كلمة دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة [وَ يُزَكِّيهِمْ و يطهّرهم عن دنس الشرك و المعاصي، ثمّ بعد الدعاء ختم بالثناء على اللّه بقوله: [إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ] الغالب [الْحَكِيمُ الّذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة.

[سورة البقرة (2): الآيات 130 الى 131]

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)

[وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ الرغبة: المحبّة و الميل لما فيه للنفس منفعة «من» استفهاميّة، قصد بها التقريع و الإنكار، و رغب في الشي ء: إذا أراده، و رغب عنه: إذا تركه.

أي لا يترك دين إبراهيم عليه السّلام أحد و لا يعرض عن شريعته و طريقته [إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ و جعلها ذليلا و مهينا، قيل: إنّ عبد اللّه سلام دعا ابني أخيه سلمة و مهاجر إلى الإسلام، و قال لهما: قد علمتما أنّ اللّه تعالى قال في التوراة: إنّي باعث من ولد إسماعيل نبيّا اسمه أحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فمن آمن به فقد اهتدى و من لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة و مهاجر، فأنزل اللّه الآية.

[وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا] من بين سائر الخلق بالنبوّة و الحكمة [وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ من المشهود لهم بالثبات و الصلاح، و من كان كذلك كان حقيقا بالاتّباع. و لا يرغب عن ملّته إلّا سفيه يفعل أفعال السفهاء بسوء اختياره.

[إِذْ قالَ ظرف لاصطفيناه. في وقت قال [لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ و أخلص دينك لربّك و استقم على الإسلام و ذلك حين خرج من الغار و نظر إلى الكوكب و القمر و الشمس، فألهمه اللّه الإخلاص [قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ و أخلصت ديني له.

قال أهل التفسير: إنّ إبراهيم عليه السّلام ولد في زمن النمرود بن كنعان، و كان

ص: 311

النمرود أوّل من وضع التاج على رأسه و دعا الناس إلى عبادته، و كان له كهّان و منجّمون، فقالوا له: إنّه يولد في بلدك في هذه السنة غلام يغيّر دين أهل الأرض و يكون هلاكك و زوال ملكك على يديه، قالوا: فأمر بذبح كلّ غلام يولد في ناحيته في تلك السنة، فلمّا دنت ولادة امّ إبراهيم عليه السّلام و أخذها المخاض خرجت هاربة، مخافة أن يطّلع عليها فيقتل ولدها، فولدته في نهر يابس، ثمّ لفّته في خرقة و وضعته في حلفاء، ثمّ رجعت و أخبرت زوجها بأنّها ولدت و أنّ الولد في موضع كذا، فانطلق أبوه و أخذه من ذلك المكان و حفر له سربا في الأرض كالمغارة، فواراه فيه و سدّ عليه بابه بصخرة مخافة السباع.

و كانت امّه يختلف إليه فترضعه. و كان اليوم على إبراهيم عليه السّلام في الشباب و القوّة كالشهر في حقّ سائر الصبيان، و الشهر كالسنة، فلم يمكث إبراهيم عليه السّلام في المغارة إلّا خمسة عشر شهرا، أو سبع سنين، أو أكثر.

فلمّا شبّ إبراهيم عليه السّلام في السرب، قال لأمّه: من ربّي؟ قالت: أنا، قال:

فمن ربّك؟ قالت: أبوك، قال: فمن ربّ أبي؟ قالت: اسكت، فأتى إبراهيم عليه السّلام أباه آزر و قال: يا أباه من ربّي؟ و كان آزر، عمّه و يطلق الأب على العمّ تغليبا؛ لأنّ العمّ أب و الخالة امّ، لا نخراطهما في سلك واحد و هو الاخوّة، لا تفاوت في أغلب الأمور بينهما، كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عمّ الرجل صنو أبيه و لا تفاوت بين صنوي النخلة.

و بالجملة، لمّا قال إبراهيم عليه السّلام لآزر: من ربّي؟ قال آزر: امّك، قال:

فمن ربّ امّي؟ قال: أنا، قال: فمن ربّك؟ قال: النمرود، قال: فمن ربّ النمرود؟

فلطمه لطمة و قال له: اسكت.

فلمّا جنّ عليه الليل، دنا إبراهيم عليه السّلام من السرب، فنظر من خلال الصخرة، فرأى السماء و ما فيها من الكواكب، فتفكّر في خلق السماوات، فقال: إنّ ربّى الّذي خلقني و رزقني و أطعمني و سقاني مالي إله غيره، ثمّ نظر في السماء، فرأى كوكبا، قال: هذا ربّي، ثمّ أتبعه بصره، ينظر إليه حتّى غاب، فلمّا أفل قال: لا

ص: 312

احبّ الآفلين، ثمّ رأى الشمس و القمر، فقال فيهما كما قال في حقّ الكواكب.

و اختلف في هذا البيان؛ فبعض أجراه على الظاهر و قالوا: كان إبراهيم عليه السّلام في ذلك الوقت مسترشدا، طالبا لمعرفة التوحيد و كان ذلك الأمر في حال طفوليّته قبل أن يجري عليه القلم، فلم يكن كفرا و لم يضرّه ذلك في الاستدلال.

و أنكر الآخرون هذا القول و قالوا: كيف يتصوّر من مثله أن يرى كوكبا و يقول: هذا ربّي معتقدا؟ و إنّما قال ذلك في مقام الاحتجاج على الخصم، و لإثبات التوحيد و إلزام الطرف و كان مستسلما لربّه الكريم و على الصراط المستقيم.

في كتاب السماء و العالم، في النجوم، بإسناده عن الكلينيّ- ره- في كتاب تعبير الرؤيا، عن محمّد بن منام، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قوم يقولون: النجوم أصحّ من الرؤيا، و ذلك كان صحيحا حتّى لم يردّ الشمس على يوشع بن نون و عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام فلمّا ردّ اللّه الشمس عليهما، ضلّ فيها علماء النجوم.

في الكافي، عن هشام الخفّاف، قال: قال الصادق عليه السّلام: يا هشام، كيف نظرك بالنجوم؟ قلت: ليس بالعراق أحد أبصر منّي في النجوم، فقال عليه السّلام: كيف دوران الفلك عندكم؟ قال هشام: فأخذت قلنسوتي من رأسي فأدرتها، فقال عليه السّلام: إن كان كذلك، فما بال بنات النعش و الجدي و الفرقدين لا يرون يدورون يوما من الدهر في القبلة؟.

ثمّ قال عليه السّلام: يتقابلان ملكان للحرب و حاسبان لهما، فيحسب هذا لصاحبه بالظفر، ثمّ يلتقيان فيهزم أحدهما الآخر، أو يجي ء ملك آخر، فيهزمهما، فأين كانت النجوم؟

ثمّ قال عليه السّلام: إنّ اصل الحساب في النجوم حقّ و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم.

قال المجلسيّ: و بالجملة من أدلّ الدلائل على بطلان قول المنجّمين أنّا قد علمنا أنّ من جملة معجزات الأنبياء الإخبار عن الغيوب و عدّ ذلك خارقا للعادات، كإحياء الميّت و إبراء الأكمه و الأبرص و لو كان العلم بما يحدث طريقا نجوميّا، لم

ص: 313

يكن ما ذكرناه معجزا و لا خارقا للعادة و كيف يشتبه على مسلم بطلان أحكام النجوم و قد أجمع المسلمون قديما و حديثا على تكذيب المنجّمين و الشهادة بفساد مذاهبهم؟ و معلوم من دين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ضرورة التكذيب بما يدّعيه المنجّمون. و في الروايات عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك ما لا يحصى فأمّا ما أصابتهم في الإخبار عن الكسوف و الخسوف و أمثالهما فالفرق بينها و سائر ما يخبرون به من تأثيرات الكواكب أنّ الكسوفات و الاقترانات و الانفصالات طريقه الحساب و سير الكواكب، و له اصول صحيحة و قواعد سديدة، و ليس كذلك ما يدّعونه من تأثيرات الكواكب في الخير و الشرّ و النفع و الضرر، فيقع فيها خطاء و كذب كثير.

قوله تعالى: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» استشكل بعض في هذه الآية بوجهين: أحدهما أنّه حكى عن بيّنة النظر في النجوم مع أنّه ممنوع، و الآخر قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» و ذلك كذب.

و أجاب السيّد المرتضى في كتاب تنزيه الأنبياء بوجوه.

الأوّل أنّ إبراهيم عليه السّلام كانت به علّة تأتيه في أوقات مخصوصة، فلمّا دعوه إلى عيدهم بالخروج معهم نظر إلى النجوم ليعرف نوبة علّته، فقال: إنّي سقيم، أي شارفت الدخول فيها و العرب تسمّي الشارف للشي ء الداخل فيه، كما قال: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ». (1) فلو قيل: على هذا يكون يقول: فنظر إلى النجوم لأنّ لفظة «في» لا تستعمل إلّا فيمن ينظر كما ينظر المنجّم؛ فالجواب: إنّ حروف الصفات يقوم و يستعمل بعضها مقام بعض، مثل قوله: «وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» (2) و إنّما أراد: على جذوع النخل و يجوز أن يكون معناه: أنّه شخص ببصره إلى السماء، كما يفعل المتفكّر و المتأمّل استعانة على فكره و عذره في الجواب.

قال العلّامة المجلسيّ: و يمكن أن يقال: إنّ حرمة النظر في علم النجوم على

ص: 314


1- الزمر: 31.
2- طه: 74.

الأنبياء و الأئمّة العالمين بها حقّ العلم غير مسلّم و إنّما يحرم على غيرهم لعدم إحاطتهم بهذا العلم.

و يؤيّد هذا الكلام ما في كتاب الاحتجاج عن أبان بن تغلب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من أهل اليمن، فسلّم عليه، فردّ عليه، فقال له:

مرحبا يا سعد، فقال له الرّجل: بهذا الاسم سمّتني أمّي، و ما أقلّ من يعرفني به! فقال عليه السّلام: صدقت يا سعد المولى، فقال له الرجل: بهذا كنت ألقّب، قال: لا خير في اللقب؛ قال اللّه: «وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ» ثمّ قال عليه السّلام: ما صناعتك يا سعد، قال:

أنا من أهل بيت ننظر في النجوم و لا يقال: إنّ باليمن أحدا أعلم بالنجوم منّا.

فقال عليه السّلام: فكم ضوء المشتري على ضوء القمر درجة؟ فقال اليمانيّ: لا أدري:

فقال عليه السّلام: فكم ضوء المشتري على ضوء عطارد درجة؟ فقال اليمانيّ: لا أدري.

فقال الصادق عليه السّلام: فما اسم النجم الّذي إذا طلع هاجت الإبل؟ فقال اليمانيّ:

لا أدري.

قال عليه السّلام: فما اسم النجم الّذي إذا طلع هاجت البقر؟ قال: لا أدري، قال عليه السّلام:

فما اسم النجم الّذي إذا طلع هاجت الكلاب؟ فقال لا أدري.

قال عليه السّلام: فما زحل عندكم في النجوم؟ قال اليمانيّ: نجم نحس، فقال عليه السّلام:

لا تقل هذا؛ فإنّه نجم أمير المؤمنين و هو نجم الأوصياء و هو النجم الثاقب الّذي ذكره اللّه في القرآن، فقال اليمانيّ: فما معنى الثاقب، فقال عليه السّلام: إنّ مطلعه في السماء السابعة و إنّه ثقب بضوئه حتّى أضاء في السماء الدنيا.

و الحديث طويل إلى أن يقول عليه السّلام: و إنّ عالم المدينة- و المراد نفسه النفيسة- لا يقفو الأثر، أي لا يحتاج في علمه بالحوادث إلى تلك الأمور، بل يعلم في لحظة واحدة بما أعطاه اللّه من العلم ما يقع فيما يطلع عليه الشمس و تقطعه و اثنا عشر عالما من أصناف الخلق و منها جابلقا و جابرسا، يعنى إذا أراد يعلم ما يحدث في اللحظة الواحدة، في جميع تلك العوالم.

و في كتاب الاحتجاج عن سعيد بن جبير: قال: استقبل أمير المؤمنين دهقان من

ص: 315

دهاقين الفرس، فقال له بعد التهنئة: يا أمير المؤمنين، تناحست النجوم الطالعات و إذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء و يومك هذا يوم صعب، قد انقلب فيه كوكبان و انقدح من برجك النيران و ليس لك الحرب بمكان، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:

يا دهقان المنبئ بالآثار؛ المحذّر من الأقدار، ما قصّة صاحب الميزان و قصّة صاحب السرطان؟ و كم بين السراري و الذراري؟ قال: الدهقان سأنظر، و أومأ بيده إلى كمّ و أخرج أسطرلابا، ينظر فيه، فتبسّم عليه السّلام، فقال: أ تدري ما حدث البارحة وقع بالصين و انفرج برج ماجين و سقط سور سرانديب و انهزم بطريق الروم بإرمنيّة و فقد ديّان اليهود بإيلة و هاج النمل بوادي النمل و هلك ملك إفريقيّة، أ كنت عالما بهذا؟ قال:

لا يا أمير المؤمنين، فقال عليه السّلام: البارحة سعد سبعون ألف عالم و ولد في كلّ عالم سبعون ألفا، و اللّيلة يموت مثلهم و هذا منهم (و أومأ بيده إلى سعد بن سعدة الحارثيّ و كان جاسوسا للخوارج في عسكره- عليه السّلام- فظنّ الملعون أنّه يقول: خذوه، فأخذ بنفسه، فمات) فخرّ الدهقان ساجدا.

في كتاب الدرّ المنثور: قيل: السبب في كراهة علم النجوم لسبب الاختلاف الّذي وقع فيها، كما نقله عطاء، فحينئذ لا يمكنهم الحساب و الحكم الواقعيّ على الكواكب و حركاتها فيكذبون؛ أو من جهة أنّه يصير سببا لترك الأمور الضروريّة بسبب علمهم بما يترتّب على حسابهم.

[سورة البقرة (2): آية 132]

وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

. [وَ وَصَّى التوصية: تقديم ما فيه خير و صلاح من قول أو فعل إلى الغير، دينيّا أو دنيويّا [بِها] أي بالملّة المذكورة في قوله تعالى: «وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ» [إِبْراهِيمُ بَنِيهِ أي أولاده المذكورين [وَ يَعْقُوبُ عطف على إبراهيم، أي وصّى يعقوب أيضا بنيه بهذه الوصيّة. و يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم، «بَنِيهِ» الاثني عشر: روبيل و شمعون و لاوي و يهودا و يستسوخور و زبولون و نوانا و نفتونا و كوزا و اوشير و بنيامين و يوسف.

ص: 316

و عاش يعقوب مائة و سبعا و أربعين سنة بأرض مصر و أوصى أن يحمل إلى الأرض المقدّسة و يدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف فدفنه عنده [يا بَنِيَ على إضمار القول عند البصريّين، تقديره: وصّى و قال: يا بنيّ و ذلك جملة و الجملة لا يقع مفعولا إلّا لأفعال القلوب أو فعل القول عندهم [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي دين الإسلام و لا دين عنده غيره [فَلا تَمُوتُنَ أي لا يكون يصادفكم الموت [إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ و مخلصون بالتوحيد و ذلك حين دخل يعقوب مصر، فرأى أهلها يعبدون الأصنام، فأوصى بنيه بأن يثبتوا على الإسلام، لأنّ الإنسان إذا أنس و عاشر بأهل الشرّ يخاف عليه أن يتخلّق بأخلاقهم.

كتب بعض العلماء إلى تلميذ له: أمّا بعد، فإنّك قد أصبحت تأمل الدنيا بطول عمرك و تتمنّى على اللّه الأماني بسوء فعلك، و إنّما تضرب حديدا باردا، و السلام.

و حسن الظنّ باللّه إنّما يعتبر بعد إصلاح الحال بالأخلاق و الأعمال و اليقين.

و القائلون بالطبائع، هم الّذين يسندون الأفعال إلى مجرّد الطبائع و هو قول سخيف و كفر و باطل؛ فإنّ الطبيعة قوّة جسمانيّة، و كلّ جسم محدث؛ فكلّ قوّة جسمانيّة، و كلّ جسم محدث؛ فكلّ قوّة حالّة فهي محدثة تفتقر إلى محدث غير طبيعيّة و إلّا لزم التسلسل، فلا بدّ من القول بالصانع.

[سورة البقرة (2): آية 133]

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

[أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ نزلت الآية حين قالت اليهود للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ لست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهوديّة يوم مات؟ فأجاب اللّه هل كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب و قال لبنيه ما قال؟ أي ما كنتم حضورا وقت موته لمّا قال [لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي أيّ شي ء تعبدونه؟ فلا تدّعوا و تنسبوا إلى رسلي الأباطيل من اليهوديّة و النصرانيّة، فإنّي ما بعثتهم إلّا بالحنيفيّة، و إنّما قال عليه السّلام:

«ما تَعْبُدُونَ» و لم يقل: «من تعبدون» لأنّ الناس كانوا يعبدون الأصنام.

[قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ أي نعبد الإله المتّفق

ص: 317

على وجوده، و جعل إسماعيل و هو عمّه من جملة الآباء، تغليبا للأب و الجدّ، فثبت بهذا أنّ العمّ يطلق على الأب كما أشرنا إليه في قصّة آزر [إِلهاً واحِداً] بدل من «إِلهَ آبائِكَ» [وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ حال من فاعل نعبد.

[سورة البقرة (2): آية 134]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)

[تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ تلك إشارة إلى الامّة المذكورة الّتي هي إبراهيم و يعقوب و بنوهما؛ أي جماعة قد مضت بالموت و أصله: صارت إلى الخلأ و هي الأرض الّتي لا أنيس بها [لَها ما كَسَبَتْ أي لها كسبها لا كسب غيرها [وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ لا كسب غيركم [وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا تؤاخذون بسيّئات الامّة الماضية.

و حاصل المعنى أنّ اليهود لمّا كانوا مفتخرين بأوائلهم فردّهم اللّه بأنّهم لا ينفعهم انتسابهم إليهم و إنّما ينفعهم اتّباعهم في الأعمال، فإنّ أحدا لا ينفعه كسب غيره، كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.

و ما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة

[سورة البقرة (2): آية 135]

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

[وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى .

النزول: عن ابن عبّاس أنّ جماعة من اليهود و جماعة من النصارى من أهل نجران خاصموا المسلمين، كلّ فرقة منهم تزعم أنّها أحقّ بدين اللّه من غيرها، فقالت اليهود: نبيّنا موسى أفضل الأنبياء و كتابنا التوراة أفضل الكتب، و قالت النصارى:

نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء و كتابنا الإنجيل أفضل الكتب، و كلّ فريق منهما قالوا للمؤمنين: كونوا على ديننا، فنزلت الآية.

[وَ قالُوا] أي رؤساء اليهود و رؤساء النصارى للمسلمين: كونوا على ديننا [تَهْتَدُوا] جواب للأمر، أي: إن تكونوا كذلك، تجدوا الهداية [قُلْ يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: [بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي أهل ملّته و دينه على حذف المضاف، أي بل نتّبع ملّته [حَنِيفاً] أي مائلا

ص: 318

عن كلّ دين باطل إلى دين الحقّ و هو حال من إبراهيم، و تذكّر «حَنِيفاً» بتأويل الملّة بالدين [وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بهم بالشرك، بقولهم: «عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ و الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ».

[سورة البقرة (2): آية 136]

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

[قُولُوا] أيّها المؤمنون: [آمَنَّا بِاللَّهِ وحده [وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا] أي بالقرآن الّذي انزل على نبيّنا، و الإنزال إليه إنزال إلى امّته [وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ من صحفه العشر، و ما انزل إلى [إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ و إلى [الْأَسْباطِ] و المراد هنا أولاد يعقوب، و السبط: أصل شجرة واحدة لها أغصان كثيرة، و سبط الرجل: ولد ولده، و الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب و الشعوب من العجم، و الصحف و إن كانت نازلة إلى إبراهيم، لكنّ من بعده حيث كانوا متعبّدين بتفاصيلها جعلت منزلة إليهم، كما جعل القرآن منزلا إلينا.

[وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى من التوراة و الإنجيل [وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ جملة المذكورين منهم و غير المذكورين [مِنْ رَبِّهِمْ في موضع الحال من العائد المحذوف و التقدير: و ما أوتيه النبيّون منزلا عليهم من ربّهم.

[لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كاليهود فنؤمن ببعض و نكفر ببعض؛ لأنّه اتّحدوا في الأصول و كلّهم على كلمة واحدة في الأصول [وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي و الحال: أنّا مخلصون للّه و مذعنون.

[سورة البقرة (2): آية 137]

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

[فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ أخبر اللّه أنّ هؤلاء الكفّار متى آمنوا على حدّ ما آمن المؤمنون به [فَقَدِ اهْتَدَوْا] إلي طريق الجنّة و سلكوا طريق الاستقامة و حصل بينكم الاتّفاق [وَ إِنْ تَوَلَّوْا] و أغضوا عن الإيمان على الوجه المذكور بأن أخلّوا

ص: 319

بشي ء من ذلك [فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي مستقرّون في خلاف عظيم، بعيد عن الحقّ، فقوله: «فِي شِقاقٍ» خبر لقوله: «هم» و جعل الشقاق لهم و هم مظروفون له مبالغة في الإخبار باستيلائه عليهم، فكان كلّ واحد من الفريقين في شقّ غير شقّ صاحبه.

ثمّ عقّب سبحانه بتسلية الرسول و ضمان التأييد بقوله [فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أمر اليهود و النصارى، و يدفع شرّهم عنك و ينصرك عليهم، و قد أنجز اللّه وعده له بالقتل و الجزية و الذلّة في نصارى نجران [وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع ما تدعو به و يعلم ما في قلبك.

[سورة البقرة (2): آية 138]

صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)

«الصبغة» من الصبغ، كالجلسة من الجلوس و هي الحالة الّتي تقطع عليها الصبغ.

عبّر بها عن الإيمان و مستعارة لفطرة اللّه التي فطر الناس عليها و تقدير الكلام: صبغنا اللّه صبغة و فطرنا و خلقنا على استعداد الإيمان، أو ألزموا صبغة اللّه و تطهير اللّه، لا صبغتكم و تطهيركم. و عبّر عن لفظ الإيمان و الفطرة بلفظ الصبغة لوقوعه في صحبة صبغة النصارى؛ إذ كانوا يصبغون أولادهم في سابع الولادة مكان الختان للمسلمين، بغمسهم في الماء الأصفر الّذي يسمّونه المعموديّة، و هي اسم ماء غسل به عيسى فمزّجوه بماء آخر و كلّما يستعملوا منه جعلوا مكانه ماء آخر و هو علامة تنصّرهم و لا يتحقّق التنصّر إلّا بهذا الفعل.

[وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً] و الاستفهام بمعنى الجحد، و «مَنْ أَحْسَنُ» مبتدأ و خبر، و التقدير: و من صبغته أحسن من صبغة اللّه؟ و أيّ شخص تكون صبغته أحسن من صبغة اللّه؟ فإنّه يصبغ و يميّز عباده بالإيمان و يطهّرهم به [وَ نَحْنُ لَهُ أي للّه، أولانا تلك النعمة [عابِدُونَ و تقدّم الظرف للاهتمام و رعاية الفواصل و هو عطف على آمنّا، فإذا كان حرفة العبد العبادة فقد زيّن نفسه بصبغ حسن.

قال بعض العلماء: لا يكمل التعبّد لأحد حتّى لا يجزع من أربعة: من الجوع و العرى و الفقر و الذّل، و للعبد أوقات، فإذا كان في الطاعة فعليه بتخليصها، و إذا كان في النعمة فعليه بشكرها و إذا كان في البليّة فعليه بالصبر عليها و الرضى، و إذا كان في المعصية

ص: 320

فبتداركها سريعا بالتوبة و لكلّ وقت منها سهم في العبوديّة يقتضيه الحقّ منك بحكم الربوبيّة، فمن راقب الأوقات الأربع وصل إلى الدرجات.

نقل أنّ السريّ السقطيّ قال: مكثت عشرين سنة أفيض خلق اللّه، فلم يقع في شبكتي إلّا واحد كنت أتكلّم في المسجد الجامع ببغداد يوم الجمعة و قلت: عجبت من ضعيف عصى قويّا؛ فلمّا كان يوم السبت و صلّيت الغداة إذا أنا بشابّ قد وافى و خلفه غلمان و حاشية و هو راكب على دابّته، فقال: أيّكم السريّ، فأومأ جلسائي إليّ فسلّم عليّ و جلس و قال: سمعتك تقول: عجبت من ضعيف عصى قويّا، فما أردت به؟

فقلت: ما ضعيف أضعف من بني آدم، و لا قويّ أقوى من اللّه تعالى و قد تعرّض ابن آدم مع ضعفه إلى معصيته قال: فبكى الشابّ.

ثمّ قال: يا سريّ، هل يقبل ربّك غريقا مثلي؟ قلت: و من ينقذ الغرقى إلّا اللّه؟ قال يا سريّ إنّ عليّ مظالم كثيرة كيف أصنع؟ قال: إذا صحّحت الانقطاع إلى اللّه أرضى عنك الخصوم، بلغنا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إذا كان يوم القيامة و اجتمع الخصوم على وليّ اللّه، و كل لكلّ منهم ملكا يقول: لا تروّعوا وليّ اللّه، فإنّ حقّكم اليوم على اللّه، فبكى الشابّ.

ثمّ قال: صف لي الطريق إلى اللّه، فقلت: إن كنت تريد المقتصدين فعليك بالصيام و القيام و ترك الآثام، و إن كنت تريد طريق الأولياء فاقطع العلائق و اتّصل بخدمة الخالق فبكى حتّى بلّ منديلا له، و انصرف و كان من أمره كيت و كيت من ترك الدنيا و السكون في المقابر و تغيّر الحال حتّى توفّي على تلك الحالة، قال السّريّ: فحلمت يوما عيناي فإذا به يزّمّل في السندس و الإستبرق و يقول لي: جزاك اللّه خيرا، فقلت له:

ما فعل اللّه بك؟ قال: أدخلني الجنّة و لم يسألني عن ذنب. انتهى.

[سورة البقرة (2): آية 139]

قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

[قُلْ يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لليهود و النصارى: [أَ تُحَاجُّونَنا] أ تخاصموننا [فِي اللَّهِ ؟ أي في دين اللّه، و تدّعون أنّ دينه الحقّ هو اليهوديّة و النصرانيّة و تبنون دخول الجنّة

ص: 321

عليهما و تقولون تارة: لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى، و تارة تقولون:

كونوا هودا أو نصارى تهتدوا [وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ و الحال أنّه لا وجه للمجادلة؛ لأنّه مالك أمرنا و أمركم [وَ لَنا أَعْمالُنا] الحسنة الموافقة لأمره [وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ السيّئة المخالفة لحكمه، فكيف تدّعون أنّكم أولى باللّه؟ [وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ لا نبتغي إلّا وجهه و أنتم به مشركون. و الإخلاص تصفية العمل عن الشرك و الرياء و الدنيا و ملاحظة المخلوقين.

[سورة البقرة (2): آية 140]

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

[أَمْ تَقُولُونَ «أم» معادلة للهمزة في قوله: «أَ تُحَاجُّونَنا» و المراد إنكار كلا الأمرين أي أ تحاجّوننا في دين اللّه أم تقولون: إنّ الأنبياء كانوا على دينكم؟ فبأيّ الحجّتين تتعلّقون في إقامة الحجّة على حقيّتهم و تدّعون [إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ] و هي حفدة يعقوب و هم أولاد أولاده الاثنى عشر [كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى و تقولون: نحن مقتدون بهم؟ و كيف تقولون في حقّ الأنبياء الّذين بعثوا قبل نزول التوراة و الإنجيل: إنّهم كانوا هودا أو نصارى و من المحال أن يقتدي المتقدّم بالمتأخّر و يستنّ بسنّته؟

[قُلْ يا محمّد [أَ أَنْتُمْ و الهمزة للإنكار [أَعْلَمُ بدينهم [أَمِ اللَّهُ أعلم؟ [وَ مَنْ أَظْلَمُ و الاستفهام في قوله «و من» بمعنى النفي [مِمَّنْ كَتَمَ و أخفى و ستر عن الناس [شَهادَةً] ثابتة [عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ أي و ما أحد أظلم ممّن يكون عنده شهادة من اللّه فيكتمها و ادّعى أنّ الأنبياء كانوا على دينهم، و المراد من هذا الكتمان أنّ اللّه بيّن في كتابه صحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و البشارة.

و قيل: المراد بالشهادة في الآية و كتمانها أنّ إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و أولاده كانوا حنفاء مسلمين فكتموا هذه الشهادة و ادّعوا أنّهم كانوا على دينهم فهذه شهادة كانت من اللّه عندهم و كتموها.

ص: 322

و قيل في معنى الآية: إنّ المراد من أظلم في كتمان الشهادة من اللّه لو كتمها، أي إنّه يلزمكم أنّه لا أحد أظلم من اللّه إذ كتم شهادة عنده و أوقع عباده في الضلال و هو الغنيّ عن ذلك، و لو كانوا هودا أو نصارى لأخبر بذلك.

[وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ و لا يخفى عليه شي ء من المعلومات فكونوا على حذر من الجزاء من مفترياتكم في دين اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 141]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

قد مضى تفسيره، و الوجه في تكراره أنّه عنى بالأوّل إبراهيم و من ذكر معه من الأنبياء، و بالثاني أسلاف اليهود: و إذا اختلف الأزمان و المواطن لم يكن التكرار معيبا بل يكون لازما.

و حاصل آخر للآية و ذكرها: و هو أنّه لو سلّم لكم ما ادّعيتم من أنّ الأنبياء كانوا على دين اليهوديّة و النصرانيّة فليس لكم فيه حجّة لأنّه لا يمتنع اختلاف الشرائع بالمصالح؛ فله أن ينسخ من الشرائع ما شاء و يقرّ منها ما شاء على حسب ما يقتضيه حكمته و أمره.

[سورة البقرة (2): آية 142]

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

[سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين و اليهود و النصارى و المشركين، و إنّما كانوا سفهاء لأنّهم رغبوا عن ملّة إبراهيم و قد قال سبحانه:

«وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» أي أذلّها بالجهل.

و حاصل المعنى أنّ الّذين ضعفت عقولهم من الناس: [ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها] «ما» استفهاميّة إنكاريّة مرفوعة المحلّ على الايتداء و «وَلَّاهُمْ» خبره، أي أيّ شي ء صرفهم. و القبلة من المقابلة لأنّ المصلّي يقابلها و حوّلهم عن قبلتهم و هي البيت المقدّس، ثمّ انصرفوا منها إلى الكعبة لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى إلى البيت المقدّس بعد مقدمه المدينة نحوا من سبعة عشر شهرا تأليفا لقلوب اليهود ثمّ صارت الكعبة قبلة المسلمين إلى نفخ الصور.

ص: 323

[قُلْ يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله لهم: [لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ أي الأمكنة بأسرها له ملكا و تصرّفا فلا يستحقّ شي ء منها أن يكون لذاته قبلة حتّى يمتنع إقامة غيره مقامه، فله أن يأمر في كلّ وقت بالتوجّه إلى جهة من تلك الجهات على حسب مشيئته، فاللائق بالمخلوق أن يطيع خالقه فإنّ الطاعة ليست إلّا الامتثال و ليس للعبد أن يتحرّى خصوصيّة في المأمور به أمرا زائدا على الأمر و أنّ اليهود أحبّوا جهة المغرب حيث زعموا أنّ موسى عليه السّلام كان في جانب المغرب، فأكرمه اللّه بكلامه و وحيه، و النصارى أحبّوا جهة المشرق حيث زعموا أنّ مريم حين خرجت من بلدها مالت إلى جهة المشرق كما قال اللّه: «وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا» (1) و المؤمنون استقبلوا الكعبة طاعة للّه و امتثالا لأمره، لا ترجيحا لبعض الجهات مع أنها قبلة إبراهيم و مولد نبيّهم.

[يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو التوجّه إلى بيت المقدس تارة و الكعبة اخرى.

[سورة البقرة (2): آية 143]

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)

[وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] الكاف للتشبيه، و المشبّه به الاصطفاء عن إبراهيم، أي فكما اصطفينا إبراهيم في الدنيا فكذلك جعلناكم امّة وسطا، و المشبّه به الهداية أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم امّة وسطا.

أو المعنى: كما هديناكم إلى أوسط القبل، كذلك جعلناكم امّة وسطا، و الوسط هو العدل كما روي عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: امّة وسطا أي عدلا، و خير الأمور أوسطها أي أعدلها؛ قال زهير:

ص: 324


1- مريم: 17.

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي العظائم

فمدحهم اللّه بكونهم عدولا و لذلك جعلهم شهودا، كما قال: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»(1) و ذلك لأنّهم متوسّطون في الدين بين المفرط و الغالي؛ فلا قصّروا كتقصير اليهود حيث قتلوا أنبياءهم و حرّفوا التوراة، و لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا له تعالى ابنا و إلها.

[لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ روى الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ في كتاب شواهد التنزيل بإسناده عن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إيّانا عنى بقوله:

«لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» بأعمالهم، فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاهد علينا و نحن شهداء اللّه على خلقه و حجّته في أرضه و نحن الّذين قال تعالى: «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ».

[وَ يَكُونَ الرَّسُولُ أي محمّد صلّى اللّه عليه و آله [عَلَيْكُمْ شَهِيداً] فلو قيل: إنّ الشهادة إذا كانت ضارّة تتعدّى بعلى و إذا كانت نافعة تتعدّى باللام، لأنّ المراد من كلمة «على» تضمّن معنى الرقيب و المطّلع، فحسن التعبير بعلى.

[وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها] و هي الكعبة، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان- و هو بمكّة- مأمورا بأن يصلّي إلى الكعبة، ثمّ لمّا هاجر إلى المدينة امر بالصلاة إلى بيت المقدس، ثمّ أعيد إلى ما كان عليه و المعنى: ما رددناك إلى ما كنت عليه و على استقباله [إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ في التوجّه إلى ما امر به [مِمَّنْ يَنْقَلِبُ و ينصرف [عَلى عَقِبَيْهِ العقب مؤخّر القدم مستعار للارتداد و الرجوع عن الدين و الطريق.

أي ليتميّز الثابت على الإسلام من المتردّد، و اللّازم من العلم التميز و تسمية الملزوم باسم اللازم و بالعكس شائع، و ليس المراد أنّه تعالى لم يعلم حالهم ثمّ علم لأنّه كان عالما في الأزل بهم و بكلّ حال من أحوالهم الّتي تقع في كلّ زمان من أزمنة وجودهم.

و نظيره في الإشكال قوله: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ» (2)

ص: 325


1- آل عمران: 106.
2- محمد: 33.

و قوله: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» (1) و قوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (2)«وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ» (3) و أمثال هذه الآيات.

و قيل: معنى العلم في مثل هذه الآيات الرؤية أي لنرى، و العرب تضع العلم مكان الرؤية، و الرؤية مكان العلم كقوله: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ»* و قال الفرّاء وجه آخر: و هو أنّ حدوث العلم في الآية راجع إلى المخاطبين، و مثاله أنّ جاهلا و عاقلا اجتمعا، فيقول الجاهل: الحطب يحرق النار، و يقول العاقل: النار يحرق الحطب، و سنجمع بينهما لنعلم أيّهما يحرق صاحبه، فكذلك قوله «إِلَّا لِنَعْلَمَ» أي إلّا لتعلموا، و الغرض من هذا الجنس من الكلام الرفق في الخطاب لا يراد المعنى المراد كقوله: «وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً» (4) فأضاف الكلام الموهم للشّك ترقيقا للكلام و رفقا للمخاطب و الوجه الأوجه الوجه الأوّل انتهى.

[وَ إِنْ كانَتْ القبلة المحوّلة [لَكَبِيرَةً] أي شاقّة ثقيلة على من يألف التوجّه إلى القبلة المنسوخة و «إن» هي المخفّفة من المثقّلة و اسمها محذوف و هو القبلة [إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هداهم اللّه و تيقّنوا أنّ السعيد الفائز من أطاع أمر مولاه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم مثابون على الاتّباع فقال: [وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ و ثباتكم على التصديق بما جاء به النبيّ [إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ متعلّق «برءوف» [لَرَؤُفٌ و ذو مرحمة [رَحِيمٌ يغفر ذنوبهم بالإيمان و إيصال الرزق.

روي أنّه أخذ بعض الأمراء قاتلا في زمن داود عليه السّلام فصلب فوق الجبل عشاء و رجع الناس إلى منازلهم و بقي على الخشبة وحده و تضرّع إلى آلهته و لمّا يمت فلم يغنوا عنه شيئا، ثمّ رجع إلى اللّه و قال: أنت اللّه الحقّ أتيت إليك لتغيثني فأغثني برحمتك، قال اللّه: يا جبرئيل إنّ هذا عبد آلهته طويلا فلم ينتفع ففزع إليّ و دعاني،

ص: 326


1- الأنفال: 68.
2- آل عمران: 136.
3- سبا: 20.
4- سبا: 23.

فاستجبت له فاهبط وضعه على الأرض في سلامة ففعل، فلمّا أصبحوا رأوه و هي يصلّي للّه فأخبروا داود عليه السّلام بذلك، فدعا اللّه فيه مستكشفا سرّه فأوحى اللّه إليه: يا داود إنّي أرحم من آمن بي و دعاني فإن لم أفعل فأيّ فرق بيني و بين آلهته و من توجّه بقلبه إلى اللّه و ادّعى المحبّة فليكن لا يكذّب فعله قوله، و ليكن البلوى عنده ألذّ من الحلوى فذلك صدق فيما ادّعى، و ليعدّ الالتفات إلى غيره من الاحتياط و لو بأكل لقمة مشوبة في عمره و تحسبها من الموانع في الارتقاء.

[سورة البقرة (2): آية 144]

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

[قَدْ نَرى مستقبل معناه الماضي أي شاهدنا و علمنا [تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ] و تردّد نظرك في جهة السماء، روي عن ابن عبّاس أنّه قال: يا جبرئيل وددت أنّ اللّه صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال جبرئيل: أنا عبد مثلك فاسأل ربّك ذلك و كان صلّى اللّه عليه و آله يحبّ التغيير لكن لا يتكلّم بذلك، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يديم النظر إلى السماء رجاء مجي ء جبرئيل، فأنزل اللّه الآية.

و السبب في أنّه صلّى اللّه عليه و آله يحبّ تغيير القبلة أمور:

منها أنّ الكعبة كانت قبلة إبراهيم و كان اليهود يقولون: إنّه يخالفنا ثمّ يتّبع قبلتنا و لو لا نحن لم يدر أين يستقبل.

و منها أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقدّر أن يصير ذلك سببا لاستمالة العرب و لدخولهم في الإسلام.

و منها أنّه صلّى اللّه عليه و آله أحبّ أن يحصل هذا الشرف للمسجد الّذي في بلدته و كان قد وعد صلّى اللّه عليه و آله بتحويل القبلة عن بيت المقدس فكان ينقلب وجهه انتظارا للوعد و توقّعا للموعود.

[فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها] أي فو اللّه لنعطينّكها و لنمكّننّك من استقبالها و واليا لها ترضاها و تحبّها و تتشوّق إليها لأنّك تحبّها لمقاصد دينيّة وافقت مشيّة اللّه.

ص: 327

[فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و المراد بالوجه هاهنا جملة البدن، و تخصيص الوجه بالذكر للتنبيه على أنّه الأصل في التوجّه و الاستقبال، و المراد بالشطر:

النحو، قال الرازيّ: الشطر لفظ مشترك بين معنيين، النصف، و الجانب؛ و المتبادر من لفظ «المسجد الحرام» هو المسجد الأكبر الّذي فيه الكعبة و «الحرام» أي المحرّم فيه القتال و الممنوع من الظلمة أن يتعرّضوا له و سائر امور محرّم وقوعه فيه، و في ذكر المسجد دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة، لأنّ استقبال عينها للبعيد متعذّر و فيه حرج عظيم بخلاف القريب.

[وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ الخطاب الأوّل له صلّى اللّه عليه و آله و هذا الخطاب لكافّة الناس أي في أيّ موضع كنتم و أردتم الصلاة فولّوا وجوهكم نحوه و طرفه، و لو اقتصر على الأوّل لظنّ ظانّ أنّ ذلك قبلته فحسبه فبيّن سبحانه أنّه قبلة لجميع المصلّين.

قال ابن عبّاس: البيت كلّه قبلة، و قبلة البيت الباب، و البيت قبلة أهل المسجد، و المسجد قبلة أهل الحرم، و الحرم قبلة أهل الأرض كلّها، و هذا موافق لما قاله أصحابنا:

إنّ الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق.

[وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أراد به علماء اليهود و النصارى [لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي التحويل إلى الكعبة [الْحَقُ الثابت [مِنْ رَبِّهِمْ لما أنّ المسطور في كتبهم أنّه صلّى اللّه عليه و آله يصلّي إلى القبلتين و معنى «من ربّهم» أي من قبل ربّهم، لا شي ء ابتدعه الرسول من قبل نفسه.

[و ما الله بغافل عما تعملون خطاب للمسلمين و أهل الكتاب جميعا على التغليب فيكون وعدا للمسلمين بالإثابة و وعيدا للمخالفين بأوامر اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 145]

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

[وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ] و لئن أتيت الّذين، في الكلام معنى

ص: 328

القسم أي و اللّه لئن أتيت الّذين اعطوا الكتاب من اليهود و النصارى بكلّ برهان قاطع على أنّ التوجّه إلى الكعبة هو الحقّ [ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ عنادا و مكابرة و هذا في حقّ قوم معيّنين علم اللّه أنّهم لا يؤمنون فإنّ منهم من آمن و تبع القبلة.

[وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ حتم لإطماعهم إذ كانوا تناجوا في ذلك و قالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا الّذي ننتظره و طمعوا في رجوعه إلى قبلتهم.

[وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فإنّ اليهود يستقبل الصخرة و النصارى مطلع الشمس، لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك؛ لتصلّب كلّ فريق فيما هو فيه.

[وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ و وافقتهم في مراداتهم بأن صلّيت إلى قبلتهم مداراة لهم و طمعا في إيمانهم [مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي الوحي الّذي هو طريق العلم، أو المعنى من بعد ما علمت أنّ الحقّ ما أنت عليه من القبلة [إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ و هذا الكلام مثل قوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» قال ابن عبّاس: إنّ أمثال هذه الخطابات في القرآن و لو أنّها إليه لكنّه المراد الامّة كقولهم: إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

[سورة البقرة (2): آية 146]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146)

[الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ أخبر اللّه بأنّ أهل الفهم و الدراسة من اليهود و النصارى يعرفون النبيّ و صحّة نبوّته بأوصافه الشريفة المكتوبة في كتابهم كما لا يشتبه عليهم أبناؤهم [وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ و هم الّذين كابروا و عاندوا الحقّ [لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه و أنّ الكعبة قبلة اللّه، لأنّه مذكور في كتابهم: أنّ هذا النبيّ يصلّي على القبلتين، و إنّما قال: فريقا منهم لأنّ بعضهم صدّقوا و آمنوا به كعبد اللّه بن سلام و أصحابه و كعب الأحبار و غيره و ما كتموا و أمّا الجهلة منهم فليست لهم معرفة بالكتاب و ما هم بصدد الإظهار و لا بصدد الكتم و إنّما كفرهم على وجه التقليد.

[سورة البقرة (2): آية 147]

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

ص: 329

[الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ «الحقّ» مبتدأ، و «من ربّك» خبره. و اللام للعهد و الإشارة إلى ما عليه النبيّ أو إلى الحقّ الّذي يكتمونه أو للجنس، و المعنى: أنّ الحقّ من اللّه لا من غيره و هو ما أنت عليه، لا ما هم عليه [فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فلا تكوننّ من الشاكّين، و المراد الأمّة و إن توجّه الخطاب إليه كما ذكرنا سابقا، و الصحيح في معنى الآية أنّ الّذي كتموه كتموه في قوله: «لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ و هو من ربّك».

[سورة البقرة (2): آية 148]

وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148)

[وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها] و لكلّ مضاف و حذف المضاف إليه لوضوح المعنى أي:

و لكلّ قوم، قيل: الكلّ يعمّ الجميع من فرق المسلمين و اليهود و النصارى و المشركين و قيل: إنّ المشركين غير داخلين في القوم، و التنوين في «لكلّ» عوض عن المضاف إليه، قال الرازيّ في المفاتيح: و قوله: «هو» راجع إلى اسم اللّه، أي: اللّه مولّيها إيّاه و قيل:

عائد إلى الكلّ، فعلى هذا لا يدخل المشركون في الكلّ، بل يعمّ اليهود و النصارى و المسلمين، فعلى القول الثاني و هو أن يكون الضمير راجعا إليهم، فتقدير الكلام أنّ لكلّ منكم وجهة من القبلة هو مستقبلها و متوجّه إليها لصلاته و كلّ يفرح بما هو عليه و لا يفارقه فلا سبيل إلى اتّفاقكم على قبلة واحدة؛ فألزموا معاشر المسلمين قبلتكم.

[فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً] فإنّكم على خيرات من ذلك في الدنيا و الآخرة لانقيادكم لأمره و لشرفكم بقبلة إبراهيم، و أمّا على كون الضمير عايدا إلى اللّه فتقدير الكلام على قسمين:

القسم الأوّل أنّ اللّه عرّفنا أنّ كلّ واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس و الكعبة جهة يولّيها عباده على حسب ما يعلمه صلاحا فالجهتان منه تعالى في الحالتين و هو الّذي ولّى وجوه عباده إليهما فانقادوا أمره حسب ما أمركم فاستبقوا الخيرات بالانقياد، و لا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الّذين يقولون: ما ولّاهم عن قبلتهم؟ فإنّ اللّه يجمعكم جميعا في صعيد القيامة مع هؤلاء السفهاء فيفصل بينكم.

ص: 330

و القسم الثاني أنّ المعنى: و لكلّ قوم منكم معاشر المسلمين ناحية من الكعبة فاستبقوا الخيرات بالتوجّه إليها من جميع النواحي فإنّها و إن اختلفت بعد أن تؤدّي إلى الكعبة فهي كجهة واحدة، و لا يخفى على اللّه نيّاتهم، فهو يحشرهم و يثيبهم على أعمالهم.

[إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] بما أراد من الإماتة و الإحياء و الجمع.

[سورة البقرة (2): الآيات 149 الى 150]

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

قال الرازيّ: وجه التكرار في الآيات الثلاثة أنّ الأحوال ثلاثة:

أوّلها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام.

و ثانيها أن يخرج عن المسجد الحرام و يكون في البلد.

و ثالثها أن يخرج للسفر إلى أقطار الأرض، فالآية الاولى محمولة على الحالة الاولى، و الثانية على الثانية و الثالثة على الثالثة؛ لأنّه قد يتوهّم أنّ للقرب حرمة و حكما لا تثبت فيها للبعد فلأجل هذا الأمر كرّرت.

و قيل وجوه أخر.

و قيل: المراد من الآية الثانية و هي قوله: [وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ المراد في السفر، أي من أيّ مكان و بلد خرجت إليه للسفر [فَوَلِّ وَجْهَكَ عند صلاتك [شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و تلقائه فإنّ وجوب التوجّه إلى الكعبة لا يتغيّر بالسفر و الحضر حالة الاختيار [وَ إِنَّهُ أي هذا المأمور به [لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الثابت الموافق للحكمة [وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الإطاعة و المعصية.

[وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ في أسفارك و مغازيك بعيدة كانت أو قريبة [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ أيّها الناس [فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ من محالّكم. و هذه الآية الثالثة كرّرها لما أنّ القبلة لها شأن خطير و النسخ من مظانّ

ص: 331

الشبهة و كان إنكار أهل الكتاب في هذا النسخ شديدا فبالحريّ أن يؤكّد.

[لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ] أي لأن لا يكون لأهل الكتاب عليكم حجّة إذا لم تصلّوا نحو المسجد الحرام بأن يقولوا: ليس هذا هو النبيّ المبشّر به إذ ذاك نبيّ يصلّي القبلتين، و ذلك أنه كان مكتوبا في كتبهم أنّه يأتى و يصلّي بالقبلتين.

قال أبو ذوق: إنّ حجّة اليهود أنّهم كانوا قد عرفوا أنّ النبيّ المبعوث في آخر الزمان قبلته الكعبة فلمّا رأوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله يصلّي إلى الصخرة احتجّوا بذلك؛ فصرفت قبلته إلى الكعبة لئلّا يكون لهم عليه حجّة.

[إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يريد إلّا الّذين يكتمون ما عرفوا من كتابهم من أنّه صلّى اللّه عليه و آله يحول إلى الكعبة و تسمية هذه بالحجّة لأنّهم يوردونها موقعها، و يسوقونها مساقها فسمّيت مجازا حجّة تهكّما بهم [فَلا تَخْشَوْهُمْ و لا تخافوهم في توجّهكم إلى الكعبة؛ فإنّ مطاعنهم لا تضرّكم شيئا، و قيل: المراد بالّذين ظلموا قريش و اليهود، فأمّا قريش فقالوا: قد علم أنّنا على هدى فرجع صلّى اللّه عليه و آله إلى قبلتنا و سيرجع إلى ديننا، و أمّا اليهود فقالوا: لم ينصرف عن قبلتنا عن علم و إنّما جعله برأيه، و قيل: المراد بالّذين ظلموا العموم يعني ظلموكم بالمخالفة و قلّة الاستماع [وَ اخْشَوْنِي لمّا ذكرهم بالظلم و الخصومة طيّب نفوس المؤمنين فقال: لا تخافوا من مخالفتهم في القبلة و اخشوا عقابي في ترك استقبالها فإنّي أحفظكم.

[وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ علّة لمحذوف تقديره أمر بكم بتولية الوجوه شطره لإتمامي النعمة عليكم، و أنصركم على أعدائكم، و اورّثكم أرضهم و ديارهم في الدنيا و في الآخرة جنّتي و رحمتي [وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ و لكي تهتدوا. و «لعلّ» من اللّه واجب.

[سورة البقرة (2): آية 151]

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

[كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ الكلام متّصل بما قبله أي و لأتمّ نعمتي عليكم في أمر القبلة إتماما كائنا كإتمامي لها بإرسال رسول كائن منكم و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّ

ص: 332

إرسال الرسول لا سيّما منهم نعمة لم تكافئها نعمة [يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا] و هو القرآن العظيم [وَ يُزَكِّيكُمْ و يحملكم على ما تصيرون به أزكياء طاهرين من دنس الشرك و الذنوب المكدّرة لجوهر النفس.

[وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ من معانيه و الشرائع و الأحكام الّتي باعتبارها وصف بكونه هدى و نورا [وَ الْحِكْمَةَ] هي الإصابة في القول و العمل، من أحكمت الشي ء إذا رددته عمّا لا يعنيه كأنّ الحكمة هي الّتي تردّ عن الجهل و الخطأ [وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ و يعلّمكم العلوم الّتي في الكتاب و لا طريق إلى تحصيلها إلّا من جهة الوحي على ألسنة الأنبياء و بعد أن عملتم ما علمتم يحصل لكم ملكة الاعتدال و السعادة، و معلوم أنّ ملكة الاعتدال في الأخلاق لا تحصل إلّا بالمواظبة على ترك الأفعال السيّئة و إتيان الفرائض و السنن حتّى يحصل التوفيق و مهما رأيت نفسك في كراهة و استثقال من الأخلاق الجميلة و صعب عليك ترك المحظورات فاعلم أنّك قاصر الباع في السعادة.

عن أبي حمزة الثماليّ قال: دعا حذيفة بن اليمان ابنه عند موته، فأوصى إليه و قال: يا بنيّ أظهر اليأس عمّا في أيدي الناس فإنّ فيه الغنى، و إيّاك و طلب الحاجات من الناس فإنّه فقر حاضر، و كن اليوم خيرا من أمسك و إذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع للدنيا كأنّك لا ترجع إليها، و إيّاك و ما يعتذر منه.

قال الصادق عليه السّلام: ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة.

قال علماء الأخلاق: إن تتمكّن أن يكون باطنك خيرا من ظاهرك فبها و نعمت، و إلّا فليكن ظاهرك و باطنك و سرّك و علنك واحدا.

قيل: إنّ شابّا من الأنصار كان يأتي عبد اللّه بن عبّاس و كان ابن عبّاس يكرمه و يدنيه فقيل له: إنّك تكرم هذا الشابّ و هو شابّ سوء يأتي اللّيالي القبور و ينبّشها فقال عبد اللّه: إذا كان ذلك فأعلموني، فخرج الشابّ في بعض الليالي يتخلّل القبور، فأعلموا عبد اللّه، فخرج لينظر ما يكون من أمره و وقف ناحية ينظر إليه من حيث لا يراه الشابّ، فدخل الشابّ قبرا قد حفر.

ثمّ اضطجع في اللحد و نادى بأعلى صوته: يا ويحي إذا دخلت لحدي وحدي و

ص: 333

نطقت الأرض من تحتي و قالت: لا مرحبا بك و لا أهلا قد كنت أبغضك و أنت على ظهري فكيف و قد صرت في بطني؟ بل و يحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفا و الملائكة صفوفا، فمن عدلك من يخلّصني؟ و من المظلومين من يستنقذني؟ و من عذاب النار من يجيرني؟ قد عصيت من ليس بأهل أن يعصى، و جعل يردّد هذا الكلام و يبكي إلى الصباح، فلمّا خرج من القبر التزمه ابن عبّاس و عانقه، ثمّ قال: نعم النبّاش ما أنبشك للذنوب و الخطايا! ثمّ تفرّقا.

و أمثال هذه الرياضات لا تحصل إلّا بالخشية و برسوخ حبّ اللّه في القلب و خروج حبّ الدنيا عن القلب، فمزّق نفسك ضدّ عادتها و عوّدها بالعادات الجميلة، و العادات تقتضي في النفس عجائب، أما ترى أنّ اللاعب بالحمام لا يحسّ طول النهار بحرّ الشمس قائما على رجليه و هو ميّت من التعب و مع ذلك لا يحسّ، و إذا كان الطبع يستلذّ من أكل الطين فكيف لا يستلذّ من العسل؟ فروّض نفسك بمشقّات الطاعة حتّى يصير التطوّع طبعا، لكن لمّا كانت اللذات أنسب إلى مشتهاها تميل النفس إليها و النفس قابلة لقبول العادتين.

لكنّ هذه الرياضة يكون لها مدّة طويلة، فإنّ عادة عشرين سنة لا تتبدّل بقيام ليلة و لا أقلّ من المقابلة و أنّ الترياق يلزم أن يكون مساويا لوزن السمّ؛ فدم في العمل حتّى تستدرك الفيض الأقدم و الأولى في رياضتك، و تبديل أخلاقك علاج مرض القلب و أنت بزعمك ليس قلبك مريض، و من عنده شي ء أحبّ إليه من اللّه فقلبه مريض و لا بدّ من علاجه و إلّا فيهلك؛ قال اللّه سبحانه: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ إلى قوله- أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» (1).

[سورة البقرة (2): آية 152]

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152)

[فَاذْكُرُونِي بالطاعة لقوله صلّى اللّه عليه و آله: من أطاع اللّه فقد ذكر اللّه و إن قلّت صلاته و صيامه و قراءته، و من عصى اللّه فقد نسي اللّه و إن كثرت صلاته و قراءته [أَذْكُرْكُمْ بالثواب و الإحسان و إفاضة الخير، و أطلق الذكر على طريق المشاكلة و المجاز لوقوعه

ص: 334


1- التوبة: 24.

في صحبة العبد، كقوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ» و اللّه تعالى منزّه عن النسيان.

[وَ اشْكُرُوا لِي على ما أنعمت عليكم من النعم فأمر سبحانه بتخصيص شكرهم له و أن لا يشكروا غيره و يعرفوا أنّ النعمة منه تعالى و المراد: اذكروني بالقول و اشكروا لي بالعمل [وَ لا تَكْفُرُونِ بإنكار النعم و عصيان الأمر و في الآية إشعار على أنّ ترك الشكر كفران.

[سورة البقرة (2): آية 153]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ] من الناس من حمل الصبر على الصوم و منهم من حمله على الجهاد و منهم من حمله على الصبر عن المعاصي و اللذائذ و حظوظ النفس [وَ الصَّلاةِ] الّتي هي امّ العبادات و معراج المؤمنين، روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله إذا وقع له شديدة فزع و استعان بالصلاة. و قدّم سبحانه في الآية الترك على الفعل لأنّ التخلية قبل التحلية و لهذا قدّم النفي على الإثبات في كلمة التوحيد. و ذكر الصلاة لأنّ الأمر بها مطلق لكلّ أفراد المكلّفين و أمّا غيرها فمختصّ بأصحاب دون أصحاب مثل الزكاة فمختصّة بأصحاب النصاب و مثل الحجّ فبأصحاب الاستطاعة.

[إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ و معنى المعيّة: الولاية الدائمة، و إنّما قال: «مَعَ الصَّابِرِينَ» و لم يقل: مع المصلّين لأنّ الصلاة لا تنفكّ عن الصبر، فإذا كان مع الصابرين لا جرم كان مع المصلّين.

و الصبر مبدؤ كلّ فضل؛ فإنّ أوّل التوبة الصبر عن المعاصي و أوّل الزهد، الصبر عن المباهات.

و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.

و قال صلّى اللّه عليه و آله: الصبر خير كلّه، فمن تحلّى بحلية الصبر سهل عليه ملابسة الطاعات و الاجتناب عن المنكرات، و كذلك الصلاة، قال اللّه: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ».

و في الحديث: إذا كان يوم القيامة و جمع اللّه الخلائق نادى مناد: أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس و هم يسرعون و يسيرون إلى الجنّة فتلقاهم الملائكة فيقولون: إنّا

ص: 335

نراكم سراعا إلى الجنّة فمن أنتم؟ قالوا: نحن أهل الفضل، فيقولون: ما كان فضلكم؟

قالوا: كنّا إذا ظلمنا صبرنا و إذا أسي ء إلينا عفونا، فيقال لهم: ادخلوا الجنّة فنعم أجر العاملين.

ثمّ ينادي مناد: أين أهل الصبر؟ فيقوم ناس يصيرون سراعا إلى الجنّة فتلقاهم الملائكة، فيقولون: إنّا نراكم سراعا إلى الجنّة فما أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر فيقولون: ما كان صبركم؟ قالوا كنّا نصبر على طاعة اللّه و نصبر عن معصية اللّه، فيقال لهم: ادخلوا الجنّة.

ثمّ ينادي مناد: أين المتحابّون في اللّه؟ فيقوم ناس يسيرون سراعا إلى الجنّة فتلقاهم الملائكة، فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن المتحابّون في اللّه، فيقولون: و ما كان تحابّكم في اللّه؟ قالوا: كنّا نتحابّ في اللّه بطاعته.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ المؤمن قيّده القرآن عن كثير من هوى نفسه فالصيام جنّته و الصدقة فكاكه و الصلاة كهفه.

أقول: يعني كما أنّ الكهف يحفظ الإنسان عن امور، كذلك الصلاة تمنع و هي بمنزلة الناهي بالقول إذا قال لا يفعل الفحشاء و المنكر، و ذلك أنّ فيها التكبير و التهليل و التسبيح و الوقوف بين يدي اللّه، و كلّ ذلك يدعو إلى شكره و يصرف عن ضدّه، فهي كالآمر و الناهي بالقول و كلّ دليل مؤدّ إلى أمر فهو داع إليه و صارف عن ضدّه.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا صلاة لمن لم يطع الصلاة و طاعة الصلاة أن ينته المصلّي عن المعاصي.

[سورة البقرة (2): آية 154]

وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)

[وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ] وجه تعلّق الآية بما قبلها أنّه لمّا قال: استعينوا بالصبر و الصلاة في إقامة ديني، فإن احتجتم في تلك الإقامة إلى المجاهدة مع العدوّ بأموالكم و أنفسكم ففعلتم ذلك و تلفت نفوسكم، فلا تحسبوا أنّكم ضيّعتم أنفسكم، بل اعلموا أنّ قتلاكم أحياء؛ قال ابن عبّاس: نزلت في شهداء بدر و كانوا

ص: 336

أربعة عشر رجلا، ستّة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار و كان الناس يقولون لمن يقتل في سبيل اللّه: مات فلان و ذهب عنه نعيم الدنيا و لذّاتها، فنزلت الآية أي هم أحياء.

و في كونهم أحياء أقوال:

أحدها- و هو الصحيح- أنّهم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة و هو قول جماعة كابن عبّاس و قتادة و مجاهد و الحسن و عمرو بن عبيد و واصل بن عطا و الجبّائيّ و الرمّانيّ و أكثر المفسّرين.

و القول الثاني- و هو بمعزل عن القبول- أنّهم يحيون يوم القيامة و يثابون، و هذا القول المتروك عن البلخيّ وحده و لم يذكر غيره هذا المعنى، و هذا المعنى سخيف بارد لأنّ هذا الأمر لكلّ من آمن باللّه و ليس فائدة في تخصيصهم بالذكر.

و الثالث أنّ المعنى: لا تقولوا: هم أموات في الدين، بل هم أحياء بالطاعة و الهدى، أي كالأحياء في الحكم لا ينقطع ثواب أعمالهم لأنّهم قتلوا في نصرة دين اللّه، فما دام الدين باقيا فلهم ثواب ذلك لأنّهم سنّوا هذه السنّة، أو المراد: ذكرهم و شرفهم باق.

[وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ كيف حالهم.

فإن قيل: على معنى القول الأوّل الّذي ذكرنا نحن نرى جثّة الشهداء مطروحة على الأرض لا تتصرّف و لا يرى فيها شي ء من علامات الأحياء.

فالجواب أنّ اللّه يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا يتنعّمون فيها دون أجسامهم الّتي في القبور، و هذا على مذهب من يقول من أصحابنا في الإنسان: إنّه النفس الناطقة، فإنّ النعيم و العذاب على هذا إنّما يحصل للنفس الّتي هي الإنسان المكلّف عنده دون الجثّة.

و يؤيّد هذا القول ما رواه الشيخ أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام مسندا إلى عليّ بن مهزيار عن يونس بن ظبيان، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال عليه السّلام:

ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت: يقولون في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش، فقال عليه السّلام: سبحان اللّه! المؤمن أكرم على اللّه أن يجعل روحه في حوصلة

ص: 337

طائر أخضر! يا يونس، المؤمن إذا قبضه اللّه صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكلون و يشربون، فإذا قدم عليه القادم، عرفوه بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا.

و في رواية اخرى عن أبي بصير قال: سألت الصادق عليه السّلام عن أرواح المؤمنين، فقال عليه السّلام: في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت: فلان.

و أمّا على مذهب من قال: إنّ الإنسان هذه الجمل المشاهدة و إنّ الروح هو النفس المتردّد في مخارق الحيوان و هو أجزاء الجوّ و الباطن فالقول أنّه يلطف أجزاء من الإنسان لا يمكن أن يكون الحيّ حيّا بأقلّ منها يوصل إليها النعيم و إن لم تكن تلك الجملة بكمالها؛ لأنّه لا يعتبر بالأطراف و أجزاء السمن في كون الحيّ حيّا؛ فإنّ الحيّ لا يخرج بمفارقتها من كونه حيّا.

و ربّما قيل بأنّ الجثّة يجوز أن يكون مطروحة في الصورة و لا تكون ميتة فتصل إليه اللذّات، كما أنّ النائم حيّ و تصل إليه اللذّات مع أنّه لا يحسّ و لا يشعر بشي ء من ذلك، فيرى في النوم ما يجد به السرور و الالتذاذ حتّى يودّ أن يطول نومه و لا ينتبه.

و قد جاء في الحديث أنّه يفسح له مدّ بصره، و يقال له: نم نومة العروس و قوله:

«لا تَشْعُرُونَ» أي لا تعلمون أنّهم أحياء.

و في الآية دلالة على صحّة مذهبنا في سؤال القبر و إثابة المؤمن فيه و عقاب العصاة على ما تظاهرت و تظافرت الأخبار به. و إنّما حمل البلخيّ ذلك المعنى الّذي انفرد به و ذكرناه لإنكاره عذاب القبر، فإن قلت: إن كان المراد في الآية هذا المعنى الآخر فما وجه تخصيص الشهداء بها و هو مشترك في الجميع من إدراك اللذّة و الألم؟

فالمراد اختصاصهم بمزيد البهجة و الكرامة و القرب، و لكنّ القول الصحيح هو الوجه الأوّل كما قال به جلّ العلماء كالشيخ و الطبرسيّ.

و اعلم: أنّ نفس الإنسان و ذاته الّذي هو مخاطب مكلّف مأمور منهيّ جسمانيّ لطيف سار في هذا البدن المحسوس سريان النار في الفحم و ماء الورد في الورد، و هو الّذي يشير إليه كلّ أحد بقوله: أنا، و هو الإنسان حقيقة، و هو كان في صلب آدم حين

ص: 338

سجد له الملائكة و هو المسؤول بقوله: أ لست بربّكم؟ قالوا: بلى، و هو الّذي يتوفّى في المنام و يخرج و يسرح و يرى الرؤيا فيسرّ بما يرى أو يحزن، فإن أمسكه اللّه و لم يرجع جسده تبعه الروح و الجسد الكثيف المعبّر عنه بالبدن.

و الروح الإنسانيّ محلّ تعيّنه هو القلب الصنوبريّ، و الروح الحيوانيّ محلّ تعيّنه هو الدماغ و يسري في جميع أعضاء البدن إلّا أنّ سلطانه قويّ في الدماغ و الدماغ أقوى مظاهره و الروح الحيوانيّ إنّما حدث بعد تعلّق الروح السلطانىّ بهذا الهيكل فهو من انعكاس أنوار الروح السلطانيّ ليكون مبدأ الأفعال، لأنّ الحياة أمر مغيب مستور في الحيّ، لا يعلم إلّا بآثارها كالحسّ و الحركة و العلم و الإرادة، و هذا يدور على الروح الحيوانيّ، فمادام هذا البخار باقيا على الوجه الّذي يصلح أن يكون علاقة بينهما، فالحياة قائمة، و عند انتفائه و خروجه تزول الحياة، و يخرج الروح من البدن خروجا اضطراريّا و هو الموت الحقيقيّ.

و من هذا البيان ينكشف أحوال البرزخ، و أنّ القبر روضة من رياض الجنان، أو حفرة من حفر النيران؛ فالشهداء أحياء بالحياة البرزخيّة و متنعّمون بالأبدان المثاليّة و الروح الإنسانيّ، لكنّه إذا بعث و حشر، فنعيمه و عذابه على النمط الّذي كان في الدنيا من روحه الإنسانيّ و الحيوانيّ و الجسميّ، من جميع أجزائه الدنيويّ، من اللحم و الشحم و العظم، و كلّ ما كان له في بدنه في الدنيا حتّى أنّ سنّه إذا كان كافرا كجبل احد.

قال معاذ بن جبل: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن أردتم عيش السعداء و موت الشهداء و النجاة يوم الحشر و الظلّ يوم الحرور و الهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن، فإنّه كلام الرحمن و حرز من الشيطان و رجحان في الميزان.

[سورة البقرة (2): آية 155]

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

[وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ اللام جواب قسم محذوف، أي و اللّه لنعاملنّكم معاملة المختبر، هل تصبرون على البلاء و تستسلمون للقضاء؟ إذ البلاء معيار كالمحك يظهر به جوهر

ص: 339

النفس، و ذلك الاختبار لا لنعلم شيئا لم نكن عالمين به، بل ليترتّب الجزاء على المطيع و العاصي؛ لأنّ ترتّب الثواب و الجزاء لا يصحّ إلّا بعد وقوع الفعل من المكلّف و لا يصحّ أن يترتّب بمجرّد العلم [بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ أي بقليل من خوف الأعداء و امور أخر، و إنّما قلّله لأنّ ما وقاهم منه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم، و ما أعطاهم أكثر من ما منعهم [وَ الْجُوعِ أي من القحط و المجاعة، و إنّما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطّنوا عليه نفوسهم و يسهل عليهم الصبر.

[وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بهلاك المواشي و ذهاب بعض الأموال [وَ الْأَنْفُسِ بالموت و القتل في الجهاد و غيره [وَ الثَّمَراتِ : بذهاب حمل الأشجار و ارتفاع البركات و موت الأولاد لأنّها ثمرات أيضا و قيل: الخوف خوف اللّه و الجوع صوم رمضان، و النقص من الأموال الصدقات و الزكاة، و من الأنفس الأمراض، و من الثمرات الأولاد، و الصحيح أنّه يعمّ الجميع [وَ بَشِّرِ] يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله [الصَّابِرِينَ على البلايا.

[سورة البقرة (2): آية 156]

الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156)

[الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ] و هي ما يصيب الإنسان من مكروه، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كلّ شي ء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة، و أصله من أصاب السهم المرمى [قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أي نحن إلى حكمه نصير، و هذا الكلام إقرار بالبعث و النشور.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ قولنا «إِنَّا لِلَّهِ» إقرار على أنفسنا بالملك و قولنا: «وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» إقرار على أنفسنا بالهلك، قال صلّى اللّه عليه و آله: من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا و إن تقادم عهدها، كتب اللّه له من الأجر مثل يوم أصيب.

قال الصادق عليه السّلام: من كان فيه أربع كتبه من أهل الجنّة: من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلّا اللّه، و من إذا أنعم اللّه عليه النعمة قال: الحمد للّه، و من إذا أصاب ذنبا قال:

أستغفر اللّه، و من إذا أصابته مصيبة قال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

[سورة البقرة (2): آية 157]

أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

[أُولئِكَ إشارة إلى الّذين وصفهم من الصابرين [عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي

ص: 340

ثناء جميل من ربّهم و تزكية أو بركات و مغفرة [وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ المصيبون طريق الحقّ و الهداية، و استسلموا لقضاء اللّه، قال ابن مسعود: لأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أقول في شي ء قضاه: ليته لم يكن.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من ضرب بيده على فخذه عند مصيبة فقد حبط أجره، أقول: إنّ الصبر يجب عليه إذا كان من جهة العدل الحكيم، فيجب الصبر عليها لعلمه بأنّه تعالى لا يقضي إلّا بالحقّ، و إن أصابته من جهة الظلمة فلا يجب عليه الصبر، بل جاز له أن يمانعه.

[سورة البقرة (2): آية 158]

إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

[إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ] «صفا» علم لجبل بمكّة و سمّي الصفا لأنّه جلس عليه آدم صفيّ اللّه عليه السّلام، و المروة علم لجبل في مكّة أيضا و سمّي المروة لأنّها جلست عليها امرأة آدم حوّاء.

عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام: و الصفا في الأصل الحجر الأملس، مأخوذ من الصفو، واحده صفاة و كلّ حجر لا يخلطه غيره من طين أو تراب. و هو واويّ لأنّ تثنيته صفوان، و المرو نبت. و أصله الصلابة أيضا، و الألف و اللّام للتعريف لا للجنس.

[مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ و الشعائر جمع شعيرة، و هي العلامة، و شعائر اللّه معالمه الّتي جعلها معالم لعباده من موقف أو مسعى أو منحر، من شعرت به أي علمت.

قيل: إنّه كان على الصفا صنم على صورة رجل، يقال له: أساف و صنم على المروة على صورة امرأة يقال لها نائلة و إنّهما كانا زنيا في الكعبة، فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلمّا طالت المدّة عبدا من دون اللّه، و كان أهل الجاهليّة إذا سعوا بين الصفا و المروة سجدهما تعظيما لهما، فلمّا جاء الإسلام و كسرت الأوثان كره المسلمون الطواف و السعي بينهما لأنّه فعل الجاهليّة فاذن في السعي بينهما و اخبر أنّهما من شعائر اللّه.

و الحكمة في شرعيّة السعي بينهما: أنّ هاجر لمّا ضاق عليها الأمر من العطش

ص: 341

و عطش إسماعيل سعت في هذا المكان إلى أن صعدت الجبل و دعت و طلبت من اللّه الماء فأنبع اللّه لها زمزم فجعلها طاعة للمكلّفين إلى يوم القيامة. و في الخبر: الصفا و المروة بابان من الجنّه و موضعان من مواضع الإجابة، ما بينهما قبر سبعين ألف نبيّ و سعيهما يعدل سبعين رقبة.

[فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ] الحجّ في اللغة هو القصد على وجه التكرار، و في الشرع عبارة عن قصد البيت بالأعمال المخصوصة من الإحرام و الطواف و السعي و الوقوف و غير ذلك، و العمرة هي الزيارة، مأخوذ من العمارة، لأنّ الزائر يعمر المكان بزيارته و هي في الشرع عبارة عن زيارة البيت بالعمل، فمن قصد البيت بالأعمال المخصوصة و زاره [فَلا جُناحَ عَلَيْهِ و لا إثم [أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما] و يدور عليهما لأنّهم توهّموا أن يكون في ذلك جناح لأجل فعل الجاهليّة.

[وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً] و أصل التطوّع الفعل طوعا و ميلا لا كرها، كأنّه قيل:

من تبرّع بما لم يفرض عليه من القربات مطلقا؛ فانتصاب «خيرا» بنزع الخافض، أي من تطوّع تطوّعا بخير [فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ له مجاز بعمله، فإنّ الشاكر في وصف اللّه بمعنى المجازيّ بالإثابة على الطاعة، و الشكر من اللّه، الرضى عن العبد و لازم الرضى الإثابة [عَلِيمٌ بطاعة المتطوّع، و في كتاب زهرة الرياض: أنّ رجلا من الزهّاد قال: حججت سنة و في رأيي أن أنصرف من عرفات و لا أحجّ بعد هذا، فنظرت في القوم فإذا أنا بشيخ متّكئ على عصا و هو ينظر إليّ مليّا، فقلت: السلام عليك يا شيخ، فقال: و عليك السلام ارجع عمّا نويت، فقلت: سبحان اللّه من أين تعلم نيّتي؟ قال: ألهمني ربّي، فو اللّه لقد حججت خمسا و ثلاثين حجّة و كنت واقفا بعرفات هاهنا في الحجّة الخامسة و الثلاثين أنظر إلى هذه الرحمة و أتفكّر في أمري و أمرهم أنّ اللّه هل يقبل حجّهم و حجّي، فبقيت متفكّرا حتّى غربت الشمس و أفاض الناس من عرفات إلى مزدلفة و لم يبق أحد و جنّ اللّيل و تمّت تلك الليلة، فرأيت في النوم كأنّ القيامة قد قامت و حشر الناس و تطايرت الكتب و نصبت الموازين و الصراط و فتحت أبواب الجنان و النيران فسمعت النار تنادى و تقول:

ص: 342

اللّهمّ ذق الحجّاج حرّي و بردي، فنوديت النار: يا نار سلي غيرهم، فإنّهم ذاقوا عطش البادية و حرّ عرفات و وقوا عطش القيامة و رزقوا الشّفاعة، فإنّهم طلبوا رضاي بأنفسهم و أموالهم فأنبهت و صلّيت ركعتين، ثمّ نمت و رأيت كذلك، فقلت في نفسي: هذا من الرحمن أو من الشيطان؟ فقيل لي: بل من اللّه، مدّ يمينك، فمددت فإذا على كفّي مكتوب: من وقف بعرفة و زار البيت شفّعته سبعين من أهل بيته، فلم تمرّ عليّ منذ حينئذ سنة إلّا و قد حججت حتّى تمّ لي ثلاث و سبعون حجّة. انتهى.

و يشمل قوله تعالى: «وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» جميع مراتب الأخلاق الحسنة و المستحبّات الشّرعيّة من البرّ و معاونة الضعفاء و المساكين، فإنّ اللّه يشكر عمله بمزيد الثواب.

في ثواب الأعمال: عن جميل بن درّاج عن الصادق عليه السّلام قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الحاجّ إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئا و لم يضعه إلّا كتب اللّه له عشر حسنات و محى عنه عشر سيّئات و رفع له عشر درجات فإذا ركب بعيره لم يرفع خفّا و لم يضعه إلّا كتب اللّه له مثل ذلك و إذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه و إذا سعى بين الصفا و المروة خرج من ذنوبه و إذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه و إذا وقف بالمشعر خرج من ذنوبه و إذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، و عدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذا و كذا موطنا كلّها يخرجه من ذنوبه ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فإنّ لك أن تبلّغ الحاجّ.

و عن أبي حمزة الثماليّ، عن عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: قال رجل لعليّ بن الحسين: تركت الجهاد و خشونته و لزمت الحجّ، قال: و كان عليه السّلام متّكئا فجلس و قال: ويحك ما بلغك ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع؟ إنّه لما همّت الشمس أن تغيب قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا بلال، قل للناس: فلينصتوا، فلمّا أنصتوا، قال: إنّ ربّكم تطوّل عليكم في هذا اليوم فغفر لمحسنكم و شفع لمحسنكم في مسيئكم فأفيضوا مغفورا لكم و ضمن لأهل التبعات من عنده الرضى.

و عن الصادق عليه السّلام قال: لمّا أفاض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سلّم فلقاه أعرابيّ في الأبطح، فقال: يا رسول اللّه إنّي خرجت أريد الحجّ فعاقني عائق و أنا رجل مليّ كثير المال مرني

ص: 343

ما أصنع في مالي أبلغ ما بلغ لحاجّ؟ قال فالتفت صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أبي قبيس فقال: لو أنّ أبا قبيس لك زنته ذهبا حمراء أنفقته في سبيل اللّه ما بلغت ما بلغ الحاجّ.

[سورة البقرة (2): آية 159]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)

المعنيّ بالآية علماء اليهود و النصارى مثل كعب بن الأشرف و كعب بن أسيد و ابن صوريا و زيد بن التاتوج أو التابوه و غيرهم من علماء النصارى الّذين كتموا أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نبوّته و علائم خاتميّته و هم وجدوها مكتوبا و مثبتا في التوراة و الإنجيل.

و الآية متناولة لكلّ من كتم ما أنزل اللّه، لأنّه عام فيدخل فيه أولئك و غيرهم.

فحثّ سبحانه في الآية على إظهار الحقّ و نهي عن إخفائه، فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ و يخفون [ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى من الحجج المنزلة في الكتب من علوم الشرع. فعمّ بالوعيد في كتمان جميعها [مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ متعلّق بيكتمون أي أوضحناه [لِلنَّاسِ جميعا [فِي الْكِتابِ أي التوراة و لعلّ المراد من قوله: ما أنزلنا، الوحي، و من الهدى: الدلائل العقليّة [أُولئِكَ الموصوفون [يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ و يبعدهم عن رحمته [وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي الّذين يتأتّى منهم اللعن من الملائكة و مؤمني الثقلين.

قال ابن مسعود: ما تلاعن اثنان إلّا ارتفعت اللعنة بينهما، فإن استحقّ أحدهما و إلّا رجعت على اليهود الّذين كتموا صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قيل: المراد من قوله: «اللَّاعِنُونَ»:

البهائم و الهوامّ تلعن العصاة، تقول: اللّهم العن عصاة بني آدم، فبشؤمهم منع عنّا القطر.

[سورة البقرة (2): آية 160]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

[إِلَّا الَّذِينَ تابُوا] الاستثناء متّصل و المستثنى منه هو الضمير في «يَلْعَنُهُمُ» أي إلّا الّذين تابوا من الكتمان و سائر ما يجب أن يتاب منه [وَ أَصْلَحُوا] ما أفسدوا بالتدارك فإنّه يجب بعد التوبة مثلا لو أفسد على تغيير دينه بإيراد شبهة عليه، يلزمه إزالة تلك الشبهة و يفعل أمورا حند (؟) الكتمان و هو البيان و هو المراد بقوله [وَ بَيَّنُوا] ما

ص: 344

بيّنه اللّه في كتابه، لتحصل و تتمّ توبتهم. فدلّت الآية على أنّ التوبة لا تحصل إلّا بترك كلّ ما لا ينبغي، و بفعل كلّ ما ينبغي [فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ و أقبل توبتهم، فإنّ التوبة إذا أسندت إلى اللّه بأن قيل تاب: اللّه أو يتوب، تكون بمعنى القبول [وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ المبالغ في قبول التوبة.

عن الصادق عليه السّلام قال: فيما وعظ اللّه عيسى بن مريم عليه السّلام: يا عيسى أنا ربّك و ربّ آبائك، اسمي واحد و أنا الأحد المتفرّد، أخلق كلّ شي ء، و كلّ شي ء من صنعي، و كلّ خلقي إليّ راجعون، فكن إليّ راغبا و منّي راهبا فإنّك لن تجد منّي ملجأ إلّا إليّ، اجعل ذكري لمعادك و تقرّب إليّ بالنوافل و لا تولّ غيري فأخذ لك يا ابن البكر البتول ابك على نفسك بكاء من قد ودع الأهل و قلى الدنيا و تركها لأهلها.

[سورة البقرة (2): آية 161]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ] أي الّذين استمرّوا على الكفر و يصرّون على كفرهم و ما ارتدعوا عن حالتهم الكفريّة و ماتوا عليه [أُولئِكَ مستقرّ [عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ هم المخصوصون باللعنة الأبديّة، أحياء و أمواتا، أمّا في الدنيا فيلعنهم المؤمنون، و يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا و اللّه تعالى يلعنهم يوم القيامة، ثمّ الملائكة، ثمّ الناس. و من لعن الظالم و هو ظالم فقد لعن نفسه.

[سورة البقرة (2): آية 162]

خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

استئناف لبيان كثرة عذابهم أي لا يرفع عنهم و لا يهوّن عليهم و لا يمهلون للمعذرة و للتّخفيف بل يعذّبون على الدوام أو بمعنى النظر و الرؤية، أي لا ينظر إليهم نظر رحمة، و إنّما خلّدوا؛ لأنّ نيّاتهم البقاء على ما كانوا عليه من الكفر. و أمّا اختلاف الدركات فبتفاوت سوء الأحوال و شدّة الكفر و مراتبه.

و اعلم أنّ الضلال و الفساد في الطالبين من فساد مرشدهم؛ فما دام المرشد على الصراط المستقيم يحفظ الطالب من الضلال كما قال: إذا زلّ العالم زلّ بزلّته العالم، و نزول

ص: 345

البلاء من فساد الرئيس و متابعة العامّة إيّاه؛ حكي أنّ أمّنا حوّاء أكلت أوّلا من الشجرة فلم يقع شي ء، فلمّا أكل منها آدم وقع الخروج من الجنّة، فويل لأرباب الرياسة الّذين ظلموا أنفسهم و تجاوز ظلمهم إلى من عداهم.

[سورة البقرة (2): آية 163]

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)

الواحد شي ء لا ينقسم؛ عددا كان أو غيره، و هو الشي ء الّذي لا ينقسم من جهة الوحدة، مثلا الإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث إنّه إنسان واحد إلى إنسانين، بل قد ينقسم إلى الأبعاض و الأجزاء لكنّه لم ينقسم من جهة ما قيل له: إنّه واحد بل من جهة اخرى.

قال ابن عبّاس: إنّ كفّار قريش قالوا يا: محمّد صف لنا ربّك، فقال اللّه: [وَ إِلهُكُمْ المستحقّ للعبادة [إِلهٌ واحِدٌ] فرد في الإلهيّة لا شريك له فيها [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] تقرير للوحدانيّة أي لا إله موجود في الوجود- و الخبر محذوف- إلّا اللّه. و معنى «إِلهٌ واحِدٌ» أنّه لا يجوز الانقسام و لا يحتمل التجزئة و ليس بذي أبعاض و كذلك واحد لا نظير له و لا يشابهه شي ء و واحد في صفاته الّتي يستحقّها لنفسه، مثلا وصفنا بأنّه قديم أنّه المختصّ بهذه الصفة لا يشاركه فيها غيره، و وصفنا بأنه قادر على أنّه المختصّ بهذه القدرة، ففي كلّ صفة من صفاته واحد لا يقدر غيره تلك الصفة.

في كتاب ثواب الأعمال مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: ثمن الجنّة لا إله إلّا اللّه.

و في حديث آخر قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس شي ء إلّا و له شي ء يعد له إلّا اللّه فإنّه لا يعد له شي ء، و لا إله إلّا اللّه فإنّه لها يعدلها شي ء.

و عن عبد اللّه بن الوليد رفعه قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قال: لا إله إلّا اللّه غرست له شجرة في الجنّة من ياقوتة حمراء منبتها في مسك أبيض، أحلى من العسل و أشدّ بياضا من الثلج و أطيب من المسك. فيها ثمار أمثال أثداء الأبكار تفلق عن سبعين حلّة.

[الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ بيان لسبب استحقاق العبادة دون غيره، و عن أسماء بنت يزيد أنّها قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ في هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم و هما:

«وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» الثانية: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».

ص: 346

[سورة البقرة (2): آية 164]

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

قيل: كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما، فلمّا سمعوا قوله تعالى: «وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» تعجّبوا و قالوا: كيف يسع الناس إله واحد؟ أجعل الآلهة إلها واحدا؟ فإن كان محمّد صادقا في توحيد الإله فليأتنا بحجّة نعرف بها صدقه فنزلت الآية.

[إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و إبداعهما على ما هما عليه مع بدائع الصنائع الّتي يعجز عن فهمها عقول البشر. و إنّما جمع السماوات و أفرد الأرض؛ لأنّ كلّ سماء ليست من جنس الاخرى، و فلك كلّ واحدة غير فلك الأخرى. و الأرضون كلّها من جنس واحد و هو التراب، و عند الحكماء محدّب كلّ سماء مماسّ لمقعّر ما فوقه غير الفلك التاسع المسمّى بالعرش؛ فإنّ محدّبه و سطح فوقه غير مماسّ لشي ء من الأفلاك و هو المسمّى بلسانهم: الفلك الأطلس و ما فوقه خلأ و بعد غير متناه عندنا و عند الحكماء لا خلأ فيه و لا ملأ.

[وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] أي في تعاقبهما كالذهاب و المجي ء يخلف أحدهما صاحبه إذا جاء أحدهما جاء الآخر خلفه. و في الزيادة و النقصان و الظلمة و النور.

[وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ] لا ترسب تحت الماء مع أنّها ثقيلة كثيفة و الماء خفيف لطيف. و تأنيث «الفلك» باعتبار الجماعة [بِما يَنْفَعُ النَّاسَ «ما». اسم موصول، و الجملة حاليّة، حالكونهم ينتفعون بركوبها و الحمل فيها للتجارة.

[وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ] أي إنّ فيما أنزل اللّه من جهة السماء [مِنْ ماءٍ] بيان للجنس، فإنّ المنزل من السماء يعمّ الماء و غيره، و «السماء» المراد المعنيّ المعروف أي الفلك، و يحتمل جهة العلوّ سماء كانت أو سحابا، فإنّ كلّ ما علا الإنسان يسمّى يسمّى سماء لكنّ الصحيح الأوّل [فَأَحْيا بِهِ أي بما أنزل [الْأَرْضِ بأنواع النباتات و الأزهار و الأشجار [بَعْدَ مَوْتِها] و بعد ذهاب زرعها و تناشر أوراقها و حسن إطلاق

ص: 347

الحياة و الموت للأرض باعتبار الحسن و النضارة و البهاء و النماء، و باعتبار اليبوسة و التناشر [وَ بَثَّ فِيها] أي فرّق و نشر في الأرض [مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ] ذي روح يدبّ على الأرض من العقلاء و غيرهم [وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ في تقليبها في مهابّها قبولا و دبورا و شمالا و جنوبا، و في كيفيّتها حارّة و باردة و عاصفة و لينة، و في آثارها عقما و لواقحا و في الغرض من إرسالها تارة بالرحمة و تارة بالعذاب.

قال ابن عبّاس: من أعظم جنود اللّه الريح و الماء. و سمّيت الريح ريحا لأنّها تريح النفوس، قال وكيع: لو لا الريح و الذباب لأنتنت الدنيا، قيل: ما هبّت الريح إلّا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح.

قال بكر بن عبّاس: لا تخرج من السحاب قطرة حتّى تعمل في السحاب هذه الرياح الأربع: فالقبول و هو المعروف بالصبا تهيّجه، و الجنوب تقدّره، و الدبور تلقحه و الشمال تفرّقه. و أصول الرياح هذه الأربع: فالشمال من ناحية الشام، و الجنوب تقابلها، و الصبا من المشرق تقابلها (1) و كلّ ريح جاءت بين مهبّ ريحين فهي نكباء لأنّها نكبت و عدلت عن مهابّ هذه الأربع.

و قيل: الرياح ثمان: أربع رحمة و أربع عذاب؛ فالرحمة: الناشرات و هي الرياح الطيّبة، و المبشّرات و هي الرياح الّتي تبشر بالغيث، و اللواقح و هي الّتي تلقح الأشجار في أوّل الربيع، و الذاريات و هي التي تذروا التراب و غيره؛ و أمّا العذاب:

الصرصر و العقيم و هما في البرّ، و العاصف و القاصف و هما في البحر، و العقيم: هي الّتي لم تلقح سحابا و لا شجرا، و العاصف: الشديدة الهجوم الّتي تقلع الأشجار و الخيام.

[وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ] عطف على «تصريف»: أي الغيم المنقاد المذلّل الجاري على ما أجراه اللّه عليه و سمّي سحاب سحابا لأنّه ينسحب في الجوّ أي يسير من سرعة كانّه يسحب ذيله و يجرّ [بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ صفة للسحاب، و السحاب اسم جنس و يوصف بالجمع باعتبار معناه بقوله: «سَحاباً ثِقالًا» و المراد من معنى بين السماء و الأرض أي لا ينزل إلى الأرض و لا يصعد إلى السماء و هو بينهما مع أنّه لو كان خفيفا لطيفا كان ينبغي أن يصعد و لو كان كثيفا ثقيلا يقتضي أن ينزل و من طبعه يقتضي أحد هذين.

ص: 348


1- كذا في الأصل.

[لَآياتٍ اسم إنّ دخلته اللام لتأخّره عن خبرها و لو كان في موضعه لما جاز دخول اللام عليه، و التنكير للتفخيم كمّا و كيفا: أي آيات كثيرة عظيمة دالّة على القدرة القاهرة [لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و يتفكّرون فيها بالعقول و القلوب فيستدلوّن بها على موجدها فيوحّدونه، و فيه تعريض للمشركين الّذين اقترحوا على الرسول آية تصدّقه في قوله:

«وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» إذ لو عقلوه لكفاهم بهذه التصاريف آية، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ويل لمن قرأ هذه فمجّ بها. و معنى المجّ قذف الريق و نحوه، استعير هنا لعدم التدبّر أي من تفكّر فيها فكانّه حفظها و لم يلقها من فيه.

و اعلم أنّ قوله: «وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» هو توحيد الذات، و لمّا دقّ هذا التوحيد عن مبالغ أفهام الخلق بيّن سبحانه توحيد الصفات بقوله: «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» ثمّ بيّن في هذه الآية و هي أنّ في خلق السماوات و الأرض توحيد الأفعال، يستدلّ به عليه و يتبيّن لهم أنّه الحقّ، فالعالم- بما فيه- خلق للمعرفة؛ فلو لم يكن لأجل معرفة اللّه خلق الإنسان العارف ما خلق العالم بما فيه، كما قال سبحانه: «لولاك لما خلقت الكون» خطابا للنبيّ العربيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فالعالم مرآة يظهر فيه قدرة الحقّ و جلاله، و الإنسان هو المشاهد لتلك الآيات، و هذا معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من عرف نفسه فقد عرف ربّه؛ لأنّ نفسه مرآة بعض قدرته كما قال سبحانه: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا».

و ممّا يدلّ على أنّ خلق السماوات و الأرض تبع لخلق الإنسان الكامل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تقوم الساعة حتّى لا يقال في الأرض: اللّه اللّه؛ لأنّه إذا لم يبق المتبوع لم يبق التابع، رزقنا اللّه عرفان الهدى و مجانبة الهوى.

ص: 349

إلى هنا تمّ الجزء الأوّل من الكتاب مشتملا على تمام سورة فاتحة الكتاب و 164 آية من سورة البقرة و للّه الحمد

ص: 350

المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

كلمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الّذي نزل القرآن نورا و سراجا و قمرا منيرا و الصلاة و السّلام على رسوله الذي انزل عليه الكتاب بيانا للناس و هدى و موعظة للمتقين، و على آله الطيبين؛ ثاني الثقلين. و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

و بعد فقد بذل علماء الإسلام قديما و حديثا جهدهم في تفسير علوم القرآن و تبيين لغاته و مشكلاته؛ ففريق فسروا ألفاظه و بينوا حقائقه من مجازه و جمع جمعوا أحكامه و بينوا حلاله و حرامه، و طائفة كشفوا عن تأويله قناعه و كيفما كان ما وصلوا إلّا إلى مبلغ علمهم و منتهى همهم؛ و انى لهم الوصول إلى حقائق التنزيل و دقائق التأويل؟ لان القرآن هو النور الّذي أنزل اللّه على قلب حبيبه محمّد صلّى اللّه عليه و آله. إلّا ان المتمسكين بولاء أهل بيت الوحى المستضيئين بنور علمهم المأمورين بالتمسك بهم في حديث الثقلين قد اغترقوا من بحار علوم أهل بيت النبي غرفا و غاصوا فيها و اقتنوا منها دررا؛ و ها هي «مقتنيات الدرر» قد اقتناها علم من الأعلام؛ ثمرة الشجرة الطيبة، و النخبة من السلالة الطاهرة: «الحاج المير سيد على الحائرى» تغمده اللّه بغفرانه، و اوتى كتابه هذا بيمينه؛ قد اقتنى من الدرر أعلاها و من الغرر أسناها؛ فحقيق ان يتنافس المتنافسون في الاستفادة منها.

و قد وفق اللّه تلميذه المستضي ء بنور علمه، المقتفى اثره الحاج ميرزا عبد الحسين المعروف بمحسنيان لبذل الجهد باحياء هذا السفر الجليل القيم.

هذا و منّ اللّه سبحانه على عبده الزاكي صاحب الهمة القساء و ارومة الفضل الحاج محمود الكاشاني؛ فأنعم عليه و شرفه بإعطاء نفقة طبع الكتاب خدمة للدين و اتحافا للطيفة والده السعيد الحاج محمّد حسين الكاشاني طيب اللّه رمسه. و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.

و نشكر جميل مساعى الشباب الفاضل الأريب السيد كاظم الموسوي المياموى حيث بذل جل أوقاته لمقابلة أجزاء الكتاب مع نسخة الأصل و تخريج؛ الآيات المنثورة في ثناياه و اسناد ما يهم من رواياته و بعض الإصلاح فيه. و نسأل اللّه تعالى ان يوقفنا لإتمامه بمحمّد و آله.

محمّد الآخوندي

ص: 2

تتمة سورة البقرة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 168]

يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

. أي و بعض الناس الّذين يتّخذون [مِنْ دُونِ اللَّهِ و «دون» في الأصل ظرف مكان لكن يستعمل مجازا بمعنى «غير» مثل هذه الآية [أَنْداداً] للّه بحسب ظنونهم الفاسدة يجعلونها أمثالا للّه حيث كانوا يرجون من عندها النفع و الضرر و قصدوها بالمسائل و قرّبوا لها القرابين فإرجاع الضمير للعقلاء في قوله: [يُحِبُّونَهُمْ على زعمهم الفاسد في شأنها من وصفهم بما لا يوصف به إلّا العقلاء [كَحُبِّ اللَّهِ أي يسوّون بين اللّه و بين الأنداد في الطاعة و التعظيم.

و لفظ المحبّة مأخوذ من الحبّ بالفتح كحبّة الحنطة و الشعير، شبّه حبّة القلب أي سويداء القلب بالحبّ المعروف، ثمّ استعير اسم الحبّ لها و اشتقّ من الحبّ المستعار للقلب «الحبّ» بمعنى ميل القلب لأنّه رسخ فيها.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من حبّ الكفرة للأنداد ففضّل محبّة المؤمنين لأنّه لا ينفع محبّتهم بخلاف محبّة الأنداد؛ لأنّها لأغراض فاسدة موهومة كما أنّهم كانوا يعبدون الصنم زمانا، فإذا رأوا صنما آخر يعجبهم أخذوه و تركوا الأوّل حتّى قيل: إنّ باهلة عملت لها إلها من خبيس فأكلوه عام المجاعة.

[وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا] أي لو يعلم هؤلاء الّذين أشركوا باتّخاذ الأنداد و وضعها موضع المعبود [إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ المعدّ لهم يوم القيامة و عاينوه [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ و جواب «لو» محذوف، و التقدير: لوقعوا في الندامة و الحسرة على عبادة الأنداد فيما لا يكاد يوصف.

[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا] لمّا ذكر الّذين اتّخذوا الأنداد ذكر

ص: 3

سوء أحوالهم في المعاد. و العامل في الظرف في قوله: «إذ تبرّأ» قوله: «شديد العذاب». إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا و هم القادة و الرؤساء من الإنس المضلّين أو المراد الشياطين الموسوسة المضلّة للإنس من الّذين اتّبعوا أي من السفلة و التابعين [وَ رَأَوُا الْعَذابَ أي رأى التابع و المتبوع حين دخول النار [وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ و زال عنهم كلّ سبب يمكن أن يتعلّق به مثل العهود الّتي كانت بينهم يتوادّون عليها، و الأرحام الّتي كانوا يتعاطفون بها، و الوصلات الّتي كانوا يتقوّون بها على اختلافها من المنزلة و الشرف و القرابة و المودّة.

[وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا] يعني الشياطين قالوا: [لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً] بسبب عودة إلى دار الدنيا و حال التكليف لنا [فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ من متبوعينا [كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا] اليوم [كَذلِكَ أي مثل ذلك الإبراء الفظيع و نزول العذاب عليهم [يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ندمات شديدة؛ فإنّ الحسرة شدّة تألّم القلب من الندم و الكمد بحيث يبقى النادم كالحسير من الدوابّ و هو الّذي انقطعت قوّته فصار بحيث لا ينتفع به.

و حاصل المعنى أنّ أعمالهم تنقلب عليهم حسرات مستولية لأنّ ما عملوه من الخيرات محبوطة بالكفر فيتحسّرون لم صنعوها، و ترفع لهم الجنّة فينظرون إليها و إلى بيوتهم فيها فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم اللّه.

[وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ] روي أنّه يساق أهل النار إلى النار لم يبق منهم عضو إلّا لزمه عذاب إمّا حيّة تنهشه أو ملك يضربه فإذا ضربه الملك هوي في النار مقدار أربعين يوما لا يبلغ قرارها ثمّ يرفعه اللهب و يضربه الملك فيهوي فإذا بدا رأسه ضربه «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» فإذا عطش أحدهم طلب الشراب فيؤتى بالحميم فإذا دنى من وجهه سقط وجهه ثمّ يدخل في فيه فتسقط أضراسه ثمّ يدخل بطنه فيقطع أمعاءه و ينضج جلده و هكذا يعذّبون في النار لا يموتون فيها و لا يخرجون.

نزلت الآية في قوم حرّموا على أنفسهم رفيع الأطعمة و الملابس أي من بعض ما فيها من أصناف المأكولات لأنّ كلّ ما فيها لا يؤكل [حَلالًا] حال من الموصول أي حالكونه

ص: 4

حلالا و هو ما انحلّ عنه عقد الحظر [طَيِّباً] طاهرا من الشبهات يستطيبه الشرع و يستطيبه الشهوة المستقيمة و يستلذّه الطبع.

[وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ «الخطوة» بالفتح المرّة من نقل القدم و بالضمّ بعد ما بين قدمي الماشي يقال: أتبع خطواته و وطئ على عقبه إذا اقتدى به و استنّ بسنّته أي لا تقتدوا بآثاره و طرقه في اتّباع الهوى و وساوسه فتحرّموا الحلال و تحلّلوا الحرام [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهي أي ظاهر و «مبين» بمعنى اللازم من «أبان» بمعنى «بان» لكنّ الواحديّ جعله بمعنى المتعدّي لأنّه قد أبان عداوته لكم بإبائه السجود لأبيكم آدم و أخرجه من الجنّة.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 169]

إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)

. [إِنَّما يَأْمُرُكُمْ و يوسوس لكم شبه تسلّطه عليكم بأمر مطاع [بِالسُّوءِ] لأنّ كلّ ما يأمركم به ساءكم في العاقبة فيطلق على جميع المعاصي [وَ الْفَحْشاءِ] من عطف الخاصّ على العامّ أي أقبح أنواع المعاصي فالزنى فاحشة و كلّ فعلة قبيحة مجاوزة القدرة من كلّ شي ء و أعظمها مساءة.

[وَ أَنْ تَقُولُوا] و يأمركم أن تفتروا [عَلَى اللَّهِ بأنّه حرّم هذا و حلّل هذا [ما لا تَعْلَمُونَ .

قيل: هو دعواهم له الإشراك.

فإن قيل: كيف يأمرنا و نحن لا نراه و لا نسمع منه؟ فأمره لنا أنّ اللعين يحدّث النفس بالأفكار الرديئة الّتي تميل إليه النفوس و الطمع و يدخل بذكر الإنسان و خاطره ذلك الميل و يعين النفس الأمّارة و يرغّبها فيه.

و وسوسة اللعين على مراتب:

الأولى: مرتبة الكفر و الشرك و معاداة الرسول و إنكار ما أنزل اللّه في كتابه و استكراه أوامره فإذا ظفر بذلك برد أنينه و استراح و هذا أوّل ما يريده من العبد.

المرتبة الثانية: البدعة و هي أحبّ إليه من الفسوق و المعاصي؛ لأنّ المعصية يتاب منها و البدعة لا يتاب منها لأنّ صاحبها يظنّها حقيقة صحيحة فلا يتوب منها فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الثالثة و هي الكبائر على اختلاف أنواعها.

فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الرابعة و هي الصغائر الّتي إذا اجتمعت صارت

ص: 5

كبيرة، و الصغائر ربّما أهلكت صاحبها كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «إيّاكم و محقّرات الذنوب» فإنّ مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض فجاء كلّ واحد بعود حطب حتّى أوقدوا نارا عظيمة و طبخوا و شبعوا.

فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الخامسة و هي اشتغاله بالمباحات الّتي لا ثواب فيها و لا عقاب بل عقابها فوات الثواب الّذي فات عليه باشتغاله بها.

فإن عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة السادسة و هي أن يشغله بالعمل المفضول عمّا هو أفضل منه لينزع عنه الفضيلة و يفوته ثواب العمل الفاضل فيجرّه من الفاضل إلى المفضول و من الأفضل إلى الفاضل ليتمكّن من أن يجرّه من الفاضل إلى الشرور، و ربّما يجرّه من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشقّ كمائة ركعة بالنسبة إلى ركعتين ليصير ازدياد المشقّة سببا لحصول النفرة عن الطاعة بالكلّيّة.

و إنّما خلق اللّه إبليس ليتميّز الخبيث من الطيّب و خلق اللّه الأنبياء ليقتدي بهم السعداء فإبليس دلّال و سمسار على النار و بضاعته الدنيا.

قال بعض المفسّرين: الحلال الطيّب ما لا سؤال فيه يوم القيامة و هو ما لا بدّ فيه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يهب لابن آدم ما لا بدّ منه؛ ثوب يواري به عورته، خبز يردّ به جوعته، و بيت كعشّ الطير؛ فقيل: يا رسول اللّه فكيف الملح؟ فقال: الملح ممّا يحاسب به.

و في التأويلات النجميّة: الحلال ما أباح اللّه أكله و الطيّب ما لم يكن مشوبا بشبهة حقوق الخلق و لا بسرف حظوظ النفس و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه طيّب و لا يقبل إلّا الطيّب، يعني غير مشوب بعيب أو شبهة. و أكل الحلال الطيّب يورث القيام بطاعة اللّه و الاجتناب عن خطوات الشيطان فالعمل الصالح نتيجة اللقمة الطيّبة و بالعكس.

و في كسب الحلال فوائد كثيرة و هو سنّة الأنبياء: منها اشتغال المكتسب بالكسب عن البطالة و اللهو. و منها: كسر النفس عن الطغيان.

إنّ الفراغ و الشباب و الجدة (1)مفسدة للمرء أيّ مفسدة

و منها: أنّ الكسب واسطة الأمان من الفقر و لا يتحرّك الرجل للكسب لأجل نفقته

ص: 6


1- الجدة: الثروة و المال.

و عياله إلّا قال له حافظاه: بارك اللّه لك في حركاتك و جعل نفقاتك ذخرا لك في الجنّة و تؤمّن عليهما ملائكة السماوات و الأرض.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 170]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170)

. نزلت في مشركي العرب و كفّار قريش أمروا باتّباع القرآن فجنحوا للتقليد [اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ في كتابه و اعملوا بتحليل ما أحلّ اللّه و تحريم ما حرّم اللّه [قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا] وجدنا [عَلَيْهِ آباءَنا] من اتّخاذ الأنداد و تحريم الطيّبات فقال اللّه سبحانه ردّا عليهم بهمزة الاستفهام و الإنكار و التعجيب مع واو الحال بعدها: [أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ فاقتضت الهمزة صدر الكلام و الواو بعدها، و بين الهمزة و الواو جملة مقدّرة. و المعنى أ يتّبعونهم و لو كان آباؤهم لا يفهمون شيئا [وَ لا يَهْتَدُونَ للصواب و الحقّ أي هذا الأمر و الرأي منهم منكر مستبعد قبيح؛ لأنّ الجاهل لا يتّبع و الحقّ أحقّ أن يتّبع.

[سورة البقرة (2): آية 171]

وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)

. «المثل» قول سائر يدلّ على أنّ سبيل الثاني سبيل الأوّل و يؤتى به لهذا الأمر أي و مثل الواعظ الّذي يعظ هؤلاء الكفّار و الداعي لهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم الّتي لا تفهم؛ يقال: نعق الراعي بالغنم إذا صاح بها زجرا و نعق الغراب إذا صوّت من غير أن يمدّ عنقه و يحرّكه فإذا مدّ عنقه و حرّكه ثمّ صاح يقال: نعب.

و المراد أنّ المنعوق به يسمع الصوت و لا يفهم المعنى كذلك هؤلاء الكفّار لا يحصل من دعائك لهم إلى الإيمان إلّا السماع دون تفهّم المعنى لأنّهم ينصرفون عمدا عن تأمّله فيكونون بمنزلة من لم يعقله و لم يفهمه هذا أحد الأقوال في معنى الآية و هو قول ابن عبّاس و جماعة و هو المرويّ عن أبي جعفر.

و القول الثاني أن يكون المعنى «مثل الّذين كفروا» و مثلك يا محمّد «كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاء و نداء، فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأوّل كقوله تعالى:

ص: 7

«سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» (1) قال أبو ذؤيب:

دعاني إليها القلب إنّي لأمرهامطيع فما أدري أرشد طلابها؟

أراد: أرشد أم غيّ؟ فاكتفى بذكر الرشد لوضوح الأمر.

و ثالث الأقوال أنّ المعنى مثل الّذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الراعي في دعائه الأنعام؛ فكما أنّ من دعى البهائم يعدّ جاهلا فداعي الجماد و الحجارة أشدّ جهلا منه؛ لأنّ البهائم تسمع الدعاء و إن لم يفهم معناه و الأصنام لا يحصل لها السماع [إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً] أي صوتا من الناعق و زجرا مجرّدا من غير فهم شي ء آخر، و الفرق بين الدعاء و النداء أنّ الدعاء للقريب و النداء للبعيد.

[صُمٌّ بُكْمٌ أي هم صمّ كأنّهم يتصاممون عن سماع الحقّ و هم بمنزلة الخرس في أن لم يستجيبوا لما دعوا إليه و هم [عُمْيٌ من حيث إعراضهم عن الدلائل كأنّهم لم يشاهدوها.

ثمّ إنّه تعالى لمّا شبّههم بفاقدي هذه القوى الثلاث فرّع على هذا التشبيه قوله:

[فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ و لا يكتسبون الحقّ ممّا جبّلوا عليه من العقل الغريزيّ و لهذا قيل: من فقد حسّا فقد فقد علما، و ليس المراد نفي أصل العقل لأنّ نفيه رأسا لا يصلح طريقا للذمّ.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 172]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

. ظاهر الآية الأمر و المراد منه الإباحة؛ لأنّ تناول المشتهى لا يدخل في التعبّد. و قيل: إنّه أمر على حقيقة و هو الأمر بالأكل الحلال وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس؛ و ردّه القاضي و قال: هذا ممّا يعرض في بعض الأوقات و الآية عامّة غير مقصورة عليه فيحمل على الإباحة، أي كلوا من مستلذّات الرزق و ما تستطيبونه منه.

و فيه دلالة على النهي عن أكل الخبائث لأنّه قيل: كلوا من الطيّب دون الخبيث كما أنّه لو قيل: كلوا من الحلال لكان دالّا على حظر الحرام.

قال الطبرسيّ: و هذا صحيح فيما له ضدّ قبيح مفهوم فأمّا غير ذلك فلا يدلّ على قبح ضدّه لأنّ قول القائل: «كل من مال زيد» لا يدلّ على أنّه أراد تحريم ما عداه لأنّه قد

ص: 8


1- النحل: 81.

يكون الغرض البيان لهذا المورد خاصّة و ما عداه موقوف على بيان آخر و ليس كذلك ما ضدّه قبيح.

[وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ الّذي أحلّها لكم و هذا الأمر ليس أمر إباحة لأنّ الإنعام يقتضي الشكر [إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي إن كنتم مؤمنين باللّه و مخصّصين اللّه بالعبادة «فاشكروا له» باللسان و بسائر الجوارح؛ قال النبيّ: يقول اللّه: إنّي و الإنس و الجنّ لفي نبأ عظيم أخلق و يعبد غيري و أرزق و يشكر غيري.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 173]

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

. لمّا ذكر سبحانه إباحة الطيّبات عقّبه بتحريم المحرّمات فقال:

[إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ] و قرئ مشدّدة في جميع القرآن و الأجود التخفيف «و الميتة» ما يموت من الحيوان بغير ذكاة ممّا يذبح، و السمك و الجراد مستثنيان بدليل منفصل [وَ الدَّمَ الجاري [وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ] و الخنزير كلّه حرام و إنّما خصّ لحمه بالذكر لأنّه معظم ما ينتفع به فهو الأصل و ما عداه تبع له، و قد انعقد الإجماع على حرمة جميع أجزائه.

[وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي و حرّم ما رفع به الصوت عند ذبحه للصنم و معنى «الإهلال» في الأصل رفع الصوت و كانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكر الأصنام و يقولون باسم اللات و العزّى؛ فقيل لكلّ ذابح و إن لم يجهر بالتسمية: مهلّ، حتّى قيل: لو ذبح مسلم ذبيحة و قصد بها التقرّب إلى غير اللّه صار مرتدّا و ذبيحته ميتة.

[فَمَنِ اضْطُرَّ] و أحوج و ألجئ جوعا إلى أكل شي ء ممّا حرّم اللّه بأن لا يجد غيرها و يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف [غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ] منصوب على الحاليّة أي إذا وجد هذا المضطرّ الميتة حالكونه لم يكن متعدّ على مضطرّ آخر بأن حصل ذلك المضطرّ الآخر من الميتة مثلا قدر ما يسدّ رمقه و جوعته فأخذ منه و ظلمه و تفرّد بأكله و هلك الآخر جوعا، و هذا حرام لأنّ موت الآخر جوعا ليس أولى من موته جوعا، و لا عاد أي غير متعدّ و متجاوز لما حدّ له فيه إلى حدّ الشبع عند الأكل بالضرورة بأن يأكل قدر ما يحصّل به سدّ الرمق و الجوعة [فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تناوله عند الضرورة [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ]

ص: 9

لما أكل في حال الاضطرار [رَحِيمٌ بترخيصه ذلك.

و لم يذكر في هذه الآية سائر المحرّمات لأنّها ليست لحصر المحرّمات بل هذه الآية سيقت لنهيهم عن استحلال ما حرّم اللّه و هم كانوا يستحلّون هذه الأشياء فكانوا يأكلون الميتة و يقولون: تأكلون ما أمتّم و لا تأكلون ما أماته اللّه، على قياسهم الفاسد و كذا يأكلون الدم و لحم الخنزير و ذبح الأصنام و ليس المراد قصر الحرمة.

و قيل في معنى «غير باغ و لا عاد»: أي غير باغ على إمام المسلمين، و غير عاد بالمعصية طريق المحقّين و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 174]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)

. نزلت الآية في أحبار اليهود فإنّهم كانوا يرجون أن يكون النبيّ المبعوث في التوراة منهم فلمّا بعث اللّه نبيّنا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله من غيرهم غيّروا نعته حتّى إذا نظروا السفلة يجدونه مخالفا لصفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فلا يتّبعونه فلا تزول رئاستهم.

[وَ يَشْتَرُونَ بِهِ بدل المنزل المكتوم عوضا قليلا من الدنيا و هو المأكل كانوا يصيبونها من سفلتهم.

[أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ] أمّا في الآخرة فظاهر لأنّهم لا يأكلون يوم القيامة إلّا عين النار عقوبة لهم على أكل الرشوة في الدنيا و أمّا في الدنيا فبأكل سببها من قبيل إطلاق اسم المسبّب على السبب و معنى «في بطونهم» مل ء بطونهم يقال: فلان أكل في بطنه فلمّا لم يقل: يأكلون في بعض بطونهم علم امتلاؤها.

[وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ] بطريق الرحمة غضبا و نفي الكلام لازم للغضب، و عادة الملوك أنّهم يعرضون عن المغضوب عليهم [وَ لا يُزَكِّيهِمْ و لا يطهّرهم بالمغفرة من دنس الذنوب يوم يطهّر المؤمنين من ذنوبهم بالمغفرة [وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع.

[سورة البقرة (2): آية 175]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

.

ص: 10

[أُولئِكَ إشارة إلى من تقدّم من المشترين الّذين [اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى و استبدلوا الإيمان بالكفر فصاروا بمنزلة من يشتري السلعة بالثمن. و المراد بالضلالة كتمان أمره صلّى اللّه عليه و آله مع علمهم به، و بالهدى إظهاره، أو المراد بالضلالة العذاب و بالهدى الثواب.

و الحاصل أنّهم استبدلوا النار بالجنّة.

و قوله: [وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ] تأكيد لما تقدّم لأنّهم لمّا عرفوا ما أعدّ اللّه لمن عصاه من العذاب و لمن أطاعه من الثواب ثمّ أقاموا على ما هم عليه من المعصية فكانوا اشتروا ما يوجب العذاب و النار.

[فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ] أي ما أجرأهم على النار أو ما أعملهم بأعمال أهل النار! و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام و قيل: المعنى ما أبقاهم على النار كما يقال: ما أصبر فلانا على الحبس، و ظاهر الكلام التعجّب و التعجّب لا يجوز على اللّه؛ لأنّ التعجّب إنّما يكون ممّا لا يعرف سببه فالغرض من البيان أنّ الكفّار حلّوا محلّ من يتعجّب منه فهو تعجيب لنا منهم، و يجوز أن يحمل الكلام على الاستفهام يعني أيّ شي ء أصبرهم على النار كما قال ابن عبّاس؛ فيكون المعنى: أيّ شي ء أجرأهم على النار و أعملهم بأعمال أهل النار.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 176]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)

. أي [ذلِكَ العذاب بالنار بسبب [أن اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ أي جنس الكتاب حالكونه ملتبّسا [بِالْحَقِ فلا جرم من يرفضه بالتكذيب و الكتمان يبتلي بمثل هذا العذاب الدائم [وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ في جنس الكتاب الإلهيّ بأن آمنوا ببعضها و كفروا ببعضها أو المراد من الكتاب التوراة. و اللام للعهد أو القرآن بأن قالوا: إنّه شعر أو سحر [لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ] أي خلاف بعيد عن الصواب و مستوجب لأشدّ العذاب.

و في هذه الآيات وعيد عظيم لكلّ من يكتم أحكام اللّه أو يحرّفه لغرض فاسد فليحذر العلماء أن يكتموا الحقّ عن الملوك و الأمراء و أرباب الدنيا خوفا من اتّضاع مرتبتهم و طوح نظرهم إلى إحسانهم و رواتبهم فيكونوا حينئذ مداهنين في الدين.

ص: 11

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر. قال عليه السّلام: إذا ظهرت البدع فليظهر العالم علمه و إلّا فعليه لعنة اللّه. قال الحسن: إنّ الزبانية إلى فسقة حملة القرآن أسرع منهم إلى عبدة الأوثان فيقولون: ربّنا ما بالنا يتقدّمون إلينا فيقول اللّه:

ليس من يعلم كمن لا يعلم و ذلك لأنّهم اشتروا الدنيا بالدين.

حكي أنّ رجلا قال لأبي مدين: ما يريد منّي الشيطان فقال الشيخ أبو مدين:

إنّه جاء قبلك و شكا منك و قال: اعلم يا شيخ أنّ اللّه ملّكني الدنيا فمن نازعني في ملكي لا أتسلّى عنه بدون إيمانه.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 177]

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

. [الْبِرَّ] كلّ فعل مرضيّ يفضي بصاحبه إلى الجنّة [أَنْ تُوَلُّوا] أي أن تصرفوا [وُجُوهَكُمْ يا أهل الكتابين في الصلاة [قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ أي ليس كلّ البرّ، و ليس البرّ كلّه منحصرا في التوجّه إلى مقابلهما. و ذلك أنّ اليهود و النصارى أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الكعبة و زعم كلّ واحد من الفريقين أنّ البرّ هو التوجّه إلى قبلته فردّ سبحانه عليهم بأنّه ليس البرّ ما أنتم عليه فإنّه منسوخ خارج من البرّ.

[وَ لكِنَّ الْبِرَّ] المعهود الّذي ينبغي أن يهتمّ بشأنه برّ [مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ و حذف المضاف و السبب في التقدير أنّ اسم «لكنّ» من أسماء المعاني و خبرها من أسماء الأعيان فامتنع الحمل لذلك و إنّما قدّم الإيمان باللّه في الذكر لأنّه أصل [وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] أي بالبعث الّذي فيه جزاء الأعمال لا كما يزعمون من أنّهم لا تمسّهم النار إلّا أيّاما معدودة و أنّ آباءهم الأنبياء و يشفعون لهم فأصل البرّ هو التوجّه إلى المبدء

ص: 12

و المعاد اللّذين هما المشرق و المغرب في الحقيقة فهذان الأمران داعيان إلى الانقياد بجميع ما أمر اللّه به و نهى عنه خوفا و طمعا [وَ الْمَلائِكَةِ] كلّهم بأنّهم عباد اللّه ليسوا بذكور و لا إناث و لا بشر و لا أولاد اللّه متوسّطون بينه و بين أنبيائه بإلقاء الوحي و إنزال الكتب و أمناء اللّه و سفراؤه. و ذلك لأنّ اليهود أخلّوا بذلك حيث أظهروا عداوة جبرئيل [وَ الْكِتابِ أي بجنس الكتاب الإلهيّ الّذي من أفراده القرآن حيث إنّهم لم يقبلوه و ردّوه [وَ النَّبِيِّينَ جميعا بأنّهم المبعوثون إلى خلقه من غير تفرقة بين أحد منهم، و اليهود أخلّوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء و طعنوا في نبوّة خاتم النبيّين فهذه أمور يجب على كلّ مكلّف أن يعتقد بها.

[وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي و أعطى الصدقة على حالة يحبّ المال قال ابن مسعود: هو أن تعطيه و أنت صحيح تأمل العيش و تخشى الفقر و لا تمهل حتّى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا. و قيل: الضمير في «حبّه» راجع إلى اللّه أي يعطون المال على محبّة اللّه و خالصا لوجهه. قال المرتضى قدّس سرّه: هذا الوجه أوجه [ذَوِي الْقُرْبى مفعول أوّل لآتى، أراد قرابة رسول صلّى اللّه عليه و آله كما في قوله: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1) و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه. و قيل: المراد القرابة من أهل بيت المتصدّق و كلّ فقير و قدّم «ذوي القربى» لأنّهم أحقّ بالصدقة لقوله صلّى اللّه عليه و آله: صدقتك على المسلمين صدقة و على ذي رحمك اثنتان لأنّها صدقة و صلة لرحمك و قال صلّى اللّه عليه و آله: أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح [وَ الْيَتامى الفقراء منهم و هو الّذي لا والد له و هو صغير [وَ الْمَساكِينَ و المسكين ضربان: من يكفّ عن السؤال و هو المراد هنا و من ينبسط و يسأل و هو قوله: «وَ السَّائِلِينَ» الّذين يسألون [وَ ابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر البعيد عن ماله و سمّي به لملازمته له كما تقول للّصّ القاطع:

ابن الطريق [وَ السَّائِلِينَ الّذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال و في الحديث: للسّائل حقّ و لو جاء على ظهر فرسه [وَ فِي الرِّقابِ أي و في تخليص الرقاب بمعاونة المكاتبين و قيل:

المراد بهم الأسارى.

[وَ أَقامَ الصَّلاةَ] المفروضة عطف على الموصول [وَ آتَى الزَّكاةَ] المفروضة على أنّ المراد بما مرّ من إيتاء المال التنفّل بالصدقة و قدّم في البيان على الفريضة مبالغة في الحثّ عليه

ص: 13


1- الشورى: 23.

أو الأوّل لبيان المصارف و الثاني لبيان وجوب الأداء.

[وَ الْمُوفُونَ عطف على الموصول [بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا] و الّذين إذا عاهدوا عهدا أوفوا به كالعهود الّذي بينهم و بين اللّه و النذور و العقود الّتي بينهم و بين الناس و كلاهما يلزم الوفاء به.

[وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ] يريد بالبأساء الفقر، و بالضرّاء العلّة و المرض [وَ حِينَ الْبَأْسِ يريد وقت الحرب و جهاد العدوّ أي صابرين حين الشدّة في القتال خاصّة قال أمير المؤمنين: كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه.

[أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا] أي صدقوا اللّه و التزموه علما و عملا [وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أي اتّقوا بفعل هذه الخصال.

و اتّفقت الإماميّة و استدلّت على أنّ المعنيّ بهذه الآية أمير المؤمنين لأنّه لا خلاف بين الأمّة أنّه عليه السّلام كان جامعا لهذه الخصال فهو مراد بها قطعا و لا قطع على كون غيره جامعا لها.

قال الزّجّاج و الفرّاء: إنّها مخصوصة بالأنبياء المعصومين، لأنّ هذه الأمور لا يؤدّيها بكلّيّتها إلّا الأنبياء.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 178]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)

. لمّا بيّن سبحانه أنّ البرّ لا يتمّ إلّا بالإيمان و التمسّك بالشرائع بيّن الشرائع و بدأ بالدماء لأنّه الأهمّ فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي فرض و وجب و قيل: كتب عليكم في أمّ الكتاب و هو اللوح المحفوظ على جهة الفرض، و أصل الكتاب الخطّ الدالّ على معنى فسمّي به ما دلّ على الفرض؛ قال الشّاعر:

ص: 14

كتب القتل و القتال عليناو على الغانيات جرّ الذيول

و القصاص و المقاصّة و المبادلة نظائر يقال: قصّ أثره أي تلاه شيئا بعد شي ء و منه القصاص لأنّه يتلو أصل الجناية و يتبعه و هو أن يفعل بالثاني مثل ما فعله هو بالأوّل مع مراعاة المماثلة فإن لم تحصل المماثلة و لم يتمكّن منها فلا يقع القصاص و أمّا من يتولّى القصاص فهو إمام المسلمين و من يجري مجراه فيجب عليه استيفاء القصاص عند مطالبة الوليّ لأنّه حقّ الآدميّ و يجب على القاتل تسليم النفس.

[الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى و «في» للسبب أي بسبب قتل القتلى كما في قوله صلّى اللّه عليه و آله: إنّ امرأة دخلت النار في هرّة حبستها أي بسبب حبسها إيّاها و هذا الحكم يتوجّه إلى القاتل عمدا و أمّا في الخطاء المحض و شبه العمد فلا يقع القصاص بل يجب الدية.

فإن قيل: كيف كتب عليكم القصاص في القتلى و الأولياء مخيّرون بين القصاص و العفو و أخذ الدية؟

فالجواب أنّ الوجوب لا ينافي التخيّر أي قد فرض عليكم التمسّك بما حدّ لكم و ترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم.

[الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ] مبتدأ و خبر أي الحرّ مأخوذ و مقتول بمثله؛ قال الصادق عليه السّلام: لا يقتل الحرّ بعبد لكن يضرب الحرّ بضرب شديد و يغرم دية العبد و هذا أيضا مذهب الشافعيّ و مالك و هذا الشعر منسوب إليه:

خذوا بدمي ذاك الغزال فإنّه رماني بسهمي مقلتيه على عمد

و لا تقتلوه إنّني أنا عبده و في مذهبي لا يقتل الحرّ بالعبد

و كذلك لا يقتل المؤمن بالكافر و لكن عند الثوريّ و أبي حنيفه يقتل الحرّ بالعبد و استدلّا بعموم قوله تعالى: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» (1) قالا: إنّ شريعة من قبلنا إذا قصّت علينا في القرآن من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب، و لكن إذا صحّ أنّ الصادق عليه السّلام قال: لا يقتل فغيره كاذب.

[وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فإن قتل رجل امرأة و أراد أولياء المقتول القصاص أدّوا نصف

ص: 15


1- المائدة: 48.

دية الرجل القاتل إلى أهل الرجل و هذا هو حقيقة المساواة؛ فإنّ نفس المرأة لا تساوي نفس الرجل بل هي على النصف منها فيجب إذا أخذت النفس الكاملة بالنفس الناقصة أن يردّ فضل ما بينهما و كذلك رواه الطبريّ في تفسيره عن عليّ عليه السّلام و يجوز قتل العبد بالحرّ و الأنثى بالذكر إجماعا.

و نزلت هذه الآية في حيّين من العرب لأحدهما طول (1) على الآخر و كانوا يتزوّجون نساء بغير مهور و أقسموا: لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد منّا و بالمرأة منّا الرجل منكم و بالرجل منّا الرجلين منكم، و جعلوا جراحاتهم على الضعف من جراحات أولئك حتّى جاء الإسلام فأنزل اللّه هذه الآية.

قوله: [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ «من» موصولة أو شرطيّة و الضميران راجعان إلى «من» أي شي ء من العفو قليل، و معنى العفو الترك و عفت الدار: تركت حتّى درست «فمن عفي له» أي الجاني و القاتل إذا عفي له من أخيه الّذي هو وليّ الدم و ذكر بلفظ الاخوّة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من اخوّة الإسلام فدلّت الآية على أنّ اخوّة الإسلام بينهما لم تنقطع و أنّ القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله [شَيْ ءٌ] و هو العفو من القصاص دون الدية و قوله: «شي ء» يدلّ على أنّ بعض الأولياء إذا عفى يسقط القود و القصاص؛ لأنّ شيئا من الدم قد بطل بعفو البعض و اللّه تعالى قال: «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ» و هذا قول أكثر المفسّرين بأنّ العفو المراد في الآية أنّ وليّ الدم يعفو عن القصاص؛ و يقبل الدية، و لم يذكر سبحانه العافي لكنّه معلوم أنّ المراد به من له القصاص و المطالبة.

قال الطبرسيّ: و أمّا الّذي له العفو عن القصاص فكلّ من يرث الدية إلّا الزوج و الزوجة عندنا و أمّا غير أصحابنا من العلماء فلا يستثنوهما.

قوله: [فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ خبر مبتدأ محذوف تقديره: و إذا حصل شي ء من العفو و بطل القصاص فالأمر على وليّ المقتول بأن يطلب الدية بالمعروف و لا يظلم الجاني بالزيادة و لا يعنّفه و لا يشدّد عليه إن كان معسرا [وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ هذه وصيّة للجاني بأن لا

ص: 16


1- السلطة و بسط اليد.

يماطل أولياء الدم و لا يبخس حقوقهم بل يشكرهم على عفوهم و يؤدّي حقوقهم إليهم.

[ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ] إشارة إلى الحكم المذكور من العفو و الدية. تيسير و توسعة لكم و رحمة منه حيث لم يجزم بالعفو و أخذ الدية بل خيّركم بين الثلاث: القصاص و الدية و العفو مطلقا و ذلك لأنّ في شرع موسى عليه السّلام القصاص فقط و هو العدل المحض و في دين عيسى عليه السّلام العفو و هو الفضل فحسب و في شرعنا القصاص للتشفّي و الدية للترفّه و العفو للتكرّم.

[فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ التخفيف و تجاوز ما شرّع له بأن قتل غير القاتل أو قتل القاتل بعد العفو و أخذ الدية فقد كان الوليّ في الجاهليّة يؤمن القاتل بقبول الدية ثمّ يظفر به فيقتله [فَلَهُ باعتدائه [عَذابٌ أَلِيمٌ موجع.

[سورة البقرة (2): آية 179]

وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

. بيان لوجه الحكمة في القصاص فقال:

[وَ لَكُمْ أيّها الناس في إيجاب القصاص [حَياةٌ] لأنّ من همّ بالقتل فذكر القصاص ارتدع فكان ذلك سببا للحياة و قيل: معناه: لكم في القصاص حياة لأنّه لا يقتل إلّا القاتل دون غيره بخلاف ما كان يفعله أهل الجاهليّة الّذين كانوا يتغابون بالطوائل و نظيره من من كلام العرب: «القتل أنفى للقتل» إلّا أنّ ما في القرآن أكثر فائدة و أوجز في العبارة و أبعد من التكلّف بتكرير اللفظ و أحسن تأليفا بالحروف المتلاءمة:

أمّا تكثير الفائدة فلأنّ فيه جميع ما في قولهم: القتل أنفى للقتل و زيادة معان منها إبانة العدل لذكره القصاص؛ لأنّ القصاص عدل محض لكنّ القتل مطلقا ليس بعدل و منها إبانة الغرض المطلوب و المرغوب فيه و هو الحياة.

و أمّا الإيجاز في العبارة فإنّ الّذي هو نظير القتل أنفى للقتل قوله: «الْقِصاصِ حَياةٌ» و هو عشرة أحرف و ذلك أربعة عشر حرفا.

و أمّا بعده من الكلفة فهو أنّ في قولهم: القتل أنفى للقتل تكريرا.

و أمّا الحسن بتأليف الحروف المتلاءمة فإنّه مدرك بالحسّ و موجود باللفظ؛ فإنّ لخروج من الفاء إلى اللام في التلفّظ أعدل من الخروج من الألف إلى الهمزة لبعد الهمزة إلى اللام

ص: 17

و كذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل في التلفّظ من الخروج من الألف إلى اللام.

فباجتماع هذه الأمور الّتي ذكرناها كان أحسن منه و أبلغ فتبيّن بين أعلى الطبقة من الكلام و أدناها مع أنّ قولهم: القتل أنفى للقتل أفصح كلام عندهم.

[يا أُولِي الْأَلْبابِ أي يا ذوي العقول و الّذين يعرفون العواقب [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي تتّقون القتل بالخوف من القصاص، أو لكي تجتنبوا المعاصي.

قوله: [سورة البقرة (2): آية 180]

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

. ثمّ بيّن شريعة اخرى و هو الوصيّة فقال:

فرض [عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ] أسباب الموت و ظهر أماراته و آثاره من العلل و الأمراض إذ لا اقتدار على الوصيّة عند حضور نفس الموت أي هذا الحكم مكتوب عليكم في الأزل [إِنْ تَرَكَ واحد منكم مالا قليلا أو كثيرا و قيل: المراد من «الخير» المال الكثير لا القليل قيل: من ألف درهم إلى خمسمائة درهم و قال ابن عبّاس: إلى ثمانمائة درهم و روي عن أمير المؤمنين أنّه دخل على مولى له في مرضه و له سبع مائة درهم أو ستّمائة فقال: أ لا اوصي؟ فقال عليه السّلام: لا إنّ اللّه سبحانه قال: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» و ليس لك كثير مال و هذا هو المأخوذ به عندنا الإماميّة لأنّ قوله عليه السّلام حجّة.

[الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ أي الوصيّة لوالديه و قرابته [بِالْمَعْرُوفِ ممّن يرث و ممّن لا يرث من الأقرباء بالشي ء الّذي يعرف أهل التميز أنّه لا جور و لا حيف فيه و يحتمل أنّ المراد من «المعروف» قدر ما يوصى به لأنّ من يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف و يحتمل أن يكون أمرهم سبحانه بالطريقة الجميلة في الموصى لهم و تركا للطريقة السيّئة فليس من المعروف أن يوصى للغنيّ و ترك الفقير و يوصى للقريب و ترك الأقرب كما كان يفعله أهل الجاهليّة و ذلك لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يوصون بمالهم للبعيد رياء و سمعة و طلبا للفخر و الشرف و يتركون أقاربهم الفقراء فشرّع اللّه في هذه الآية ما كان يصرف إلى إلّا بعدين إلى الوالدين و الأقربين فعمل بها حتّى نسختها آية المواريث في سورة النساء

ص: 18

فالآن لا يجب على أحد أن يوصي لأحد قريب و لا بعيد [حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أي حقّ هذه الوصيّة حقّا على المتّقين من المخالفة.

و اختلف في هذه الآية فقيل: إنّها منسوخة في الوارث ثابتة في غير الوارث.

قال الطبرسيّ: و قيل: إنّها غير منسوخة أصلا و هو الصحيح عند المحقّقين من أصحابنا لأنّ من قال: إنّها منسوخة بآية المواريث فقوله باطل بأنّ النسخ بين الخبرين إنّما يكون إذا تنافى العمل بموجبهما و لا تنافي بين آية المواريث و آية الوصيّة فكيف تكون هذه ناسخة بتلك مع فقد التنافي؟ و من قال: إنّها منسوخة بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا وصيّة لوارث» فقد أخطأ لأنّ الخبر لو سلّم من كلّ قدح لكان يقتضي الظنّ و لا يجوز أن ينسخ كتاب اللّه بما تقتضي الظنّ، و لو سلّمنا الخبر مع ما ورد من الطعن على رواته لخصّصنا عموم الآية و حملناها على أنّه لا وصيّة لوارث بما يزيد على الثلث كما في الكافي و العيّاشي عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن الوصيّة للوارث فقال: يجوز ثمّ تلا هذه الآية. ثمّ نسخ الوجوب لا ينافي بقاء الجواز. العيّاشيّ عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يورث فقد ختم عمله بالمعصية.

[سورة البقرة (2): آية 181]

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

. ثمّ أوعد على تغيير الوصيّة أي بدّل الوصيّة، و ذكر الضمير باعتبار الإيصاء كقوله «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ» (1) أي وعظ [بَعْدَ ما سَمِعَهُ من الموصي من الأوصياء أو الأولياء أو الشهود [فَإِنَّما] إثم التبديل على من يبدّل الوصيّة [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بالإيصاء و تغييره [عَلِيمٌ بما يفعله الوصيّ و غيره.

[سورة البقرة (2): آية 182]

فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

. «الخوف» في الآية المراد منه العلم فهو من إطلاق اسم اللازم على الملزوم فإنّه إذا علم [خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً] ميلا عن الحقّ بالخطاء في الوصيّة يعني أنّ الموصى إليه إن

ص: 19


1- السورة: 275.

خشي أو علم ظلما من الموصي فيما أوصى به إليه فيما لا يرضى اللّه به. القميّ عن الصادق عليه السّلام قال: إذا أوصى الرجل بوصيّة فلا يحلّ للوصيّ أن يغيّر وصيّته بل يمضيها على ما أوصى إلّا أن يوصي بغير ما أمر اللّه فيعصي في الوصيّة و جائز له أن يردّها إلى الحقّ مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كلّه لبعض ورثته و يحرم بعضها فللوصيّ أن يردّ الوصيّة إلى الحقّ و هو المراد بالجنف و الإثم مثل أن يأمر مثلا بعمارة بيوت النار و اتّخاذ المسكر فيحلّ للوصيّ أن لا يعمل بشي ء من ذلك.

[فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ الظاهر أنّ المراد بالمصلح هو الوصيّ «بينهم» أي بين الموصى لهم، و أجراه على طريق الشرع [فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ و لا وزر على المغيّر في هذا التبديل لأنّه تبديل باطل إلى حقّ بخلاف الأوّل [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور عن المعاصي لمن تاب، رحيم للمحسنين.

[سورة البقرة (2): آية 183]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

. أي فرض عليكم صيام شهر رمضان لقوله تعالى: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (1) بعد قوله: «شَهْرُ رَمَضانَ» و الصيام في الشريعة هو الإمساك نهارا عن المفطرات المعهودة و هذا صوم العوامّ، و أمّا صوم الخواصّ فالإمساك عن المنهيّات دائما كما قيل: من أراد السلامة فليصم الدهر كلّه و ليكن إفطاره الموت، و أمّا صوم أخصّ الخواصّ فالإمساك عمّا سوى اللّه.

[كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم من لدن آدم، و كان الصوم على آدم أيّام البيض و كان على قوم موسى صوم عاشوراء [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي و ذلك لأنّ الصوم من موجبات التقوى؛ فإنّ الصوم يكسّر الشهوة الّتي هي مبدء المعاصي و إنّه أغضّ للبصر و أحصن للفرج، و تسكين الشهوة يحصل بالصيام و القيام

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 184]

أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

. [أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي موقّتات قليلات فإنّ القليل من المال يعدّ عدّا، و انتصاب «أيّاما» على الظرفيّة بتقدير «صوموا» دلّ الكلام عليه.

و اختلف في هذه الأيّام قيل: إنّها غير شهر رمضان و كانت ثلاثة أيّام من كلّ

ص: 20


1- السورة: 185.

شهر ثمّ نسخ. و قيل: ثلاثة أيّام من كلّ شهر و صوم يوم عاشوراء ثمّ قيل: إنّه كان تطوّعا و قيل: كان واجبا و لكن على التقادير نسخ بصوم رمضان.

[فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] مرضا يضرّه الصوم أو على سفر أي راكب سفر و قاطع مسافة، و هو ظرف عطف على قوله «مريضا» و هو و إن كان ظرفا فهو بمعنى الاسم أي مسافرا فالّذي ينوب مناب صومه عدّة من أيّام أخر، فعدّة من العدّ بمعنى المعدود و منه يقال للجماعة المعدود من الناس: عدّة، و حاصل الآية أنّ فرض الصوم في الأيّام المعدودات يلزم الأصحّاء و أمّا من كان مريضا أو مسافرا فله تأخير الصوم عن هذه الأيّام إلى أيّام أخر.

[وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ و اختلف في المراد فقال بعض المفسّرين: إنّ المعنى أنّ الأصحّاء الّذين يتمكّنون من الصوم مخيّرون بين أمرين بين أن يصوموا و بين أن يفدوا و كان ذلك في بدء الإسلام و لم يكونوا متعوّدين بالصوم فخيّرهم سبحانه لئلّا يشقّ عليهم ثمّ نسخ التخيير و نزلت العزيمة بقوله: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ».

[فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ أي إعطاء فدية و هي إطعام مسكين و هي نصف صاع على قول أهل العراق من كلّ يوم، و عند الشافعيّ مدّ من كلّ يوم و هو مل ء الكفّين و امتدادها و لذا سمّي بالمدّ أي ممدودتين و مبسوطتين. و عند الإماميّة إن كان قادرا فمدّان، و إلّا فمدّ واحد. و قيل: إنّ هذه الرخصة كانت للحوامل و المراضع و الشيخ الفاني، ثمّ نسخ من الآية الحامل و المرضع و بقي الشيخ الكبير على الحكم. و ثالث الأقوال: أنّ باب الإفعال من معانيه السلب، كما تقول: أكرمته أي سلبت عنه الكرامة، فالمعنى: فعلى الّذين هم مسلوبين الطاقة من مرض أو عطاش أو كبر فعليهم بدل كلّ يوم مدّ. و على هذا المعنى فلا نسخ في الآية، و روى عليّ بن إبراهيم بإسناده عن الصادق عليه السّلام: أنّ المراد من قوله:

«وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ» أي من مرض في رمضان فأفطر ثمّ صحّ فلم يقض ما فاته حتّى جاء رمضان آخر فعليه أن يقضي و يتصدّق لكلّ يوم مدّا من طعام.

[فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي من تطوّع بزيادة الإطعام بأن يعطي المسكين الواحد أكثر من قدر الكفاية حتّى يزيده من نصف صاع فهو عمل برّ و خير له و قيل: أن

ص: 21

يزيد على مسكين واحد، مثل أن يطعم مكان كلّ يوم مسكينين مثلا.

[وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي و صومكم خير لكم من الإفطار و الفدية و هذا الجواز كان قبل النسخ، فأمّا بعد النسخ فلا يجوز أن يقال: الصوم خير من الفدية؛ لأنّ الإفطار لا يجوز أصلا، و محكومون بالصوم [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّ الصوم خير من الفدية و افترض الصوم بعد خمس عشرة سنة من النبوّة بعد الهجرة بثلاث سنين.

قيل: أوّل ما فرض الصوم على الأغنياء لأجل الفقراء في زمن الملك طهمورث ثالث ملوك بني آدم، وقع القحط في زمانه فأمر الأغنياء بطعام واحد بعد الغروب و بإمساكهم بالنهار إيثارا على الفقراء و شفقة لهم بطعام النهار و تواضعا للّه.

و الصوم سبب للولوج في ملكوت السماوات و واسطة الخروج عن رحم مضائق الجسمانيّات، المعبّر عنه بالنشأة الثانية كما أشير إليه بقول عيسى عليه السّلام حيث قال: لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرّتين. و مجاهدة الصوم رابطة مشاهدة الصفاء و إليه يشير الحديث القدسيّ: الصوم لي و أنا اجزى به، يعني: أنا جزاؤه لا حوري و لا قصوري.

و قال سبحانه في مخاطبة عيسى عليه السّلام: تجوّع تراني. و إنّما يكون اللّه جزاء صومه إذا أمسك قلبه و لسانه و روحه و سرّه عمّا سواه، و أهل التأويل أوّلوا «صوموا للرؤية و أفطروا للرؤية» أي رؤية جلال الحقّ.

فينبغي أن يكون صوم العبد ظاهرا و باطنا أي أعضاؤه الظاهرة و الباطنة، فصوم الأعضاء مثل اللسان عن الكذب و الفحش و الغيبة و النميمة و اللغويّات و أمثالها، و العين عن النظر في الغفلة و الريبة، و صوم السمع عن استماع الملاهي و المناهي و قس الباقي، و صوم النفس عن الآمال و التمنّي و الشهوات، و صوم القلب عن حبّ الدنيا، و صوم الروح عن نعيم الآخرة و لذّاتها، و صوم السرّ عن رؤية وجود غير اللّه. و هذه المقامات تختلف على درجات المعرفة؛ فمن كمال لطفه تعالى أن جعل صومكم في أيّام قلائل معدودات و ثمرات صومكم إذا صمتم حسبما شرح في أيّام غير متناهية.

و أعلم أنّ الخلق في توجّههم إلى ما هو قبلتهم طائفتان: إحداهما العوامّ الّذين قصّروا نظرهم على العاجل من الدنيا و الشهوات و مقتهم الرسول بقوله: ما ذئبان ضاريان

ص: 22

في زريبة غنم بأكثر فسادا من حبّ المال و الشرف في دين المرء المسلم. و آخرون الخواصّ و هم الّذين علموا أنّ كلّ شي ء فوقه شي ء آخر، فهم من الأقلّين و تحقّقوا أنّ الدنيا من بعض مخلوقات اللّه و أعظم أمورها الأجوفان: المطعم و المنكح و قد شاركهم في ذلك كلّ البهائم و الدوابّ، فأعرضوا عنها و تعرّضوا لمرتبة سنيّة و اشتغلوا بما يبقى و هو الإطاعة، و قسم من هذا القسم الخواصّ صاروا أخصّ حيث كشف لهم معنى «و اللّه خير و أبقى» و تحقّق عندهم حقيقة لا إله إلّا اللّه و أنّ كلّ من توجّه إلى ما سواه فهو غير خال من الشرك الخفيّ فجعلوا جميع الموجودات عندهم قسمين: اللّه و ما سواه و اتّخذوا ذلك كفّتي ميزان و قلبهم لسان الميزان فكلّما رأوا قلوبهم مائلة إلى الكفّة الشريفة حكموا بثقل كفّة الحسنات و كلّما رأوها مائلة إلى الكفّة الخسيسة حكموا بثقل كفّة السيّئات و هذا شغلهم و سلوكهم إلى أن وصلوا إلى المرتبة العليا، و هذا معنى الوصول إلى الحقّ لا كما توهّمه الطبقة الصوفيّة في مزخرفاتهم فتيقّظ من نومة الغفلة في يومك لغدك قبل أن يخرج الأمر من يدك.

[سورة البقرة (2): آية 185]

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

. [شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ الشهر معروف و جمعه في القلّة أشهر و في الكثرة شهور. شهرت الحديث أظهرته و شهرت السيف: انتضيته و المراد الظهور بسبب الهلال، و إنّما سمّي برمضان لأنّ العرب سمّوا الشهور بمناسبة الأزمنة الّتي وقعت الشهور فيها، فوافق رمضان أيّام رمض الحرّ و شدّته و قيل: سمّي رمضان لأنّه يرمض الذنوب و يحرقها كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه.

و ارتفاع «شهر» على أنّه خبر مبتدأ محذوف يدلّ عليه أيّاما و التقدير: هي شهر رمضان، أو بدل من الصيام أي كتب عليكم شهر رمضان، أو مرفوع على الابتداء و يكون خبره «الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» و قيل: «رمضان» اسم من اسماء اللّه، أي شهر اللّه.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان و أنزلت التوراة لستّ

ص: 23

مضين منه و الإنجيل لثلاث عشرة و القرآن لأربع و عشرين.

و القرآن من القرء، و هو الجمع لأنّه مجمع علم الأوّلين و الآخرين.

[هُدىً لِلنَّاسِ أي أنزل حالكونه هداية للناس إلى سواء الصراط [وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ و حالكونه آيات واضحات بما يهدي إلى الحقّ و يفرّق بين الحقّ و الباطل و الهدى على قسمين: ما يكون بيّنا جليّا و ما لا يكون، فذكر الجنس أوّلا ثمّ أردفه بأشرف نوعيه و بالغ فيه بنفس الهداية.

[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ] الفاء للتفريع؛ حضر موضع الاقامة من المصر أو القرية كائنا ذلك الحاضر في الشهر [فَلْيَصُمْهُ أي فليصم فيه بحذف الجارّ.

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: خطب رسول اللّه للناس في آخر جمعة من شعبان فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس إنّه قد أظلّكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر و هو شهر رمضان، فرض اللّه صيامه و جعل قيام ليلة فيه بتطوّع صلاة كمن تطوّع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور، و جعل لمن تطوّع فيه بخصلة من خصال الخير و البرّ كأجر من أدّى فريضة من فرائض اللّه فيما سواه، و من أدّى فيه فريضة من فرائض اللّه كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور و هو شهر الصبر و إنّ الصبر ثوابه الجنّة و هو شهر المواساة و هو شهر يزيد اللّه فيه من رزق المؤمنين، و من أفطر فيه مؤمنا صائما كان له بذلك عند اللّه عتق رقبة و مغفرة لذنوبه فيما مضى.

فقيل له: يا رسول اللّه ليس كلّنا نقدر على أن نفطر صائما، قال: فإنّ اللّه كريم يعطي هذا الثواب من لا يقدر منكم إلّا على مذقة من لبن يفطر بها صائما أو شربة من ماء عذب أو تميرات لا يقدر على أكثر من ذلك، و من خفّف عن مملوكه خفّف اللّه عليه حسابه و هو شهر أوّله رحمة و أوسطه مغفرة و آخره إجابة و العتق من النار، و لا غنى بكم فيه عن أربع خصال خصلتين ترضون اللّه بهما و خصلتين لا غنى بكم عنهما، فأمّا اللتان ترضون اللّه بهما، فشهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه و أمّا اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون اللّه فيه حوائجكم و الجنّة، و تسألون فيه العافية و تتعوّذون به من النار.

[وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً] و إن كان مقيما حاضرا فيه [أَوْ عَلى سَفَرٍ] أي في سفر و إن كان

ص: 24

صحيحا و حروف الصفات يقام بعضها مقام بعض [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] فعليه صيام أيّام أخر.

[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ] حيث أوجب الفطر بالسفر و المرض [وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ] أي مشقّة بالصوم في السفر و المرض لغاية رأفته. قال الترمذيّ: اليسر اسم الجنّة و العسر اسم جهنّم، و التأويل: يريد اللّه بصومكم إدخالكم الجنّة و لا يريد بكم إدخال النار.

[وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] و إنّما أمرناكم بتكميل العدّة بصوم أيّام رمضان لأنّه مع الطاقة و عدم العذر يسهل عليكم، و المريض و المسافر يتعسّر عليهما ذلك فيكملان العدّة من وقت آخر و عليكم عدّ ما أفطرتم لتكملوا عدد قضاء ما أفطرتم.

[وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ و تعظّموه حامدين [عَلى ما هَداكُمْ إلى طريق الخروج عن عهدة التكليف و وفّقكم بتعليم هذه المثوبات و الفيوضات [وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لكي تشكروا اللّه على هذه النعمة باللسان و البدن و القلب.

و في الحديث: من حافظ على ثلاث فهو وليّ اللّه حقّا و من ضيّعهنّ فهو عدوّ اللّه حقّا الصلاة و الصوم و الغسل من الجنابة. و في بعض الخبر: الجنان يشتقن إلى أربعة نفر:

صائمي رمضان و تالي القرآن و حافظي اللسان و مطعمي الجيران؛ و إنّ اللّه يغفر للعبد المؤمن عند إفطاره ما مشت إليه رجلاه و ما قبضت عليه يداه و ما نظرت إليه عيناه و ما سمعته أذناه و ما نطق به لسانه و ما حدث به قلبه.

أقول: إن صحّ الحديث فذلك بعد التوبة و الصوم المستجمع للشرائط الّتي ذكرناه قبيل هذا. و في الحديث: إذا كان يوم القيامة و بعث من في القبور، أوحى اللّه إلى رضوان أنّى أخرجت الصائمين من قبورهم جائعين عاطشين في الدنيا، فاستقبلهم بشهواتهم من الجنان فيصيح الرضوان: أيّها الغلمان و الولدان عليكم بأطباق من نور؛ فيجتمع أكثر من عدد الرمل و قطرات الأمطار و كواكب السماء و أوراق الأشجار بالفاكهة و الأشربة اللذيذة و الأطعمة الشهيئة فيطعم من لقى منهم و يقول: كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيّام الخالية.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: رأيت ليلة المعراج عند سدرة المنتهى ملكا لم أر مثله طولا و عرضا، طوله مسيرة ألف ألف سنة و له سبعون ألف رأس، في كلّ رأس

ص: 25

سبعون ألف وجه، في كلّ وجه سبعون ألف لسان و على كلّ رأس ألف ذؤابة من نور و على كلّ ذؤابة ألف ألف لؤلؤة معلّقة بقدرة اللّه و في جوف كلّ لؤلؤة بحر من نور و في ذلك البحر حيتان، طول كلّ حوت مقدار مائتي عام، مكتوب على ظهرهنّ: لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه، و ذلك الملك واضع إحدى يديه على رأسه و الأخرى على ظهره و هو في حظيرة القدس، فإذا سبّح اهتزّ العرش بحسن صوته، فسألت عنه جبرئيل، فقال: هذا ملك خلقه اللّه قبل آدم بألفي عام، فقلت أين كان هذا إلى هذه الغاية؟ فقال عليه السّلام: إنّ للّه مرجا في الجنّة عن يمين العرش فكان هذا الملك فيه، فأمره اللّه في ذلك المكان أن يسبّح و يكون لك و لأمّتك ثوابه بسبب صوم شهر رمضان فرأيت صندوقين بين يديه، على كلّ صندوق ألف قفل من نور، و سألت جبرئيل عن الصندوقين فقال سل منه، فسألته، فقال: إنّ فيهما براءة الصائمين من أمّتك من عذاب النار طوبى لك و لأمّتك انتهى.

[سورة البقرة (2): آية 186]

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

. سأل سائل من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أ قريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت الآية فقال: [وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فقل [إني قَرِيبٌ يدلّ بهذا على أنّه سبحانه لا مكان له، إذ لو كان له مكان لم يكن قريبا من كلّ من يناجيه و قيل معناه أنّي سريع الإجابة إلى دعاء الداعي لأنّ السريع و القريب متقاربان و لكن شرط الإجابة المشيّة و موافقة القضاء لأنّ هذه الآية مطلقة و المطلق محمول على المقيّد و المقيّد قوله تعالى: «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» (1) فيكون المعنى: أجيب دعوة الداع إذا دعاني إن شئت [فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي الإجابة و الاستجابة يطلقان بمعنى واحد، قال الشاعر:

وداع دعانا من يجيب إلى النداءفلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي لم يجب، و معنى الآية فليجيبوا إذا دعوتهم للإيمان و الطاعة، قال المبرّد و السرّاج:

معناه: فليذعنوا للحقّ بطلب موافقة ما أمرتهم به و نهيتهم عنه، و حاصل المعنى: فليجيبوني

ص: 26


1- الانعام: 41.

و ليطيعوني. و قيل معناه: فليدعوني. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أعجز الناس من عجز من الدعاء و أبخل الناس من بخل بالسلام [وَ لْيُؤْمِنُوا بِي أي و ليتصدّقوا فإنّي قادر على إعطائهم ما سألوه [لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ إلى الحقّ و يهتدون إليه و الداعي يجب أن يسأل ما فيه صلاح له في دينه فاللّه سبحانه يجيبه إذا اقتضت المصلحة إجابته أو يؤخّر الإجابة إن كانت المصلحة في التأخير.

فإن قيل: إنّ ما يقتضيه المصلحة لا بدّ و أن يفعله فما معنى الدعاء و إجابته؟

فالجواب: أنّ الدعاء عبادة في نفسها يعبد اللّه بها لما فيه من إظهار الخضوع و الانقياد إليه و لا يمتنع أن يكون وقوع ما سأله إنّما صار مصلحة بعد الدعاء و لا يكون مصلحة قبل الدعاء.

روي عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ العبد ليدعو اللّه و هو سبحانه يحبّ العبد، فيقول: يا جبرئيل لا تقض لعبدي هذا حاجته و أخّرها فإنّي أحبّ لا أزال أسمع صوته و أنّ العبد ليدعو اللّه و هو سبحانه يبغضه فيقول لجبرئيل: اقض لعبدي هذا حاجته و عجّلها فإنّي أكره أن أسمع صوته.

و قيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو اللّه فلا يستجيب لنا فقال: لأنّكم عرفتم اللّه فلم تطيعوه و عرفتم الرسول و لم تتّبعوا سنّته و عرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه و أكلتم نعمة اللّه فلم تؤدّوا شكرها و عرفتم الجنّة فلم تطلبوها و عرفتم النار فلم تهربوا منها، و عرفتم الشيطان فلم تحاربوه و وافقتموه، و عرفتم الموت فلم تستعدّوا له، و دفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم و تركتم عيوبكم و اشتغلتم بعيوب الناس انتهى.

قال خضر عليه السّلام لموسى (و اسمه إلياس بن ملكان و قيل: اسمه يلياء و اختلفوا فيه، قيل: إنّه نبيّ، محتجّين بقوله تعالى: «وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي» و بأنّه أعلم من موسى) و بالجملة ممّا نقل من وصاياه لموسى لمّا أراد أن يفارقه: يا موسى اجعل همّك في معادك و لا تخض فيما لا يعنيك و لا تترك الخوف في أمنك و لا تيأس من الأمن في خوفك، و لا تضحك من غير عجب، و لا تعيّر أحد الخاطئين بعد الندم و ابك على خطيئتك، يا موسى لا تطلب العلم لتحدّث به و اطلب العلم لتعمل به، و إيّاك و الغضب إلّا في اللّه و لا ترض على أحد إلّا في اللّه، و

ص: 27

لا تحبّ لدنيا و لا تبغض لدنيا فإنّ ذلك يخرج من الايمان و يدخل في الكفر انتهى.

أقول: و أحكم الأجوبة في هذا الباب أنّه شرط لهذه الإجابة لعبده إجابة العبد إيّاه فيما دعاه إليه لقوله: «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي» فإذا لم يجب العبد ربّه بالإطاعة لا يجيب المولى دعوته كما قال سبحانه: «وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» (1) و قد قيل: إنّ الدعاء مفتاح باب السماء و أسبابه لقمة الحلال، حكي أنّه كان بالكوفة أناس يستجاب دعاؤهم كلّما دخل عليهم وال كانوا يدعون عليه فيهلك فلمّا ولّى الحجّاج الكوفة من ابن مروان دعاهم إلى مأدبته فلمّا أكلوا قال: أمنت من دعائهم فليدعوا عليّ ما شاؤوا. لكن مع ذلك كلّه فليكن العبد حريصا على التضرّع و الدعاء، و يسعى في دفع موانع الاستجابة و يهيّئ موجباتها كالخلوص و الأزمنة و الأمكنة.

قال صلّى اللّه عليه و آله: قوام الدنيا بأربعة أشياء: بعلم العلماء و عدل الأمراء و سخاوة الأغنياء و دعوة الفقراء.

و ينبغي أن يسأل اللّه تعالى بأسمائه الحسنى و الأدعية المأثورة و يتوسّل إلى اللّه بالأنبياء و الأئمّة المعصومين، و للدعاء أماكن يظنّ فيها الإجابة مثل عند رؤية الكعبة و في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأقصى و الكوفة و قبّة الحسينيّة عليه السّلام و بين ذكر الجلالتين من سورة الأنعام في قوله تعالى: «وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (2) و في الطواف و في البيت و عند زمزم و عند شرب مائه و على الصفا و المروة و في السعي و خلف المقام و المزدلفة و منى و عند الجمرات و عند قبور الأنبياء.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 187]

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

ص: 28


1- السورة: 40.
2- الآية: 124.

بيّن سبحانه وقت الصيام و ما يتعلّق به من الأحكام فقال: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ أي أبيح لكم في ليلة يوم الصوم [الرَّفَثُ أصل الرفث قول الفحش و التكلّم بالقبيح، ثمّ جعل ذلك اسما لما يتكلّم به عند النساء من معاني الإفضاء، ثمّ جعل كناية عن الجماع قال ابن عبّاس: «الرفث» كلمة جامعة لكلّ ما يريده الرجل من المرأة كالغمز و التقبيل.

[إِلى نِسائِكُمْ و كان الرجل في ابتداء الإسلام إذا أمسى في رمضان حلّ له الأكل و الشرب و الجماع إلى أن يصلّي العشاء الأخيرة أو يرقد، فإذا صلّاها أو رقد و لم يفطر حرم عليه الطعام و الشراب و النساء إلى القابلة، ثمّ إنّ بعض الأصحاب واقع أهله بعد صلاة الأخيرة فلمّا اغتسل أخذ يبكي و يلوم نفسه، و أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّي أعتذر إلى اللّه و إليك من هذه الخاطئة فنزلت الآية.

[هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ و عبّر باللباس و جعل كلّ من الرجل و المرأة لباسا للآخر لتجرّدهما عند النوم و اشتمال كلّ منهما على الآخر [عَلِمَ اللَّهُ في الأزل [أَنَّكُمْ (كُنْتُمْ) تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ تخونونها بتعريضها للعقاب بمباشرة النساء في ليالي الصوم و قد ائتمن اللّه العباد على ما أمرهم و نهاهم، فالتكليف أمانة، فإذا عصوه في السرّ فقد خانوا و قد قال اللّه: «لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ» (1) [فَتابَ عَلَيْكُمْ عطف على «علم» أي قبل توبتكم [وَ عَفا عَنْكُمْ أي محى أثره عنكم [فَالْآنَ لمّا نسخ التحريم [بَاشِرُوهُنَ و المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة، كنّي بها عن الجماع الّذي يستلزمها.

[وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ و اطلبوا ما قدّره اللّه لكم من الولد و هو أن يجامع الرجل أهله رجاء أن يرزقه ولدا يعبده، و قيل معناه: اطلبوا ما كتب اللّه لكم من الأمور الّتي بيّنه في كتابه، فإنّ اللّه يحبّ أن يؤخذ برخصه، كما يحبّ أن يؤخذ بعزيمته.

[وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا] إباحة للأكل و الشرب [حَتَّى يَتَبَيَّنَ و يتميّز [لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ] أي النهار من الليل، فأوّل النهار طلوع الفجر الثاني و قيل:

بياض الفجر من سواد الليل، و إنّما شبّه و عبّر بالخيط لأنّ القدر الّذي يحرّم الإفطار من البياض يشبه الخيط و هو أوّل ما يبد و من بياض النهار كالخيط الممدود دقيقا، ثمّ ينتشر،

ص: 29


1- الأنفال: 27.

و إنّما قال سبحانه: «مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ» لأنّه إذا ظهر الخيط الأبيض فذلك الخيط الأبيض معه بقيّة من ظلمة الليل، و يكون طرفه الملاصق له كأنّه خيط أسود في جنب خيط أبيض و نور الصبح ينشقّ في خلال ظلمة الليل، فشبّها بخيطين أبيض و أسود [مِنَ الْفَجْرِ] للتبيّن لأنّه بيّن الخيط الأبيض الّذي هو الفجر.

و روي أنّ عديّ بن حاتم قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّي وضعت خيطين من شعر أبيض و أسود، فكنت أنظر فيهما فلا يتبيّن لي فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى بدت نواجذه (بالذال المعجمة و هي أقصى الأضراس الأربعة) ثمّ قال: يا ابن حاتم إنّما ذلك بياض النهار و سواد الليل فابتدء الصوم من هذا الوقت.

[ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ أي أديموا الإمساك في جميع أجزاء النهار [إِلَى اللَّيْلِ أي ينتهي النهار إلى وقت دخول الليل و علامة دخوله سقوط الحمرة من جانب المشرق و إقبال السواد منه.

[وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ] قيل: أراد من المباشرة الجماع. و قيل:

أراد الجماع و كلّ ما دونه من قبلة و غيرها و هو مذهبنا الإماميّة أي و الحال أنتم معتكفون في المساجد، قال الطبرسيّ: و الاعتكاف لا يصحّ عندنا إلّا في أحد المساجد الأربعة: المسجد الحرام و مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مسجد الكوفة و مسجد البصرة، و عند غيرنا يجوز في سائر المساجد إلّا أنّ مالكا قال: إنّه يختصّ بالجامع؛ قال الطبرسيّ: و لا يصحّ الاعتكاف عندنا إلّا بصوم و أيضا عندنا لا يكون إلّا في ثلاثة أيّام.

[تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى الأحكام المذكورة في الآية [فَلا تَقْرَبُوها] أي فلا تأتوها و هو أبلغ من قوله: فلا تعتدوها لأنّه نهي عن قربها فضلا عن تجاوزها [كَذلِكَ أي بيانا مثل هذا البيان الوافي [يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ و نصوص أحكامه [لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يحترزوا المعاصي. و في الآية دلالة على أنّ اللّه تعالى أراد التقوى عن جميع الناس.

و في الدعاء: أعوذ بك من الذنوب الّتي تهتك العصم، قال الصادق صلّى اللّه عليه و آله: هي شرب الخمر و اللعب بالقمار و فعل ما يضحك الناس من اللهو و المزاح و ذكر عيوب الناس و مجالسة أهل الريب.

ص: 30

[سورة البقرة (2): آية 188]

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

. [وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالغصب و الظلم و الوجوه الّتي لا تحلّ. و قيل: المراد ما يؤخذ باللهو و اللعب، مثل ما يؤخذ بالقمار و الملاهي. و روي عن أبي جعفر عليه السّلام: أنّه يعني بالباطل اليمين الكاذبة تقتطع به الأموال.

و روي عن الصادق عليه السّلام قال: كانت قريش يقامر الرجل في أهله و ماله فنهاهم اللّه.

و الآية تشتمل الجميع مثل الرشى و حلوان الكاهن و المغنّي و النائحة و الخبلة و وجوه الحرام بينهم كون الأكل بينهم وقوع التداول و التناول، و ليس المراد نفس الأكل بل شاع في العرف أنواع التصرّفات في الإنفاق بالأكل، و لأنّ معظم المقصود من المال الأكل و حاصل المعنى: أن لا تأكلوها بالسبب الباطل.

[وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ و تلقوا الأموال إلى القضاة، عطف على المنهيّ عنه فيكون مجزوما بلا الناهية المذكورة بواسطة العاطف، قيل: إنّه الودائع و ما لا يقوم عليه بيّنة، فتراجعون فيها إلى الحكّام، فتحلفون كاذبين و تأكلون الوديعة. و قيل: إنّه مال اليتيم في يد الأوصياء و أنّهم يدفعونه إلى الحكّام إذا طولبوا به ليقطعوا بعضه و تقوم لهم في الظاهر حجّة. و قيل: ما يؤخذ بشهادة الزور و الأولى الجميع.

[لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ : و ذلك الأكل بسبب وسيلة التحاكم إليهم و تجعلون هذه الوسيلة سببا لأن تأكلوا بعض أموال الناس بالباطل، و بالفعل الّذي يوجب الإثم أو أن يحكم الحاكم بالظاهر و كان الأمر في الواقع بخلافه.

[وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّ ذلك الفريق من المال ليس بحقّ لكم، أو أن تراجعوا إلى حكّام مبطلين يأخذون منكم الرشى و يحكمون لكم ما ليس لكم و أنتم تأخذونه و تأكلون ذلك المال.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام علم اللّه أنّه سيكون في هذه الأمّة حكّام يحكمون بخلاف الحقّ، فنهى سبحانه المؤمنين أن يتحاكموا إليهم و هم يعلمون أنّهم لا يحكمون بالحقّ.

في عقاب الأعمال عن الصادق عليه السّلام قال: قال عليّ عليه السّلام: إنّ في جهنّم رحى تطحن

ص: 31

العلماء الفجرة و القرّاء الفسقة و الجبابرة الظلمة و الوزراء الخونة و العرفاء الكذبة و العلماء و القضاة الّذين خالف عملهم قولهم يمضغون ألسنتهم يوم القيامة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أبغضكم إليّ الثرثارون أي كثير الكلام من غير حاجة. قال صلّى اللّه عليه و آله الّذين يجورون في الحكم يحشرون يوم القيامة عميا.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحشر أصناف من أمّتي أشتاتا، ميّزهم اللّه و بدّل صورهم، فبعضهم بصورة القردة و بعضهم بصورة الخنازير و بعضهم منكّسون أرجلهم فوق رؤوسهم يسحبون عليها و بعضهم عمي و بعضهم صمّ بكم و بعضهم يمغضون ألسنتهم فهي مدلات على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم، و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم و بعضهم مصلّبون على جذوع من نار و بعضهم أشدّ نتنا من الجيف و بعضهم ملبّسون ثيابا سابغة (1) من قطران لازقة بجلودهم، فأمّا الّذين بصورة القردة: القتّات، و الخنازير: أهل السحت، و المنكّسون: أكلة الربا، و العمي: الجائرون في الحكم، و الصمّ و البكم: المعجبون بأعمالهم، و الماضغون ألسنتهم: العلماء الّذين خالف عملهم قولهم، و الّذين قطعت أيديهم و أرجلهم: الّذين يؤذون الجيران، و أمّا المصلّبون: السعاة بالناس إلى السلطان، و الّذين أشدّ نتنا من الجيف: الّذين يتّبعون الشهوات و يمنعون حقّ اللّه في أموالهم و الّذين يلبسون ثيابا من نار: فأهل الكبر و الخيلاء و الفخر.

قوله: [سورة البقرة (2): آية 189]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

. «الأهلّة» جمع هلال و اشتقاقه من استهلّ الصبيّ أو بكى و صاح حين يولد، و الهلال حين يرى يهلّ الناس و يرفعون أصواتهم بذكره و لذلك يسمّى الهلال هلالا.

روي أنّ معاذ بن جبل و ثعلبة بن غنم الأنصاريّ قالا: يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو دقيقا ثمّ يزيد حتّى يمتلئ ثمّ لا يزال ينقص حتّى يعود كما بدأ أوّلا؟ فأنزل اللّه الآية:

[قُلْ هِيَ أي الأهلّة [مَواقِيتُ جمع ميقات من الوقت و الفرق بين الوقت و بين المدّة و الزمان أنّ المدّة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها و الزمان مدّة مقسومة

ص: 32


1- كذا في الأصل.

إلى الماضي و الحال و المستقبل، و الوقت الزمان المفروض لأمر [لِلنَّاسِ أي لما يتعلّق بهم من أمور معاملاتهم و مصالحهم [وَ الْحَجِ و أموره المتعلّقة بأوقات مخصوصة و دبّر هذا التدبير سبحانه في تغيّر القمر بهذه الكيفيّة لأنّه علّق به مواقيت أمورهم فتعرف المواقيت؛ بهذه الاختلافات لحاجة الناس إلى ذلك.

[وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها] لمّا بيّن سبحانه أنّ الأهلّة مواقيت للنّاس و الحجّ و كان عادتهم أي الأنصار إذا أحرم الرجل منهم بالحجّ و العمرة لم يدخل حائطا و لا دارا من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته يدخل منه و يخرج أو يتّخذ سلّما فيصعد منه و إن كان من أهل الوبر خرج من ظهر الخيمة و الفسطاط و لا يدخل و لا يخرج من الباب حتّى يحلّ من إحرامه فعطف سبحانه على ما قبله بأنّه كما أنّ أموركم مقدّرة بأوقات الأهلّة فليكن أفعالكم في الحجّ على الاستقامة بما أمركم اللّه به فقال: و ليس البرّ هذا الأمر. و قيل في الآية معنى آخر و هو أنّ المراد ليس البرّ أن تأتوا الأمور من غير جهاتها و ينبغي أن تأتوا الأمور من جهاتها أيّ الأمور كان و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

[وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها] مرّ معناه قال أبو جعفر عليه السّلام: آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله أبواب اللّه و سبيله و الدعاة إلى الجنّة و القادة إليها و الأدلّاء عليها إلى يوم القيامة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنا مدينة العلم و عليّ بابها و لا يؤتى المدينة إلّا من بابها [وَ اتَّقُوا اللَّهَ في تغيير أحكامه [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تظفروا بالبرّ و الهدى فمدخل الوصول و الورود إلى رضى اللّه باب التقوى.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 190]

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

. هذه الآية أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة فلمّا نزلت كان صلّى اللّه عليه و آله يقاتل من قاتله و يكفّ عمّن يكفّ عنه، قال ابن عبّاس و جماعة: إنّ هذه الآية بعد الحديبية و ذلك أنّ بعد ما وقع صلح الحديبية و كان العام المقبل يجهّز النبيّ و أصحابه إلى مكّة خافوا أن لا تفي قريش على معاهدتهم و أن يصدّوهم عن البيت كما صدّوهم عام الأوّل و يقاتلوهم و

ص: 33

كره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قتالهم في الشهر الحرام فأنزل اللّه هذه الآية و بيّن أمر الجهاد فقال مخاطبا للمؤمنين:

[وَ قاتِلُوا] مع الكفّار [فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي دين اللّه [الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ من الكفّار [وَ لا تَعْتَدُوا] و لا تجاوزوا من قتال من هو أهل القتال أو لا تعتدوا بقتال من لا يبدؤكم بقتال [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ .

و اختلف في الآية هل هي منسوخة أم لا، قيل: منسوخة، قال ابن عبّاس و مجاهد:

غير منسوخة بل هي خاصّة في الناس و الذراري. و قيل: الآية أمر بقتال أهل مكّة.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): الآيات 191 الى 192]

وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

. بيّن كيفيّة القتال مع الكافرين فقال: [وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الحلّ أو الحرم و في الشهر الحرام و غيره لأنّهم هتكوا الحرمة أوّلا و بدءوكم فجازوهم بمثله. و أصل الثقف الحذق في إدراك الشي ء علما و عملا [وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي أخرجوهم من مكّة كما أخرجوكم منها لأنّهم أخرجوا المسلين منها أوّلا فأخرج صلّى اللّه عليه و آله منها ثانيا من لم يؤمن به منهم يوم الفتح [وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي شركهم باللّه و برسوله أعظم من القتل في الشهر الحرام و سمّي الكفر فتنة لأنّه يؤدّي إلى الهلاك كما أنّ الفتنة يؤدّي إلى الهلاك.

[وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ و يبدؤوكم بالقتال [فَإِنْ قاتَلُوكُمْ و بدءوكم [فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي مثل ذلك الجزاء جزاء الكافرين يفعل بهم [فَإِنِ انْتَهَوْا] عن القتال و كذا عن الكفر فإنّ الانتهاء عن مجرّد القتال لا توجب استحقاق المغفرة فضلا عن استحقاق الرحمة [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ما قد سلف فتدارك ما قد سلف.

قال الطبرسيّ: و في الآية دلالة على أنّه يقبل توبة القاتل عمدا لأنّه تعالى يقبل توبة المشرك و الشرك أعظم من القتل.

ص: 34

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 193]

وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

. بيّن سبحانه فائدة وجوب القتال فقال: [وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ] أي شرك عن ابن عبّاس و جماعة و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام «و الدين» بمعنى الطاعة و بمعنى الإسلام و بمعنى العادة، و الشريعة يجب أن يجري فيها على عادة مستمرّة [فَإِنِ انْتَهَوْا] عن الكفر و صار الدين دين الإسلام [فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أي لا عقوبة عليهم و إنّما العقوبة على المقيمين على الكفر فسمّي القتل عدوانا من حيث كان عقوبة على العدوان و الظلم.

و هذه الآية ناسخة للأولى الّتي تضمّنت النهي عن القتال في المسجد الحرام حتّى يبدؤوا بالقتال فيه؛ لأنّ فيها إيجاب قتالهم على كلّ حال حتّى يدخلوا في الإسلام. و قيل: المراد من هذه الآية أنّهم إذا ابتدءوا بالقتال في الحرم يجب مقاتلتهم حتّى يزول الكفر. و الأوّل أولى.

[سورة البقرة (2): آية 194]

الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

. «الحرام» هو القبيح الممنوع من فعله و «الحلال» المطلق المأذون فيه، و إنّما سمّي بالشهر الحرام لأنّه كان عندهم يحرم القتال في هذه الأشهر الأربع و هي ثلاثة سرد ذو القعدة و ذو الحجّة و محرّم و شهر فرد و هو رجب حتّى لو أنّ رجلا لقى قاتل أبيه و أخيه لم يتعرّض له بسوء.

قوله: [الشَّهْرُ الْحَرامُ يقابل [بِالشَّهْرِ الْحَرامِ في هتك الحرمة لأنّ المشركين صدّوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين عام الحديبيّة في ذي القعدة سنة ستّ من الهجرة و قد وقع بين القوم ترامي بسهام و حجارة و اتّفق أيضا عام المقبل خروج النبيّ و أصحابه لعمرة القضاء، فيه سنة سبع من الهجرة و كرهوا أن يقاتلوهم لحرمته فنزلت الآية هذا الشهر الحرام بذلك الشهر و هتكه بهتكه فلا تبالوا به إن وقع أمر.

[وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ أي من هتك حرمة أيّ حرمة كانت فلا يجوز استحلالها إلّا على المقاصّة و المجازاة فإنّ مراعات الحرمات إنّما تجب في حقّ من يراعيها و أمّا هتكها

ص: 35

فإنّه يقتصّ منه. و على قوله أنّ المراد «من الحرمات» تكون قصاص بالمراغمة بدخول البيت فجمع «الحرمات» باعتبار حرمة الشهر و حرمة البلد و حرمة الإحرام.

قال الحسن: إنّ مشركي العرب قالوا لرسول اللّه: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام قال نعم، و إنّما أراد المشركون أن يقاتلوه في الشهر الحرام إذ كان هو صلّى اللّه عليه و آله ممنوعا عن القتال فأنزل اللّه الآية. و حاصل المعنى أنّهم لمّا هتكوا حرمة شهركم بالصدّ عام الحديبيّة و قصدهم التعرّض للقتال معكم فافعلوا بهم مثله و ادخلوا عليهم عنوة فإن منعوكم فاقتلوهم.

[فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ و تجاوز عن حدّه [فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ أي بعقوبة مماثلة لجناية اعتدائه على سبيل المقاصّة و هو اعتداء ما دون فيه لا على سبيل الابتداء فإنّه ظلم حرام [وَ اتَّقُوا اللَّهَ إذا انتصرتم بمن ظلمكم فلا تظلموهم بأخذ أكثر من حقّكم و لا تعتدوا إلى ما لم يرخّص لكم.

[وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ و المراد من «المعيّة» القرب المعنويّ أي يصلح شؤونهم بالنصر و التمكين و المثوبات.

[سورة البقرة (2): آية 195]

وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

. أمر سبحانه في الآية السابقة بالجهاد و في هذه الآية ببذل المال في سبيله ليظهر من يدّعي محبّة اللّه و إنّهما معيار المحبّة الإلهيّة لأنّ أحدهما بذل الوجود و الآخر حبّ المال فامتحن اللّه عباده بهذين قطعا لدعوى المدّعين و هذا هو السرّ في الجهاد و الزكاة فقال:

[وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي اصرفوا من أموالكم في وجوه مصالح الدين و في الطريق المؤدّي إلى ثواب اللّه و رحمته من إقامة الحجّ أو جهاد الكفّار و تقوية الضعفاء أو رعاية أهل الدين [وَ لا تُلْقُوا] و لا تطرحوا أنفسكم إلى الهلاك و المراد من «الأيدي» الأنفس فإنّ اليد لازم للنفس و أكثر الأعمال يظهر بمباشرة اليد فكأنّها هي العمدة، و الباء زائدة في المفعول به و في الأغلب مثل هذه المورد يؤتى بها قال الشاعر:

و لقد ملأت على نصيب جلده بمساءة إنّ الصديق يعاتب

ص: 36

و قيل: ليست الباء زائدة لأنّ معنى الآية لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم فكيف تكون زائدة.

قيل في معناه: وجوه أحدها لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم بترك الإنفاق في سبيل اللّه فيغلب عليكم العدوّ عن ابن عبّاس و جماعة من المفسّرين. و الوجه الآخر أي لا تركبوا المعاصي باليأس عن المغفرة عن البراء بن عازب و عبيدة السلمانيّ. و الوجه الآخر في معنى الآية لا تقتحموا الحرب من غير نكاية العدوّ و لا قدرة لكم على دفاعهم. و الوجه الرابع و لا تسرفوا في الإنفاق الّذي يوجب هلاك النفس. و يقرب منه ما روي عن أبي عبد اللّه لو أنّ رجلا أنفق ما في يده في سبيل اللّه ما كان أحسن و لا رفق لقوله تعالى: «وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» [وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي تفضّلوا على الفقراء.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 196]

وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)

. بيّن سبحانه فرض الحجّ و العمرة على العباد بعد بيانه فريضة الجهاد فقال:

[وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ] أي أتمّوهما بحدودهما و مناسكهما ففرض على من استطاع و تمكّن و المعنى أقيموهما إلى آخر ما فيهما من الأحكام [لِلَّهِ أي أ قصدوا بهما التقرّب إلى اللّه، و العمرة واجبة عندنا مثل الحجّ و عند الشافعيّ أيضا واجبة خلافا لأبي حنيفة فإنّها عنده سنّة.

و أركان أفعال الحجّ: النيّة و الإحرام و الوقوف بالمشعر و طواف الزيارة و السعى بين الصفا و المروة و أمّا الفرائض الّتي ليست بأركان: التلبية و ركعتا الطواف له و طواف النساء و ركعة الطواف له، و أمّا المسنونات فمذكورة في كتب الفقه.

و أركان العمرة: النيّة و الإحرام و طواف الزيارة و السعي و أمّا ما ليس بركن من فرائضها فالتلبية و ركعة الطواف له و طواف النساء و ركعة الطواف له. و أمّا المتمتّع بالحجّ هو أن يعمر في أشهر الحجّ ثمّ يحلّ و تمتّع بالإحلال بأن يفعل ما يفعل المحلّ ثمّ يحرم

ص: 37

بالحجّ من غير رجوع إلى الميقات فهو إحلال بين إحرامين. و يجب حجّ التمتّع على من هو ناء عن مكّة بستّ عشر فرسخا، و حجّ القران و الإفراد يجب على من هو من أهل مكّة أو مكانه يكون أقلّ من المسافة المذكورة مثل أن يكون مكانه عشرة فراسخ إلى مكّة مثلا مسافة.

قال صاحب تفسير روح البيان: و أمّا صورة القرآن أن يحرم بالحجّ و العمرة معا بأن ينويهما بقلبه و يأتي بمناسك الحجّ أو يحرم بالعمرة ثمّ يدخل عليها الحجّ قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارنا، و أمّا صورة الإفراد أن يحرم بالحجّ مفردا ثمّ بعد الفراغ منه يعتمر من الحلّ أي الّذي بين المواقيت و بين الحرم انتهى كلامه.

قوله تعالى: [فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي منعتم و صددتم عن الوصول إلى البيت من خوف أو مرض أو عدوّ فامتنعتم لذلك عن ابن عبّاس و جماعة و هو المرويّ عن أئمّتنا. و قيل: معناه إن منعكم قاهر عابس فعليكم ما سهل و تيسّر من الهدي إذا أردتم الإحلال.

«و الهدي» ما يهدى إلى البيت تقرّبا إلى اللّه أيسره شاة و واسطة بقرة و أعلاه بدنة و يسمّى هديا لأنّه جار مجرى الهديّة الّتي يهديها العبد إلى ربّه.

و حاصل المعنى أنّ المحرم إذا أحصر و منع و أراد أن يتحلّل، يحلّل بذبح هدي تيسّر عليه في أيّ موضع أحصر على قول مالك و استدلّ بأنّ النبيّ نحر هديه بالحديبيّة و أمر أصحابه كذلك و ليست الحديبيّة من الحرم. و قيل: إنّ محلّ الهدي الحرم فإذا ذبح به يوم النحر أحلّ. لكن على مذهبنا الإماميّة أنّ المحصر إذا كان بالمرض فلا بدّ و أن يذبح بالحرم و إذا أحصر بالعدوّ فأينما أحصر، ثمّ إن كان الإحرام بالحجّ فمحلّه منى يوم النحر و إن كان الإحرام بالعمرة محلّه مكّة.

[وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي لا تتحلّوا من إحرامكم حتّى ينحر و يذبح هديكم في محلّه [فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أي من مرض منكم مرضا محتاج فيه إلى الحلق أو تأذّى بهوامّ رأسه أبيح له الحلق بشرط الفدية. نزلت في رجل يقال له كعب بن عجرة قد قمّل رأسه [فَفِدْيَةٌ] فحلق لذلك العذر فعليه بدل و جزاء يقوم مقام ذلك [مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ المرويّ عن أئمّتنا أنّ الصيام ثلاثة أيّام و الصدقة على ستّة

ص: 38

مساكين و روي على عشرة مساكين «و النسك» شاة و هو مخيّر فيها.

[فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي استمتع و أدّى الفرض اللازم من العمرة، و التمتّع بالعمرة إلى الحجّ هو أن ينشئ الإحرام في أشهر الحرم ثمّ يدخل إلى مكّة فيطوف بالبيت و يسعى بين الصفا و المروة و يقصّر و يحلّ من إحرامه ثمّ ينشئ إحراما آخر للحجّ من المسجد الحرام و يخرج إلى عرفات ثمّ يفيض إلى المشعر و يأتي بأفعال الحجّ على ما هو مذكور في كتب الفقه، و في بعض ذلك خلاف في الجملة بين الفقهاء ليس هاهنا موضع ذكره، و الهدي واجب على المتمتّع بلا خلاف لظاهر التنزيل لكنّ الخلاف في أنّه نسك أو جبران و عندنا أنّه نسك.

[فَمَنْ لَمْ يَجِدْ] دما و ما تمكّن منه [فعليه صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ و هذه الثلاثة يوم قبل التروية و يوم التروية و يوم عرفة و إن صام في أوّل العشر جاز رخصة و إن صام يوم التروية و يوم عرفة قضى يوما آخر بعد انقضاء أيّام التشريق و إن فاته صوم يوم التروية أيضا صام الأيّام الثلاثة بعد أيّام التشريق متتابعات [وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أي و سبعة أيّام إذا رجعتم إلى بلدكم و أهاليكم. و قيل: إذا رجعتم من منى فصوموا في الطريق عن مجاهد، و الأوّل هو الصحيح عندنا.

[تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ] أي هذه العشرة إذا وقعت بدلا من الهدي استكملت ثوابه و هذا المعنى هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و قيل: المراد من قوله: «كاملة» لازالة الإبهام لئلا يتوهّم أنّ الواو في الآية بمعنى «أو» فيكون كأنّه قال: فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ أو سبعة أيّام إذا رجعتم لأنّه إذا استعمل «أو» بمعنى الواو جاز أن يستعمل الواو بمعنى «أو» كما قال: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» (1) قالوا: الواو هاهنا بمعنى «أو» فذكر ذلك لارتفاع اللبس. و قيل: إنّه إنّما قال: «كاملة» للتوكيد.

[ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي هذا الحكم المذكور من التمتّع بالعمرة إلى الحجّ حسبما شرح ليس لأهل مكّة و من يجري مجراهم و إنّما هو لمن لم يكن من حاضري مكّة و أطرافها و هو من يكون بينه و بينها أكثر من اثني عشر ميلا من كلّ

ص: 39


1- النساء: 3.

جانب عندنا [وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما يأمركم به و ينهاكم عنه [وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه.

[سورة البقرة (2): آية 197]

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)

. قرئ «رفث» و «فسوق» و «جدال» بالفتح. و قرأ أبو جعفر عليه السّلام بالرفع و التنوين.

[الْحَجُ بحذف المضاف أي وقت الحجّ لأنّ الحجّ فعل و الفعل لا يكون أشهرا أي لا حجّ إلّا في هذه الأشهر فوقته معيّنة لا يحوز فيها التغيير و التبديل بالتقديم و التأخير اللذين كان يفعلهما النساة الّذين أنزل فيهم «إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» (1).

و أشهر الحجّ و وقته شوّال و ذو القعدة و عشر من ذي الحجّة و لا يصحّ الإحرام بالحجّ إلّا فيها و عندنا لا يصحّ أيضا الإحرام بالعمرة الّتي يتمتّع بها إلى الحجّ إلّا فيها و الاثنين قد يقع عليه لفظ الجمع و أيضا يضاف الفعل إلى الوقت و إن وقع في بعضه تقول: صلّوا يوم الجمعة، و الصلاة واقعة في بعضه.

[فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ أي أحرم فيهنّ و شرع و دخل فيهنّ بالحجّ أو بالعمرة الّتي يتمتّع بها إلى الحجّ مثل التلبية أو تقليد الهدي مثلا أو أمرا من أموره [فَلا رَفَثَ كنّي عن الرفث بالجماع، و قيل: المراد الجماع و ما دونه كالقبلة و الغمز و التعرّض لمثل هذه الأمور بمداعبة أو مواعدة [وَ لا فُسُوقَ المراد الكذب و قيل: جميع معاصي اللّه و قيل: التنابز بالألقاب [وَ لا جِدالَ أي لجاج و خصومة و مراء لا يكون إذا دخل المحرم في آداب الحجّ و العمرة المتمتّعه بها إلى الحجّ. و الكلام و إن كان بصورة النفي و الإخبار إلّا أنّ المراد منه النهي و الإنشاء لأنّ إيقاعها خبرا على ظاهرها يستلزم الخلف في خبر اللّه لأنّها يقع في خلال الحجّ، و إنّما اخرج الكلام على صورة الإخبار للمبالغة في وجوب الانتهاء عنه كأنّ المكلّف مذعن بأنّها منهيّا عنها فاجتنب عنها.

و إنّما أمر باجتناب الفسوق و الجدال في الحجّ و هو واجب الاجتناب في كلّ حال

ص: 40


1- التوبة: 37.

لأنّه مع الحجّ أقبح و أشنع كلبس الحرير في الصلاة و التطريب في قراءة القرآن.

[وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ كناية عن إثابته عليه و حثّ على فعل الخير.

[وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أي اجعلوا زادكم لمعادكم اتّقاء القبائح لا ما يتّخذ من الطعام و ذلك لأنّ زاد الدنيا يخلصك من احتياج الدنيا و عذاب منقطع و زاد الآخرة ينجّيك من عذاب دائم، و قيل في معنى الآية: وجه آخر و هو أنّ أهل اليمن كانوا لا يتزوّدون و يخرجون إلى الحجّ بغير زاد و يقولون: نحن متوكّلون و نحن نحجّ البيت أفلا يطعمنا فيكونون كلّا على الناس و إذا قدموا مكّة سألوا الناس و ربّما يفضي بهم الحال إلى التطاول و النهب و الغصب فأمر اللّه تزوّدوا ما تبتلغون به و تكفّون به وجوهكم من الكعك و الزيت و السويق و التمر و نحوها و اتّقوا الاستطعام و إبرام الناس و التثقيل عليهم [فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى من السؤال و النهب.

[وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فإنّ اقتضاء اللبّ و العقل خشية اللّه و عدم عصيانه.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 198]

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

. «الجناح» الحرج في الدين و هو الميل عن الطريق المستقيم أي ليس عليكم إثم و لا بأس في أن تقصدوا و تطلبوا رزقا و ربحا بالتجارة في الحجّ و كانوا يتأثّمون بالتجارة في الحجّ فنزلت أنّه لا إثم في هذا الأمر بشرط أن لا تكون التجارة منافية للإخلاص لقوله: «وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (1).

[فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ الهمزة في أفضتم للتعدية و المفعول محذوف أي دفعتم أنفسكم منها و دفعتم من عرفات إلى المزدلفة بالاجتماع و الكثرة، و الإفاضة لا تكون إلّا عن تفرّق عن كثرة.

و «عرفات» اسم للمكان المعروف بحسب الوقوف بها في الحجّ و سمّيت بها لأنّ آدم و حوّاء اجتمعا فيها فتعارفا بعد أن كانا افترقا. و قيل: سمّيت بعرفات لارتفاعها و علوّها و

ص: 41


1- البينة: 5.

منه عرف الديك. و قيل: في وجه التسمية بعرفة لأنّ إبراهيم لمّا رأى في المنام أنّه أمر بذبح ولده فأصبح يروّي يومه أجمع و يفكّر أهو أمر من اللّه أم لا؟ فسمّي يوم التروية ثمّ رأى في الليلة الثانية فلمّا أصبح عرف أنّه من اللّه فسمّي عرفة. و قيل: إنّ جبرئيل قال لآدم: هناك اعترف بذنبك و اعرف مناسكك فقال: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» (1) الآية فلذلك سمّيت عرفة، و المشعر الحرام هو المزدلفة سمّيت مشعرا لأنّه معلم للحجّ و الصلاة و المبيت به.

«و الشعائر» العلامات من الشعار و هو العلامة و إنّما سمّي المشعر مزدلفة؛ لأنّ جبرئيل قال لإبراهيم بعرفات: ازدلف إلى المشعر الحرام.

[فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ و في هذا دلالة على أنّ الوقوف بالمشعر فريضة لأنّ ظاهر الأمر على الوجوب و قد أوجب اللّه الذكر فيه و لا يجوز أن يوجب الذكر فيه إلّا و قد أوجب الكون فيه و حاصل الكلام: إذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر و اذكروا اللّه فيه بالتلبية و التهليل و التسبيح و التحميد و الثناء و الدعوات، و وصفه بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهي عنه.

[وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ كما علّمكم كيف تذكرونه على وجه التضرّع و الخيفة و الطمع. و المقصود من الكاف التقييد لا التشبيه أي اذكروه على الوجه الّذي هداكم إليه و لا تعدلوا عمّا هديتم إليه كما تقول: افعل كما علّمتك. و ليس هذا تكرارا لقوله:

«فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ» لأنّ الأوّل لبيان محلّ الذكر و الوقوف و تعليم النسك لذلك المحلّ.

[وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ و «إن» مخفّفة و اللام هي المفارقة، من قبل هدايته إيّاكم و قيل:

أي من قبل محمّد صلّى اللّه عليه و آله فتكون الهاء كناية عن غير مذكور [لَمِنَ الضَّالِّينَ عن الدين و الشريعة فهداكم إليه.

[سورة البقرة (2): آية 199]

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

. قيل: إنّ المراد به الإفاضة من عرفات و إنّه أمر لقريش و حلفائها و هم الخمس لأنّهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة و لا يفيضون منها و يقولون: نحن أهل حرم اللّه فلا

ص: 42


1- الأعراف: 23.

نخرج منه و كانوا يقفون بالمزدلفة و يفيضون منها فأمر اللّه بالوقوف بالعرفة و الإفاضة منها كما يفيض الناس و المراد بالناس سائر العرب و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام و جماعة مثل ابن عبّاس و عطا و أنّه تعالى أمر لجميع الحاجّ أن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم و لمّا كان إبراهيم قدوة و إماما للناس كان بمنزلة الأمّة فسمّاه اللّه ناسا وحده. و القول الثاني في معنى الآية أنّ المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي و النحر و قيل أقوال أخر في معنى الناس؛ قالوا: المراد آدم و قيل: المراد أهل اليمن و قيل: العلماء الّذين يعلّمون الناس.

[وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ و اطلبوا المغفرة منه [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ كثير المغفرة و الرحمة و ينبغي أن يجتهد الحاجّ بعد رجوعه إلى وطنه و بعد أن نظفت صحيفة عمله من الذنوب بالغفران أن لا يدرن ثوبه بوسخ المعاصي.

في تفسير روح البيان: و في الحديث إنّ من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلّا الوقوف بعرفات. و في الحديث: أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظنّ أنّ اللّه لا يغفر له.

[سورة البقرة (2): آية 200]

فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)

. أي إذا أدّيتم و فرغتم من أداء أفعال الحجّ و أتممتم عباداتكم الّتي أمرتم بها [فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ و اختلف في «الذكر» على قولين أحدهما أنّ المراد التكبير المختصّ بأيّام منى لأنّه الذكر المرغّب فيه المندوب في هذه الأيّام و الآخر أنّ المراد مطلق الأدعية مثل [ذكركم آباءَكُمْ و ذلك لأنّهم كانوا في الجاهليّة إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد و الجبل و هو قزح اسم جبل بالمشعر و يذكرون مفاخر آبائهم و محاسن أيّامهم القديمة فأمرهم اللّه أن يذكروه مكان ذكرهم آباءهم في هذا الموضع.

[أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً] و يزيدون على ذلك بأن يذكروا نعم اللّه و يعدّوا آلاءه و يشكروا نعماءه لأنّه تعالى هو المنعم حقيقة بتلك المآثر و قيل: معناه فاستغيثوا باللّه و التجئوا إليه كما يفزع الصبيّ إلى أبيه في جميع أوقاته و أموره و يلهج بذكره فيقول: يا أبت و الأوّل أصحّ.

[فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ بيّن سبحانه

ص: 43

أنّ الناس في تلك المواطن أصناف فمنهم من يسأل نعيم الآخرة لأنّه غير مؤمن بالبعث و النشور و ماله في الآخرة من نصيب.

[سورة البقرة (2): آية 201]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (201)

. و من الناس أي المؤمنين يطلبون نعيم الدنيا و الآخرة و روي عن الصادق عليه السّلام أنّها السعة في الرزق و المعاش و حسن الخلق في الدنيا و رضوان اللّه و الجنّة في الآخرة. و قيل: العلم و العبادة في الدنيا و الجنّة في الآخرة. و قيل: هي المال في الدنيا و الجنّة في الآخرة. و قيل:

هي المرأة الصالحة في الدنيا و في الآخرة الجنّة. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من اوتي قلبا شاكرا و لسانا ذاكرا و زوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه و آخرته فقد اوتي في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة [وَ قِنا عَذابَ النَّارِ] و يطلبون الوقاية عن عذاب جهنّم.

[سورة البقرة (2): آية 202]

أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)

. إشارة إلى الفريق الثاني و هم الداعون بالحسنيين لهم حظّ عظيم من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة أو من أجل ما كسبوا بسبب أعمالهم فيكون «من» ابتدائيّة [وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ و «الحساب» يراد به الجزاء على الأعمال فإنّ الحساب سبب الأخذ و الإعطاء و إطلاق اسم السبب على المسبّب شايع أي يحاسب العباد على كثرة أعمالهم في لمحة واحدة لعدم احتياجه إلى نظر و فكر فليحذر الإنسان من الإخلال بطاعة من هذا شأن قدرته و يوشك أن تقوم القيامة و يحاسب بعمله.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف المؤونة ذو حظّ من الصلاة، أحسن عبادة ربّه و أطاعه في البرّ، و كان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع و كان رزقه كفافا فصبر على ذلك ثمّ نقر بيده فقال: هكذا عجلت منيّته قلّت بواكيه و قلّ ثراءه.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 203]

وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

. هذا أمر من اللّه للمكلّفين أن يذكروه في أيّام معدودات و هي أيّام التشريق ثلاثة أيّام بعد النحر. و الأيّام المعلومات عشر ذي الحجّة، عن ابن عبّاس و أكثر أهل التفسير و هو المرويّ عن أئمّتنا لكنّ الفرّاء قال بالعكس.

ص: 44

و الذكر المأمور به في الآية هو أن يقول: عقيب خمس عشر صلاة: «اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر اللّه أكبر و للّه الحمد اللّه أكبر على ما هدانا و الحمد للّه على ما أولانا و اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام» و أوّل التكبير عندنا عقيب الظهر من يوم النحر و آخره عقيب صلاة الفجر من اليوم الرابع من النحر هذا لمن كان بمنى، و من كان بغير منى من الأمصار يكبّر عقيب عشر صلاة أوّلها صلاة الظهر من يوم النحر أيضا هذا هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام و في ذلك اختلاف بين الفقهاء.

[فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي استعجل و طلب الخروج من منى في تمام يومين بعد يوم النحر، و في الآية بيان الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من أيّام التشريق و الأفضل أن يقيم إلى النفر الأخير و هو الثالث من التشريق و إذا نفر في الأوّل نفر بعد الزوال إلى غروب الشمس؛ فإن غربت فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث «فلا إثم عليه» فيه قولان:

أحدهما أنّ معناه لا إثم عليه بعد إعمال هذه الأعمال؛ لأنّ سيّئاته صارت مكفّرة بما كان من حجّه المبرور و هو قول ابن مسعود.

و الثاني أنّ معناه لا إثم عليه في التعجيل و التأخير و إنّما نفى الإثم لئلّا يتوهّم أنّ في التعجيل إثما.

[لِمَنِ اتَّقى فيه قولان أحدهما أنّ الحجّ يقع مبرورا يكفّر السيّئات إذا اتّقى ما نهى اللّه عنه، و الآخر ما رواه أصحابنا أن قوله: «لمن اتّقى» متعلّق بالتعجيل في يومين و تقديره: فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه لمن اتّقى الصيد و المناهي إلى انقضاء النفر الأخير و ما بقي من إحرامه و من لم يتّق المناهي فلا يجوز له النفر في الأوّل و قد روي أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله: «فمن تعجّل في يومين» أي من مات في هذين اليومين فقد كفّر عنه كلّ ذنب و من تأخّر أجله فلا إثم عليه إذا اتّقى الكبائر [وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي اجتنبوا المعاصي [وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ و بعد موتكم تجمعون إلى الموضع الّذي يحكم اللّه فيه بينكم فينبغي أنّكم حال الاشتغال بأعمال الحجّ و بعده تحترزون عن معاصي اللّه ليعتدّ بأعمالكم فإنّ المعاصي يأكل الحسنات عند الموازنة فإن علم بالحشر

ص: 45

و المحاسبة كان ذلك من أقوى الدواعي إلى ملازمة التقوى و كانوا إذا رجعوا من الحجّ يجترءون على اللّه بالمعاصي فشدّد في تحذيرهم.

قال أبو العالية: يجي ء الحاجّ يوم القيامة و لا إثم عليه إذا اتّقى فيما بقي من عمره فلم يرتكب ذنبا بعد ما غفر له في الحجّ لكنّ المذنب المصرّ إذا حجّ فلا يقبل منه لعوده إلى ما كان عليه فعلامة الحجّ المبرور أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة كما حجّ إبراهيم أدهم مع رفيقه الصالح من بلخ و لمّا رجع من حجّه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة و خرج عن ملكه و ماله و أهله و عشيرته و بلاده و قطع العلائق و اختار بلاد الغربة و قنع بالأكل من عمل يده إمّا من الحصاد أو من بطارة البساتين، و كيف لا و الحرّ الكريم لا ينقض العهد عمل يده إمّا من الحصاد أو من بطارة البساتين، و كيف لا و الحرّ الكريم لا ينقض العهد القديم؟ و ممّا يجب على الحاجّ اتّقاؤه المحارم و أن يجعل نفقته من كسب الحرام فإنّ اللّه لا يقبل إلّا الطيّب إذا حججت بمال أصله دنس فما حججت و لكن حجّت العير.

و في الحديث من حجّ بيت اللّه من كسب الحلال لم يخطّ خطوة إلّا كتب اللّه له بها سبعين حسنة و حطّ عنه سبعين خطيئة و رفع له سبعين درجة.

و حكي بعض من حجّ أنّه توفّي في الطريق في رجوعه فدفنه أصحابه و نسوا الفأس في قبره فنبشوه ليأخذوا الفأس فإذا عنقه و يداه قد جمعتا في حلقة الفأس فردّوا عليه التراب ثمّ رجعوا إلى أهله فسألوهم عن حاله فقالوا: صحب رجلا فأخذ ماله فكان يحجّ منه.

و الأولى له أنّه إذا أراد أن يحجّ بعد تصفية أمواله من حقوق اللّه و حقوق الخلق و إصلاح امور دينه بالتدارك و التوبة أن يستدين للحجّ نفقته ثمّ يقضي دينه من ماله كما كان يفعله بعض أهل التوبة و المعذرة و أصل الكلمة من العذرة و هي النجاسة تقول: عذرت الصبيّ إذا طهرته عن النجاسة و لا يقاوم غير الغضب و الغلبة بدل الاعتذار.

[سورة البقرة (2): الآيات 204 الى 205]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205)

قيل: نزلت الآية في الأخنس بن شريق كان يظهر الجميل بالنبيّ و المحبّة له و الرغبة

ص: 46

في دينه و يبطن خلاف ذلك و الآية تعمّ كلّ منافق و مرائي أي و بعض الناس تستحسن ظاهر قوله، و تعدّه حسنا مقبولا يقال: أعجبني كذا أي ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه [فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] بحلاوة كلامه و عذوبة لفظه و فصاحته لا في الآخرة لأنّه في الآخرة يظهر كذبه [وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ أي يقول اللّه: شاهد و مطّلع على قلبي من المودّة لك و الإسلام [وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أي أشدّ في العداوة و الخصومة للمسلمين على أنّ «الخصام» مصدر كالقتال و الجدال و إضافة «الألدّ» إليه بمعنى «في» و اللدد شدّة الخصومة؛ تقول:

لدّ يلدّ لدودا و لدّه يلدّه إذا غلبه في الخصومة. و قيل: «الخصام» جمع الخصم أي أشدّ الخصماء.

[وَ إِذا تَوَلَّى أي ملك الأمر و صار واليا و تولّى سلطنة جار و [سَعى فِي الْأَرْضِ و أسرع في المشي للفساد و سفك الدماء و قطع الرحم و يعمل المعاصي [وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ الزرع و الأولاد و قيل: الحرث النساء و النسل الأولاد قال الصادق: الحرث في الآية هاهنا الدين و النسل الناس و قيل: معنى قوله: [وَ إِذا تَوَلَّى أي إذا أدبر و انصرف عن حضورك و مجلسك [وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ] أي لا يحبّ عمل الفساد و أهل الفساد و لا يرتضيه و يغضب على من يعاطاه كما فعله الأخنس بثقيف إذ بيّتهم أي أتاهم ليلا و أهلك مواشيهم و ذرعهم لأنّه كان بينه و بينهم عداوة أو كما يفعله الولاة بالقتل و الظلم و الإتلاف حتّى يمنع اللّه بشؤمه القطر فيهلك الحرث و النسل.

و في الحديث: يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ به على جسر جهنّم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقى منه مفصل إلّا زال عن مكانه فإن كان مطيعا للّه في عمله مضى و إن كان عاصيا انخرق به الجسر فيهوي به في جهنّم مقدار خمسين عاما.

و في قوله تعالى: «وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ» صراحة على بطلان قول المجبرة بأنّ اللّه يريد القبائح لأنّه نفي عن نفسه محبّة الفساد و المحبّة هي الإرادة لأنّ كلّ ما أحبّ أن يكون فقد أراد أن يكون.

ص: 47

قوله: [سورة البقرة (2): آية 206]

وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ (206)

. بيّن صفة المفسدين و المنافقين [وَ إِذا قِيلَ لَهُ خف اللّه في صنعك السوء و اترك ما تباشره في الفساد و النفاق [أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ و حملته الأنفة الّتي فيه و حميّته الجاهليّة و العناد على الإثم و الذنب الّذي نهي [فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ مبتدأ و خبر أي كافيه دخول النار و الخلود فيها [وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ] اللّام موطّئة للقسم أي و اللّه بئس الفراش جهنّم قال ابن مسعود: إنّ من الذنوب الّتي لا تغفر أن يقال للعبد: «اتّق اللّه» فيقول: عليك نفسك. و في نسخة من أكبر الذنوب عند اللّه أن يقال للعبد: «اتّق اللّه» و هو يقول: عليك نفسك.

[سورة البقرة (2): آية 207]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)

. «الشراء» من الأضداد؛ شرى باع و شرى إذا اشترى كقوله: «و شروه بثمن بخس» أي باعوه أي و من الناس من يبيع نفسه و يبذلها في طاعة اللّه في الجهاد و الصلاة و الزكاة و الحجّ و توصل بذلك إلى ثواب اللّه [ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ طلبا لرضاه [وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ] و من جملة رأفته بعباده أنّ ما اشتراه منهم من أنفسهم و أموالهم إنّما هو خالص ملكه و حقّه فيشتري منهم ملكه الخاصّ المحصور بما لا يعدّ و لا يحصى من ثوابه و فضله.

روى السدّيّ عن ابن عبّاس قال: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب حين خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مكّة إلى الغار و نام عليّ على فراش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نزلت الآية بين مكّة و المدينة و إنّه عليه السّلام لمّا نام عليّ فراشه قام جبرئيل عند رأسه و ميكائيل عند رجليه و جبرئيل ينادي بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي اللّه بك الملائكة.

و قال عكرمة: نزلت الآية في أبي ذرّ الغفاريّ و جندب بن السكن و صهيب بن سنان لأنّ أهل أبي ذر أخذوا أبا ذر فانفلت منهم فقدم على النبيّ و أمّا صهيب بن سنان الروميّ خرج من مكّة يريد الهجرة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة و هو ابن مائة سنة أتبعه نفر من مشركي قريش و قتلوا نفرا كانوا معه و كان معه كنانة فيها سهامه و كان راميا مصيبا فقال: يا معشر قريش لقد علمتم أنّي من أرماكم رجلا و اللّه لا أضع سهمي إلّا في قلب رجل و أيم اللّه لا تصلون إليّ حتّى أرمي بكلّ سهم في كنانتي ثمّ أضرب بسيفي ما بقي في يدي ثمّ افعلوا ما شئتم و لن ينفعكم كوني فيكم فإنّي شيخ كبير ولي مال في داري بمكّة فارجعوا و خذوه

ص: 48

و خلّوني و ما أنا عليه من الإسلام ففعلوا و سار هو إلى المدينة و قدم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: إنّ المراد بالآية الرجل الّذي يقتل على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الآية تعمّ لكلّ مجاهد في سبيل اللّه.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 208]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

. [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بألسنتهم على أنّ الخطاب للمنافقين [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] و استسلموا للّه ظاهرا و باطنا و «كافّة» حال من ضميرا دخلوا يؤكّد معنى العموم في حيّز الجمع؛ فإنّ قولك: جاء القوم كافّة أي كلّهم. و تاء كافّة و عامّة و قاطبة ليست للتأنيث و إن كانت تدلّ على التأنيث باعتبار الجماعة بل إنّما دخلت لمجرّد كون الكلمة منقولة إلى معنى كلّ و جميع.

و قيل: إنّ الخطاب ليس للمنافقين و الخطاب لمؤمني أهل الكتاب مثل عبد اللّه بن سلام و أصحابه لأنّهم كانوا يتمسّكون ببعض شرائع التوراة مثل تعظيم البيت و تحريم لحم الإبل و ألبانها و أشياء كانوا يرون الكفّ عن ذلك مباحا في الإسلام و إن كان واجبا في شريعتهم فثبتوا على ذلك مع اعتقادهم حلّها استيحاشا من مفارقة العادة و قالوا: يا رسول اللّه إنّ التوراة كتاب اللّه فدعنا نقرأ منها في صلاتنا بالليل فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا تتمسّكوا بشي ء ممّا نسخ و دعوا ما ألفتموه و لا تستوحشوا من النزوع عنه فإنّه لا وحشة مع الحقّ و إنّما هو من تزيين الشيطان.

[وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ و لا تسلكوا مسالكه [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة يريد أن يفسد عليكم بهذه الوساوس إسلامكم.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 209]

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

. «الزلل» يستعمل في العدول عن الاعتقاد الحقّ و العمل الصائب أي أخطأتم الحقّ علما أو عملا من بعد الحجج و الشواهد على ما ادّعيتم إلى الدخول فيه هو الحقّ [فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غالب في الانتقام [حَكِيمٌ فيما شرّع من الأحكام و فيما يفعله بكم من العقاب بعد إقامة الحجّة عليكم.

ص: 49

[سورة البقرة (2): آية 210]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

. استفهام في معنى النفي و «نظر» بمعنى انتظر أي ينتظر من يترك الدخول في السلم إلّا إتيان اللّه على حذف المضاف أي أمر اللّه و عذابه لأنّه منزّه عن المجي ء و الذهاب المستلزمين للحركة و السكون أي ينتظر هؤلاء أن يأتيهم ما توعّدهم به على معصيته في ستر و قطع من السحاب «و الغمام» السحاب الأبيض الرقيق سمّي غماما لأنّه يستر و «الظلل» عبارة عن قطع متكاثفة عظيمة متراكمة و [الْمَلائِكَةُ] أي و يأتيهم الملائكة فإنّهم وسائط أمره و هم الآتون ببأسه. و حاصل المعنى أن قد قامت الحجّة فلم يبق إلّا نزول العذاب.

[وَ قُضِيَ الْأَمْرُ] أي أتمّ أمر إهلاكهم و هو عطف على «يأتيهم» داخل في حيّز الانتظار و إنّما عبّر بصيغة الماضي دلالة على الحقيقة فكأنّه قد كان [وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] امور الخلق و أعمالهم، هو الحاكم بينهم يوم القيامة لا غيره.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه أظهر الشكاية من أمّتي و قال: إنّي طردت الشيطان لأجلهم فهم يعصونني و يطيعون الشيطان فمن أعظم الطاعات طرد الشيطان و أن يتّهم الإنسان نفسه دائما كما روي أنّ رجلا صام أربعين سنة في سالف الزمان ثمّ دعا الحاجة و مع ذلك لم تجب دعوته فذمّ نفسه فقال: يا مأوى الشرّ ذلك من شؤمك و شرّك فأوحى اللّه إلى نبيّ ذلك الزمان: قل له: إنّ مقتك لنفسك أحبّ إليّ من صيام أربعين سنة.

قوله: [سورة البقرة (2): آية 211]

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)

. [سَلْ يا محمّد أولاد يعقوب و هم اليهود الّذين كانوا حول المدينة و المراد علماؤهم و هو سؤال تقرير لتأكيد الحجّة عليهم [كم آتينا] آباءهم و أسلافهم من معجزة ظاهرة على أيدي أنبيائهم كالعصا و البيضاء و إنزال المنّ و السلوى و كم من حجّة واضحة في كتابهم لمحمّد في صدق نبوّته.

و في الكلام حذف و تقديره فبدّلوا نعمة اللّه و كفروا بآياته و خالفوه فضلّوا و أضلّوا و من يبدّل الشكر عليها بالكفران و يصرف أدلّة اللّه و آياته عن وجوهها بالتأويلات و التحريفات الفاسدة بعد ما وقفوا على تفاصيلها [فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ .

ص: 50

و في الآية دليل على فساد قول المجبّرة حيث إنّه سبحانه أضاف التبديل إليهم و أوعدهم على التبديل بالعقوبة فلو لم يكن فعلهم لما استحقّوا العقوبة و المراد أنّ حال منافقي قومك و تحريفهم كحال من قبلك من المجرمين.

قوله: [سورة البقرة (2): آية 212]

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)

. نزلت الآية في رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا و كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين مثل عبد اللّه بن مسعود و عمّار و بلال و يقولون: لو كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله نبيّا لاتّبعه أشرافنا. و قيل:

نزلت في عبد اللّه بن ابيّ و أصحابه يسخرون من ضعفاء المؤمنين. و قيل: نزلت في رؤساء اليهود سخروا من فقراء المهاجرين. و لا مانع من نزولها في جميعهم فبيّن سبحانه أنّ عدول هؤلاء عن الإيمان إنّما هو لإيثارهم الحياة الدنيا فقال:

[زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا] و فيه قولان: أحدهما أنّ الشيطان زيّنها لهم و قوّى دواعيهم و حسّن لهم فعل القبيح، و أمّا اللّه لا يجوز أن يكون المزيّن لهم إيّاها لأنّه أمرهم بالزهد فيها و قال: إنّها متاع الغرور، و قال: متاع قليل. و الآخر أنّ المزيّن هو اللّه بأن خلق فيها الأشياء المحبوبة من حيث الخلق و الإيجاد و بما خلق لهم من الشهوة؛ و إنّما كان كذلك لأنّ التكليف لا يتمّ إلّا مع الشهوة و ما من شي ء من القبائح إلّا و هو سبحانه منعه و استناده إلى اللّه يكون بهذا العنوان إذ لا يكلّف الإنسان إلى شي ء تتوق نفسه إليه و يدعى إلى شي ء تنفر عنه نفسه و يزجر منه. و ذكّر الفعل مع أنّ الحياة مؤنّث لأنّها غير حقيقيّ و هو بمعنى العيش و البقاء [وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا] أي يستهزئون بالفقراء.

[وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] أي الّذين اجتنبوا الكفر فوق الكفّار في الدرجات و تمتّعهم بنعيم الآخرة أكثر من استمتاع هؤلاء في الآخرة و حالهم فوق هؤلاء الكفّار لأنّهم في علّيّين و هؤلاء في سجّين كقوله: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا» (1) و قيل: المعنى أنّ حال المؤمنين في الاستهزاء بالكفّار و الضحك منهم في الآخرة فوق حال هؤلاء في الدنيا مثل قوله: «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» (2)» لأنّهم في أوج الكرامة و هم في

ص: 51


1- الفرقان: 24.
2- المطففين: 34.

حضيض الذلّ و المهانة فتكون الفوقيّة مجازا.

[وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ لأنّه لا يخاف نفاد ما عنده. حكي أنّ عيسى سافر و معه يهوديّ فكان مع عيسى ثلاث أقراص فأعطاها اليهوديّ و قال له: احفظها ثمّ بعد ساعة أكل اليهوديّ واحدا منها فقال عيسى: هات الأقراص فقدّم القرصين فقال: أين ثالثها؟ فقال اليهوديّ: لم تكن أكثر من هذا، فمشيا حتّى شاهد من عيسى عجائب فأقسم عيسى لذلك حتّى يقرّ بالقرص الثالث فلم يقرّ فلحقا بثلاث لبنات من الذهب في الطريق فقال اليهوديّ: يا عيسى اقسم ذلك. فقال عيسى: واحدة لي و واحدة لك و واحدة لمن أكل القرص الثالث، فقال اليهوديّ: أنا أكلت القرص الثالث. فقال عيسى: ابعد عنّي فقد شاهدت قدرة اللّه و لم تقرّ به و الآن قد أقررت بالدنيا فترك عيسى اللبنات عند اليهوديّ و مشى و جاء ثلاثة من اللصوص و قتلوا اليهوديّ و أخذوا اللبنات ثمّ بعثوا من جملتهم واحدا ليأتي لهم بالطعام فلمّا غاب عنهما تشاورا في قتله و قالا: إذا رجع قتلناه و أخذنا نصبيه. فذهب الرجل و اشترى سمّا فطرحه في الطعام الّذي اشتراه حتّى يأكل ذلك الطعام صاحباه فيموتا و يأخذ اللبنات الثلاثة، فلمّا قدم عليهما و أتى بالطعام قاما و قتلاه ثمّ أكلا الطعام فماتا ثمّ عبر عليهم عيسى عليه السّلام فوجد اليهوديّ و هؤلاء الثلاثة مقتولين فتعجّب من ذلك فنزل جبرئيل و أخبره بالقصّة.

و مثل الحياة الدنيا و الحرص عليها مثل اللبنات فلا تكن أيّها العاقل يهوديّا و لا لصّا، بل كن عيسى زمانك فلحلالها حساب و لحرامها عقاب و لمشبوهاتها عتاب، و اترك الدنيا و خالف نفسك الخبيثة ترزق بغير حساب.

[سورة البقرة (2): آية 213]

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

. بيّن سبحانه أحوال من تقدّم من الكفّار تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

أي [كانَ النَّاسُ على دين واحد و جماعة واحدة متّفقين في الإيمان و اتّباع الحقّ من

ص: 52

وقت آدم إلى مبعث نوح و كان بينهما عشرة قرون كلّ قرن ثمانون سنة عند الأكثر (1) [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ و قال قوم: إنّهم كانوا على الكفر و هو المرويّ عن ابن عبّاس و جماعة ثمّ اختلفوا في أيّ وقت كانوا كفّارا؛ فقيل: كانوا كفّارا بين آدم و نوح. و قيل: كانوا كفّارا بعد نوح إلى أن بعث اللّه إبراهيم و النبيّين بعده.

فإن قيل: كيف يجوز أن يكون الناس كلّهم كفّارا و اللّه لا يجوز أن يخلي الأرض من حجّة له على خلقه؟

فالجواب: يجوز أن يكون الحقّ في واحد أو جماعة قليلة لم يمكنهم إظهار الدين خوفا فلم يعتدّ بهم إذ كانت الغلبة للكفّار.

قال الواقديّ و الكلبيّ: المؤمنون كانوا أهل السفينة حين غرق اللّه الخلق. قال مجاهد: المعنى كان آدم على الحقّ إماما لذرّيّته فبعث اللّه النبيّين.

و روي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنّه قال: كانوا قبل نوح امّة واحدة على فطرة اللّه لا مهتدين و لا ضلالا فبعث اللّه النبيّين (2) فالمعنى على هذا أنّهم متعبّدين بما في عقولهم من غير نبوّة و لا شريعة.

ثمّ بعث اللّه النبيّين بالشرائع لما علم أنّ مصالحهم فيها فأرسل اللّه النبيّين [مُبَشِّرِينَ لمن أطاعهم بالجنّة [وَ مُنْذِرِينَ لمن عصاهم بالنار [وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ أي أنزل مع كلّ واحد منهم الكتاب و أراد به مع بعضهم لأنّه لم ينزل مع كلّ نبيّ كتاب. و قيل:

المراد به الكتب لأنّ الكتاب اسم الجنس فمعناه الجمع. بالحقّ و الصدق و العدل أو بيان الحقّ.

[لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ الضمير في «يحكم» يرجع إلى اللّه أي ليحكم اللّه منزل الكتاب. و قيل: الضمير راجع إلى الكتاب [فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ قبل إنزال الكتاب.

[وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي و ما اختلف في الحقّ إلّا الّذين اعطوا العلم به كاليهود فإنّهم كتموا صفة النبيّ بعد ما اعطوا العلم بعلائمه

ص: 53


1- و المعروف في اللغة: مائة سنة. و قال الراغب: هو القوم المقترنون في زمان واحد.
2- مجمع البيان 2: 307 و مثله في البرهان 1: 209- 210 بأسانيد.

و بصفاته من بعد الأدلّة و الحجج الواضحة في التوراة و الإنجيل. و قيل: معجزات محمّد صلّى اللّه عليه و آله [بَغْياً بَيْنَهُمْ أي ظلما و حسدا و طلبا للرياسة.

[فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ لأنّهم اختصّوا بالاهتداء و معنى «بإذنه» بعلمه و قيل: أي بلطفه. فعلى هذا يكون في الكلام محذوف أي فاهتدوا بإذنه [وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فيه أقوال: أحدها أنّ المراد البيان و الدلالة، و الصراط المستقيم هو الإسلام و خصّ به المكلّفين دون غيرهم ممّن لا يحتمل التكليف.

و ثانيها أنّ المراد به يهديهم باللطف فيكون خاصّا بمن علم عن حاله أنّه يصلح به. و ثالثها يهديهم إلى طريق الجنّة فيكون مخصوصا بالمؤمنين لا يضلّ سالكه.

[سورة البقرة (2): آية 214]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

. «أم» منقطعة معناه «بل» و الهمزة للإنكار أي بل حسبتم أن تدخلوا الجنّة أي لا ينبغي أن تظنّوا و تحسبوا ذلك [وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ و الحال لم يجئكم [مَثَلُ الَّذِينَ (خَلَوْا) مِنْ قَبْلِكُمْ وصف الذين مضوا من قبلكم من الأنبياء و من معهم من المؤمنين، أي و لم تبتلوا بعد بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة الّتي هي في شدّة و الفظاعة صارت مثلا [مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ] كأنّه قيل: كيف كان مثلهم و حالهم العجيبة فقيل مسّتهم الفاقة و الخوف و الضرّاء أي الآلام و الأمراض.

[وَ زُلْزِلُوا] و ازعجوا إزعاجا شديدا بما أصابهم من الشدائد.

[حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي انتهى أمرهم في الشدّة إلى حيث اضطرّهم الأمر الدعاء للّه لقرب الفرج و النصر. و لا يجوز أن يكون المعنى على جهة الاستبطاء بأن يقولوا: [مَتى نَصْرُ اللَّهِ لأنّ الرسول يعلم أنّ اللّه لا يؤخّر وعده، و المراد أنّكم ما امتحنتم بمثل ما امتحنوا فتصبروا كما صبروا. و في الآية تسلية لنبيّه و لأصحابه في ما نالهم من المشركين و أمثالهم.

ثمّ أخبر اللّه سبحانه أنّه ناصر أوليائه لا محالة فقال: [أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ و قيل

ص: 54

إنّ هذا من كلامهم بأنّهم قالوا: «متى نصر اللّه» ثمّ تفكّروا فعلموا أنّ اللّه منجز وعده فقالوا: «ألا إنّ نصر اللّه قريب» و قيل: إنّه ذكر جملة كلام الرسول و المؤمنين ثمّ فصّل قال المؤمنون: «متى نصر اللّه» و قال الرسول «ألا إنّ نصر اللّه قريب» كقوله: «جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» (1) و هذا المعنى أنسب (2).

قوله: [سورة البقرة (2): آية 215]

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

. نزلت في عمرو بن الجموح و كان شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال: يا رسول اللّه ماذا ننفق من أموالنا و أين نضعها؟ [يَسْئَلُونَكَ يا محمّد أيّ شي ء ينفقون و السؤال عن الانفاق يتضمّن السؤال عن المنفق عليه [قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ] أي أيّ شي ء أنفقتم من أيّ خير كان، و المال يسمّى «خيرا» لأنّ حقّه أن يصرف إلى جهة الخير فصار بذلك كأنّه نفس الخير [فَلِلْوالِدَيْنِ بيان المصرف [وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى و المراد «بالوالدين» الأب و الأمّ و الجدّ و الجدّة و إن علوا لأنّهم يدخلون في اسم الوالدين و المراد «بالأقربين» أقارب المعطي «و اليتامى» أي كلّ من لا أب له مع صغره المحتاجين [وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ المنقطع به.

و اختلفوا في هذه النفقة قيل: المراد به نفقة التطوّع. و قيل: هي عامّة في الزكاة المفروضة و التطوّع و إنّما لم تتعرّض للسائلين و الرقاب إمّا اكتفاء بما ذكر في المواقع الآخر و إمّا بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى [وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ] فإنّه شامل لكلّ خير واقع في أيّ مصرف كان [فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيوفّي ثوابه.

قوله: [سورة البقرة (2): آية 216]

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)

. في الآية بيان لكون الجهاد مصلحة لمن أمر به، أي فرض عليكم قتال الكفرة و الجهاد في سبيل اللّه مع أعداء الدين و هو فرض على الكفاءة مثل صلاة الجنازة [وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ و الحال أنّه شاقّ عليكم طبعا كالصوم في الصيف، و كراهة الطبع لا توجب الذمّ [وَ عَسى أَنْ

ص: 55


1- القصص: 73.
2- و الآية نزلت في أحد أو الأحزاب على اختلاف. مجمع البيان.

[تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأنّ في الغزو إحدى الحسنيين إمّا الظفر و الغنيمة و إمّا الشهادة و الجنّة.

[وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً] «عسى» كلمة يجرى مجرى لعلّ للترجّي، و من امور الّتي تحبّونه مستلذّات النفس و الشهوات و القعود عن الغزو [وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ لما فيه من فوات الأجر و حصول غلبة الأعداء و ضعف الدين و تخريب الديار [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما هو خير لكم دينا و دنيا فلذا يأمركم به [وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك و لذلك تكرهونه، و إنّما كرهوا الأمور الخيريّة لأنّ أبدانهم رهينة لشهواتهم و ضعف نيّاتهم بعمل الآخرة؛ فينبغي للعاقل أن يجاهد مع النفس و الطبيعة ليرتفع الهوى و الشهوات و البدعة و يتمكّن في قلبه حبّ العمل بالكتاب و السنّة.

قال إبراهيم الخوّاص: كنت أسيح في جبل لكام و فيه أشجار الرمّان البرّيّ فرأيت رمّانة اشتهيتها فقطعتها و شققتها فوجدتها حامضة فتركتها فرأيت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير فقلت: السّلام عليك. فقال: و عليك السّلام يا إبراهيم فقلت: كيف عرفتني و لم ترني؟ قال: من عرف اللّه لا يخفى عليه شي ء فقلت: أرى لك حالا مع اللّه فلو سألته أن يحميك و يقيك الأذى و المرض من هذه الزنابير فقال: و أرى لك حالا مع اللّه فلو سألته أن يقيك شهوة الرمّان فلدغ الرمّان يجد الإنسان ألمه في الآخرة و لدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا.

[سورة البقرة (2): آية 217]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217)

. النزول: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سريّة من المسلمين و أمّر عليهم عبد اللّه بن جحش الأسديّ و هو ابن عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذلك قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر من مقدمه الشريف بالمدينة فانطلقوا حتّى هبطوا نخلة فوجدوا بها عمرو بن الحضرميّ في عير تجارة لقريش في آخر يوم من جمادي الآخرة و كانوا يرون أنّه من جمادي و هو رجب فاختصم المسلمون فقال قائل منهم: هذه عيرة من عدوّ و غنم رزقتموه و لا ندري أمن الشهر الحرام

ص: 56

هذا اليوم أم لا. و قال قائل منهم: لا نعلم هذا اليوم أ من الشهر الحرام أم لا و لا نرى أن نستحلّوه لطمع أشفيتم عليه، فغلب على الأمر الّذي أراد الغنم فشدّوا على ابن الحضرميّ فقتلوه و غنموا عيره فبلغ كفّار قريش فركب وفد كفّار قريش حتّى قدموا على النبيّ فقالوا: أ تحلّ القتال في الشهر الحرام فأنزل اللّه الآية. (1) [يَسْئَلُونَكَ يا محمّد السائلون أهل الشرك على جهة التوبيخ و العيب، و قيل: السائلون أهل الإسلام سألوا ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه [عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ أي عن القتال في الشهر الحرام و قتال بدل الاشتمال عن الشهر لأنّ الزمان يشتمل على ما يقع فيه، و إنّهم كانوا ينزعون الأسنّة و النصال عند دخول رجب، و يدعى رجب الأصمّ لأنّه لا يسمع فيه قعقعة السلاح فيه.

[قُلْ يا محمّد: [قِتالٍ فِيهِ ذنب [كَبِيرٌ] عظيم عند اللّه «و قتال» مبتدأ خبره «كبير» و جاز الابتداء بالنكرة؛ لأنّها وصفت «بفيه» و عند الأكثر أنّ هذه الآية منسوخة بقوله:

«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» (2) [وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و منع عن الإسلام و «صدّ» مبتدأ قد تخصّص بالعمل فيما بعد [وَ كُفْرٌ بِهِ باللّه و صدّ أيضا عن دخول [الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و زيارة بيت اللّه [وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ أي أهل المسجد و هو النبيّ و المؤمنون [مِنْهُ أي من المسجد [أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ و أعظم وزرا يعني إخراجهم المسلمين من مكّة حين ضيّقوا عليهم و هاجروا إلى المدينة.

[وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أي الفتنة في الدين و الكفر أعظم من القتل في الشهر الحرام يعني قتل ابن الحضرميّ أي هذه الأشياء المعدودة أكبر إثما و عقوبة من قتل المسلمين ابن الحضرميّ في الشهر الحرام و لو أنّ القتال في الشهر الحرام حرام لأنّ القتال إثم و الكفر أعظم و لأنّهم كانوا شاكّين في اليوم و أوّلوه و لا تأويل للكفّار في الكفر.

[وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ بيان لاستحكام عداوتهم في الدين، أي لا يزال الكفّار عن قتالكم أيّها المؤمنون [حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ و يصرفوكم عن دينكم الحقّ إلى دينهم الباطل [إِنِ اسْتَطاعُوا] إشارة إلى تصلّبهم مهما أمكن.

[وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ أي من يفعل ذلك بإغوائهم [فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ] بأن

ص: 57


1- و رواه القمي في تفسيره: 61- 62 مع اختلاف.
2- التوبة: 5.

لم يرجع إلى الإسلام و يموت على الكفر [فَأُولئِكَ الباقون على الارتداد حين الموت [حَبِطَتْ و تلاشت و بطلت [أَعْمالُهُمْ الّتي كانوا عملوها في حالة الإسلام حبوطا كلّيّا لا تلافي له [فِي الدُّنْيا] و هو وجوب قتله عند الظفر به لارتداده و فوات موالاة المسلمين و زوال النكاح و حرمانه من مواريث المسلمين و نحو ذلك ممّا يجري على المرتدّ و أهله و ماله [وَ الْآخِرَةِ] و هو الجنّة لأنّ عبادتهم لم تصحّ لإخلال الوجه فلم يجازوا عليها في الآخرة [وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مؤبّدون فيها و حاصل الآية أنّ كلّ واحد من هذه الأمور أعظم من القتال في الشهر الحرام.

[سورة البقرة (2): آية 218]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

. نزلت في السريّة المذكورة فإنّ اللّه لمّا فرج عنهم بالآية السابقة ما كانوا فيه من الغمّ الشديد بقتالهم في الشهر الحرام طمعوا فيما عند اللّه من ثوابه فقالوا: يا رسول اللّه لا عقاب علينا فيما فعلنا فهل نعطى ثوابا؟ فأنزل اللّه هذه الآية و كانوا مؤمنين مهاجرين [وَ الَّذِينَ هاجَرُوا] و فارقوا منازلهم [وَ جاهَدُوا] و حاربوا المشركين [فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه [أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ و ثوابه و لا يحبط أعمالهم كأعمال المرتدّين [وَ اللَّهُ غَفُورٌ] لذنوبهم [رَحِيمٌ يرحمهم و من الواجب على المؤمن أن لا ييأس من رحمته و أن لا يأمن من عذابه.

[سورة البقرة (2): الآيات 219 الى 220]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول اللّه فقالوا: أفتنا في الخمر و الميسر فقال:

[يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ] و هي كلّ شراب مسكر مخالط للعقل مغطى عليه، و ما أسكر كثيره فقليله خمر و حرام «و الخمر» مصدر خمره أي ستره سمّي به لتغطيتها العقل و التميّز كأنّها نفس الستر كما سمّيت سكرا لأنّها تسكر و تحجر العقل [وَ الْمَيْسِرِ] مصدر ميميّ من يسر

ص: 58

كالموعد و المرجع يقال: يسرته إذا قمرته و اشتقاقه من اليسر لأنّه أخذ المال بيسير و حصوله لصاحبه بالسهولة و يدخل جميع أقسامه كالنرد و الشطرنج حتّى لعب الصبيان بالجوز و الكعاب.

[قُلْ فِيهِما] أي في تعاطي الخمر و الميسر و استعمالهما [إِثْمٌ كَبِيرٌ]- و قرأ كثير بالثاء المثلّثة- لما أنّ الأوّل مسلبة للعقول الّتي هي قطب الدين و الدنيا مع كون كلّ منهما متلفة للأموال [وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ من كسب اللذّة و المغالات بثمن الخمر و تقوية الضعيف و الإعانة على بائه و تسلية المحزون و تشجيع الجبان و تسخية البخيل و إنطاق الفتى العيّ و تهييج الهمّة، و منافع الميسر إصابة المال من غير كدّ و لا تعب و انتفاع الفقراء بلحم الجزور فإنّهم كانوا يفرّقونها على المحتاجين؛ قال الواقديّ: و ربّما قمر الواحد منهم في مجلس مائة بعير فيصيب مالا عظيما بلا نصب و لا ثمن ثمّ يعطيه المحتاجين فيكتسب المدح و الثناء.

[وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما] و في الخمر إيقاع العداوة و البغضاء و الصدّ عن ذكر اللّه و عن الصلاة و هي تسفّه الحكيم فكيف بغيره و يؤول أمر شاربها أحيانا بحيث يلعب ببوله و عذرته و قيئه كما ذكر ابن أبى الدنيا أنّه مرّ على سكران و هو يبول في يده و يمسح به وجهه كهيئة المتوضّئ و يقول: الحمد للّه الّذي جعل الماء طهورا و الإسلام نورا. و في الميسر أنّه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه و ربّما قصده بالسوء.

قال المفسّرون: تواردت في الخمر أربع آيات نزلت بمكّة: «وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً» (1) فكان المسلمون يشربونها و هي لهم حلال يومئذ.

ثمّ إنّ معاذا و عمر و نفرا من الصحابة قالوا: أفتنا يا رسول اللّه في الخمر فإنّها مذهبة للعقول فنزلت «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ» فشربها قوم و قالوا: نأخذ نفعها و نترك إثمها و تركها آخرون و قالوا: لا حاجة لنا فيما إثمه كبير.

ثمّ إنّ عبد الرحمن بن عوف دعا ناسا منهم فشربوا و سكروا فقام أحدهم للصلاة فقرأ «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ أعبد ما تعبدون» إلى آخر السورة بدون «لا» في لا أعبد فنزلت «لا تَقْرَبُوا

ص: 59


1- النحل: 67.

الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى الآية» (1) فقلّ من يشربها و قالوا: لا خير في شي ء يحول بيننا و بين الصلاة و شربها قوم في غير حين الصلاة حتّى كان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء فيصبح و قد زال عنه السكر و يشرب بعد الصبح فيصحّوا إذا جاء وقت الظهر.

ثمّ اتّخذ عتبان بن مالك ضيافة و دعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقّاص و كان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه و شربوا الخمر حتّى سكروا ثمّ إنّهم تناشدوا الأشعار و انتسبوا و افتخروا فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار و فخر لقومه، فأخذ رجل لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجّه موضحة (2) فانطلق سعد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شكا إليه الأنصاريّ فنزل «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ» في المائدة إلى قوله: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» فقالت الصحابة: انتهينا يا ربّ.

و حرّمت الخمر في السنة الثالثة من الهجرة بعد غزوة الأحزاب بأيّام. قال القفال المروزيّ: و الحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أنّه تعالى علم أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر و كان انتفاعهم بها كثيرا فلو منعهم دفعة واحدة يشقّ عليهم فلا جرم استعمل في التحريم هذا الرفق (3).

ثمّ لمّا نزل التحريم أريقت الخمر قال ابن عمر: و لقد غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حينا كلّما مطرت استبان فيها لون الخمر و فاحت منها ريحها و حرمت و لم يكن للعرب يومئذ عيش أعجب منها و ما حرّم اللّه عليهم شيئا أشدّ من الخمر.

و في روح البيان: روي أنّ جبرئيل عليه السّلام قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تعالى شكر لجعفر الطيّار أربع خصال كان عليها في الجاهليّة و هو عليها في الإسلام، فسأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جعفرا عن ذلك فقال: يا رسول اللّه لو لا أنّ اللّه اطّلعك عليها لما أخبرتك بها:

ما شربت الخمر قطّ، لأنّي رأيتها تزيل العقل و أنا إلى أن أزيد فيه أحوج منّي إلى أن أزيله، و ما عبدت صنما قطّ؛ لأنّي رأيته لا يضرّ و لا ينفع، و ما زنيت قطّ لغيرتي على

ص: 60


1- النساء: 43.
2- الموضحة من الشجاج ما يوضح فيها عظم الرأس.
3- و به رواية في الكافي. البرهان (1: 211- 212).

أهلي، و ما كذبت قطّ؛ لأنّي رأيته دناءة.

قال عمرو بن الأدهم- و هو من أكابر سادة بني تميم-: لو كان العقل يشترى ما كان شي ء أنفس منه فالعجب لمن يشتري الحمق بماله فيدخله في رأسه و يفي ء في جيبه و يسلح في ذيله.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لو وقعت قطرة في أرض فبنيت مكانها منارة لم اؤذّن عليها و لو وقعت في بحر ثمّ جفّ فنبت فيه الكلاء و رعت الغنم منه لما أكلت من لحومها انتهى.

و أمّا الميسر فهو القمار، و الياسر القامر. و كان أصل الميسر في الجزور في العرب و ذلك أنّ أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزورا و يضمنون ثمنه و لا يؤدّونه ليظهر بالقمار أنّه على من يجب فينحرونها و يجزونها عشرة أجزاء ثمّ يسهمون عليها بعشرة قداح يقال للقداح الأزلام و الأقلام سبعة منها لها أنصباء: الفذّ و له نصيب واحد و التوأم و له نصيبان و الرقيب و له ثلاثة و الحلس و له أربعة و النافس و له خمسة و المسبل و له ستّة و المعلّى و له سبعة، و ثلاثة منها لا نصيب لها و هي المنيح و السفيح و الوغد ثمّ يجعلون القداح في خريطة تسمّى الربابة و يضعونها على يدي عدل عندهم يسمّى المجيل و المفيض ثمّ يحرّكها و يجلجلها ذلك الرجل العدل فيدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا قدحا فمن خرج له قدح من ذات الأنصباء أخذ النصيب المعيّن له و من خرج له قدحا ممّا لا نصيب له و هو الثلاثة لم يأخذ شيئا و غرم ثمن الجزور و كانوا يدفعون تلك الأنصباء للفقراء و لا يأكلون منها أي من سهم الثلاثة المحرومة و يفتخرون بذلك و يذمّون من لا يدخل في هذا الأمر و يسمّونه البرم و معناه عديم المروّة و اللئيم فهذا كان أصل القمار عندهم (1) فالميسر بأقسامه حرام كما أنّ الخمر بأنواعها حرام. في الحديث: سيأتي على أمّتي زمان يظهر فيه أقوام يسمّون الخمر بغير اسمها.

[وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ سؤال عن كمّيته و مقداره فإنّه لمّا نزل قوله: «قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ» قال عمرو بن الجموح: و سأل عن مقدار الإنفاق فنزل [قُلِ الْعَفْوَ] أي أنفقوا الميسور و السهولة أي ما سهل و تيسّر و لم يشقّ عليك إنفاقه؛ فالعفو من المال ما يسهل

ص: 61


1- سيأتي له ذكر في الجزء الرابع من الكتاب في سورة المائدة آية 90.

إنفاقه، و الجهد من المال ما يعسر إنفاقه و القدر السهل ما كان فاضلا عن حاجة نفسه و عياله و من عليه مؤونته و لكن بشرط الاقتصاد، عن النبيّ عن ابن عبّاس. و قيل: إنّ العفو الوسط من غير إقتار و لا إسراف و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام و ثالث الأقوال أنّ العفو ما فضل عن قوت السنة، عن الباقر قال: و نسخ ذلك بآية الزكاة. و الرابع من الأقوال أنّ العفو أفضل المال و أطيبه (1).

[كَذلِكَ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يدخل فيه الأمّة و إفراد الخطاب مع تعدّد المخاطبين باعتبار القبيل أو الفريق بما هو مفرد اللفظ و مجموع المعنى أي مثل ما بيّن أنّ العفو أصلح من الجهد [يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالّة على تفاصيل أموركم لا بيانا أدنى منه بيّنة الفحوى واضحة المدلول [لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ] لكي تدبّروا في امور الدارين فتأخذوا بأصلحها لكم و أسهل في الدنيا و أنفع للعقبى.

و في الآية ترغيب في التصدّق بشرط أن يكون من فضل المال و عفوه و أطيبه و بشرط أن يكون عنده ما يتعيّش به لا أنّه ينفق ثمّ يقعد في بيته محتاجا.

كما روي أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال:

يا رسول اللّه خذها منّي صدقة فو اللّه لقد أصبحت ما أملك غيرها فأعرض عنه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأتاه من جانب الأيمن فقال مثله، فأعرض عنه ثمّ أتاه من جانب الأيسر فأعرض عنه فقال:

هاتها مغضبا فأخذها منه فحذفها حذفا لو أصابه لشجّه أو عرّه ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: يجي ء أحدكم بماله كلّه يتصدّق به و يجلس يتكفّف الناس، إنّما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيه انتهى.

و في لفظ العفو إشارة إلى أنّ ما يعطيه المرء في سبيل اللّه أن يعفو أثره عن قلبه لأنّ أصل العفو المحو و الطمس و هذه الطريقة طريقة العوام و أمّا الخواصّ فطريقهم الإيثار و هو أن يقدّم غيره على نفسه. و لمّا حثّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الناس على الصدقة و كان أبو أمامة الباهليّ

ص: 62


1- الاول: العيّاشي عن يوسف عنهما عليهما السّلام. الثاني: الكليني عن ابن ابى عمير عن ابى عبد اللّه عليه السّلام و العيّاشي عن جميل و عن عبد الرحمن عنه عليه السّلام. الثالث: الطبرسي مرسلا. البرهان (1: 212).

جالسا بين يديه و هو يحرّك شفتيه فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ماذا تقول حيث تحرّك شفتيك؟

قال: إنّي أرى الناس يتصدّقون و ليس معي شي ء أتصدّق به فأقول في نفسي: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر. فقال صلّى اللّه عليه و آله: هؤلاء الكلمات خير لك من مدّ ذهبا تتصدّق به على المساكين.

[وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى أي عن مخالطتهم و ذلك بعد نزول قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» فتركوا مخالطتهم و مؤاكلتهم حتّى لو كان عند رجل يتيم يجعل له بيتا على حدة و طعاما على حدة و عزلوا أموال اليتامى عن أموالهم و كان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شي ء فيتركونه و لا يأكلونه فيتركونه حتّى يفسد فاشتدّ ذلك عليهم و على اليتامى فقال عبد اللّه بن رواحة: يا رسول اللّه ما لكلّنا منازل يسكنها اليتامى و لا كلّنا نجد طعاما و شرابا نفرّدهما لليتيم فنزلت الآية.

[قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ أي مداخلتهم على وجه الإخلاص و الإصلاح [خَيْرٌ] من مجانبتهم و ترك خلطتهم [وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ و تعاشروهم على وجه ينفعهم [فَإِخْوانُكُمْ فهم إخوانكم في الدين الّذي هو أقوى من العلاقة النسبيّة فحينئذ حقّ الأخ أن يخالط الأخ بالإصلاح و النفع. قال ابن عبّاس: «المخالط» أن تأكل من تمره و لبنه و قصعته و هو يأكل من تمرك و لبنك و قصعتك. و بعض حمل المخالطة على المصاهره و هو أن يكون اليتيم بنا فيتزوّجه ابنته أو تكون بنتا فيزوّجها ابنه إيناسا لوحشته و إزالة لوحدته.

[وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ] لمال اليتم [مِنَ الْمُصْلِحِ لماله فيجازيه على حسب مداخلته، و في تقديم «المفسد» مزيد تهديد [وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ إعناتكم و حملكم على المكروه [لَأَعْنَتَكُمْ و حملكم على المشقّة [إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ] غالب في أمره [حَكِيمٌ يحكم ما يقتضيه الحكمة و تسع له الطاقة و هو دليل على ما يفيده كلمة «لو» من انتفاء مقدّمها أي لكنّه لم يشأ.

و اعلم أنّ مخالطة الأيتام و محبّتهم من أخلاق الكرام و في الترحّم عليهم فوائد جمّة؛ قال النبيّ: من وضع يده على رأس يتيم ترحّما عليه كانت له بكلّ شعرة تمرّ عليها يده حسنة.

قال اللّه: يا موسى كن لليتيم كالأب الرحيم و كن للأرامل كالزوج الشفيق و كن للغريب كالأخ الرفيق أكن لك كذلك.

ص: 63

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ثلاثة في ظلّ عرش اللّه يوم القيامة امرأة مات عنها زوجها و ترك عليها يتامى صغار فخطبت فلم تتزوّج و قالت أقيم على اليتامى حتّى يغنيهم اللّه أو يموت اليتيم أو هي، و رجل له مال و صنع طعاما فأطاب صنيعه و أحسن نفقته فدعا إليه اليتيم و المساكين.

و الثالث واصل الرحم فيوسّع له في رزقه و يمتدّ له في أجله و يكون تحت ظلّ عرشه انتهى.

فليحسن العاقل مخالطة اليتيم و ليجتنب كلّ الاجتناب عن إخلال حقّ من حقوقه و أكل حبّة من ماله و عن ظلمه و قهره.

حكي أنّ رستم بن زال بارز إسفنديار فلم يقدر عليه مع زيادة قوّته و كان إسفنديار يجرحه في كلّ حملة دون رستم و كان بدن إسفنديار كجلد بعض السمك لا يعمل فيه شي ء، ثمّ إنّ رستم تشاور مع زال في ذلك فقال له أبوه: إنّك لا تقدر عليه إلّا أن تعمل سهما من تلك الشجرة ذا قفارين و تصيب به عيني إسفنديار ففعل ذلك فرمى فأصاب فغلب عليه بذلك، و السبب في ذلك أنّ إسفنديار كان قد ضرب في شيبته يتيما بغصن ففقأ به عينه و أبكاه ثمّ إنّ اليتيم أخذ ذلك الغصن و غرسه فلمّا صار شجرا أخذ رستم غصنا من أغصانه و نحت منه سهمه الّذي أصاب به عيني إسفنديار انتهى.

و في قوله: «وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» إشارة إلى أنّ المرء ينبغي أن يتعوّد الأكل مع الناس فإنّ شرّ الناس من أكل وحده قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ من أحبّ الطعام إلى اللّه ما كثرت عليه الأيدي و في المصابيح أنّ أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قالوا: يا رسول اللّه إنّا نأكل و لا نشبع قال: لعلّكم تفترقون قالوا نعم: قال: فاجتمعوا على طعامكم و اذكروا اسم اللّه حكي أنّه قيل لجمين صاحب النوادر: أ تغدّيت عند فلان؟ قال: لا و لكن مررت ببابه و هو يتغدّى فقيل له: كيف علمت قال: رأيت غلمانه بأيديهم قسيّ البنادق يرمون الطير في الهواء. و في الحديث من أضاف مؤمنا فكأنّما أضاف آدم و من أضاف إثنين فكأنّما أضاف آدم و حوّاء.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 221]

وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

.

ص: 64

النزول: نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنويّ بعثه رسول اللّه إلى مكّة ليخرج منها ناسا من المسلمين و كان قويّا شجاعا فدعته امرأة يقال عتاق إلى نفسها فأبى و كان يهواها في الجاهليّة و تهواه فقالت: ألا نخلو فقال: إنّ الإسلام حال بيننا فقالت: هل لك أن تتزوّج بي فقال: حتّى أستأذن رسول اللّه فلمّا رجع استأذن رسول اللّه في التزوّج بها فنزلت الآية فقال سبحانه:

[وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ و لا تتزوّجوا النساء الكافرات [حَتَّى يُؤْمِنَ أي يصدّقن باللّه و هي عامّة عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفّار من أهل الكتاب و غيرهم و ليست بمنسوخة.

و اختلف غيرنا فيه فقال بعضهم: لا يقع اسم المشركات على أهل الكتاب و قد فصّل اللّه بينهما فقال: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ» (1) و كذلك «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ» (2) و عطف أحدهما على الآخر.

و قال بعضهم: الآية متناولة جميع الكفّار و الشرك يطلق على الكلّ و من جحد نبوّة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله فقد أنكر معجزته و أضافه إلى غير اللّه و هذا هو الشرك بعينه لأنّ المعجزة شهادة من اللّه له بالنبوّة.

ثمّ هؤلاء أيضا اختلفوا فمنهم من قال: إنّ الآية منسوخة في الكتاب بالآية الّتي في المائدة «وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» (3) و منهم من قال: إنّها مخصوصة بغير الكتابيّات، عن قتادة و سعيد بن جبير. و منهم من قال: إنّها على ظاهرها في تحريم نكاح كلّ كافرة كتابيّة كانت أو مشركة، عن ابن عمر و بعض الزيديّة و هو مذهبنا و سيأتي بيان آية المائدة في موضعها إن شاء اللّه.

[وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ] مع ما بها من قلّة الخطر و القدر [خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ] مع مالها من شرف الحرّيّة و المال و رفعة الشأن [وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ تلك المشركة بجمالها و مالها و نسبها و بغير ذلك من مبادئ الإعجاب و موجبات الرغبة، و الواو للحال و التقدير: خير من مشركة في كلّ حال و لو في هذه الحالة. و قيل: «لو» هنا بمعنى «إن» كذا كلّ موضع وليها الفعل الماضي و كان جوابها مقدّما عليها؛ فيكون المعنى: و إن كانت المشركة تعجبكم و تحبّونها فإنّ المؤمنة خير لكم.

ص: 65


1- البينة: 1.
2- السورة: 105.
3- المائدة: 5.

[وَ لا تَنْكِحُوا] بضمّ التاء من الإنكاح [الْمُشْرِكِينَ أي الكفّار أعمّ من الوثنيّ و غيره أي لا تزوّجوا منهم المؤمنات سواء كنّ حرائر أم إماء [حَتَّى يُؤْمِنُوا] و يتركوا ما هم عليه من الكفر و لا يحلّ تزويج المؤمنة من الكافر على اختلاف أنواع الكفر و لا خلاف في هذا الحكم و هذا يؤيّد قول من قال: إنّ قوله: «وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ» يتناول جميع الكافرات.

[وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ ماله أو جماله و الفرق بين «و لو أعجبكم» و بين «و إن أعجبكم» أنّ «لو» للماضي و «إن» للمستقبل و كلاهما يصحّ في معنى الآية و «العجب» في الآية بمعنى الميل و الاستعظام و ليس من التعجّب.

[أُولئِكَ المذكورون من المشركين و المشركات [يَدْعُونَ من يقارنهم و يعاثرهم [إِلَى النَّارِ وَ اللَّهُ و أوليائه المؤمنون [يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ] و إلى الاعتقاد الحقّ [بِإِذْنِهِ أي بأمره أي يدعو ملتبسا بتوفيقه [وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ المشتملة على الأحكام [لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لكي يتذكّروا فيفوزوا بما دعوا إليه من الجنّة و الغفران و بئست الخصلة ميل الطبع إلى محسّنات أهل الكفر و يؤول هذا الميل إلى الكفر أو محبّة الدنيا و الكافر.

قال الزمخشريّ: لا ترض لمجالستك إلّا أهل مجانستك و يؤيّد هذا المعنى حديث الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 222]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

. كانوا في الجاهليّة يتجنّبون مؤاكلة الحائض و مشاربتها و مجالستها فسألوا عن ذلك فنزلت الآية و قيل: كانوا يستجيزون إتيان النساء في أدبارهنّ أيّام الحيض فلمّا سألوا عنه بيّن تحريمه عن مجاهد. قال الطبرسيّ: و الأوّل عندنا أقوى.

[وَ يَسْئَلُونَكَ و السائل أبو الدحداح [عَنِ الْمَحِيضِ أي أحواله [قُلْ يا محمّد: [هُوَ أَذىً أي قذر. و قيل: أي دم. و قيل: المراد من الأذى مشقّتهنّ لهذه العارضة [فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي اجتنبوا مجامعتهنّ في الفرج «و المحيض» اسم مكان عن ابن عبّاس و جماعة.

و يوافق هذا القول قول من لا يحرّم منها غير موضع الدم فقط.

ص: 66

[وَ لا تَقْرَبُوهُنَ بالجماع أو مادون الإزار على الخلاف فيه [حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف حتّى ينقطع الدم عنهنّ و يطهرن من الحيض هذا إذا كان بالتخفيف، و على قراءة التشديد فمعناه حتّى يغتسلن.

[فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن و قيل: توضّأن و قيل غسلن الفرج [فَأْتُوهُنَ فجامعوهن و هو إباحة و إن كان صورته صورة الأمر كقوله: «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» (1) [مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي من حيث أمركم اللّه بتجنّبه في حال الحيض و هو الفرج، و قيل: المعنى من قيل الطهر دون الحيض و معنى الأوّل أليق بالظاهر و قيل معناه من الجهات الّتي تحلّ فيها أن تقرب المرأة و لا تقربوهنّ من حيث لا يجوز المقاربة مثل أن كنّ صائمات أو محرمات أو معتكفات. قال الفرّاء: و لو أراد الفرج لقال سبحانه: «في حيث أمركم اللّه» فلمّا قال: «مِنْ حَيْثُ» علمنا أنّه أراد من الجهة الّتي أمركم اللّه بها (2). و قيل: المراد من المأتيّ الّذي حلّله لكم و هو القبل و على هذا القول فالوطي في دبر المرأة حرام.

[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ المتنزّهين عن الأقذار و الفواحش كجامعة الحائض و الإتيان في غير المأتيّ بناء على القول في حرمة الدبر من المرأة.

[سورة البقرة (2): آية 223]

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

. «أَنَّى» في محلّ النصب على الظرفيّة ظرف مكان إذا كان بمعنى حيث أو أين و ظرف زمان إذا كان بمعنى متى و العامل فيه «فَأْتُوا».

النزول: نزلت ردّا على اليهود إذ قالوا: إنّ الرجل إذا أتى المرأة من خلفها في قبلها خرج الولد أحول فأكذبهم اللّه عن ابن عبّاس و جابر. (3) و قيل: أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة و باركة فأنزل اللّه إباحته.

المعنى: لمّا بيّن اللّه أحوال النساء في الحيض عقّب ذلك بقوله: [نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ و ذكر فيه وجوها: أحدها أنّ معناه مزرع و محرث لكم عن ابن عبّاس و السدّيّ. و الثاني

ص: 67


1- المائدة: 2.
2- معاني القرآن (1: 143).
3- الطبرسي عن الفراء و انظر معاني القرآن (1: 144) عن ميمون بن مهران عن ابن عباس.

أنّ معناه ذوات حرث لكم منهنّ تحرثون الولد و اللذّة و هذا في المعنى مثل الأوّل و كنّي عن الجماع بالحرث. و الثالث كحرث لكم فحذف حرف التشبيه كقولهم: الشعر مسك و الوجوه دنانير [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي موضع حرثكم نساءكم و قد سمّى العرب النساء حرثا [أَنَّى شِئْتُمْ أي من أين شئتم عن قتادة و الربيع. و قيل: المراد كيف شئتم. و قيل: متى شئتم. قال الطبرسيّ:

و هذا خطأ عند أهل اللغة لأنّ «أَنَّى» لا يكون إلّا بمعنى من أين كما قال: «أَنَّى لَكِ هذا» و يجوز ان يكون بمعنى كيف.

و استدلّ مالك بقوله: «أَنَّى شِئْتُمْ» على جواز إتيان المرأة في دبرها، و رواه عن نافع عن ابن عمر و حكاه زيد بن أسلم عن محمّد بن المنكدر، و به قال بعض أصحابنا و خالف في ذلك جمع من الفقهاء و قالوا: إنّ الحرث لا يكون إلّا بحيث النسل فيجب أن يكون الوطء حيث يكون النسل.

[وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ الأعمال الصالحة الّتي أمرتم بها و رغّبتم فيها [وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي عقاب اللّه بترك مجاوزة الحدود، و قيل: المراد من معنى التقديم هنا طلب الولد الصالح لقوله:

إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له و صدقة جارية و علم ينتفع به بعد موته (1).

و قيل: هو التسمية عند الجماع. و قيل: المراد من تقديم الخير هو التزوّج بالعفائف ليكون الولد طاهرا صالحا.

[وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ أي ملاقو ثوابه إن أطعتموه و عقابه إن عصيتموه، و إنّما أضافه إليه على ضرب من المجاز و لا يجوز حمل اللقاء على الرؤية [وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالثواب و الجنّة.

[سورة البقرة (2): آية 224]

وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

. روي أنّ بشير بن نعمان الأنصاريّ كان قد طلّق زوجته الّتي هي اخت عبد اللّه بن رواحة و أراد أن يتزوّجها بعد ذلك و كان عبد اللّه قد حلف على أن لا يدخل على بشير و

ص: 68


1- الخصال (1: 73) مثله في المعنى.

لا يكلّمه و لا يصلح بينه و بين أخته فإذا قيل له في ذلك قال: حلفت باللّه أن لا أفعل و لا يحلّ لي إلّا أن أحفظ يميني و أبرأ فيه فأنزل اللّه هذه الآية. (1) المعنى: لا تجعلوا ذكر اللّه و الحلف به مانعا من أنواع الخير كالبرّ و الاتّقاء و الإصلاح في الأمور الخيريّة فإنّ الحلف باللّه لا يمنع ذلك فيكون لفظ الأيمان مجازا مرسلا عن الخيرات المحلوف عليه. سمّي المحلوف عليه يمينا لتعلّق اليمين، و اللام في «لِأَيْمانِكُمْ» متعلّق بقوله: «عُرْضَةً» و العرضة فعلة بمعنى المعروض جعل اسما لما يعرض دون الشي ء أي يجعل قدّامه بحيث يكون حاجزا و حائلا عن أمر، و حاصل المعنى أن لا تجعلوا الحلف باللّه عذرا و مانعا عن إيتاء الخير و البرّ و التقوى و الصلاح في امور الناس [وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم [عَلِيمٌ بنيّاتكم.

و قيل في معنى الآية وجه آخر: أي لا تجعلوا اليمين باللّه عدّة مبتذلة في كلّ حقّ و باطل و لا تحلفوا به و إن بررتم، و هو المرويّ عن أئمّتنا نحر ما رواه عثمان بن عيسى عن أبي أيّوب قال: سمعت الصادق عليه السّلام يقول: لا تحلفوا باللّه صادقين و لا كاذبين فإنّه سبحانه يقول: «وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ».

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 225]

لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

. ثمّ بيّن أقسام اليمين [لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ و اختلفوا في يمين اللغو، قيل: هو ما يجري على عادة اللسان من قول «لا و الله» من غير عقد على يمين يقتطع بها مال و لا يظلم فيها أحد (2) عن ابن عبّاس و عائشة و الشعبيّ و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام. و قيل: هو أن يحلف و هو يرى أنّه صادق ثمّ تبيّن أنّه كاذب فلا إثم عليه و لا كفّارة.

و قيل: المراد يمين الغضبان لا يؤاخذكم اللّه بالحنث فيها إلّا أنّ الكفّارة واجبة فيها و به قال سعيد بن جبير رحمه اللّه. «و اللغو» ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبار من لغا العصافير إذا

ص: 69


1- الكليني عن عدة عن احمد بن محمّد عن عثمان. البرهان.
2- الكلينيّ عن عليّ عن هارون عن مسعدة العيّاشي عن ابى الصباح عن الصادق عليه السّلام. البرهان.

صوّتت و منه اشتقاق اللغة لأنّها كلام لا فائدة فيه عند غير أهله.

[وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي قصدتم و نويتم؛ لأنّ كسب القلب هو العقد و النيّة، و في الكلام تقدير أي من أيمانكم [وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ يمهل العقوبة و لا يعجل بها.

[سورة البقرة (2): الآيات 226 الى 227]

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

ثمّ بيّن حكم الإيلاء، و الإيلاء الحلف أي [لِلَّذِينَ يبعدون [مِنْ نِسائِهِمْ مؤلين أي يكون الحلف على الامتناع من الجماع و يكون القسم باللّه تعالى على وجه لا يقع موقع اللغو على وجه الغضب و الضرار و هو المرويّ عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس و الحسن (1).

و قيل: من غير تفاوت في حالة الغضب و الرضاء [تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ] قال سعيد بن المسيّب: كان ذلك من ضرار أهل الجاهليّة فكان الرجل لا يحبّ امرأته و لا يحبّ أن يتزوّجها غيره فيحلف أن لا يقربها فيتركها لا أيّما و لا ذات بعل، و كانوا يفعلون في ابتداء الإسلام أيضا فأزال اللّه سبحانه ذلك الضرر عنهنّ و ضرب للزوج مدّة يتروّى فيها و يتأمّل فأمهله اللّه مدّة أربعة أشهر فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارّة فعله و إن رأى المصلحة في المفارقة طلّقها.

أي تنتظر المرأة أربعة أشهر و لا يطالبن الأزواج [فَإِنْ فاؤُ] و رجعوا إليهنّ [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر للحالف و عليه الكفّارة و فيئته كتوبته [وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بضمائرهم.

القميّ عن الصادق عليه السّلام: «الإيلاء» هو أن يحلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها فإن صبرت عليه فلها أن تصبر و إن رفعته إلى الإمام أنظره أربعة أشهر ثمّ يقول له بعد ذلك:

إمّا أن ترجع إلى المناكحة و إمّا أن تطلق فإن أبى حبسه أبدا إلى أن يرضى بالحكم. (2)

ص: 70


1- الطبرسي مرسلا عنهما بهذا الذيل.
2- تفسيره: 54.

[سورة البقرة (2): آية 228]

وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

. «القروء» جمع قرء و جمعه القليل: أقرء، و الكثير: قروء و أقراء؛ و صار بناء الكثير فيه أغلب في الاستعمال مثل ثلاثة شسوع أو لأنّ القروء و لو أنّها ثلاثة إلّا أنّها كثيرة ثلاثة في ثلاثة في الأفراد من النساء فأتى بجمع الكثرة. بيّن سبحانه حكم المطلّقات أي المخلّيات من حبائل الأزواج بالطلاق و يعني المطلّقات المدخول بهنّ من ذوات الحيض غير الحوامل لأنّ في الآية بيان عدّتهنّ.

[يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ] أي ينتظرن بأنفسهنّ انقضاء ثلاثة قروء فلا يتزوّجن في هذه المدّة و لفظه خبر و معناه أمر «و القرء» من الأضداد و أصل معنى القرء الاجتماع لاجتماع الدم في الرحم؛ فعلى هذا فمعنى القرء الحيض و كذلك يجي ء القرء بمعنى الطهر لأنّ في غير أوقات الحيض يجتمع ذلك الدم في سائر البدن و المراد من القرء في الآية الطهر عندنا و روي أيضا عن عليّ عليه السّلام أنّ القرء الحيض (1). و استشهد القائلون بأنّ القرء المراد منه الحيض في الآية بقوله صلّى اللّه عليه و آله للمستحاضة: دعي الصلاة أيّام أقرائك. و الصلاة إنّما تترك في أيّام الحيض، و استشهد من ذهب إلى أنّ القرء الطهر بقوله تعالى: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» أي في طهر لم تجامع فيه.

[وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَ أي لا يجوز لهنّ أن يخفين ما بهنّ من الحبل و الحيض لتبطيل حقّ الزوج من الولد و الرجعة؛ قال الصادق عليه السّلام قد فوّض إلى النساء ثلاثة أشياء: الحيض و الطهر و الحبل.

[إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] أي من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فهذه صفته يعني أنّ الإيمان يمنع من ارتكاب هذه المعصية كقولك: إن كنت مؤمنا فلا تظلم.

ص: 71


1- ليست الرواية مضبوطة و انما كانت هي دائرة على السن أهل العراق و وردت بتكذيبه عدة روايات. انظر البرهان.

لا أنّه إذا لم تكن المرأة مؤمنة يحلّ لها الكتمان فإنّ المؤمنة و الكافرة في هذا الحكم سواء.

[وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ و أصل البعل المالك و السيّد سمّي الزوج بعلا لقيامه بأمر زوجته كأنّه مالك لها، و التاء في البعولة زائدة لتأكيد التأنيث فإنّ الجمع باعتبار الجماعة في حكم المؤنّث، و في تسمية الزوج بعلا مع طلاقها الصريح إشعار بأنّ النكاح بعد قائم و الحلّ ثابت، و الضمير لبعض أفراد المطلّقات و شامل للمطلّقة بالرجعيّ لا البوائن [فِي ذلِكَ أي في زمان التربّص و أفعل هنا بمعنى الفاعل إذ لا معنى للتفضيل هنا فإنّ غير الأزواج لا حقّ لهم فيهنّ البتّة.

[إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً] أي إن أراد الأزواج بالرجعة إصلاحا بينهم و بينهنّ و إحسانا إليهنّ لا بقصد المضارّة كما كانوا يفعلونه أهل الجاهليّة كان الرجل يطلّق امرأته فإذا قرب انقضاء عدّتها راجعها ثمّ يطلّقها و يقصد بذلك تطويل العدّة عليها، لكن هذا الشرط ليس شرط في صحّة الرجعة فإنّ الرجعة صحيحة و إن كان قصد الزوج المضارّة بل المراد الزجر عن قصد الضرار.

[وَ لَهُنَ عليهم من الحقوق [مِثْلُ الَّذِي لهم [عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي استقرّ لهنّ بالوجه الّذي لا ينكر في الشرع من الاقتصاد فلا يكلّفهنّ ما ليس لهم و لا يعنّف أحد الزوجين صاحبه و المراد من المماثلة بين الحقّين الحقوق المقرّرة في الشرع بينهما من الوجوب مثل أنّ الانفاق واجب على الزوج للزوجة كما أنّ الامتثال من الزوجة للزوج في البضع واجب فالمماثلة في الوجوب لا في كلّ الأمور.

روي أنّ امرأة معاذ قالت: يا رسول اللّه ما حقّ الزوجة على الزوج، قال صلّى اللّه عليه و آله: أن لا يضرب على وجهها و لا يقبحها و أن يطعمها ممّا يأكل و يلبسها ممّا يلبس و لا يهجرها. و قال صلّى اللّه عليه و آله في حديث: اتّقوا اللّه في النساء فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة اللّه و استحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه و من حقّكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم من تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربا غير مبرح، (1) و لهنّ عليكم رزقهنّ و كسوتهنّ بالمعروف أي المتعارف في العادات المشروعة [وَ لِلرِّجالِ

ص: 72


1- الطبرسي مرسلا و راجع فروع الكافي (2: 61- 62).

عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] أي فضيلة منها الطاعة و منها زيادة الميراث و الجهاد و امور. و قيل: معناه أنّ المرأة تنال اللذّة من الرجل كما ينال الرجل منها و له الفضل بنفقته و قيامه عليها.

و في كتاب من لا يحضره الفقيه عن الباقر عليه السّلام قال: جاءت امرأة إلى رسول اللّه فقالت: يا رسول اللّه ما حقّ الزوج على الزوجة فقال: عليها أن تطيعه و لا تصدّق من بيته إلّا بإذنه و لا تصوم تطوّعا إلّا بإذنه و لا تمنعه نفسها و إن كانت على ظهر قتب و لا تخرج من بيتها إلّا بإذنه فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء و ملائكة الأرض و ملائكة الغضب و ملائكة الرحمة حتّى ترجع إلى بيتها؛ فقالت يا رسول اللّه: من أعظم الناس حقّا على المرأة قال: زوجها، قالت: فمالي من الحقّ عليه أمثل ما له من الحقّ عليّ؟ قال: لا و لا من كلّ مائة واحدة، فقالت: و الّذي بعثك بالحقّ لا يملك رقبتي رجل أبدا (1). و قال: لو كنت أمرت أحدا يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. (2) [وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قادر على ما يشاء فاعل ما تدعوا إليه الحكمة. و المطلّقة قبل الدخول و المطلّقة الحاملة نسختا عن هذه الآية بقوله تعالى: «فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها» (3) «وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» (4)

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 229]

الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

. النزول. روى هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّ امرأة أتتها و شكت أنّ زوجها يطلّقها و يسترجعها إضرارا لها بذلك و كان الرجل في الجاهليّة إذا طلّق امرأته ثمّ راجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان له ذلك و إن طلّقها ألف مرّة و لم يكن للطلاق عندهم حدّ فذكرت عائشة لرسول اللّه فنزلت:

[الطَّلاقُ مَرَّتانِ فجعل سبحانه حدّ الطلاق ثلاثا و الطلاق الثالث قوله:

ص: 73


1- انظر البرهان.
2- الطبرسي مرسلا.
3- الأحزاب: 49.
4- الطلاق: 4.

«فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» (1) «الطلاق» أي التطليق الرجعيّ لمتقدّم ذكره الّذي كان حكمه «وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ» و يملك الزوج فيه الرجعة مرّتان و أمّا بعد الطلقتين بأن طلّق ثلاثا فلا يثبت للزوج حقّ الرجعة البتّة و لا تحلّ له المرأة إلّا بعد زوج آخر.

[فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أي فالواجب و الحكم بعد هاتين التطليقتين إمساك على وجه المعروف لها جميل شائع في الشريعة لا على وجه الإضرار بهنّ بل بحسن المعاشرة و الكلام و إن كان بصورة الخبر إلّا أن معناه الأمر.

[أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي إذا تركها أدّى إليها حقوقها الماليّة و لا يذكرها بسوء بعد المفارقة و لا ينفّر الناس عنها و قيل: قوله: «تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» المراد أنّه الطلقة الثالثة أو المعنى أنّه يترك المعتدّة حين تبيّن انقضاء العدّة من غير إضرار بها و هو المرويّ عن الصادقين عليهما السّلام.

[وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ خطاب للأزواج [أَنْ تَأْخُذُوا] في حال الطلاق ممّا أعطيتموهنّ من المهر [شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ استثنى الخلع أي إلّا أن يغلب على ظنّهما أن لا يقيما حدود اللّه لما بينهما من أسباب التباعد مثل أن يظهر من المرأة النفرة و النشوز و التباعد بغضا للزوج بأن تكرهه، قال الصادق عليه السّلام: مثل أن يقول المرأة: لا أغتسل لك من جنابة و لا أبّر لك قسما و لأدخلنّ على فراشك بغير إذنك فحينئذ حلّ له أن يأخذ منها ما يأخذ و على الجملة إذا خاف الرجل أن تعصي اللّه فيه بارتكاب محظور و إخلال بواجب فيحلّ له أخذ العوض بالطلاق.

[فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ و ظننتم أن لا يكون بينهما صلاح في المقام [فَلا جُناحَ عَلَيْهِما] و لا حرج و لا إثم عليهما و في قوله: «عَلَيْهِما» و إن كانت الإباحة للزوج و الفدية له فبيّن الإذن لهما في ذلك ليزول الإبهام أنّ هذا الأمر جائز لهما و قيل: المراد به الزوج و إنّما ذكر معه المرأة لاقترانهما مثل قوله: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ» (2) و إنّما هو من الملح دون العذب و مثل قوله: «نَسِيا حُوتَهُما» (3) مجاز للاتّساع [فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ .

ص: 74


1- الآية الآتية: 230.
2- الرحمن: 22.
3- الكهف: 61.

أي بذلت من المال و اختلف في ذلك فعندنا الإماميّة إن كانت الكراهة منها وحدها و خاف منها العصيان جاز أن يأخذ المهر و زيادة عليه، و إن كان البغض و الكراهة منهما فدون المهر. و قيل: إنّه يجوز الزيادة و النقصان من غير تفصيل. و قيل: المهر فقط، رووه عن عليّ عليه السّلام.

و الخلع بالفدية على ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون المرأة عجوزة أو ذميمة فيضارّ بها الرجل لتفتدي نفسها فهذا القسم لا يحلّ للزوج أخذ الفدى كقوله: «وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الآية» (1). و الثاني أن يرى الرجل امرأته على فاحشة فيضارّ بها لتفتدي فهذا جائز و هو معنى قوله: «وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» (2). و الثالث «أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» فيجوز أخذ الفدية حينئذ.

[تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي أوامره و نواهيه من الطلاق و الخلع و الرجعة و العدّة [فَلا تَعْتَدُوها] و لا تجاوزوها بالمخالفة [وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ و تجاوزها [فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .

و استدلّ أصحابنا الإماميّة بهذه الآية على أنّ الطلاق الثالث بلفظ واحد لا يقع لأنّه قال سبحانه: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ» ثمّ ذكر الثالث على الخلاف في أنّ ذكر الطلاق الثالث قوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» أو قوله: «فَإِنْ طَلَّقَها» و من طلّقها ثلاثا بلفظ واحد لا يقع لأنّه قال: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ» و هو لم يأت بالمرّتين و لا بالثالثة كما أنّه لو رمى في الجمار بسبع حصيات دفعة واحدة لم تجزء عنه بلا خلاف و أنّ من أعطى الرجل درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرّتين حتّى يعطيه دفعتين فكذلك الطلاق.

قوله: [سورة البقرة (2): آية 230]

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

. بيّن سبحانه حكم التطليقة الثالثة على ما روي عن أبي جعفر عليه السّلام و به قال السدّيّ و الضحّاك.

[فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ] أي هذه المرأة بعد التطليقة الثالثة لا تحلّ لهذا الرجل

ص: 75


1- النساء: 20.
2- النساء: 18.

المطلّق ثلاثا إلّا أن تتزوّج زوجا آخر و يجامعها الزوج الثاني، و اختلف في ذلك قيل:

العقد علم بالكتاب و الوطء بالسنّة. و قيل: بل كلاهما علم بالكتاب لأنّ لفظ النكاح يطلق عليهما و لأنّ العقد مستفاد بقوله: «زَوْجاً غَيْرَهُ» و النكاح مستفاد بقوله: «حَتَّى تَنْكِحَ» و إنّما أوجب اللّه ذلك لعلمه بصعوبة تزوّج المرأة على الرجل حتّى لا يعجّلوا بالطلاق و أن يثبّتوا.

[فَإِنْ طَلَّقَها] الزوج الثاني [فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا] و يعقدا بينهما عقد النكاح و يعودا إلى الحالة الأولى فذكر النكاح بلفظ التراجع [أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي رجيا و ظنّا و قيل: علما و اعتقدا أن يتمكّنا من إقامة حدود اللّه في النكاح من حسن الصحبة و الصلح و المعاشرة المشروعة.

[وَ تِلْكَ إشارة إلى الأحكام المذكورة [حُدُودَ اللَّهِ و أوامره و نواهيه [يُبَيِّنُها] بفضله [لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لأنّهم المنتفعون ببيان الآيات.

[سورة البقرة (2): آية 231]

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231)

. ثمّ بيّن سبحانه ما يفعل بعد الطلاق و هذا خطاب للأزواج [فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ البلوغ هنا بلوغ القرب أي قاربن انقضاء العدّة لأنّ بعد انقضاء العدّة ليس للزوج الإمساك و هذا كقولك: بلغت البلد إذا قربت منه [فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي راجعوهنّ بطريق الّذي تستحسنه النفوس شرعا و عادة، و المراد حسن المعاشرة [أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي خلّوهنّ حتّى تنقضي عدّتهنّ من غير إيذاء [وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً] أي لا تراجعوهنّ بقصد الإضرار حالكونكم مضارّين لهنّ.

فإن قيل: ما الفائدة في ذكر قوله: «وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً» بعد قوله: «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» لأنّ الأمر بالشي ء نهي عن ضدّه؛ فالجواب أنّ الأمر لا يفيد التكرار و لا بدّ على كون امتثال المأمور به مطلوبا دائما فقوله: «وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ» دلّ على أنّ الإمساك المذكور مطلوب منه دائما [لِتَعْتَدُوا] أي لتظلموهنّ بالإلجاء إلى الافتداء.

ص: 76

[وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الإمساك المؤدّي إلى الظلم [فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ في ضمن ظلمه لهنّ بتعريضها للعقاب [وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً] أي مهزوءا بها بالإعراض عنها و التهاون في العمل بما فيها، و النهي في الآية كناية عن الأمر بضدّه لأنّ المخاطبين مؤمنون ليس من شأنهم الهزء بآيات اللّه أي جدّوا في العمل بها.

ثمّ أكّد سبحانه ذلك الأمر بذكر نعمة اللّه بأن يشكروها و يقوموا بحقوقها بقوله:

[وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كائنة [عَلَيْكُمْ حيث هداكم إلى ما فيه صلاح عامّتكم و أكمل هذه النعم من النكاح و الطلاق و الرجوع بأيديكم و لم يضيّق عليكم كما ضيّق على الأوّلين منكم حين أحلّ لهم امرأة واحدة و لم يجوّز لهم بعد موت المرأة نكاح أخرى.

[وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ يعني العلوم الّتي دلّ بها لكم الشرائع و الأحكام و بيّنها لكم في أموركم [يَعِظُكُمْ بِهِ و ينبّهكم عليه [وَ اتَّقُوا اللَّهَ في عصيانه أو من عقابه [وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ من أفعالكم و غيرها.

[سورة البقرة (2): آية 232]

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)

. نزلت في معقل بن يسار حين عضل و حبس أخته جملاء أن ترجع إلى الزوج الأوّل و هو عاصم بن عديّ فإنّه كان طلّقها و خرجت من العدّة ثمّ أرادا أن يجتمعا بعقد آخر فمنعها من ذلك فنزلت الآية، عن قتادة و الحسن و جماعة. و قيل: نزلت في جابر بن عبد اللّه عضل بنت عمّ له و الوجهان لا يصحّان على مذهبنا؛ لأنّه لا ولاية للأخ و ابن العمّ عندنا و لا تأثير بعضلهما فالوجه في ذلك أن تحمل الآية على المطلّقين فكأنّه قال: لا تعضلوهنّ أي لا تحبسوهنّ بالمراجعة عند قرب انقضاء عدّتهنّ لأجل الإضرار لا رغبة فيهنّ فإنّ ذلك لا يسوغ في الدين. و يجوز أن يكون العضل محمولا على الجبر و الحيلولة بينهنّ و بين التزويج دون ما يتعلّق بالولاية و الحاصل أنّه إذا انقضت عدّتهنّ فلا تمنعوهنّ ظلما عن الزوج و خلّوا سبيلهنّ. و قيل: الخطاب للأولياء و منع لهم عن عضلهنّ إذا أردن المطلّقات بعد انقضاء العدّة أن يتزوّجن.

ص: 77

و [أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ أي ممّن شئن أن يكونوا أزواجا لهنّ، و الزوجيّة باعتبار ما يكون و إن أريد بهم المطلّقون فإطلاق الزوجيّة باعتبار ما كان [إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي الخطّاب و الطالبين و النساء بينهم بما لا يكون مستنكرا في الشرع و العادة بالنكاح الصحيح.

[ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ - إشارة إلى ما ذكر- يزجر و يخوّف به [مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] لأنّهم المنتفعون به و لأنّهم الأولى بالاتّعاظ به [ذلِكُمْ أَزْكى أي الاتّعاظ و العمل بمقتضاه أنمى و أنفع لكم، من زكا الزرع إذا نما و طهر من أدناس الآثام و أوضار الذنوب و المفضّل عليه محذوف للعلم به أي من العضل [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه من النفع [وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ لقصور علمكم لأنّ المكلّف لا يعلم وجه الصلاح على وجه التفصيل.

[سورة البقرة (2): آية 233]

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

. لمّا بيّن سبحانه حكم الطلاق بيّن حكم الرضاع و التربية فقال:

[وَ الْوالِداتُ الصيغة صيغة الخبر و المراد به الأمر أي ليرضعن أولادهنّ كقوله:

«يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ» إذ لو كان خبرا لكان كذبا لجواز أن يرضعن أكثر من حولين أو أقلّ، و الأمر أمر استحباب لا أمر إيجاب أي إنّهنّ أحقّ برضاعهم من غيرهنّ بدليل قوله: «وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى . (1) ثمّ بيّن مدّة الرضاع [حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ أربعة و عشرين شهرا و إنّما ذكر «كامِلَيْنِ» و إن كانت التثنية تأتي على معنى استيفاء العدّة. (2) و الآية لبيان المندوب من الرضاع و المفروض منه: فالمندوب هو أن يجعل الرضاع تمام الحولين و المفروض هو أنّ المرضعة تستحقّ الاجرة

ص: 78


1- الطلاق: 6.
2- كذا في الأصل.

في مدّة الحولين و لا تستحقّ فيما زاد عليه. و اختلف في هذا الحال هل هو كلّ مولود أو للبعض فقال ابن عبّاس: ليس لكلّ مولود و لكن لمن ولد لستّة أشهر و إن ولد لسبعة أشهر فثلاثة و عشرون و إن ولد لتسعة أشهر فأحد و عشرون تطلب بذلك تكلمة ثلاثين شهرا في الحمل و الفصال، و على هذا يدلّ ما رواه أصحابنا في هذا الباب؛ لأنّهم رووا أنّ ما نقص عن أحد و عشرين شهرا فهو جور على الصبيّ. و الرضاع بعد الحولين لا حكم له عندنا في التحريم و به قال ابن عبّاس و ابن مسعود و أكثر العلماء.

و قوله: [لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ] يدلّ على أنّ الرضاع غير واجب على الأمّ لأنّه علّقه بالإرادة و قال جماعة منهم قتادة: فرض اللّه على الوالدات أن يرضعن أولادهنّ حولين ثمّ أنزل الرخصة بعد ذلك فقال: «لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» يعني أنّ هذا منتهى الرضاع و ليس فيما دون ذلك حدّ محدود و إنّما هو على مقدار صلاح الصبيّ و ما يعيش به.

[وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ يعني الأب [رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ و المراد نفقة الأمّ على الأب مادامت في الرضاعة اللازمة و ذلك في المطلّقة على قدر اليسار و إنّما لم يقل: «على الوالد» ليعلم أنّ الأولاد للآباء و ينسبون إليهم لا إلى الأمّهات و كذلك أجر الرضاع للأظئار على الآباء [لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها] و التكليف الإلزام بأمر كأنّه قيل: لم لم تجب مؤونة الأمّهات في الرضاع على أنفسهنّ فأجيب بأنّهن غير قادرات على الكسب لضعف بنيتهنّ فلو أوجب مؤنهنّ على أنفسهنّ لزم تكليف العاجز، و كذا لو أوجب تلك المؤن على الأزواج على خلاف المعروف [لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها] نهي أصله لا تضار بكسر الراء الأولى؛ فتكون المرأة هي الفاعلة للضرار فيكون المعنى لا تترك الوالدة إرضاع ولدها غيظا على أبيه لأنّ الوالدة أشفق على ولدها من الأجنبيّة، و بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعول لها الضرار فالمعنى لا يفعل الأب الضرار بالأمّ بأن ينتزع الولد منها.

قوله: [وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ أي لا يأخذه من أمّه طلبا للإضرار بها أو و لا تفعل الأمّ الضرار بالأب بأن تلقي الولد عليه و هو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد، و إضافة الولد إلى كلّ منها لاستعطافهما إليه و لا ينبغي أن يضرّا به أو يتضارّا بسببه و إنّما

ص: 79

قال: «تضارّ» و الفعل من واحد لأنّه لمّا كان معناه المبالغة كان بمنزلة أن يكون الفعل من اثنين كأنّه يقول: لا تضارّ والدة ولدها و لا والد ولده؛ فالباء زائدة.

قال الصادقان عليهما السّلام: «لا تُضَارَّ والِدَةٌ» بأن يترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها المرتضع «وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» أي لا تمنع نفسها من الأب خوف الحمل فيضرّ ذلك بالأب (1). و قيل: المراد من قوله: «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها» بأن ينتزع الولد منها و تسترضع امرأة غيرها مع إجابتها إلى الرضاع باجرة المثل فعلى هذا يكون معنى «بولدها» بسبب ولدها «و لا مولود له» أي لا تمتنع هي من الإرضاع إذا أعطيت اجرة مثلها. قال الطبرسيّ: و ليس بين هذه الأقوال تناف فالأولى حمل الآية على الجميع.

[وَ عَلَى الْوارِثِ أي وارث الصبيّ و قيل: المراد وارث الوالد و هو الأقوى [مِثْلُ ذلِكَ أي مثل ما كان على الوالد من النفقة و الرضاع أو مثل ما كان على الوالد من ترك المضارّة و المفهوم عند أهل التفسير الأمران معا.

و اختلفوا في أنّ النفقة على كلّ وارث أو على بعضهم فقيل: هي على العصبات دون أصحاب الفرائض من الأمّ و الإخوة من الأمّ. و قيل: على وارث الصبيّ من الرجال و النساء على قدر النصيب من الميراث. و قيل: على الوارث ممّن كان ذا رحم محرم دون ذي رحم ليس بمحرم كابن العمّ و ابن الاخت فيجب على ابن الاخت و لم يجب على ابن العمّ و إن كان وارثه في تلك الحال. و قيل: على الوارث أي الباقي من أبويه و هو الصحيح عندنا و هو أيضا مذهب الشافعيّ لأنّ عنده لا يجبر على نفقة الرضاع إلّا الوالدان فقط. و قد روي في أخبارنا أنّ على الوارث- كائنا من كان- النفقة.

قوله تعالى: [فَإِنْ أَرادا فِصالًا] أي أراد الوالدان فطام الولد قبل الحولين و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه و قيل: قبل الحولين و بعد الحولين فيكون الفصال صادرا [عَنْ تَراضٍ مِنْهُما] من الأب و الأمّ [وَ تَشاوُرٍ] في شأن الولد و اتّفاق من الأبوين لا من أحدهما و إنّما اعتبر اتّفاقهما لما في الأب من الولاية و في الأمّ من الشفقة و هي أعلم بحال الصبيّ [فَلا جُناحَ عَلَيْهِما] في ذلك بعد استقرار رأيهما و تشاورهما في الصلاح و ما هو خير للولد.

ص: 80


1- منقول بالمعنى و الاختصار. البرهان 1: 225.

[وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أيّها الآباء [أَنْ تَسْتَرْضِعُوا] المراضع [أَوْلادَكُمْ أي لأولادكم و طلبتم أن تأخذوا ظئرا لإرضاع أولادكم [فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ و لا إثم في الاسترضاع، و فيه دلالة على أنّ للأب أن يسترضع الولد غير امّهاتهم لامتناع امّهاتهم الرضاع أو لعلّة بهنّ من انقطاع لبن أو غيره [إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع [ما آتَيْتُمْ أي ما أردتم إيتاءه [بِالْمَعْرُوفِ بالوجه المتعارف المستحسن شرعا فإنّ المراضع إذا أعطين ما قدّر لهنّ ناجزا يدا بيد كان ذلك أدخل في إصلاح شؤون الأطفال.

و قيل: المراد من «المعروف» أن يكون الأجر من الحلال لأنّ المرضع إذا أكلت الحلال كان اللبن أنفع للصبيّ و أقرب إلى صلاحه و أنّ العادة جارية إنّ من ارتضع امرأة يغلب عليه أخلاقها من خير و شرّ و أنّ لبن الحمقاء يسري، و قصّة الشيخ الجوينيّ و ابنه أبو المعالي و ما يحصل له أحيانا كبوة في المناظرة معروفة.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مراعاة الأحكام المذكورة [وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] فيجازيكم بذلك. في الحديث حبّ الأولاد ستر من النار و كراماتهم جواز على الصراط و الأكل معهم براءة من النار. أقول: بشرط الصلاح أو عدم بروز الفساد منهم لا كبعض النفقات الّتي هي مسبّبة لوقوع الفساد في الدين كنفقات بعض الحمقاء من الآباء لأولادهم في مصارف تعلّم الألسنة الخارجة و يحسبون أنّهم يحسنون صنعا فالمنفق لولده لتعلّم اللسان الخارجة فقد يرمي سهما لتمزيق القرآن بل الصحف السماويّة قاطبة.

و العجب أنّ بعض الحمقاء يقصدون بهذا الإنفاق التبرّع لكنّ العقلاء منهم و هم إخوان الشياطين يقصدون بذلك استيصال الإسلام و قد ظفروا بما قصدوا و يظهرون النصح و التربية «وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» فالنفقات المستحسنة ما كانت فيها إطاعة لأوامر اللّه لا ضارّة لدينه.

و في الحديث أربع نفقات لا يحاسب العبد بهنّ يوم القيامة: نفقة على أبويه و نفقة على على إفطاره و نفقة على سحوره و نفقة على عياله «وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» و لا يجتمع الهوى و حبّ اللّه.

ص: 81

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 234]

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

و قرء في الشواذ «يتوفّون» بفتح الياء.

و لمّا بيّن سبحانه عدّة المطلّقات بيّن في هذه الآية عدّة الوفاة فقال:

[وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ و يموتون و يتركون [أَزْواجاً] أي نساء [يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ أي ينتظرن انقضاء العدّة و يحبسن أنفسهنّ عن التزويج معتدّات [أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً] أي و عشر ليال و عشرة أيّام سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها حرّة كانت أو أمة فإن كانت حبلى فعدّتها أبعد الأجلين من وضع الحمل أو مضيّ أربعة أشهر و عشر فأيّهما أطول و أبعد فعدّتها ذلك و وافقنا في مسألة عدّة الأمة الأصمّ من فقهاء الجماعة و خالف الباقون فقالوا: عدّتها شهران و خمسة أيّام و ذهب إلى هذا القول قوم من أصحابنا أيضا و الّذي يجب على المعتدّة بعدّة الوفاة اجتنابها عن الزينة و الكحل و ترك النقلة من المنزل و الامتناع من التزوّج لا غير عند البعض لكن عندنا الإماميّة أنّ جميع ذلك واجب.

[فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أي آخر العدّة بإنقضائها [فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ قيل: خطاب للأولياء.

و قيل: لجميع المسلمين لأنّه يلزمهم منعها عن التزوّج في العدّة.

و قيل: المعنى: لا جناح عليكم و على النساء [فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ من النكاح و استعمال الزينة [بِالْمَعْرُوفِ ما يكون جائزا من الزينة الجائزة و النكاح الحلال على وجه لا ينكره الشرع [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] فيجازيكم عليه فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به.

[سورة البقرة (2): آية 235]

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

. «التعريض» ضدّ التصريح أي لا حرج و لا ضيق عليكم يا معشر الرجال [فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ] المعتدّات بعدّة الوفاة «و التعريض» إفهام المعنى دون التصريح بالشي ء المحتمل له و لغيره و لمّا علم اللّه أنّ المرأة إذا مات زوجها قد يكون عليها مسحة من الجمال

ص: 82

أولها مال يرغب الناس فيها فأذن للراغب أن يعرض و لا يصرّح بالخطبة في العدّة «و الخطبة» بالكسر التماس النكاح و بالضمّ الكلام المشتمل على الوعظ يقال: خطب المرأة أي خاطبها في أمر النكاح و هذا الحكم لهنّ أي المعتدّات بالوفاة و أمّا النساء اللاتي لا تكون منكوحة الغير و لا معتدّة من طلاق رجعيّ فإنّ خطبتهنّ جائزة تصريحا إلّا أن يخطبها رجل فيجاب بالرضى صريحا فههنا لا يجوز لغيره أن يخطبها و إن لم يوجد صريح الإجابة و لا صريح الرّد ففيه خلاف.

و مثال التعريض مثل أن يقول للبخيل و الممسك ما أقبح البخل! و تقول للمرأة الّتي تطلب نكاحها و هي في العدّة: إنّي أريد النكاح و إنّي أحب امرأة من صفتها كذا كذا فتذكر بعض الصفات الّتي هي عليها.

[أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي أضمرتم و أبرزتم من نكاحهنّ [عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ برغبتكم فيهنّ خوفا منكم أن يسبقكم إليهنّ غيركم فأباح لكم ذلك [وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا] فيه أقوال: أحدها أنّ معناه لا تواعدوهنّ في السرّ لأنّها أجنبيّة و المواعدة في السرّ يدعو إلى ما لا يحلّ.

و قيل: معناه الزنا عن الحسن و إبراهيم و قتادة و قالوا: كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزنا و هو معرض للنكاح فنهوا عن ذلك. و ثالثها أنّه العهد على الامتناع من تزويج غيره. و رابعها هو أن يقول لها: إنّي ناكحك فلا تفوتيني نفسك. و خامسها أنّ معنى السرّ هو الجماع أي لا تصفوا أنفسكم بكثرة الجماع. و تجمع هذه الأقوال ما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: لا تصرّحوا لهنّ النكاح و التزويج قال عليه السّلام: و من السرّ أن يقول لها: موعدك بيت فلان.

[إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً] يعني التعريض الّذي أباحه اللّه و «إلّا» في الآية بمعنى لكن لأنّ ما قبله هو المنهيّ عنه و ما بعده هو المأذون فيه أي و لكن قولوا قولا معروفا و مواعدة غير منكرة.

[وَ لا تَعْزِمُوا] العزم عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال قال الراغب: إنّ دواعي الإنسان إلى الفعل لها مراتب: السانح ثمّ الخاطر ثمّ التفكّر فيه ثمّ الإرادة ثمّ الهمّة

ص: 83

ثمّ العزم و العقد على إمضائه [عُقْدَةَ النِّكاحِ أي على عقدة النكاح و المقصود النهي عن تزوّج المعتدّة في زمان عدّتها إلّا أنّه نهى عن العزم على عقدة النكاح و عزمه للمبالغة في النهى عن النكاح في زمان العدّة فإنّ العزم على الشي ء متقدّم عليه و النهي عن مقدّمات الشي ء يستلزم النهي عن ذلك الشي ء بطريق أولى و لم يرد سبحانه عن العزم على النكاح بعد العدّة أي لا تحقّقوا ذلك و لا تنشئوه.

[حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي تنقضي العدّة و قيل: الكتاب هو القرآن يعني حتى يبلغ ما فرض في القرآن من أجل العدّة و ينقضي الأجل المضروب. و قيل: حتّى يبلغ الأجل المكتوب و الكتب بمعنى الفرض كما قال: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ» أي فرض و المعاني يؤول إلى معنى واحد.

[وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز [فَاحْذَرُوهُ بالاجتناب عن العزم ابتداء و إقلاعا عنه بعد تحقّقه [وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بالعقوبة فلا تستدلّوا بتأخيرها بعدم العقوبة.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 236]

لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

. أي لا تبعة عليكم من مهر أو وزر إن طلّقتم النساء المعقودات [ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ أي ما لم تجامعوهنّ [أَوْ تَفْرِضُوا] أي إلّا أن تفرضوا [لَهُنَّ فَرِيضَةً] أي تسمّوا لها مهرا و ذلك أنّ المطلّقة غير المدخول بها إن سمّي لها مهر فلها نصف المسمّي كما في الآية الآتية و إن لم يسمّ لها مهر فليس لها إلّا المتعة كما في هذه الآية و الحكمان مرويّان أيضا رواهما العيّاشيّ و في الكافي عن الصادق عليه السّلام (1).

و رفع الإثم عن الطلاق قبل الدخول لئلّا يتوهّم أحد أنّ الطلاق في هذه الحالة لا يجوز بل يجوز و المفروض صداقها داخلة في دلالة الآية و إن لم يذكر لأنّ التقدير: لا بأس

ص: 84


1- الكليني عن على عن أبيه عن ابن ابى عمير عن حفص و العيّاشي عن ابى الصباح عن الصادق عليه السّلام. البرهان.

بالطلاق ما لم تمسّوهن ممّن فرضتم لهنّ أولم تفرضوا؛ لأنّ «أو» في قوله: «أو تفرضوا» تنبئ عن ذلك إذ لو كان على الجمع لكان بالواو.

و أيضا في الآية خصّ سبحانه الّتي لم يدخل بها بالذكر في رفع الجناح لأنّه يجوز أن يطلّق الرجل الّتي لم يدخل بها أيّ وقت شاء بخلاف المدخول بها فإنّه لا يجوز أن يطلّقها إلّا في طهر لم يجامعها فيه، و قال أهل الجماعة: رفع الجناح في الآية بمعني نفي المهر أي لا تبعة من مهر بغير الممسوسة و إنّهم لا يشترطون أن يقع الطلاق في طهر غير المواقعة بل متى وقع صحّ عندهم.

[وَ مَتِّعُوهُنَ أي أعطوهنّ من مالكم ما يتمتّعن و ينتفعن به و اختلفوا في أنّ الأمر بالتمتيع لمن؟ قيل: لمطلق المطلّقات إلّا المختلعة و المبارئة و الملاعنة. و قيل: المتعة لكلّ مطلّقة سوى المطلّقة المفروض لها إذا طلّقت قبل الدخول فإنّما لها نصف الصداق و لا متعة لها و هو مذهب الشافعيّ و قد رووه أصحابنا أيضا (1)، و ذلك محمول على الاستحباب. (2) [عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ أي الّذي له سعة إمكانه و طاقته و القدر و القدر لغتان أو أنّ الساكن مصدر و المتحرّك اسم كالعدّ و العدد و المدد و المدّ بالتسكين الوسع يقال: هو ينفق على قدره أي على وسعه، و بالتحريك المقدار [وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ أقتر الرجل إذا صار ذا قترة و افتقر و القترة الغبار أي على الفقير الّذي هو في ضيق بقدر إمكانه من رزق و كسوة و خادم و المتعة معتبرة بحاله لا بحالها قيل: لا تنقص عن خمسة دراهم و لا يزاد على نصف مهر المثل [مَتاعاً] اسم لمصدر الفعل المذكور من قبيل «أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (3) فيكون متاعا بعوض تمتيعا ملتبسا [بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الّذي يستحسنه الشرع و المروءة [حَقًّا] صفة «متاعا» أي واجبا على الّذين يحسنون الطاعات، و في التهذيب عن الصادق عليه السّلام أنّ متعة المطلّقة فريضة. هذا كلّه في المطلّقة فأمّا المتوفّى عنها زوجها إذا لم يفرض لها صداق فلها الميراث و عليها العدّة إجماعا.

ص: 85


1- الكليني عن ابن عيسى عن العلاء عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: سألته عن الرجل يطلق امرأته قال: يمتعها قبل ان يطلق. البرهان.
2- و يشهد له رواية حفص المتقدمة.
3- نوح: 17.

[سورة البقرة (2): آية 237]

وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

. بيّن سبحانه حكم الطلاق قبل المسيس بعد الفرض أي إن طلّقتم أيّها الرجال النساء [مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ أي قبل أن تجامعوهنّ [وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً] أي أوجبتم لهنّ صداقا و عيّنتم مهرا [فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي عليكم نصف ما قدّرتم من المهر المسمّى.

[إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يعني الحرائر البالغات غير المولّى عليهنّ لفساد عقولهنّ أي لا يطالبن الأزواج و يهبن [أَوْ يَعْفُوَا] و يترك و يهب [الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ قيل:

هو الوليّ عن مجاهد و جماعة و هو المرويّ عن الصادق عليهما السّلام و هو مذهب الشافعيّ غير أنّ عندنا الوليّ هو الأب و الجدّ مع وجود الأب الأدنى على البكر غير البالغ فأمّا من عداهما فلا ولاية له إلّا بتوليتها إيّاه (1).

[وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى خطاب للزوج و المرأة أو للزوج وحده و إنّما جمع لأنّه خطاب لكلّ زوج و المراد من العفو أن يعطيها الصداق كاملا النصف الّذي واجب عليه و النصف الساقط العائد إليه بالتنصيف بسبب الطلاق، و تسمية الزياده على الحقّ عفوا لما كان الغالب عندهم أنّ الزوج كان يسوق إليها كلّ المهر عند التزوّج قبل المسيس فإذا طلّقها قبل الدخول فقد استحقّ أن يطالبها بنصف ما ساق إليها فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها.

[وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي لا تتركوا الفضل و الإفضال فيما بينكم بإعطاء الرجل تمام الصداق و ترك المرأة نصيبها فحثّهما على الإحسان و الإفضال [إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] و لا يضيع ما عملتم من الإحسان «و البصر» في حقّه تعالى علمه و إحاطته المبصرات و المعلومات و الحظّ الدينيّ من البصر للعبد أنّه ينظر إلى الآيات و عجائب الملكوت و الملك بحيث يكون نظره عبرة، و الحظّ الدنيويّ أن يرى المحسوسات.

ص: 86


1- و في بعض الروايات هو الأب و الأخ و الرجل يوصى إليه و الذي يجوز امره في مال للمرأة إلّا ان الفتيا لم تبسط هذا البسط المشاة.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 238]

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238)

. و محافظة الصلوات أداؤها لوقتها و المداومة عليها و المراد الصلوات الخمس في كلّ يوم و ليلة ثبت عددها بغيرها من الآيات و الأحاديث المتواترة و بإشارة في هذه الآية و هو قوله: «الوسطى» تأنيث الأوسط و هو الشي ء بين الشيئين على جهة الاعتدال و هي ما اكتنفه عددان متساويان و أقلّ ذلك خمسة لا يقال: إنّ الثلاث بهذه الصفة لأنّ الثلاث لا يكتنفها عددان فإنّ الّذي قبلها واحد و الّذي بعدها واحد و هو ليس بعدد فإنّ العدد ما إذا اجتمع طرفاه صارا ضعفه و ليس له طرفان فإنّه ليس قبله شي ء.

و خصّ «الوسطى» بالذكر تفخيما لشأنها كقوله «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ» (1) أي و الصلاة الوسطى خاصّة فداوموا عليها.

ثمّ اختلفوا في الصلاة الوسطى قيل: إنّها صلاة الظهر عن زيد بن ثابت و ابن عمر و أبي سعيد الخدريّ و اسامة و عائشة و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام (2) و ذكر بعض أئمّة الزيديّة أنّها الجمعة يوم الجمعة و الظهر سائر الأيّام و رواه عن عليّ عليه السّلام و يدلّ عليه أنّها وسط النهار. و أوّل صلاة فرضت الظهر.

و قيل: إنّها صلاة العصر عن ابن عبّاس و الحسن و روي ذلك عن عليّ عليه السّلام و ابن مسعود و قتادة و الضحّاك و روي مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قالوا: لأنّها بين صلاتي النهار و صلاتي الليل و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: بكّروا بالصلاة في يوم الغيم فإنّه من فاتته صلاة العصر حبط عمله.

و قيل: إنّها المغرب لأنّها وسط في الطول و القصر من بين الصلوات؛ روى الثعلبيّ بإسناده عن عائشة قالت: قال رسول اللّه: إنّ أفضل الصلوات عند اللّه المغرب لم يحطّها اللّه عن مسافر و لا مقيم فتح اللّه بها صلاة الليل و ختم بها صلاة النهار فمن صلّى المغرب و صلّى

ص: 87


1- السورة: 98.
2- الفقيه: ابو بصير عن الصادق. العيّاشي: محمّد بن مسلم عن الباقر عليهما السّلام و في معناهما عدة روايات أخر. البرهان. على بن ابراهيم: 68.

بعدها ركعتين بنى اللّه له قصرا في الجنّة و من صلّى بعدها أربع ركعات غفر اللّه له ذنب عشرين أو أربعين سنة.

و قيل: إنّها صلاة العشاء الآخرة لأنّها بين صلاتين لا تقصران؛ روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من صلّى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة و من صلّى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة.

و قيل: صلاة العصر قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: الّذي تفوته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله.

و قيل: إنّها صلاة الصبح عن معاذ و ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه و عطا و عكرمة و مجاهد و الشافعيّ قالوا: لأنّها بين صلاتي الليل و صلاتي النهار و بين الظلام و الضياء و هي صلاة لا تجمع مع غيرها و هي منفردة بين مجتمعتين و يدلّ عليه قوله: «وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» (1) و فيه قول آخر: و هو أنّها إحدى الصلاة الخمس و لم يعيّنها و أخفاها في جملة الصلوات الخمس ليحافظوا على جميعها و لم يتركوا واحدة منها كما أخفى ليلة القدر و اسمه الأعظم في الأسماء و ساعة الإجابة في ساعات الجمعة و أخفى وقت الموت في الأوقات ليكون المكلّف خائفا من الموت في كلّ الأوقات فيكون آتيا بالتوبة في كلّ الأوقات كما سئل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال: حافظ على الصلوات الخمس تصبها، و كذلك سئل الربيع ابن خثيم عن صلاة الوسطى قال: حافظ على الكلّ تكن محافظا على الوسطى ثمّ قال للسائل:

و لو علمتها بعينها لكنت محافظا عليها و مضيّعا لسائرهنّ.

و قيل في تفسير الآية قول آخر و هو أنّ صلاة الوسطى مجموع صلوات الخمس لأنّها هي الوسطى من الطاعات حيث التفت و تقريره أنّ الإيمان بضع و سبعون درجة أعلاها شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أدناها إماطة الأذى عن طريق المسلمين مثلا و الصلاة المكتوبة دون الإيمان و فوق إماطة الأذى فهي واسطة بين الطرفين.

[وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أي كونوا ذاكرين له في القيام قال ابن عبّاس: معناه داعين و القنوت هو الدعاء في الصلاة في حال القيام و هو المرويّ عن الباقرين عليهما السّلام (2). و قيل: معناه

ص: 88


1- الإسراء: 78.
2- الطبرسي مرسلا.

طائعين و قيل: خاشعين نهوا عن العبث و الالتفات في الصلاة «و قانتين» حال من فاعل «قوموا» و كانوا إذا قاموا إلى الصلاة هابوا الرحمن أن يمدّوا أبصارهم أو يلتفتوا أو يحدثوا أنفسهم بشي ء من امور الدنيا إلّا ناسيا.

[سورة البقرة (2): آية 239]

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

. «الرجال» مثل قيام جمع راجل و تجار جمع تاجر أي إن كان بكم خوف من عدوّ أو غير [فَرِجالًا] منصوب على الحال و عامله محذوف تقديره فصلّوا راجلين «و الراجل» هو الكائن على رجله ماشيا كان أو واقفا [أَوْ رُكْباناً] أي راكبين على ظهور دوابّكم و عنى سبحانه صلاة الخوف و هي ركعتان في السفر إلّا في المغرب فإنّها ثلاث ركعات و يروى «فرجالا» بضمّ الراء و التخفيف و «رجّال» بالتشديد و ضمّ الراء و «رجّلا» و شرح صلاة الخوف مبسوط في كتب الفقه و هي تختلف أيضا في حال الحرب و في غير حال الحرب و عن ابن عبّاس أنّ صلاة الخوف ركعة قال الرازيّ: و هو قول متروك و الجمهور على خلافه.

[فَإِذا أَمِنْتُمْ من الخوف و زال [فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ أي صلّوا على الترتيب المبيّن لكم في الأوقات المتعارفة كما علّمكم في امور صلاتكم و دينكم [ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ قبل البيان.

و عن كعب الأحبار أنّه قال: قال اللّه لموسى في مناجاته: يا موسى أربع ركعات يصلّيها أحمد و امّته و هي صلاة الظهر أعطيهم في أوّل ركعة منها المغفرة و في الثانية أثقّل ميزانهم و في الثالثة أوكّل بهم الملائكة يسبّحون و يستغفرون لهم لا يبقى ملك في السماء و لا في الأرض إلّا و يستغفر لهم و من استغفرت له الملائكة لم اعذّبه أبدا و في الرابعة أفتح لهم أبواب السماء و تنظر إليهم الحور العين.

يا موسى أربع ركعات يصلّيها أحمد و امّته و هي صلاة العصر ما يسألون منّي حاجة إلّا قضيت لهم.

يا موسى ثلاث ركعات يصلّيها أحمد و امّته و هي صلاة المغرب أفتح لهم أبواب السماء.

ص: 89

يا موسى أربع ركعات يصلّيها أحمد و أمّته و هي صلاة العشاء خير لهم من الدنيا و ما فيها و يخرجون من الدنيا كيوم ولدتهم امّهاتهم.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 240]

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

. أي يموتون يسمّي المشارف إلى الوفاة متوفّيا تسمية للشي ء باسم ما يؤول إليه و قرينة المجاز امتناع الوصيّة بعد الوفاة [وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً] أي يتركون نساء من بعدهم [وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرئ وصيّة بالنصب أي لوصوا وصيّة و القراءة على الرفع مبتدأ و الظرف خبره و حسن الابتداء بالنكرة لأنّه موضع تخصيص كما في سلام عليكم فليوصوا وصيّة لهنّ أو المعنى وصيّة من اللّه لأزواجهم أو عليهم وصيّة لهنّ [مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ يعني ما ينتفعن به حولا من النفقة و كان يحب على الّذين يتوفّون أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم حولا بالنفقة و الكسوة و السكنى.

قيل: نزلت الآية في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة و له أولاد و معه أبواه و امرأة و مات فأنزل اللّه هذه الآية فأعطى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله والديه و أولاده من ميراثه و لم يعط امرأته شيئا و أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا و كان عدّة الوفاة في بدو الإسلام حولا و كان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول و كان نفقتها واجبة في مال زوجها ما لم تخرج، و لم تكن لها ميراث فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها و كان على الرجل أن يوصي بها فكان الحكم كذلك ثمّ نسخت بآية المواريث بعدو نسخ عدّة الحول بأربعة أشهر و عشر.

[غَيْرَ إِخْراجٍ أي لا يخرجن من بيوت الأزواج [فَإِنْ خَرَجْنَ بأنفسهنّ قبل الحول من غير أن يخرجهنّ الورثة [فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا معشر الأولياء [فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ و اختلفوا في رفع الجناح قيل: لا جناح في قطع النفقة و المسكن عنهنّ إن خرجن قبل الحول و بطل الحقّ الّذي لهنّ بالإقامة كان واجبا. و قيل: المعنى لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج لأنّ مقامها سنة في البيت غير واجب لكن قد خيّرها اللّه في

ص: 90

ذلك و قيل: معنى الآية: لا جناح عليكم أن تزوّجن بعد انقضاء العدّة و على هذا فالمراد من قوله: «مِنْ مَعْرُوفٍ» التزويج و النكاح.

[وَ اللَّهُ عَزِيزٌ] غالب على أمره يعاقب من خالفه [حَكِيمٌ يراعى في أحكامه مصالح عباده

[سورة البقرة (2): الآيات 241 الى 242]

وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

لمّا بيّن أحوال المعتدّات بيّن ما يجب لهنّ من المتعة و اختلف فيه فقال سعيد بن جبير و أبو العالية و الزهريّ: إنّ المراد بهذا المتاع المتعة و أنّ المتعة حسب ما ذكرت قبل هذا واجبة لكلّ مطلّقة و قال أبو عليّ الجبّائيّ: المراد بها النفقة و هو المتاع المذكور في قوله: «مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ» و قال سعيد بن المسيّب: الآية منسوخة بقوله: «فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ» قال الطبرسيّ: و عندنا لا تجب المتعة إلّا للمطلّقة الّتي لم يدخل بها و لم يفرض لها مهر فأمّا المدخول بها فلها مهر مثلها و إن لم يسمّ لها مهر و إن سمّي لها مهر فما سمّي لها و غير المدخول المفروض مهرها لها نصف المهر و لا متعة لها و لا بدّ من تخصيص هذه.

و قال صاحب تفسير روح البيان: معنى الآية: و للمطلّقات سواء كنّ مدخولا بهنّ أم لامتاع أي مطلق المتعة الشاملة للمستحبّة و الواجبة فإن كانت المطلّقة غير مدخولة و غير مفروضة الصداق وجبت المتعة لها و إن كانت غير ذلك يستحبّ لها و لفظ التمتّع المدلول عليه «بمتّعوهنّ» في الآية السابقة يحمل على الواجب و هذه في المستحبّ فلا منافاة في الآيتين.

[بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أي متاع متلبّس بالمعروف شرعا و عادة ممّا ينبغي على من كان متّقيا.

[كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي كما يبيّن اللّه لكم الأحكام و الآداب الّتي مضت ممّا تحتاجون إلى معرفتها في دينكم بيّن لكم هذه الأحكام فشبّه البيان الّذي يأتي بالبيان الماضي [لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تفهموا و تكمل عقولكم فإنّ العقل الغريزيّ يكمل بالعقل المكتسب و برؤية الآيات.

ص: 91

[سورة البقرة (2): آية 243]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)

. لمّا ذكر اللّه قوله: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ» ذكر آية من آياته فقال: [أَ لَمْ تَرَ] أي ألم ينته علمك أيّها السامع [إِلَى خبر هؤلاء [الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ نزل سماعهم القصّة منزلة رؤيتهم تنبيها على ظهورها و تحقّقها و معنى الرؤية هاهنا رؤية القلب و هي بمعنى العلم و كلّ ما وقع في القرآن «ألم تر» و لم يعاينه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فهو بمعنى العلم و حاصله اعلم ذلك لأنّ همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أو على الاستفهام صار إيجابا و تقريرا.

و الّذين خرجوا قيل: إنّهم قوم من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون وقع بأرضهم و قيل: فرّوا من الجهاد و قد كتب عليهم عن الضحّاك و مقاتل و احتجّا بعقيب الآية بقوله:

«وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» و قيل: هم قوم حزقيل و هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى و ذلك أنّ القيّم بأمر بني إسرائيل بعد موسى يوشع بن نون ثمّ كالب بن يوحنّا- أو يوفنّا- ثمّ حزقيل و قد كان يقال له: ابن العجوز و ذلك أنّ امّه كانت عجوزا فسالت اللّه الولد و قد كبرت و عقمت فوهبه اللّه لها. و قيل: هو ذو الكفل و إنّما سمّي حزقيل ذو الكفل لأنّه كفل سبعين نبيّا نجاهم من القتل و قال لهم: اذهبوا فإنّي إن قتلت كان خيرا من أن تقتلوا جميعا فلمّا جاء اليهود و سألوا حزقيل عن الأنبياء السبعين قال: لهم ذهبوا و لا أدري أين هم و منع اللّه ذا الكفل من أذاهم.

[وَ هُمْ أُلُوفٌ أجمع أهل التفسير بأنّ المراد «بألوف» كثرة العدد إلّا ابن زيد فإنّه قال: معناه خرجوا مؤتلفي القلوب لم يخرجوا عن تباغض فجعله جمع الآلف مثل قاعد و قعود و شاهد و شهود. و اختلف من قال: المراد به العدد الكثير؛ فقيل: ثلاثة آلاف عن عطا.

و قيل: ثمانية آلاف. و قيل: عشرة آلاف. و قيل: تسعة و ثلاثين ألف. و قيل: أربعين ألف عن ابن عبّاس. و قيل: سبعين ألف و الّذي يقضي به الظاهر أنّهم كانوا أكثر من عشرة آلاف لأنّ بناء فعول للكثرة و هو ما زاد على العشرة و ما نقص عنها يقال: فيه آلاف يقال: عشرة آلاف و لا يقال: عشرة ألوف.

ص: 92

[حَذَرَ الْمَوْتِ أي من خوف الموت [فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ قيل في معناه قولان:

أحدهما أنّ معناه فأماتهم اللّه مثل قولهم: قلت برأسي كذا يعني أمرت و أشرت كذا. و قيل معناه: بقول سمعته الملائكة لضرب من العبرة و الحكمة ثمّ أحياهم اللّه بدعاء نبيّهم حزقيل أو شمعون. قيل: إنّ اسم القرية الّتي خرجوا منها هربا من وبائها دواوردان و قيل: واسط.

قال الكلبيّ و جماعة من أهل التفسير: إنّ ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوّهم فخرجوا و عسكروا ثمّ كرهوا الموت فاعتذروا و قالوا: إنّ الأرض الّتي يأتيها الوباء فلا نأتيها حتّى ينقطع منها الوباء و كان بها الوباء فأرسل اللّه عليهم الموت فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم أيضا خرجوا من ديارهم فرارا من الموت حتّى نزلوا واديا بين جبلين ناداهم ملك من أسفل الوادي و ملك آخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعا من غير علّة بأمر اللّه و ماتت دوابّهم كموت رجل واحد فلمّا مرّ عليهم حزقيل و جعل يتفكّر فيهم متعجّبا فأوحى اللّه تعالى: يا حزقيل تريد أن أراك آية و أراك كيف أحي الموتى؟ قال: نعم، فأحياهم اللّه.

و قيل: إنّهم كانوا قوم حزقيل فأحياهم اللّه بعد ثمانية أيّام و ذلك أنّه لمّا أصابتهم الموتة خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى فبكى ثمّ قال: يا ربّ كنت في قوم يحمدونك و يقدّسونك و يسبّحونك فبقيت وحيدا لا قوم لي فأوحى اللّه إليه قد جعلت حياتهم إليك فقال حزقيل: أحيوا بإذن اللّه فعاشوا.

قال الباقر عليه السّلام: ردّهم اللّه إلى الدنيا فسكنوا الدور و أكلوا الطعام و نكحوا النساء و مكثوا بذلك ما شاء اللّه ثمّ ماتوا بآجالهم.

[إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بما أراهم من الآية العظيمة ليلتزموا سبيل الهدى و يجتنبوا طريق الردى [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ باقون على الكفران و ليسوا بشاكرين.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 244]

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

. اختلف في توجيه الخطاب فقيل: إنّه خطاب للذين جرى ذكرهم على تقدير في الكلام و قيل لهم: قاتلوا في سبيل اللّه. و قيل: الخطاب لهذه الأمّة و هو معطوف على مقدّر تقديره: فأطيعوا و قاتلوا في سبيل اللّه لإعلاء دينه متيقّنين أنّ الفرار من الموت غير مخلّص و أنّ

ص: 93

القدر واقع فلا تحرموا إحدى النصرين: إمّا الفوز بالثواب و إمّا الموت في سبيل اللّه.

[وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع مقالة السابقين إلى الجهاد من ترغيب الغير فيه و مقالة المتخلّفين منه من تنفير الغير، و يعلم أنّ خلف المتخلّف لأيّ جهة و أنّ جهاد المجاهد لأيّ سبب.

قوله: [سورة البقرة (2): آية 245]

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

. «القرض» في اللغة القطع و به سمّي الدين قرضا لأنّه يقطع جزءا من المال بالإعطاء على أن يردّ المفترض مثله بدلا منه [مَنْ ذَا الَّذِي استفهام للتحريص على التصدّق مبتدأ «ذا» إشارة إلى المفترض خبر أي من هذا. «الّذي» صفة «ذا» أو بدل منه [يُقْرِضُ اللَّهَ و المراد من إقراض اللّه تقديم العمل الّذي الّذي يطلب به ثوابه [قَرْضاً] مصدر ليقرض بمعنى إقراض كقوله: «أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (1) [حَسَناً] أي مقرونا بطيب النفس و الإخلاص يكون حلالا و قيل: القرض حسن المجاهدة و الإنفاق في سبيل اللّه قيل: من أنواع القرض قول الرجل:

«سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر».

[فَيُضاعِفَهُ لَهُ و يزيده على أصله حتّى يصير مثلين أو أكثر إلى ما شاء اللّه [أَضْعافاً كَثِيرَةً] بيان لقطع الأوهام عن مبلغ الحساب أي لا يعلم قدره إلّا اللّه الواحد بسبعمائة. قال البيهقيّ:

إنّ التضعيفات فضل من اللّه يدّخرها للعبد فضلا منه.

[وَ اللَّهُ يَقْبِضُ يقتر على البعض [وَ يَبْصُطُ] يوسّع على بعض أو يقتر تارة و يوسّع اخرى مبنيّ على المصالح فإذا علمتم أنّه تعالى هو القابض و الباسط فلا تبخلوا عليه و أقرضوه قال الصادق عليه السّلام: لمّا نزلت «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها»* (2) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا ربّ زدني، فنزلت «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» (3) فقال رسول اللّه: ربّ زدني فأنزل اللّه:

«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» و الكثير عند اللّه لا يحصى.

[وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تأكيد للجزاء فرجوعكم إلى اللّه فيجازيكم بأحسن الجزاء.

قال الكلبيّ في سبب نزول هذه الآية: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من تصدّق بصدقة فله

ص: 94


1- نوح: 16.
2- النمل: 91.
3- الانعام: 161.

مثلاها في الجنّة فقال أبو الدحداح الأنصاريّ- و اسمه عمرو-: يا رسول اللّه إنّ لي حديقتين إن تصدّقت بإحداهما فإنّ لي مثليها في الجنّة؟ قال: نعم، قال: و امّ الدحداح معي قال: نعم فقال:

الصبيّة معي؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: نعم، فتصدّق بأفضل حديقتيه و دفعها إلى رسول اللّه فنزلت الآية فضاعف اللّه له صدقته، الحديث.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 246]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

. ألم ينته علمك إلى جماعة الأشراف من بني إسرائيل؟ و لمّا تقدّم ذكر الجهاد عقّب سبحانه بهذه الآية بقصّة مشهورة في بني إسرائيل تضمّنت شرح ما نالهم من قعودهم عن الجهاد تحذيرا للمسلمين من سلوك طريقة أولئك فيه [مِنْ بَعْدِ مُوسى أي بعد وفاة موسى [إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اختلف في ذلك النبيّ قيل: إنّه إشموئيل- و هو بالعربيّة إسماعيل- عن أكثر المفسّرين و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و قيل: هو يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف ابن يعقوب عليه السّلام. و قيل: هو شمعون سمّته بذلك لأنّ امّه دعت إلى اللّه يرزقها غلاما فسمع اللّه دعاءها فيه و بالعربيّة سمعون و إنّ السين عندهم الشين و امّه صفيّة من ولد لاوي بن يعقوب.

[ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و سؤالهم لذلك لاستعلاء الجبابرة عليهم و غلبوهم على كثير من ديارهم و سبوا كثيرا من ذراريهم بعد أن كانت الخطايا قد كثرت في بني إسرائيل و نسوا عهد اللّه و عظمت فيهم الأحداث فبعث اللّه إليهم إشموئيل نبيّا فقالوا:

إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل. و أرادوا قتال العمالقة و سألوا من النبيّ أميرا عليهم يقيم أمورهم في جهاد عدوّهم قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان الملك في ذلك الزمان هو الّذي يسير بالجنود و النبيّ و يقيم و ينبّئه بالوحي من عند ربّه.

فقال النبيّ: لعلّكم إن فرض [عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا] و لا تفوا بما تقولون و لا تقاتلوا، و إنّما سألهم عن ذلك ليعرف ما عندهم من الهمّة على القتال و هذا كأخذ العهد عليهم

ص: 95

و معنى «عسيتم» قاربتم.

[قالُوا] أي الملأ: [وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي أيّ شي ء لنا في ترك القتال؟ أ و ليس لنا ترك القتال [وَ قَدْ أُخْرِجْنا] لفظه عامّ و معناه خاص أي اخرج بعضنا [مِنْ دِيارِنا] و أهالينا بالسبي و القهر أي إذا بلغ الأمر هذا المبلغ فلا بدّ من الجهاد [فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ في الكلام حذف. فسأل النبيّ اللّه تعالى أن يبعث لهم ملكا يجاهدون معه أعداءهم فسمع اللّه دعوته فبعث لهم ملكا و كتب عليهم القتال و [تَوَلَّوْا] و أعرضوا عن القيام به و ضيّعوا أمر اللّه [إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ و هم الّذين عبروا النهر، و هذه الآية تهديد لمن يتولّى عن القتال.

و قيل: لمّا كبر إشموئيل أسلموه لتعلّم التوراة في بيت المقدّس و كفّله شيخ من علمائهم و تبنّاه فلمّا بلغ الغلام أتاه جبرئيل و هو نائم بجنب الشيخ و كان الشيخ لا يأتمن عليه فدعاه جبرئيل بلحن الشيخ: يا إشموئيل فقام الغلام مسرعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول: لا، لئلّا ينفزع الغلام فقال: يا بنيّ ارجع فنم، فرجع الغلام فنام ثمّ دعاه الثانية فقال الغلام: دعوتني؟ فقال الشيخ: ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني؛ فلمّا كانت الثالثة ظهر له جبرئيل فقال له: اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربّك فإنّ اللّه قد بعثك فيهم نبيّا فلمّا أتاهم كذّبوه و قالوا له: استعجلت بالنبوّه و لم تأن لك فإن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه. و كانت الملوك يومئذ مطيعة للأنبياء.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 247]

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)

. طالوت و جالوت و داود لا تنصرف لأنّها أسماء أعجميّة و فيها السببان: التعريف و العجمة.

[وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ و ذلك أنّ إشموئيل لمّا سأل اللّه أن يبعث لهم ملكا أتي بعصا

ص: 96

و قرن فيه دهن القدس و قيل له: إنّ صاحبكم الّذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا، و انظر القرن الّذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل و نشّ الدهن الّذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فدهّن به رأسه و ملّكه على بني إسرائيل. قال وهب: ضلّت حمر لوالد طالوت فأرسل أبو طالوت طالوت و غلاما له في طلبها فمرّ طالوت و الغلام ببيت إشموئيل فقال الغلام: لو دخلنا على هذا النبيّ فسألنا عن الحمير ليرشدنا و يدعولنا بحاجتنا، فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له شأن الحمر إذ نشّ أي تحرّك الدهن الّذي في القرن فقام إشموئيل فقاس طالوت بالعصا فكان على طولها فقال النبيّ لطالوت: قرّب رأسك فقرّبه فدهّنه بدهن القدس و هو دهن مقدّس مطيّب و قال له: أنت ملك بني إسرائيل الّذي أمرني اللّه أن املّكه عليهم؛ قال: بأيّ آية؟ قال: بآية أنّك ترجع و قد وجد أبوك حمره فكان كذلك و سمّي طالوت لطول قامته.

ثمّ قال إشموئيل لبني إسرائيل: [إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً] فأطيعوه و قاتلوا عدوّكم معه [قالُوا] متعجّبين و منكرين: [أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا] أي من أين يستأهل [وَ نَحْنُ أَحَقُ و أولى بالرياسة عليه [مِنْهُ بالرياسة علينا [وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ و لم يعط ثروة فيشرف بالمال فكيف يتملّك علينا و كان طالوت من ولد بنيامين ابن يعقوب عليه السّلام.

قيل: إنّ طالوت كان سقّاء. و قيل: كان دبّاغا. و قيل: مكاريا. و سبب هذا الاستبعاد منهم أنّ النبوّة كانت مخصوصة لسبط معيّن من أسباط بني إسرائيل و هو سبط لاوي بن يعقوب و منه كان موسى و هارون، و سبط المملكة و السلطنة سبط يهود ابن يعقوب و منه كان داود و سليمان و لم يكن طالوت من أحد هذين السبطين بل هو من ولد بنيامين بن يعقوب و كانوا قد عملوا ذنبا عظيما ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا فغضب اللّه عليهم و نزع الملك و الثروة و كانوا يسمّونه سبط الإثم و كان طالوت يتحرّف بحرفة دنيئة.

[قالَ لهم نبيّهم ردّا عليهم: [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ و اختاره فإن لم يكن له نسب و مال فإنّ له حسبا و فضيلة و هو قوله: [وَ زادَهُ بَسْطَةً] أي سعة و امتدادا [فِي الْعِلْمِ المتعلّق بالملك [وَ الْجِسْمِ و كان أطول و أقوى من غيره و أقوم على مقاومة الأعداء و مكابدة

ص: 97

الحروب [وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ] لما أنّه المالك [وَ اللَّهُ واسِعٌ يوسّع على الفقير و يغنيه إذا أراد [عَلِيمٌ بمن يليق بالملك.

قال الزمخشريّ: كم يحدث بين الخبيثين ابن لايعابن و الفرث و الدم يخرج من بينهما اللبن لأنّ اللبن يخرج من بين السرجين و الدم و هما مع كونهما مستقذرين لا يؤثّران في اللبن بشي ء من طعمهما. لونهما بل يحدث من بينهما لطيفا سائغا للشاربين مع أنّ الفرث و الدم يكتنفانه و بينه و بينهما برزخ من قدرة اللّه لا يبغي أحدهما عليه بلون و لا رائحة و لا طعم، و إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها (1) فكان أسفله فرثا و أوسطه مادّة اللبن و أعلاه مادّة الدم و جعل اللّه الكبد مسلّطة على هذه الأصناف الثلاثة فقسّمها فتجري الدم في العروق و اللبن في الضروع و يبقى الفرث في الكرش.

فسبحان اللّه ما أعظم قدرته و ألطف حكمته لمن تأمّل! فيجعل من الحجر جوهرا و من الشوك ريحانا و وردا.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 248]

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

. [وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ طلبوا علامة من نبيّهم على كون طالوت ملكا عليهم فقالوا:

ما آية ملكه؟ فقال: [إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ من التوب و هو الرجوع و سمّي «تابوتا» لأنّه ظرف توضع فيه الأشياء و تودع فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه و صاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته و المراد به صندوق التوراة و كان قد رفعه اللّه بعد وفاة موسى لمّا عصوا و اعتدوا سخط عليهم.

فلمّا طلب القوم من نبيّهم آية تدلّ على ملك طالوت، قال لهم: إنّ آية ملكه أن يأتيكم التابوت من السماء و الملائكة يحفظونه فأتاهم كما وصف و القوم ينظرون إليه حتّى نزل عند طالوت، و هذا قول ابن عبّاس.

و قال غيره من أرباب الأخبار: إنّ اللّه تعالى أنزل على آدم عليه السّلام تابوتا أي صندوقا فيه تماثيل الأنبياء من أولاده و كان التابوت من عود الشمشاد و نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين

ص: 98


1- هو لذي الخف و الظلف بمنزلة المعدة للإنسان.

فكان عند آدم عليه السّلام إلى أن توفّي فتوارثه أولاده واحدا بعد واحد إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السّلام ثمّ بقي في أيدي بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السّلام فكان يضع فيه التوراة و متاعا من متاعه و كان إذا قاتل قدّمه فكانت تسكن إليه نفوس بنى إسرائيل و كان عنده إلى أن توفّي ثمّ تداولته أيدي بني إسرائيل و كانوا إذا اختلفوا في شي ء تحاكموا إليه فيكلّمهم و يحكم بينهم و كانوا إذا حضروا القتال يقدّمونه بين أيديهم و يستفتحون به على عدوّهم و كانت الملائكة تحمله فوق العسكر ثمّ يقاتلون العدوّ فإذا سمعوا في التابوت صحبة استيقنوا بالنصر فلمّا عصوا و فسدوا سلّط اللّه عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت و سلبوه و جعلوه موضع البول و الغائط فلمّا أراد اللّه أن يملّك طالوت سلّط اللّه عليهم البلاء حتّى أنّ كلّ من بال عنده ابتلى بالبواسير.

و هلكت من بلادهم خمس مدائن يعني أهلها فعلم الكفّار أنّ ذلك سبب استهانتهم بالتابوت فأخرجوه و جعلوه على عجلة و عقلوها على ثورين فأقبل الثوران يسيران و قد وكّل اللّه بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتّى أتيا منزل طالوت فلمّا وجدوه عنده أيقنوا بملكه؛ فالإتيان على هذا مجاز لأنّه اتي به و لم يأت هو بنفسه فنسب الإتيان إليه توسّعا كما يقال: ربحت التجارة. و على قول ابن عبّاس- و هو الوجه الأوّل- فالإتيان حقيقة.

[فِيهِ أي في إتيان التابوت [سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ طمأنينة كاملة من اللّه لكم و الضمير «للتابوت».

قال المفسّرون: «السكينة» تطلق على ثلاثة أشياء بالاشتراك اللفظيّ:

أولها: ما أعطي بنو إسرائيل في التابوت كما قال تعالى: «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» و هي ريح ساكنة طيّبة تخلع قلب العدوّ بصوتها رعبا إذا التقى الصفّان و هي كانت معجزة لأنبيائهم و كرامة لملوكهم.

و الثانية: شي ء من لطائف صنع اللّه يلقي على لسان المحدّث الحكمة كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء.

و الثالثة: هي الّتي أنزلت على قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قلوب المؤمنين يسكن إليه الخائف و يتسلّى به الحزين و يتمكّن لهم الثبات كما قال تعالى: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ

ص: 99

عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (1) أقول: و لعلّ القسم الثالث من سنخ القسم الثاني.

قوله تعالى [وَ بَقِيَّةٌ] كائنة [مِمَّا] من بعض ما [تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ و هي رضاض الألواح و عصا موسى من اسّ الجنّة و ثيابه و نعلاه و عمامة هارون و خاتم سليمان و قفيز من المنّ أي الترنجبين النازل عليهم و عن أبي جعفر عليه السّلام: إنّ التابوت كان الّذي أنزله اللّه على أمّ موسى فوضعت ابنها فيه و ألقته في البحر و كان في بني إسرائيل معظّما فلمّا حضر لموسى الوفاة وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آثار النبوّة و أودعه عند وصيّه يوشع فلم يزل التابوت عندهم و هم في عزّ و شرف حتّى استخفّوا به و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات فانتزع من بين أيديهم إلى أن ردّه على طالوت. و قيل: إنّ السكينة كان لها وجه كوجه الإنسان و كان لها ريح هفهافة (2) و قال ابن عبّاس: هي صورة من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهرّ و ذنب كذنبه، فإذا صاحت كصياح الهرّ ذهب التابوت نحو العدوّ و هم يمضون معه، فإذا وقف وقفوا و نزل النصر.

[تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ] حال من «التابوت» أي حالكونه محمولا للملائكة و لعلّ المراد من حمل الملائكة إيّاه حفظهم و كان ينزل هو بنفسه إلى الأرض أو بسوق الملائكة على رواية المذكورة؛ لأنّ من حفظ شيئا أو باشره جاز أن يضاف الحمل إليه.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً] أي في رجع التابوت إليكم علامة أنّ اللّه ملّك طالوت عليكم [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و قيل: لمّا غلب الأعداء على التابوت أدخلوه بيت الأصنام فأصبحت أصنامهم منكبّة فأخرجوه و وضعوه ناحية من المدينة فأخذهم وجع في أعناقهم و كلّ موضع وضعوه ظهر فيه بلاء و موت و وباء فأشير عليهم أن يخرجوا التابوت من عندهم فأجمع رأيهم أن يحملوه على عجلة و يشدّوها على ثورين و يبعدوه ففعلوا ذلك و أرسلوا الثورين فجاءت الملائكة و ساقوا الثورين إلى بني إسرائيل فهذا معنى «تحمله الملائكة» قوله تعالى:

ص: 100


1- التوبة: 41
2- أي باردة

[سورة البقرة (2): آية 249]

فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

التقدير: [فَلَمَّا فَصَلَ نفسه و لمّا اتّحد فاعله و مفعوله شاع محذوف المفعول و المعنى:

انفصل عن بلده مصاحبا لبني إسرائيل لقتال العمالقة «و الجنود» جمع جند و هو الجيش الأشدّاء، مأخوذ من الجند و هي الأرض الشديدة الصلبة.

روي أنّهم لمّا رأوا التابوت لم يشكّوا النصر فتسارعوا إلى الجهاد فقال طالوت:

لا يخرج معي شيخ و لا مريض و لا رجل بني بناء لم يفرغ منه و لا صاحب تجارة مشتغل بها و لا رجل عليه دين و لا رجل تزوّج امرأة و لم يبن بها و لا أبتغي إلّا الشابّ النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممّن اختاره ثمانون ألفا و كان الوقت قيظا و سلكوا مفازة (1) فشكوا قلّة الماء و سألوا أن يجري لهم نهرا [قالَ طالوت بإخبار من النبيّ إشموئيل: [إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ] أي يعاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه، و ذلك الاختبار ليظهر عند طالوت من كان مخلصا في نيّته من غيره ليميّزهم من العسكر لأنّ من لا يريد القتال إذا خالط عسكرا يدخل الضعف في العسكر فينهزمون بشؤمه.

[فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ أي من النهر بتسكين الهاء و تحريكها لغتان و كلّ ثلاثيّ حشوه حرف من حروف الحلق فإنّه يجي ء على هذين كقولك: صخر و صخر و بحر و بحر قال الشاعر:

كأنّما خلقت كفّاه من حجرفليس بين يديه و الندى عمل

يرى التيمّم في برّ و في بحرمخافة أن يرى في كفّه بلل

و في النهر قيل: إنّه نهر فلسطين. و قيل: نهر بين الأردنّ و فلسطين. و قيل: جرى اللّه لهم نهرا باقتراحهم [فَلَيْسَ مِنِّي أي ليس من أهل طاعتي [وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي من لم يذق طعمه و هو يستعمل على الطعام و الشراب و هو من الطعم.

[وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ و لم يذقه [فَإِنَّهُ مِنِّي من حملتي و أشياعي و أهل ديني [إِلَّا مَنِ

ص: 101


1- القيظ شدة الحر و المفازة الفلاة لا ماء بها.

اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قرئ «غرفة» بضمّ الغين الشي ء القليل الّذي يحصل في الكفّ و بالفتح قرئ و هو الاغتراف مرّة واحدة و مثله «الاكلة و الأكلة» فإنّ الاكلة بالضمّ أي الشي ء القليل كاللقمة و أشباهها و لكنّ الأكلة بالفتح أي مرّة واحدة يقال: فلان يأكل بالنهار أكلة واحدة يعني مرّة و المعنى الرخصة في اغترف الغرفة باليد دون الكروع (1) استثناء من قوله: «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي» و إنّما أحبر في الذكر عن الجملة الثانية لكمال العناية بها أي إلّا من أخذ الماء مرّة واحدة باليد و هذا إذا كان بفتح الغين، و إذا كان بالضمّ فمعناه إلّا من شرب منه مقدار مل ء كفّه قال ابن عبّاس: كانت الغرفة يشرب منها هو و دوابّه و خدمه و يحمل منها و هذا كان معجزة لنبيّ ذلك الزمان كما كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يروي الخلق الكثير من الماء القليل.

[فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا] فالّذين شربوا القليل كانوا على عدد أهل بدر ثلاثمائة و بضعة عشر بدليل قوله صلّى اللّه عليه و آله: لأصحابه يوم بدر: أنتم اليوم على عدّة أصحاب طالوت حين عبروا النهر و كانوا يومئذ ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا. و قيل: إنّ الّذين لم يزيدوا على الاغتراف أربعة آلاف لكنّ المشهور الأوّل و أمّا الّذين شربوا كراعا (2) و خالفوا أمر اللّه فاسودّ شفاههم و غلبهم العطش و لم يرووا و بقوا على شطّ النهر و جبنوا عن لقاء العدوّ، و المؤمنون القليلون عبروا النهر. و قرئ «إلّا قليل» بالرفع ميلا إلى جانب المعنى؛ لأنّ الكلام في قوّة أن يقال: لم يطيعوه إلّا قليل، فحقّ المستثنى أن يكون مرفوعا. نعم شرب الماء بغير إذنه تعالى حرام و سفك الدم بإذنه واجب.

[فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي فلمّا جاوز و عبر طالوت و المؤمنون النهر [قالُوا] أي بعض من معه من المؤمنين لبعض آخر منهم، و قد صار المؤمنون فرقتين فريقا يحبّ الحياة و يكره الموت و غلب الخوف عليهم و فريقا كان شجاعا قويّ القلب لا يبالي في طاعة اللّه الموت.

فالقسم الأوّل هم الّذين قالوا: [لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ لما شاهدوا منهم من الكثرة و القوّة و كانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح.

ص: 102


1- الكروع و الكرع مد العنق لتناول الماء بالفم.
2- الكروع و الكرع مد العنق لتناول الماء بالفم.

و القسم الثاني هم الّذين أجابوهم بقولهم: «كم من فئة، الآية» [قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ قيل في «يظنّون» معناه يستيقنون و الظنّ استعملوه في اليقين. و قيل: إنّ معنى الظنّ في الآية: يحدّثون نفوسهم و هو أصل الظنّ لأنّ حديث النفس بالشي ء قد يكون مع الشكّ و قد يكون مع العلم إلّا أنّه قد كثر على ما كان مع الشكّ [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً] أي كثير من الفئات القليلة غلبت الفئات الكثيرة «و الفئة» اسم للجماعة من الناس قلّت أو كثرت و الجمع: فئون و فئات [بِإِذْنِ اللَّهِ و حكمه و تيسيره؛ فمن نصره لا يذلّ و إن قلّ عدده و لا يعزّ من خذله و إن كثر استعداده [وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصرة على العدوّ.

قال الراغب: في القصّة مثال للدنيا و أبنائها، فإنّ من يتناول قدر ما يبتلغ به اكتفى و استغنى و سلّم منها و نجا و من تناول منها فوق ذلك ازداد عطشا و لهذا قيل: الدنيا كالملح من ازداد منها عطش. و في الحديث لو أنّ لابن آدم واد بين جبلين من ذهب لابتغى إليهما ثالثا فلا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب.

و أوحى اللّه إلى داود يا داود تريد و أريد فإن رضيت بما أريد كفيتك ما تريد و إن لم ترض بما أريد أتعبك ثمّ لا يكون إلّا ما أريد.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في وصيّته لأبي هريرة: يا أبا هريرة كن بطريق أقوام إذا فزع الناس لم يفزعوا و إذا طلب الناس الأمان من النار لم يخافوا. قال أبو هريرة:

و من هم يا رسول اللّه؟ قال: قوم من امّتي في آخر الزمان يحشرون محشر الأنبياء إذا نظر الناس إليهم ظنّوهم أنبياء ممّا يرون من حالهم حتّى اعرّفهم أنا فأقول امّتي، فيعرف الخلائق أنّهم ليسوا أنبياء فيمرّون مثل البرق أو الريح يغشى أبصار أهل الجمع من أنوارهم فقلت: يا رسول اللّه مرني بمثل عملهم لعلّي ألحق بهم فقال: يا أبا هريرة ركب القوم طريقا صعبا آثروا الجوع بعد ما أشبعهم اللّه، و العرى بعد ما كساهم اللّه، و العطش بعد ما أرواهم اللّه تركوا ذلك رجاء ما عند اللّه تركوا الحلال مخافة حسابه فصحبوا الدنيا بأبدانهم و لم يشتغلوا بشي ء منها، عجبت الملائكة و الأنبياء من طاعتهم لربّهم طوبى لهم وددت أنّ اللّه جمع بيني و بينهم ثمّ بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شوقا إليهم.

ص: 103

ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: إذا أراد اللّه بأهل الأرض عذابا فنظر إليهم صرف العذاب عنهم فعليك بطريقهم.

[سورة البقرة (2): الآيات 250 الى 251]

وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)

[وَ لَمَّا] ظهر طالوت و من معه من المؤمنين و صاروا إلى براز و فضاء من الأرض في موطن الحرب [لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ و شاهدوا من عليهم من العدد و العدّة و أيقنوا أنّهم غير مطيقين لهم عادة [قالُوا] جميعا متضرّعين إلى اللّه: [رَبَّنا] في ندائهم اعتراف منهم بالعبوديّة [أَفْرِغْ عَلَيْنا] صبّ علينا، استعارة عن الإكمال و الإكثار و إفراغ الإناء إخلاؤه ممّا فيه [صَبْراً] على مقاساة شدائد الحرب [وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا] في مداحن القتال و نزال النزال و عدم التزلزل [وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ بقهرهم و هزمهم [فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ فكسروهم بتأييده و إجابة لدعائهم [وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ .

و في تفسير روح البيان أنّ جالوت الجبّار كان رأس العمالقة و ملكهم و كان من أولاد عمليق بن عاد و كان من أشدّ الناس و أقواهم و كان يهزم الجيوش وحده و كان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد و كان ظلّه ميلا لطول قامته و كان إيشى أبو داود في جملة من عبر النهر مع طالوت و كان معه سبعة من أبنائه و كان داود أصغرهم سنّا يرعى الغنم فأوحى اللّه إلى نبيّ العسكر و هو إشموئيل: إنّ داود بن إيشى هو الّذي يقتل جالوت فطلبه من اللّه فجاء به فقال له النبيّ: لقد جعل اللّه قتل جالوت على يدك فاخرج معنا لمحاربته فخرج معهم فمرّ داود في الطريق بحجر فناداه يا داود احملني فإنّي حجر هارون الّذي قتل بي ملك كذا فحمله في مخلاته ثمّ مرّ بحجر آخر فقال له: احملني فإنّي حجر موسى الّذي قتل بي كذا و كذا فحمله في مخلاته ثمّ مرّ بحجر آخر فقال له: احملني فإنّي حجرك الّذي تقتل بي جالوت فوضعه في مخلاته و كان داود من عادته رمي القذافة و كان لا يرمى بقذافته شيئا من الذئب و الأسد و النمر إلّا صرعه و أهلكه.

ص: 104

فلمّا تصافّ العسكران للقتال برز جالوت و سأل من يخرج إليه فلم يخرج إليه أحد فقال: يا بني إسرائيل لو كنتم على حقّ لبارزني بعضكم فقال داود لإخوته: من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا فالتمس منه طالوت أن يخرج إليه و وعده أن يزوّجه ابنته و يعطيه نصف ملكه فلمّا توجّه داود نحوه أعطاه طالوت فرسا و درعا و سلاحا فلبس الدرع و السلاح و ركب الفرس فسار قريبا ثمّ انصرف إلى الملك فقال من حوله: جبن الغلام فجاء فوقف على الملك فقال: ما شأنك؟ فقال: إنّ اللّه تعالى إن لم ينصرني لم يغن عنّي السلاح شيئا فدعني أقاتل كما أريد، قال: نعم، فأخذ داود مخلاته فتقلّدها و أخذ المقلاع و مضى نحو جالوت.

و لمّا نظر جالوت إلى داود قذف في قلبه الرعب فقال: يا فتى ارجع فإنّي أرحمك أن أقتلك قال داود: بل أنا أقتلك قال جالوت: لأقسمنّ لحمك بين سباع الأرض و طير السماء قال داود: بل يقسّم اللّه لحمك فقال: باسم إله إبراهيم و أخرج حجرا ثمّ أخرج الآخر و قال: باسم إله إسحاق ثمّ أخرج الثالث و قال: باسم إله يعقوب فوضع الأحجار الثلاثة في مقلاعه و صارت كلّها حجرا واحدا و دوّر المقلاع و رمى به فسخّر اللّه له الريح حتّى أصاب الحجر أنف البيضة و خالط دماغه و خرج من قفاه و قتل من ورائه ثلاثين رجلا و هزم اللّه الجيش و خرّ جالوت قتيلا، فأخذ داود يجرّه حتّى ألقاه بين يدي طالوت ففرح المسلمون فرحا شديدا و انصرفوا إلى المدينة سالمين فزوّجه طالوت ابنته و أجري خاتمه في نصف مملكته.

فمال الناس إلى داود و أحبّوه فحسده- على ما قيل- طالوت و أراد قتله فتنبّه له داود و هرب منه فسلّط طالوت عليه العيون فلم تقدر عليه و انطلق داود الجبل مع المتعبّدين فتعبّد فيه دهرا طويلا فأخذ العلماء و العبّاد ينهون طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلّا قتله فأكثر في قتل العلماء الناصحين.

ثمّ ندم طالوت على ما فعله من المعاصي و المنكرات و أقبل على البكاء ليلا و نهارا حتى رحمه الناس و كان كلّ ليلة يخرج إلى القبور فيبكي و ينادي: رحم اللّه عبدا يعلم أنّ لي توبة إلّا أخبرني بها فلمّا أكثر التضرّع و الإلحاح رقّ له بعض خواصّه فقال له: إن

ص: 105

دللتك أيّها الملك لعلّك أن تقتله فقال: لا و اللّه بل أكرمه أتمّ الإكرام و أنقاد إلى حكمه و أخذ مواثيق الملك و عهوده على ذلك فذهب به إلى باب امرأة تعلم اسم اللّه الأعظم فلمّا لقيها قبّل الأرض بين يديها و سألها هل له من توبة فقالت: لا و اللّه لا أعلم لك توبة و لكن هل تعلم قبر نبيّ قال: نعم فانطلق بها إلى قبر إشموئيل فصلّت ودعت ثمّ نادت صاحب القبر فخرج إشموئيل من القبر ينفض التراب عن رأسه فلمّا نظر إليهم سألهم و قال: ما لكم أقامت القيامة؟ قالت: لا و لكن طالوت يسأل هل له من توبة؟ قال إشموئيل: يا طالوت ما فعلت بعدي؟

قال: ما أدع من الشرّ شيئا إلّا فعلته و جئت لطلب التوبة قال: كم لك من الولد؟ قال: عشرة رجال قال: لا أعلم لك من التوبة إلّا أن تتخلّى من ملكك و تخرج أنت و ولدك في سبيل اللّه ثمّ تقدّم ولدك حتّى يقتلوا بين يديك ثمّ تقاتل أنت فتقتل آخرهم ثمّ رجع إشموئيل إلى القبر و سقط ميّتا و رجع طالوت ففعل ما أمر به فجاء قاتله إلى داود ليبشّره و قال: قتلت عدوّك فقال داود:

ما أنت بالّذي تحيى بعده فضرب عنقه فكان مدّة ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة و أتى بنو إسرائيل بداود و أعطوه خزائن طالوت و ملّكوه على أنفسهم و ملك داود بعد قتل طالوت سبعين سنة.

[وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي ملك بني إسرائيل في مشارق الأرض المقدّسة و مغاربها و لم يجتمعوا قبل داود على ملك [وَ الْحِكْمَةَ] أي النبوّة و لم يجتمع في بني إسرائيل الملك و النبوّة قبله إلّا له بل كان الملك في سبط و النبوّة في سبط آخر و أنزل عليه الزبور أربعمائة و عشرين سورة و هو أوّل من تكلّم «بأمّا بعد» و هو فصل الخطاب الّذي أوتيه داود.

[وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ] من صنعة الدروع بإلانة الحديد و كان يصنعها و يأكل ثمنها و لا يأكل من بيت المال و علّمه منطق الطير و تسبيح و كلام النمل و الحكل. (1) و الصوت الطيّب و كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتّى يؤخذ بأعناقها و تطلبه الطير و تسكن الريح و يركد الماء الجاري. و لعلّ ركود الماء و سكون الريح من معجزاته بل صوته و سائر الأمور.

[وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ أي و لو لا صرفه تعالى، المصدر مضاف إلى الله «الناس» مفعول «الدفع» بعضهم الّذين

ص: 106


1- بالضم كلام و صوت لا يفهم.

يباشرون الفساد و هو بدل من «الناس» ببعض آخر منهم بردّهم عمّاهم عليه بما قدّر اللّه حسب ما هو الصلاح مثل القتل المذكور في القصّة المذكورة لفسدت الأرض و بطلت منافعها و تعطّلت مصالحها من الحرث و النسل.

و قيل: المعنى: و لو لا دفع اللّه بالمؤمنين و الأبرار عن الكفّار و الفجّار لهلكت الأرض و من فيها و لكنّ اللّه يدفع بالمؤمن عن الكافر و بالصالح عن الفاجر قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت جيرانه البلاء ثمّ قرأ «وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» و لهذا قيل: الدين و الملك توأمان ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر لأنّ الدين أساس و الملك حارس و ما لا اسّ له فمهدوم و ما لا حارس له فضائع و الناس قد يكون لا ينقادون للرسل مع ظهور الحجج فاحتيج إلى المجاهدة بالسيف و السنان و سرّاس الخلق الأنبياء ثمّ الملوك ثمّ العلماء العاملين و الوعّاظ العالمين.

«وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» كافّة.

[سورة البقرة (2): آية 252]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

. [تِلْكَ إشارة إلى ما سلف في الذكر من تمليك طالوت و تابوت السكينة و انهزام الجبابرة و قتل داود جالوت [آياتُ اللَّهِ المنزلة من عنده [نَتْلُوها عَلَيْكَ بواسطة جبرئيل [بِالْحَقِ حال من مفعول «نتلوها» أي كائنة بالوجه المطابق بالواقع [وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي من جملة المرسلين الّذين أرسلوا إلى الأمم لتبليغ رسالاتنا و إجراء أوامرنا و إلّا لما أخبرت بتلك الآيات من غير تعرّف و لا استماع و التأكيد لردّ قول المشركين: لست رسولا.

[سورة البقرة (2): آية 253]

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)

. [تِلْكَ إشارة إلى الجماعة الّذين من جملتهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اللام للاستغراق في «الرُّسُلُ» [فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن خصّصناه بمنقبة ليست لغيره و الأنبياء كلّهم متساوون

ص: 107

في النبوّة؛ لأنّ النبوّه شي ء واحد و التفاضل باعتبار الدرجات بلغ بعضهم درجة الخلّة كإبراهيم و لم يحصل ذلك لغيره و جمع لداود الملك و النبوّة و طيب النغمة و لم يحصل هذا لغيره و سخّر لسليمان الجنّ و الإنس و الطير و الريح و لم يحصل هذا لأبيه داود على نبيّنا و آله و عليه السّلام و خصّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بكونه مبعوثا إلى الكلّ من الجنّ و الإنس و يكون شرعه ناسخا لجميع الشرائع.

[مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أي كلّمه اللّه من غير واسطة مثل موسى فهو مكالمه و قالت الأشاعرة:

إنّ الكلام الّذي سمعه موسى و غيره هو الكلام القديم الأزليّ. و قال غيرهم: سماع ذلك الكلام محال و إنّما المسموع هو الحروف و الأصوات و هو الحقّ.

[وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أي على درجات قال مجاهد: أراد به محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فإنّه تعالى فضّله على جميع الأنبياء و أعطاه جميع الآيات الّتي أعطاها من قبله من الأنبياء و بأن خصّه بالقرآن الّذي لم يعطه غيره و هو المعجزة القائمة إلى يوم القيامة.

[وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ كإبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى و الإخبار بما يأكلونه و يدّخرونه في بيوتهم و خلق الطير من الطين و الإنجيل و إنّما ذكر إيتاء «البيّنات» مع أنّها غير مختصّ بعيسى تقبيحا لإفراط اليهود في تحقيره و لإفراط النصارى في تعظيمه حيث أخرجوه عن مرتبة الرسالة.

[وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي الروح المطهّرة الّتي نفخها اللّه فيه فالقدس بمعنى «المقدّس» من قبيل رجل صدق لأنّه لم يخلق من اجتماع نطفتي الذكر و الأنثى و لم تضمّه أصلاب الفحول و أرحام الطوامث أو القدس «هو اللّه» و روحه «جبرئيل» و الإضافة للتشريف مثل «بيت اللّه» و قد أعانه جبرئيل في أوّل أمره بنفخه الروح في كمّ امّها و في وسط أمره بتعليمه العلوم و حفظه من الأعداء و في آخر أمره حين أرادت اليهود قتله أعانه و رفعه إلى السماء.

ص: 108

[وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ من بعد] الرسل بأن جعلهم متّفقين على اتّباع الرسل بحيث لم يتمكّنوا من المخالفة و يلجئهم إلى الموافقة و يمنعهم عن الكفر إلّا أنّه سبحانه لم يلجئهم إلى ذلك لأنّ التكليف لا يحسن مع الضرورة و الجزاء لا يحسن إلّا مع التخلية و الاختيار.

[وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بحسن اختياره [وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ] بسوء اختياره.

[وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم اقتتالهم بعد هذه المرّة مع هذا الاختلاف و الشقاق اللازم للاقتتال بحسب العادة [مَا اقْتَتَلُوا] و ما نبض (1) منهم عرق التطاول و التعاون و منع و سلب عنهم قدرة القتال لما أنّ الكل تحت ملكوته.

[وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ] ما تقتضيه المصلحة قال أبو السعود العلّامة: إنّ الكرار في الآية ليس للتأكيد كما ظنّ بعضهم بل للتنبيه على اختلافهم ذلك ليس (2) موجبا لعدم مشيّته تعالى لعدم اقتتالهم بل هو سبحانه مختار في ذلك حتّى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا و يفصح عن هذا المعنى الاستدراك بقوله: «وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه منه مانع.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 254]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

. لمّا قدّم بيان القتال و الجهاد بالأنفس ذكر في هذه الآية جهاد المال و الإنفاق في سبيله بقوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ المعتزلة احتجّوا بأنّ الزرق لا يكون إلّا حلالا لأنّه تعالى أمر في هذا الآية بالإنفاق و ما كان حراما لا يجوز أن يؤمر بإنفاقه؛ فهذا يفيد القطع بأنّ الرزق لا يكون حراما.

ثمّ اختلفوا بأنّ هذا الأمر هل مختصّ بالزكاة المفروضة أم يشمل المندوبة و مطلق الصدقات فقال جماعة: مختصّ بالمفروضة لأنّ قوله: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ» وعيد و الوعيد لا يتوجّه على ترك المندوب، و الأكثرون على أنّه يتناول المفروض و المندوب و أنكروا مفاد الوعيد في الآية قالوا مفاد الآية: أن حصّلوا منافع الآخرة حين كونكم في الدنيا فإنّكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها و اكتسابها في الآخرة.

ص: 109


1- نبض العرق: تحرك.
2- كذا في الأصل.

و قرئ لا بيع «بالفتح» و الأكثرون بالرفع قالوا: في التقدير جواب «هل فيه بيع أو خلّة أو شفاعة» قال: «ليس فيه بيع».

قوله: [مِمَّا رَزَقْناكُمْ «من» تبعيضيّة أي بعض ما رزقناكموه [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ يوم الجزاء [لا بَيْعٌ فِيهِ يتدارك التقصير بالاستبدال [وَ لا خُلَّةٌ] و مودّة حتّى يسامحكم أخلّاؤكم و يقال «للصديق» الخليل لأنّ المودّة تتخلّل الأعضاء و يدخل جوفها و خلالها و وسطها و الخلّة منقطعة يوم القيامة إلّا بين المتّقين [وَ لا شَفاعَةٌ] حتّى تتّكلوا على شفعاء تشفّع لكم في حطّ ما في ذممكم و الشفاعة المنفيّة هي الّتي يستقلّ فيها الشفيع و يأتي بها من غير إذن لأنّ الدلائل قائمة على ثبوت الشفاعة للمؤمنين بعد أن يؤذن لهم فيها.

[وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنّهم عملوا بأنفسهم ما استحقّوا الحرمان من الجنّة و الخلود بالنار و ظلم نفسه و ضرّها بالكفر و بمنع الزكاة حتّى استحقّ العذاب.

[سورة البقرة (2): آية 255]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ هذا الاسم أعظم الأسماء لأنّه دالّ على الذات الجامعة لصفات الإلهيّة كلّها حتّى لا يشذّ منها شي ء و سائر الأسماء لا تدلّ آحادها إلّا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل، و لأنّه أخصّ الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة و لا مجازا و سائر الأسماء قد يسمّى بها غيره كالقادر و الرحيم و ينبغي أن يكون حظّ العبد من هذا الاسم التألّه و استغراق القلب و عدم الالتفات إلى ما سواه و لا يرجو و لا يخاف إلّا إيّاه و كيف لا يكون كذلك و قد فهم من هذا الاسم أنّه الموجود الحقيقيّ الحقّ و غيره فان و هالك إلّا به.

قال رسول اللّه: أصدق بيت قالته العرب قول لبيد:

ألا كلّ شي ء ما خلا اللّه باطل و كلّ نعيم لا محالة زائل

حتّى أنّ هذه الكلمة خلاف الكلمات؛ فإنّ كلّ كلمة إذا أسقطت منها حرفا يختلّ بالمعنى و هذه إن حذفت الألف يصير «للّه» قال سبحانه: «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»* (1) و إن حذفت اللام الاولى أيضا يبقى «له» قال سبحانه. «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»* (2) و إن حذفت اللام

ص: 110


1- النساء: 69.
2- البقرة: 107.

الثانية أيضا يبقى الهاء و هو ضمير راجع إلى اللّه تعالى قال سبحانه: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ»* (1) و للأسماء تأثير بليغ خصوصا للفظ الجلالة لكن بشرط أن يقع الذكر من أهله و الأهليّة لا تحصل إلّا بعد تزكية النفس و تبديل الأخلاق. و كلمة «هو» و إن كانت للإشارة المطلقة و مفتقرة في تعيين المراد بها إلى سبق الذكر أو إلى أن يعقّبها ما يفسّرها إلّا أنّ المستغرق الكامل يشير بها إلى الحقّ و لا يفتقر في تلك الإشارة إلى ما يميّز الذات المرادة عن غيرها لأنّ الافتقار إلى المميّز إنّما يحصل حيث وقع الإبهام و المستغرق المتوجّه لا يكون في قلبه و في نظره غيره و يرى غيره هالكا معدوما و ليس المراد من هذا البيان أنّه يرى كلّ شي ء هو اللّه كما زعمه بعض الحمقاء من الّذين سمّوا أنفسهم عرفاء كما قال صلّى اللّه عليه و آله: ما رأيت شيئا إلّا و رأيت اللّه معه.

قوله: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» الجملة خبر للمبتدأ و هو لفظ الجلالة و المعنى: اللّه هو المستحقّ للعبادة لا غير [الْحَيُ خبر ثان و هو في اللغة من له الحياة و صفة يخالف الموت و إذا وصف البارئ بها معناه الدائم الباقي الّذي لا سبيل عليه للفناء و الموصوف بالحياة الأزليّة الأبديّة الفعّال الدرّاك كما شرح هذا المعنى في أسماء الحسنى حتّى لا يشذّ عن علمه مدرك [الْقَيُّومُ مبالغة القائم فإنّه تعالى دائم القيام على كلّ شي ء بتدبير أمره في إنشائه و إيجاده.

قال الغزاليّ: إنّ الأشياء تنقسم إلى ما يفتقر إلى محلّ كالأعراض و الأوصاف و إلى ما لا يحتاج إلى محلّ فيقال: إنّه قائم بنفسه كالجواهر إلّا أنّ الجوهر و إن قام بنفسه مستغنيا عن محلّ يقوم به فليس مستغنيا عن امور لا بدّ منها لوجوده و تكون تلك الأمور شرطا في وجوده و إذا كان كذلك فلا يكون قائما بنفسه لأنّه محتاج إلى غيره في قوام وجوده و إن كان لم يحتجّ إلى محلّ فإن كان في الوجود موجود يكفي ذاته بذاته و لا قوام له بغيره و لا شرط في دوام وجوده وجود غيره فهو القائم بنفسه مطلقا فإن كان مع ذلك يقوم به كلّ موجود حتّى لا يتصوّر للأشياء وجود و لا دوام وجود إلّا به فهو القيّوم و ليس ذلك إلّا اللّه».

قيل: «الْحَيُّ الْقَيُّومُ» اسم اللّه الأعظم و كان عيسى عليه السّلام إذا أراد أن يحيي الموتى

ص: 111


1- الحشر: 22.

يدعو بهذه الدعاء «يا حيّ يا قيّوم» و يقال: دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا كان يوم بدر جئت أنظر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما يصنع فإذا هو ساجد يقول: يا حيّ يا قيوم يردّد مرّات و هو على حاله لا يزيد على ذلك إلى أن فتح اللّه له. و قال بعض: الاسم ليس له حدّ محدود و لكن فرّغ قلبك عمّا سواه فإذا كنت كذلك فاذكره بأيّ اسم شئت من أسمائه الحسنى. و هذه الصفة استكملت في محمّد صلّى اللّه عليه و آله و من عرف حقيقة المحمّديّة عرف الاسم الأعظم.

قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ السنة ثقلة من النعاس و فتور يعتري المزاج قبل النوم و أوّله، و النوم حالة تعرض للإنسان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواسّ الظاهرة عن الإحساس و تقديم السنة في الآية مع أنّ قياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود الخارجيّ فإنّ الموجود منها أوّلا هو السنة ثمّ النوم، و المراد بيان انتفاء اعترائهما له سبحانه فإنّ من أخذه نعاس أو نوم كان مؤوف الحياة قاصرا في التدبير، و النوم أخو الموت و الموت ضدّ الحياة، و هو الحيّ الحقيقيّ فلا يلحقه ضدّ الحياة و منزّه عن صفة النقص.

روي أنّ موسى سأل الملائكة و كان ذلك في نومه: أ ينام ربّنا؟ فأوحى اللّه إليهم أن يوقظوه ثلاثا و لا يتركوه ينام ثمّ قال: خذ بيدك قارورتين مملوءتين فأخذه النوم فزالتا و انكسرتا ثمّ أوحى اللّه إليه أنّي أمسك السماوات و الأرض بقدرتي فلو أخذني النوم أو النعاس لزالتا كذا في الكشّاف.

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فكلّ من فيهما و ما فيهما ملكه و لا لأحد معه شركة فلا يجوز أن يعبد غيره كما ليس لعبد أحدكم أن يخدم غيره إلّا بإذنه.

مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [مَنْ مبتدأ و [ذَا] خبره [و الَّذِي صفة ذا أو بدل منه، و لفظ «من» و إن كان استفهاما فمعناه النفي و لذلك دخلت إلّا في قوله: [إِلَّا بِإِذْنِهِ و المعنى لا أحد يشفع عنده بأمر من الأمور إلّا باستعانة أمره و رخصته و كان المشركون يقولون: أصنامنا شركاء اللّه و هم شفعاؤنا عنده.

و في تأويلات النجميّة: هذا الاستثناء راجع إلى النبيّ لأنّ اللّه قد وعد له المقام

ص: 112

المحمود و هو الشفاعة فالمعنى: من ذا الّذي يشفع عنده يوم القيامة إلّا عبده محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّه مأذون موعود و يعينه الأنبياء بالشفاعة.

و في تفسير روح البيان: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتاني آت من عند ربّي فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة و بين الشفاعة فاخترت الشفاعة فيأتي الناس إليه فيقول: أنا لها و هو المقام المحمود الّذي وعده اللّه به يوم القيامة فيأتي و يسجد و يحمد اللّه بمحامد يلهمه إنّاها في ذلك الوقت لم يكن يعلمها قبل ذلك ثمّ يشفع إلى ربّه أن يفتح اللّه باب الشفاعة للخلق فيفتح اللّه ذلك الباب فيأذن في الشفاعة للملائكة و الرسل و الأنبياء و المؤمنين قال صلّى اللّه عليه و آله: أنا سيّد الناس و تأدّب صلّى اللّه عليه و آله و لم يقل: سيّد الخلائق مع أنّه ظهر سلطانه على الجميع و ذلك أنّ الجبروت الأعظم و القهر الإلهيّ بالنسبة إلى الكفّار و العصاة في ذلك اليوم قد أخرس الجميع فظهر عظم قدره صلّى اللّه عليه و آله حيث أقدم على مناجاة الحقّ فيما سأل من الشفاعة في مثل ذلك الوقت فأجابه الحقّ و أذن له و هو صلّى اللّه عليه و آله أوّل من يشفع في الخلق ثمّ الأنبياء و الملائكة و الأولياء و المؤمنون ثمّ رحمته الواسعة جلّ جلاله.

قوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ استيناف لبيان إحاطة علمه بأحوال من يستحقّ الشفاعة و من لا يستحقّها و يعلم ما كان قبلهم من امور الدنيا و ما يكون بعدهم من أمر الآخرة أو المراد من قوله: «ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» الآخرة لأنّهم يقدمون عليها «وَ ما خَلْفَهُمْ» لدنيا لأنّهم خلّفوها وراء ظهورهم، أو ما كان قبل أن يخلقهم و بعد أن خلقهم و عالم بأحوال الشافع و المشفوع له.

وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي لا يدركون من الملائكة و الأنبياء و غيرهم من معلوماته إِلَّا بِما شاءَ أن يعلموه كأخبار الرسل و فسّر العلم بالمعلوم لأنّ علمه تعالى عين ذاته و صفة قائمة بذاته لا يتبعّض ففسّر بالمعلوم ليصحّ دخول التبعيض و الاستثناء عليه فلا يظهر على غيبه أحد إلّا من ارتضى من رسول.

و في الرسالة الرحمانيّة: إنّ علم الأولياء عن علم الأنبياء بمنزلة قطرة من سبعة أبحر و علم الأنبياء من علم محمّد صلّى اللّه عليه و آله بهذه المنزلة و علم نبيّنا من علم الحقّ بهذه المنزلة قال في القصيدة البرديّة:

ص: 113

و كلّهم من رسول اللّه ملتمس غرفا من البحر أو رشقا من الديم

و واقفون لديه عند حدّهم من نقطة العلم أو من شكلة الحكم

حاصله أنّ علوم الكائنات و إن كثرت بالنسبة إلى علم اللّه بمنزلة نقطة من نقطت الكتاب نقطا أو شكله من شكلت الكتاب إذا قيّدته بالإعراب و مشرب النقطة و الشكلة بحر روحانيّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ «الكرسيّ» ما يجلس عليه و المراد منه في الآية قيل: علمه تعالى عن ابن عبّاس و جماعة و هو المرويّ عن الباقرين عليهما السّلام و يقال للعلماء:

كراسيّ و قيل المراد العرش و قيل إنّ المراد منه الملك و السلطان و القدرة فيكون معناه:

أحاط قدرته السماوات و الأرض و ما فيهما و قيل: إنّ الكرسيّ سرير دون العرش و قد روي عن الصادق عليه السّلام و قريب منه ما روي عن عطا أنّه قال: ما السماوات و الأرض عند الكرسيّ إلّا كحلقة في فلاة و ما الكرسيّ عند العرش إلّا كحلقة في فلاة.

و روى الأصبغ بن نباتة أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ السماوات و الأرض و ما فيهما من المخلوق في جوف الكرسيّ و له أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه ملك منهم بصورة الآدميّين و هي أكرم الصور على اللّه و هو يدعو اللّه و يتضرّع إليه و يطلب الشفاعة و الرزق للآدميّين و الملك الثاني في صورة الثور و هو سيّد البهائم يدعو اللّه و يتضرّع إليه و يطلب الرزق للبهائم و الملك الثالث في صورة النسر و هو سيّد الطيور و يدعو اللّه و يتضرّع إليه و يطلب الرزق للطيور و الملك الرابع في صورة الأسد و هو سيّد السباع و هو يدعو اللّه و يطلب الرزق للسباع قال: و لم تكن في جميع صور الحيوان صورة أحسن من الثور و لا أشدّ انتصابا منه حتّى اتّخذ الملأ من بني إسرائيل العجل و عبدوه فخفض الملك الّذي في صورة الثور رأسه استحياء من اللّه أن عبدوا من دون اللّه بشي ء يشبهه و تخوّف أن ينزل به العذاب (1).

وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما يقال: آده الشي ء يئوده إذا أثقله و أتعبه و لحقه منه مشقّة مأخوذ من الأود و هو العوج. «حفظهما» أي حفظ السماوات و الأرض إذ القليل و الكثير و القريب و البعيد عنده سواء و كيف يتعب في خلق الذرّة و جميع الخلق خلقه عنده أسهل

ص: 114


1- و روى نحوه العيّاشي عن الحسن المثنى عمن ذكره عن الصادق. البرهان.

من خلق الذرّة «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (1).

[سورة البقرة (2): آية 255]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

المتعالي بذاته عن الأنداد و الأشباه العظيم الّذي يستحقر كلّ شي ء دونه و المراد من العلوّ علوّ القدر و هو منزّه عن التحيّز و كذا المراد من عظمته هي المهابة و الكبرياء لا بحسب الحجم و المقدار. و اعلم أنّ الّذين يفسّرون الآية بتأويلهم الفاسد على أنّ هذه الآية و أمثالها مجرّد التمثيل و لا كرسيّ في الحقيقة.

و إنّما خاطب الخلق في تعريف ذاته و صفاته بما اعتادوه في ملوكهم و عظمائهم كما جعل الكعبة بيتا له يطوف الناس به كما يطوفون بيوت ملوكهم و كذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة و النبيّين و الشهداء و وضع الميزان.

و أمثال هذه الآيات أوّلوها و قالوا: المراد من هذه الألفاظ بيان العظمة و لا صورة لها؛ فهذا القول غلط فاسد بل تكذيب للكتاب و السنّة و لا يجوز إبطال الصورة و الأعيان مطلقا مثل الجنّة و النار و العرش و الكرسيّ و الشمس و القمر و كذلك من الحور و القصور و الأنهار و الأشجار و الثمار و لا يؤوّل شي ء منها على مجرّد المعنى بل لا بدّ للمسلم أن يثبت و يعلم لها صورا و معان و حقائق و من سلك غيره سلك مسلك النار، و أوّل باب التأويل في مثل هذه الأمور فتح باب الإلحاد نسأل اللّه أن يجيرنا من مضلّات الفتن.

و الأكثرون على أنّ آية الكرسيّ إلى قوله: «العليّ العظيم» و هذه الآية الكريمة منطوية على مهمّات المسائل المتعلّقة بالذات العليّة و الصفات الجليّة فإنّها ناطقة بأنّه موجود متفرّد بالإلهيّة متّصف بالحياة واجب الوجود لذاته موجود لغيره لما أنّ «القيّوم» هو القائم بذاته كما ذكرنا منزّه عن التحيّز و الحلول مبرّأ من التغيّر و الفتور، لا مناسبة بينه و بين الأشباح و لا يعتريه ما يعتري النفوس و الأرواح، مالك الملك و مبدع الأصول و الفروع، ذو البطش الشديد، العالم بجميع الأشياء، لا يشغله شأن عن شأن، لا يشقّ عليه شاقّ، متعال عمّا تناله الأوهام، عظيم لا يحاط؛ و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أعظم آية في القرآن آية الكرسيّ و كذلك لعظم مقتضاها في الأوصاف.

ص: 115


1- يس: 82.

و اشتملت آية الكرسيّ على ما لم تشتمل عليه آية في أسماء اللّه و الإشاره إليه و ذلك لأنّها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم اللّه ظاهرا و مضمرا و هي: اللّه، هو الحيّ القيّوم و ضمير لا تأخذه و له و عنده، و بإذنه، و يعلم، و علمه، و شاء، و كرسيّه، و يؤوده، و ضمير «حفظ» المستتر الّذي هو فاعل المصدر، و هو العليّ العظيم. و يكفي في استحقاق هذه السيادة أنّ فيها «الحيّ القيّوم» و هو الاسم الأعظم كما ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند تذاكر الصحابة عن أفضل ما في القرآن فقال لهم أمير المؤمنين- و كان حاضرا- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

سيّد البشر آدم و سيّد العرب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لا فخر و سيّد الفرس سلمان و سيّد الحبشة بلال و سيّد الجبال الطور و سيّد الشجر السدر و سيّد الشهور الأشهر الحرم و سيّد الأيّام يوم الجمعة و سيّد الكلام القرآن و سيّد القرآن البقرة و سيّد البقرة آية الكرسيّ.

و عن أمير المؤمنين قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما قرئت هذه الآية في دار إلّا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما و لا يدخلها ساحر و لا ساحرة أربعين ليلة يا عليّ علّمها ولدك و أهلك و جيرانك فما نزلت آية أعظم منها. و عنه عليه السّلام قال: سمعت نبيّكم على أعواد المنبر و هو يقول: من قرأ آية الكرسيّ في دبر كلّ صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنّة إلّا الموت و لا يواظب عليها إلّا صدّيق أو عابد و من قرأها و هو أخذ في مضجعه أمنه على نفسه و جاره و جار جاره و الأبيات حوله.

و روي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: من قرأ آية الكرسيّ صرف عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا و ألف مكروه من مكاره الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر و أيسر مكروه الآخرة عذاب القبر (1) قال عليه السّلام: لكلّ شي ء ذروة و ذروة القرآن آية الكرسيّ. (2) عن محمّد بن ابيّ بن كعب عن أبيه أنّ أباه أخبره أنّه كان له جرن (3) فيه خضر فكان يتعاهده فوجده ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابّة تشبه الغلام المحتلم قال: فسلّم فرددت عليها السّلام و قلت: من أنت جنّ أم إنس؟ قالت جنّ، قلت: ناوليني يدك فناولتني يدها فإذا يد كلب فقلت: هكذا خلقة الجنّ؟ قالت: لقد علمت ما فيهم أشدّ منّي، قلت: ما حملك على

ص: 116


1- الفقيه باسناده إلى عمرو بن ابى المقدام عنه عليه السّلام.
2- العيّاشي عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام.
3- بالضم حجر منقور للماء و غيره.

ما صنعت؟ قالت: بلغني أنّك رجل تحبّ الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك فقال لها أبيّ:

فما الّذي يجيرنا منكم؟ قالت: آية الكرسيّ من قالها حين يصبح أجير منّا حتّى يمسي و من قالها حين يمسي أجير منّا حتّى يصبح، فلمّا أصبح أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبره فقال صلّى اللّه عليه و آله:

صدق الخبيث.

و حكي أنّ رجلا أتى شجرة فسمع فيها حركة فكلّم فلم يجب فقرأ آية الكرسيّ فنزل إليه شيطان فقال: إنّ لنا مريضا فبم نداويه: قال: بالّذي أنزلتني به من الشجرة. و خرج زيد بن ثابت إلى بستان له فسمع فيه جلبة فقال: ما هذا؟ قال: رجل من الجانّ أصابتنا السنة فأردنا أن نصيب من ثماركم أ فتطيبونها؟ قال نعم، فقال له زيد بن ثابت: ألا تخبرني ما الّذي يعيذنا منكم؟ قال: آية الكرسيّ. و بالجملة فقد جرّب المجرّبون أنّ لها تأثيرا عظيما في طرد الشيطان و عن المصروع و عن مطيعي الشياطين مثل أهل الشهوات و الطرب و أهل الظلم إذا قرئت عليهم بصدق كما في آكام المرجان في أحكام الجانّ.

[سورة البقرة (2): آية 256]

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ قيل: نزلت في رجل من الأنصار كان له غلام أسود يقال له «صبيح» و كان يكرهه على الإسلام. و قيل: نزلت في رجل يدعى أبا الحصين و كان له ابنان فتنصّرا و ذهبا إلى الشام فأخبر أبو الحصين رسول اللّه فنزلت الآية و كان هذا قبل أن يؤمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقتال أهل الكتاب. قال ابن عبّاس و ابن زيد: إنّها منسوخة بآية السيف. و قيل: نزلت في امرأة كانت مقلّة فيرضع أولاد اليهود و لمّا أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول اللّه أبناؤنا و إخواننا فنزلت الآية فقال صلّى اللّه عليه و آله:

خيّروا أصحابكم فإن خيّروكم فهم منكم و إن اختاروهم فأجلوهم.

المعنى: قيل: إنّ حكم الآية في أهل الكتاب خاصّة الّذين يؤخذ منهم الجزية.

و قيل: في جميع الكفّار ثمّ نسخ كما تقدّم ذكره أي لا إجبار في الدين بعد أن تبيّن و وضحت الحجّة لأنّ من حقّ العاقل أن لا يحتاج إلى الإلزام إلى أمر ينفعه بل يختار الدين الحقّ بعد وضوحه.

فقد [تَبَيَّنَ الرُّشْدُ] و هو لفظ جامع لكلّ خير و المراد من الرشد الإيمان الموصل إلى السعادة [مِنَ الْغَيِ أي الكفر و الجهل المؤدّي إلى الهلاك الأبديّ و زوال الجهل بالعلم

ص: 117

و زوال الغيّ بالرشد.

فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ و الطاغوت كلّ ما عبد من دون اللّه بما هو مذموم في نفسه و متمرّد كالإنس و الجنّ و الشياطين وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بالتوحيد و تصديق الرسل لأنّ الإيمان باللّه إذا كان حقيقة يستلزم الإيمان بشرائعه المعلومة، و تقديم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان باللّه لتقديم التخلية على التحلية فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى و بالغ في التمسّك بالحلقة الوكيدة و «الوثقى» تأنيث «الأوثق» مثل «فضلي» تأنيث «الأفضل».

لَا انْفِصامَ لَها و ليس لهذه العروة المحكمة و التمسّك بها انقطاع أبدا و لمّا كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وصفها اللّه «بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى استعارة المحسوس للمعقول وَ اللَّهُ سَمِيعٌ بالأقوال عَلِيمٌ (256) بالعقائد و الأعمال.

[سورة البقرة (2): آية 257]

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي محبّهم و ناصرهم أو متولّي أمورهم و مراعي مصالحهم الباقية- مثل أن أظهر الجميل و ستر القبيح- دينا و دنيا، و أوّل نصرته تعالى ستره على عبده أن جعل مقابح بدنه الّتي مستورة في باطنه مغطّاة بجمال ظاهره فكم بين باطن العبد و ظاهره من النظافة و القذارة فانظر ما الّذي أظهره و ما الّذي ستره؟ الثاني أن جعل مستقرّ خواطره المذمومة و إرادته القبيحة سرّ قلبه حتّى لا يطّلع أحد و لو انكشف للخلق ما يخطر بباله ممّا ينطوي عليه ضميره من الغشّ و الخيانة و الخبث في النيّات لمقتوه بل قتلوه؛ فانظر كيف ستر عن غيره أسراره. و الثالث مغفرة ذنوبه الّتي كان يستحقّ الافتضاح بها و لعلّ أن يبدّل سيّئاته بالحسنات إذا مات على التوبة.

يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ الّتي هي من الكفر و المعاصي و الشكوك إِلَى النُّورِ الّذي يعمّ الإيمان و نور اليقين، و جمع الظلمات لأنّ فنون الضلالة متعدّدة و الكفر ملل و إفراد النور لأنّ الإسلام دين واحد، و يسمّى الكفر ظلمة لالتباس طريقه و يسمّى الإسلام نورا لوضوح طريقه.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا و ثبتوا على كفرهم أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أي الشياطين و سائر المضلّين عن طريق الحقّ من قادة الشرّ و الكهنة و الأصنام؛ فإذا كانت الأصنام فالمعنى لا يكون على الموالاة الحقيقيّة الّتي معناه المصادقة بل المعنى أنّ عبدتها يتوجّهون إليها و أنّها

ص: 118

جمادات و الولاية واقعة منهم بالنسبة إليها «و الطاغوت» تذكّر و تؤنّث و توحّد و تجمّع.

يُخْرِجُونَهُمْ بالوسائس و غيرها بالإغواء و الضلالة مِنَ النُّورِ هو الإيمان الفطريّ الّذي جبلوا عليها إِلَى الظُّلُماتِ من الكفر و الانهماك في الشهوات و إسناد الإخراج إلى الطاغوت مجاز لكونها سببا له. إشارة إلى الموصول و ما يتبعه من القبائح و الكفر ملازمون النار ماكثون فيها أبدا.

[سورة البقرة (2): آية 258]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

. أي هل انتهت رؤيتك إلى من هذا صفته؟ و البيان بهذا الترتيب ليدلّ على بعد وقوع مثله على التعجّب منه [حَاجَّ إِبْراهِيمَ و جادل و خاصم إبراهيم [فِي رَبِّهِ في معارضة الربوبيّة، و الّذي حاجّ هو نمرود بن كنعان بن سام بن نوح و هو أوّل من وضع التاج على رأسه و تجبّر و ادّعى الربوبيّة [أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي لأن آتاه اللّه الملك فهو مفعول لقوله:

«حاجّ» و وضع المحاجّة موضع الشكر إذ كان من حقّه أن يشكر في مقابلة إيتاء الملك و قد عكس اللعين، أو المعنى أنّ إيتاء الملك حمله على ذلك و أورثه الكبر و البطر.

قال مجاهد: لم يملك الدنيا بأسرها إلّا أربعة: مسلمان و كافران؛ فالمسلمان: سليمان و و ذو القرنين إسكندر و الكافران: نمرود و بخت نصّر (1) و هو المسمّى بشدّاد بن عاد الّذي بنى إرم في بعض صحاري عدن و إنّما ملّكه اللّه امتحانا له و لعباده.

[إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف «لحاجّ» [رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ روي أنّه عليه السّلام لمّا كسر الأصنام سجنه ثمّ أخرجه ليحرقه فقال: من ربّك الّذي تدعونا إليه؟ قال: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ» أي يخلق الحياة و الممات في الأجساد، و جواب إبراهيم في غاية الصحّة لأنّه لا سبيل إلى معرفة اللّه إلّا بمعرفة صفاته و أفعاله الّتي لا يشاركه فيها أحد.

ص: 119


1- و به رواية في الخصال (1: 121) عن الصادق عليه السّلام.

[قالَ نمرود: [أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ روي أنّه دعا برجلين قد حبسهما فقتل أحدهما و أطلق الآخر فقال: أحييت هذا و أمتّ هذا فجعل ترك القتل إحياء و كان هذا تلبيسا منه.

[قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ جواب شرط مقدّر تقديره إذا ادّعيت الإحياء و الإماتة و أتيت بمعارضة مموّهة و لم تعلم معنى الإحياء فالحجّة أنّ اللّه [يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ أي إن كنت قادرا على مقدوراته إنّه تعالى يأتي بها من المشرق [فَأْتِ أنت [بِها مِنَ الْمَغْرِبِ و إنّما عدل عن الحجّة الأوّليّة مع أنّ نمرود ما أتى بحجّة صحيحة لأنّ إبراهيم أراد أن يأتي بحجّة لا يتمكّن نمرود من تدليس فيها بشبهة و تكون أوضح فعدل من حجّته الأوّليّة إلى ما هي أوضح لأنّ الأنبياء بعثوا للإيضاح و البيان.

[فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ] أي صار مبهوتا و متحيّرا مدهوشا، و في الآية إشعار بأنّ المحاجّة في دين الحقّ بعد كونه معلوما حقّا كفر [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الّذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب المخلّد بسبب إعراضهم عن الهداية و لم يقبلوها مع أنّ الأمر في غاية الوضوح فلا يهديهم طريق الجنّة في الآخرة بسبب كفرهم و جحودهم الحقّ في الدنيا.

و في تفسير ابن عبّاس أنّ نمرود لمّا عتا عتوّا كبيرا و ألقى إبراهيم في النار سلّط اللّه عليه بعوضة فعضّت شفته فأهوى إليها بيده ليأخذها فطارت في منخره فذهب ليستخرجها فطارت في دماغه فعذّبه اللّه بها أربعين ليلة ثمّ أهلكه.

و قيل: إنّ نمرود بعد هذه المحاجّة و إلقاء إبراهيم في النار سلّط اللّه على قومه البعوض فأكلت لحومهم و شربت دماءهم فلم يبق إلّا العظام، و النمرود كما هو و لم يصبه شي ء ثمّ بعث اللّه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق فعذّبه اللّه أربعمائة سنة كما ملك أربعمائة سنة و هو الّذي بنى صرحا إلى السماء ببابل «فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ» (1) و هو صاحب السهم الملطوخ.

ص: 120


1- النحل: 26

قوله: [سورة البقرة (2): آية 259]

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259)

. قوله: «أو» حرف عطف على الكلام الأوّل و هو قوله: «أَ لَمْ تَرَ» و تقديره: أ رأيت الّذي حاجّ إبراهيم؟ أو هل رأيت [كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ] و حاصل المعنى أنّك ما رأيت مثل الّذي مرّ على قرية و ينبغي أن تتعجّب فتعجّب منه، و المارّ هو عزير بن شرخيا و القرية بيت المقدس على الأشهر، و اشتقاقها من القرى و هو الجمع.

روي أنّ بني إسرائيل لمّا بالغوا في تعاطي الشرّ و الفساد سلّط اللّه عليهم بخت نصّر البابليّ فسار إليهم في ستّمائة ألف راية حتّى وطئ الشام و خرب بيت المقدس و جعل بني إسرائيل أثلاثا: ثلثا منهم قتلهم و ثلثا منهم أقرّهم بالشام و ثلثا منهم سباهم و كانوا مائة ألف غلام يافع و غير يافع فقسّمهم بين الملوك الّذين كانوا معه فأصاب كلّ ملك منهم أربع غلمة و كان عزير من جملتهم، فلمّا نجّاه اللّه منهم بعد حين مرّ بحماره على بيت المقدس فرآه على أفظع مرأى و أوحش منظر و ذلك قوله: [وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها] أي خالية عن أهلها و ساقطة على سقوفها، و العرش السقف و ما يستظلّ به أي على أبنيتها و حيطانها بأن سقطت العروش ثمّ الحيطان سقطت عليها، من خوت المرأة إذا خلا جوفها عند الولادة.

[قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها] أي كيف يعمر اللّه هذه القرية بعد خرابها و كيف يحيي اللّه أهلها بعد ما ماتوا و أطلق لفظ القرية و أراد أهلها و لم يقل ذلك إنكارا و ارتيابا بل أحبّ أن يريه اللّه إحياءها مشاهدة ليحصل له العلم ضرورة كما حصل له العلم دلالة و سأل مقصودة بحسن الطلب كقول إبراهيم: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (1) و لأنّ العلم الاستدلاليّ ربّما اعتورته الشبهة.

[فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ أي جعله ميّتا، روي أنّه لمّا دخل القرية نزل تحت ظلّ شجرة و هو على حمار فربط حماره و طاف في القرية و لم يربها أحدا و قال ما قال، و كانت أشجارها قد

ص: 121


1- السورة: 260.

أثمرت فتناول من فواكهها التين و العنب و شرب و نام فأماته اللّه في منامه و هو شابّ و كان معه من التين و العنب و عصير العنب شي ء.

[ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه [قالَ كَمْ لَبِثْتَ في التفسير أنّه سمع نداء من السماء «كم لبثت» يعني في منامك. و قيل: إنّ القائل ملك. و قيل: إنّ القائل نبيّ. و قيل: بعض المعمّرين من شاهده عند موته و إحيائه و «البعث» من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها.

[قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنّ اللّه أماته في أوّل النهار و أحياه بعد مائة سنة في آخر النهار فقال: يوما، ثمّ التفت فرأى بقيّة الشمس فقال: أو بعض يوم.

[قالَ السائل: [بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ أي مكثت في مكانك مائة عام [فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يغيّره السنون و الأعوام و إنّما قال: «لم يتسنّه» على الواحد لأنّه أراد به جنس الطعام و الشراب أو أراد به الشراب لأنّه أراد أقرب المذكورين إليه و كان زاده عصيرا و تينا و عنبا كما ذكرنا و هذه الثلاثة أسرع الأشياء تغيّرا و فسادا فوجد العصير حلوا و التين و العنب كما جنيتا لم يتغيّرا.

[وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تبدّد عظامه و تفرّق أجزاؤه و تمزّقت لتبيّن لك طول لبثك و تطمئنّ نفسك و إنّما قال له ذلك ليستدلّ بذلك على طول مماته [وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فعلنا ذلك لتكون حجّة للناس في البعث.

[وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها] و نرفعها و نحييها فنردّها إلى أماكنها من الجسد و نركب بعضها على بعض [ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً] و نسترها به كما يستر الجسد باللباس و وحّد «اللحم» و جمع «العظام» لأنّ العظام متعدّدة صورة و اللحم متّحد مشاهدة. روي أنّه سمع صوتا من السماء أيّتها العظام البالية المتفرّقة إنّ اللّه يأمرك أن ينظمّ بعضك إلى بعض كما كان و تكتسي لحما و جلدا ثمّ نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق.

[فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ إحياء الميّت عيانا [قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] لا يستعصي عليه أمر من الأمور.

روي أنّه ركب حماره و أتى محلّته و أنكره الناس و أنكر الناس و أنكر المنازل فانطلق على و هم منه حتّى أتى منزله فإذا هو بعجوزة عمياء مقعدة قد أدركت زمن عزير فقال لها

ص: 122

عزير: يا هذه هذا منزل عزير؟ قالت نعم و أين ذكرى عزير؟ و قد فقدناه منذ كذا و كذا فبكت بكاء شديدا، قال: فإنّي عزير، قالت: سبحان اللّه أنّى يكون ذلك؟ قال: قد أماتني اللّه مائة عام ثمّ بعثني قالت: إنّ عزيرا كان رجلا مستجاب الدعوة فادع اللّه أن يردّ بصري حتّى أراك فدعا ربّه و مسح بين عينيها فصحّتا فأخذ بيدها فقال: قومي بإذن اللّه فقامت صحيحة كأنّها نشطت من عقال فنظرت إليه فقالت: أشهد أنّك عزير فانطلقت إلى محلّة بني إسرائيل و هم في أنديتهم و كان في المجلس ابن لعزير قد بلغ مائة و ثماني عشرة و بنو بنيه شيوخ فنادت هذا عزير قد جاءكم فكذّبوها فقالت: انظروا إليّ فإنّي بدعائه رجعت إلى هذه الحالة فنهض الناس و أقبلوا عليه فقال ابنه: كان لأبي شامة (1) سوداء بين كتفيه مثل الهلال فكشف فإذا هو كذلك.

و قد كان بخت نصّر خرب بيت المقدس و قتل من قرّاء بيت المقدس للتوراة أربعين ألف رجل و لم يكن يومئذ بينهم نسخة من التوراة و لا أحد يعرف التوراة فقرأها عليهم من ظهر قلبه من غير أن يخرم منها حرفا.

فقال رجل من أولاد المسبيّين ممّن ورد بيت المقدس بعد مهلك بخت نصّر: حدّثني أبي عن جدّي أنّه دفن التوراة يوم سبينا في حابة في كرم (2) فإن أريتموني كرم جدّي أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جدّه ففتّشوه فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزير فما اختلفا في حرف واحد، فعند ذلك قالوا: عزير ابن اللّه، تعالى اللّه عن ذلك.

و في الآية ردّ على منكري حشر الأجساد فضلا من أنّ العقل يحكم بحشرها و أقرّوا بحشر الأرواح و قالوا: الأرواح كان تعلّقها بالأجساد لاستكمالها في عالم المحسوس كالصبيّ يبعث إلى المكتب ليتعلّم الأدب فلمّا حصل مقصوده من التعلّم بقدر استعداده و دخل محفل أهل الفضل و صاحبهم سنين كثيرة و استفاد منهم أنواع العلوم الّتي لم توجد في المكتب و صار فاضلا في العلوم فما حاجته بعد أن كبر شأنه إلى أن يرجع في المكتب و حالة صباه؟

قالوا: و كذا الأرواح لمّا خرجت من سجن الأجساد و الأشباح و اتّصلت المقدّسة

ص: 123


1- الشامة: الخال و هو بثرة سوداء في البدن حولها شعر.
2- أي في حوض في بستان عنب.

و استفادت من الأرواح العلويّة علم الكليّات الّتي لم توجد في عالم الحسّ فما حاجتها إلى أن ترجع إلى سجن الأجساد؛ فكانت بنو إسرائيل تسوّل نفوسهم لهم هذه التسويلات و شياطين الجنّ و الإنس يوسوسهم بمثل هذه الشبهات.

و هذه قياسات باطلة لأنّ بين المقيس و المقيس عليه فرق و بون بعيد، فاللّه سبحانه من فضله أمات عزيرا و حماره معه ثمّ أحياهم معا ليستدلّ به العقلاء على أنّ اللّه مهما أحيا عزير الروح يحيي و يبعث جسده أيضا بل جسد حماره.

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ عزيرا خرج من أهله و امرأته حامل و له خمسون سنة فأماته اللّه مائة سنة ثمّ بعثه و رجع إلى أهله و هو ابن خمسين سنة و له ابن و له مائة سنة و كان ذلك من آيات اللّه.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 260]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

. أي اذكر وقت قول إبراهيم، و استعلم بإخبارنا إيّاك هذه القصّة، و ذكر الوقت يوجب ذكر ما وقع في ذلك الوقت من الحوادث الواقعة و قوله «ربّ» كلمة استعطاف قدّمت بين الدعاء مبالغة في استدعاء الإجابة عيانا و شرّفه اللّه بعين اليقين و حقّ اليقين [قالَ ربّه: [أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ و السبب في سؤال إبراهيم هذا الأمر أنّ إبراهيم رأى جيفة تمزّقتها السباع و يأكل منها سباع الطير فسأل اللّه إبراهيم و قال: يا ربّ قد علمت أنّك تجمعها من بطون السباع و الطير فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. (1) و قيل وجه آخر في سبب السؤال و هو ما روي عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير أنّ الملك بشّر إبراهيم بأنّ اللّه قد اتّخذه خليلا و أنّه يجيب دعوته و يحيي الموتى بدعائه فسأل ذلك ليطمئنّ قلبه بأنّه قد أجاب دعوته و اتّخذه خليلا.

و قيل إنّ سبب السؤال منازعة نمرود إيّاه في الإحياء إذ قال: «أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ»

ص: 124


1- على بن ابراهيم عن أبيه عن ابن ابى عمير عن أيوب عن ابى بصير عن الصادق عليه السّلام. تفسيره: 81.

و أطلق محبوسا و قتل إنسانا فقال إبراهيم: ليس هذا بإحياء و قال: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ليعلم نمرود ذلك لأنّ نمرود يوعّده بالقتل إن لم يحي اللّه الميّت بحيث يشاهده فلذلك قال: «لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» عن توعّده إيّاي بالقتل بأن لا يقتلني جبّار، عن محمّد بن إسحاق بن يسار.

و رابع الأقوال أنّه عليه السّلام أحبّ أن يعلم ذلك علم عيان بعد أن كان عالما بالاستدلال لتزول دسائس الشيطان.

[قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي بلى أنا مؤمن و لكن سألت ذلك لأزداد يقينا على يقين [قالَ ربّه: إن أردت ذلك [فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ] طاوسا و ديكا و غرابا و حمامة و قيل: نسرا بدل الحمامة. و إنّما خصّ الطير لأنّه أقرب إلى الإنسان و أجمع لخواصّ الحيوان [فَصُرْهُنَ من صاره يصوره و بكسر الصاد من صاره يصيره و المعنى واحد أي أجمعهنّ و ضمّهنّ [إِلَيْكَ لتتأمّلها و تعرف أشكالها مفصّلة حتّى تعلم بعد الإحياء أنّ جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأوّل أصلا.

روي أنّه امر بأن يذبحها و ينتف ريشها و يفرّق أجزاءها و لحومها و يمسك رؤوسها ثمّ أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال و ذلك قوله تعالى: [ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ من الجبال الّتي بحضرتك و كانت سبعة أو أربعة فجزّأها أربعة أجزاء فقال تعالى: ضع على كلّ جبل [مِنْهُنَ أي من كلّ الطيور [جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَ قل لهنّ: تعالين بإذن اللّه تعالى [يَأْتِينَكَ سَعْياً] أي ساعيات مسرعات طيرانا أو مشيا ففعل كما أمره فجعل كنّ جزء يطير إلى آخر حتّى صارت جثثا فانضمّت كلّ جثّة إلى رأسها و عادت كلّ واحدة إلى ما كانت عليه من الهيئة و إبراهيم ينظر و يتعجّب [وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غالب على أمره ذو حكمة بالغة.

[سورة البقرة (2): آية 261]

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)

. مثل نفقات الّذين ينفقون في سبيل اللّه و في وجوه الخيرات، و المضاف و هو «نفقات» محذوف؛ لأنّ الّذين ينفقون لا يشبهون الحيّة و لا يشبه الحيوان بالجماد بل نفقاتهم تشبه

ص: 125

الحبّة [كَمَثَلِ حَبَّةٍ] لزراع زرعها في أرض عامرة و الحبّة واحدة الحبّ و هو ما يزرع للاقتيات و أكثر إطلاقه على البرّ [أَنْبَتَتْ أي أخرجت. و إسناد الإنبات إلى الحبّة مجاز [سَبْعَ سَنابِلَ أي تتشعّب من ساقات النابتة من تلك الحبّة سبع شعب لكلّ واحدة منها سنبلة [فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ] كما شوهد ذلك في الذرّة و الدخن في الأراضي المغلّة بل أكثر من ذلك.

[وَ اللَّهُ يُضاعِفُ و يزيد على ذلك [لِمَنْ يَشاءُ] بحسب حال المنفق من إخلاصه و تعبه [وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ لا يضيق عليه ما يتفضّل به، و الآية عامّة في النفقة و الإنفاق في جميع أنواع الخير و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام (1). و قيل: هي في الآية خاصّة بالإنفاق في الجهاد فأمّا غيره من الوجوه فإنّما بالواحد عشرة. و عليم بنيّة المنفق.

في الحديث: صدقة المؤمن تدفع عن صاحبها آفات الدنيا و فتنة القبر و عذاب يوم القيامة.

و في الحديث السخاوة شجرة أصلها في الجنّة و أغصانها متدلّيات في دار الدنيا فمن تعلّق بغصن منها يسوقه إلى الجنّة، و البخل شجرة أصلها في النار و أغصانها متدلّيات في دار الدنيا فمن تعلّق بغصن منها يسوقه إلى النار. و في الحديث: الساعي على الأرملة و المسكين كالمجاهد في سبيل اللّه.

و ينبغي للمؤمن أن يزكّي عمله و نفسه و يخلص نيّته إذا أراد أن يفعل خيرا؛ لأنّ نيّة المؤمن خير من عمله، و فسّر بعض معنى الحديث بأنّ مورده أنّ بعض الصحابة سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه وعد بثواب عظيم على حفر بئر فنوى ذلك الصحابيّ بحفرها فسبق إليه كافر فحفرها قال صلّى اللّه عليه و آله: نيّة المؤمن خير من علمه أي من عمل الكافر. و قيل: معناه إنّ النيّة المجرّدة من المؤمن خير من عمله المجرّدة عن النيّة. و قيل: السبب في أنّ النيّة من المؤمن خير من عمله لأنّ النيّة في الغالب لا يشوبها رياء بخلاف العمل. و قيل: غير ذلك في معناه.

[سورة البقرة (2): آية 262]

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

. أي الّذين يضعون أموالهم في مواضعها [ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا] العائد محذوف

ص: 126


1- المحاسن و الشيخ و العيّاشي بأسانيدهم عنه عليه السّلام. البرهان.

أي ما أنفقوه و لا يمنّون عليهم بما تصدّقوا [وَ لا أَذىً و هو أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه مثل أن يقول له: إنّي أعطيتك فما شكرتني، أو يقول له: كم تسأل ألا تستحيي و تجيئني دائما بالإبرام باعد اللّه بيني و بينك، و أمثال هذه الكلمات.

[لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ثوابهم في الآخرة عند اللّه مذخور، و تخلية الخبر عن الفاء المفيدة للسببيّة لوضوح معنى السببيّة في سياق الآية [وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب [وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوت الأجر و نقصانه. و في الآية دلالة على أنّه يصحّ الوعد بشرط؛ لأنّه وعد بشرط عدم المنّ و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: المنّان بما يعطي لا يكلّمه اللّه و لا ينظر إليه و لا يزكّيه و له عذاب أليم.

[سورة البقرة (2): آية 263]

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

. أي كلام حسن جميل يردّ به السائل و قيل: دعاء صالح مثل أن يقول: أغناك اللّه عن المسألة و أوسع اللّه عليك الرزق [وَ مَغْفِرَةٌ] أي ستر لما وقع من السائل من الإلحاف في المسألة و صفح عنه. و قيل: معنى «و مغفرة» المراد عفو السائل عن ظلم الّذي ظلم المسؤول بأن سأل في غير وقته أو أساء الأدب في سؤاله و لجّ و ألحف أو يدخل الدار بغير إذن المسؤول فالعفو عن ظلمه خير من أن يتصدّق عليه و يؤذيه بخشونة الكلام. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ من كلامه ثمّ ردّوا عليه وقار و لين إمّا بذل يسير أو ردّ جميل فإنّه قد يأتيكم من ليس بإنس و لا جانّ ينظر كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللّه.

[وَ اللَّهُ غَنِيٌ عمّا عندكم برزق الفقراء من جهة اخرى [حَلِيمٌ لا يعاجل أصحاب المنّ و الأذى بالعقوبة.

قال الشعبيّ: من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته. و ليتحرّز المنفق من الرياء فإنّه يذهب بثواب الإنفاق و قيل: إنّ الرياء في الصدقة يوجب أن ينقلب حيّة فإذا وضع في قبره يؤلم إيلام الحيّة كما أنّ البخل ينقلب بصورة العقرب و يؤذيه في القبر و لو أنّ الدنيا بأسرها لرجل واحد و أنفقها ساعة واحدة في سبيل

ص: 127

لا يكون إنفاقه بالنسبة إلى ما يعوّض عنه إلّا قلّ من ذرّة من تراب الأرض أو قطرة من بحار الدنيا.

حكي عن بعض الملوك أنّه حبست الريح في بطنه حتّى قرب إلى الهلاك فقال:

كلّ من يزيل عنّي هذا البلاء أعطيته ملكي فسمعه شخص من أهل اللّه فجاء و مسح يده على بطنه فخرجت منه ريح منتنة و تعافى الملك من ساعته فقال: يا سيّدي اجلس على سرير الملك أنا عزلت نفسي و عليّ شرطي فقال الرجل: لا حاجة لي إلى متاع قيمته ضرطة منتنة و لكن أنت اتّعظ من هذا فالشي ء الّذي اغتررت به قيمته هذا.

قال أمير المؤمنين سيّد الأولياء عليه السّلام: ألا و إنّ دنياكم هذه عندي كعفطة عنز.

و عن الحسن قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم على أصحابه فقال: هل منكم من يريد أن يذهب اللّه عنه العمى و يجعله بصيرا ألا إنّه من رغب في الدنيا و طال أمله فيها أعمى اللّه قلبه على قدر ذلك و من زهد في الدنيا و قصّر أمله أعطاه اللّه علما بغير تعلّم و هدى بغير هداية ألا إنّه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلّا بالقتل و التجبّر و لا الغنى إلّا بالبخل و لا المحبّة إلّا باتّباع الهوى ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر للفقر و هو يقدر على الغنى و صبر على البغضاء و هو يقدر على المحبّة و صبر على الذلّ و هو يقدر على العزّ لا يريد بذلك إلّا وجه اللّه أعطاه اللّه ثواب خمسين صدّيقا انتهى.

[سورة البقرة (2): آية 264]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)

. قد سبق معنى «المنّ» «و الأذى» و المراد أن لا تحبطوا أجر صدقاتكم بسبب المنّ و الأذى [كَالَّذِي المراد المنافق لأنّ الكافر غير مراء أي كإبطال المنافق الّذي ينفق لأجل أمر من الأمور الدنيا لا لأجل الدين مثل أن يقال: منفق أو يقال له: كريم [وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] و لا يريد بإنفاقه رضى اللّه و لا ثواب الآخرة و رئاء من رأى نحو قاتل قتالا.

ص: 128

[فَمَثَلُهُ أي حالته العجيبة [كَمَثَلِ صَفْوانٍ حجر صاف أملس و هو واحد و جمع فمن جعله جمعا فواحده صفوانة و من جعله واحدا فجمعه صفيّ [عَلَيْهِ تُرابٌ أي شي ء يسير منه [فَأَصابَهُ وابِلٌ مطر شديد الوقع كبير القطر [فَتَرَكَهُ صَلْداً] أملس ليس عليه تراب و غبار [لا يَقْدِرُونَ كأنّه قيل: فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل: «لا يَقْدِرُونَ» [عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا] و لا ينتفعون بما فعلوا أي حال المرائي كحال هذه الزارع، على الصفوان لا يجد له ثوابا قطعا، فإن قلت: كيف أتى بلفظ الجمع بعد قوله: «كَالَّذِي يُنْفِقُ»؟ فالمراد بقوله: «كالّذي» الجنس و الفريق الّذي ينفق فالجمع باعتبار المعنى. و روى ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة نادى مناد يسمع الجمع أين الّذين كانوا يعبدون الناس قوموا خذوا أحوركم ممّن عملتم له فإنّي لا أقبل عملا خالطه شي ء من الدنيا و أهلها.

[وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى الخير و الرشاد و بالجملة تخليص العمل و الصدقة عن الرياء أمر صعب جدّا و لذا بالغ السلف في إخفاء صدقتهم عن أعين الناس حتّى كان يطلب بعضهم فقيرا أعمى لئلّا يعلم أحد من المتصدّق، و بعضهم كان في ثوب الفقير نائما و بعضهم يلقي الصدقة في طريق الفقير ليأخذها كما أنّ الملامتيّه كانوا يظهرون أمورا غير مشروعة حتّى يتّهمون فيخلصون من الرياء في العبادة لكن طريق الملامتيّه غير حسن أيضا و المؤمن ينبغي أن يجاهد في تخليص عمله من الرياء بطريق المشروع حتّى تكون مجاهدته في هذا الأمر سببا لكثرة ثوابه.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: يا رسول اللّه و ما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء يقول اللّه لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الّذين كنتم تراؤون لهم فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ و في الحديث إذا كان يوم القيامة و يكون القضاء بينهم و كلّ امّة جاثية فأوّل من يدعى به رجل جمع القرآن و رجل قتل في سبيل اللّه و رجل كثير المال بذول.

فيقول اللّه للقارئ: أ لم اعلّمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا ربّ قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقرأ آناء الليل و أطراف النهار فيقول اللّه: كذبت و تقول

ص: 129

الملائكة: كذبت، فيقول اللّه: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل.

و يؤتي بالّذي قتل في سبيل اللّه فيقول له: في ما ذا قتلت؟ فيقول: يا ربّ أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتّى قتلت فيقول اللّه: كذبت و تقول الملائكة: كذبت، فيقول اللّه: أردت أن يقال: فلان جري ء شجاع فقد قيل ذلك.

ثمّ يؤتى بصاحب المال فيقول اللّه له: ألم اوسّع عليك حتّى لم أدعك تحتاج إلى أحد قال: بلى يا ربّ قال: فماذا عملت فيما آتيتك، قال: كنت أصل الرحم و أتصدّق فيقول اللّه: كذبت و تقول الملائكة: كذبت فيقول اللّه: أردت أن يقال: فلان جواد و قد قيل ذلك.

ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أولئك الثلاثة أوّل خلق اللّه تسعّر بهم النار يوم القيامة (1).

[سورة البقرة (2): آية 265]

وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

. [وَ مَثَلُ نفقات [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ لطلب رضاه و يصرفونها في أعمال البرّ [وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ و جعلوا أنفسهم ثابتا على الإيمان و الطاعة ليزول بهذا التثبيت عن النفس رذيلة البخل و حبّ المال و الإمسال فإنّ النفس و إن كانت مجبولة على حبّ المال و استثقال الطاعات البدنيّة إلّا أنّها ما عوّدتها تتعوّد.

قال صاحب البردة:

و النفس كالطفل إن تهمله شبّ على حبّ الرضاع و إن تفطمه ينفطم

فمتى أهملتها فقد تمرّنت و اعتادت الكسل و البطالة و حيث كلّفتها و حملتها على مشاقّ العبادات البدنيّة و الماليّة تنقاد لك و تتزكّى عن عاداتها الجبلّيّة.

و قيل: معنى «تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ» أي يثبّتون أين يضعون صدقاتهم و التثبيت هنا هو التثبّت لأنّهم إذا ثبتوا أنفسهم فقد تثبّتوا و من في قوله: «مِنْ أَنْفُسِهِمْ» تبعيضيّة كقولهم: حرّك من نشاطه.

ص: 130


1- و انظر الأصول من الكافي (2: 293- 297).

فإن قلت: كيف يكون المال بعضا من النفس حتّى يكون الطاعة ببذله طاعة لبعض النفس و تثبيتا لها على الثمرة الإيمانيّة. فالجواب أنّ النفس لشدّة تعلّقها بالمال كأنّه بعض منها فالمال شقيق الروح؛ فمن بذل ماله لوجه اللّه فقد ثبّت بعض نفسه و من بذل ماله و روحه فقد ثبّتها كلّها و يجوز أن يكون التثبيت بمعناه أي جعل الشي ء محقّقا ثابتا فيكون «من» لابتداء الغاية كقوله: «حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» (1).

[كَمَثَلِ جَنَّةٍ] بستان كائن [بِرَبْوَةٍ] مكان مرتفع مأمون من فساد الهواء فإنّ أشجار الربى تكون أحسن منظرا و أزكى ثمرا و أمّا الأرض المنخفضة فقلّما تسلم ثمارها لكثافة هوائها بركود الريح.

و قيل: المراد من «الربوة» الأرض الليّنة الجيّدة بحيث إذا نزل المطر عليها ربت و نمت و انتفخت فإنّ الأرض إذا كانت بهذه الصفة يكثر ريعها و تكمل أشجارها، و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: «وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ» (2) و المراد من ربوها ما ذكر [أَصابَها وابِلٌ و وصل إليها مطر كبير القطر شديد الوقع [فَآتَتْ أي أعطت صاحبها [أُكُلَها] غلّتها و ثمرتها و هو بضمّتين الشي ء المأكول [ضِعْفَيْنِ أي مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات و حملت في سنة ما يحمل غيرها في سنتين [فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ أي المطر الصغير القطر يكفيها لجودتها و كرم منبتها، و الطلّ إذا دام عمل عمل الوابل. و جاز الابتداء بالنكرة لوقوعها في جواب الشرط و هو من جملة المسوّغات للابتداء بالنكرة مثل قولهم: إن ذهب العير فعير في الرباط.

و حاصل المعنى تشبيه نفقات المنفقين في سبيله بشروطها زاكية عند اللّه لا تضيع بحال و التشبيه من قبيل تشبيه المفرّق بأن يشبّه زلفاهم من اللّه بثمرة البستان و شبّه نفقتهم الكثيرة و القليلة بالقويّ من المطر و الضعيف منه من حيث إنّ كلّ واحد منهما سبب للزيادة لأنّ النفقتين تزيدان حسن حالهم كما أنّ المطرين يزيدان ثمر البستان و تختلف الزيادة.

[وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] من عمل الإخلاص و غيره؛ من يزرع الثوم لم يحصده ريحانا.

ص: 131


1- السورة: 109.
2- الحج: 5.

و عن أمير المؤمنين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ الصدقة إذا خرجت من يد صاحبها قبل أن يدخل في يد السائل تتكلّم بخمس كلمات أوّلها تقول: كنت قليلة فكثّرتني و كنت صغيرة فكبّرتني و كنت عدوّا فأحببتني و كنت فانيا فأبقيتني و كنت محروسا فالآن صرت حارسك.

قال مكحول الشاميّ: إذا تصدّق المؤمن بصدقة رضي اللّه عنه فنادت جهنّم يا ربّ ائذن لي بالسجود شكرا لك قد أعتقت واحدا من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله من عذابي لأنّي أستحيي من محمّد صلّى اللّه عليه و آله أن اعذّب من امّته أحدا و لا بدّ لي من طاعتك.

قيل: و لفظ الصدقة أربعه أحرف و كلّ منها إشارة إلى معنى أمّا الصاد فالصدّ أي الصدقة تصدّ و تمنع عن صاحبها مكروه الدنيا و الآخرة، و أمّا الدال فالدليل لأنّها تدلّ صاحبها إلى الجنّة، و أمّا القاف فقربة إلى اللّه، و أمّا الهاء فهداية اللّه؛ فمن ساعده المال فلينفق في سبيل اللّه و لا يقطع رجاء أحد. و في الحديث من قطع رجاء من التجأ إليه قطع اللّه رجاءه.

حكي أنّ بعض العلماء لمّا رأى هذا الحديث بكى بكاء شديدا و تحيّر في رعاية فحواه فقام و ذهب إلى واحد من الصلحاء ليستفسر معنى الحديث و يدفع شبهته فلمّا دخل عليه رأى ذلك الرجل الصالح يأخذ بيده خبزا و يؤكله الكلب من يده فسلّم عليه فردّ عليه السّلام و لم يقم له كما كان يفعله قبل فلمّا أكل الكلب الخبز بالتمام قام له و لاطفه و قال معتذرا:

اقبل العذر منّي حيث لم أقم امتثالا لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قطع رجاء، الحديث» و هذا الكلب رجا منّي أكل الخبز و لم أقم خشية أن أقطع رجاءه فلمّا سمع هذا الكلام زاد تحيّرا و لم يستفسر و تعجّب من كرامته.

قوله: [سورة البقرة (2): آية 266]

أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

. الهمزة لإنكار الوقوع أي ما كان ينبغي أن يودّ رجل منكم [أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ] كائنة [مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ و المراد من الجنّة البستان و الأرض المشتملة على الأشجار الملتفّة و تحري الأنهار من تحت الأشجار [لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الظرف الأوّل خبر و الثاني حال و الثالث صفة للمبتدأ قائمة مقامه أي له رزق من كلّ الثمرات.

ص: 132

[وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ] و الحال أنّه قد أصابه كبر السنّ الّذي هو مظنّة شدّة الحاجة إلى منافعها [وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ] أي مع الكبر يكون له ذرّيّة صغار لا يقدرون على الكسب [فَأَصابَها] أي تلك الجنّة [إِعْصارٌ] أي ريح عاصفة تستدير في الأرض ثمّ تنعكس منها ساطعة إلى السماء على هيئة العمود و هي تهبّ من الأرض نحو السماء مثل العمود [فِيهِ نارٌ] أي يكون في ذلك الإعصار نار [فَاحْتَرَقَتْ تلك الجنّة فصارت نعمها إلى الذهاب و أصلها إلى الخراب فبقي الرجل متحيّرا لا قوّة له أن يغرس مثلها و لا خير في ذرّيّته من الإعانة لكونهم ضعفاء عاجزين، و هذا تمثيل لحال من يفعل الأفعال الحسنة و يضمّ إليها ما يحبطها مثل الرباء و من لم يكن له في الآخرة عمل صالح يوصله إلى الجنّة فحسرته مثل صاحب الجنّة محترقة.

[كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح الّذي بيّن فيما مرّ مثل قصّة عزير و إبراهيم و الجهاد و الإنفاق في سبيل اللّه [يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ و الدلالات تحقيق التوحيد و الدين.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا أبا ذر جدّد السفينة فإنّ البحر عميق، و أكثر الزاد فإنّ السفر بعيد و أقلّ من الحمولة فإنّ الطريق مخوف، و أخلص العمل فإنّ الناقد بصير.

و المراد من تجديد السفينة تكرير التوحيد و المعرفة باللّه و من البحر هو جهنّم.

و الحاصل من الآية التحرّز عن الرياء [لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ كي تتفكّروا فيها و تعتبروا بها.

[سورة البقرة (2): آية 267]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

. [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا] من جياد ما حصّلتم و كسبتم لقوله: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (1) قال صاحب الكشّاف: إنّما فسّر الطيّب بالجيّد لأنّ الحلال استفيد من الأمر فإنّ الإنفاق بالحرام لا يؤمر به و لأنّ قوله بعده: «وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ» و الخبيث هو الردي ء المستخبث [وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي و من طيّبات

ص: 133


1- ال عمران: 92.

ما أخرجنا لكم من الحبوب و الثمار و المعادن.

[وَ لا تَيَمَّمُوا] أي لا تقصدوا [الْخَبِيثَ الردي ء نقيض الطيّب فالطيّب الحلال و الخبيث الحرام و الطيّب الطاهر و الخبيث النجس و الطيّب ما يستطيبه النفس و الطبع و الخبيث ما تستخبثه و تستكرهه [مِنْهُ تُنْفِقُونَ و الضمير راجع إلى الخبيث و التقديم للتخصيص و الجملة حال من فاعل «تيمّموا» قال ابن عبّاس: كانوا يتصدّقون بحشف التمر و شراره فنهوا عنه.

[وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أي و الحال أنّكم لا تأخذون الخبيث و الردي ء في معاملتكم بوجه من الوجوه [إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أي إلّا وقت إغماضكم مثل أن كان لكم حقّ على رجل فجاء بردي ء ماله بدل حقّكم الطيّب و تقبلونه بحكم التساهل مخافة فوت حقّكم و حاصل المعنى: لا تتصدّقوا بما لا تأخذونه من غيركم لكم إلّا بالمساهلة و المسامحة.

[وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] و هو تعالى مستغن عن صدقاتكم و إنّما يأمركم بالإنفاق لمنفعتكم، مستحقّ للحمد على نعمه العظام، و معلوم أنّ المتصدّق كالزارع و الزارع لا بدّ و أن يبالغ في جودة البذر لجودة الثمرة فكذلك المتصدّق و أنّه تعالى «إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» (1) كما قال: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (2) قال رسول اللّه: إنّ أطيب ما أكله الرجل من كسبه و أطيب الصدقات ما كانت من عمل اليد بقنطار.

روي أنّ رسول اللّه حثّ أصحابه على الصدقة فجعل الناس يتصدّقون و كان أبو أمامة الباهليّ جالسا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يحرّك شفتيه فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك تحرّك شفتيك فماذا تقول؟ قال: إنّي أرى الناس يتصدّقون و ليس معي شي ء أتصدّق به فأقول في نفسي:

«سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر» فقال: هؤلاء الكلمات خير لك من مدّ ذهبا تتصدّق به على المساكين. و جلس الإسكندر يوما مجلسا عامّا فلم يسأل فيه حاجة فقال: و اللّه ما أعدّ هذا اليوم من ملكي قيل: و لم أيّها الملك؟ قال: لأنّه لا يوجد لذّة الملك إلّا بإسعاف الراغبين و إغاثة الملهوفين و مكافأة المحسنين.

ص: 134


1- النساء: 39.
2- الرحمن: 60.

[سورة البقرة (2): آية 268]

الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)

. ثمّ حذّر سبحانه من الشيطان المانع من الصدقة فقال: [الشَّيْطانُ يخوّفكم بالفقر و يقول: أمسك مالك فإنّك إذا تصدّقت به افتقرت «و الوعد» هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر و يستعمل في الشرّ و الخير قال اللّه: «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» (1) [وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ] و يغريكم على للخصلة السيّئة و على البخل و منع الصدقات، و العرب تسمّي البخل فاحشا.

[وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ في الإنفاق [مَغْفِرَةً] كائنة لذنوبكم [مِنْهُ عزّ و جلّ [وَ فَضْلًا] أي خلفا ممّا أنفقتم زائدا عليه في الدنيا و ثوابا للعقبى [وَ اللَّهُ واسِعٌ قدره و فضله [عَلِيمٌ مبالغ في العلم.

[سورة البقرة (2): آية 269]

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)

. أي [يُؤْتِي اللّه [الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ] قيل: المراد من «الحكمة» علم القرآن ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه و حلاله و حرامه و مقدّمه و مؤخّره عن ابن عبّاس و ابن مسعود. و قيل: المراد الإصابة في القول و الفصل أي العلم و العمل. و قيل: هو النبوّة. و قيل:

هو المعرفة باللّه. و قيل: المراد خشية اللّه.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: آتاني اللّه القرآن و آتاني من الحكمة مثل القرآن و ما من بيت ليس فيه شي ء من الحكمة إلّا كان خرابا ألا فتفقّهوا و تعلّموا فلا تموتوا جهّالا.

[وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ] أي العلم و العمل [فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] لأنّه خير له و جمع خير الدارين [وَ ما يَذَّكَّرُ] و يتّعظ من الحكمة [إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ و أهل العقول الخالصة من شوائب النفس و الهوى؛ لأنّ من لا يغلب عقله على هواه لا ينتفع به فكأنّه لا عقل له و لذا قيل: إنّ من اعطي علم القرآن ينبغي أن لا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم لأنّ ما أعطيه خير كثير و الدنيا متاع قليل قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: القرآن غنى لا غنى بعده. و سمّي العقل «لبّا»

ص: 135


1- الحج: 72.

لأنّه أنفس ما في الإنسان كما أنّ لبّ الثمرة أنفس ما فيها.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 270]

وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)

. أي أيّ نفقة كانت في حقّ أو باطل في سرّ أو علانية قليلة أو كثيرة [أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ] أيّ نذر كان في طاعة أو معصية «و النذر» عقد الضمير على شي ء و التزامه و هو في الشرع التزام برّ و خير و لا يقع في أمر غير مشروع [فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ و الضمير راجع إلى «ما» فإنّ اللّه يجازيكم عليه إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ؛ فهو ترغيب و ترهيب و وعد وعيد [وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ] و أعوان ينصرونهم من بأس اللّه و عقابه، و إيراد صيغة الجمع لمقابلة «الظالمين» أي و ما للظالم من الظالمين من نصير من الأنصار.

[سورة البقرة (2): آية 271]

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

. أي إن تظهروا الصدقات فنعم شي ء إبداؤها بعد أن لم يكن رياء و سمعة، و هذا في الصدقات المفروضة و أمّا في الصدقات المتطوّعة فالإخفاء أفضل و هي الّتي أريد بقوله: [وَ إِنْ تُخْفُوها] أي تعطوها خفية [وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ] و لعلّ التصريح بإيتائها الفقراء مع أنّه واجب في الإبداء أيضا لما أنّ الإخفاء مظنّة الالتباس و الاشتباه فإنّ الغنيّ ربّما يدّعي الفقر في صدقة السرّ و يقدم على أخذه لكن لا يفعل ذلك عند الإبداء في الناس [فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فالإخفاء خير لكم من الإبداء، و كلّ متقبّل إذا صلحت النيّة و هذا في التطوّع و أمّا في الواجب فبالعكس ليقتد به بشرط أن لم يكن القصد رياء كالصلاة الواجبة في الجماعة أفضل و النافلة في البيت، و لنفي التهمة و سوء الظن حتّى إذا كان المزكّي ممّن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل خوف الظلمة و الطمعة. قال ابن عبّاس و جماعة: صدقة السرّ في التطوّع تفضل علانيتها سبعين ضعفا و صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة و عشرين ضعفا. و قيل: الإخفاء في كلّ صدقة أفضل من إبدائها.

[وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ و دخلت «من» للتبعيض، قيل: المراد الصغائر من الذنوب. و قال الأخفس: إنّ «من» زائدة في الآية و قد يقال: كل من طعامي و خذ من مالي

ص: 136

ما شئت؛ فيكون للتعميم. و قرئ بالنون في الآية «نكفّر عنكم من سيّئاتكم» «و فَنِعِمَّا هِيَ» في الآية تقديره فنعم الشي ء و نعم الأمر إبداء الصدقة و «ما» نكرة و كلمة «هي» يفسّر الفاعل المضمر في نعم و «الإبداء» هو المخصوص بالمدح فحذف المضاف الّذي هو الإبداء و أقيمت هي مقام المضاف و حذف لدلالة قوله: «وَ إِنْ تُخْفُوها» على المحذوف و لدلالة الفعل المتقدّم و هو «تبدوا» على مصدره و هو الإبداء.

و بالجملة فعلى قول الأخفش معنى الآية: يكفّر عنكم جميع ذنوبكم، و القول الأوّل أقوى و أحكم. و بعضهم كانوا يبالغون في إخفاء الصدقة المندوبة جدّا حتّى كان يشدّها في ثوب الفقير و هو نائم لقوله صلّى اللّه عليه و آله: أفضل الصدقة جهد المقلّ إلى فقير في سرّ.

قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ العبد يعمل عملا في السرّ فيكتبه اللّه سرّا فإن أظهره نقل من السرّ و كتب في العلانية فإن تحدّث به نقل من السرّ و العلانية و كتب في الرياء. و في الحديث:

صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ و تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار و يدفع سبعين بابا من البلاء. و قال صلّى اللّه عليه و آله: سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّة: الإمام العدل و الشابّ الّذي نشأ في العبادة و رجل قلبه متعلّق بالمسجد حتّى يعود إليه و رجلان تحابّا في اللّه و اجتمعا عليه و و تفرّقا عليه و رجل دعته امرأة ذات منصب و جمال فقال: إنّي أخاف اللّه، و رجل يصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لم يعلم يمينه ما ينفق شماله و رجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه.

[وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] عالم بأعمالكم في صدقاتكم و غيرها.

[سورة البقرة (2): آية 272]

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)

. نزلت الآية، كان المسلمون يمتنعون عن الصدقة على غير أهل دينهم فنزلت الآية، و قيل:

نزلت في أسماء بنت أبي بكر كانت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عمرة القضاء فجاءتها امّها فتيلة و جدّتها تسألانها و هما مشركتان فقالت: لا أعطيكم شيئا حتّى أستأمر رسول اللّه فإنّكما لستما على ديني فأنزل اللّه هذه الآية، عن الكلبيّ.

أي لا يجب عليك يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله أن تجعلهم مهديّين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن

ص: 137

و الانتهاء عمّا نهوا عنه من القبائح و إنّما الواجب عليك الإرشاد. و قيل: إنّ معناه: [لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ بمنع الصدقة عنهم لتحملهم به على الإيمان، و على هذا المعنى فصدقة التطوّع جائزة للكفّار. و قيل: معناه: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ» بالحمل على النفقة في وجوه البرّ و سبل الخير.

[وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ] إنّما علّق الهداية بالمشيّة لمن كان المعلوم منه أنّه يصلح باللطف أي بلطف اللّه بزيادة التوفيق بحسن اختياره و طلبه، و قبل الطاعة فشاء هدايته عن الزجّاج و البلخيّ و أكثر أهل العلم. و قيل: معناه إلى طريق الجنّة.

[وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ خيره و ثوابه و الغرض الترغيب في الإنفاق و المنفعة في الإنفاق ترجع إلى العبد المنفق [وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ «ما» نافية و هذا إخبار من اللّه عن صفة إنفاق المخلصين للّه بأنّهم لا ينفقون ما ينفقون إلّا لمرضاة اللّه. و قيل: معنى الآية النّهي و إن كان ظاهره الخبر أي لا تنفقوا إلّا ليرضى اللّه. و ذكر لفظ «الوجه» لإزالة الشركة.

[وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوفّر عليكم جزاؤه و التوفية إكمال الشي ء و تضمّنت معنى التأدية أي تعطون جزاءه وافرا وافيا [وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بثوابه بنقص أو منع.

[سورة البقرة (2): آية 273]

لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

. العامل في الظرف محذوف أي الإنفاق للفقراء. قال أبو جعفر عليه السّلام: نزلت الآية في أصحاب الصفّة و هم نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة يأوون إليها يجعلون أنفسهم في المسجد قالوا: نخرج في كلّ سريّة بعثها رسول اللّه فحثّ الناس لهم بالصدقة فقال:

[لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و حبسوا أنفسهم لطاعة اللّه و منعوا أنفسهم للمعاش و الكسب للإقبال على العبادة أو للفقر أو لإلزام أنفسهم الجهاد في سبيل اللّه فلا يقع

ص: 138

منهم التصرّف لغيره [لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي ذهبا فيها و سيرا في البلاد [يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بشأنهم و يظنّ أنّهم [أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ من أجل عفّتهم عن السؤال [تَعْرِفُهُمْ أي تعرف اضطرارهم و فقرهم [بِسِيماهُمْ أي بما تعاين منهم من الضعف و رثاثة الحال و السيما و السيمياء العلامة الّتي تعرف بها الشي ء.

[لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً] مفعول له ففيه نفي السؤال و الإلحاف جميعا لا أنّهم يسألون و لكن من غير إلحاف بل لا يسألون الناس أصلا فيكون إلحافا، و الإلحاف الإلزام و الإلحاح و هو أن يلازم السائل المسؤول حتّى يعطيه.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحرفة حطب على ظهره فيكفّ بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّ اللّه يحبّ الحييّ الحليم المتعفّف و يبغض البذي ء السائل الملحف.

[وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بذلك أحسن جزاء.

ثمّ زاد سبحانه في التحريص على الإنفاق بقوله:

[سورة البقرة (2): آية 274]

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

. النزول: قال ابن عبّاس: نزلت الآية في عليّ كانت معه أربعة دراهم فتصدّق بواحد نهارا و بواحد ليلا و بواحد سرّا و بواحد علانية و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه و أبي جعفر عليهما السّلام و قيل: هي عامّة في كلّ من أنفق ماله في طاعة اللّه على هذه الصفة و لا ينافي أن تكون الآية نازلة في عليّ و حكمها سائر في كلّ من فعل مثل فعله و له فضل السبق.

بيّن سبحانه كيفيّة الإنفاق و ثوابه فقال.

[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في هذه الحالات أي على الدوام [فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أتى بالفاء ليدلّ على أنّ الجزاء إنّما هو من أجل الإنفاق في طاعة اللّه و لا يجوز «زيد فله درهم» لأنّه ليس فيه معنى الجزاء [وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من أهوال القيامة [وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ فيها و قيل: المعنى: لا خوف عليهم من فوت الأجر و نقصانه و لا هم يحزنون على ذلك.

ص: 139

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 275]

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275)

. أصل «الربا» الزيادة ربا الشي ء إذا زاد و الربا هو الزيادة على رأس المال. لمّا حثّ اللّه على الإنفاق عقّبه بذكر الربا الّذي ظنّه الجاهل زيادة في المال و هو يمحق المال [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا] أي يأخذونه و عبّر عنه بالأكل لأنّه معظم المقصود من المال، و الربا فضل في الكيل و الوزن خال عن العوض و كتب بالواو تنبيها على أصله لأنّه من ربا يربو، زيدت الألف تشبيها بواو الجمع [لا يَقُومُونَ من قبورهم إذا بعثوا [إِلَّا كَما يَقُومُ أي إلّا قياما مثل قيام الّذي [يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ أي يصرعه و يكون قيامهم مثل المصروع المختلّ فيكون ذلك إمارة لأهل الموقف على أنّهم آكلة الربا عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير و جماعة.

و قيل: إنّ هذا على وجه التشبيه لأنّ الشيطان لا يصرع الإنسان على الحقيقة و لكن من غلب عليه المرّة السوداء و ضعف عقله ربّما يخيّل الشيطان إليه أمورا هائلة و يوسوس إليه فيقع الصرع عند ذلك من فعل اللّه و نسب ذلك إلى الشيطان مجازا لما كان ذلك عند وسوسته.

و قيل: يجوز أن يكون الصرع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعض عن أبي الهذيل و ابن الاحشيد قالا: لأنّ الظاهر من القرآن يشهد به و ليس في العقل ما يمنع منه و لا يمنع اللّه الشيطان عنه امتحانا لبعض الناس و عقوبة لبعضهم على ذنب ألمّ به و لم يتب منه كما يتسلّط بعض الناس على بعض فيظلمه و يأخذ ماله و لا يمنعه اللّه منه و لأن يكون هذا علامة لآكلي الربا يعرفون بها يوم القيامة كما أنّ على كلّ عاص من معصيته علامة يليق به فيعرف بها صاحبها و على كلّ مطيع من طاعته إمارة يليق به يعرف بها صاحبها و ذلك معنى قوله: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ» (1).

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: في شهداء أحد زمّلوهم بثيابهم و دمائهم. و قال صلّى اللّه عليه و آله: يبعث

ص: 140


1- الطبرسي مرسلا.

امّتي يوم القيامة عن قبورهم غرّا محجّلين من آثار الوضوء.

و قد قيل: الّذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلّا آكلة الربا فإنّهم ينهضون و يسقطون كالمصر و عين لأنّهم أكلوا الربا فأرباه اللّه في بطونهم حتّى أثقلهم فلا يقدرون على الإيقاض.

[ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا] أي ذلك العذاب بسبب قولهم: [إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا] قال ابن عبّاس: كان الرجل منهم إذا حلّ دينه على غريمه فطالبه به قال المطلوب له: زدني في الأجل و أزيدك في المال فيتراضيان عليه و يعملان به فإذا قيل: لهم هذا ربا قالوا: هما سواء يعنون بذلك أنّ الزيادة في الثمن حال البيع و الزيادة فيه بسبب الأجل عند حلول الأجل سواء.

فذمّهم اللّه و ألحق الوعيد بهم و خطّأهم في ذلك بقوله: [وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا] أي أحلّ اللّه البيع الّذي حقيقة هو البيع و حرّم النوع الّذي فيه الربا و ألحقتموه أنتم بالبيع.

[فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ] و انتهى بالوعظ عمّا نهاه اللّه [فَلَهُ ما سَلَفَ و مضى من ذنبه فلا يؤاخذ به لأنّه أخذ قبل نزول التحريم و له ما أخذ و أكل من الربا و لا يلزمه ردّه؛ قال الباقر عليه السّلام: من أدرك الإسلام و تاب ممّا كان عمله في الجاهليّة وضع اللّه له ما سلف. و هذا فيما قبض و أخذ و أمّا ما لم يقبض فلا يجوز له أخذه و له رأس المال و هذا الحكم كان لأهل الجاهليّة و لكنّ المسلم إذا أخذ ربا ثمّ تنبّه فيجب عليه ردّ ما أخذه بعنوان الربا من دون كلام [وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يجازيه على انتهائه إن قبل الوعظ. و قيل: المراد يحكم في شأنه يوم القيامة و ليس من أمره إليكم شي ء فلا تطالبونه به.

[وَ مَنْ عادَ] إلى الربا مستحلّا بعد النهي كما استحلّ قبله من أنّ البيع مثل الربا [فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لأنّ ذلك القول؛ لا يصدر إلّا من كافر مستحلّ للربا فلهذا يعذّب بعذاب الأبد. و ممّا جاء في الحديث في الربا عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمسة: آكله و مؤكّله و شاهديه و كاتبه و المحلّل له. و عنه عليه السّلام إذا أراد اللّه بقرية هلاكا ظهر فيهم الرباء. و عنه عليه السّلام قال: الرباء سبعون بابا أهونها عند اللّه

ص: 141

كالّذي ينكح أمّه. و روى جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: درهم رباء أعظم عند اللّه من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 276]

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)

. أي ينقص اللّه الربا «و المحق» نقصان الشي ء حالا بعد حال حتّى يذهب كلّه كما في محاق الشهر و هو حال آخذ الربا فإنّ اللّه يذهب بركته و يهلك المال الّذي يدخل فيه و لا ينتفع به ولده بعده [وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ يضاعف ثوابها و يزيد المال الّذي أخرجت منه الصدقة. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما نقصت زكاة من مال قطّ.

[وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ] منهمك في ارتكاب المعاصي. و الكفّار هو المقيم على الكفر المعتاد له باستحلال الربا و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: سيأتي زمان على الناس لا يبقى أحد إلّا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره.

[سورة البقرة (2): آية 277]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

. المعنى ظاهر. و تخصيص الصلاة و الزكاة بالذكر مع اندراجهما في الصالحات لإنافتهما على سائر الطاعات [لَهُمْ أَجْرُهُمْ الموعود لهم حال كونه [عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروهات [وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ من محبوب فات.

[سورة البقرة (2): الآيات 278 الى 279]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279)

عن أبي جعفر عليه السّلام في النزول قال: إنّ الوليد بن مغيرة كان يربي في الجاهليّة و قد بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآية و قيل: نزلت في بقيّة من الربا كانت للعبّاس و خالد بن وليد و كانا شريكين في الجاهليّة يسلفان في الربا و لهما أموال عظيمة على ثقيف فنزلت الآية فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

ألا إنّ كلّ ربّي من رباء الجاهليّة موضوع و أوّل ربّي أضعه ربي العبّاس بن عبد المطّلب و كلّ دم من دم الجاهليّة موضوع و أوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب كان

ص: 142

مرضعا في بني ليث فقتله هذيل. و قال مقاتل: نزلت في أربعة إخوة من بني ثقيف عبد ياليل و مسعود و حبيب و ربيعة و كانوا يداينون بني المغيرة و كانوا يربون فلمّا ظهر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على الطائف و صالح ثقيفا أسلم هؤلاء الإخوة الأربعة فطلبوا رباهم من بني المغيرة و اختصموا إلى عتاب بن أسيد عامل رسول اللّه على مكّة فكتب عتاب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالقصّة فأنزل اللّه الآية:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في أمر الربا و في جميع ما نهاكم عنه [وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا] و اتركوا ما بقي لكم غير مقبوض من مال الربا على من عاملتموه به [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقيقة فإنّ ذلك مستلزم للامتثال [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا] ما أمرتم به من ترك البقايا [فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي فأيقنوا و اعلموا من أذن بالأمر أو أعلم به أنّكم تستحقّون القتل في الدنيا و النار في الآخرة أي اعلموا أنّ في امتناعكم من وضع البقيّة في الربا حرب و عداوة من اللّه و قرئ «فآذنوا» بالمدّ و كسر الذال فالمعنى: أعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب من اللّه و المراد إعلام الممتنعين عن قبول الترك فإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم علموا أيضا لا محالة و حرب اللّه حرب ناره أي بعذاب عظيم من عنده و تنكير الحرب للإشعار بعظمة العذاب.

[وَ إِنْ تُبْتُمْ من الارتباء [فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ تأخذونها [لا تَظْلِمُونَ غرماءكم بأخذ الزيادة [وَ لا تُظْلَمُونَ بالنقصان من رأس المال.

[سورة البقرة (2): آية 280]

وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

. أي إن وقع غريم من غرمائكم [ذُو عُسْرَةٍ] من الإعدام أو كساد المتاع فالحكم [نظرة] و النظرة التأخير و هو اسم قام مقام الإنظار [إِلى مَيْسَرَةٍ] أي إلى اليسار و السعة و قرئ إلى «ميسره» بإرجاع الضمير إلى المعسر و اختلف في حدّ الإعسار فروي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته و قوت عياله على الاقتصاد.

و أيضا اختلف في وجوب إنظار المعسر على ثلاثة أقوال: أحدها أنّه واجب في كلّ دين عن ابن عبّاس و الضحّاك و الحسن و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و ثانيها أنّه واجب

ص: 143

في دين الربا خاصّة عن شريح و إبراهيم النخعيّ. و ثالثها أنّه واجب في دين الربا بالآية و في كلّ دين بالقياس عليه. و قال الباقر عليه السّلام: «إلى ميسرة» معناه إلى أن يبلغ خبره الإمام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان النفقة في المعروف.

[وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي و أن تتصدّقوا على المعسر بما عليه من الدين خير لكم [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير من الشر قال صلّى اللّه عليه و آله: من ادّان دينا و هو ينوي قضاءه وكّل به ملائكة يحفظونه و يدعون له حتّى يقضيه.

و في تفسير روح البيان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عليه السّلام الشهادة تكفّر كلّ شي ء إلّا الدين يا محمّد- ثلاثا- فعلى العاقل أن يقضي ما عليه من الديون و من أدّى الفرض فإنّه يهوّن عليه أن يؤدّي القرض.

[سورة البقرة (2): آية 281]

وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)

. أي وَ اتَّقُوا عذاب اللّه و احذروا [يَوْماً] تردّون جميعا إلى جزاء اللّه و تصيرون فيه [إِلَى اللَّهِ لمحاسبة أعمالكم [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ و تعطى جزاء [ما كَسَبَتْ و عملت من خير و شرّ [وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ و لا ينقصون من ثوابهم و لا يزدادون على عقابهم و عن ابن عبّاس هذه آخر آية نزلت و لقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ربّه بعدها بسبعة أو تسعة أيّام أو أحد و عشرين أو أحد و ثمانين يوما أو ثلاث ساعات و قال له جبرئيل: ضعها على رأس مائتين و ثمانين آية من سورة البقرة فجعلت بعد آية «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ» و آية الربا تأكيدا للزجر عن الربا.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ولد يوم الاثنين و بعث يوم الاثنين و دخل المدينة يوم الاثنين و قبض يوم الاثنين و كان مريضا ثمانية عشر يوما يعوده الناس و كان آخر ما يقول: الصلاة و ما ملكت أيمانكم الصلاة فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون و رثاه بعض الأنصار فقال:

الصبر يحمد في المواطن كلّهاإلّا عليك فإنّه مذموم

و اعلم أنّ اللّه سبحانه جمع في هذه الآية خلاصة ما أنزله في القرآن و جعلها خاتم الوحي و الإنزال كما أنّه جمع خلاصة ما أنزل من الكتب على الأنبياء في القرآن و جعله خاتم الكتب كما أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خاتم الأنبياء و بيان أنّ هذه الآية خلاصة ما أنزله في القرآن

ص: 144

لأنّ فائدة هذه الكتب بالنسبة إلي المكلّف نجاته من الدركات و فوزه بالدرجات و الدركات أصولها الشرك و الجهل و المعاصي و الأخلاق المذمومة و الدرجات أصولها التوحيد للّه و العلم و الطاعات و الأخلاق الحميدة و هذه الآية شاملة في السعي إليها و التحرّز عنها لأنّ حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن اللّه و مباشرة لا يقرّبك إليه فيندرج تحت كلمة التقوى الخروج عن الكفر و الشرك بالمعرفة و التوحيد و عن الجهل بالعلم و عن المعاصي بالطاعات و عن الأخلاق المذمومة بالأخلاق الممدوحة.

قال ابن عبّاس و جماعة من المفسّرين: إنّه لمّا نزلت «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» (1) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ليتني أعلم متى تكون ذلك فأنزل اللّه تعالى سورة «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ» فكان رسول اللّه يسكت بين التكبير و القراءة بعد نزول هذه السورة فيقول: سبحان اللّه و نحمده أستغفر اللّه و أتوب إليه فقيل له: إنّك لم تكن تقوله قبل هذا، فقال: إنّ نفسي نعيت إليّ ثمّ بكى بكاء شديدا.

فقيل يا رسول اللّه: أ تبكي من الموت و قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟

قال: فأين هول المطّلع و أين ضيق القبر و ظلمة اللحد و أين القيامة و الأهوال؟ فعاش رسول اللّه بعد نزول هذه السورة عامّا تامّا.

ثمّ نزلت «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ إلى آخر السورة» (2) فعاش رسول اللّه بعدها ستّة أشهر. ثمّ نزل عليه في حجّة الوداع «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (3) فعاش بعدها أحد و ثمانين يوما ثمّ نزلت آية الربا، ثمّ نزلت بعدها: «وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ الآية» (4) و هي آخر آية نزلت من السماء.

ص: 145


1- الزمر: 30.
2- التوبة: 129.
3- المائدة: 4.
4- المائدة: 4.

[سورة البقرة (2): آية 282]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282)

. المعنى: إذا داين بعضكم بعضا و عامله نسيئة معطيا أو آخذا و إنّما قال: «بدين» لأنّ تداينتم قد يكون بمعنى تجازيتم من الدين الّذي هو الجزاء فقيّده بالدين لتخليص اللفظ من الاشتراك [إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت مذكور بالتسمية قال ابن عبّاس: إنّ الآية وردت في السلم خاصّة قال الطبرسيّ: و ظاهر الآية يقع على دين مؤجّل سلما كان أو غيره و عليه الفقهاء [فَاكْتُبُوهُ أي اكتبوا الدين بأجله المعلوم مثل الأيّام أو الأشهر أو السنة بما يرفع الجهالة لا بالحصاد و قدوم الحاجّ مثل ما لا يرفع الجهالة و الجمهور على استحباب هذا الأمر لأنّه أدفع للنزاع.

[وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ و قوله: «بينكم» للإشعار بأنّ الكاتب ينبغي أن يكون بين المتداينين و يكتب كلامهما و لا يكتفي بكلام أحدهما [بِالْعَدْلِ أي كاتب كائن بالعدل و المتصدّي للكتابة من شأنه أن يكتب بالتسوية من غير ميل إلى إحدى الجانبين.

[وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أي لا يمتنع أحد من الكتّاب [أَنْ يَكْتُبَ كتاب الدين و الصكّ على الوجه المأمور به بل يكتب على وجه الحقّ الواقع [كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ من الكتابة بالعدل [فَلْيَكْتُبْ تأكيد للكتابة العادلة [وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ الإملال هو الإملاء و هو إلقاء المعنى على الكتّب أي ليكن المملل. و مورد المعنى على الكاتب و يقرّ المديون على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه فيكتب إقراره [وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي الّذي عليه الحقّ في الإملاء [وَ لا يَبْخَسْ و لا ينقص من الحق شيئا لا من قدره و لا من صفته.

و اختلف في الكتابة هل هي فرض أم لا؟ فقيل: هي فرض على الكفاية كالجهاد و نحوه عن الشعبيّ و جماعة من المفسّرين و الرمّانيّ و جوّز الجبّائيّ أن يأخذ الكاتب و

ص: 146

الشاهد الأجرة على ذلك. قال الشيخ أبو جعفر الطوسيّ: و عندنا لا يجوز ذلك. و أمّا الورق الّذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين و يكون الكتاب في يده لأنّه له.

و قيل: واجب على الكاتب يكتب في حال فراغه. و قيل: واجب عليه أن يكتب إذا امر. و قيل:

إنّ ذلك في المواضع الّذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضرّ بصاحب الدين إن امتنع فإذا كان كذلك فهو فريضة و إن قدر على غيره فهو سعة إذا قام به غيره. و قيل: كان واجبا ثمّ نسخ بقوله: «وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ» انتهى.

ثمّ بيّن سبحانه حال من لا يصحّ منه الإملاء فقال: [فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً] ناقص العقل مبذّرا مجازفا و قيل: صغيرا طفلا. و قيل: عاجزا أحمقا [أَوْ ضَعِيفاً] أي ضعيف المزاج مثل أن يكون شيخا مختلّا أو خرفا [أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ] بنفسه لخرس أو عمى أو جهل من العوارض [فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ الّذي يلي أمره أي يملل وليّ الّذي عليه الحقّ و يقوم مقامه الشرعيّ من وليّ أو قيّم [بِالْعَدْلِ من غير نقص و لا زيادة.

ثمّ أمر سبحانه بالإشهاد فقال: [وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ أي و أشهدوا على المكتوب رجلين من رجالكم. أي من أهل دينكم و قيل: المراد من الأحرار البالغين المسلمين دون العبيد و الكفّار، لكنّ الحرّيّة ليست بشرط عندنا في قبول الشهادة و إنّما اشترط الإسلام مع العدالة.

[فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ أي لم يكن الشهيدان رجلين فليكن [رجل وَ امْرَأَتانِ فليشهد رجل و امرأتان [مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ] و هو معروف بالستر و الصلاح و الأمانة و الدين [أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما] أي تنسى إحدى المرأتين [فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا] الشهادة لأخرى و هذا تعليل لاعتبار العدد في النساء و العلّة في الحقيقة هي التذكير و لكنّ الضلال لمّا كان سببا له نزّل منزلته كقولك: أعددت السلاح أن يجي ء عدوّ فأدفعه؛ فالإعداد للدفع لا لمجي ء العدوّ لكن قدّم عليه المجي ء لأنّه سببه.

ثمّ حثّ الشهداء على إقامة الشهادة بقوله [وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا] لأداء الشهادة و «ما» مزيدة أي إذا دعوا إلى إثبات الشهادة و إقامتها [وَ لا تَسْئَمُوا] و لا تملّوا و لا تضجروا [أَنْ تَكْتُبُوهُ من أن تكتبوا الحقّ و الدين و الكتاب [صَغِيراً أَوْ كَبِيراً] حال من الضمير، صغيرا كان

ص: 147

الحقّ أو كبيرا قليلا كان أو كثيرا مجملا أو مفصّلا [إِلى أَجَلِهِ إلى وقت حلوله الّذي أقرّ به المديون.

[ذلِكُمْ أي كتب الحقّ و الصكّ إلى أجله كاملا [أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أعدل في حكمه [وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ] و أثبت لها و أعون على إقامتها [وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا] و أقرب إلى انتفاء شكّكم في الدين و قدره و أجله و شهادته [إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ استثناء منتطع من الأمر بالكتابة أي لكن وقت كون مبايعتكم و مداينتكم حاضرة يدا بيد بحضور العدلين [تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ نقدا لا نسيئة [فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ حرج و ضيق [أَلَّا تَكْتُبُوها] و ليس عليكم إثم في ترك كتابتها.

[وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ و أشهدوا الشهود على بيعكم و هذا أمر استحباب في هذا التبايع أو مطلقا لأنّه أحوط و هذه الأوامر في الآية الكريمة للندب عند الفقهاء، و قال أصحاب الظاهر: الإشهاد فرض في التبايع.

[وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ] أصله يضارر- بكسر الراء الأولى على قراءة كسر الراء- فيكون النهي متعلّقا للكاتب و الشاهد عن المضارّة فعلى هذا فمعنى المضارّة أن يكتب الكاتب ما لم يملّ عليه و يشهد الشاهد بما لم يستشهد فيه أو بأن يمتنع من إقامة الشهادة، و على قراءة فتح الراء الأولى عن ابن مسعود و مجاهد فيكون معناه: لا يكلّف الكاتب و الشاهد في حال عذر لا يتفرّغ إليها و لا يضيّق على الشاهد و الكاتب إلى إثبات الشهادة و إقامتها في حال عذر و لا يعنّفان عليها إذا كانا مشغولين بما يهمّهما و لا يضارّان بإبطال شغلهما.

[وَ إِنْ تَفْعَلُوا] ما نهيتم عنه من الضرار [فَإِنَّهُ فعلكم ذلك [فُسُوقٌ بِكُمْ و خروج عن الطاعة أي حينئذ ملتبسين بالفسق [وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته و يعلّمكم اللّه ما تحتاجون إليه من امور دينكم [وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و ذكر عليّ بن إبراهيم بن هاشم أنّ في البقرة خمسمائة حكم و في هذه الآية خاصّة خمسة عشر حكما.

قوله: [سورة البقرة (2): آية 283]

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

.

ص: 148

و إن كنتم مسافرين و متوجّهين إلى السفر [وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً] أيّها المتبايعون المتداينون كاتبا للصكّ و لا شهودا تشهدونهم فالوثيقة رهن فيكون «رهان» خبر مبتدأ مقدّر و هو الوثيقة أو التقدير: [فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ] يقوم مقام الصكّ و الشهود، و القبض شرط في صحّة الرهن فإن لم يحصل القبض لم ينعقد الرهن بالإجماع.

[فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً] أي اطمأنّ بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنّه به و استغنى بأمانته عن الارتهان فلم يطلب منه الرهن [فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ و هو المديون و الايتمان الوثوق بأمانة الرجل [أَمانَتَهُ أي فليقض المديون الأمين ما في ذمّته من الدين و سمّي الدين «أمانة» لتعلّقه بالذمّة كتعلّق الأمانة و أراد بقوله: «أمانته» ما اؤتمن فيه فهو مصدر بمعنى المفعول [وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي و ليتّق المديون عقوبة اللّه ربّه بجحوده أو النقصان منه.

[وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ] أي بعد تحمّل الشهادة أيّها الشهود إذا دعيتم إلى الحاكم لأدائها على وجهها [وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ و المعنى أنّ الكاتم يأثم قلبه، و قلبه فاعل آثم.

فإن قيل: هلّا اقتصر على قوله: «آثم» و ما فائدة ذكر القلب و الجملة الآثمة لا القلب وحده؟

فالجواب أنّ كتمان الشهادة هو أن يضمرها و يسترها في قلبه و لا يتكلّم بها فلمّا كان الآثم مقترفا بالقلب أسند إليه و إسناد الفعل إلى الجارحة الّتي يعمل بها أبلغ و أصحّ تقول: أبصرته بعيني و سمعته باذني إذا أردت التأكيد في أمر فكأنّه قيل: قد تمكّن الإثم في أصل نفسه و ملك أشرف مكان منه، و القلب أصل متعلّقه، ألا ترى أنّ أصل الحسنات و السيّئات الإيمان و الكفر و هما من أفعال القلوب، و عن ابن عبّاس: أكبر الكبائر الإشراك باللّه لقوله: «فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (1) و شهادة الزور و كتمان الشهادة.

[وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيجازيكم به و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا ينقضي كلام شاهد زور من بين يدي الحاكم حتّى يتبوّأ مقعده من النار و كذلك من كتم الشهادة.

ص: 149


1- المائدة: 75.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 284]

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284)

. اللام لام الملك أي له تصريف السماوات و الأرض و ما بينهما لأنّه هو أبدعهما لا شركة لأحد لغيره في شي ء منها فلا تعبدوا أحدا سواه و لا تعصوه فيما يأمركم به و ينهاكم عنه، و إن تظهروا ما في قلوبكم من الطاعة و المعصية أو تكتموه و تخفوه عن الناس ككتمان الشهادة و موالاة المشركين أو موالاة المؤمنين، و لا يندرج فيه ما لا يخلو البشر منه من الوساوس و أحاديث النفس الّتي لا عزيمة و لا عقد فيها إذ التكليف بحسب الوسع و دفع ذلك ممّا ليس في وسعه.

[يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ و يجازيكم به يوم القيامة [فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ] منهم رحمة و فضلا [وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ] عدلا حسبما تقتضيه مشيّته المبنيّة على الحكم و المصالح، و لكن يعذّب الكافر لا محالة لأنّه لا يغفر الشرك لقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»* (1) و تقديم المغفرة على التعذيب لسبقة رحمته على غضبه [وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فكمال قدرته على جميع الأشياء موجب لقدرته على محاسبتكم.

قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 285]

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

. لمّا ذكر سبحانه فرض الصلاة و الزكاة و بعض أحكامه في السورة ختم السورة بذكر تعظيمه و شهد بتصديق نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بجميع ذلك.

و في الآية إشعار بترتيب العقائد الّتي لا يتحقّق الإيمان إلّا بها من الأصول ثمّ العمل بالفروع حسب ما نصّ به الشارع لا بالقياس و الرأي.

قال ابن شبرمة: دخلت أنا و أبو حنيفة على الصادق عليه السّلام فقلت: هذا فقيه أهل العراق فقال عليه السّلام: أهو النعمان بن ثابت؟ فقال أبو حنيفة: نعم أنا ذلك، فقال الصادق عليه السّلام: اتّق اللّه و لا تقس الدين برأيك؛ فإنّ أول من قاس برأيه إبليس إذ قال: «أنا خير منه» ثمّ سأله

ص: 150


1- النساء 47.

عليه السّلام عن بعض المسائل فعيّ فيها ثمّ سأله عليه السّلام عن كلمة أوّلها الشرك و آخرها الإيمان قال: لا أدري، قال الصادق عليه السّلام: هي كلمة لا إله إلّا اللّه فلو قال: لا إله و سكت كان شركا.

ثمّ قال عليه السّلام: ويحك أيّما أعظم عند اللّه إثما: قتل النفس الّتي حرّم اللّه أو الزنا؟

قال: بل قتل النفس قال الصادق عليه السّلام: إنّ اللّه قد قبل في قتل النفس شهادة شاهدين و لم يقبل في الزنا إلّا شهادة أربعة، فإنّى يقوم لك القياس؟ ثمّ قال عليه السّلام: أيّما أعظم عند اللّه: الصوم أو الصلاة؟ قال: الصلاة، قال: فما بال الحائض تقضي الصوم و لا تقضي الصلاة؟

فاتّق اللّه و لا تقس الدين برأيك فإنّا نقف غدا و من خالفنا بين يدي اللّه فنقول: قال اللّه و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و تقول أنت و أصحابك: سمعنا و قسنا؛ فيفعل اللّه بنا و بكم ما يشاء.

فقال: [آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من الأحكام المذكورة [وَ الْمُؤْمِنُونَ أي كلّ واحد منهم [آمَنَ بِاللَّهِ و صدّق به و بصفاته سبحانه و نفي التشبيه عنه و تنزيهه عمّا لا يليق به [وَ مَلائِكَتِهِ أي و صدّقوا بملائكته و بأنّهم مطهّرون و معصومون [وَ كُتُبِهِ أي بجميع ما أنزل من الكتب و بالقرآن و أنّها حقّ و صدق من عند اللّه، و قرئ «و كتابه» [وَ رُسُلِهِ أي بجميع أنبيائه [لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أي يقولون: لا نفرّق و لا نميّز بين الرسل بأن نؤمن ببعض و نكفر ببعض كما قال اليهود و النصارى؛ لأنّ تمام الأنبياء اتّفقوا في اصول الشرائع و ما اختلفوا.

و المراد بقوله: «آمَنَ الرَّسُولُ» إيمانا تفصيليّا متعلّقا بالشرائع و الكتب و لم يرد به حدوث الإيمان فيه لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان مؤمنا باللّه قبل الرسالة منه بل المعنى أنّه صلّى اللّه عليه و آله آمن بالقرآن فإنّه قبل إنزاله إليه لم يكن عليه الإيمان به و هو معنى قوله: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ» (1) أي و لا الإيمان بالكتاب، هذا إذا كان صلّى اللّه عليه و آله هو المخاطب و أمّا إذا كان المراد الأمّة و الخطاب من باب إيّاك أعني و اسمعي يا جارة؛ فذلك بطريق أولى كما قال صلّى اللّه عليه و آله: كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين.

قال العلّامة أبو السعود العماديّ: الوقف في الآية عند قوله: «من ربّه» و قال

ص: 151


1- الشورى: 52.

بعضهم: عند قوله: «و المؤمنون» و هو مبتدأ و «كلّ» مبتدأ ثان «آمن» خبره و الجملة خبر للمبتدأ الأوّل و الرابط بينهما الضمير الّذي ناب منابه التنوين، و توحيد الضمير في «آمن» مع رجوعه إلى كلّ المؤمنين لما أنّ المراد بيان إيمان كلّ فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع [وَ قالُوا سَمِعْنا] و الضمير راجع إلى الرسول و المؤمنين، سمعنا و فهمنا ما جاءنا من الحقّ [وَ أَطَعْنا] ما فيه من الأوامر و النواهي.

قيل: لمّا نزلت هذه الآية قال جبرئيل عليه السّلام للرسول صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه قد أثنى عليك و على امّتك فسل تعط فقال الرسول: [غُفْرانَكَ رَبَّنا] أي اغفر لنا غفرانك كما قال:

«فَضَرْبَ الرِّقابِ» (1) أو التقدير نسألك غفرانك ذنوبنا و ما لا يخلو البشر من التقصير في مراعاة حقوق الإلهيّة [وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ] أي الرجوع بالموت و البعث لا إلى غيرك.

[سورة البقرة (2): آية 286]

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

. إخبار من اللّه و ليس من كلام المؤمنين، روي أنّه لمّا نزلت «إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية» (2) اشتدّ ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأتوه ثمّ بركوا على الركب فقالوا: يا رسول اللّه كلّفنا من الأعمال ما نطيق مثل الصلاة و الصوم و الحجّ و الجهاد و قد أنزل إليك هذه الآية و لا نطيقها فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أ تريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: «سَمِعْنا وَ عَصَيْنا»* (3)؟ قالوا: بل «سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ» فأنزل اللّه: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ الآية» تهوينا للخطب عليهم ببيان أنّ المراد «بما في أنفسهم» ما عزموا عليه من السوء خاصّة لا ما يعمّ الخواطر الّتي لا يستطاع الاحتراز عنها أي سنّة أن لا يكلّف نفسا من النفوس إلّا ما يتّسع فيه طوقها رحمة لهذه الأمّة.

[لَها ما كَسَبَتْ للنفس ثواب ما حصلت من الخير لا لغيرها [وَ عَلَيْها] لا على غيرها

ص: 152


1- محمّد: 4.
2- السورة: 284.
3- السورة: 93.

[مَا اكْتَسَبَتْ من الشرّ و التعبير بالافتعال في جانب الشرّ لأنّ الشر لمّا كان مشتهى النفس يكون فيه السعي و الاجتهاد طبعا و لا بدّ فيه من المبالغة و التكلّف لإيجاب العمل.

[رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا] بيان دعوات المؤمنين يقولون: ربّنا لا تعذّبنا بما صدر عنّا من الأمور المؤدّية إلى النسيان و الخطاء من تفريط و قلّة مبالاة، و دل هذا على أنّ المؤاخذة جائزة في النسيان و الخطاء؛ و ذلك لأنّ التحرّز عنها ممكن في الجملة و إلّا لم يكن للسؤال معنى و خفّف اللّه عن هذه الأمّة؛ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: رفع عن أمّتي الخطاء و النسيان و ما استكرهوا عليه.

و اختلف في المراد من النسيان و الخطاء في الآية:

أحدها أنّ المراد من النسيان الترك أي تركنا كقوله تعالى: «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» (1) أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه و لطفه و قوله: «وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» (2) قال الشاعر: «و لا كنت يوم الروع للطعن ناسيا».

و المراد من «أخطأنا» أذنبنا لأنّ المعاصي توصف بالخطاء من حيث إنّها ضدّ الثواب و إن كان فاعلها متعمّدا فكأنّه أمرهم سبحانه بأن يستغفروا ممّا تركوه من الواجبات و ممّا فعلوه من القبائح.

و الثاني أنّ المراد من قوله: «إِنْ نَسِينا» إن تعرّضنا لأسباب يقع عندها النسيان و الخطاء عن الأمر و الغفلة عن الواجب و هذا هو المعنى الّذي ذكر أوّلا في بيان الآية.

و الثالث أن لا تؤاخذنا إن لم نفعل فعلا يجب فعله على سبيل السهو أو أخطأنا أي فعلنا فعلا يجب تركه من غير قصد، و يحسن هذا في الدعاء على سبيل الانقطاع و التضرّع و إظهار الفقر إلى مسألته و إن كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله مثل قوله: «احْكُمْ بِالْحَقِّ» (3) و مثل قوله: «وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» على سبيل التعبّد و إن كان تعالى لا يكلّف أحدا ما لا يطيقه.

ص: 153


1- التوبة: 688.
2- السورة: 44.
3- الأنبياء: 112.

و الرابع: كما فسّره ابن عبّاس و عطا أي لا تعاقبنا إن عصينا جاهلين أو متعمّدين.

[رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً] عطف على ما قبله و توسيط النداء بينهما لإبراز مزيد الضراعة. و الإصر العب ء و الحمل الّذي يؤخذ و يحبس صاحبه مكانه لثقله و المراد التكاليف الشاقّة [كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا] أي مثل ما حملت على من قبلنا و هو ما كلّفه بنو إسرائيل من قتل النفس في التوبة و قطع الأعضاء الخاطئة و عدم التطهير بغير الماء و خمسين صلاة في يوم و ليلة و عدم جواز صلاتهم في غير المسجد و حرمة أكل الصائم بعد النوم و منع بعض الطيّبات عنهم بالذنوب و كون الزكاة ربع مالهم و قطع موضع النجاسة و كتابة ذنب الليل على الباب بالصبح و غير ذلك من التشديدات و قد عصم اللّه و رحم هذه الأمّة من أمثال ذلك و أنزل في شأنهم «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» (1) قال صلّى اللّه عليه و آله: بعثت بالحنيفيّة السهلة السمحة. و عن العقوبات الّتي عوقب بها الأوّلون من المسخ و الخسف قال صلّى اللّه عليه و آله: رفع عن أمّتي الخسف و المسخ و الغرق.

[رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ عطف على ما قبله و استعفاء من العقوبات الّتي لا تطاق أي لا تكلّفنا ما يشقّ علينا الدوام علينا من التكاليف الشاقّة الّتي لا يكاد من كلّفها يخلو عن التفريط فيها فنعاقب بعدم محافظتنا عليها و عبّر عن إنزال العقوبات بالتحميل باعتبار السببيّة و باعتبار ما يؤدّي إليها و لم يرد من الآية عدم الطاقة أصلا فإنّه لا يكون و حاصل المعنى: لا تشدّد الأمر علينا فيصعب القيام بها فنعذّب كما حملت على الّذين من قبلنا من الأمم الماضية و قد مرّ بيانه.

[وَ اعْفُ عَنَّا] ذنوبنا [وَ اغْفِرْ لَنا] خطايانا أي استرها و ارحمنا بإنعامك علينا في الدنيا و العفو عن عقوباتها في الآخرة [أَنْتَ مَوْلانا] سيّدنا و نحن عبيدك أو ناصرنا أو متولّي أمرنا [فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أعنّا عليهم و ادفع عنّا شرّهم و حقّ العبد أن يستنصر من مولاه و النصرة على الكفّار تارة بالظفر و السيف و تارة بالحجّة.

روي أنّه لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انتهى به إلى سدرة المنتهى و هي في السماء

ص: 154


1- الأعراف: 156.

السادسة- إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها و إليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها- اعطي صلّى اللّه عليه و آله ثلاثا: الصلاة الخمس، و غفر لمن لا يشرك باللّه من امّته إلّا المقحمات، و خواتيم سورة البقرة، عن ابن مسعود و عن ابن المكندر، و رفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: في آخر سورة البقرة آيات إنّهنّ قرآن و إنّهنّ دعاء و إنّهنّ يرضين الرحمن.

و في تفسير الكلبيّ بإسناده ذكر عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال بينا رسول اللّه قاعدا إذ سمع نقيضا يعني صوتا فرفع رأسه فإذا باب من السماء قد فتح فنزل عليه ملك و قال:

إنّ اللّه يبشّرك بنورين لم يعطهما نبيّا قبلك: فاتحة الكتاب و خواتيم سورة البقرة لا يقرؤهما أحد إلّا أعطيته حاجته.

العيّاشيّ عن أحدهما عليهما السّلام في آخر البقرة قال: لمّا دعوا أجيبوا.

و في الصافي: القميّ عن الصادق عليه السّلام إنّ هذه الآية مشافهة اللّه لنبيّه لمّا اسري به إلى السماء قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: انتهيت إلى سدرة المنتهى و إذا الورقة منها تظلّ امّة من الأمم فكنت من ربّي بعين من قرب ربّي كقاب قوسين أو أدنى كما حكى اللّه فناداني ربّي «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ» فقلت أنا مجيبه عنّي و عن أمّتي: «وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ» فقلت: «سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ» فقال اللّه سبحانه «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فقلت: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» فقال اللّه: لا اؤاخذك فقلت: «رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» فقال اللّه: قد أعطيتك، ذلك لك و لأمّتك فقال الصادق عليه السّلام: ما وفد إلى اللّه أحد أكرم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين سأل لأمّته هذه الخصال.

و العيّاشيّ ما في معناه في حديث بدون قوله: «فقال الصادق» إلى آخر الحديث.

و في الاحتجاج عن الكاظم عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام في حديث يذكر فيه مناقب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّه اسري به صلّى اللّه عليه و آله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر و عرج به في ملكوت السماء مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة حتّى انتهى إلى ساق العرش فدنا بالعلم فتدلّى له من الجنّة رفرف أخضر و غشى النور بصره فرأى عظمة

ص: 155

ربّه بفؤاده و لم يرها بعينه فكان كقاب قوسين بينهما و بينه أو أدنى فأوحى اللّه إلى عبده ما أوحى فكان فيما أوحى إليه الآية الّتي في سورة البقرة «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» و كانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم إلى أن بعث اللّه محمّدا و عرضت على الأمم فأبوا أن يقلبوها من ثقلها و قبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عرضها على امّته فقبلوها فلمّا رأى اللّه منهم القبول على أنّهم لا يطيقونها فلمّا أن سار إلى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه فقال اللّه تعالى: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ» فأجاب صلّى اللّه عليه و آله مجيبا عنه و عن امّته فقال: «وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» فقال تعالى: لهم الجنّة و المغفرة عليّ إن فعلوا ذلك.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أمّا إذا فعلت ذلك بنا فغفرانك ربّنا و إليك المصير فأجابه اللّه جلّ ثناؤه و قد فعلت ذلك بك و بامّتك ثمّ قال عزّ و جلّ: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ» من خير «وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» من شرّ.

فقال النبيّ لمّا سمع ذلك. أمّا إذا فعلت بي و بامّتي فزدني قال: سل قال: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» قال اللّه: لست اؤاخذ امّتك بالنسيان أو الخطاء لكرامتك و كانت الأمم السالفة إذا نسوا ما ذكّروا به فتحت عليهم أبواب العذاب و قد رفعت ذلك عن امّتك و كانت الأمم السالفة إذا أخطئوا أخذوا بالعذاب و عوقبوا عليه و قد رفعت ذلك عن امّتك لكرامتك عليّ.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا أعطيتني ذلك فزدني فقال اللّه: سل قال النبيّ: «وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» فأجابه إلى ذلك و قال: قد رفعت الآصار الّتي كانت على الأمم عنهم، كنت لا أقبل صلاتهم إلّا في بقاع معلومة من الأرض و إن بعدت و قد جعلت الأرض كلّها لأمّتك مسجدا و طهورا.

و كانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوه و جعلت الماء لأمّتك طهورا.

و كانت الأمم السالفة تحمل قرابينهم على أعناقهم إلى البيت المقدّس فمن قبلت

ص: 156

ذلك منه أرسلت إليه نارا فأكلته فرجع مسرورا و من لم أقبل ذلك منه رجع مثبورا و قد جعلت قربان امّتك بطون فقرائها فمن قبلت ذلك منه أضعت له أضعافا مضاعفة و من لم أقبل منه رفعت عنه عقوبات الدنيا.

و كانت الأمم السالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم الليل و أنصاف النهار و هي من الشدائد الّتي كانت عليهم فرفعتها عن امّتك و فرضت عليهم صلواتهم في أطراف الليل و النهار و في أوقات نشاطهم.

و كانت صلوات الأمم خمسين صلاه في خمسين أوقات فرفعتها عن امّتك و جعلتها خمسا في خمسة أوقات.

و كانت الأمم السالفة حسنتهم بحسنة و سيّئتهم بسيّئة فرفعتها عن امّتك و جعلت الحسنة بعشر و السيّئة بواحدة و هي من الآصار الّتي كانت عليهم.

و كانت الأمم إذا نوى أحدهم حسنة ثمّ لم يعملها لم تكتب له و إن عملها كتب له حسنة و إنّ امّتك إذا همّ أحدهم بحسنة و لم يعملها كتبت له حسنة و إن عملها كتبت له عشرا و هي من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعتها عن امّتك.

و كانت الامة السالفة إذا همّ أحدهم بسيّئة ثمّ لم يعملها لم تكتب عليه و إن عملها كتبت عليه سيّئة و إنّ امّتك إذا همّ أحدهم بسيّئة ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة و هذه من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعت ذلك عن أمّتك.

و كانت الأمم السالفة إذا أذنبوا كتبت ذنوبهم على أبوابهم و جعلت توبتهم من الذنوب أن حرّمت عليهم بعد التوبة أحبّ الطعام إليهم و قد رفعت ذلك عن امّتك و جعلت ذنوبهم فيما بينهم و بيني و جعلت عليهم ستورا كثيفة و قبلت توبتهم بعد عقوبة و لا أعاقبهم بأن احرّم عليهم أحبّ الطعام إليهم.

و كانت الأمم السالفة يتوب أحدهم من الذنب الواحد مائة سنة أو ثمانين أو خمسين سنة ثمّ لا أقبل توبته دون أن أعاقبه في الدنيا بعقوبة فرفعتها عن امّتك و إنّ الرجل من امّتك ليذنب عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو مائة سنة ثمّ يتوب و يندم طرفة عين فأغفر له ذلك كلّه.

ص: 157

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اللّهمّ إذا أعطيتني ذلك كلّه فزدني قال: سل قال «رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» قال: قد فعلت ذلك بك و بامّتك و قد رفعت عنهم عظيم بلايا الأمم و ذلك حكمي في جميع الأمم أن لا اكلّف خلقا فوق طاقتهم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا» قال تعالى: قد فعلت ذلك بتائبي أمّتك.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» قال اللّه: إنّ امّتك في الأرض كالشامة البيضاء في الثور الأسود هم القادرون و هم الفائزون يستخدمون و لا يستخدمون لكرامتك عليّ و حقّ عليّ أن اظهر دينك على الأديان حتّى لا يبقى في شرق الأرض و غربها دين إلّا دينك أو يؤدّون إلى أهل دينك الجزية، انتهى.

في ثواب الأعمال عن السجّاد عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ أربع آيات من أوّل البقرة و آية الكرسيّ و اثنين بعدها و ثلاث آيات من آخر البقرة لم ير في نفسه و ماله شيئا يكرهه و لا يقربه الشيطان و لا ينسى القرآن.

و عن جابر عنه عليه السّلام في حديث قال: قال اللّه: و أعطيت لك و لأمّتك كنزا من كنوز عرشي: فاتحة الكتاب و خاتمة سورة البقرة.

و روي عنه عليه السّلام أنزل آيتين من كنوز الجنّة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل. و في رواية: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه.

و في ثواب الأعمال: من قرأ سورة البقرة و آل عمران جاءتا يوم القيامة تظلّانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين يعني المظلّتين.

و قال صلّى اللّه عليه و آله: السورة الّتي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن أي مصره الجامع فتعلّموه فإنّ تعلّمها بركة و تركها حسرة و لن تستطيعها البطلة قيل: و ما البطلة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله:

السحرة، أي لا تستطيع السحرة أن تسحر قارئها و لا تقرء في دار ثلاث ليال فيقربه شيطان و كان معاذ إذا ختم سورة البقرة يقول: آمين.

و هذا الحديث حجّة لمن استكره أن يقول سورة البقرة و قال ينبغي أن يقال: السورة

ص: 158

الّتي تذكر فيها البقرة لأنّه صلّى اللّه عليه و آله عبّر في الحديث بهذه العبارة.

و عن أبي الأسلم الديلميّ قال قلت: لمعاذ بن جبل: أخبرني عن قصّة الشيطان حين أخذته فقال: جعلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على صدقة المسلمين فجعلت التمر في غرفة فوجدت فيه نقصانا فأخبرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك فقال: هذا الشيطان يأخذه فدخلت الغرفة و أغلقت الباب فجاءت ظلمة عظيمة و غشيت الباب ثمّ تصوّر في صورة اخرى فدخل من شقّ الباب فشددت إزاري عليّ فجعل يأكل من التمر فوثبت إليه و قبضته فقلت: يا عدوّ اللّه فقال: خلّ عنّي فإنّي كبير ذو عيال كثير و أنا فقير من جنّ نصيبين و كانت لنا هذه القرية قبل أن يبعث صاحبكم فلمّا بعث أخرجنا منها فخلّ عنّي فلن أعود، إليك فخلّيت سبيله و جاء جبرئيل فأخبر رسول اللّه بما كان فصلّى رسول اللّه فناداني مناديه فجئته و قال: ما فعل أسيرك؟ فأخبرته فقال صلّى اللّه عليه و آله أما أنّه سيعود فعد قال: فدخلت الغرفة و أغلقت الباب عليّ فجاء فدخل من شقّ الباب فجعل يأكل من التمر فصنعت به كما صنعت في المرّة الاولى فقال: خلّ عنّي فإنّي لن أعود إليك فقلت: يا عدوّ اللّه ألم تقل إنّك لن تعود؟ قال: فإنّي لن أعود، و إنّه إذا قرأ أحدكم خاتمة البقرة لا يدخل منّا في بيته تلك الليلة.

تمّت السورة بعون اللّه في يوم الخامس عشر من الشهر الحرام نسأل اللّه أن لا يحرمنا ثواب تلاوتها بحرمة من أنزلها اللّه عليه صلّى اللّه عليه و آله و من حنّ له الجذع اليابس حنين العشار

ص: 159

(سورة آل عمران)

اشارة

* (مدنية)* أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة آل عمران اعطي بكلّ آية منها أمانا على حرّ جسر جهنم.

و عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلّى اللّه عليه و ملائكته.

ص: 160

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة آل عمران (3): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)

إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (5)

[الم و قد مرّ شرحه في «ألم» سورة البقرة لا حاجة إلى الإطالة و المختصر: الألف إشارة إلى اللّه، و اللام إلى اللطيف، و الميم إلى المجيد [اللَّهُ مبتدأ [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] خبره أي هو المستحقّ للمعبوديّة لا غير و هذا التفسير معنى اللازم لا معنى نفس الكلام [الْحَيُّ الْقَيُّومُ خبر آخر له أي الباقي الّذي لا سبيل عليه للموت و الفناء و القائم بتدبير الخلق و حفظه على الدوام.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اسم اللّه الأعظم في ثلاث سور في سورة البقرة «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» (1) و في آل عمران «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» و في طه «وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ» (2) و نزلت «الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» إلي نيّف و ثمانين آية ردّ أعلى وفد نجران و من زعم أنّ عيسى كان ربّا.

روي أنّ وفد نجران قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانوا ستّين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم ثلاثة منهم أكابر و إلى الثلاثة يؤول أمرهم أحدهم أميرهم و صاحب مشورتهم العاقب و اسمه عبد المسيح و ثانيهم السيّد و اسمه الأبهم و ثالثهم حبرهم و أسقفهم و صاحب مدارستهم أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل و قد كان ملوك الروم شرّفوه و موّلوه

ص: 161


1- الآية: 257.
2- الآية: 111.

و أكرموه لمّا شاهدوا من علمه و اجتهاده في دينهم و بنوا له كنائس فلمّا خرجوا من نجران ركب أبو حارثة بغلته و كان أخوه كرز بن علقمة إلى جنبه فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز: تعسا للأبعد يريد به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له أبو حارثة: بل تعست أمّك فقال كرز:

و لم يا أخي؟ قال: و اللّه إنّه النبيّ الّذي كنّا ننتظره فقال له كرز: فما يمنعك منه و أنت تعلم هذا؟ قال: لأنّ هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة و أكرمونا فلو آمنّا به لأخذوها منّا فوقع في قلب كرز شي ء إلى أن أسلم فكان يحدّث بذلك.

فأتوا المدينة ثمّ دخلوا مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد صلاة العصر عليهم ثياب فاخرة يقول بعض ما يراهم: ما رأينا وفدا مثلهم، و قد جاءت صلاتهم فقاموا ليصلّوا في المسجد فأراد بعض الأصحاب أن يمنعوهم فقال صلّى اللّه عليه و آله: دعوهم، فصلّوا إلى المشرق.

ثمّ تكلّم أولئك الثلاثة مع رسول اللّه فقالوا تارة: عيسى هو اللّه لأنّه كان يحيي الموتى و يبرئ الأكمه و الأسقام و يخبر بالغيوب و يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير، و تارة قالوا: هو ابن اللّه إذ لم يكن له أب يعلم، و تارة اخرى إنّه ثالث ثلاثة لقوله تعالى: «فَعَلْنا و قُلْنا»* و لو كان واحدا لقال: فعلت و قلت، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أسلموا، قالوا: أسلمنا قبلك قال صلّى اللّه عليه و آله: كذبتم بمنعكم من الإسلام ادّعاؤكم للّه تعالى شريكا؛ لأنّهم قالوا: إن لم يكن عيسى ولدا للّه فمن أبوه فقال صلّى اللّه عليه و آله: ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا و يشبه أباه؟ فقالوا: بلى. قال صلّى اللّه عليه و آله: ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت و أنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّوم على كلّ شي ء يحفظه و يرزقه؟ قالوا: بلى، قال عليه السّلام: فهل تملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا، فقال: ألستم تعلمون أنّ اللّه لا يخفى عليه شي ء في الأرض و لا في السماء؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسى شيئا من ذلك إلّا ما علّم؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته امّه و أنّ اللّه صوّر عيسى في الرحم كيف شاء و أنّ ربّنا لا يأكل و لا يشرب و لا يحدث؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أنّ عيسى غذا كما يتغذّى الصبيّ ثمّ كان يطعم الطعام و يشرب الشراب و يحدث الحدث؟

قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا ربّا كما زعمتم؟ فسكتوا و أبوا إلّا جحودا فأنزل من أوّل السورة إلى نيّف و ثمانين آية تقريرا لما احتجّ به صلّى اللّه عليه و آله عليهم و أجاب بالآيات عن شبهاتهم

ص: 162

تحقيقا للحقّ الّذي فيه يمترون.

قوله: [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن عبّر عنه باسم الجنس إيذانا بكمال تفوّقه على بقيّة الأفراد في حيازة كمالات الجنس كأنّه هو الأحقّ بأن يطلق عليه اسم الكتاب [بِالْحَقِ ملتبسا ذلك الكتاب بالعدل في أحكامه و أخباره الّتي من جملتها التوحيد [مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ في حال كونه مصدّقا للكتب قبله في التوحيد و النبوّات.

[وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ اسمان أعجميّان الأوّل عبريّ و الثاني سريانيّ، و التوراة أصلها «تورية» على وزن تفعلة من ورى الزند إذا قدح و ظهرت ناره و أصله وورية و أبدلت الواو الّتي هي الفاء تاء كما قالوا في الوجاه: التجاه و في الوراث: التراث فهي من ورى الزند إذا ظهرت ناره أي بها يظهر و يستخرج الحلال و الحرام و يتبيّن التكليف. و «إنجيل» افعيل من نجل ينجل إذا أثار و استخرج، و منه نجل الرجل يقال لولده لأنّه استخرجهم من صلبه و من بطن امرأته و بهذا الكتاب المسمّى بإنجيل يستخرج معرفة الحلال و الحرام و الحقّ و الباطل كما قيل للقرآن: «الفرقان» لأنّه يفرق بين الحقّ و الباطل.

و قال عليّ بن عيسى: النجل الأصل فكان الإنجيل أصلا من اصول العلم. و قال غيره:

النجل الفرع كما يكون الولد فرع أبيه. و هو المعنى الأوّل فكأنّ الإنجيل فرع على التوراة يستخرج منها. و قال ابن فضّال: هو من النجل بمعنى السعة يقال: عين نجلاء: وسيعة و كأنّه قد وسّع عليهم في الإنجيل ما ضيّق على أهل التوراة، و الكلّ محتمل.

[مِنْ قَبْلُ أي أنزلهما جملة قبل القرآن على موسى و عيسى على نبيّنا و عليه السّلام [هُدىً لِلنَّاسِ بيان العلّة للإنزال أي أنزلهما لهداية الناس، و في البيان لفّ بدون النشر بسبب معلوميّة زمان موسى عن زمان عيسى فلا يقع اللبس [وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ أي جنس كتب السماويّة لأنّ كلّها فارقة بين الحقّ و الباطل أو هو القرآن كرّر ذكره تعظيما لشأنه.

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بالقرآن و معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [لَهُمْ بسبب كفرهم بها [عَذابٌ شَدِيدٌ] لا يقادر قدره [وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ غالب لا يتهيّأ لأحد منعه، و الانتقام مجازاة المسي ء على إساءته.

ص: 163

[إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ] أي مدرك الأشياء كلّها مطّلع على كفر من كفر به و إيمان من آمن به فيجازيهم يوم القيامة.

[سورة آل عمران (3): آية 6]

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

. «التصوير» جعل الشي ء على صورة لم يكن عليها و الصورة هيئة يكون عليها الشي ء في التأليف من صاره إذا ماله أي هو الّذي يجعلكم على هيئة مخصوصة في أرحام امّهاتكم من ذكر و أنثى و أسود و أبيض و طويل و قصير و حسن و قبيح، و هو ردّ على الّذين قالوا: عيسى اللّه أو ابن اللّه؛ لأنّ من صوّر في الرحم يمتنع أن يكون إلها لكونه مركّبا أو حالّا في المركّب و هو في عرض الفناء.

[لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] منزّه نفسه أن يكون عيسى ابنا له [الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ المتناهي في القدرة و الحكمة قال صلّى اللّه عليه و آله: يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقرّ في الرحم بأربعين أو بخمس و أربعين ليلة فيقول: أ شقيّ أم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي ربّ أ ذكر أم أنثى؟ فيكتبان، و يكتب عمله و رزقه و أجله ثمّ تطوى الصحف فلا يزاد فيها و لا ينقص ثمّ يقول الملك: يا ربّ ما أصنع بهذا الكتاب فيقول: علّقه في عنقه إلى قضائي عليه.

أقول: و لا ينافي هذا مع اختيار العبد الصلاح و الفساد و لا يدلّ على الجبر في الشقاوة و السعادة؛ لأنّ المراد بهذا الكتاب إظهار علمه للملك و ليست هذه الكتابة من موجبات الفعل أبدا بل هو إظهار سابق علمه تعالى بأنّ هذا العبد يؤول أمره إلى هذا فمثاله مثال أنّك تعلم من ضمير السلطان أنّه يقتل غدا زيدا السارق فتخبر ابنك بأنّ زيدا غدا مقتول فيقتل غدا فهل القتل مسبّب عن خبرك لابنك أو أنّ إخبارك له من موجبات قتله؛ فالحال الحال و المثال المثال، فأمر اللّه تعالى للملك بالكتابة لسابقة علمه لا أنّه قضى عليه بالسعادة أو الشقاوة.

نعم الجبر حاصل في التكوينيّات كالذكر و الأنثى و الطول و القصر و أمثالها و ذلك لمقتضى الحكمة لكنّ الأفعال الصادرة منك بحسب مشتهيات نفسك اختياريّة و إنّما دواعيها ميل خاطرك و نفسك، و دلّت الآية على كمال علمه و قدرته حيث صوّر الولد في رحم الأمّ على

ص: 164

هذه الصورة و قد تقرّر في العقول على أنّ العالم لو اجتمعوا على أن يخلقوا بعوضة ما قدروا و لو بذلوا جميع خزائن الأرض «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» (1).

[سورة آل عمران (3): آية 7]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (2)

. لمّا تقدّم بيان إنزال القرآن بيّن في هذه الآية كيفيّة القرآن فقال: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن [مِنْهُ أي من القرآن [آياتٌ مُحْكَماتٌ قطعيّة الدلالة على المعنى المراد ظاهرة العبارة محفوظة عن الاحتمال و الاشتباه [هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصل فيه و عمدة و يردّ إليها غيرها بالتأويل، و الإضافة بمعنى «في» أي امّ في الكتاب.

[وَ أُخَرُ] أي و منه آيات أخر [مُتَشابِهاتٌ أي محتملات لمعان متشابهة لا يمتاز بعضها من بعض في استحقاق الإرادة به و ليس بمتّضح إلّا بنظر الدقّة فالمتشابه في الحقيقة وصف للمعاني وصف بها الآيات على طريق وصف الدالّ بوصف المدلول.

و اعلم أنّ اللفظ إمّا أن لا يحتمل غير معنى واحد أو يحتمل و الأوّل هو النصّ الصريح كقوله تعالى: «وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» (3) و الثاني إمّا أن يكون دلالته على مدلوليه أو مدلولاته متساوية أو لا فالأوّل هو المجمل كقوله: «ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» (4) و أمّا الثاني فهو بالنسبة إلى الراجح ظاهر و بالنسبة إلى المرجوع مؤوّل كقوله: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (5) و النصّ محكم و المجمل و المؤوّل المتشابه كقوله: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» (6) فيردّ إلى قوله: «وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ»* (7).

و الحاصل أنّ المحكم ما لا يشتبه معانيه، و المتشابه ما اشتبهت معانيه و يكون محتمل الوجوه في المراد أ لا ترى أنّ قوله: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ»* (7) يحتمل في اللغة أن يكون

ص: 165


1- المؤمنون: 14.
2- الأعراف: 53.
3- البقرة: 163.
4- البقرة: 163.
5- الفتح: 10.
6- البقرة: 115.
7- البقرة: 144.

معناه كاستواء الجالس على سريره و أن يكون بمعنى القهر و الاستيلاء؟ و الوجه الأوّل لا يجوز عليه و هذا مثال المتشابه. و قيل: إنّ المحكم الناسخ و المتشابه المنسوخ عن ابن عبّاس. و قال ابن زيد: المحكم ما لم يتكرّر لفظه و المتشابه ما تكرّر ألفاظه.

فلو قيل: لم وحّد «أُمُّ الْكِتابِ» و كلمة «هنّ» تقتضي أمّهات الكتاب؟ لأنّ الآيات بمجموعها أصل الكتاب و ليست كلّ آية محكمة امّ الكتاب و أنّها جرت مجرى شي ء واحد في البيان و الحكمة مثل قوله: «وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً» (1) و لم يقل:

آيتين؛ لأنّ هذه الآية إنّما تحقّقت من كليهما في أنّها جاءت به من غير ذكر فلم تكن الآية إلّا به و لا له إلّا بها.

[فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحقّ إلى الأهواء الباطلة [فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ معرضين عن المحكمات يتعلّقون بظاهر المتشابه من الكتاب و بتأويل باطل لا للتحرّي للحقّ [ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ] بل طلبا أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك في معنى الآية لحصول مقاصدهم و لمناقضة المحكم بالمتشابه [وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي طلب أن تأوّلوه حسبما يشتهونه من التأويلات الفاسدة و الحال أنّهم بمعزل من تلك الرتبة و ذلك قوله:

[وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أي تأويل المتشابه [إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي الثابتون في العلم.

و اختلف في نظم الآية على قولين: أحدهما أنّ الراسخون معطوف على اللّه فيكون المعنى أنّ تأويل المتشابه لا يعلمه إلّا اللّه و إلّا الراسخون في العلم مثل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة فإنّهم يعلمونه [يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ و موضع «يقولون» النصب على الحال أي حال كونهم قائلين آمنّا باللّه [كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا] و هذا قول ابن عبّاس و أبي مسلم و جماعة من المفسّرين، و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام (2) فإنّه قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التأويل و التنزيل و ما كان لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و هو و أوصياؤه من بعد يعلمونه كلّه.

ص: 166


1- المؤمنين: 50.
2- العيّاشي: بريد بن معاوية عنه عليه السّلام. البرهان.

و القول الآخر أنّ الواو في قوله: «وَ الرَّاسِخُونَ» واو الاستيناف و الوقف عند قوله:

«إلّا اللّه» و يبتدأ بقوله: «وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ» فيكون مبتدءا و خبرا و هذا قول عائشة و عروة بن الزبير و الحسن و مالك و اختيار الكسائيّ و الفرّاء و الجبّائيّ، و قالوا: إنّ الراسخين لا يعلمونه و لكنّهم يؤمنون به فالآية راجعة على هذا المعنى إلى عدم العلم بمدّة بقاء الدنيا و أكل هذه الأمّة و وقت قيام الساعة و وقت طلوع الشمس من مغربها و نزول عيسى عليه السّلام و خروج الدجّال و نحو ذلك ممّا استأثر اللّه بعلمه.

قال أكثر أهل التفسير من أهل السنّة و الجماعة و الإماميّة رضوان اللّه عليهم: إنّ الوجه القول الأوّل، لأنّ اللّه لم ينزل شيئا من القرآن إلّا لينتفع به عباده فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال، ثمّ إنّا نرى أنّ الصحابة و التابعين اجتمعوا على تفسير جميع آي القرآن و لم نرهم توقّفوا على شي ء منه، و كان ابن عبّاس يقول: أنا من الراسخين في العلم؛ فعلى هذا يلزمنا أن نقول: إمّا تفسير الصحابة غلط أو أنّهم أعلم من رسول اللّه و كلا القولين باطل.

[وَ ما يَذَّكَّرُ] حقّ التذكّر [إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي العقول الخالصة عن الركون إلى الأهواء، و اختلف في الّذين قصدوا في الآية من مبتغي الفتنة فقيل: عني به وفد نجران لمّا حاجّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أمر عيسى عليه السّلام و سألوه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: أليس عيسى كلمة اللّه و روحا منه؟ فقال: بلى، فقالوا: حسبنا، فأنزل اللّه «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ» يعني أنّهم قالوا: إنّ الروح ما فيه بقاء البدن؛ فأجروه على ظاهره، و قد قامت الدلالة على أنّ القديم ليس بذي أجزاء و أعضاء و إنّما أضاف الروح تشريفا للروح كما يضاف البيت إليه. و قيل: هم اليهود طلبوا علم بقاء هذه الأمّة و استخراجه بحساب الجمل.

و قيل: هم المنافقون. و قيل: الآية عامّة في كلّ من احتجّ بالمتشابه لباطله.

[سورة آل عمران (3): الآيات 8 الى 9]

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)

هذه حكاية عن قول الراسخين الّذين ذكرهم اللّه في الآية أي لا تمنعنا لطفك الّذي

ص: 167

تستقيم به القلوب فيميل قلوبنا عن الإيمان بعد أن وفّقتنا بألطافك فاهتدينا. و هذا دعاء للتثبيت على الهداية كأنّهم قالوا: لا تخلّ بيننا و بين نفوسنا بمنعك الألطاف عنّا فتزيغ قلوبنا، و إنّما يمنع ذلك بسبب ما يكتسبه العبد من المعصية و تأخير التوبة.

و قيل: معنى الآية: لا تكلّفنا من الشدائد ما تصعب علينا فعله فنتركه فتزيغ قلوبنا بعد الهداية؛ فأضافوا ما يقع من زيغ القلوب إليه سبحانه لأنّ ذلك يكون عند تشديده تعالى المحنة عليهم كما قال نوح: «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» (1) و قال أبو عليّ الجبّائيّ:

إنّ المراد لا تزغ قلوبنا من ثوابك و رحمتك و هو ما ذكره اللّه من الشرح و السعة بقوله:

«يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» (2) و ذكر أنّ ضدّ هذا الشرح هو الضيق و الزيغ اللذان يقعان بالكفّار عقوبة؛ فكأنّهم سألوا اللّه أن لا يزيغ قلوبهم من هذا الثواب إلى ضدّه من العقاب، أو المعنى أنّهم يقولون: لا تمل قلوبنا عن نهج الحقّ إلى اتّباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه.

[بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا] إلى الحقّ و المحكم [وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ من عندك [رَحْمَةً] واسعة تقرّبنا إليك [إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ و إطلاق صيغة المبالغة ليتناول كلّ موهوب.

[رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ بعد الموت [لِيَوْمٍ لجزاء يوم و حسابه و هو يوم القيامة [لا رَيْبَ فِيهِ من وقوعه [إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ] قيل: إنّ الكلام على الاستيناف فيكون إخبارا من اللّه. و قيل: بقيّة كلام دعاء الراسخين و إن خالف آخر الكلام أوّله في الخطاب و الغيبة فيكون مثل قوله: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ» (3) و التقدير الخطاب.

[سورة آل عمران (3): آية 10]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)

. بيّن في الآية حال الّذين في قلوبهم زيغ فقال: إنّ الّذين كفروا بآيات اللّه و رسله و «من» في الآية بمعنى «عند» لا تدفع أموالهم و لا أولادهم عند اللّه شيئا و قال المبرّد: «من» على أصلها و المعنى من عذاب اللّه شيئا [وَ أُولئِكَ الكافرون حطب النار و تتّقد النار أجسامهم

ص: 168


1- نوح: 6.
2- الانعام: 125.
3- يونس: 22.

كما قال في موضع آخر «حَصَبُ جَهَنَّمَ» (1).

[سورة آل عمران (3): آية 11]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)

. «الدأب» مصدر دأب إذا اجتهد في العمل و كدح فيه و نقل من هذا المعنى إلى العادة و التمرّن أي عادة هؤلاء في الكفر كعادة آل فرعون و الّذين قبل فرعون من الأمم الكافرة [كَذَّبُوا بِآياتِنا] بيان لدأبهم كأنّه قيل: كيف كان دأبهم؟ فقيل: كذّبوا بآياتنا و كتبنا و رسلنا [فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ فبسبب كفرهم عاقبهم اللّه بعذابه فحال هؤلاء كحال أولئك، و «الدأب» في الأصل التلو و التابع [وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن كفر بآياته.

[سورة آل عمران (3): آية 12]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (12)

. قال ابن عبّاس: إنّ يهود المدينة لمّا شاهدوا غلبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المشركين يوم بدر قالوا: و اللّه إنّه النبيّ الأمّيّ الّذي بشّرنا به موسى و في التوراة نعته و همّوا باتّباعه، فقال بعضهم. لا تعجلوا حتّى ننظر إلى وقعة له اخرى؛ فلمّا كان يوم أحد شكّوا و كان بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهد إلى مدّة فنقضوه و انطلق كعب بن الأشرف في ستّين راكبا إلى أهل مكّة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت:

[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ البتّة عن قريب و قد صدق اللّه وعده بقتل بني قريظة و إجلاء بني النضير و فتح خيبر و ضرب الجزية على من عداهم و هو من شواهد النبوّة، و قيل:

المراد كفّار مكّة و مشركوهم [وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ و تجمعون إليها يوم القيامة، و قرئ بالياء على الغياب فيمكن أن يكون المغلوبون و المحشورون غير المخاطبين و أنّهم قوم آخرون، و يمكن أن يكونوا إيّاهم. قال الفرّاء: يقال: قل لعبد اللّه: إنّه قائم و إنّك قائم.

[وَ بِئْسَ الْمِهادُ] أي بئس ما مهّدتم لأنفسكم و بئس القرار.

[سورة آل عمران (3): آية 13]

قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)

ص: 169


1- الأنبياء: 98.

نزلت في قصّة بدر و كان المسلمون ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا على عدّة أصحاب طالوت: سبعة و سبعون رجلا من المهاجرين و مائتان و ستّة و ثلاثون رجلا من الأنصار، و كان صاحب لواء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المهاجرين عليّ بن أبي طالب و صاحب لواء الأنصار سعد بن عبادة، و كانت الإبل في جيش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبعين بعيرا و الخيل فرسين فرس للمقداد بن أسود و فرس لمرثد بن أبي مرثد و كان معهم من السلاح ستّة أدرع و ثمانية سيوف و جميع من استشهد يومئذ أربعة عشر رجلا من المهاجرين و ثمانية من الأنصار.

و اختلف في عدّة المشركين فروي عن عليّ صلّى اللّه عليه و آله و ابن مسعود أنّهم كانوا ألفا، و عن قتادة و عروة بن الزبير و الربيع كانوا بين تسعمائة إلى ألف و كانت خيلهم مائة فرس و رأسهم عتبة ابن عبد شمس، و كان حرب بدر أوّل مشهد شهده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

المعنى: [قَدْ كانَ لَكُمْ جواب قسم محذوف أي و اللّه قد كان لكم أيّها اليهود المغترّون بعددهم [آيَةٌ] عظيمة دالّة على صدق حما أقول لكم: أنّكم ستغلبون [فِي فِئَتَيْنِ و جماعتين فإنّ المغلوبة منها كان مدلّة بكثرتها معجبة لغرّتها و قد لقاها ما لقاها فسيصيبكم ما يصيبكم [الْتَقَتا] و تلاقتا بالقتال يوم بدر [فِئَةٌ] خبر مبتدء محذوف أي إحداهما فئة [تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هم لا كثرة فيهم و لا شوكة و هم أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله [وَ أُخْرى أي فئة اخرى [كافِرَةٌ] باللّه و رسوله.

[يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ أي ترى الفئة الكافرة الفئة الاولى المؤمنة مثلي عدد الرائين و ضعفهم [رَأْيَ الْعَيْنِ في ظاهر العين، و اختلف في معناه فقيل: معناه يرى المسلمون المشركين مثلي عدد أنفسهم قلّلهم اللّه في أعينهم حتّى رأوهم ستّمائة و ستّ و عشرين رجلا تقوية لقلوبهم؛ و ذلك أنّ المسلمين قيل لهم: فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين فأراهم اللّه عدوّهم حسب ما حدّ لهم من العدد الّذي يلزمهم أن يثبتوا لهم و لا يحجموا عنهم عن ابن مسعود و جماعة من المفسّرين. و قيل: إنّ الرؤية للمشركين يعني يرى المشركون المسلمين ضعيفهم فإنّ اللّه تعالى قلّل المسلمين في أعين المشركين قبل القتال ليجترؤوا و لا ينصرفوا فلمّا أخذوا في القتال كثّرهم في أعينهم ليجبنوا و قلّل المشركين في أعين المسلمين ليجترؤوا عليهم و تصديق ذلك قوله تعالى: «وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ الآية» (1).

ص: 170


1- الأنفال: 45.

و ذلك أحسن أسباب النصر للمسلمين و الخذلان للكافرين، و هذا المعنى على قراءة الياء و أمّا من قرأ بالتاء فلا يحتمله إلّا القول الأوّل على أن يكون الخطاب لليهود المعنيّون بقوله:

«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ» و هم يهود بني قينقاع فكأنّه قال: ترون أيّها اليهود المشركين مثلي المسلمين مع أنّ اللّه أظفرهم عليهم فأنتم كذلك فلا تغترّوا بكثرتكم، و هذا قول البلخيّ.

[وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ] أي يقوّي بإعانته من يريد نصره من غير توسيط الأسباب العاديّة [إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيرا و الكثير قليلا [لَعِبْرَةً] من العبور كالجلسة من الجلوس و المراد الاتّعاظ فإنّه نوع من العبور إلى فهم المعنى أي عظة عظيمة لذوي العقول و البصائر. فعلى العاقل أن يعتبر و لا يغترّ بكثرة الأعداد و الأموال فإنّ اللّه يمتّعه قليلا ثمّ يضطرّه إلى عذاب غليظ.

قيل: إنّه قدم على الأستاذ أبي عليّ الدقّاق مؤمن فقير و عليه مسح (1) و قلنسوة فقال بعض أصحابه من المريدين للفقير على وجه المطايبة: بكم اشتريت هذا المسح؟ فقال اشتريته بالدنيا فطلب منّي الآخرة فلم أبعه.

قال أبو بكر الورّاق: طوبى للفقراء في الدنيا و الآخرة لا يطلب السلطان منه في الدنيا الخراج و لا الجبّار في الآخرة الحساب.

[سورة آل عمران (3): آية 14]

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

. أي حسّن لهم [حُبُّ الشَّهَواتِ و الشهوة توقان النفس إلى المشتهى و المزيّن هو اللّه و لا يقدر عليها أحد من البشر و هي ضرورة فينا، و إنّما جعلها فينا ليصحّ التكليف و لا يمكننا رفعها عن نفوسنا و ذلك على سبيل الامتحان و تشديد التكليف كما قال: «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (2) و قيل: زيّن اللّه ما يحسن منه و زيّن

ص: 171


1- نسيج الشعر.
2- الكهف: 7.

الشيطان ما يقبح منه بالوسوسة، عن أبي عليّ الجبّائيّ. و خلق اللّه الملائكة عقولا بلا شهوة و البهائم ذات شهوات بلا عقول و جعلهما في الإنسان فمن غلب عقله شهوته فهو أفضل من الملائكة و من غلب عليه شهوته فهو أرذل من البهائم.

[مِنَ النِّساءِ] و قدّم ذكر النساء أي حالكونها من طائفة النساء لعراقتهنّ في معنى الشهوات فإنّهنّ حبائل الفتنة و الشيطان [وَ الْبَنِينَ و يقع الفتنة بسببهم على جمع المال و كسب الحرام و لأنّ العلاقة بهم يمنع الإنسان عن محافظة حدود اللّه؛ قيل: أولادنا فتنة إن عاشوا فتنونا و إن ماتوا أحزنونا. و عدم التعريض للبنات لعدم الاطّراد في حبّهنّ مثل البنين.

[وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ] «القنطار» المال الكثير المجتمع و، قيل: «القنطار» مائة ألف دينار أو ملئي مسك ثور قاله أبو جعفر عليه السّلام (1)، أو سبعون ألفا أو أربعون ألف مثقال أو ثمانون ألفا أو مائة رطل أو ألف و مائتا مثقال أو ألف دينار أو مائة منّ و مائة مثقال و مائة رطل و مائة درهم أودية النفس. و في الكشّاف: المقنطرة مبنيّة من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم:

ألوف مؤلّفة و بدر مبدّرة. و قيل: «المقنطرة» المضاعفة قال الفرّاء: هي تسعة قناطير. و قيل:

هي الأموال المنضد بعضها على بعض و جمع جميع الأقوال يرجع إلى الكثرة.

[وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ] قيل: المراد الخيل الراعية. و قيل: هي الحسنة السيماء. و قيل:

من السمة و العلامة أي المعلمة «و الخيل» جمع لا واحد له من لفظه، واحده فرس و اشتقاقها من الخيلاء فإنّها لم يتخيّل في عين صاحبها أعظم منها و ركوبها فوجب الخيلاء لراكبها بعد أن تمكّن عليها [وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ أي الإبل و البقر و الغنم و الزرع كلّ منها فتنة للناس:

أمّا النساء و البنون فتنة للجميع، و الذهب و الفضّة فتنة لأهل الغنى و التجّار، و الخيل فتنة للملوك، و الأنعام لأهل البوادي، و الحرث لأهل الرساتيق.

[ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من الأشياء المعهودة [مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا] ما يمتّع به في الحياة الدنيا أيّاما قلائل فيفنى سريعا [وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ و هو الجنّة لأنّ مرجع أهل اللّه إليها و في الآية تزهيد في طيّبات الدنيا في الجملة و ترغيب فيما عند اللّه

ص: 172


1- الطبرسي مرسلا.

فعلى العاقل أن يأخذ من الدنيا قدر البلغة و لا يستكثر بالاستكثار الّذي يورط صاحبه في المحظور.

[سورة آل عمران (3): آية 15]

قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)

. [قُلْ يا محمّد، و الهمزة للتقرير أي أخبركم بما هو خير ممّا فصّل من تلك المستلذّات المزيّنة لكم [لِلَّذِينَ اتَّقَوْا] و المراد أهل التّقوى «للّذين» خبر مبتدؤه «جنّات» و المراد من التقوى التحرّز عن المعاصي و التبّتل إلى اللّه بالإعراض عمّا سواه كما ينبئ عن هذا المعنى النعوت الآتية [عِنْدَ رَبِّهِمْ نصب على الحاليّة [جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ] و مبرّءات من العيوب الظاهرة كالحيض و القاذورات و من العيوب الباطنة كالغضب و الحسد و نحوه، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: شبر من الجنّة خير من الدنيا و ما فيها [وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ و إزاء هذه الجنّات رضوانه أي رضوان لا يقادر قدره كائن منه تعالى.

قال أهل التحقيق: الجنّات في الآية إشارة إلى الجنّة الجسمانيّة، و الرضوان إشارة إلى الجنّة الروحانيّة و هي عبارة عن تجلّي أنوار رضاء اللّه و جلاله لروح العبد و استغراق العبد في استدراك لذّة المعرفة فيصير العبد في مقام الأوّل راضيا عن اللّه و في آخره مرضيّا عنده تعالى و إليه الإشارة بقوله: «راضِيَةً مَرْضِيَّةً» (1).

[وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ] و بأعمالهم فيعاقب و يثيب حسب ما يليق.

[سورة آل عمران (3): الآيات 16 الى 17]

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)

ثمّ وصف المتّقين الّذين سبق ذكرهم بقوله: «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» فقال: [الَّذِينَ يَقُولُونَ أي المتّقين يقولون: [رَبَّنا إِنَّنا] صدّقنا بك [فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ] أي استرها و ادفع عنّا عذاب النّار [الصَّابِرِينَ نصب على المدح بإضمار أعني الصابرين و هو وصف آخر «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» و الصبر التحمّل من مشاقّ الدنيا و الطاعات [وَ الصَّادِقِينَ في نيّاتهم و

ص: 173


1- الفجر: 29.

أقوالهم [وَ الْقانِتِينَ المواظبين على الدعاء و العبادة [وَ الْمُنْفِقِينَ أموالهم في سبيل اللّه [وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ] و توسّط الواو بين الصفات مؤذن بأنّ كلّ صفة مستقلّة بالمدح.

و قيل: إنّ الصبر ثلاثة: الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية (1). و الصدق يجري في القول و هو مجانبة الكذب و في الفعل و هو إتيانه و عدم الانصراف عنه و في النيّة و هو العزم عليه حتّى يفعل، و الإنفاق يتناول على أقاربه و رحمه للّه و في الجهاد و الصدقات على الفقراء و سائر وجوه البرّ.

«و الاستغفار» سؤال المغفرة و تخصيص الأسحار لأنّ الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة و العبادة حينئذ أشقّ و النفس أصفى و الروح أجمع لا سيّما للمجتهدين و أبعد للرياء؛ قال يعقوب عليه السّلام: «سأستغفر لكم» أخّره إلى وقت السحر قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ينزل اللّه إلى السماء الدنيا كلّ ليلة حتّى يبقى ثلث الليل فيقول: أنا الملك من ذا الّذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الّذي يسألني فأعطيه من الّذي يستغفرني فأغفر له؟ و معنى ينزل اللّه ينزّل اللّه ملكا من أمره فكأنّه ينزل تعالى و هو تعالى شأنه عن النزول و الصعود. قال لقمان لابنه:

يا بنيّ لا تكوننّ أعجز من هذا الديك يصوت بالأسحار و أنت نائم على فراشك.

و الحاصل إذا كان التسبيح من فعل الحيوانات العجم بل النباتات و الجمادات كما يفصح عن هذا البيان قوله تعالى: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (2) فالإنسان الّذي هو العالم الكبير أولى بأن يشتغل بالتسبيح.

شهد اللّه إنّه بأنّه لا اله إلّا هو نزلت الآية حين جاء رجلان من أحبار الشام فقالا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنت محمّد؟ قال نعم. قالا: أنت أحمد؟ قال نعم، قالا: أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب اللّه فأخبرهما. أي أثبت اللّه بالحجّة القطعيّة و أعلم سبحانه بمصنوعاته الدالّة على وحدانيّتة في خلقة الأشياء إذ لا يقدر أحد أن ينشئ شيئا منها قال ابن عبّاس:

خلق اللّه الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة و خلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة فشهد لنفسه قبل خلق الخلق حين كان و لم يكن سماء و لا أرض و لا برّ و لا بحر فقال:

ص: 174


1- سقطت الثالثة.
2- الإسراء: 44.

شهد اللّه، الآية و الملائكة عطف على الاسم الجليل أي أقرّت الملائكة بذلك لمّا عاينت من عظم قدرته و أولوا العلم آمنوا به و احتجّوا عليه بالأدلّة التكوينيّة و التشريعيّة و هم الأنبياء و المؤمنون العالمون. قال الزجّاج: معنى «شهد اللّه» أي علم اللّه و أخبر بما يقوم مقام الشهادة على وحدانيّته من عجائب صنعته؛ فإنّ الشاهد هو العالم الّذي يبيّن ما علمه، و من هذا المعنى شهد فلان عند القاضي أي بيّن علمه، و قال الحسن: في الآية تقديم و تأخير و التقدير: شهد اللّه أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط و شهدت الملائكة أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط و شهد أولو العلم أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط. و القسط العدل الّذي قامت به السماوات.

و قيل: معنى قوله: قائما بالقسط أنّه يقوم بتدبير الخلق و جزاء الأعمال بالعدل كما يقال: فلان قائم بالتدبير أي يجري أفعاله على الاستقامة.

و إنّما كرّر قوله: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» لأنّه بيّن بالأوّل أنّه المستحقّ للتوحيد و بالثاني أنّه القائم بتدبير الخلق من الأرزاق و الآجال و الإثابة و المعاقبة

[سورة آل عمران (3): آية 18]

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

يفعل ما يشاء لا معقّب لحكمه و تضمّنت الآية الإبانة عن فضل أهل العلم و العلماء لأنّه قرن العلماء بالملائكة و شهادتهم بشهادة الملائكة.

و ممّا جاء في فضل العلم و العلماء من الحديث ما رواه جابر بن عبد اللّه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ساعة من عالم يتّكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاما.

أقول: المراد من العلم علم الدين و الشريعة.

و روى أنس بن مالك عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه للّه حسنة و مدارسته تسبيح و البحث عنه جهاد و تعليمه من لا يعلمه صدقة و تذكّره لأهله قربة؛ لأنّه معالم الحلال و الحرام و منار سبيل الجنّة و النار و الأنيس في الوحشة و الصاحب في الغربة و المحدّث في الخلوة و الدليل على السرّاء و الضرّاء و السلاح على الأعداء و القرب عند الغرباء يرفع اللّه به أقواما فيجعلهم في الخير قادة يقتدى بهم و يقتفي بآثارهم و ينتهي إلى رأيهم و ترغب الملائكة في خلّتهم و بأجنحتها تمسحهم و في صلاتهم تستغفر لهم و كلّ رطب و يابس مستغفر لهم حتّى حيتان البحر و هوامّ الأرض و سباعها و أنعامها و السماء و نجومها، ألا و إنّ العلم

ص: 175

حياة القلب و نور الأبصار و قوّة الأبدان يبلغ بالعبد منازل الآخرة و مجلس الملوك و الفكر فيه يعدل بالصيام و مدارسته بالقيام، و العلم إمام العمل و العمل تابعه.

و روى أنس في فضل هذه الآية قال: من قرأ «شَهِدَ اللَّهُ الآية» عند مقامه خلق اللّه منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة.

و قال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما فلمّا نزلت «شهد اللّه، الآية» خرّوا سجّدا.

و عن غالب القطّان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فكنت أحتلف إليه فلمّا كنت ذات ليلة أردت أن أصدر إلى البصرة قام من اللّيل فتهجّد فمرّ بهذه الآية «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» قال الأعمش: و أنا أشهد بما شهد اللّه به و أستودع اللّه هذه الشهادة و هي لي عند اللّه وديعة «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» قلت في نفسي: لقد سمع فيها شيئا فصلّيت معه و ودّعته ثمّ قلت: آية سمعتك تردّدها فما بلغك فيها؟ قال و اللّه: لا احدّثك بها إلى سنة فلبثت على بابه سنة فلمّا مضت السنة قلت: يا أبا محمّد قد مضت السنة قال: حدّثني أبو وائل عن عبد اللّه (أقول: المراد عبد اللّه بن عمر) قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول اللّه: إنّ لعبدي هذا عندي عهدا و أنا أحقّ من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنّة.

و عن ابن مسعود أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: لأصحابه ذات يوم أ يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا قالوا: و كيف ذلك؟ قال: يقول كلّ صباح و مساء: «اللّهمّ فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك و أنّ محمّدا عبدك و رسولك و أنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ و تباعدني من الخير و أنّي لا أثق إلّا برحمتك فاجعل لي عهدا توفنيه يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد» فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع و وضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الّذين لهم عند اللّه عهد فيدخلون الجنّة.

ان الدين عند اللّه الإسلام جملة مستأنفة مؤكّدة للأولى أي لأدين مرضيّا عند

ص: 176

اللّه سوى الإسلام الّذي هو التوحيد و الإطاعة و التسليم بالشريعة المقرّرة في أحكام الإسلام و هو القرآن، و لا شكّ أنّ الإسلام شهادة التوحيد قلبا و لسانا و القبول لما جاء من عند اللّه و هذا الحكم ثابت من زمن آدم إلى الخاتم و إنّما الاختلاف في الفروع الّتي هي الشرائع و الشروط و يغيّر بما جاء به النبيّ في كلّ زمان؛ فالحقيقة متّحدة و الشروط مختلفة و هذا الاختلاف الصوريّ لا ينافي الاتّحاد الأصليّ.

و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب نزلت في اليهود و النصارى حين أنكروا نبوّته صلّى اللّه عليه و آله إلّا من بعد ما جاءهم العلم استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال و الأوقات أي ما اختلفوا في الإسلام و النبوّة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله إلّا بعد أن علموا بأنّه الحقّ و عرفوا صحّة كلامه صلّى اللّه عليه و آله بالحجج و الآيات و أنّ الاختلاف بعد حصول تلك المرتبة ممّا لا يصدر عن العاقل بغيا بينهم مفعول له لقوله: «اختلف» أي حسدا كائنا بينهم و طلبا للرياسة.

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ الناطقة و لم يعمل بمقتضاها

[سورة آل عمران (3): آية 19]

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)

الجملة قائم مقام جواب الشرط، و من يكفر بآياته فإنّه يجازيه و يعاقبه عن قريب لأنّه تعالى يحاسبهم في أقلّ من لمحة.

[سورة آل عمران (3): آية 20]

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

. فإن خاصموك، و خاصمه وفد نصارى و هم نصارى نجران في كون الدين عند اللّه الإسلام [فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ و أخلصت قلبي و جملتي [لِلَّهِ وحده لم أجعل فيها لغيره شريكا بأن أعبده و أدعوه و هو القديم الّذي ثبتت ألوهيّته عندكم و عندي و ما جئت بشي ء بديع حتّى تجادلونني فيه [وَ مَنِ اتَّبَعَنِ عطف على الضمير في «أسلمت» أي و أسلم من اتّبعني.

[وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى [وَ الْأُمِّيِّينَ الّذين لا كتاب لهم من مشركي العرب [أَ أَسْلَمْتُمْ متّبعين لي كما فعل المؤمنون و صورة اللفظ الاستفهام و معناه التهديد و متضمّن للأمر أي أسلموا فإنّه تعالى قد أزاح العلل «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»*

ص: 177

أم بعد باقون على كفركم؟ و نظيره قوله: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (1) أي انتهوا [فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا] كما هديتم أيّها المسلمون و فازوا بالحظّ الأوفر.

[وَ إِنْ تَوَلَّوْا] و أعرضوا عن الاتّباع [فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ قائم مقام جواب الشرط أي لم يضرّوك شيئا أو عليك التبليغ و لست ملتزما بحصول هدايتهم. روي أنّ رسول اللّه لمّا قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا: أسلمنا، فقال صلّى اللّه عليه و آله لليهود: أ تشهدون أنّ عيسى كلمة اللّه و عبده و رسوله؟ فقالوا: معاذ اللّه، و قال للنصارى: أ تشهدون أنّ عيسى عبد اللّه و رسوله؟

فقالوا: معاذ اللّه أن يكون عيسى عبدا و ذلك قوله تعالى: «وَ إِنْ تَوَلَّوْا».

[وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ] عالم بأحوالهم و هو وعد و وعيد.

[سورة آل عمران (3): آية 21]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21)

. أي الّذين يجحدون حجج اللّه و بيّناته [وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ قيل: هم اليهود، عن أبي عبيدة الجرّاح قال: قلت: يا رسول اللّه أيّ الناس أشدّ عذابا يوم القيامة فقال: رجل قتل نبيّا أو قتل رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ثمّ قرأ صلّى اللّه عليه و آله «وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ الآية» ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيّا من أوّل النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل و اثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف و نهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار في ذلك اليوم و هو الّذي ذكره اللّه [فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ و قوله «بِغَيْرِ حَقٍّ» لا يدلّ على أن قتل الأنبياء ما هو حقّ بل المراد أنّ قتلهم لا يكون إلّا بغير حقّ كقوله: «وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» (2) و المراد تأكيد النفي فإنّ القتل يكون بوجوه من الحقّ و هم كانوا يقتلون بغير وجه من وجوه الحقّ.

[سورة آل عمران (3): آية 22]

أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)

. [أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصفات القبيحة [الَّذِينَ بطلت أعمالهم الّتي عملوها من البرّ و لم يبق لهم أثر في الدارين [وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من بأس اللّه و عذابه.

ص: 178


1- المائدة: 94.
2- المؤمنون: 118.

[سورة آل عمران (3): آية 23]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

. تعجيب للرسول و لكلّ من تتأتّى منه الرؤية في حال أهل الكتاب و سوء صنيعهم أي تنظر [إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً] و حظّا وافرا من التوراة و ما أوتوا من العلوم و الأحكام الّتي من جملتها ما علموه من نعوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ قيل: المراد التوراة، قال ابن عبّاس: دعا إليها اليهود فأبوا لعلمهم بلزوم الحجّة لما فيه من الدلالات على صدق نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إنّما قال: «أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ» لأنّهم كانوا يعلمون بعض ما فيه. و قيل: المراد من «الكتاب» في الآية القرآن عن الحسن و قتادة. دعوا إلى القرآن لأنّ ما فيه موافق لما في التوراة من اصول الديانة.

[لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليحكم ذلك الكتاب بينهم و أضيف الحكم إليه لأنّه يفرق بين الحقّ و الباطل فهو الحاكم كما في صفة القرآن «بَشِيراً وَ نَذِيراً» و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل مدارس اليهود فدعاهم إلى الإسلام فقال له رئيسهم نعيم بن عمر: على أيّ دين أنت؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: على ملّة إبراهيم، قال: إنّ إبراهيم كان يهوديّا، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ بيننا و بينكم التوراة فهاتوها فأبوا.

و قال الكلبيّ: نزلت الآية في قضيّة الرجم و هي أنّه فجر رجل و امرأة من أهل خيبر و كانا في شرف من قومهما و كان حكمهم في كتابهم الرجم فأتوا رسول اللّه رجاء رخصة عنده فحكم عليهم بالرحم فقالوا: جرت علينا في الحكم ليس عليهما الرجم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: بيني و بينكم التوراة؛ قالوا: قد أنصفتنا، قال: فمن أعلمكم بالتوراة؟ قالوا: ابن صوريا؛ فأرسلوا إليه فدعا النبيّ بشي ء من التوراة فيه الرجم دلّه على ذلك ابن سلام فقال صلّى اللّه عليه و آله لابن صوريا. اقرأ فلمّا أتى على آية الرجم وضع كفّه عليها و قام ابن سلام و رفع إصبعه عنها ثمّ قرأ على رسول اللّه و على اليهود بأنّ المحصن و المحصنة إذا زنيا و قامت عليهما البيّنة رجما و إن كانت المرأة حبلى تربّص حتّى تضع ما في بطنها و أمر رسول اللّه باليهوديّين فرجما فغضب اليهود لذلك و رجعوا كفّارا فأنزل اللّه هذه الآية.

[ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن الحقّ.

ص: 179

ذلك التولّي حاصل بأنهم بسبب أنّهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ باقتراف الذنوب و ركوب المعاصي إلّا أياما معدودات و هي الأيّام الّتي عبدوا فيها العجل أربعون يوما و بسبب قصر المدّة سهّلوا و هوّنوا عليهم الخطوب. و قال الحسن: سبعة أيّام. و قيل: المراد أيّام قلائل منقطعة عن الجبّائيّ

[سورة آل عمران (3): آية 24]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)

من قولهم ذلك و أطمعهم هذه العقيدة الفاسدة و ما أشبهه نحو قولهم: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ» (1) و آباؤنا الأنبياء يشفعون لنا، و أنّ اللّه وعد يعقوب أن لا يعذّب أولاده إلّا تحلّة القسم و لذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح.

قال ابن عبّاس: زعمت اليهود أنّهم وجدوا في التوراة أنّ ما بين طرفي جهنّم أعلاها و أسفلها أربعون سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقّوم، و إنّما نعذّب حتّى نأتي على شجرة الزقّوم فتذهب جهنّم. و أصل الجحيم سقر و فيها شجرة الزقّوم فإذا اقتحموا من باب جهنّم و تبادروا في العذاب حتّى انتهوا إلى شجرة الزقّوم و ملؤوا البطون قال لهم خازن سقر:

زعمتم أنّ النار لن تمسّكم إلّا أيّاما معدودات؛ فدخلت أربعون سنة و أنتم مؤبّدون.

قوله: [سورة آل عمران (3): آية 25]

فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)

. حاصل المعنى: أيّ حال يكون حال من اغترّ بالدعاوي الباطلة حتّى أدّاه ذلك إلى الخلود في النار و نظير هذا الكلام قول القائل: أنا أكرمك و إن لم تجئني فكيف إذا جئتني؟ يريد عظم الإكرام أي كيف يصنعون [إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ أي لجزاء يوم لا شكّ في وقوعه و وقوع ما فيه؟ روي أنّ أوّل راية ترقع يوم القيامة من رايات الكفرة راية اليهود فيفضحهم اللّه على رؤوس الأشهاد ثمّ يأمرهم إلى النار.

[وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جزاء [ما كَسَبَتْ من غير نقص أصلا كما زعموا، و اللام في «ليوم» يدلّ على الجزاء و لو قال: «جمعناهم في يوم» لم يدلّ كما يقال: جئته ليوم الخميس يعني لما يكون يوم الخميس [وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ أي كلّ الناس المدلول عليهم «بكلّ نفس».

ص: 180


1- المائدة: 18.

[سورة آل عمران (3): الآيات 26 الى 27]

قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)

«اللّهم» أصله يا اللّه فالميم عوض عن حرف النداء و لذلك لا يجتمعان و شدّدت الميم لقيامها مقام حرفين و هذا من خصائص الاسم الجليل. و قيل: أصله يا اللّه أمنا بخير أي اقصدنا بخير، و خفّف بحذف حرف النداء و متعلّقات الفعل و همزته الّتي هي فاء الفعل [مالِكَ الْمُلْكِ أي جنس الملك على الإطلاق هو مالكه حقيقيّا يتصرّف فيه إيجادا و إعداما إحياء و إماتة من غير مشارك [تُؤْتِي الْمُلْكَ بيان لبعض وجوه التصرّف الّذي يستدعيه مالكيّة الملك و الإيتاء إثبات مالكيّته على سبيل الحقيقة [مَنْ تَشاءُ] إيتاءه [وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ] نزعه منه و من اوتي الملك فالمأتيّ مالكيّته على سبيل المجاز [وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ] أن تعزّه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما على سبيل الندرة و اقتضاء الحكمة [وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ] أن تذلّه في أحدهما أو فيهما [بِيَدِكَ الْخَيْرُ] و تعريف الخير للتعميم و تقديم الخبر للتخصيص أي بقدرتك الخير كلّه لا بقدرة أحد من غيرك قبضا و بسطا، و كلّ أفعال اللّه من نافع و ضارّ صادر عن المصلحة فهو كلّه خير.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا خطّ الخندق عام الأحزاب و قطع لكلّ عشرة من أهل المدينة أربعين ذراعا و جمع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف و أخذوا يحفرونه خرج من بطن الخندق صخرة كالفيل العظيم لم تعمل فيها المعاول فوجّهوا سلمان نحو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجاءه فأخبره فجاء صلّى اللّه عليه و آله و أخذ المعول من يد سلمان فضربها ضربة صدعتها مقدار ثلثها و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنّه مصباح في جوف بيت مظلم فكبّر و كبّر معه المسلمون و قال: أضاءت لي منها قصور الحيرة و مدائن كسرى كأنّها أنياب الكلاب ثمّ ضرب الثانية فكسرها و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتّى كان مصباحا في فكبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كبّر المسلمون فقال صلّى اللّه عليه و آله: أضاءت لي قصور الحمر في أرض الشام، ثمّ ضرب الثالثة و برق منها برق أضاءت قصور صنعاء فكبّر و كبّر المسلمون فقال صلّى اللّه عليه و آله: أخبرنى جبرئيل عليه السلام أنّ امّتي ظاهرة على الأمم كلّها فابشروا فقال

ص: 181

المنافقون: أ لا تعجبون يمنّيكم و يعدكم الباطل و يخبركم أنّه يبصر من يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى و أنّها تفتح لكم و أنتم تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا؟

[إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] من الإعزاز و الإذلال، و بعد أن قال المنافقون هذا الكلام نزلت «قُلِ اللَّهُمَ الآية» و روى جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لمّا أراد اللّه أن ينزّل فاتحة الكتاب و آية الكرسيّ و «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، الآية» و «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الآية» إلى قوله: «بِغَيْرِ حِسابٍ» تعلّقن بالعرش و ليس بينهنّ و بين اللّه حجاب و قلن: يا ربّ تهبطنا إلى دار الذنوب و إلى من يعصيك و نحن معلّقات بالطهور و بالقدس؟ فقال: و عزّتي و جلالي ما من عبد مؤمن قرأ كنّ في دبر كلّ صلاة مكتوبة إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه و إلّا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة و إلّا قضيت له في كلّ يوم سبعين حاجة أدناها الفقر و إلّا أعذته من كلّ عدوّ و نصرته عليه و لا يمنعه دخول الجنّة إلّا أن يموت.

و قال معاذ بن جبل: احتبست عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما لم اصلّ معه الجمعة فقال:

يا معاذ ما يمنعك عن صلاة الجمعة؟ قلت: يا رسول اللّه كان ليوحنّا اليهود عليّ أوقية من تبر و كان على بابي يرصدني فأشفقت أن يحبسني دونك، قال: أ تحبّ أن يقضي اللّه دينك؟

قلت: نعم يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: قل: قل اللّهم مالك الملك إلى قوله: بغير حساب، يا رحمن الدنيا و الآخرة و رحيمهما تعطي منهما ما تشاء و تمنع منهما ما تشاء اقض عنّي ديني» فإن كان عليك مل ء الأرض ذهبا لأدّاه اللّه، انتهى.

[تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي تنقص من الليل فيجعل ذلك النقصان زيادة في النهار و تنقص من النهار فيجعل ذلك النقصان زيادة في الليل على قدر طول النهار و قصره عن ابن عبّاس و عامّة المفسّرين. و قيل: معنى الآية: تدخل أحدهما في الآخر بإتيانه بدلا منه في مكانه عن أبي عليّ الجبّائيّ.

[وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي من النطفة و هي ميّتة بدليل قوله: «وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً

ص: 182

فَأَحْياكُمْ» (1) [وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ أي النطفة من الحيّ و كذلك الدجاجة من البيض و البيض من الدجاجة، و قيل: إنّ معناه تخرج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن روي ذلك عن الصادقين عليهما السّلام. و قرئ «الميّت» بالتشديد و التخفيف قال البصريّون: إنّهما سواء كقول الشاعر:

ليس من مات و استراح بميت إنّما الميت ميّت الأحياء

فجمع بين اللغتين. و قيل: الميّت بالتشديد الّذي لم يمت بعد و بالتخفيف الّذي مات، قال الطبرسيّ: و الصحيح الأوّل.

[وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تقتير لأنّ عادة المقتّر لا ينفق إلّا بحساب.

قال أبو العبّاس المقرئ: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه: بمعنى التعب؛ قال تعالى: «وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» و بمعنى العدد؛ قال «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» (2) و بمعنى المطالبة؛ قال تعالى: «فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ» (3) و في الآية إشارة على أنّ من قدر على هاتيك الأفاعيل العظام المحيّرة للعقول فقدرته على أن ينزع الملك من العجم و يذلّهم و يؤتيه العرب و يعزّهم أهون عليه من كلّ هيّن.

و في بعض الكتب: أنا اللّه ملك الملوك قلوب الملوك و نواصيهم بيدي؛ فإنّ العباد إن أطاعوني جعلتهم لهم رحمة و إن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة. فلا تشتغلوا بسبّ الملوك و لكن توبوا إلى أعطفهم عليكم، و هو معنى كما تكونون يولّى عليكم أي إن كنتم من أهل الطاعة يولّ عليكم أهل الرحمة و إن كنتم أهل المعصية يولّ عليكم أهل العقوبة.

و في الحديث أنّ موسى عليه السّلام ناجى ربّه فقال: يا ربّ ما علامة سخطك من رضاك؟

فأوحى اللّه إليه إذا استعملت على الناس خيارهم فهو علامة رضاي عنهم و إذا استعملت شرارهم فهو علامة سخطي عليهم. و فيه إشارة إلى أنّ الولاة يكونون على حسب أعمال الرعايا و أحوالهم صلاحا و فسادا فعلى كلّ واحد من المسلمين التضرّع للّه و الإنابة إليه بالتوبة

ص: 183


1- البقرة: 28.
2- الزمر: 10.
3- ص: 39.

و الاستغفار عند فشوّ الظلم و شمول الجور من السلطان و يظهر جور الوالي و عدله في الضرع و الزرع و الأشجار و المكاسب و الحرف بقلّها و نزوع البركة عنها و تكسّد معاملة أهل الحرف في الأمصار.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: سيأتي زمان لأمّتي يكون امراؤهم على الجور و علماؤهم على الطمع و عبّادهم على الرياء و تجّارهم على أكل الرباء و نساؤهم على زينة الدنيا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 28 الى 29]

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29)

. أي لا يجوز و لا ينبغي للمؤمنين أن يتّخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم فيصاحبوهم و يستغيثوا بهم في أمورهم و يظهروا المحبّة لهم كما قال في عدّة مواضع من القرآن: نحو قوله: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية» (1) و قوله: «لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ» (2) و قوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» (3) نهوا عن موالاتهم [مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى أنّ المؤمنين هم الأحقّاء في المولاة فلا تؤثروهم عليهم في الولاية.

[وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي اتّخاذهم أولياء [فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ من ولايته تعالى [فِي شَيْ ءٍ] يعني أنّه منسلخ عن ولاية اللّه و هذا أمر معقول فإنّ موالاة الوليّ و موالاة عدوّه متنافيان قال الشاعر:

تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني صديقك ليس النوك عنك بعازب

و الأعداء ثلاثة عدوّك و عدوّ صديقك و صديق عدوّك.

[إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا] أي إلّا حال اتّقائكم من جهتهم [تُقاةً] أي اتّقاء مثل أن يكون المؤمن بينهم و يخاف منهم فإنّ الموالاة حينئذ مع اطمينان النفس بالعداوة و البغضاء و انتظار

ص: 184


1- المجادلة: 22.
2- المائدة: 51.
3- الممتحنة: 1.

زوال المانع فحينئذ لا بأس كما قال عيسى عليه السّلام: كن وسطا و امش جانبا أي كن فيما بينهم صورة و تجنّب عنهم سيرة، و هذا رخصة فلو صبر حتّى قتل كان أجره عظيما.

[وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يخوّفكم اللّه ذاته المقدّسة كقوله: فاتّقون و اخشون، فلا تتعرّضوا لسخطه بموالاة أعدائه و هذا وعيد شديد [وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] أي إلى جزاء اللّه مرجع الخلق.

قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من الضمائر الّتي من جملتها ولاية الكفر أَوْ تُبْدُوهُ فيما بينكم يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيؤاخذكم بذلك عند مصيركم إليه وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لا يخفى عليه شي ء منه و هو من باب إيراد العامّ بعد الخاصّ تأكيدا وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29) فيقدر على عقوبتكم و لو علم بعض عبيد السلطان أنّ السلطان مطّلع على حال عبيده و قد بثّ السلطان من يتجسّس على بواطن أموره لأخذ حذره فما بال من علم أنّ اللّه يعلم السرّ و أخفى من السرّ فكيف يكون أمنا؟ اللّهم إنّا نعوذ بك من اغترارنا بسترك المرخى.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أربعة من الكبائر: لبس الصوف لطلب الدنيا، و ادّعاء محبّة الصالحين و ترك فعلهم، و ذمّ الأغنياء و الأخذ منهم، و رجل لا يرى الكسب و يأكل من كسب الناس. و اعلم أيّها العاقل أنّ الحبّ في اللّه و البغض في اللّه باب عظيم و أصل من اصول الإيمان؛ و المراودة الاختياريّة و التوافق المعنويّ بين المؤمن و الكافر لا يمكن إلّا أن يكون الإيمان إيمانا صوريّا بل موافقة المؤمن مع الفاسق و معاشرته إذا لم تكن عن ضرورة في هذا الحكم قال الشاعر:

عن المرء لا تسأل و أبصر قرينه فكلّ قرين بالمقارن يقتدي

قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

فلا تصحب أخا الجهل و إيّاك و إيّاه فكم من جاهل أردى حليما حين آخاه

فاصحب العاقل، و العقل ما عقل به عن السيّئات، و حضّ القلب على الحسنات، و يكون معقلا عن الدنيّات و نجاتا من المهلكات، و النظر في العواقب قبل حلول المصائب، و الوقوف مقادير الأشياء قولا و فعلا.

ص: 185

[سورة آل عمران (3): آية 30]

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)

. «يوم» منصوب على الظرف متعلّق بقوله: «يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ» [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس [ما عَمِلَتْ في الدنيا من طاعة و [خَيْرٍ مُحْضَراً] عندها بأمر اللّه و كذلك [ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ] تجد محضرا.

[تَوَدُّ] و تحبّ و تتمنّى يوم تجد صحائف الأعمال من الخير و الشرّ أو أجزيتها حاضرة، و عن قريب يغلق الباب بغتة و يؤخذ فلتة فليسارع العبد إلى دفع الموبقات و طلب المحسّنات قبل الإغلاق، و في الحديث: أ تدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له و لا متاع، قال صلّى اللّه عليه و آله: المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة و صيام و زكاة و يأتي قد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا أو سفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي أخذ من خطاياهم و طرحت عليه ثمّ يطرح في النار [لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أي بين النفس و بين ذلك اليوم و هو له أو بين النفس و العمل السوء [أَمَداً بَعِيداً] أي مسافة واسعة كما بين المشرق و المغرب و لم يعمل ذلك السوء قطّ.

[وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي و يقول اللّه: احذروا من سخطي، تكرير لما سبق ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه [وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ] بتحذيره إيّاكم؛ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قطّ و أظمأ ما كانوا قطّ و أعرى ما كانوا قطّ و أنصب ما كانوا قطّ فمن أطعم اللّه أطعمه و من سقى اللّه سقاه و من كسى اللّه كساه و من عمل للّه كفاه.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أيّها الناس لا تعجبوا بأنفسكم و بكثرة أعمالكم و بقلّة ذنوبكم و لا تعجبوا بأمر من الطاعة حتّى تعلموا بم يختم له فإنّ الأعمال بخواتيمها و لو أنّ أحدكم جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبيّا لتمنّى الزيادة لهول ما يقدم عليه يوم القيامة و أقلّ ما يلزمكم أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه.

[سورة آل عمران (3): آية 31]

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)

. حذفت الياء في «أطيعون» و «في فاتّقون» لأنّه ختم آية ينوى بها الوقف و ليس هذا الجهة

ص: 186

في «فاتّبعوني» و لهذا لم تسقط الياء.

نزلت الآية حين دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كعب بن الأشرف و من تابعه إلى الإيمان فقالوا: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ» فنزلت الآية [قُلْ لهم يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله: إنّي رسول اللّه أدعوكم إلى من تحبّونه بزعمكم فإن كنتم تحبّونه [فَاتَّبِعُونِي على دينه و امتثلوا أمره [يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فإنّ المحبّ إذا كان صادقا يقتضي أن يكون حريصا على مطاوعة محبوبه و محبوب محبوبه [وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فيقربكم من جنّات عزّه و يبوّئكم في جوار كرامته و عبّر عن هذا المعنى بالمحبّة بطريق الاستعارة أو المشاكلة [وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ في جميع الأوامر و النواهي فَإِنْ تَوَلَّوْا إمّا من تمام مقول القول فهي صيغة المضارع المخاطب بحذف إحدى التائين أي تتولّوا و تعرضوا، و إمّا كلام متفرّع مسوق من جهته تعالي فهي صيغة الماضي الغائب

[سورة آل عمران (3): آية 32]

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

. نفي المحبّة كناية عن بغضه لهم و سخطه عليهم أي لا يرضى عنهم، و دلّت الآية على شرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّه جعل متابعته متابعة حبيبه و من ادّعى محبّة اللّه و خالف سنّة نبيّه فهذا كذّاب بنصّ الآية؛ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و الّذي نفس محمّد بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه الحديث رواه البخاريّ عن عبد اللّه بن هشام.

و امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله على الحقيقة من اتّبعه و أطاعه و لا يتّبعه إلّا من أعرض عن الدنيا فإنّه صلّى اللّه عليه و آله ما دعا إلّا إلى اللّه و اليوم الآخر و ما صرف إلّا عن الدنيا و الحظوظ العاجلة فبقدر ما أعرضت عنها و أقبلت على اللّه و صرفت الأوقات لأعمال الآخرة فقد سلكت سبيله الّذي يسلكه، و بقدر ما اتّبعته صرت من امّته و حزبه، و بقدر ما أقبلت على الدنيا عدلت عن سبيله و أعرضت عن متابعته و لو خرجت عن مكمن الغرور و أنصفت من نفسك يا رجل و كلّنا ذلك الرجل لعلمت أنّك من حين تمسي لا تسعى إلّا في الحظوظ العاجلة ثمّ تطمع في أن تكون غدا من أتباعه، ما أبعد ظنّنا و ما أفحش طمعنا!

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 33 الى 34]

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

«الاصطفاء» أخذ ما صفي من الشي ء أي اختار آدم بالكمالات القدسيّة للرسالة كما

ص: 187

في كافّة الرسل كلّ بحسبه أو اصطفاه بتعليم الأسماء و إسجاد الملائكة إيّاه و إسكانه الجنّة و اصطفى نوحا بما ذكر من الوجه الأوّل أو اصطفاه بكونه أوّل من نسخ الشرائع و بإطالة عمره و جعل ذرّيّته هم الباقين و استجابة دعوته في حقّ الكفرة و المؤمنين و حمله في السفينة.

[وَ] اصطفى [آلَ إِبْراهِيمَ و هو إسماعيل إسحاق و الأنبياء من أولادهما الّذين من جملتهما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يفهم من اصطفائهم اصطفاء إبراهيم بطريق الأوليّة و بأمور اخرى.

[وَ] اصطفى [آلَ عِمْرانَ و هو عيسى و امّه ابنة عمران بن ماثان بن العاذر بن أبي هود بن ربّ بن بابل بن ساليان بن يوحنّا بن ارشا بن أومودر بن ميشك بن خارقا بن يونام بن غربا بن بوزان بن ساقط بن ايشا بن راجقيم بن سليمان بن داود بن ايشا بن عويل ابن سلمون بن ياعر بن ممشون بن عمياد بن دام بن خضروم بن مارض يهود ابن يعقوب عليه السّلام و قيل: «آل عمران» هو موسى و هارون عليهما السّلام ابنا عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السّلام و بين العمرانين ألف و ثمانمائة سنة فيكون اصطفاء عيسى بالاندراج في آل إبراهيم و الأوّل أظهر بدليل تعقيبه بقصّة مريم، و اصطفاء موسى و هارون بالانتظام في سلك آل إبراهيم انتظاما ظاهرا.

و نظم الآية بما فبلها أنّه لمّا وقعت المنازعة في إبراهيم و عيسى عليهما السّلام باختلاف أقوال اليهود و النصارى فيهما بيّن سبحانه بأنّهم مصطفون للرسالة و أنّ الناس مأمورون بمعرفتهم بالنبوّة و الإطاعة، أو أنّه لمّا أمر بطاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أبي ذلك المشركون بيّن سبحانه أنّه كما اصطفاهم للرسالة من قبله اصطفى محمّدا للرسالة فلا وجه لإنكارهم رسالته صلّى اللّه عليه و آله.

قوله: [عَلَى الْعالَمِينَ جمع عالم و هو اسم لنوع من المخلوقين فيه علامة يمتاز بها عن غيره من الأنواع كالملك و الجنّ و الإنس يقال: عالم البرّ و عالم البحر و عالم السماء و عالم الأرض و المراد من «العالمين» أهل زمان كلّ واحد منهم و حاصل المعنى: اصطفى كلّ واحد منهم على عالمي زمانهم.

[ذُرِّيَّةً] منصوبة على البدليّة من الآلين، و الذرّ- بالفتح من الذال- البثّ و التفريق، و سمّي نسل الثقلين ذرّيّة لأنّه تعالى بثّهم و نشرهم في الأرض أو لأنّه تعالى أخرج نسل

ص: 188

آدم من صلبه كهيئة الذرّ و هو جمع ذرّة و هي أصغر النمل، و الذرء معناه الخلق فهو خلقهم من العدم إلى الوجود و بثّهم [بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فإنّ آل إبراهيم أعني إسماعيل إسحاق متشعّبان من إبراهيم المتشعّب من نوح المتشعّب من آدم إلى آخر الأنبياء إلى خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله [وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال العباد [عَلِيمٌ بأعمالهم البادية و الخافية فيصطفي لخدمة دينه من يعلم استقامته كما قال: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (1) و لكنّ التفاضل واقع فيهم مثل أن يكون واحدهم خليلا مثلا و الآخر حبيبا و الآخر نجيّا و الآخر صفيّا كما قال «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (2).

قال صاحب تفسير روح البيان: و الولادة قسمان صوريّة و معنويّة و الأب أب ولّدك و أب ربّاك و علّمك، و الولادة التعليميّة تختلف باختلاف القوابل و الاستعدادات و إلى هذه الولادة أشار عيسى عليه السّلام بقوله: لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرّتين، فالروح في الصفاء و الكدورة يناسب القابل، و المزاج في القرب و الاعتدال الحقيقيّ و عدمه؛ إذ الفيض يصل بحسب القابليّة و المناسبة فتتفاوت الأرواح بحسب مراتبها في الصفوة و القرب و البعد عن الفيض الأقدس.

و بهذا البيان يتّضح أنّ كلّ نبيّ كان يتّبع نبيّا قبله في التوحيد و المعرفة و ما يتعلّق بأصول الدين «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ» و على هذا جعل اللّه المهديّ الموعود به من نسل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و به يربّي العالم و يصلحه بعد فساده.

أقول: و هذا معنى «الولد سرّ أبيه» كما كان روحانيّة عيسى ببركة صدق مريم مع فضل نبوّته بكامليّته و قابليّته، انتهى كلامه.

قوله: [سورة آل عمران (3): آية 35]

إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

. «إذ» منصوب با ذكر [قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ بن ماثان امّ مريم البتول جدّة عيسى عليه السّلام و هي حنة بنت فاقوذا و لا يخفى أنّ عمران بن ماثان غير عمران يصهر و كان لعمران

ص: 189


1- الانعام: 134.
2- البقرة: 253.

ابن يصهر أيضا بنت يقال لها: مريم، لكن هي أكبر من موسى و هارون و هي غير مريم البتول امّ عيسى عليه السّلام و ما كان العمرانان في عصر واحد. و بالجملة روي أنّ حنة زوجة عمران كانت عاقرا لم بلد إلى أن عجزت فبينا هي في ظلّ شجرة أبصرت بطائر يطعم فرخا له فتحرّكت نفسه للولد و تمنّته فقالت: يا ربّ إنّ لك عليّ نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من سدنته و خدمه، فحملت بمريم و هلك عمران و هي حامل و ذلك قوله:

[رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي و «النذر» ما يوجبه الإنسان على نفسه و عبّر عن الولد «بما» لإبهام أمره و قصوره عن درجة العقلاء بعد [مُحَرَّراً] أي معتقا لخدمة بيت المقدس لا أستخدمه و لا أشغله بأموري فيكون خالصا لخدمة اللّه و لا يعمل عمل الدنيا و لا يتزوّج ليتفرّغ لعمل الآخرة، و كان هذا النذر مشروعا شايعا عندهم؛ لأنّ الأمر في دينهم ذلك الزمان أنّ الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع و يجعلونهم محرّرين لخدمة المسجد و لم يكن لأحد من الأنبياء إلّا و من نسله محرّر لبيت المقدس و لم يكن يحرّر إلّا الغلمان و لا تصلح له الجارية لما يصيبها من الحيض فتحتاج إلى الخروج و لكن حرّرت ما في بطنها مطلقا إمّا لأنّها بنت الأمر على تقدير الذكوريّة أو لأنّها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الولد الذكر.

[فَتَقَبَّلْ مِنِّي أي ما نذرت، و القبّل أخذ الشي ء على وجه الرضى [إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لجميع المسموعات العليم لكلّ المعلومات الّتي من جملتها ما في ضميري.

[سورة آل عمران (3): آية 36]

فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)

. قالت حنة بعد أن وضعت و كانت ترجو أن يكون غلاما فلمّا رأتها أنّ ما وضعت أنثى خجلت و استحيت و قالت منكّسة رأسها: [رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى و مرادها الاعتذار من العدول عن النذر لأنّها أنثى، و الضمير المتّصل في «وضعتها» عائد إلى النسمة

ص: 190

«و أنثى» حال منه و إنّما قالت هذا الكلام تحسّرا على ما رأته من خيبتها رجاءها و عكس تقديرها [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ و هو كلام من اللّه و تعظيم من جهته تعالى لما وضعت فإنّها لمّا تحسّرت و تحزّنت على أن ولدت أنثى قال اللّه: إنّها لا تعلم قدر هذا الموهوب و اللّه العالم بالشي ء الّذي وضعت، و فيه من العجائب و عظائم الأمور فإنّه سيجعله و ولده آية للعالمين و هي جاهلة بذلك لا تعلم به.

[وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى مقول اللّه أيضا مبيّن لتعظيم ما وضعت و رفع منزلته، و اللام فيهما للعهد أي ليس الذكر الّذي كانت تطلبه و تتخيّل فيه كمالا قصاراه أن يكون كواحد من السدنة كالأنثى الّتي وهبت لها؛ فإنّ دائرة علمها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور فهي أفضل من مطلوبها، و هاتان الحملتان من مقول اللّه تعالى معترضتان بين قول امّ مريم:

«إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى و قولها: «وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ» و فائدتهما التسلية لنفس حنة و التعظيم لوضعها.

[وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ من مقول حنة عطف على قولها: «إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى أي جعلت اسمها مريم و غرضها من عرضها على اللّه استدعاء العصمة لها فإنّ مريم في لغتهم العابدة و خادم الربّ و أيضا إظهار أنّها غير راجعة في نيّتها و إن كانت أنثى و إنّها و إن كانت لا تصلح لسدانة البيت فلتكن من العابدات فيه، و ظاهر هذا الكلام يدلّ على أنّ عمران كان قد مات قبل وضع حنة مريم و إلّا لما تولّت الأمّ تسمية المولود، و كانت مريم أجمل النساء و أفضلها في وقتها.

[وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي أجيرها بحفظك و أجير ذرّيّتها و أولادها من مسّ الشيطان المطرود. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما من مولود يولد إلّا و الشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّه إلّا مريم و ابنها فوقاها اللّه و ولدها عيسى منه بحجاب. أو استعاذت باللّه لها من إغواء الشيطان.

[سورة آل عمران (3): الآيات 37 الى 39]

فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

.

ص: 191

أي تقبّلها اللّه مع أنّها أنثى و رضي بها في النذر الّذي نذرته حنة للعبادة في بيت المقدّس و لم يقبل قبلها أنثى و قبوله إيّاها أنّه ما عرتها علّة ساعة من ليل أو نهار بتقبّل حسن مع صغرها فإنّ المعتاد في تلك الشريعة أن لا يجوز التحرير إلّا في حقّ غلام عاقل قادر على خدمة المسجد فلمّا علم اللّه صدق نيّة حنة و تضرّعها تقبّل مريم مع أنوثتها و صغرها.

[وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً] مجاز عن التربية الحسنة ما يصلح لها من جميع أحوالها و كان في ذلك الوقت أربعة آلاف محرّر في البيت لم يشتهر خبر أحد منهم اشتهار صلاحها.

قال علماء الأخلاق: من علامة من تولّاه اللّه أن لا يقصّر في الطاعات و يشهد التقصير في إخلاصه دائما و النقصان في عمله و تحترز عن العجب و عن الاتّكال بالعمل فإنّهما يهلكانه مثل أن يعمل الطاعة فيعجب لها و يعتمد عليها و يستصغر من لم يفعلها و يطلب من اللّه العوض عليها فهذه حسنة أحاطت بها سيّئات و يذنب العبد الذنب فيلجأ إلى اللّه فيه و يلوم نفسه و يستصغرها و يستعظم من لم يفعل ذلك الذنب فهذه سيّئة أحاطت بها حسنات؛ فينبغي للعبد أن يواظب على أصناف الطاعات و بعد أن عملها ينساها كيلا يبطلها العجب؛ لأنّ حفظ الطاعة أشدّ من فعلها و مثلها مثل الزجاجة يسرع إليه الكسر و لا يقبل الجبر، و إنّ اللّه تعالى أودع أنوار الملكوت في أصناف الطاعات فأمّا من فاته من الطاعات صنف أو أعوزه من الآداب جنس فقد من النور بمقدار ذلك فلا تستغنوا ببعضها عن بعضها.

[وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا] الفعل للّه بمعنى و نسبه اللّه إلى زكريّا و جعله كافلا لمصالحها قائما بتدبير أمورها، و في الحديث أنا و كافل اليتيم كهاتين و هو زكريّا بن اذن بن مسلم بن صدون من أولاد سليمان بن داود عليه السّلام.

روي أنّ حنة حين ولدت مريم لفّتها في خرقة و حملتها إلى المسجد و وضعتها عند الأحبار أبناء هارون عليه السّلام و هم في بيت المقدّس كالحجية في الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنّها كانت بنت إمامهم و صاحب قربانهم فإنّ بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل، فقال لهم زكريّا: أنا أحقّ بها عندي خالتها؛ لأنّ اخت حنة كانت زوجة زكريّا فقالوا: لا حتّى نقرع عليها، فانطلقوا و كانوا سبعة و عشرين إلى نهر الأردن فألقوا

ص: 192

فيه أقلامهم الّتي كانوا يكتبون بها الوحي على أنّ من ارتفع قلمه فهو الأولى بالتكفّل فألقوا ثلاث مرّات ففي كلّ مرّة يرتفع قلم زكريّا و كانت أقلامهم من حديد و رسبت أقلام الباقي فتكفّلها.

[كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ أي كلّ وقت دخل زكريّا على مريم في المحراب؛ قيل: بنى لها محرابا في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلّم أو المحراب أشرف المجالس و مقدّمها كأنّها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس أو كانت مساجدهم تسمّى المحاريب لأنّها مواضع محاربة العابد مع الشيطان و كان يدخل زكريّا عليها وحده فإذا خرج غلق عليها سبعة أبواب فكلّما دخل عليها [وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً] نوعا من الرزق غير معتاد إذ كان ينزل من الجنّة و كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف و فاكهة الصيف في الشتاء و لم ترضع ثديا قطّ.

[قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا] أي من أين يجي ء لك هذا الّذي لا يشبه أرزاق الدنيا و هو آت في غير حينه و الأبواب مغلّقة عليك لا سبيل للداخل عليك [قالَتْ مريم، قيل تكلّمت و هي صغيرة. و قيل: إنّ زكريّا استرضع لها و ضمّها إلى خالتها أم يحيى حتّى إذا شبّت و بلغت مبلغ النساء بنى بها محرابا في المسجد [هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي من الجنّة و هذه تكرمة لها من اللّه و إن كان ذلك خارقا للعادة فإنّ عندنا يجوز أن يظهر الآيات الخارقة للعادة على غير الأنبياء من الأولياء و من منع ذلك من المعتزلة قالوا فيه قولين أحدهما أنّ ذلك كان تأسيسا لنبوّة عيسى، و الآخر أنّه بدعاء زكريّا لها فكانت معجزة زكريّا و على القول الأوّل إرهاصا لنبوّة عيسى عليه السّلام.

قال صاحب تفسير روح البيان: و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة عليها السّلام رغيفين و بضعة لحم أثرته بها فرجع بها إليها بطبق فقال: هلمّي يا بنيّة فكشف عن الطبق فإذا هو مملوء خبز و لحما فعلمت أنّها نزلت من عند اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله لها: أنّى لك هذا، فقالت: هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، فقال صلّى اللّه عليه و آله: الحمد للّه الّذي جعلك شبيهة بسيّدة بني إسرائيل، ثمّ جمع رسول اللّه عليّا و الحسنين فأكلوا و شبعوا و بقي الطعام كما هو.

ص: 193

و العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام قال: إنّ فاطمة ضمنت لعليّ عليه السّلام عمل البيت و العجن و الخبز و قسّم البيت، و ضمّن عليّ لها ما كان خلف الباب من نقل الحطب و الطعام و أمثاله فقال لها يوما: يا فاطمة هل عندك شي ء؟ فقالت: لا و الّذي عظّم حقّك ما كان عندنا منذ ثلاث إلّا شي ء نقريك به، قال: أفلا أخبرتني؟ قالت: نهاني رسول اللّه أن أسألك شيئا، فقال: لا تسأل ابن عمّك شيئا إن جاءك بشي ء و إلّا فلا تسأليه. قال: فخرج عليّ فلقى رجلا فاستقرض منه دينارا ثمّ أقبل به فلقي في الطريق المقداد بن الأسود فقال للمقداد: ما أخرجك في هذه الساعة؟

قال: الجوع و الّذي عظّم حقّك يا أمير المؤمنين، قال عليّ عليه السّلام: فهو أخرجني و قد استقرضت دينارا و ساؤثرك به و دفعه إليه.

فأقبل عليّ فوجد رسول اللّه جالسا و فاطمة تصلّي و بينهما شي ء يغطّي، فلمّا فرغت فإذا جفنة من خبز و لحم قال عليه السّلام: يا فاطمة أنّى لك هذا؟ قالت: هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب؛ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي: أ لا احدّثك بمثلك و مثلها؟ قال بلى:

قال: مثل زكريّا إذا دخل على مريم المحراب ف «وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» فأكلوا منها شهرا و هي الجفنة الّتي يأكل منها القائم عليه السّلام و هي عندنا.

و في الكافي أورد هذا الخبر بطريق آخر و المفاد هذا المفاد و أيضا من طريق العامّة بنحو ثالث كما ذكرت، و أورده الزمخشريّ و البيضاويّ و غيرهم في تفاسيرهم.

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أي حيث كان قاعدا زكريّا عند مريم و رأى حال مريم و كرامتها على اللّه و منزلتها رغب في أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أختها حنة في النجابة و الكرامة و إن كانت عجوزا عاقرا فقد كانت كذلك دعا زكريّا ربّه.

قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي أعطني من محسن قدرتك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي ولدا صالحا مباركا تقيّا رضيّا، و «الذريّة» النسل يقع على الواحد و الجمع و الذكر و الأنثى، و المراد هنا ولد واحد، و «الطيّب» هو الّذي تستطاب أفعاله و أخلاقه و لا يكون فيه أمر يستخبث و يعاب.

إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أي مجيبه كما في قولهم: «سمع اللّه لمن حمده» و هذا لأنّ من لم

ص: 194

لم يجب فكأنّه لم يسمع، فإن قيل: إنّ زكريّا كان عالما بقدرة اللّه قبل رؤية حال مريم فهلّا سأل قبل ذلك؟ فالجواب أنّه قد يزداد الإنسان رغبة في الشي ء إذا عاينه و إن كان عالما به قبله.

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أي جبرئيل و حكم الواحد من الجنس قد ينسب إلى الجنس نحو:

فلان يركب الخيل، و إنّما يركب واحدا من أفرادها و لمّا كان جبرئيل من المقرّبين عبّر عنه باسم الجماعة تعظيما له وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أي و الحال أنّ زكريّا قائم في المسجد أو في غرفة مريم يصلّي ان اللّه أي بأنّ اللّه يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى بولد اسمه يحيى لأنّه تحيى به المجالس من وعظه و القلوب بهدايته.

مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ حالكونه أوّل من يؤمن بعيسى و صدّق بأنّه كلمة اللّه و روحه، و إنّما سمّي «كلمة اللّه» لأنّه وجد بكلمة «كن» من غير أب فشابه البديعيّات الّتي هي عالم الأمر و سمّي «روحا» لأنّ عيسى أحيى به من الضلالة كما يحيى الإنسان بالروح، قال السدّيّ: لقيت امّ يحيى امّ عيسى فقالت: يا مريم أشعرت بحبلي؟ فقالت:

و أنا أيضا حبلى، قالت: فإنّي وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك؛ فذلك قوله تعالى:

«مصدّقا» و قتل يحيى قبل أن رفع عيسى إلى السماء.

وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً عطف على «مصدّقا» أي رئيسا يسود قومه و يفوقهم في الشرف، كان فائقا للناس قاطبة و لم يلمّ بمعصية و لم يهمّ بخطيئة، و مبالغا في حصر النفس و حبسها عن الشهوات مع القدرة و «الحصور» الممتنع من النساء مع القدرة عن ابن عبّاس و جماعة. و قيل:

و قد تزوّج مع ذلك ليكون أغضّ لبصره. و قيل: كان عنينا عن سعيد بن المسيّب و الضحّاك، لكن هذا الكلام ليس بصحيح لأنّه عيب و لا يجوز العيب على الأنبياء و لأنّ الكلام خرج مخرج المدح.

أي يوحى إليه إذا بلغ هو مبلغه و ناشئا من الأنبياء لأنّه كان من أصلابهم و «الصلاح» صفة تنتظم الخير كلّه.

[سورة آل عمران (3): آية 40]

قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40)

ص: 195

قال زكريّا عند نداء الملائكة و بشارتهم له بالولد بالاستفهام مسرورا بالولد مخاطبا للّه لا لجبرئيل: كيف يكون لي غلام و ولد و قد أصابني الشيب و نالني الهرم؟ قال ابن عبّاس:

كان زكريّا يوم بشّر بالولد ابن عشرين و مائة سنة و كانت امرأته بنت ثمان و تسعين سنة [وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ] أي عقيم لا تلد، و بيضة العقر آخر البيضة.

فإن قيل: لم راجع زكريّا هذه المراجعة و قد بشّره اللّه بأن يهب له ذرّيّة طيّبة بعد أن سأل ذلك؟

قيل: إنّما قال ذلك على سبيل التعرّف عن كيفيّة حصول الولد أ يعطيهما اللّه و هما على ما كانا عليه من الشيب أم يصرفهما إلى حال الشباب ثمّ يرزقهما الولد، و يحتمل أن يكون سؤاله أ يعطيه اللّه من امرأته العجوزة أم من امرأة اخرى شابّة؟ و قيل: سؤاله على وجه استعظام المقدور و مثل هذا التعجّب يحصل للإنسان عند ظهور آية عظيمة كمن يقول: كيف سمحت نفسك بإخراج ذلك الملك النفيس؟ تعجّبا من جوده. و قيل قال هذا الكلام تعجّبا كيف أجابه اللّه إلى مراده فيما دعا و كيف استحقّ ذلك؟ و من زعم أنّ ذلك من وسوسة الشيطان فقد غلط و أخطأ.

[قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ] قال اللّه كذلك إشارة إلى مصدر «يفعل» في «اللّه يفعل» أي مثل ذلك الفعل يفعل ما يشاء أن يفعله من الأفاعيل الخارقة للعادة «فاللّه» مبتدأ و «يفعل» خبره، و الكاف في محلّ النصب على أنّها في الأصل نعت لمصدر محذوف أي اللّه يفعل ما يشاء أن يفعله فعلا مثل ذلك الفعل العجيب من شيخ فان و عجوز عاقر.

[سورة آل عمران (3): آية 41]

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (41)

. قال زكريّا [رَبِّ اجْعَلْ لِي علامة تحقّق المسؤول و وقوع الحبل، و إنّما سألها لأنّ العلوق أمر خفيّ لا يوقف عليه فأراد أن يطّلعه اللّه عليه ليتلقّى تلك النعمة منه تعالى حين حصوله بالشكر قال اللّه أو جبرئيل: [آيَتُكَ أي علامة حدوث الولد أن لا تقدر على تكليم الناس [ثَلاثَةَ أَيَّامٍ متوالية مع لياليها فإنّ ذكر الليالي أو الأيّام يقتضي دخول الاخرى فيها عرفا، و إنّما جعلت آيته ذلك لتخليص المدّة لذكر اللّه و شكره [إِلَّا رَمْزاً] أي

ص: 196

إشارة بيد أو رأس أو نحوهما و سمّى الرمز كلاما لأنّه يؤدّي ما يؤدّي الكلام و يفهم منه بعض ما يفهم من الكلام.

ثمّ أمره تعالى بذكره فقال: [وَ اذْكُرْ رَبَّكَ في أوقات الحبسة [كَثِيراً] أي ذكرا كثيرا [وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِ أي نزّهه عمّا لا ينبغي من الزوال إلى الغروب [وَ الْإِبْكارِ] من طلوع الفجر إلى الضحى و قد حبس لسانه عن امور الدنيا إلّا رمزا، فأمّا في الذكر و التسبيح فقد كان لسانه جيّدا و كان ذلك من المعجزات. و قيل: المراد من التسبيح الصلاة كما يقال: فرغت من تسبيحي أي صلاتي، و لعلّ المراد من قوله: «بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ» في آخر النهار و أوّله.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 42 الى 43]

وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

أي اذكر وقت قول الملائكة و هو جبرئيل بدلالة قوله تعالى في سورة مريم: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا» (1) و إنّما جمع تعظيما لجبرئيل [يا مَرْيَمُ و كلام جبرئيل معها لم يكن وحيا لها فإنّ اللّه يقول: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ»* (2) و لا نبوّة للنساء بالإجماع، و كلّمها شفاها كرامة لها أو إرهاصا لنبوّة عيسى عليه السّلام و «الإرهاص» من الرهص و هو الصفّ الأسفل من الجدار، هذا في اللغة و في الاصطلاح أن يتقدّم على دعوى النبوّة أو وقوعها ما يشبه المعجزة كإظلال الغمام لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تكلّم الحجر و قصّة الفيل.

[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أوّلا حيث تقبّلك من امّك بقبول حسن و لم يتقبّل غيرك أنثى و رزقك من رزق الجنّة [وَ طَهَّرَكِ من الكفر و الأفعال الذميمة و من مسيس الرجال و من الحيض و النفاس و من تهمة اليهود و تكذيبهم بإنطاق الطفل [وَ اصْطَفاكِ آخرا [عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بأن و هب لك عيسى عليه السّلام من غير أب و جعلكما آية للعالمين و المراد من «العالمين» أي على نساء عالمي زمانها، لأنّ فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله سيّدة نساء العالمين

ص: 197


1- مريم: 16.
2- النحل: 43.

أجمع كما قال الباقر عليه السّلام و قال: أبو جعفر عليه السّلام: معنى الآية: اصطفاك من ذرّيّة الأنبياء و طهّرك من السفاح و اصطفاك لولادة عيسى عليه السّلام فيكون الاصطفاء على معنيين مختلفين.

[يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي اعبديه و أخلصي له العبادة أو المعنى أديمي الطاعة له أو أطيلي القيام في الصلاة، عن مجاهد [وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ و اسجدي شكرا و اركعي أي و صلّى مع المصلّين في الجماعة، و قيل: معنى «وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي» أي افعلي كما يفعل الساجدون و الراكعون و لمّا كان غاية قرب العبد السجود و اختصّ السجود بهذه الفضيلة لا جرم تقدّم بالذكر، ثمّ إنّ الواو تفيد الاشتراك لا الترتيب و السجود يستعمل بمعنى الصلاة أيضا كقوله: «وَ أَدْبارَ السُّجُودِ» (1).

و على هذا فالمعنى: يا مريم اقنتي أي قومي للعبادة و صلّي فكان المراد من «وَ اسْجُدِي» أي صلّي و اركعي مع الراكعين أي صلّي بالجماعة مع الخاشعين الخاضعين، و يمكن أن يكون أنّ السجود في ذلك الدين كان مقدّما على الركوع.

[سورة آل عمران (3): آية 44]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

. [ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم أي إنّ الّذي مضى ذكره من حديث حنة و زكريّا و يحيى إنّما هو من أخبار الغيب الّتي لا يوقف عليها إلّا بمشاهدة أو قراءة كتاب أو تعلّم من عالم أو بوحي و انعدمت الثلاثة الاول فتعيّنت الرابعة [نُوحِيهِ إِلَيْكَ ننزّله عليك و «الوحي» في القرآن لمعان: للإرسال إلى الأنبياء و للإلهام قال: «وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى (2) و لإلقاء المعنى المراد قال تعالى: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» (3) و للإشارة «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا» (4).

[وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ عند الّذي اختلفوا في تربية مريم و هو تقرير لكونه وحيا على طريق التهكّم بمنكري نبوّته صلّى اللّه عليه و آله أي إنّهم لا يشكّون أنّك لم تقرأ كتابا و ما صاحبت من

ص: 198


1- ق: 40.
2- القصص: 7.
3- مريم: 10.
4- الزلزال: 5.

علم تلك الأمور الواقعة حتّى تسمع منهم؛ فلم يبق طريق إلّا المشاهدة و هي منتفية بالضرورة فلو لم يكن هذا الخبر و العلم بطريق الوحي و أنت ما كنت مشاهدا هذا الأمر فمن أين أخبرتهم لو لا الوحي؟ و أهل مكّة ما كانوا أهل كتاب و ما سمعوا بهذه القصّة أبدا.

[إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ الّتي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء على ما تقدّم ذكره، و قيل: «أقلامهم» أقداحهم للاقتراع جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم على جهة القرعة حتّى وفّق خير الكفلاء زكريّا، و في الكلام حذف أي ليعلموا أيّهم يكفل مريم.

[وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ و يتنافسون في هذا الأمر بحيث تخاصموا في التكفّل بعضهم بعضا، و في الآية دلالة على أنّ للقرعة مدخلا في تمييز الحقوق و قد قال الصادق عليه السّلام:

ما تقارع قوم ففوّضوا أمورهم إلى اللّه إلّا خرج سهم المحقّ. و قال عليه السّلام: أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللّه تعالى؛ قال اللّه: «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» (1) قال الباقر عليه السّلام:

أوّل من سوهم عليه مريم ابنة عمران ثمّ استهموا في يونس ثمّ في قصّة عبد المطّلب كان أمر القرعة في الإبل و عبد اللّه، و هي مشهورة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 45 الى 46]

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصَّالِحِينَ (46)

[إِذْ قالَتِ بدل من «و إذ قالت» في الآية السابقة و منصوب بناصبه و المراد [الْمَلائِكَةُ] جبرئيل كما ذكرنا [يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ أي يفرّحك [بِكَلِمَةٍ] كائنة [مِنْهُ عزّ و جلّ و اطلق على عيسى لفظ «الكلمة» بطريق إطلاق السبب على المسبّب لأنّ الكلمة سبب حدوثه و هي تعبّر «بكن» و حدوث كلّ مخلوق و إن كان بسبب هذه الكلمة لكنّ السبب المتعارف للحدوث لمّا كان مفقودا في حقّ عيسى عليه السّلام كان إسناد حدوثه إلى الكلمة أنسب و أكمل فجعل عليه السّلام بهذه الاعتبار كأنّه نفس الكلمة.

ص: 199


1- الصافات: 141.

[اسْمُهُ أي اسم المسمّى بالكلمة [الْمَسِيحُ و الكلمة لمّا كانت عبارة عن مذكّر ذكّر الضمير و «الْمَسِيحُ» أصله مشيحا يعني بالعبرانيّة المبارك [عِيسَى بدل من المسيح معرّب من ايشوع [ابْنُ مَرْيَمَ و المسيح فعيل بمعنى مفعول أي مسح و طهر من الأقذار، و المسيح الّذي أحد شقّي وجهه ممسوح لا عين له و لا حاجب له و لذا سمّي الدجّال مسيحا. و قيل: المسيح بفتح الميم و التخفيف عيسى و المسيّح بكسر الميم و التشديد على وزن شرّير الدجّال، عن إبراهيم النخعيّ.

[وَجِيهاً] على الحاليّة، ذو الجاه و الشرف [فِي الدُّنْيا] بالتقدّم على الناس و النبوّة [وَ الْآخِرَةِ] بعلوّ الدرجة في الجنّة و الشفاعة [وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند اللّه بارتفاعه إلى السماء و مصاحبة الملائكة.

[وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ مِنَ الصَّالِحِينَ يكلّمهم طفلا و كهلا من غير تفاوت حال الطفليّة و الكهليّة، يقال: اكتهل النبت إذا طال و قوي و هو في الإنسان ما بين الشيخ و الشابّ. و قيل: الكهولة إذا بلغ الإنسان حدّ أربع و ثلاثين سنة.

و قيل: سمّي بالمسيح لأنّه مسح بدهن زيت بورك فيه و كانت الأنبياء يتمسّحون به.

و قيل: لأنّه مسحه جبرئيل بجناحه وقت ولادته ليكون عوذة من الشيطان. و قيل: لأنّه كان يمسح رأس اليتامى للّه أو لأنّه عليه السّلام كان يمسح عين الأعمى فيبصر و لا يمسح ذا عاهة بيده إلّا برى ء.

[سورة آل عمران (3): آية 47]

قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

. [قالَتْ مريم متضرّعة إلى اللّه: [رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ] من أين يكون لي ولد على وجه الاستبعاد العاديّ و ذلك من اقتضاء البشريّة إذ لم يجز عادة بأن يولد ولد بلا أب [وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ] آدميّ، و سمّي بشر لظهوره، و هو كناية عن الجماع.

[قالَ اللّه أو جبرئيل: [كَذلِكِ إشارة إلى مصدر يخلق في قوله: [اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ] أي اللّه يخلق ما يشاء أن يخلقه مثل ذلك الخلق العجيب [إِذا قَضى أَمْراً] و أراد شيئا و أصل القضاء الإحكام أطلق على الإرادة الإلهيّة القطعيّة المتعلّقة لإيجاد الشي ء [فَإِنَّما

ص: 200

يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من غير ريث، و هو تعبير لكمال قدرته و بيان لسرعة حصوله؛ قال ابن عبّاس: كانت مريم في غرفة قد ضربت دونها سترا إذا هي برجل عليه ثياب بيض و هو جبرئيل «فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا» تامّ الخلقة فلمّا رأته «قالت أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ» ثمّ نفخ في جيب درعها حتّى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت. قال وهب: و كان معها ذو قرابة يقال له يوسف النجّار، و كان يوسف يستعظم هذا الأمر فإذا أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها و إذا أراد أن يبرأها رأى ما ظهر عليها فكان أوّل ما كلّمها أن قال لها: قد دخل في صدري شي ء أردت كتمانه فغلبني ذلك فرأيت الكلام أشفى لصدري قالت: قل، قال: فحدّثيني هل ينبت الزرع من غير بذر؟ قالت نعم، قال: فهل ينبت شجر من غير أصل؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أنّ اللّه أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر و البذر يومئذ إنّما صار من الزرع الّذي أنبت اللّه من غير بذر، ألم تعلم أنّ اللّه خلق آدم و حوّاء من غير أنثى و لا ذكر؟ فلمّا قالت له ذلك وقع في نفسه أنّ الّذي بها شي ء أكرمها اللّه به روي أنّ عيسى عليه السّلام حفظ التوراة و هو في بطن امّه و كانت مريم تسمع عيسى و هو يدرس في بطنها؛ ثمّ لمّا شرّف عالم الشهود أعطاه اللّه الزهادة في الدنيا فإنّه كان يلبس الشعر و يتوسّد الحجر و يستنير القمر و كان له قدح يشرب فيه الماء و يتوضّأ فيه فرأى رجلا يشرب بيده فقال لنفسه: يا عيسى هذا أزهد منك، فرمى القدح و استظلّ يوما في ظلّ خيمة عجوز فكان قد لحقه حرّ شديد فخرجت العجوز فطردته فقام و هو يضحك و قال: يا أمة اللّه ما أنت أقمتني و إنّما أقامني الّذي لم يجعل لي نعيما في الدنيا، و لمّا رفع إلى السماء وجد عنده إبرة كان يرقع بها فاقتضت الحكمة الإلهيّة نزوله في السماء الرابعة؛ فالسالك لا بدّ و أن ينقطع عن كلّ ما سوى اللّه و يتجرّد عن العلائق و العوائق حتّى يسير إلى الملأ الأعلى و يطير إلى مقام قاب قوسين أو أدنى. و روي أنّ موسى عليه السّلام ناجى ربّه و قال: اللّهمّ أرني وليّا من أوليائك فأوحى اللّه إليه أن اصعد الجبل الفلانيّ و ادخل في زاوية كذا في كهف كذا حتّى ترى وليّي؛ ففعل فرأى فيه رجلا ميّتا توسّد بلبنة و فوق عورته خرقة و ليس فيه شي ء غيره؛ فقال: اللّهم إنّي أسألك أن تريني وليّك فأريتني هذا، فقال سبحانه: هذا هو وليّي فو عزّتي

ص: 201

و جلالي لا ادخله الجنّة حتّى أحاسبه باللبنة و الخرقة من أين وجدها. نسأل اللّه الإعراض عن حطام الدنيا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 48 الى 51]

وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48) وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

[وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ] أي يعلّم اللّه عيسى الكتاب أي بعض الكتب الّتي أنزلها على أنبيائه سوى التوراة و الإنجيل مثل الصحف و الزبور. و قيل: المراد من الكتاب في الآية الكتابة و الخطّ. قيل: أعطى اللّه عيسى تسعة أجزاء من الخطّ و سائر الناس جزءا، و الأوّل أليق في المعنى، و المراد من «الْحِكْمَةَ» علم الحلال و الحرام كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

أوتيت القرآن و مثله. أو المراد من «الْحِكْمَةَ» اصول التوراة و الإنجيل، و أفرد الإنجيل و التوراة بالذكر مع دخولهما في الحكمة تنبيها عن جلالة موقعهما كقوله: «وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ» (1) و الحكمة العلوم الشرعيّة و العقليّة الموافقة للشرعيّة من تهذيب الأخلاق و ما يضرّ و ينفع للإنسان من الكمال و النفع الباقي.

[وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ رَسُولًا] أي و يجعله رسولا [إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ و هذا الكلام سبق تطييبا لقلب مريم و ردّ القول اليهود حيث قالوا: إنّ عيسى كان مبعوثا إلى قول مخصوصين.

و كان أوّل أنبياء بني إسرائيل يوسف و آخرهم عيسى عليهما السّلام و انقطع هنا قصّة مريم و ولادتها و يأتي تمام قصّتها في سورة مريم، و من قول: «و رسولا» ابتدأ بقصّة عيسى.

[أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أي قال لهم عيسى و كلّمهم: بانّي قد جئتكم [بِآيَةٍ] لمّا بعث رسولا أي جئتكم بحجّة [مِنْ رَبِّكُمْ دالّة على صحّة نبوّتي و هي ما ذكر بعده من خلق

ص: 202


1- البقرة: 98.

الطير و غيره [أَنِّي أَخْلُقُ أي اقدّر و أشكّل لأنّه قد ثبت أنّ العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين و الإبداع فوجب أن يكون بمعنى التسوية و التقرير [لَكُمْ أي لأجلكم و لجهة حصول إيمانكم و رفع تكذيبكم إيّاي [مِنَ الطِّينِ شيئا [كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ] و مثل صورته [فَأَنْفُخُ فِيهِ أي في الشي ء المماثل للطير أنفخ [فَيَكُونُ طَيْراً] حيّا طيّارا كسائر الطيور [بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره و الإحياء منه تعالى لا منّي.

روي أنّ عيسى لمّا ادّعى النبوّة و أظهر المعجزات طالبوه يخلق خفّاشا فأخذ طينا و صوّره ثمّ نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء و الأرض. قال وهب بن منبّه: كان يطير مادام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميّتا ليتميّز فعل الخلق من فعل اللّه. و إنّما طلبوا خلق الخفّاش لأنّه أعجب من سائر الخلق و من عجائبه أنّه لحم و دم يطير بغير ريش و يلد كما يلد الحيوان و لا يبيض كما يبيض سائر الحيوان من الطيور، و يكون له الضرع و يخرج منه اللبن و لا يبصر في ضوء النهار و لا في ظلمة الليل و إنّما يرى في ساعتين ساعة بعد غروب الشمس و ساعة بعد طلوع الفجر قبل أن يسفرّ جدّا، و يضحك كما يضحك الإنسان و له أسنان، و يحيض كما تحيض المرأة. و إنّ عيسى لمّا تولّد من نفخ جبرئيل في مريم و جبرئيل روح محض و روحانيّ فكانت بالمناسبة نفخة عيسى عليه السّلام فجعله اللّه سببا للحياة و الروح.

[وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ أي أشفي الّذي ولد أعمى، قال الزمخشريّ: لم يوجد في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسيّ صاحب التفسير «و الأبرص» الّذي به برص و هو بياض في الجلد لم تكن العرب تنفر من شي ء نفرتها منه تتطيّر منه، و إذا امتنحكم فلا برء له و لا يزول بالعلاج.

و إنّما خصّهما بالذكر للشفاء لأنّهما ممّا أعيى الأطبّاء في تداويهما و كانوا في غاية الحذاقة في زمن عيسى و سألوا الأطبّاء عنهما فقال جالينوس و أصحابه: إذا ولد أعمى لا يبرأ بالعلاج و كذا إذا كان البرص بحال لو غرزت الإبرة فيه لا يخرج منه الدم لا يقبل العلاج. فرجعوا إلى عيسى و جاءوا بالأكمه و الأبرص فمسح يده بعد الدعاء عليهما فأبصر

ص: 203

الأعمى و برى ء الأبرص فآمن به البعض و جحد البعض و قالوا: سحر هذا.

روي أنّه أبرأ في يوم واحد خمسين ألفا من المرضى من أطاق منهم أتاه و من لم يطق أتاه عيسى عليه السّلام و كان يداويهم على شرط الإيمان.

ثمّ قال عيسى: [وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ فسألوا جالينوس عنه فقال: الميّت لا يحيى بالعلاج فإن كان هو يحيي فهو نبيّ و ليس بطبيب؛ فطلبوا أن يحيي الموتى فأحيى أربعة أنفس أحيى العاذر و كان صديقا له فأرسل أخته إلى عيسى أنّ أخاك العاذر يموت فأتاه و كان بينه و بينه مسيرة ثلاثة أيّام فأتاه هو و أصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيّام فقال انطلقي بنا إلى قبره؛ فانطلقت معهم إلى قبره و هو في صخرة مطبقة فقال عيسى: اللّهم ربّ السماوات السبع و الأرضين السبع إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك و أخبرهم أنّي احيي الموتى فأحي العاذر فقام العاذر فخرج من قبره و بقي و ولد له.

و أحيى ابن عجوز مرّ به ميّتا على عيسى على سرير يحمل فدعا اللّه عيسى فجلس على سريره و نزل عن أعناق الرجال و لبس ثيابه و حمل السرير على عنقه و رجع إلى أهله و بقي و ولد له.

و أحيى ابنة العاشر الّذي يأخذ العشور قيل له: أحيها و قد ماتت أمس، فدعا اللّه فعاشت و بقيت و ولد لها؛ فقالوا: إنّه يحيي من كان قريب العهد من الموت فلعلّهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة؛ فأحي لنا سام بن نوح فقال عيسى: دلّوني على قبره فخرج و القوم معه حتّى انتهى إلى قبره فدعا اللّه بالاسم الأعظم فخرج من قبره و قد شاب رأسه فقال عيسى: كيف شاب رأسك و لم يكن في زمانك شيب؟ قال: يا روح اللّه لمّا دعوتني سمعت صوتا يقول: أجب روح اللّه فظننت أنّ القيامة قد قامت فمن هول ذلك شاب رأسي، فسأله عن النزع فقال: يا روح اللّه إنّ مرارته لم تذهب عن حنجرتي و قد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدّقوه فإنّه نبيّ فآمن به بعضهم و كذّبه آخرون، ثمّ قال له: مت، قال: بشرط أن يعيذني اللّه من سكرات الموت، فدعا اللّه ففعل.

ثمّ طلبوا آية اخرى دالّة على صدقه فقال: [وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ من أنواع المآكل [وَ ما تَدَّخِرُونَ و تخبؤون للغد [فِي بُيُوتِكُمْ فكان يخبر الرجل بما أكل قبل و بما

ص: 204

يأكل بعد و يخبر الصبيان و هو في المكتب بما يصنع أهلهم و بما يأكلون و يخبؤون لهم و كان الصبيّ ينطلق إلى أهله و يبكي عليهم حتّى يعطوه ما خبؤوا له ثمّ قالوا: لصبيانهم لا تلعبوا مع هذا الساحر، و جمعوهم في بيت فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا: ليسوا في هذا البيت، فقال:

فمن في هذا البيت، قالوا: خنازير، فقال عليه السّلام: كذلك يكونون، فإذا هم خنازير.

[إِنَّ فِي ذلِكَ أي ما ذكر من الخوارق [لَآيَةً] عظيمة [لَكُمْ دالّة على صحّة نبوّتي [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ انتفعتم بها.

[وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ] أي قد جئتكم بآية و مصدّقا لما تقدّمني و موافقا لمن كان قبلي [وَ] جئتكم [لِأُحِلَّ لَكُمْ و أرخص لكم [بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في شريعة موسى عليه السّلام من قبيل لحوم السمك و لحوم الإبل و الشحوم و الشروب.

[وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ بشاهد على صحّة رسالتي و إنّما أعاد قوله: «قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» لأنّ إخراج الإنسان عن العادة المألوفة عسير فأعاد عليه السّلام كلامه في ذكر المعجزات ليصير كلامه ناجعا في القلوب و مؤثّرا في قلوبهم.

فإن قيل: إنّ بين كلامه «وَ مُصَدِّقاً» و بين كلامه «وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي» تناقضا؛ فالجواب أنّ التصديق في الأصول و التغيّر في بعض الفروع، لكن قال وهب بن منبّه: إنّ عيسى كان على شريعة موسى و كان يقرّر البيت و يستقبل بيت المقدس و إنّ الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة و نسبوها إلى موسى فجاء عيسى فأبطلها و أعاد الأمر إلى ما كان، أو أنّ اللّه كان قد حرّم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على ما صدر عنهم كما قال: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» (1) ثمّ بقي ذلك التحريم مستمرّا على اليهود فجاء عيسى و رفع بأمر اللّه تلك الشدّة عنهم، و لو كان رفع كثيرا من أحكام الفروع فرضا مثل رفع السبت و وضع الأحد مقامه لا يكون ذلك قادحا في كونه مصدّقا فإنّ الناسخ و المنسوخ يقع في الأحكام و الفروع دون الأصول.

[فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به و أنهاكم عنه فإنّه من أمر اللّه.

[إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فلا تعصوه بالشرك و المخالفة

ص: 205


1- النساء: 158.

«هذا» أي الإيمان باللّه وحده و ملازمة التقوى «صراط» سويّ يؤديّ صاحبه إلى الجنّة و هو الحقّ الصريح الّذي أطبق عليه الرسل كافّة فقوله تعالى: «رَبِّي وَ رَبُّكُمْ» إشارة إلى استكمال القوّة النظريّة في مقام المعرفة بالتوحيد و قوله: «فاعبدوه» إشارة إلى لزوم استكمال القوّة العمليّة فإنّه يلازم الطاعة الّتي هي الإتيان بالأوامر و الانتهاء عن المناهي فالعلم و العمل يوجبان الاستقامة.

و سئل بعض المحقّقين كيف السبيل إلى الانقطاع إلى اللّه و الاستقامة؟ فقال: بتوبة تزيل الأحمال و خوف يرفع التسويف و رجاء يبعث على العمل و ذكر اللّه تعالى على اختلاف الأوقات و إخافة النفس بقربها من الأجل و بعدها من الأمل، و لا يحصل هذه الأمور إلّا بقلب مفرد فيه توحيد مجرّد فإذا اجتهد و نحل و ذبل و استمرّ استقام كما قال سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا»* (1) و الاستقامة لا يتحمّلها إلّا الأكابر لأنّها الخروج عن المعهودات و مفارقة الرسوم و العادات؛ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تكوننّ أحدكم كالعبد السوء إن خاف عمل و لا كالأجير السوء ان لم يعط لم يعمل.

[سورة آل عمران (3): الآيات 52 الى 54]

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)

. الفاء فصيحة تفصح عن تحقّق أمر عيسى من الولادة إلى بعثه و إرشاده إلى الخلق [أَحَسَ و علم من بني إسرائيل [الْكُفْرَ] و أرادوا قتله و أنّهم لا يزدادون على رؤية الآيات إلّا الإصرار على الجحود [قالَ لمخلصي أصحابه مستنصرا على الكفّار: [مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي من يعينني على إقامة الدين؟

[قالَ الْحَوارِيُّونَ جمع حواري أي صفوته و خاصّته و هم اثنا عشر رجلا، و قيل:

في وجه تسميتهم أقوالا: أحدها لنقاء ثيابهم عن سعيد بن جبير. و قيل: كانوا قصّارين ينقّون الثياب بالاجرة و يبيضونها في الغسل. و قيل: المعنى الأوّل الّذي فسّرنا بالصفوة و هو الأنسب [نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي أنصار دينه و رسوله.

[آمَنَّا بِاللَّهِ استيناف جار مجرى العلّة لما قبله فإنّ الإيمان باللّه تعالى موجب لنصرة

ص: 206


1- فصلت: 30.

دينه و الذبّ عن أوليائه و المحاربة مع أعدائه [وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ منقادون لنصرتك، طلبوا من عيسى الشهادة بذلك يوم القيامة يوم تشهد الرسل لأممهم.

[رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ من الإنجيل على عيسى و هو كلام تضرّع إلى اللّه و عرض إيمانهم عليه تعالى بعد عرضه على الرسول [وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي تابعنا عيسى رسولك في كلّ ما يأتي و يذر [فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ الّذين يشهدون بوحدانيّك أو المراد مع امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّهم شهداء على الناس قاطبة كما قال: «جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» (1).

[وَ مَكَرُوا] أي الّذين علم عيسى كفرهم من اليهود بأن وكّلوا عليه من يقتله غيلة [وَ مَكَرَ اللَّهُ بأن رفع عيسى و ألقى شبهه على من قصد اغتيال عيسى حتّى قتل و صلب و هم يزعمون أنّهم صلبوا عيسى عليه السّلام و رفع عيسى إلى السماء. و إضافة «المكر» إلى اللّه مع أنّه عدل و حقّ على مزاوجة الكلام مثل قوله: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (2) و الثاني ليس باعتداء و إنّما هو جزاء و المجانسة أحد وجوه البلاغة كما أنّ المقابلة أحد وجوهها نحو قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ* وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» (3).

قال ابن عبّاس: لمّا أراد كفّار بني إسرائيل قتل عيسى عليه السّلام دخل بأمر اللّه بيتا فيه روزنة فرفعه جبرئيل من الكوّة إلى السماء فقال الملك لرجل خبيث: ادخل عليه فاقتله فدخل الرجل الخبيث الخوخة ليقتله فألقى اللّه عليه شبه عيسى فخرج الرجل إلى أصحابه يخبرهم أنّ عيسى ليس في البيت فأخذوه و صلبوه و ظنّوا أنّه عيسى، هذا قول ابن عبّاس.

و قال وهب بن منبّه: إنّهم أسروا عيسى عليه السّلام و نصبوا له خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض و أرسل اللّه الملائكة فحالوا بينه و بينهم فأخذوا رجلا يقال له «يهوذا» و هو الّذي دلّهم على المسيح و ذلك أنّ عيسى عليه السّلام جمع الحواريّين تلك الليلة و أوصاهم ثمّ قال:

ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا و تفرّقوا، و كانت

ص: 207


1- البقرة: 143.
2- البقرة: 194.
3- القيامة 22- 25.

اليهود يطلبه فأتى أحد الحواريّين إليهم فقال: ما تجعلون لي فأدلّكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها و دلّهم عليه فألقى اللّه عليه شبه عيسى لمّا دخل البيت و رفع عيسى فأخذ فقال:

أنا الّذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا و صلبوه و هم يظنّون أنّه عيسى.

و لمّا صلبوا شبه عيسى قالوا: إنّ وجهه يشبه وجه عيسى و بدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا و إن كان صاحبنا فأين عيسى فوقع بينهم مقال عظيم.

و لمّا صلب المصلوب جاءت مريم و معها امرأة أبرأها اللّه من الجنون بدعاء عيسى و جعلتا تبكيان على المصلوب فأنزل اللّه عيسى فجاءهما و قال: على من تبكيان؟ قالتا عليك فقال:

إنّ اللّه رفعنى و إنّ هذا شي ء شبّه لهم.

فلمّا كان بعد سبعة أيّام أمر اللّه عيسى أن اهبط إلى الأرض على موضع في جبل مخصوص فإنّه لم يبك عليك أحد بكاءه و لم يحزن أحد حزنه. و ذلك بعد أن ألبسه اللّه النور و قطع عنه لذّة المطعم و المشرب و كساه اللّه من ريش الجنّة و كان يطير مع الملائكة و كان إنسيّا ملكيّا أرضيّا سماويّا و أمره أن يستجمع الحواريّين و بعثهم في الأرض دعاة إلى دين اللّه و أهبطه اللّه إلى الجبل فاشتعل الجبل نورا حين هبط عيسى عليه و جمعت له الحواريّون و وصّاهم و جعلهم متفرّقين في الأرض.

ثمّ رفعه اللّه إليه في تلك الليلة و كان هبوطه على الجبل في الليل و هي الليلة الّتي تدخن فيها النصارى فلمّا أصبح الحواريّون حدث كلّ واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم.

و كان الحواريّون قبل أن يصلب عيسى ملازمون في صحبه عيسى إذا جاعوا قالوا:

يا روح اللّه جعنا فيضرب بيده عليه السّلام إلى الأرض فيخرج لكلّ واحد رغيفان و إذا عطشوا قالوا: يا روح اللّه عطشنا فيضرب بيده إلى الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا: من أفضل منّا إذا شئنا سقيتنا و قد آمنّا بربّنا فقال عيسى عليه السّلام: أفضل منكم من يعمل بيده و يأكل من كسبه فبعد ذلك صاروا يغسلون الثياب بالكراء.

و قيل: إنّهم كانوا ملوكا و تبعة الملوك؛ و ذلك أنّ واحدا من الملوك صنع طعاما و جمع الناس عليه و كان عيسى من جملتهم على قصعة منها فكانت القصعة لا تنقص فذكروا هذه القصّة

ص: 208

للملك، فقال: أ تعرفونه؟ قالوا: نعم، فذهبوا بعيسى إليه فقال له الملك: من أنت؟ قال أنا عيسى ابن مريم، قال الملك: فإنّي أترك ملكي و أتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه و خواصّه فأولئك هم الحواريّون.

و ذكر محمّد بن إسحاق: أنّ اليهود بعد أن صلبوا عيسى بزعمهم عذّبوا الحواريّين فشمتوهم و عذّبوهم، و لقوا الجهد من اليهود فبلغ ذلك ملك الروم و كان ملك اليهود يومئذ من رعيّته فقيل له: إنّ رجلا من بني إسرائيل كان يخبرهم أنّه رسول اللّه و أراهم إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص فقتل، فقال: لو علمت لحلت بينه و بينهم، ثمّ بعث إلى الحواريّين فانتزعهم من أيديهم و سألهم عن أمر عيسى فأخبروه فتابعهم على دينهم و أنزل المصلوب و أخذ الخشبة فأكرمها و صانها ثمّ غزا بني إسرائيل و قتل منهم خلقا كثيرا، و منه ظهر أصل النصرانيّة في الروم و كان اسم هذا الملك طباريس و هو صار نصرانيّا إلّا أنّه ما أظهر ذلك ثمّ أنّه جاء بعده ملك آخر يقال له: ملطيس و غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة فقتل و سبى و لم يترك في مدينة بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة و بني النضير إلى الحجاز.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 55 الى 58]

إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

. أي اذكر وقت قول اللّه: [يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي متوفّى أجلك، و عاصمك من أن يقتلك الكفّار و مؤخّرك إلى أجل كتبته لك و مميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم [وَ رافِعُكَ الآن [إِلَيَ أي إلى محلّ كرامتي و مقرّ ملائكتي و هذا البيان للتعظيم و مثله قوله: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (1) و إنّما ذهب إبراهيم من العراق إلى الشام كما يقال: الحاجّ زوّار اللّه و المجاورون جيران اللّه، و كلّ ذلك للتفخيم فإنّه يمتنع أن يكون تعالى في المكان.

[وَ مُطَهِّرُكَ أي مبعدك [مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا] من سوء جوارهم و دنس معاشرتهم و

ص: 209


1- الصافات: 99.

مصاحبة أرجاسهم، و قيل في معنى التوفّي في الآية: توفّي النوم، و رافعك إليّ في النوم لا توفّي الموت عن الربيع قال: رفعه نائما و يدلّ عليه قوله: «وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» (1) أي ينيمكم و أنّ النوم أخو الموت فأطلق عليه. قال ابن عبّاس: أماته اللّه ثلاث ساعات وفات نوم. و أمّا النحويّون يقولون: هو على التقديم و التأخير أي إنّي رافعك و متوفّيك؛ قالوا: الواو لا توجب الترتيب بدلالة قوله: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ»* (2) و النذر قبل العذاب و كذلك «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (3) عن الضحّاك، و يدلّ عليه ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ عيسى لم يمت و إنّه راجع إليكم قبل يوم القيامة. و قد صحّ عنه أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم و إمامكم منكم؟ رواه البخاريّ و مسلم في الصحيح؛ فعلى هذا يكون معنى الآية: إنّي رافعك و قابضك بالموت بعد نزولك من السماء.

قال الحقّيّ في تفسيره: قيل ينزل عيسى من السماء على عهد الدجّال حكما عدلا يكسر الصليب و يقتل الخنازير و يضع الجزية فيقبض المال حتّى لا يقبله أحد و يهلك في زمانه الملل كلّها إلّا الإسلام و يقتل الدجّال و يتزوّج بعد قتله امرأة من العرب و تلد منه، يموت هو بعد ما يعيش أربعين سنة من نزوله فيصلّي عليه المسلمون لأنّه سأل ربّه أن يجعله من هذه الأمّة فاستجاب اللّه دعاءه، انتهى كلام الحقّيّ.

أقول: إنّ ما قال الحقّيّ حقّ إلّا أنّه عليه السّلام يفعل هذه الأمور و يصلّي بالمسلمين خلف المهديّ المنتظر عليه السّلام و يكون من أنصار المهديّ و أنّ المهديّ ذلك اليوم هو القائم بالحقّ و عيسى عليه السّلام من أتباعه.

[وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و هم المسلمون لأنّهم متّبعوه في أصل الإسلام و إن اختلفت الشرائع دون الّذين كذّبوا و كذبوا عليه من اليهود و النصارى و الّذين مكروا في قتله و من يسير بسيرتهم و ذلك التفوّق بالحقيقة و الحجّة عند اللّه.

[ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم بالبعث، و الضمير في «اتَّبَعُوكَ» لعيسى [فَأَحْكُمُ

ص: 210


1- الانعام: 60.
2- القمر: 16.
3- الإسراء: 15.

بَيْنَكُمْ يوم رجوعكم و بعثكم [فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر عيسى عليه السّلام.

[فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا] بالسبي و السيف و أخذ الجزية و المصائب من العقوبات و المراد بهم اليهود و من سلك مسلكهم كما وقع عليهم هذه الأمور و أنّهم أذلّ الملل إلى يومنا بل إلى يوم القيامة، و المراد من الّذين اتّبعوه النصارى الّذين آمنوا بعيسى عليه السّلام حقيقة بنبوّته و قبلوا دينه.

و قيل: المعنيّ به امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إنّما سمّاهم تبعا مع أنّ لهم شريعة على حدة لأنّه وجد فيهم التبعيّة صورة و معنى أمّا صورة فإنّه يقال: فلان يتبع إذا جاء بعده، و أمّا معنى فلأن نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله كان مصدّقا بعيسى و بكتابه و ليس بين الأنبياء اختلاف في أبواب التوحيد أبدا و من يعقّب الأوّل و يصدّقه فهو تابعه فامّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله يكونون ظاهرين إلى يوم القيامة و من دعا عيسى عليه السّلام إلها لا يكون تابعا لعيسى عليه السّلام أبدا.

[وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم من عذاب اللّه، و صيغة الجمع لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لواحد منهم ناصر واحد.

[وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كما هو عادة المؤمنين [فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ كاملا [وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ و لا يرضى عنهم [ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ إشارة إلى ما ذكر من أحوال عيسى نقرؤه عليك يا محمّد و أسند تلاوته إلى ذاته تعالى مع أنّ التالي هو الملك المأمور بها على طريق إسناد الفعل إلى السبب الآمر به و فيه تشريف عظيم للملك [مِنَ الْآياتِ أي من العلامات الدالّة على نبوّتك لأنّها أخبار لا يعلمها إلّا قارئ الكتاب أو من يوحى إليه و هي شواهد قدرتنا [وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ أي القرآن المحكم الممنوع من تطرّق الخلل و العيب، و المشتمل على الحكم و جميع الحكمة الذكر الحكيم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 59 الى 61]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)

«المثل» ذكر أمر سائر يدلّ على أنّ سبيل الثاني سبيل الأوّل. نزلت الآيات في

ص: 211

و قد نجران: العاقب و السيّد و جماعة من النصارى معهما فلمّا وردوا إلى محضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالوا له: هل رأيت ولدا من غير ذكر؟ فنزلت الآية فقرأها عليهم.

إنّ شأنه البديع الغريب عليه السّلام في سلك الأمثال في تقدير اللّه و حكمه كحالة عجيبة آدم عليه السّلام [خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ تفسير للمثل أي خلق قالب آدم من تراب [ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ أي صر بشرا [فَيَكُونُ و المقتضي أن يقال: فكان، إلّا أنّه عدل عن الماضي إلى المضارع حكاية للحال بصورة المشاهد الّذي يقع الآن.

روي أنّ وفد نجران لمّا قدموا المدينة و هم أربعة عشر من أشراف النصارى منهم السيّد و العاقب و الثالث أبو حارثة بن علقمة الاسقفّ و كان أبو حارثة في شرف و خطر عظيم و هو الّذي بنى له ملك الروم الكنائس و كان السيّد اسمه أهيب، و لمّا دخلوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المسجد بعد العصر عليهم ثياب حسان و لهم وجوه جسام فقاموا و صلّوا و استقبلوا قبلتهم تجاه المشرق فأراد أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يمنعوهم فقال صلّى اللّه عليه و آله: دعوهم.

ثمّ انتهى أبو حارثة هذا و آخر معه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال لهما صلّى اللّه عليه و آله: أسلما، فقالا:

أسلمنا قبلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله: كذبتما يمنعكما عن الإسلام ثلاث: عبادتكما الصليب و أكلكما الخنزير و زعمكما أنّ للّه ولدا، قالوا: يا محمّد فلم تشتم صاحبنا عيسى؟ قال: و ما أقول؟

قالوا: تقول: إنّه عبد، قال: أجل هو عبد اللّه و رسوله و كلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا و قالوا: هل رأيت إنسانا من غير أب و امّ؟ فحيث سلّمت أنّ عيسى لا أب له من البشر وجب أن يكون هو ابن اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ آدم ما كان له أب و لا امّ و لم يلزم من ذلك كونه ابنا للّه فكذا حال عيسى، فالوجود من غير أب و امّ أخرق للعادة من الوجود من غير أب فشبّه صلّى اللّه عليه و آله الغريب بالأغرب و لشبهة الخصم أقطع.

[الْحَقُ أي ما قصصنا عليك من نبأ عيسى، هو الحقّ كائنا [مِنْ رَبِّكَ لا قول النصارى أنّه ابن اللّه، و قولهم: ولدت مريم إلها، و نحو ذلك [فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أيّها السامع من الشاكّين، أو الخطاب للنبيّ على طريقة الإلهاب و التهييج و الغرض زيادة التثبيت فيكون المعنى: دم على يقينك و على ما أنت عليه من الاطمينان. قال أبو منصور: العصمة لا ترفع النهي و الخطاب.

ص: 212

[فَمَنْ حَاجَّكَ من النصارى إذ هم المتصدّون للمحاجّة [فِيهِ أي في شأن عيسى و امّه عليهما السّلام [مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ من الآيات و سمعوا ذلك منكم و لم يرعووا عمّا هم عليه من الغيّ [فَقُلْ و اقطع الكلام بالمباهلة و هي أن تدعوهم إلى الملاعنة و قل لهم:

[تَعالَوْا] التعالي في الأصل التصاعد كأنّ الداعي في علوّ و المدعوّ في سفل ثمّ يستعمل لكلّ مدعوّ أين كان أي هلمّوا بالرأي و العزيمة لا بالأبدان لأنّهم حاضرون عنده بأجسادهم [نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ أي ليدع كلّ منّا و منكم أولاده و نساءه و نفسه و أعزّة أهله إلى طلب البعد من الرحمة و نطلب العذاب للكاذب منهم و نحملهم على هذا الأمر من اللّه [فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ من الفريقين.

روي أنّهم لمّا دعوا إلى المباهلة طلبوا المهلة و قالوا: نستنظر إلى صبيحة غد فأنظرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال لهم الأسقفّ و هو عبد المسيح المكنّى أبو حارثة:

إنّه لنبيّ مرسل و انظروا في غداة غد إن غدا بولده و أهله فاحذروا مباهلته و لا تباهلوه و إن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شي ء.

فأتوا رسول اللّه و قد خرج صلّى اللّه عليه و آله محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن و فاطمة تمشي خلفه و عليّ خلفها و هو يقول: إذا دعوت أنا فأمّنوا فلمّا رأى أبو حارثة و هو أعلمهم بأمور دينهم قال: يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوها لو دعوا اللّه و شاؤوا أن يزيل اللّه جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوه و صالحوا الرجل و إن باهلتم تهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة.

فتقدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جثا على ركبتيه، قال أبو حارثة لقومه: و اللّه جثا كما جثا الأنبياء، فكعّ أبو حارثة، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ادن يا أبا حارثة للمباهلة فقال أبو حارثة: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك و أن تترك على دينك و نثبت على ديننا، قال صلّى اللّه عليه و آله: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين و عليكم ما على المسلمين، فأبوا، فقال: فإنّي احاربكم، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة و لكن نصالحك على أن لا تغزونا و لا تخيفنا و لا تردّنا عن ديننا على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة: ألف في صفر و ألف في رجب، و ثلاثين درعا عادية

ص: 213

من حديد، فصالحهم على ذلك و كتب لهم كتابا بذلك و قال: و الّذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير و لاضطرم عليهم الوادي نارا و لاستأصل اللّه نجران و أهله حتّى الطير على رؤوس الشجر و لما حال الحول على النصارى كلّهم حتّى هلكوا.

و قيل في المصالحة: و ثلاثين فرسا و ثلاثين رمحا و قيمة كل حلّة أربعون درهما.

و لمّا رجع وفد نجران لم يلبث السيّد و العاقب إلّا يسيرا حتّى رجعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أهدى العاقب له حلّة و عصا و قدحا و نعلين و أسلما.

و قال بعض المعتزلة: هذا يدلّ على أنّ الحسن و الحسين كانا مكلّفين في تلك الحال لأنّ المباهلة لا يجوز إلّا مع البالغين. و قال أصحابنا: إنّ صغر السنّ عن حدّ بلوغ الحلم لا ينافي كمال العقل و إنّما جعل بلوغ الحلم حدّا لتعلّق الأحكام الشرعيّة و قد كان سنّهما في تلك الحال سنّا لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل، على أنّ عندنا يجوز أن يخرق اللّه العادة للأئمّة و يخصّهم بأمور لا يشركهم فيه غيرهم فلو صحّ أنّ كمال العقل غير معتاد في تلك السنّ لجاز ذلك فيهم إبانة لفضلهم عن ما سواهم و يؤيّده قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا.

و اتّفقوا على أنّ المراد من «نِساءَنا» فاطمة لأنّه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء و لم يقل أحد: إنّ غيرها من النساء حضرت، و هذا يدلّ على تفضيل فاطمة على جميع النساء؛ و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة و يرضى لرضاها. و قد صحّ عن حذيفة بن اليمان قال: سمعت رسول اللّه يقول: أتاني ملك فبشّرني أنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة و نساء أمّتي. و عن الشعبيّ عن مسروق عن عائشة قالت: أسرّ النبيّ إلى فاطمة فضحكت فسألتها فقالت: قال لي: ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الأمّة و نساء المؤمنين؟

فضحكت لذلك.

فتبيّن أنّ المراد من قوله: «وَ نِساءَنا» فاطمة «وَ أَنْفُسَنا» يعني عليّا خاصّة و لا يجوز أن يكون المعنيّ به صلّى اللّه عليه و آله لأنّه هو الداعي و لا يجوز أن يدعو الإنسان نفسه و إنّما يصحّ أن يدعو غيره و إذا كان قوله: «وَ أَنْفُسَنا» لا بدّ أن يكون إشارة إلى غير الرسول صلّى اللّه عليه و آله وجب أن يكون إشارة إلى عليّ لأنّه لا أحد يدّعي دخول غير عليّ و فاطمة و ولديه في المباهلة و هذا

ص: 214

هو الأفضليّة على من عليها في المشرق و المغرب إذ جعله اللّه سبحانه نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

و ممّا يعضده من الروايات ما صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن بعض أصحابه فقال له قائل: فعليّ، فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّما سألتني عن الناس و لم تسألني عن نفسي. و قوله صلّى اللّه عليه و آله: لبريدة الأسلميّ: يا بريدة لا تبغض عليّا فإنّه منّي و أنا منه إنّ الناس خلقوا من شجر شتّى و أنا و عليّ من شجرة واحدة. و كذلك قوله بأحد و نكايته صلّى اللّه عليه و آله في تلك الغزوة و وقاية عليّ بنفسه إيّاه حتّى قال جبرئيل: إنّ هذه لهي المواساة فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل إنّه منّي و أنا منه، فقال جبرئيل: و أنا منكما، انتهى.

[سورة آل عمران (3): الآيات 62 الى 63]

إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

أي إنّ ما قصّ من نبأ عيسى و أمّه عليهما السّلام [لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ دون ما عداه من أكاذيب النصارى [وَ ما مِنْ إِلهٍ ما إله [إِلَّا اللَّهُ صرّح في الكلام «بمن» الاستغراقيّة تأكيدا للردّ على النصارى في تثليثهم [وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ] الغالب على جميع مقدوراته المحيط [الْحَكِيمُ بما يقتضي الصلاح لا يشاركه أحد في الألوهيّة.

[فَإِنْ تَوَلَّوْا] و أعرضوا عن قبول التوحيد و الحقّ الّذي قصّ عليك [فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أي فاقطع كلامك عنهم فإنّ اللّه عليم بفساد المفسدين مطّلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة.

[سورة آل عمران (3): آية 64]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

. المراد بأهل الكتاب اليهود و النصارى. أمر اللّه سبحانه نبيّه بأن يعدل عن طريق المجادلة و الاحتجاج إلى نهج الملاينة و الإنصاف و ذلك بعد تتميم الحجّة فدعاهم إلى التوحيد و إلى الاقتداء بمن اتّفقوا على أنّه كان على الحقّ فقال:

[قُلْ لهم: هلمّوا إلى كلمة عادلة بيننا و بينكم لا ميل لها إلى الاعوجاج و هي ترك العبادة لغير اللّه لأنّها لا تحقّ إلّا له [وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا يتّخذ

ص: 215

بعضنا عيسى عليه السّلام ربّا فإنّه كان بعض الناس.

و قيل: معنى الآية: أن لا يتّخذ الأحبار أربابا بأن يطيعهم طاعة الأرباب كقوله:

«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (1).

و قد روي أيضا لمّا نزلت هذه الآية قال عديّ بن حاتم: ما كنّا نعبدهم يا رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: أما كان يحلّون لكم و يحرّمون فتأخذون بقولهم؟ فقال عديّ: نعم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: هو ذاك.

[فَإِنْ تَوَلَّوْا] عمّا دعوتموهم إليه من التوحيد و ترك الإشراك [فَقُولُوا] أي قل:

لهم أنت و المؤمنون [اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي إن تولّوا و أعرضوا عن التوحيد فقولوا لهم أنت يا محمّد و من معك من أهل الإيمان للمعرضين: اشهدوا أنتم أيّها الكفّار بأنّا مستسلمون لما دعانا اللّه من التوحيد. و السرّ في الإشهاد على الإسلام ليشهد الكفّار لهم يوم القيامة على الإسلام كما يشهد لهم المؤمنون بالكفر؛ فيكون شهادة الكفّار للمسلمين يوم القيامة بالتوحيد حجّة على أنفسهم.

[سورة آل عمران (3): آية 65]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65)

. تنازعت اليهود و النصارى في إبراهيم و زعم كلّ واحد منهما أنّه عليه السّلام منهم و ترافعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت الآية و المعنى: لم تدّعون أنّ إبراهيم كان منكم [وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ] على موسى [وَ الْإِنْجِيلُ على عيسى [إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي إلّا من بعد موت إبراهيم و أنتم سمّيتم باليهوديّة و النصرانيّة بعد نزول الكتاب [أَ فَلا تَعْقِلُونَ و تتفكّرون في بطلان جدلكم و بطلان كلامكم و مذهبكم؛ لأنّ بين إبراهيم و موسى ألف سنة و بين موسى و عيسى ألفي سنة فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلّا بعد عهده بأزمنة متطاولة؟

[سورة آل عمران (3): آية 66]

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)

ص: 216


1- التوبة: 32.

جملة من مبتدء و خبر صدّرت بحرف التنبيه إشعارا بكمال غفلتهم أي أنتم هؤلاء الحمقاء حيث [حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من التوراة و الإنجيل من نبوّة محمّد [فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي فيما ليس له ذكر في كتابكم و لا علم لكم به من دين إبراهيم إذ لا ذكر لدينه في إحدى الكتابين قطعا [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ دين إبراهيم و شأنه [وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك و ما تعرفون شريعته فلا تضيفوا إليه ما لا تعلمونه.

[سورة آل عمران (3): آية 67]

ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)

. تصريح بما نطق به البرهان المذكور [وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً] مائلا عن العقائد الزائفة كلّها [مُسْلِماً] منقادا للّه [وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بأنّهم مشركون بقولهم.

«عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ» «و الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» و ردّ لادّعاء المشركين أنّهم على ملّته.

[سورة آل عمران (3): آية 68]

إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

. أي إنّ أحقّ الناس بادّعائه بأنّه على دين إبراهيم هم الّذين اتّبعوه في زمانه و ما خالفوه [وَ هذَا النَّبِيُ المصطفى صلّى اللّه عليه و آله لأنّه اتّبعه في الحنيفيّة [وَ الَّذِينَ آمَنُوا] باللّه و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله من هذه الأمّة لموافقتهم إيّاه في اصول الشرائع [وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ و ناصرهم و يجازيهم الحسنى بإيمانهم.

[سورة آل عمران (3): آية 69]

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69)

. أي أحبّت أن يصرفوكم عن دين الإسلام إلى دين الكفر و إنّما قال: [طائِفَةٌ] لأنّ من أهل الكتاب امّة قائمة يتلون آيات اللّه [وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ جملة حاليّة تدلّ على ثبات المؤمنين على ما هم عليه من الدين القويم و حاصل الآية أنّ إضلال أهل الكتاب يعود و باله على الكافرين و يضاعف به عذابهم [وَ ما يَشْعُرُونَ بهذا الضرر.

[سورة آل عمران (3): آية 70]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

.

ص: 217

أي لم تجحدون بما نطقت به من التوراة و الإنجيل على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله [وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنّها آيات اللّه و تعلمون نعته بالكتابين أو المراد المعجزات الّتي تشاهدون منه و كتابه و معجزاته تدلّ على نبوّته.

[سورة آل عمران (3): الآيات 71 الى 72]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

. المراد بالحقّ في الآية كتاب اللّه الّذي أنزله على موسى و عيسى و بالباطل ما حرّفوه و كتبوه بأيديهم، أي لم تخلطون أحدهما بالآخر و إبراز باطلهم في صورة الحقّ بأن يقولوا: الكلّ من عند اللّه [وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَ أي نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفاته و علاماته المذكورة في كتابكم [وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّه ثابت و حقّ في كتابكم.

وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ و هم رؤساؤهم:

آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي أظهروا الإيمان بالقرآن الّذي أنزل على لمسلمين وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ أي في أوّل النهار و أظهروا الكفر به آخر النهار مرائين لهم أنّكم آمنتم به ابتداء من غير تأمّل ثمّ تأمّلتم فيه فوقفتم على خلل رأيكم الأوّل و رجعتم لَعَلَّهُمْ أي المؤمنين

[سورة آل عمران (3): آية 73]

وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)

عمّا هم عليه من الإيمان به كما رجعتم.

و المراد كعب بن الأشرف و مالك بن الصيف و نفر من اليهود قالوا لأصحابهم لما حوّلت القبلة: آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة و صلّوا إليها أوّل النهار ثمّ صلّوا إلى بيت المقدس آخر النهار لعلّهم يقولون هم أعلم منّا و قد رجعوا فيرجعون.

قال الحسن و السدّيّ: تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر قرى عرينة و قال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمّد أوّل النهار باللسان دون الاعتقاد و اكفروا به آخره و قولوا: إنّا نظرنا في كتبنا و شاورنا علماءنا فوجدنا محمّدا ليس ذلك الموعود به و ظهر لنا كذبه و بطلان دينه؛ فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينه و قالوا: إنّهم أهل الكتاب و هم أعلم منّا و بهذه الجهة يرجعون عن دينهم إلى دينكم.

وَ لا تُؤْمِنُوا أي لا تصدّقوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ اليهوديّة و قام بشرائعكم و كان يوصي بعضهم بعضا بهذا الأمر، فحاصل المعنى أنّ هذا الكلام من بقيّة طائفة اليهود أي

ص: 218

لا تصدّقوا إلّا نبيّا يقرّر شرائع التوراة؛ فيكون اللام صلة زائدة كقوله: «رَدِفَ لَكُمْ» و المعنى «ردفكم».

و قيل: معنى الآية: إنّهم قالوا لتبعهم: إنّكم لا تؤتوا بذلك الإيمان المدلّس الملبس إلّا لبقاء دينكم؛ فإنّ مقصودنا من هذا التدليس الّذي نؤمن أوّل النهار أن نحفظ دينكم.

فقال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ قل يا محمّد جوابا و ردّا على اليهود: إنّ الهدى هدى اللّه و قد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد و الحيلة.

ثمّ قال تعالى:

أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ

و قرئ «آن يؤتى» بالمدّ على الاستفهام مثل ابن كثير و الباقوق بفتح الهمزة من غير مد و لا استفهام كقوله: «أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ* إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (1) و على هذه القراءة فالكلام في معرض الاستفهام التوبيخيّ و المعنى: أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتّباعه ثمّ حذف الجواب للاختصار و مثل هذا الحذف كثير مثل قول الرجل لصاحبه: أمن قلّة إحساني إليك أم من إهانتي إليك؟

ثمّ ما يذكر الجواب و هو «فعلت ذلك» و هذا المعنى به قال مجاهد و عيسى بن عمرو، أمّا قرأ بقصر الألف في «أن» فقد يمكن أيضا حملها على معنى الاستفهام كما قرئ «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ»* (2) بالمدّ و القصر قال امرؤ القيس: «تزوّج من الحيّ أم تبتكر» أراد أتزوّج من الحيّ؟ فحذف ألف الاستفهام فيكون على هذا التقدير معنى الآية المعنى الأوّل.

قال الرازيّ في المفاتيح: و اعلم أنّ هذه من المشكلات الصعبة؛ أقول: و لعلّ منشأ الإشكال الاختلاف الواقع بأنّ قوله: «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» من جملة كلام اللّه بعد قوله: «قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» أم بقيّة كلام اليهود؟

و قوله: «قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» جملة معترضة. قال الفيض في الصافي: إنّ الآية من

ص: 219


1- القلم: 15- 16.
2- البقرة: 5.

المتشابهات الّتي لم تصل إلينا عن أهل البيت شي ء و خلص نفسه، قال الطبرسيّ: و المفسّرون ذكروا وجوها:

منها أنّه قل يا محمّد: «إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» و قل: «إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ» فلا ينبغي لهم أن ينكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من النبوّة و التوراة و هذا معنى قول الحسن و أبي عليّ الفارسيّ.

و ثاني الأقوال: أن يكون قوله: «وَ لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» كلام اليهود و ما بعده من كلام اللّه و يكون المعنى: قل إنّ الهدى هدى اللّه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيّها المسلمون، و «لا» مقدّرة مثل قوله: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (1) أي أن لا تضلّوا فيكون المعنى:

لا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم و أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فيكون من كلام الطائفة. و قال المبرّد: إنّ «لا» ليست ممّا يحذف في هذا المقام و المعنى: قل إنّ الهدى هدى اللّه كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي ممّن خالف دين اللّه الإسلام؛ لأنّه تعالى خصّ المؤمنين الهداية و لا يهدي من هو كاذب كفّار فهدى اللّه بعيد من غير المؤمنين. نعم إنّه تعالى هداه ابتداء فطرة الإسلام ف «هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» فبعد قبوله الكفر غير لائق بالهداية.

و قيل: معنى الآية: إنّ الهدى هدى اللّه و الحقّ ما أمر اللّه به ثمّ فسّر الهدى فقال: «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ» فيكون حاصل المعنى أنّ المؤتى ما شرّع لكم. و قيل: «أن» في الآية نافية فيكون على هذا التقدير من كلام الطائفة فقالوا: لا تؤمنوا أيّها اليهود إلّا لمن تبع دينكم و قولوا لهم: إنّه ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتّى يحاجّوكم عند ربّكم فيدحضوا حجّتكم، و الواو في «يُحاجُّوكُمْ» راجع إلى «أحد» و هو في معنى الجمع إذا المراد غير أتباعهم.

و قيل: الآية من أوّلها إلى آخرها كلّها خطاب من اللّه و تقديره: و لا تؤمنوا أيّها المؤمنون إلّا لمن تبع دينكم و هو دين الإسلام و لا تصدّقوا بأن يؤتى أحد مثل أوتيتم من الدين المستقيم فلا نبيّ بعد نبيّكم و لا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة و لا تصدّقوا حجّة لأنّ دينكم خير الأديان و أنّ الهدى هدى اللّه. بأن تكون لأحد عليكم عند ربّكم [وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ و يستفهم هذه المعاني من سوق الكلام و يدلّ عليه ما قاله الضحّاك:

ص: 220


1- النساء: 175.

إنّ اليهود قالوا: إنّا نحاجّ عند ربّنا من خالفنا في ديننا، فبيّن اللّه أنّهم المغلوبون المدحضون و أنّ المؤمنين هم الغالبون و المراد من «الفضل» في الآية النبوّة، و قيل: نعم الدنيا و الآخرة.

[يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ علّقه بالمشيّة بسبب سعة علمه بمصالح الأمور و هو تعالى واسع المقدور.

[سورة آل عمران (3): آية 74]

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

يجعل رحمته لمن يشاء و يكون محلّا و قابلا للرحمة و هذا كقوله: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (1) و في مضمون الآية إشارة إلى الاحتراز من الحسد فإنّ الحسد حمل أحبار اليهود على مثل هذا الإنكار من تصديق نعوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لأنّ تصديقهم إيّاه صلّى اللّه عليه و آله كان مانعا لهم من جمع المال و حصول الجاه و القبول عند أرباب الدنيا.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ثلاث هنّ أصل خطيئة فاتّقوهنّ: إيّاكم و الكبر فإنّ إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم، و إيّاكم و الحرص فإنّ الحرص يحمل الإنسان على الانهماك في الدنيا، و إيّاكم و الحسد فإنّ ابني آدم قتل أحدهما صاحبه حسدا، و بئست الخصلة الحسد.

قال أمير المؤمنين: قاتل اللّه الحسد ما أعدله بدأ بالحاسد قبل المحسود. قال الأصمعيّ رأيت أعرابيّا أتى عليه مائة و عشرون سنة فقلت: ما طوّل عمرك؟ فقال: تركت الحسد فبقيت. و من علامات الحاسد أن يتملّق إذا شهد و يغتاب إذا غاب و يشمت بالمصيبة إذا نزلت قال الشاعر:

و إذا أراد اللّه نشر فضيلةطويت، أتاح لها لسان حسود

لو لا اشتعال النار فيما جاوزت ما كان يعرف طيب عرف العود

و علاج إزالته عن النفس بكثرة الأذكار و الانقطاع إلى اللّه و إنّ تباين مقامات أفراد الإنسان في الصفات الفاضلة رحمة لهم و لم يكن ذلك إلّا بتقدير العزيز العليم فالحاسد على الحقيقة يعارض الحقّ و معنى حسده أنّه تعالى أنعم على من لا يستحقّ تعالى عن ذلك

ص: 221


1- الانعام: 124.

و قد ذمّ اللّه الحاسدين في كتابه في قوله تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» (1) لكن الغبطة على طاعة اللّه محمودة.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 75 الى 76]

وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

. «القنطار» و قد ذكر الخلاف في مقداره قبل هذا و على الجملة فالمراد المال الكثير قال ابن عبّاس: يعنى بقوله: [مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ عبد اللّه بن سلام أودعه رجل ألفا و مأتي أوقية من ذهب فأدّاها إليه فمدحه اللّه سبحانه.

[وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ] و المراد «بالدينار» مثقال من الذهب أو العدد القليل [لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ و هو كعب بن الأشرف أو فنحاص بن عازورا استودعه رجل من قريش دينارا فلم يؤدّه و جحده فذمّه اللّه و المعنى أنّ فيهم من هو في غاية الأمانة و من هو في غاية الخيانة [إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً] أي في حال من الأحوال إلّا في حال دوام قيامك عليه على رأسه مبالغا في مطالبته بالتقاضي و إقامة البيّنة.

[ذلِكَ أي تركهم أداء الحقوق [بِأَنَّهُمْ بسبب أنّهم [قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ بيان لنفي السبيل عليهم من غير أهل دينهم بادّعائهم أنّ هذا الحكم في التوراة و لهذا السبب يميلون إلى الخيانة و كانوا يقولون: إنّه ليس علينا في أموال العرب الّتي أصبناها بأس لأنّهم مشركون و ادّعوا أنّ ذلك في كتبهم.

فأكذبهم اللّه في ذلك بقوله: [وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّهم يكذبون لأنّ اللّه أمرهم بخلاف ما قالوا، و إنّما سمّوهم «امّيّين» لأنّهم ما كانوا يكتبون و ذلك لأنّ الأمّ أصل الشي ء فمن لا يكتب فقد بقي على أصل حاله في أن لا يكتب أو لأنّهم منسوبون إلى مكّة و هي امّ القرى فلهذا السبب استحلّوا ظلم من خالفهم في اليهوديّة و قالوا: لم يجعل اللّه في التوراة لما لهم حرمة و قد كذبوا في ذلك على اللّه فإنّ أداء الأمانة واجب في الأديان كلّها و حبس مال الغير و الإضرار به و الخيانة إليه حرام

ص: 222


1- النساء: 53.

[بَلى إثبات لما نفوه أي بلى عليهم سبيل و ما أمر اللّه بذلك و لا أحبّه و لا أراده بل أوجب و الوفاء بالعهد و أداء الأمانة [مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ الهاء في «بِعَهْدِهِ» عائدة إلى اللّه في قوله: «وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» فيكون معناه «بعهد الله» و المراد من عهد اللّه أمره و نهيه و يحتمل أن يكون عائدة إلى «من» و معناه: من أوفى بعهد نفسه؛ لأنّ العهد يضاف تارة إلى العاهد و تارة إلى المعهود له.

[فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي إنّ اللّه يحبّه، و عدل إلى ذكر المتّقين لبيان الصفة الّتي يجب لها محبّة اللّه و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا قرأ هذه الآية قال: كذب أعداء اللّه ما من شي ء كان في الجاهليّة إلّا و هو تحت قدمي إلّا الأمانة فإنّها مؤدّاة إلى البرّ و الفاجر.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: ثلاث من كنّ فيه فهو منافق و إن صلّى و صام و زعم أنّه مؤمن: من إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان، و عنه صلّى اللّه عليه و آله من ائتمن على الأمانة فأدّاها و لو شاء لم يؤدّها زوّجه اللّه من الحور العين ما شاء.

[سورة آل عمران (3): آية 77]

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)

. نزلت في جماعة من أحبار اليهود: أبي رافع و كنانة بن أبي الحقيق و حييّ بن الأخطب كعب بن الأشرف كتموا ما في التوراة من أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتبوا بأيديهم غيره و حلفوا أنّه من عند اللّه لئلّا تفوتهم الرياسة و ما كان لهم على أتباعهم، عن عكرمة.

و قيل: نزلت في الأشعث بن قيس و خصم له في أرض قام ليحلف عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزلت الآية نكل الأشعث و اعترف بالحقّ و ردّ الأرض، عن ابن جريح. و قيل: نزلت رجل حلف يمينا فأخبره في تنفيق سلعته، عن مجاهد و الشعبيّ.

ذكر اللّه سبحانه الوعيد لهم على أفعالهم الخبيثة فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ أي يستبدلون [بِعَهْدِ اللَّهِ أي بما يلزمهم الوفاء به [وَ أَيْمانِهِمْ و بدّلوا ما عاهدوا عليه من الإيمان لرسول و الوفاء بالأمانات و بما حلفوا عليه من كتمان نعوته و خياناتهم بالأمانات في ابلة ثمن بخس قليل و هو حطام الدنيا.

[أُولئِكَ الموصوفون [لا خَلاقَ و لا نصيب [لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ] و لا في نعيمها [وَ لا

ص: 223

يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] و هو مجاز عن شدّة غضبه و سخطه عليهم و إيقاعه بهم [وَ لا يُزَكِّيهِمْ أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه و التزكية من اللّه تكون على ألسنة الملائكة كقوله: «وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» (1) و مثل قوله:

«سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (2) [وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على ما فعلوه من المعاصي.

و في تفسير الكلبي عن ابن مسعود قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها مال أخيه المسلم لقى اللّه و هو غضبان و تلا هذه الآية.

و روى مسلم الحجّاج في الصحيح بإسناده من عدّة طرق عن أبي ذرّ الغفاريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة و لا ينظر إليهم و لا يزكّيهم و لهم عذاب أليم: المنّان الّذي لا يعطي شيئا إلّا منّة و المنفق سلعته باليمين الفاجرة و المسبل إزاره.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 78]

وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78)

. أي من اليهود المحرّفين [لَفَرِيقاً] و نصب «فريقا» بأنّه اسم «إنّ» و اللام للتأكيد و هم جماعة من أحبار اليهود كتبوا ما ليس في التوراة من صفات النبيّ و غيرها و أضافوه إلى التوراة. و قيل: نزلت الآية في اليهود و النصارى حرّفوا التوراة و الإنجيل ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض و ألحقوا به ما ليس فيه و استعمل تحريف الكتاب عن الجهة ليّا باللسان و المراد تفسيره و تحريفه بخلاف الحقّ [لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ أي لتظنّوه أيّها المسلمون من كتاب اللّه [وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ أي من جملته و الحال أنّه ليس منه في نفس الأمر و في اعتقادهم أيضا.

[وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّهم كاذبون و مفترون على اللّه و بالجملة لمّا حرّفوا في التوراة و بدّلوا صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذت قريظة ما كتبوا فخلطوه بالتوراة الّتي عندهم.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 79]

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

ص: 224


1- الرعد: 26.
2- يس: 58.

في الآية بيان لمفتريات الأحبار على الأنبياء حيث قالوا: إنّ عيسى عليه السّلام أمرنا أن نتّخذه ربّا حاشاه عليه السّلام و جاء رجل من المسلمين فقال: يا رسول اللّه نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض أفلا نسجدك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: معاذ اللّه أن تعبد غير اللّه و نأمر بعبادة غير اللّه أي ما صحّ و ما استقام لأحد سواء كان بشرا أولا و إنّما قيل: «بشرا» إشعارا بعلّة الحكم فإنّ البشريّة منافية لهذا الاسناد الّذي أسنده الكفرة من النصارى و هو إسناد الربوبيّة إليه.

و حاصل معنى الآية أنّه ليس لبشر بعد أن آتاه اللّه و أعطاه [الْكِتابَ الناطق بالحقّ مثل التوراة و الإنجيل و القرآن [وَ الْحُكْمَ أي الفهم و العلم [وَ النُّبُوَّةَ] فالكتاب السماويّ و الوحي ينزل أوّلا ثمّ يحصل في عقل النبيّ و إدراكه فهم ذلك الكتاب و أسراره ثمّ بعد الحصول يبلّغ النبيّ ذلك المفهوم إلى الخلق و هو المراد بالنبوّة.

[ثُمَّ يَقُولَ ذلك البشر بعد هذه التشريفات [لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ و ليس لأحد حقّ في هذا القول. قال الأصمّ: معنى الآية أنّه لا يتمكّن النبيّ بعد تحقّق نبوّته أن يقول: «لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي» فمعنى الآية مثل قوله «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ... لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» (1).

[وَ لكِنْ يقول لهم [كُونُوا رَبَّانِيِّينَ الربّانيّ منسوب إلى الربّ بزيادة الألف و النون كاللحيانيّ إذا وصف بطول اللحية ففيه الدلالة على الكمال في هذه الصفة و إذا نسب إلى اللحية من غير قصد المبالغة يقال: لحويّ؛ فالربّانيّ هو الكامل في العلم و العلم الشديد التمسّك بطاعة اللّه كما يقال رجل إلهيّ، إذا كان مقبلا على معرفة الإله و طاعته.

[بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أي كونوا ربّانيّين في علمكم و دراستكم و علّموا الناس، و علم الكتاب و درسه يقتضي كونه ربّانيّا و تعلّم الناس طريق الهداية فعلم الكتاب سبب لنهي الناس عن عبوديّة غير اللّه فكيف يتصوّر أن يقول للخلق اعبدوني؟

فهذا الّذي يدّعونه النصارى غير واقع و كذب.

[سورة آل عمران (3): آية 80]

وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

. عطف على قوله: «ما كانَ لِبَشَرٍ» أو على «ثُمَّ يَقُولَ» و صورة الكلام «ما كانَ لِبَشَرٍ»

ص: 225


1- الحاقة: 48.

يكون موصوفا بصفة النبوّة يأمر الناس بعبادة نفسه و لا يكون له أن يأمر الناس أن يتّخذوا الملائكة و النبيّين آلهة [أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ] كونكم مخلصين بالتوحيد فإنّه لو أمركم بذلك لكفر و نزع منه النبوّة و من آتاه اللّه الكتاب و الحكم و النبوّة يمنعه ذلك من ادّعاء الألوهيّة.

و قيل: الضمير في «يأمركم» راجع إلى اللّه. و قيل: إلى محمّد و قيل: إلى عيسى. و منشأ الاختلاف قراءة رفع الراء في «يأمركم» و نصبها لأنّ من قرأ بالنصب عطفه على «أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ» و تكون «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله: «ما كانَ لِبَشَرٍ» و قراءة الرفع على الاستيناف و تضمّن معنى الحاليّة بتقدير المبتدء أي و هؤلاء يأمركم هكذا انتهى.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 81]

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

. قرأ حمزة بكسر اللام في «لما» و الباقون بفتحها و قرأ نافع «آتيناكم» على الجمع و الباقون على التوحيد، و قراءة الكسرة قال حمزة: إنّه يتعلّق «بالأخذ» كأنّ المعنى أخذ ميثاقهم لهذا و يكون «ما» موصولة المعنى، الميثاق مصدر يجوز إضافته إلى الفاعل و إلى المفعول فيحتمل أن يكون الميثاق من النبيّين و يحتمل أن يكون أخذه للنبيّين.

قال المفسّرون: إنّ اللّه أخذ الميثاق من النبيّين أن يصدّق بعضهم بعضا و أخذ العهد على كلّ نبيّ أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء و أن ينصره إن أدركه و إن لم يدركه أن يأمر قومه بالإيمان به إن أدركوه فأخذ الميثاق من موسى عليه السّلام أن يؤمن بعيسى عليه السّلام و من عيسى عليه السّلام أن يؤمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و إذا كان حكم الأنبياء كان الأمم بذلك أولى.

أي اذكر يا محمّد وقت أخذ اللّه ميثاق الأنبياء و أممهم [لَما آتَيْتُكُمْ «و اللام» موطّئة لأنّ أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف و «ما» مبتدأ موصولة و «آتيتكم» صلتها و العائد محذوف تقديره: للّذي آتيتكموه [لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ جواب قسم مقدّر و القسم المقدّر و جوابه خبر للمبتدأ أي و اللّه لتصدّقنّه برسالته و تنصرنّه على أعدائه و هذا إذا كانت «ما»

ص: 226

في الآية موصولة، و اللام لام ابتداء و هي المتلقيّة لما اجري مجرى القسم من قوله:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ» و موضع «ما» حينئذ رفع بالابتداء كما ذكرنا قبيل هذا و الخبر «لتؤمننّ» و إذا جعلت «ما» للشرط كانت «ما» في موضع نصب «بآتيتكم» و تقديره:

أيّ شي ء آتيتكم و مهما آتيتكم من كتاب لتؤمننّ به؛ فالشرط هو إيتاؤه إيّاهم الكتاب و الحكمة و مجي ء الرسول و الجزاء القسم و المقسم عليه و هو قول: «لتؤمننّ به» كقوله:

«لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (1).

فيكون على هذا معنى الآية إنّ اللّه قال لهم: مهما اوتيكم كتابا و حكمة ثمّ يجيئكم به رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به و لتنصرنّه؛ فأقرّوا بذلك و أعطوا مواثيقهم و هو المرويّ عن عليّ و ابن عبّاس و قتادة و السدّيّ و الجبّائيّ و أبو مسلم و هذا كلّه على قراءة الفتح في اللام في «لَما آتَيْتُكُمْ» و على قراءة كسر اللام فالمعنى: ميثاقهم لأجل ما أوتوه من الكتاب و الحكمة لأنّهم الفواضل و خيار الناس. و قرأ سعيد بن جبير «لمّا» مشدّدة.

قال بعض المفسّرين ذكر «النبيّين» على سبيل المنايبة ثمّ قال مخاطبا بقوله:

«لَما آتَيْتُكُمْ» في الآية إضمار؛ فقالوا تقديره: و إذ أخذ اللّه ميثاق النبيّين لتبلّغنّ الناس ما آتيتكم، و حذف لدلالة الكلام. و هذا باب واسع في القرآن و أراحوا أنفسهم التكلّفات في الآية؛ فإنّ لام القسم إنّما يقع على الفعل فلمّا دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصارا.

قال سعيد بن المسيّب: و هذه الآية من مشكلات آيات القرآن. قال الطبرسيّ: و قد غاص النحويّون في وجوه إعرابها و شقّوا الشعر في تدقيقها.

[قالَ أي قال اللّه بعد ما أخذ الميثاق: [أَ أَقْرَرْتُمْ أي بالإيمان و النصر له.

قوله تعالى: [وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي قبلتم على ذلكم الميثاق عقدي الّذي عقدته عليكم؟ و الإصر الثقل الّذي يلحق الإنسان و المراد هنا العهد.

[قالُوا أَقْرَرْنا] أي قال الأنبياء و أممهم أقررنا بما أمرتنا به [قالَ اللّه: [فَاشْهَدُوا]

ص: 227


1- الزمر: 65.

أيّها الملائكة أو الأنبياء أو الأمم بإقرار بعضكم على بعض [وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي و أنا أيضا شاهد على إقراركم ذلك، و المقصود التحذير من الرجوع إذا علموا شهادة اللّه و شهادة بعضهم على بعض.

[سورة آل عمران (3): آية 82]

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)

فَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض بَعْدَ ذلِكَ العهد الخارجون المتمرّدون عن الإيمان و الطاعة و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة أما و اللّه لو كان موسى بن عمران عليه السّلام حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ اللّه ما بعث آدم و من بعده من الأنبياء إلّا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هو حيّ ليؤمننّ به. و قال أبو مسلم: إنّ الّذين أخذ اللّه الميثاق منهم، يجب عليهم الإيمان بمحمّد عند مبعثه و كلّ الأنبياء يكونون عند مبعث محمّد في زمرة الأموات؛ فلمّا كان الّذين أخذ الميثاق عليهم يجب عليهم الإيمان بمحمّد عند مبعثه و لا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمّد علمنا أنّ الّذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيّين بل هم أممهم، و كثيرا ورد في القرآن لفظ النبيّ و المراد امّته.

و ممّا يؤكّد هذا أنّه تعالى حكم على الّذين أخذ عليهم الميثاق أنّهم لو تولّوا لكانوا فاسقين و هذا الوصف لا يليق بالأنبياء و إنّما يليق بالأمم. و أجاب بعض المفسّرين أنّه لم لا يجوز أن يكون المراد أنّ الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم هذا الأمر و هو الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و نظيره قوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (1) و قد علم اللّه أنّه صلّى اللّه عليه و آله لا يشرك قطّ لكن خرج هذا الكلام على سبيل الفرض كما قال: «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ» (2).

فلو قيل: إنّ هذا الخطاب في قوله: «لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ» إن كان المراد الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب و إنّما اوتي بعضهم و إن كان الخطاب مع الأمم فالإشكال أظهر.

و الجواب أنّ الأنبياء كانوا محكومين و مهتدين بالكتاب المنزل و لو أنّه لم ينزل على بعضهم، و وصف الكلّ بالإتيان و بوصف أشرف أنواعهم و هم الّذين أوتوا الكتاب. و المراد

ص: 228


1- الزمر: 65.
2- الحاقة: 44.

من «الكتاب» هو المنزل المقروء، و المراد من «الحكمة» هو الوحي الوارد بالتكاليف المفصّلة الّتي لم يشتمل ظاهر الكتاب عليها.

[سورة آل عمران (3): آية 83]

أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

. و لمّا بيّن سبحانه في الآية الاولى أنّ الإيمان بمحمّد شرع شرّعه اللّه و أوجبه على جميع من مضى من الأنبياء لزم أنّ كلّ من كره ذلك فإنّه يكون طالبا دينا غير دين اللّه فلهذا عبّر بهذه الآية [أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ و قرئ «تبغون» بالخطاب و الخطاب لليهود، فالميثاق لمّا كان مذكورا في كتبهم على لسان رسلهم فقد كانوا عالمين و عارفين بصدق الرسول الأمّيّ فلم يبق لجحودهم نبوّته صلّى اللّه عليه و آله سوى العناد.

فقال سبحانه: أ يتولّون غير دين اللّه و يطلبونه [وَ لَهُ أَسْلَمَ أي للّه أخلص و انقاد [مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي أهلهما. فإن قيل: إنّ الكافر ما أسلم له؛ فالجواب: أنّ المسلمين أسلموا له طوعا و الكافر أسلم له كرها عند موته ضرورة كما قال سبحانه «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» (1).

و قيل: المراد من قوله: «أسلم» أي خضع و انقاد كما فسّرنا فخضوع كلّ من في السماوات و الأرض للّه بيانه: أنّ كلّ ما سوى اللّه منقاد خاضع للّه في طرفي وجوده و عدمه و هذا هو نهاية الانقياد؛ فكلّ ما سواه لا يوجد إلّا بتكوينه و لا يفنى إلّا بإفنائه سواء كان عقلا أو نفسا أو روحا أو جسما أو جوهرا أو عرضا أو فعلا أو فاعلا.

و نظيره في الدلالة على هذا المعنى: «وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» (2) و كذلك «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (3) و ليس لأحد الامتناع عليه سبحانه في مراده فالمسلمون الصالحون ينقادون للّه طوعا فيما يتعلّق بالدين و ينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من المرض و الفقر و الموت و أشباه ذلك و الكافرون عند موتهم ضرورة.

و قال الحسن: الطوع لأهل السماوات خاصّة و أمّا أهل الأرض فبعضهم بالطوع و بعضهم بالكره.

ص: 229


1- غافر: 85.
2- الرعد: 15.
3- الإسراء: 44.

و قيل: في الآية قول آخر و هو أنّ المراد أنّ انقياد الكلّ إنّما حصلت وقت أخذ الميثاق و هو قوله: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (1).

[و إليه ترجعون أي إلى جزائه مصيركم فبادروا إلى قبول دينه و لا تخالفوا الإسلام و «طَوْعاً وَ كَرْهاً» منصوبان على الحال مصدران تقديره: طائعا و كارها.

[سورة آل عمران (3): آية 84]

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

. خاطبه سبحانه أوّلا بخطاب الواحد ليدلّ على أنّه لا مبلّغ لهذا التكليف من اللّه إلى الخلق إلّا هو و هو المعين للتبليغ ثمّ قال: [آمَنَّا] بلفظ الجمع حتّى يوافقونه أصحابه عليه و تنبيها على أنّ هذا التكليف ليس من خواصّه بل هو واجب لكلّ المؤمنين، أو النون نون العظمة، أمره سبحانه بأن يتكلّم عن نفسه على ديدن الملوك إظهارا منه تعالى لإبانة جلالة قدره صلّى اللّه عليه و آله و رفعة محلّه.

[وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا] و هو القرآن، و النزول كما يعدّى بإلى لانتهائه إلى الرسل يعدّى بعلى لأنّه من فوق [وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ] من الصحف و المراد من «الأسباط» حفدة يعقوب و أبناؤه الاثنا عشر و ذراريهم فإنّهم حفدة إبراهيم.

[وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى من التوراة و الإنجيل و سائر المعجزات الظاهرة على أيديهم و تخصيصهما بالذكر لما أنّ الكلام مع اليهود و النصارى [وَ النَّبِيُّونَ أي و ما اوتي النبيّون من المذكورين و غيرهم [مِنْ رَبِّهِمْ من الصحف و المعجزات.

[لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كدأب اليهود و النصارى آمنوا ببعض و كفروا ببعض بل نؤمن بصحّة كلّ منهم و بحقّيّة ما أنزل إليهم في زمانهم. و اختلف في أنّ النبيّ الّذي نسخ شرعه بنبيّ بعده فهل يكون نبوّته باقية أم لا؟ فمن قائل إنّ نبوّته أيضا منسوخة.

ص: 230


1- الأعراف: 172.

و من قائل إنّ نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوّة [وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي منقادون و مخلصون له تعالى أنفسنا و لا نجعل له شريكا في الربوبيّة.

[سورة آل عمران (3): آية 85]

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)

. و من يطلب غير التوحيد [دِيناً] يدين به كدأب المشركين صريحا و المدّعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين [فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ذلك أبدا بل يردّ [وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ بحرمان الثواب و حصول العقاب و التحسّر الدائم.

[سورة آل عمران (3): آية 86]

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)

. [كَيْفَ أصله الاستفهام و المراد به هنا الإنكار أي لا يهديهم اللّه إلى الحقّ [قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ و الآية تدلّ على أنّ الدين و الإسلام و الإيمان واحد. قيل: هم عشرة رهط ارتدّوا بعد ما آمنوا و لحقوا بمكّة، و المراد أنّه كيف يوفّقهم اللّه لاكتساب الاهتداء؟ و إنّما يوفّق سبحانه على كسب الاهتداء و يقدرهم عليه إذا كانوا متواضعين للحقّ راغبين فيه لا معرضين عنه و لا معاندين له. و قد جرت سنّة اللّه في دار التكليف على أنّ كلّ فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإنّ اللّه لا يمنعه عقيب قصد العبد.

[وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ أي صادق فيما يقول [وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ و الشواهد من القرآن و المعجزات أي بعد أن آمنوا و بعد أن شهدوا حقيقة الأمر. و هو دليل على أنّ الإقرار باللسان فقط خارج عن حقيقة الإيمان ضرورة أنّ المعطوف مغاير للمعطوف عليه.

[وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الّذين ظلموا أنفسهم بوضع الكفر موضع الإيمان، و هذا حال من دام على الكفر و الثابت عليه و أمّا إذا رجعوا و تحرّوا إصابة الحقّ فحينئذ يهديهم اللّه و يجعل الاهتداء فيهم و لا يمنعهم ثواب الفيض الأقدس.

أولئك الموصوفون جزاؤهم ان عليهم لعنة اللّه و هو إبعاده عن الجنّة و إنزال العذاب و الملائكة أي و لعنهم

[سورة آل عمران (3): الآيات 87 الى 88]

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)

ص: 231

أي إنّهم مخلّدون في اللعنة و ثابتون في البعد عن الرحمة و لا يزال يوم القيامة يلعنهم الملائكة و المؤمنون و من معهم في النار من غير تخفيف لهم من العذاب في النار، و لا يؤخّر العذاب من وقت إلى وقت عنهم؛ فإنّ العذاب الملحق بالكفّار دائم غير منقطع.

[سورة آل عمران (3): آية 89]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

. قيل: نزلت في رجل من الأنصار يقال له: الحارث بن سويد بن الصامت، و كان قتل المحدر بن زياد البكريّ غدرا و هرب إلى مكّة و ارتدّ عن الإسلام ثمّ ندم فأرسل رسولا إلى قومه أن يسألوا رسول اللّه هل لي من توبة؟ فسألوا، فنزلت الآيات إلى قوله: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» فحملها إليه رجل من قومه فقال: إنّي أعلم أنّك لصدوق و رسول اللّه أصدق منك و أنّ اللّه أصدق الثلاثة، فرجع إلى المدينة و تاب و حسن إسلامه، عن مجاهد و السدّيّ و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قيل: نزلت الآيات في أهل الكتاب الّذين كانوا يؤمنون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل مبعثه ثمّ. كفروا بعد البعثة حسدا و بغيا، عن الحسن و الجبّائيّ و أبي مسلم.

و الاستثناء متّصل و لا يحمل على المنقطع مع حسن الاتّصال لأنّه الأصل في الكلام و المستثنون [الَّذِينَ تابُوا] و رجعوا عن الكفر إلى الايمان [وَ أَصْلَحُوا] ضمائرهم و عزموا على أن يثبتوا على الإيمان.

قال الطبرسيّ: و هذا المعنى أحسن من قول من قال: المراد من قوله: «و أصلحوا» أي أصلحوا أعمالهم بعد التوبة و صلّوا و صاموا؛ فإنّ ذلك ليس بشرط في صحّة التوبة إذ لو مات قبل فعل الصالحات مات مؤمنا بالإجماع.

أقول: إنّ ما قاله الشيخ الطبرسيّ من أنّ ذلك ليس بشرط في صحّة التوبة صحيح لكن إذا تاب و مات قبل فعل الصالحات بحيث أدركه بعد التوبة الأجل، أمّا إذا تاب و بقي و لم يتدارك صلاته و سائر واجباته الّتي عليه أداؤها فهل هو مغفور و لم يعذّب؟ فيه تأمّل؛ لأنّ شرط قبول التوبة الرجوع عمّا كان عليه و التدارك لما فات منه، نعم مات مؤمنا معناه أنّه ليس بكافر و لا مخلّد لكن إسقاط العذاب عنه غير معلوم.

ص: 232

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّ عطف قوله: «وَ أَصْلَحُوا» على قوله: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» يدلّ على أنّ التوبة وحدها و هي الندم على ما مضى من الارتداد و العزم على تركه في المستقبل لا يكفي حتّى ينضاف إليها العمل الصالح.

يحكى عن السريّ السقطي أنّه قال: عجبت من ضعيف عصى قويّا. فلمّا كان الغداة و صلّيت الغداة إذا أنا بشابّ قد وافى و خلفه ركبان على دوابّ بين يديه غلمان و هو راكب على دابّته فنزل و قال: أيّكم السريّ؟ فأومأ جلسائي إليّ، فسلّم عليّ و جلس و قال:

سمعتك تقول: عجبت لضعيف عصى قويّا، فما أردت به؟ فقلت: ما ضعيف أضعف من ابن آدم و لا قويّ أقوى من اللّه و قد تعرّض ابن آدم مع ضعفه إلى معصية اللّه، قال: فبكى، ثمّ قال:

يا سريّ هل يقبل ربّك غريقا مثلي؟ قلت: و من ينقذ الغريق إلّا اللّه؟ قال الشابّ: إنّ عليّ مظالم كثيرة كيف أصنع؟ قال: إن صححت الانقطاع إلى اللّه ارضي عنك الخصوم بشرط أن تردّ إليهم ما بيدك؛ بلغنا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة و اجتمع الخصوم على وليّ اللّه تقول الملائكة لهم لا تروعوا وليّ اللّه فإنّ الحقّ اليوم على اللّه فيهب اللّه لهم مقامات عالية بدل حقوقهم فيتجاوزون عن الوليّ.

قال فبكى ثمّ قال: صف لي الطريق إلى اللّه، فقلت: إن كنت تريد طريق المقتصدين فعليك بالصيام و القيام و ترك الآثام، و إن كنت تريد طريق الأولياء فاقطع العلائق و اتّصل بخدمة الخالق و عدّ نفسك من أصحاب القبور؛ فإنّ الإنسان لا يصل إلى الحضور الباقي و الحياة الأبديّة إلّا بعد إفناء وجوده في الطاعة و تبديل الأخلاق الذميمة بالحميدة.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كن في الدنيا كانّك غريب أو عابر سبيل و لا تتّخذها وطنا، الحديث.

[سورة آل عمران (3): آية 90]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)

. لمّا ذكر سبحانه ذكر التوبة المقبولة عقبه بذكر مالا يقبل منها.

قيل: نزلت في أهل الكتاب الّذين آمنوا بمحمّد و كتابه قبل مبعثه ثمّ كفروا به و أنكروا نعوته بعد مبعثه. و قيل: نزلت في الّذين آمنوا بموسى عليه السّلام و كفروا بعيسى و الإنجيل [ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً] بكفرهم بمحمّد و القرآن. و قيل: نزلت في أحد عشر من أصحاب

ص: 233

الحارث بن سويد لمّا رجع الحارث قالوا: نقيم بمكّة على الكفر فمتى أردنا الرجعة إلى الإسلام رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فلمّا افتتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكّة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته و نزل فيمن مات على كفره.

و قيل: معنى الآية [لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لأنّه كلّما نزلت آية كفروا بها و ثبتوا على كفرهم و ازدادوا بالإصرار عليه و الطعن فيه و الصدّ عن الإيمان. و قيل: لن تقبل توبتهم عند رؤية البأس و الموت؛ لأنّها يكون في حال الإلجاء و لا يتوبون إلّا عند حضور الموت [وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ عن الحقّ الهالكون المعذّبون.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 91]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)

. لمّا كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية دخلت الفاء إيذانا بسببيّة المبتدء لخبره و الكلام وارد على الفرض، و الذهب كناية من أعزّ الأشياء و كونه مل ء الأرض كناية عن غاية الكثرة و إلّا فهو يوم القيامة لا يملك نقيرا و لا قطميرا، و المراد أنّ من مات على الكفر لو كان يملك مل ء الأرض ذهبا و افتدى به لا تنفعه الفدية عن عذاب اللّه و أنّهم آيسون من تخليص أنفسهم من العقاب.

[أُولئِكَ الموصوفون بهذا الوصف الشنيع [لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم و مالهم من ناصرين في دفع العذاب، و قرأ الأعمش «ذهب» بالرفع أمّا النصب فعلى التميز و معنى التميز في الكلام أن يكون الكلام معلوما في الجملة لكنّه مع معلوميّته مبهم مثل قولك:

عندي عشرون، فالعدد معلوم لكنّ المعدود مبهم فإذا قلت: درهما، فسّرته، و كذلك إذا قلت: هو أحسن الناس، فقد أعلمت و أخبرت عن حسنه و لم تتبيّن في ما ذا، فإذا قلت:

وجها أو فعلا، فقد بيّنته و فسّرته. و إنّما نصب التمييز لأنّه ليس له ما يخفضه و لا ما يرفعه فلمّا خلا من هذين نصب؛ لأنّ النصب أخفّ الإعراب فيجعل منصوبا كأنّه لا عامل فيه.

و أمّا الرفع ردّا على «مل ء» كما يقال: عندي عشرون نفسا رجالا.

[وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ لمّا بيّن أنّه لا خلاص لهم عن العذاب بسبب الفدية بيّن

ص: 234

أنّه لا خلاص لهم عنه بسبب الإعانة و النصرة و الشفاعة. و في الآية إشعار على إثبات الشفاعة؛ و ذلك لأنّه تعالى ختم وعيد الكفّار بعدم النصرة و الشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حقّ غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر. و صيغة الجمع لمراعاة الضمير أي ليس لواحد منهم ناصر واحد. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يقول اللّه لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أنّ لك ما في الأرض من شي ء أ كنت تفدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا و أنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلّا أن تشرك بي.

قال الفخر الرازيّ: إنّ الكافر على ثلاثة أقسام: أحدها الّذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة و هو الّذي ذكره اللّه بقوله: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

و القسم الثاني هو الّذي يتوب عن الكفر توبة فاسدة و هو الّذي ذكره اللّه في قوله:

«ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ».

و ثالثها الّذي يموت على الكفر من غير توبة و هو المذكور بقوله: «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً» و هم الّذين رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمّارة على قلوبهم و تمكّنت و صارت زينا فتمادت في العناد و كان سبب كفرهم محبّة هذه العوائق الفانية و اتّباع الهوى.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى و طول الأمل فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة قال علماء الأخلاق: مفتاح العبادة الفكرة و علامة الإصابة مخالفة النفس و الهوى.

قال جعفر بن نصير: دفع إليّ بعض الزهّاد درهما فقال: اشتر به التين الوزيريّ فاشتريته، فلمّا أفطر أخذ واحدة و وضعها في فيه ثمّ ألقاها من فمه و بكى و قال: لي احمله، فقلت: له في ذلك، فقال: هتف في قلبي: أما تستحيي شهوة تركتها من أجله تعالى ثمّ تعود إليها.

و أعلم أنّ النفس مجبولة على ضدّ الروحانيّة الّتي هي من الملكوت الأعلى و تأمر

ص: 235

بالتمرّد و الاستكبار و لا تقبل الموعظة قال صاحب البردة: (1)

فإنّ أمّارتي بالسوء ما اتّعظت من جهلها بنذير الشيب و الهرم

فهي شبيهة بجهنّم و لها دركات سبع كما أنّ لجهنّم طبقات، و دركات النفس صفاتها السبع: الكبر و الحرص و الشهوة و الحسد و الغضب و البخل و الحقد؛ فمن زكّى نفسه عن هذه الصفات فقد عبر عن هذه الدركات السفليّة الشيطانيّة الجهنّميّة و وصل إلى درجات الجنان العلويّة كمال قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» (2) و من لم يزكّها عن هذه الصفات بقي خائبا خاسرا كما قال: «وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (3).

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 92]

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

. أي لن تبلغوا أيّها المؤمنون و لن تدركوه [حَتَّى تُنْفِقُوا] و اختلف في «البرّ» هنا فقيل: هو الجنّة عن ابن عبّاس و جماعة. و قيل: هو الطاعة و التقوى. و قيل: معناه لن تكونوا صالحين أتقياء و لن تلحقوا بزمرة الأبرار حتّى تنفقوا في سبيل اللّه بعض ما تهوونه و تعجبكم من كرائم أموالكم.

[وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي أيّ شي ء تنفقوا طيّب تحبّونه أو خبيث تكرهونه- و محلّ الجارّ و المجرور النصب على التمييز- فيجازيكم بحسبه جيّدا كان أو رديئا علما كاملا لا يخفى عليه شي ء من ذات ذلك أو صفاته، و العاقل إذا أحبّ شيئا جعله لنفسه ذخيرة ليوم يحتاج إليه. روي أنّها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال يا رسول اللّه: إنّ أحبّ أموالي إليّ بئر حاء- و هو ضيعة له في المدينة مستقبل مسجد رسول اللّه- فضعها يا رسول اللّه حيث أراك اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: بخ بخ ذاك مال رابح أو رايج فإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين؛ فقسّمها في أقاربه.

و قد قيل: من أراد البرّ فلينفق بعض ما يحبّه و من أراد البارّ فلينفق جميع ما يحبّه.

قال نجم الدّين: فبقدر ما تكونون له يكون لكم كما قيل: «من كان للّه كان اللّه له» فإنّ

ص: 236


1- هي قصيدة مدح بها خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله الطيبين و رأى صاحبه في المنام انه صم أهداه بردة فاشتهرت القصيدة بالبردة.
2- الشمس: 9- 10.
3- الشمس: 9- 10.

الفراش ما نال من برّ الشمع و هو شعلته حتّى أنفق ما أحبّه و هو نفسه حتّى قيل: من أحبّ من دون اللّه شيئا فقد حجب به عن اللّه و أشرك شركا خفيّا لتعلّق محبّته بغير اللّه.

حكي أنّ ربيع بن خثيم ضربه الفالج و طال به وجعه فاشتهى لحم دجاج فكفّ نفسه أربعين يوما فأبت فقال: لزوجته قد اشتهيت لحم دجاج منذ أربعين يوم فكففت نفسي رجاء أن تكفّ فأبت؛ فقالت امرأته: سبحان اللّه و أيّ شي ء هذا تكفّ نفسك عنه و قد أحلّه اللّه لك فأرسلت امرأته إلى السوق فاشترت له دجاجة و ذبحتها و شوتها و خبزت خبزا و جعلت لها أصباغا ثمّ جاءت بالخوان فوضعته بين يديه فقام سائل بالباب فقال: تصدّقوا عليّ بارك اللّه لكم، فكفّ عن الأكل و قال لامرأته: خذي هذا و ادفعيه إليه، فقالت له امرأته: سبحان اللّه، قال: افعلي ما آمرك به، قالت: فاصنع ما هو خير له، قال: و ما هو، قالت: تعطيه ثمن هذا و تأكل أنت شهوتك، قال: أحسنت ايتيني بثمنه؛ فجاءت بثمنه، فقال: ضعيه على هذا و ادفعيه جميعا ففعلت، ثمّ قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها».

و بالجملة فلا يحصل القرب و لا يزول البعد إلّا بقطع محبّة غير اللّه و إفناء النفس و الشهوة.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 93]

كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93)

. النزول: لمّا نزل قوله تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ الآية» (1) و قوله: «وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ- إلى قوله- ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ» (2) أنكر اليهود و غاظهم ذلك و برّؤوا ساحتهم من الظلم و قالوا: لسنا بأوّل من حرمت عليه تلك المطعومات و ما هو إلّا تحريم قديم كانت محرّمة على نوح و إبراهيم و من بعده و هلمّ جرّا حتّى انتهى التحريم إلينا، و غرضهم نفي البغي و الظلم و الصدّ عن سبيل اللّه من أنفسهم و ما عدّد اللّه من مساويهم الّتي كلّما ارتكبوا منها كبيرة حرّم عليهم نوع من الطيّبات عقوبة لهم.

ص: 237


1- النساء: 160.
2- الانعام: 146.

فقال سبحانه: [كُلُّ الطَّعامِ و أنواعه [كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ و المراد أكله [إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ أي يعقوب حرّم على نفسه لحوم الإبل و ألبانها.

روي أنّ يعقوب كان نذر إن وهب اللّه له اثني عشر ولدا و أتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم، فتلقّاه ملك من الملائكة فقال له: يا يعقوب إنّك رجل قويّ فهل لك في الصراع؟ فعالجه فلم يصرع واحدا منهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النساء من ذلك، ثمّ قال له الملك: أما أنّي لو شئت أن أصرعك لفعلت و لكن غمزتك هذا الغمزة لأنّك نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولد لك، و جعل اللّه لك لهذه الغمزة مخرجا من ذلك الذبح.

ثمّ إنّ يعقوب لمّا قدم بيت المقدس أراد ذبح ولده و نسي قول الملك أو انسي- على اختلاف بين العامّة و الخاصّة في نسيان الأنبياء أو إنسائهم في امور أو عدمهما- فأتاه الملك فقال: إنّما غمزتك للمخرج و قد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ولدك. ثمّ إنّه حين ابتلا بذلك المرض لقي من ذلك بلاء و شدّة و كان لا ينام الليل من الوجع فحلف و نذر لئن شفاه اللّه لا يأكل أحبّ الطعام إليه فحرّم لحوم الإبل و ألبانها، عن ابن عبّاس و جماعة.

و قيل: حرّم على نفسه لحم الجزور و سأل اللّه أن يجيز له فحرّم اللّه ذلك على ولده.

و قيل: حرّم زائد من الكبد و الكليتين و الشحم إلّا ما حملته الظهور. و قيل: حرّمه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهّاد بعض اللذائد على نفسه و كان ذلك جائزا.

[مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ] متعلّق بقوله: «كانَ حِلًّا» و الاستثناء معترضة في الكلام و المعنى أنّ المطعومات كانت حلّا لهم قبل نزول التوراة ثمّ حرّمت بسبب بغي اليهود و ظلمهم فكذّب اللّه اليهود ادّعاءهم أنّ بعض هذه الأطعمة كانت محرّمة و ما حرّمت بسبب بغينا، و ردّ عليهم في دعواهم البرائة من الظلم و الطعن في دعوى الرسول موافقته لإبراهيم بتحليله صلّى اللّه عليه و آله لحوم الإبل و ألبانها.

[قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أمره سبحانه بأن يحاجّهم بكتابهم الناطق بأنّ تحريم ما حرّم تحريم مرتّب على ظلمهم و بغيهم و يكلّفهم إخراجه و تلاوته

ص: 238

ليبكتهم و يلقمهم الحجر و يظهر كذبهم. روي أنّهم لم يجترئوا على إخراج التوراة فبهتوا و انقلبوا صاغرين.

[سورة آل عمران (3): آية 94]

فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)

. أي من اختلق عليه سبحانه بزعمه أنّه حرّم ما ذكر قبل نزول التوراة على بني إسرائيل و من تقدّمهم من الأمم من بعد ما ذكر من أمرهم بإحضار التوراة فأولئك المصرّون على الافتراء و هم المفرطون في الظلم و العدوان.

[سورة آل عمران (3): آية 95]

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

. [قُلْ لهم يا محمّد ظهر و ثبت صدقه تعالى فيما أنزل في شأن التحريم و أنّ كلّ الطعام كان حلّا لبنى إسرائيل و أنّ محمّدا في مراتب التوحيد كان متّبعا على دين إبراهيم و هو الحقّ [فَاتَّبِعُوا] أنتم أيّها اليهود [مِلَّةَ] الإسلام فإنّه ملّة إبراهيم و أنّكم ما كنتم متّبعين ملّته كما تزعمون [حَنِيفاً] حال من إبراهيم أي مائلا عن الأديان الزائفة المعوجّة [وَ ما كانَ إبراهيم [مِنَ الْمُشْرِكِينَ و فيه تعريض بإشراك اليهود و تصريح بأنّه صلّى اللّه عليه و آله على دين الحقّ و على دين أبيه إبراهيم في الأصول لأنّه صلّى اللّه عليه و آله لا يدعو إلّا إلى التوحيد و البراءة من التشريك و التثليث.

قال نجم الدين في كتاب تأويلات النجميّة: إنّ اللّه تعالى خلق الخلق على ثلاثة أصناف: صنف منها الملك الروحانيّ العلويّ اللطيف النورانيّ و جعل غذاءهم من جنسهم الذكر و خلقهم للعبادة و لا يعصون اللّه طرفة عين أبدا، و صنف منها الحيوان الجسمانيّ السفليّ الكثيف الظلمانيّ و جعل غذاءهم من جنسهم الطعام و خلقهم للعبرة و الخدمة كالبقر و الغنم و أمثالها، و صنف منها الإنسان المركّب من الملكيّ الروحانيّ و الحيوانيّ الجسمانيّ جعل غذاءهم من جنسهم و جعل لروحانيّتهم الذكر و لجسمانيّتهم الطعام و خلقهم للمعرفة و العبادة و الخلافة.

فمنهم ظالم لنفسه و هو الّذي غلبت حيوانيّته على روحانيّته فبالغ في غذاء جسمانيّته و قصّر في غذاء روحانيّته حتّى مات روحه و استولت حيوانيّته أولئك كالأنعام بل هم أضلّ.

و منهم مقتصد و هو الّذي تساوت روحانيّته و حيوانيّته فغذى كلّ واحدة

ص: 239

منهما غذاءها؛ خلطوا عملا صالحا و آخر سيّئا عسى اللّه أن يتوب عليهم.

و منهم سابق بالخيرات و هو الّذي غلبت روحانيّته على حيوانيّته فبالغ في غذاء روحانيّته و هو الذكر و قصّر في غذاء حيوانيّته و هو الطعام حتّى ماتت نفسه و استوت قوى روحه، أولئك هم خير البريّة فكان كلّ الطعام حلالا لهم من الأطعمة المناسبة للإنسان إلّا ما حرّم الإنسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس و حياة القلب و استيلاء الروح من قبل أن نزل عليه الوحي و الإلهام، و إنّما حرّمه على نفسه بسبب ارتقائه إلى درجة الملكيّة و منع نفسه عن اللذّات بسبب نهي النفس عن هواها لا أنّه حرّمه حقيقة على وجه التشريع فهنيئا لهم.

و بالجملة قال سبحانه في حقّ إبراهيم: «وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» لأنّه عليه السّلام ما جعل الشركة في الخلّة مع اللّه و ما اتّخذ خليلا سواه و أحبّ من أحبّه اللّه و أبغض من أبغضه اللّه.

قال الفضل بن عياض: يقول اللّه يوم القيامة: يا ابن آدم أمّا زهدك في الدنيا فإنّما طلبت الراحة لنفسك في الآخرة و أمّا انقطاعك إليّ فإنّما طلبت العزّ لنفسك و لكن هل عاديت لي عدوّا أو وليت لي وليّا. فاسع أي العاقل في طاعتك بالخلوص في محبّة اللّه فإنّه الكبريت الأحمر و اللّه لا يحبّ القلب المشترك بمحبّة غيره من شهوة أو غيرها.

قال محمّد بن حسان: بينما أنا أدور في جبل لبنان إذ خرج عليّ شابّ قد أحرقته السموم و الرياح فلمّا رآني ولّى هاربا فتبعته و قلت: عظني بكلمة أنتفع بها، قال:

احذره تعالى فإنّه غيور لا يحبّ أن يرى في قلب عبد سواه، انتهى.

[سورة آل عمران (3): آية 96]

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96)

. «البيت» ما يبيت فيه أحد ثمّ استعمل في المسكن مطلقا، روي أنّه لمّا حوّلت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: إنّ بيت المقدس أفضل من الكعبة و أحقّ بالاستقبال، لأنّه وضع قبل الكعبة و هو أرض المحشر و مهاجر الأنبياء و قبلتهم و هي الأرض المقدّسة الّتي بارك اللّه فيها للعالمين و فيها الجبل الّذي كلّم اللّه عليه موسى عليه السّلام فتحويل القبلة منه إلى الكعبة باطل فنزلت:

ص: 240

[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للعبادة و جعل متعبّدا لهم و الواضع هو اللّه تعالى [لَلَّذِي بِبَكَّةَ] خبر لإنّ، أي هو البيت الّذي في بكّة و هو علم للبلد الحرام يقال: بكّة إذا زحمه لازدحام الناس فيه أو لأنّها تبكّ أعناق الجبابرة و لم يقصدها جبّار إلّا اضمحلّ و فنى.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أوّل بيت وضع للناس المسجد الحرام ثمّ بيت المقدس و بينهما أربعون سنة. و روي أنّ الملائكة بنوا بيت الحرام قبل خلق آدم بألفي عام فلمّا هبط آدم إلى الأرض قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت فلقد طفنا حوله قبلك بألفي عام، فطاف به آدم و من بعده إلى زمن نوح فلمّا أراد اللّه الطوفان حمل إلى السماء الرابعة و هو البيت المعمور بحيال الكعبة يطوف به ملائكة السماوات.

فعلى هذا فنسبة بناء الكعبة إلى إبراهيم رفع قواعدها و إظهار ما درس منها بعد الطوفان و بقي مختفيا إلى أن بعث اللّه جبرئيل إلى إبراهيم و دلّه على مكان البيت و أمره بعمارته و لمّا كان الآمر بالبناء هو اللّه و المبلّغ و المهندس جبرئيل و الباني هو الخليل و التلميذ و المعين إسماعيل كيف يكون بناء أشرف من الكعبة؟

[مُبارَكاً] أي كثير النفع و الخير لما يحصل لمن حجّه و طاف حوله من الثواب و تكفير الذنوب [وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ لأنّه قبلتهم و متعبّدهم.

[سورة آل عمران (3): آية 97]

فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)

. [فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مثل قصّة الفيل و أصحاب الفيل و بانحراف الطيور عن موازاة البيت و بانمحاق الجمار على كثرة الرماة فلولا أنّه لكان تجتمع هناك من الحجارة مثل الجبال على طول الزمان.

و قرأ ابن عبّاس: فيه آية بيّنة [مَقامُ إِبْراهِيمَ أثر قدميه عليه السّلام في الصخرة الّتي كان يقوم عليها وقت رفع الحجارة لبناء الكعبة عند ارتفاعه أو عند غسل رأسه على ما روي أنّه عليه السّلام جاء زائرا من الشام إلى مكّة فقالت له زوجة إسماعيل: أنزل حتّى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقّه الأيمن فوضع قدمه عليه حتّى غسلت شقّ رأسه ثمّ حوّلته إلى شقّه الأيسر حتّى غسلت شقّ الآخر فبقي أثر قدميه عليه و «مقام»

ص: 241

بدل من «آيات» بدل البعض من الكلّ.

[وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً] أي و من دخل الحرم كان مأمونا؛ قال ابن عبّاس: إنّ الحرم كلّه مقام إبراهيم. قيل: إنّ الكلام خبر و المراد به الأمر يعني أمّنوه حتّى أنّ من وجب عليه الحدّ فلاذ بالحرم لا يبايع و لا يشارى و لا يعامل حتّى يخرج من الحرم فيقام عليه الحدّ، و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام إلّا أن يكون الفعل الموجب للحدّ واقع في الحرم فحينئذ يقام عليه الحدّ. و قيل: المعنى من دخله عارفا بجميع ما أوجبه اللّه عليه كان آمنا في الآخرة من العذاب و ذلك بدعوة إبراهيم «قال رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً».

و قيل: «بكّة» المسجد و «مكّة» الحرم كلّه يدخل فيه البيوت و هو المرويّ عن أبي جعفر. و قيل: «بكّة» بطن مكّة و «مكّة» اسم البلد. و قيل: «بكّة» هي مكّة و اشتقاقها اشتقاق بكّة و إبدال الميم من الباء واقع في كلام العرب كقولهم: ضربة لازب في لازم، و مسجد رأسه و سيّده، و الحطيم قال الصادق عليه السّلام: هو ما بين الحجر الأسود و الباب و هو الموضع الّذي فيه تاب اللّه على آدم. و سمّي الحطيم حطيما لأنّ الناس يحطم بعضهم بعضا أو أنّ الذنوب تنحطم فيه، و قال عليه السّلام: إنّ تهيّأ لك أن تصلّي صلاتك كلّها الفرائض و غيرها عند الحطيم فافعل فإنّه أفضل بقعة على وجه الأرض و بعده الصلاة في الحجر أفضل.

ورد عن أبي حمزة الثماليّ عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: أفضل البقاع ما بين الركن و المقام و لو أنّ رجلا عمر ما عمر نوح في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يصوم النهار و يقوم الليل في ذلك المقام ثمّ لقى اللّه تعالى بغير ولايتنا لا ينفعه ذلك شيئا. و قال الصادق عليه السّلام:

الركن اليمانيّ بابنا الّذي ندخل منه الجنّة.

قال صاحب روح البيان: في الحديث: من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا.

و قال الحقّيّ: و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الحجون و البقيع يؤخذ بأطرافهما و ينشران في الجنّة و هما مقبرتا مكّة و المدينة. و عن ابن مسعود: وقف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على تثنية الحجون و ليس بها مقبرة فقال: يبعث اللّه من هذه البقعة و من هذا الحرم سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنّة بغير حساب يشفع كلّ واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر. و عنه صلّى اللّه عليه و آله: من صبر على حرّ مكّة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنّم.

ص: 242

مسيرة مائتي عام، انتهى ما نقله الحقّيّ في تفسيره.

أقول: هذا إذا كان مع الولاية و بدونها لا ينفع الجوار كما نطق به الحديث السابق ذكره.

قوله تعالى: [وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا] لمّا بيّن اللّه فضيلة البيت عقّبه بذكر وجوب حجّة الإسلام أي و واجب على من استطاع و تمكّن و قدر إلى حجّ البيت و زيارته على الوجه المخصوص فوجد إليه طريقا بنفسه و ماله فليحجّ و ليتوجّه إليه. و اختلف في الاستطاعة فقيل: هي الزاد و الراحلة، عن ابن عبّاس. و قيل: ما يمكنه معه بلوغ مكّة بأيّ وجه يمكن وصول نفسه إليه. و المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام: وجود الزاد و الراحلة و نفقة من يجب نفقته و الرجوع إمّا من مال أو ضياع أو حرفة مع الصحّة في البدن و إمكان السير.

قال الحقّيّ: و الاستطاعة الّتي هي شرط لوجوب الفعل هي الاستطاعة بهذا المعنى لا الاستطاعة الّتي هي شرط حصول الفعل فهي لا يكون إلّا مع الفعل لأنّها علّة وجود الفعل فلا يكون إلّا معه و لا تتحقّق إلّا بتحقّق الفعل؛ فالاستطاعة الاولى شرط الوجوب و الثانية شرط حصول الفعل. و «الحجّ» بالفتح لغة أهل الحجاز و الكسر لغة نجد و أيّاما كان فهو القصد للزيارة بإتيان الأعمال المخصوصة و هو حقّ واجب في ذمم الناس و لا انفكاك لهم عن أدائه.

[وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وضع سبحانه من كفر موضع من لم يحجّ تأكيدا لوجوبه و تشديدا لتاركه أي من لم يحجّ مع الاستطاعة و لم يره واجبا فقد كفر فإنّ اللّه غنيّ عن عبادتهم و لم يتعبّدهم لحاجة إليها، و قيل: معنى الآية كفران النعمة لأنّ امتثال أمر اللّه شكر لنعمته و تركه كفران.

و قد روي عن أبي امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من لم يحبسه حاجة ظاهرة من مرض حابس أو سلطان جائر و لم يحجّ فليمت إن شاء يهوديّا و إن شاء نصرانيّا. قال الصادق عليه السّلام عن رسول اللّه: الحجّ و العمرة ينفيان الفقر و الذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد.

و في الآية دلالة على فساد قول من قال: إنّ الاستطاعة مع الفعل لأنّ اللّه أوجب

ص: 243

الحجّ على المستطيع و لم يوجب على غير المستطيع و ذلك لا يمكن إلّا قبل فعل الحجّ.

و أمّا نظم الآية بما قبلها أنّ اللّه أمر أهل الكتاب باتّباع ملّة إبراهيم و من ملّته تعظيم البيت و زيارته.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 98 الى 99]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

عاد الكلام إلى محاجّة أهل الكتاب أو اليهود خاصّة يأمره صلّى اللّه عليه و آله بخطابهم: [قُلْ يا محمّد لهم: [لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الّتي آتاها محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و العلامات الّتي وافقت صفته صلّى اللّه عليه و آله و تقدّمت البشارة به، و اللفظ لفظ الاستفهام و المراد به التوبيخ من حيث إنّه سؤال يعجزه عن إقامة العذر فكأنّه قال: هاتوا العذر في ذلك إن أمكنكم [وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ حفيظ على أعمالكم ليجازيكم عليها.

[قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ لم تصرفون عن دينه الحقّ و هو ملّة الإسلام «من آمن» مفعول «تصدّون» كانوا يمنعون من أراد الدخول في الإسلام بجهدهم و يقولون: إنّ صفته صلّى اللّه عليه و آله ليست كذلك في كتابنا. و قيل: إنّ كيفيّة صدّهم كانوا يغرون بين الأوس و الخزرج بتذكيرهم الحروب الّتي كانت بينهم في الجاهليّة حتّى تدخلهم الحميّة و العصبيّة فينسلخوا عن التوافق في الإسلام و نصرة النبيّ. و على هذا يكون المراد من «أهل الكتاب» في هذه الآية اليهود خاصّة.

[تَبْغُونَها عِوَجاً] و «الضمير» للسبيل و هو يذكّر و يؤنّث أي تطلبون سبيل اللّه مائلا عن الاستقامة بأن تلبسوا عليهم لقولكم: إنّ شريعة موسى لا تنسخ. و «العوج» بفتح العين و كسرها الانحراف لكنّ المكسور يختصّ بالمعاني و المفتوح بالأعيان تقول: في كلامه عوج بالكسر و في الجدار و الشجر عوج بالفتح [وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ] أي و الحال أنّكم تشهدون في لبابكم بأنّها سبيل اللّه.

[وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الصدّ و كتمان الشهادة لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لمّا وبّخ اللّه أهل الكتاب بصدّ المؤمنين نهى المؤمنين عن اتّباع الصادّين فقال:

ص: 244

[سورة آل عمران (3): آية 100]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100)

. نزلت في شاس بن قيس اليهوديّ رأى منتدى محتويا على زحام من أوس و خزرج فغاظه ألفتهم فأرسل شابّا ينشدهم أشعار يوم بغاث و كان ذلك يوما عظيما اقتتل فيه الحيّان و كان الظفر فيه للأوس فنعّر عرق الداء الدفين فتشاجروا فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فخرج يصلح ذات بينهم.

[سورة آل عمران (3): آية 101]

وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

. إنكار و تعجيب من كفرهم أي من أين يتطرّق إليكم الكفر و الحال أنّ القرآن المعجز [تُتْلى عَلَيْكُمْ على لسان الرسول غضّا معجبا مستجمعا لجميع صفات الكمال من حيث اللفظ و المعنى و بين أظهركم [وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ تعالى يعظكم و يبيّن لكم مالا تعلمون منه و يزيح شبهكم. و يجوز أن يكون المراد بقوله: «وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ» القوم الّذين كانوا في زمنه صلّى اللّه عليه و آله خاصّة، و يجوز أن يكون المراد الأمّة إلى يوم القيامة؛ لأنّ آثاره و علاماته من القرآن فينا قائمة باقية و ذلك بمنزلة وجوده فينا.

[وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ و بدينه و بكتابه [فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و طريق واضح فإنّه صلّى اللّه عليه و آله لو مضى فآثار معجزاته و وجوده باقية و قد شاهد أهل عصره و تناقلتها الرواة بحيث كادت تبلغ إلى حدّ التواتر:

منها: أنّه صلّى اللّه عليه و آله يرى من خلفه كما يرى من قدّامه.

و منها: أنّه كان تنام عينه و لا ينام قلبه.

و منها: أنّه لم يكن له ظل.

و منها: أنّ الذباب لم يقع عليه.

و منها: أنّه كان يسطع نور من جبهته في الليل المظلمة.

و منها: أنّه ولد مختونا إلى غير ذلك من المعجزات و الشواهد على صدق نبوّته؛ فالاعتصام بكتابه و برسوله هو الهداية إلى الصراط المستقيم و لا يحصل الاعتصام إلّا باتّباع سنّته

ص: 245

صلى اللّه عليه و آله و الخشية من اللّه من مخالفته و شاهد الخشية موافقة الأمر «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (1).

و العالم متى ما كان رغبته في الدنيا و تملّق لأربابها و صرف الهمّة لاكتسابها و أحبّ الادّخار و الاستكثار و طال أمله و نسي الآخرة فعلمه وبال عليه و ما أبعد من العلم عمله، و كيف يكون مثله من ورثة الأنبياء؟ بل هو خليفة الشيطان. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلّا اسمه و لا من القرآن إلّا رسمه، قلوبهم خربة من الهدى و مساجدهم عامرة بأبدانهم، شرّ من تظلّ السماء يومئذ علماؤهم، منهم تخرج الفتنة و إليهم تعود، انتهى.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 102]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)

. الاتّقاء افتعال من الوقاية و هي فرط الصيانة [حَقَّ تُقاتِهِ أي حقّ تقواه و ما يجب منها من استفراغ الوسع في القيام بالواجبات و الاجتناب عن المحارم، يريد بالغوا في التقوى حتّى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا [وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون نفوسكم للّه لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلا. استثناء مفرّع من أعمّ الأحوال و المراد دوامهم على الإسلام.

[سورة آل عمران (3): آية 103]

وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

. النزول: قال مقاتل: افتخر رجلان من الأوس و الخزرج: ثعلبة بن غنم من الأوس و أسعد بن زرارة من الخزرج فقال الأوسيّ: منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و منّا حنظلة غسيل الملائكة و منّا عاصم بن ثابت حميّ الدين و منّا سعد بن معاذ الّذي اهتزّ العرش له بموته و رضي اللّه بحكمه في بني قريظة. و قال الخزرجيّ: منّا أربعة أحكموا القرآن ابيّ ابن كعب و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد و منّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار

ص: 246


1- فاطر: 28.

و رئيسهم. فطال الحديث بينهما فغضبا و تفاخرا و ناديا فجاء الأوسيّ إلى الأوس و الخزرجيّ إلى الخزرج و معهم السلاح، فبلغ ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فركب حماره و أتاهم فأنزل اللّه الآية فقرأها فاصطلحوا.

[وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ و تمسّكوا به و امتنعوا عن غيره؛ قيل: المراد من «حبل اللّه» القرآن. و قيل: إنّه دين الإسلام. و قيل: على ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: نحن حبل اللّه الّذي قال سبحانه في الآية. قال الطبرسيّ: و الأولى حمله على الجميع.

و الّذي يؤيّده ما رواه أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: أيّها الناس إنّي تركت فيكم حبلين إذا أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي: أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي ألا و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.

[وَ لا تَفَرَّقُوا] بحذف التاء الثانية لأنّ الاولى علامة و العلامة لا تخذف أي لا تتفرّقوا عن دين اللّه الّذي أمركم جميعا بلزومه و اثبتوا عليه.

[وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ أراد ما كان بين الأوس و الخزرج من الحروب الّتي تطاولت مائة و عشرين سنة حتّى ألّف اللّه بينهم بالإسلام فزالت تلك الأحقاد. و قيل: هو ما كان بين مشركي العرب من الأيّام و الطوائل فرفع اللّه ما كان بينهم من التنازع و الاختلاف [فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ اللّه [إِخْواناً] متواصلين و أحبابا متحابّين بعد أن كنتم متحاربين بحيث يقصد كلّ واحد منكم إخاء الآخر لأنّ أصل الأخ معناه القصد من توخّيت الشي ء إذا قصدته و طلبته.

[وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ] أي كنتم على طرف حفرة من جهنّم مشرفين على الوقوع فيها لكفركم لو أدرككم الموت على حالة الكفر [فَأَنْقَذَكُمْ و خلّصكم بأن هداكم إلى الإسلام [مِنْها] أي من تلك الحفرة.

[كَذلِكَ إشارة إلى مصدر الفعل الّذي بعده أي مثل ذلك التبيين الواضح [يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ دلائله [لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ طلبا لثباتكم على الهدى فالعبد من شأنه أن يتّقي محارم اللّه و يحذر مخالفته فإذا غلبت عليه نفسه أحيانا فليرجع بساعته إلى ساحة

ص: 247

كرمه و عفوه و يقول: يا ربّ تبت إليك فاستر عليّ، فإذا ستر عليه يقول: يا ربّ وفّقني لأتدارك و أعمل حتّى أخلص، فإذا تدارك و أخلص يقول: يا ربّ تقبّل منّي. و ليكن خائفا طول عمره من زلّته الّتي أوقعها خوفا من عدم قبول توبته فإذا تمرّن بهذه العادة ينبغي أن يقال له: إنّه مهتد.

[سورة آل عمران (3): آية 104]

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)

. أي لتوجد منكم جماعة داعية إلى ما فيه صلاح دينيّ [يَأْمُرُونَ بالطاعة [وَ يَنْهَوْنَ عن المعصية، و كلّ ما أمر اللّه و رسوله فهو معروف، و ما نهى اللّه و رسوله فهو منكر. و قيل: المعروف ما يعرف حسنه عقلا و شرعا، و المنكر ما ينكره العقل و الشرع. و في الآية دلالة على وجوبهما لأنّه سبحانه علّق الفلاح بهما بقوله: [وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون، و كلمة «هم» ضمير فصل يفيد اختصاص المسند بالمسند إليه أي هم الأخصّاء بكمال الفلاح.

و أكثر المتكلّمين على أنّهما من فروض الكفايات، و منهم من قال: إنّهما من فروض الأعيان، منهم الشيخ أبو جعفر الطوسيّ. قال الطبرسيّ: و الصحيح أنّ ذلك إنّما يجب بالسمع و ليس في العقل ما يدلّ على وجوبه إلّا إذا كان على سبيل دفع الضرر. و قال الجبّائيّ يجب عقلا و السمع يؤكّده؛ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من أمر بالمعروف و نهى عن المنكر فهو خليفة اللّه في أرضه و خليفة رسول اللّه و خليفة كتابه، عن الحسن.

و عن درّة بن أبي لهب قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو على المنبر فقال: يا رسول اللّه من خير الناس؟ قال: آمرهم بالمعروف و أنها هم عن المنكر و أتقاهم للّه و أرضاهم. و قال أبو الدرداء: لتأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر أو ليسلّطنّ اللّه عليكم سلطانا ظالما لا يجلّ كبيركم و لا يرحم صغيركم و يدعو خياركم فلا يستجاب لهم و تستنصرون فلا تنصرون. و قال حذيفة: يأتي زمان على الناس لأن يكون فيهم جيفة الحمار أحبّ إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر.

ثمّ أمرهم سبحانه بالاتّفاق على الإسلام و ترك التفرّق فقال:

ص: 248

[سورة آل عمران (3): آية 105]

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)

. و لمّا أمر اللّه هذه الأمّة بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ذلك لا يتمّ إلّا إذا كان الأمر و الناهي قادرا و لا تحصل هذه القدرة إلّا إذا حصل الاتّفاق و الاجتماع في الدين فحذّرهم اللّه في هذه الآية الاختلاف لكيلا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف.

و هذان الأمران و هما الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قد يكون من أهمّ الواجبات لأنّ الدين يقوم بهما؛ قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ النّاس إذا رأوا منكرا فلم يغيّروه يوشك أن يعمّهم اللّه بعذابه، انتهى.

[وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا] و اختلفوا في الديانة. و قيل: المراد هم اليهود و النصارى حيث تفرّقت اليهود فرقا و النصارى فرقا و اختلفوا [مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ و الآيات المبيّنة للحقّ الموجبة للاتّفاق و هم اختلفوا باستخراج التأليفات الزائفة و كتم نعوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تحريفها بسبب حطام الدنيا و صار كلّ واحد من أحبارهم رئيسا في بلدهم و كلّ واحد منهم يدّعي أنّه على الحقّ و أنّ صاحبه على الباطل.

[وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة بسبب التفرّق.

[سورة آل عمران (3): الآيات 106 الى 107]

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)

أي اذكروا [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ كثيرة [وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ كثيرة أي من استبشر و نال بمطلوبه فابيضّ وجهه و من وصل إليه مكروه فتبدّلت صورته و اغبرّ لونه، فإنّ الإنسان يرد في القيامة على ما قدّمت يداه، و بياض الوجه و سواده حقيقتان حاصلتان فيوسم أهل الحقّ ببياض و إشراق و سعي النور بين أيديهم و أهل الباطل بأضداد ذلك.

[فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فيقال لهم [أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ و اختلف فيمن يقال له هذا الكلام قيل: إنّهم الّذين كفروا بعد إظهار الإيمان بالنفاق. و قيل: إنّهم جميع الكفّار لإعراضهم عمّا وجب عليهم الإقرار به من التوحيد حين أشهدهم على أنفسهم «أَ لَسْتُ

ص: 249

بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (1) فيقال لهم: «أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» يوم الميثاق.

و قيل: إنّهم أهل الكتاب كفروا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد إيمانهم به و بنعته قبل مبعثه، عن عكرمة و الجبّائيّ و الزجّاج. و قيل: أهل البدع و الأهواء من هذه الأمّة عن عليّ عليه السّلام و قتادة و يروى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: و الّذي نفسي بيده ليردنّ عليّ الحوض ممّن صحبني أقوام إذا رأيتهم اختلجوا دوني فأقول: إنّهم أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعد إيمانهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى، ذكره الثعلبيّ في تفسيره. و قال أبو امامة الباهليّ: هم الخوارج.

و الاستفهام في قوله: «أَ كَفَرْتُمْ» للتقريع أو التقرير أي قد كفرتم [فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم بمحمّد و بالقرآن.

[وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ و هم المؤمنون بالقرآن و بمحمّد [فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ و ثوابه و جنّته [هُمْ فِيها خالِدُونَ مؤبّدون، و إعادة كلمة الظرف تأكيدا لتمكّن المعنى في النفس أو لأنّ في قوله: «فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ» دلالة على إدخالهم و ظرف الثاني على خلودهم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 108 الى 109]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

[تِلْكَ إشارة إلى الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار و تعذيب الكفّار و هو مبتدأ [آياتُ اللَّهِ خبره [نَتْلُوها] جملة حاليّة من الآيات [عَلَيْكَ نقرؤها عليك يا محمّد بواسطة جبرئيل و الآيات ملتبسة [بِالْحَقِ و العدل بموجب الوعد و الوعيد [وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً] أي شيئا من الظلم [لِلْعالَمِينَ لأحد من خلقه بأن يحملهم من العقاب ما لم يستحقّوه و ينقصهم من الثواب ما استحقّوه و إنّما يظلم لجهلة بقبح الظلم أو لحاجة من دفع ضرر أو جرّ نفع، و تعالى اللّه عن مثل هذه الأمور.

[وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و خلقا فكيف يجوز أن يظلمهم؟ [وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] و معنى رجوع الأمر إليه بأن يذهب العالم بالفناء ثمّ يعيدها للجزاء.

ص: 250


1- الأعراف: 172.

و قيل: معناه أنّ اللّه قد ملّك عباده في الدنيا أمورا و جعل لهم تصرّفا و اختيارا و يزول ذلك في الآخرة و يرجع إليه كلّه كما قال: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» و اعلم أنّه يموت المرأ على ما عاش فيه و يحشر على ما مات عليه.

قال رسول اللّه: يبعث كلّ عبد على ما مات عليه. و قال: من مات و هو سكران فإنّه يعاين ملك الموت سكرانا و يعاين منكرا و نكيرا سكرانا و يبعث يوم القيامة سكرانا إلى خندق جهنّم يسمّى السكران، فيه عين يجري ماؤها دما لا يكون له طعام و لا شراب إلّا منه كما أنّ أكلة الربا يقومون من قبورهم و يسقطون لعظم بطونهم و هم كالمجانين من مسّ الشيطان.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 110]

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)

. أي أنتم [خَيْرَ أُمَّةٍ] و إنّما قال: «كنتم» لتقدّم البشارة لهم في الكتب الماضية و يعضد هذا البيان ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: أنتم وفيتم سبعين امّة أنتم خيرها و أكرمها على اللّه. أو المراد كنتم عند اللّه في اللوح المحفوظ خير امّة، عن الفرّاء و الزجّاج. و قيل: «كان» في الآية تامّة و المعنى: وجدتم و خلقتم و «خير امّة» نصب على الحال. و قيل: «كان» بمعنى «صار» و معناه صرتم خير امّة لكونكم تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و إيمانكم باللّه. فيصير هذه الخصال على هذا المعنى الأخير شرطا في كونهم خيرا. و قد روي عن بعض الصحابة أنّه قال: من أراد أن يكون خيرها فليؤدّ شرط اللّه فيه من الإيمان باللّه و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب للحكم مشعر بالعلّيّة.

قال الطبرسيّ: و اختلف في المعنيّ بالخطاب؛ قيل: هم المهاجرون خاصّة. و قيل: نزلت في ابن مسعود و ابيّ بن كعب و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة. و قيل: الخطاب لأصحاب النبيّ الصادقين و لكنّه يعمّ السائرين ممّن يحذو حذوهم.

[وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ كإيمانكم [لَكانَ ذلك [خَيْراً لَهُمْ ممّا هم عليه من الرياسة و استتباع العوامّ [مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كأنّه قيل: هل منهم من آمن أو كلّهم على الكفر؟ فقيل:

منهم المؤمنون المعهودون كعبد اللّه بن سلام و أصحابه [وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون

ص: 251

عن الطاعة و الحدود.

[سورة آل عمران (3): آية 111]

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)

. في الآية تثبيت لمن آمن من أهل الكتاب مثل عبد اللّه و أصحابه، و ذلك أنّ رؤساء اليهود مثل أبي رافع و كعب و أبي ياسر و كنانة و ابن صوريا كانوا يهدّدونهم و يؤذونهم بالسبّ و الطعن فأثبتهم اللّه بقوله: [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً استثناء مفرّغ من المصدر العامّ.

و معنى الآية أنّهم لن يضرّوكم ضررا صعبا إلّا ضرر أذى لا يبالى به من طعن و تهديد لا أثر له [وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ و يخرجوا إلى قتالكم يجعلوا ظهورهم ما يليكم منهزمين من غير أن ينالوا منكم شيئا من قتل أو أسر [ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ عطف على الشرطيّة أي لا ينصرون من جهة أحد كما كان الأمر في حال بني قريظة و النضير و يهود خيبر.

[سورة آل عمران (3): آية 112]

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (112)

. أي في أيّ مكان و أيّ زمان وجدوا في دار الإسلام الزموا الذلّ و أنزلت بهم و جعلت محيطة بهم، استعارة من قولهم: ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إيّاه. و كان اليهود لا يكونون في موضع إلّا بالجزية و لقد أدركهم الإسلام و هم يؤدّون الجزية إلى المجوس [أَيْنَما ثُقِفُوا] و وجدوا [إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ استثناء من أعمّ الأحوال أي ضربت عليهم الذلّة ضرب القبّة على من هي عليه في جميع الأحوال إلّا حال كونهم معتصمين بذمّة اللّه و ذمّة المسلمين و استعير لفظ «الحبل» للعهد لأنّه سبب الفوز و النجاة.

و المراد من «العهد» وجوه الأمان، و الأمان الحاصل للذمّيّ قسمان: أحدهما الّذي نصّ اللّه عليه و هو الأمان الحاصل له بإعطاء الجزية عن يد، أو الأمان الّذي فوّض إلى رأى الإمام. و لعلّ الأوّل هو المسمّى بحبل اللّه، و الثاني هو المسمّى بحبل من الناس و أنّهما متغابران بالاعتبار.

ص: 252

[وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي رجعوا بغضب و عقاب و لعن من اللّه أو المعنى استوجبوا الغضب منه تعالى [وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ] و زيّ الافتقار، و اليهود في الغالب إن لم يكونوا فقراء حقيقة فإنّهم يظهرون في أنفسهم الفقر.

[ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي ذلك الّذي ذكر من الذلّة و البوء بالغضب كائن بسبب كفرهم بآيات اللّه الناطقة بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و تحريفهم لها و لسائر الآيات و بسبب [قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ * أي في اعتقادهم أيضا و هؤلاء المتأخّرون و إن لم يصدر منهم قتل الأنبياء لكنّهم راضون بفعل أسلافهم و مصوّبين لهم في تلك الأفعال القبيحة فلذلك أسند القتل إليهم.

[ذلِكَ إشارة إلى الكفر و القتل [بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ كان بسبب اعتدائهم حدود اللّه على الاستمرار فقوله: «ذلِكَ بِما عَصَوْا» إشارة إلى علّة العلل قال بعض أهل التحقيق: من ابتلى بترك الأدب وقع في ترك السنن و من ابتلى بترك السنن وقع في ترك الفريضة، و من ابتلى بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة و من ابتلى بذلك وقع في الكفر. فعلى المؤمن أن لا يفتح على نفسه باب المعصية بل يترك بعض ما أبيح له خوفا ممّا يؤدّي إلى بعض ما لا يجوز له قال صلّى اللّه عليه و آله: لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى بدع بعض ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس.

و قيل: الحياء على رؤوس المتّقين كالتيجان على رؤوس الملوك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم لأصحابه: استحيوا من اللّه حقّ الحياء، و قالوا: إنّا نستحيي يا رسول اللّه و الحمد للّه، قال: ليس ذلك الحياء و لكن من استحيا من اللّه حقّ الحياء فليحفظ الرأس و ما حوى و ليحفظ البطن و ما وعى و ليذكر الموت و البلى و من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من اللّه حقّ الحياء.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 113 الى 114]

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)

ص: 253

نزلت في أربعين من أهل نجران و اثنين و ثلاثين من أهل الحبشة و ثمانية من الروم صدّقوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: نزلت هذه الآية لمّا أسلم عبد اللّه بن سلام و من تبعه فقالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله إلّا شرارنا فأنزل اللّه هذه الآية.

أي ليس الّذين آمنوا من أهل الكتاب امّة قائمة كعبد اللّه و أصحابه و الّذين لم يؤمنوا سواء في الدرجة [أُمَّةٌ قائِمَةٌ] و تمام البيان يقتضي أن يقال: و منهم امّة مذمومة غير قائمة إلّا أنّه أضمر بناء على أنّ ذكر أحد الضدّين يغني عن الآخر و قوله: «لَيْسُوا سَواءً» قيل: إنّه على لغة «أكلوني البراغيث» و مثله قوله: «ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ» (1) قال الزجّاج و الرمّانيّ: و ليس الأمر كذلك لأنّ هذه اللغة رديئة في القياس و الاستعمال بل إنّ ذكر أهل الكتاب قد جرى فأخبر اللّه أنّهم غير متساوين، و رفع «امّة» إمّا على تقدير الفعل و تقديره لا يستوي امّة هادية و امّة ضالّة أو على الابتداء.

و المعنى ليس سواء امّة قائمة بأمر اللّه و طاعته [يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ و يقرءون كتاب اللّه و هو القرآن [آناءَ اللَّيْلِ أي ساعاته «و الآناء» مفردة أنا زنة. «عصا» و قال: واويّة مفردة «انو» قيل: المراد من التلاوة الصلاة جوف الليل. و قيل: الصلاة بين المغرب و العشاء و هي الساعة الّتي تسمّى ساعة الغفلة [وَ هُمْ يَسْجُدُونَ الجملة حاليّة من فاعل «يتلون» أي يصلّون إذ لا تلاوة في السجود. و تخصيص السجود بالذكر لكونه أدلّ على كمال الخضوع.

[يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يؤمنون على الوجه الّذي نطق به الشرع، و في الآية تعريض بأنّ إيمان اليهود به مع قوله: «عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ» و كفرهم بمحمّد بخلاف الإيمان «وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ» تعريض بأنّهم يأمرون بصدّ الناس عن سبيل اللّه فإنّه نهي عن المعروف و أمر بالمنكر و كذا كانوا يفعلون.

[وَ يُسارِعُونَ و يبادرون إلى الطاعات خوف الفوات بالموت غير متثاقلين منها لعلمهم بحسن عاقبتها بخلافهم فإنّ تلك الأمّة المذمومة منهم يتباطئون في الخيرات و يتبادرون

ص: 254


1- المائدة: 71.

إلى الشرّ [وَ أُولئِكَ المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة [مِنَ الصَّالِحِينَ من جملة من صلحت أحوالهم.

[سورة آل عمران (3): آية 115]

وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

. و قرئ «تفعلوا» بالخطاب وجه القراءة «بالياء» كناية عمّن تقدّم ذكره من أهل الكتاب ليكون الكلام على طريقة واحدة و وجه «الخطاب» أنّه خلطهم بغيرهم من المكلّفين و يكون خطابا للجميع في أنّ حكمهم واحد. «و ما تفعلوا» مجزوم بالشرط أي و ما تفعلوا من خير كائنا ما كان فلن يضيّع و لا ينقص ثوابه، و سمّي النقص و منع الثواب «كفرانا» مع أنّه لا يضاف الكفران إلى اللّه إذ ليس لأحد عليه تعالى نعمة حتّى يكفرها نظرا إلى أنّه تعالى سمّى إيصال الجزاء و الثواب «شكرا» حيث قال: «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» (1) فلمّا جعل الشكران مجازا عن توفية الثواب جعل الكفران مجازا عن منعه. و تعديته إلى مفعولين قاما مقام الفاعل.

[وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ فيجاز بهم و إنّما خصّ «المتّقين» بالذكر و إن كان عليما بالكلّ لأنّ الكلام اقتضى ذكر جزاء المتّقين.

[سورة آل عمران (3): آية 116]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)

. [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] بما يجب أن يؤمن به لن تدفع عنهم [أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ من عذاب اللّه [شَيْئاً] من الإغناء ردّ للكفّار حيث قالوا: «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» (2) و كانوا يعيّرون رسول اللّه و أصحابه بالفقر و يقولون: لو كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله على الحقّ ما تركه ربّه في الفقر و الشدّة. و لمّا كان الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال و تارة بالانتصار من أهله و ولده فذكرهما [وَ أُولئِكَ مصاحبو النار على الدوام و مؤبّدون فيها.

ص: 255


1- البقرة: 158.
2- سباء: 35.

[سورة آل عمران (3): آية 117]

مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

بيان لكيفيّة عدم إغناء إنفاق الكفرة أموالهم قربة أو رياء أو مفاخرة أو خوفا كالمنافقين بأيّ قسم كان.

و المراد تشبيه ما أنفقوا في عدم نفعه بحرث أصابته ريح شديدة البرد مهلكة للزرع أي كما أنّ الزرع تهلكه تلك الريح الباردة كذلك الكفر يذهب فائدة الإنفاق «و الصرّ» البرد الشديد و إنّه في الأصل مصدر لكن شاع إطلاقه على الريح الباردة كالصرصر [فَأَهْلَكَتْهُ عقوبة لهم و لا تدع منه أثرا لأنّ الكفر مانع من الانتفاع حيث لا يقبل اللّه منهم أبدا فلا يبقى لهم في الآخرة إلّا الحزن و الأسف و هذا هو التشبيه المركّب الحاصل من الجملتين.

[وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ في ضياع ما أنفقوا من الأموال [وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لما أنّهم أضاعوها فيما لا ينبغي كما أنفق أبو سفيان في عداوة النبيّ، أو أضاعوها و أنفقوها لا على أمر ينبغي لأنّ إنفاقهم منتزع عن القربة لأنّ القربة لا يحصل مع الكفر و تقديم المفعول لرعاية الفواصل.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه و عن جسده فيم أبلاه و عن علمه ما عمل فيه و عن ماله من أين اكتسبه و فيم أنفقه. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عائشة إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب و إيّاك و مجالسة الأغنياء و لا تستخلقي ثوبا حتّى ترقعيه. و قال صلّى اللّه عليه و آله اللهمّ من أحبّني فارزقه العفاف و الكفاف و من أبغضني فأكثر ماله و ولده ثمّ قرأ صلّى اللّه عليه و آله: «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ» (1)

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 118]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)

. لمّا شرح سبحانه أحوال المؤمنين و الكافرين حذّر المؤمنين في هذه الآية عن مخالطة

ص: 256


1- التكاثر: 1.

الكافرين؛ و ذلك لأنّ المسلمين كانوا يشاورون اليهود في أمورهم و يؤانسونهم لما كان بينهم اختلاط و رضاع و حلف ظنّا منهم أنّهم و إن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في المعاش فنهاهم اللّه.

و قيل: المراد المنافقون و ذلك لأنّ المؤمنين يظنّون من أقوال المنافقين أنّهم صادقون في أقوالهم، و يدلّ على هذا المعنى ما بعد هذه الآية و هو قوله: «وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» و هذه صفة المنافقين.

و قيل: المراد به أصناف الكفّار جميعا و الدليل عليه قوله: [بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ و قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» (1) أي لا تصاحبوا من دون المسلمين صاحبا، و بطانة الرجل صاحب وليجته و من يعرف أسراره ثقة به، شبّه سبحانه ببطانته الّتي يلي بطنه.

[لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا] يقال: ألا في الأمر إذا قصر فيه فمعنى لا آلوك نصحا أي لا أمنعك نصحا و لا أقصر في نصيحتك و المراد أنّهم لا يقصرون لكم في الإيذاء و الفساد و المكر و الخديعة و الشرّ «و الخبال» الفساد و النقص، و رجل مخبول أي ناقص العقل.

[وَدُّوا ما عَنِتُّمْ «ما» مصدريّة أي تمنّوا عنتكم و شدّه ضرركم في دينكم و دنياكم و الفرق بين الجملة الأولى و الجملة الثانية مع أنّ معناهما واحد بيان أنّه إذا عجزوا عن إيذائكم فحبّ ذلك و تمنّيه غير زائل من قلوبهم.

[قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ البغضاء شدّة البغض كالضرّ بالنسبة إلى الضرّاء أي قد ظهرت علامة العداوة في كلامهم الخارج من أفواههم لما أنّهم لا يتمالكون مع ضبط أنفسهم أن ينفلت بعض الأحيان من ألسنتهم ما يعلم منه بغضكم، و الأفواه جمع الفم و الفم أصله «فوه» مثل طوق و أطواق و سوط و أسواط ثمّ حذفت الهاء تخفيفا و أقيم الميم مقام الواو لأنّهما شفويّان.

[وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] ممّا بدأ لأنّ ما يظهر على لسانهم أقلّ ممّا في قلوبهم من النفرة و الحقد [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالّة على صلاحكم من موالاة المؤمنين و معاداة

ص: 257


1- الممتحنة: 1.

الكافرين و المنافقين [إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ما بيّنّا لكم فتعملون به.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 119]

ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)

. قال الأزهريّ: يحتمل أن يكون «أولاء» منادى كأنّه قال: «يا أولاء» و قال غيره:

«ها» للتنبيه و «أنتم» مبتدأ و «أولاء» خبره و «تحبّونهم» حال. و قال الزجّاج: جائز أن يكون «أولاء» في معنى الّذين فالمعنى: الّذين تحبّونهم و لا يحبّونكم. قال أبو السعود في تفسير المعنى: تنبّهوا أنتم أولاء المخطئون في موالاتهم؛ فيكون جملة من مبتدء و خبر صدّرت بحرف التنبيه و «تحبّونهم و لا يحبّونكم» بيان لخطيئتهم و هو خبر ثان «لأنتم» و تحبّونهم بسبب ما بينكم من الحلف و الرضاعة و لا يحبّونكم بسبب إيمانكم و عدم بقائكم على الكفر.

[وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أي بجنس الكتاب جميعا و المعنى: لا يحبّونكم و الحال أنّكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبّونهم و هم لا يؤمنون بكتابكم؟ و فيه توبيخ بأنّهم في باطلهم أصلب منكم في حقّكم.

[وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا] نفاقا و خدعة [وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ] حيث لم يجدوا إلى التشفّي سبيلا [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بدوام الغيظ و زيادته بتضاعف قوّة الإسلام و أهله إلى أن يهلكوا و المراد الطعن و الطرد لا على وجه الإيجاب و إلّا لماتوا من ساعتهم و دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنّون من ضعف الإسلام، و ليس المراد الأمر بالإقامة على الغيظ حتّى يكون أمرا بالكفر.

[إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] و «ذات» كلمة وضعت لنسبة المؤنّث كما أنّ «ذو» كلمة وضعت لنسبة المذكّر و المراد «بذات الصدور» الخواطر القائمة بالقلب و الدواعي.

[سورة آل عمران (3): آية 120]

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

. أي إن تصبكم أيّها المؤمنون [حَسَنَةٌ] بظهوركم على عدوّ لكم و غنيمة تنالونها و

ص: 258

تتابع الناس في الدخول في دينكم و خصب معاشكم تحزنهم حسدا إلى ما نلتم [وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ] بإخفاق سريّة لكم أو اختلاف يقع بينكم أو جدب و نكبة [يَفْرَحُوا بِها] يشمتون و يفرحون من وقوع المصيبة بكم.

[وَ إِنْ تَصْبِرُوا] على عداوتهم و على مشاقّ التكليف [وَ تَتَّقُوا] ما حرّم اللّه و نهاكم عنه [لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ و مكرهم و «الكيد» حيلة لطيفة [شَيْئاً] من الضرر بحفظه الموعود للصابرين.

[إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ في عداوتكم من الكيد [مُحِيطٌ] عليم فيعاقبهم على ذلك.

و في قوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» إشارة إلى أنّ الحامل لأسرار الرجل ينبغي أن يكون من أهل دينه و لا يفشي المرأ بسرّه إلى من لم يجرّبه في كلّ حاله:

إنّ الرجال صناديق مقفّلةو ما مفاتيحها إلّا التجاريب

قال الغزاليّ: و لا تعوّل على مودّة غير أهل دينك بل و على من لم تختبره حقّ الخبرة بأن تصحبه مدّة في دار أو موضع واحد فتجرّبه في عزله و ولايته و فقره و غنائه أو تسافر معه لأنّ السفر سمّي سفرا لأنّه يكشف عن أخلاق الرجال أو تعامله في الدينار و الدرهم فإن رضيته في هذه الأحوال فاتّخذه صديقا و بطانة، و اجعله أبا لك إن كان كبيرا و ابنا لك إن كان صغيرا و أخا لك إن كان يساويك، انتهى.

قوله: [سورة آل عمران (3): الآيات 121 الى 123]

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)

اختلف العلماء في أنّ هذا اليوم أيّ يوم فالأكثرون أنّه يوم احد؛ لأنّ يوم أحد أليق بهذا الكلام لأنّ المقصود من ذكر هذه القصّة تقرير قوله: «وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» ثمّ إنّ الانكسار و استيلاء العدوّ كان في يوم احد. و قيل:

المراد يوم بدر. و قيل: الأحزاب.

[وَ إِذْ غَدَوْتَ أي اذكر لهم يا محمّد وقت خروجك أوّل النهار إلى أحد ليذّكروا

ص: 259

ما وقع فيه من الأحوال الناشئة عن عدم الصبر فيعلموا أنّهم إن لزموا الصبر و التقوى لا يضرّهم كيد الكفرة [مِنْ أَهْلِكَ و بيتك [تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ أي تنزلهم [مَقاعِدَ] مهيّأة [لِلْقِتالِ و المراد الأماكن الّتي عيّنت لكلّ واحد من الصحابة لأن يقعد و ينتظر فيه إلى أن يجي ء العدوّ فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة فسمّيت الأماكن «مقاعد» لهذا الوجه.

و مجمل قصّة أحد أنّ المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه و دعا عبد اللّه بن ابيّ بن سلول و لم يكن دعاه قبل ذلك فاستشاره فقال عبد اللّه و أكثر الأنصار: يا رسول اللّه أقم بالمدينة و لا تخرج إليهم فو اللّه ما خرجنا منها إلى عدوّ قطّ إلّا أصابنا و لا دخلها علينا إلّا أصبنا منه فكيف و أنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشرّ محبس و إن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم و رماهم الصبيان و النساء بالحجارة، و إن رجعوا رجعوا خائبين. و قال بعضهم: يا رسول اللّه اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنّا قد جبنا عنهم.

و قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّي رأيت في منامي بقرا مذبحة حولي فأوّلتها خيرا و رأيت في دباب سيفي ثلما فأوّلته هزيمة و رأيت كأنّي أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة و تدعوهم.

فقال رجال مسلمون قد فاتتهم بدر و أكرمهم اللّه بالشهادة يوم احد: اخرج بنا إلى أعدائنا، طلبا لسعادة الشهادة و طمعا في الحسنى و الزيادة، فلم يزالوا به صلّى اللّه عليه و آله حتّى دخل و لبس لابته أي درعه فلمّا رأوا ذلك ندموا و قالوا: بئسما صنعنا نشير على رسول اللّه و الوحي يأتيه و قالوا: يا رسول اللّه اصنع ما رأيت فقال: ما ينبغي لنبيّ أن يلبس لابته فيضعها حتّى يقاتل.

و كان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء و الخميس و خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الجمعة بعد ما صلّى الجمعة و صلّى على رجل من الأنصار مات فيه فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال سنة ثلاث من الهجرة فجعل صلّى اللّه عليه و آله يصفّ أصحابه للقتال إن رأى صدرا خارجا قال: تأخّر. و كان نزوله في طرف الوادي و عدوته، و جعل ظهره و عسكره إلى

ص: 260

احد و أمّر عبد اللّه بن جبير على الرماة و قال لهم: ادفعوا العدوّ عنّا بالسهم حتّى لا يأتونا من ورائنا و لا تبرحوا مكانكم و إذا ولّوكم الأدبار فلا تطلبوا المدبرين.

ثمّ إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا ما وافق رأى عبد اللّه بن ابيّ و كان من قدماء أهل المدينة و رؤساء المنافقين شقّ عليه ذلك و قال: أطاع الولدان و عصاني، ثمّ قال لأصحابه:

إنّ محمّدا إنّما يظفر بعدوّه بكم و قد وعد أصحابه أنّ أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا فانهزموا أنتم فيتبعونكم و يصير الأمر على خلاف ما قاله محمّد، فلمّا التقى الفريقان انهزم عبد اللّه بالمنافقين.

و كان صلّى اللّه عليه و آله قد خرج في ألف رجل أو تسعمائة و خمسين رجلا فلمّا انهزم عبد اللّه مع ثلاثمائة بقيت سبعمائة و قوّاهم اللّه مع ذلك حتّى حملوا على المشركين و هزموهم.

فلمّا رأى المؤمنون انهزام المشركين طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر فطلبوا المدبرين و تركوا ذلك الموضع و خالفوا أمر رسول اللّه، فأراد اللّه أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلّا يقدموا على مخالفة الرسول و ليعلموا أنّ ظفرهم يوم بدر ببركة طاعتهم للّه و لرسوله و متى تركهم اللّه مع عدوّهم لم يقوموا لهم، فتفرّق العسكر عن رسول اللّه كما قال تعالى: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» (1) و شجّ وجه الرسول و كسرت رباعيّته و شلّت يد طلحة و وقعت الصيحة في العسكرين: إنّ محمّدا قد قتل و كان رجل يكنّى أبا سفيان من الأنصار نادى: هذا رسول اللّه.

و كانت راية رسول اللّه بيد أمير المؤمنين و راية قريش بيد طلحه بن أبي طلحة العبديّ من بني عبد الدار فقتله أمير المؤمنين فأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله عليّ عليه السّلام و سقطت الراية فأخذها مسافع بن أبي طلحة و هكذا حتّى قتل عليه السّلام من حاملي الراية تسعة نفر كلّهم من بني عبد الدار إلى أن حمل لواهم عبد لهم أسود يقال له ثوأب فانتهى إليه عليّ عليه السّلام فقطع يده اليمنى فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه و قطعها فاعتنقها بالمجذومين (2) إلى صدره ثمّ التفت العبد إلى أبي سفيان فقال: هل أعذرت في بني عبد الدار، فضربه عليّ عليه السّلام على رأسه فقتله و سقط اللواء فأخذها غمرة بنت علقمة

ص: 261


1- السورة: 153.
2- الصحيح: الجذماوين لتأنيث اليد.

الكنانيّ فرفعتها.

فانحطّ خالد بن الوليد في مائتي فارس على عبد اللّه بن جبير و استقبلوهم بالسهام و كان أصحاب عبد اللّه بن جبير خلّوا عبد اللّه و اشتغلوا ينتهبون سواد القوم من المشركين و ذلك وقت هزيمة المشركين فخلّوا مراكزهم طمعا للغنيمة و بقي عليّ عليه السّلام و عبد اللّه بن جبير في نفر قليل و بعد ما حمل خالد و أصحابه على المسلمين و قتلوهم على باب الشعب فأتى من أدبارهم و فرّ المسلمون و نظرت قريش إلى رايتهم أنّها ارتفعت لاذوا بها (1) و انهزم أصحاب رسول اللّه هزيمة عظيمة و أقبلوا يفرّون إلى الجبل و في كلّ وجه و زعموا أن رسول اللّه قد قتل، و ما بقي إلّا عليّ و نفر قليل مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نادى رسول اللّه إلى أين تفرّون عن اللّه و رسوله؟ و كانت هند بنت عتبة في وسط العسكر فإذا رأت رجلا انهزم من قريش دفعت إليه ميلا و مكحلة و قالت له: إنّما أنت امرأة فاكتحل بهذا.

و كان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم فإذا رأوه يحمل انهزموا و لم يثبت له أحد، و كانت هند قد أعطت وحشيّا عهدا لئن قتلت محمّدا أو عليّا أو حمزة لأعطيتك كذا و كذا، و كان وحشيّ عبدا لجبير بن مطعم حبشيّا فقال وحشيّ: أمّا محمّد فلم أقدر عليه و أمّا عليّ فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه قال: فكمنت حمزة فرأيته يهدّ الناس هدّا فمرّ بي على جرف نهر فانهار فسقط فرسه و أخذت حربتي فهززتها و رميته بها فوقعت في خاصرته فخرجت من ثنّته فسقط فأتيته فشققت بطنه و أخذت كبده و جئت بها إلى هند فقلت:

هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها فلاكتها فجعله اللّه في فمها مثل الداعضة و هي عظم رأس الركبة فلقطتها. قال رسول اللّه: فبعث اللّه ملكا فحمله و ردّه إلى موضعه. قال: فجاءت إلى مذاكيره و قطعت يده و رجله.

و لم يبق مع رسول اللّه إلّا أبو دجانة و سماك بن خرشة و عليّ عليه السّلام فكلّما حملت طائفة علي رسول اللّه استقبلهم عليّ عليه السّلام فدفعهم عنه حتّى تقطّع سيفه فدفع إليه رسول اللّه سيفه ذا الفقار و انحاز (2) النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى ناحية أحد فوقف و كان القتال من وجه واحد

ص: 262


1- أي التجؤوا.
2- أي بعد و نحى.

فلم يزل عليّ يقاتل حتّى أصابه في وجهه و بدنه و بطنه و رجليه سبعون جراحة كذا أورده عليّ بن إبراهيم في تفسيره.

فقال جبرئيل: إنّ هذه هي المواساة يا محمّد فقال النبيّ: إنّه منّي و أنا منه، فقال جبرئيل: و أنا منكما. قال أبو عبد اللّه: نظر رسول اللّه إلى جبرئيل بين السماء و الأرض على كرسيّ من ذهب و هو يقول: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا عليّ.

قال الواقديّ و ابن جرير و جماعة: إنّ المشركين مثّلوا بجماعة من المسلمين و كان حمزة أعظم مثلة، انتهى.

أقول: و لعلّ الحكمة في انكسار المسلمين عدم ثباتهم المحلّ الّذي ألزمهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمرهم أن لا يفارقوا العقبة و لجهة اخرى اقتضت المصلحة و هي أنّه لو كانت الغلبة كلّ مرّة للمؤمنين لصار الإيمان ضروريّا و هو مناف مع التكليف.

قوله: [وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لمّا شاور النبيّ أصحابه في ذلك الحرب و قال بعضهم:

أقم المدينة و قال آخرون: اخرج إليهم، و كان لكلّ أحد غرض في قوله: فمن موافق و من منافق قال سبحانه: «وَ اللَّهُ سَمِيعٌ» لما يقولون «عَلِيمٌ» بما يرون.

قوله: [إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ أي فرقتان [مِنْكُمْ أي من المسلمين و هما بنو سلمة و بنو حارثة حيّان من الأنصار من الأوس بنو سلمة و من الخزرج بنو حارثة [أَنْ تَفْشَلا] أي تضعفا و ترجعا لظنّهم الثواب فيه و الظاهر أنّ قصدهما ما كان على حسب العزم و التصميم و إنّما هو خطرات و حديث نفس يحدث للإنسان عند الشدائد ثمّ يردّها صاحبها إلى الثبات [وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما] و عاصمهما من اتّباع تلك الخطرات و الجملة اعتراض [وَ عَلَى اللَّهِ وحده دون غيره [فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في أمورهم فإنّه حسبهم.

قال علماء الأخلاق: من وقع في ميدان التوكّل يزفّ إليه المراد كما تزفّ العروس إلى أهلها.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما اعطي السائلين. (1) قال أبو حمزة الخرسانيّ: حججت سنة من السنين فبينما أنا أمشي في الطريق إذ وقعت

ص: 263


1- الظاهر أنه حديث قدسي قاله النبي صلّى عن اللّه تعالى.

في بئر فنازعتني نفسي أن استغيث فقلت: لا و اللّه لا أستغيث، فإذا مرّ برأس البئر رجلان فقال أحدهما للآخر: تعال حتّى نسدّ رأس هذه البئر لئلّا يقع فيها أحد؛ فأتوا بقصب و طمسوا البئر فهممت أن أصيح ثمّ قلت: أشكو إلى من هو أقرب منهما فسكتّ فبينما أنا كذلك إذ أنا بشي ء جاء و كشف عن رأس البئر و أدخل رجله و كأنّه ألهمت أن تعلّق بها فتعلّقت فأخرجني فإذا هو سبع و مرّ و هتف هاتف: يا أبا حمزة أليس هذا أحسن نجّيناك من التلف بالتلف؟

[وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] «بدر» بئر ماء بين مكّة و المدينة حفرها رجل اسمه بدر فسمّيت به و كانت وقعة بدر في السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة.

و إنّما قال: «أذلّة» و لم يقل: «ذلائل» بجمع الكثرة للإشعار على أنّهم على ذلّتهم كانوا قليلا و ذلّتهم بسبب قلّة السلاح و ما كان بهم من قلّة المال و المركوب، يعتقب النفر منهم على البعير الواحد و ما كان معهم إلّا فرس واحد للمقداد بن الأسود و تسعون بعيرا و ستّ أدرع و ثمانية سيوف و هم كانوا ثلاثمائة و ثلاث عشر رجلا ستّة و سبعون من المهاجرين و بقيّتهم من الأنصار و كان عدوّهم زهاء ألف مقاتل و معهم مائة فرس و الشكّة و الشوكة.

و كان صاحب راية رسول اللّه عليّ بن أبي طالب و صاحب راية الأنصار سعد بن عبادة و قيل: سعد بن معاذ.

في تفسير العيّاشيّ قال الصادق: ليس هكذا نزلت إنّما نزلت، و أنتم قليل؛ و ما أذلّ اللّه رسوله قطّ.

[فَاتَّقُوا اللَّهَ في الثبات مع رسوله كما اتّقيتم يومئذ [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لتقوموا بشكر نعمته.

[سورة آل عمران (3): الآيات 124 الى 125]

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)

. «إذ» ظرف «لنصركم» وقت قولك [لِلْمُؤْمِنِينَ حين أظهروا العجز عن المقاتلة [أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ «الكفاية» سدّ الخلّة و القيام بالأمر، و «الإمداد» إعانة الجيش بالجيش.

ص: 264

و كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لضعفهم و قوّة العدوّ.

[مُنْزَلِينَ أنزلهم اللّه من السماء إلى الأرض لنصرتكم، قال ابن عبّاس و جماعة. إنّ الإمداد بالملائكة يوم بدر، و لم تقاتل الملائكة إلّا يوم بدر و كان الإمداد من الملائكة غير بدر، بل كانت في غيره عدّة و مددا. قيل: أمدّهم اللّه أوّلا بألف ثمّ صاروا ثلاثة آلاف ثمّ خمسة، و إنّما قدّم لهم الوعد أوّلا بنزول الآية لتتقوّى قلوبهم و يعزموا على الثبات و يتقوّوا بنصر اللّه.

[بَلى إيجاب لما بعد «أن» و تحقيق له أي بلى يكفيكم ذلك، ثمّ وعدهم الزيادة بشرط الصبر و التقوى حثّا لهم عليهما فقال: [إِنْ تَصْبِرُوا] على لقاء العدوّ و مناهضتهم [وَ تَتَّقُوا] معصية اللّه [وَ يَأْتُوكُمْ أي إن يجيئكم المشركون [مِنْ فَوْرِهِمْ هذا] أي من ساعتهم هذه و رجعوا يعني المشركين إذا همّوا بكم و ابتدروا إلى قتالكم. و قيل: معنى «من فورهم» من غضبهم و غليان عداوتهم [يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ في حال إتيانهم لا يتأخّر نزولهم عن إتيانهم، يريد أنّ اللّه يعجّل نصرتكم إن صبرتم «التسويم» إظهار سيما الشي ء أي معلّمين أنفسهم أو خيلهم في أذنابها و نواصيها بالصوف الأبيض، قال صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه: تسوّموا فإنّ الملائكة تسوّمت.

روي أنّ الملائكة كانوا بعمائم بيض إلّا جبرئيل فإنّه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوّام و نزلوا على الخيل البلق موافقة لفرس المقداد. و إنّما قال ذلك لأنّ الكفّار في غزوة أحد قدموا بعد انصرافهم و همّوا بالرجوع فأوحى اللّه إلى نبيّه أن يأمر أصحابه بالتهيّؤ و الرجوع إليهم و قال لهم: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ».

فيكون المعنى: إن صبرتم على الجهاد و راجعتم الكفّار أمدّكم اللّه بخمسة آلاف من الملائكة.

و خرجوا يتبعون الكفّار على ما كان بهم من الجراح فأخبر المشركين من مرّ برسول اللّه أنّه خرج يتبعكم فخاف المشركون إن رجعوا أن تكون الغلبة للمسلمين و أن يكون قد التحق إليهم من كان تأخّر عنهم فدسّوا نعيم بن مسعود الأشجعيّ حتّى يصدّهم بتعظيم أمر قريش و أسرعوا في الذهاب إلى مكّة فكفى اللّه المسلمين أمرهم.

قال الباقر عليه السّلام: إنّ الملائكة الّذين نصروا يوم بدر ما صعدوا بعد و لا يصعدون حتّى

ص: 265

ينصروا القائم و هاهنا يقتضي مزيد بيان:

قال الرازيّ: قد اختلف المفسّرون في أنّ هذا الوعد حصل يوم بدر أو يوم احد و يتفرّع على هذين القولين اختلاف العامل في «إذ» فإن كان الوعد حصل يوم بدر كان العامل في «إذ» قوله تعالى: «نَصَرَكُمُ اللَّهُ» و تقدير الآية حينئذ. إذ نصركم اللّه ببدر و أنتم أذلّة يقول للمؤمنين أ لن يكفيكم، الآية. و إن كان الوعد حصل يوم أحد كان ذلك بدلا من قوله: «وَ إِذْ غَدَوْتَ».

و حجّة القائلين بأنّ الوعد حصل يوم أحد قالوا: إنّ يوم بدر إنّما أمدّ رسول اللّه بألف من الملائكة قال تعالى: في سورة الأنفال «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ» (1) فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف و خمسة آلاف بيوم بدر؟

و أيضا إنّه تعالى قال في هذه الآية: و يأتوكم أعداؤكم من فورهم، و يوم احد هو اليوم الّذي كان يأتيهم الأعداء فأمّا يوم بدر فالأعداء ما أتوهم بل هم ذهبوا إلى الأعداء.

فإن قيل: لو جرى قوله تعالى: «أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ» في يوم أحد و الحال أنّه ما حصل الأمداد و النصر لزم الكذب.

فالجواب أنّ إنزال الملائكة كان مشروطا بشرط أن يصبروا و لم يتعرّضوا في المغانم حسب ما أمرهم النبيّ أن لا يفارقوا الثنيّة و هم خالفوا أمر الرسول فلمّا خالفوا الشرط لا جرم فات المشروط، و إنّما وعد الرسول بذلك للمؤمنين الّذين بوّأ بهم رسول اللّه مقاعد للقتال بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد و هم أهملوا القعود و الثبات طمعا في الغنيمة لمّا أحسّوا النصر ففاتهم المشروط.

و لو سلّمنا أنّ الملائكة نزلت كما أنّه روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطى اللواء مصعب ابن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فقال رسول اللّه: تقدّم يا مصعب، فقال الملك:

لست بمصعب فعرف الرسول أنّه الملك، فنقول: إنّ الملائكة لم يقاتلوا، انتهى.

و أمّا حجّة القائلين أنّ هذا الوعد كان يوم بدر أنّ ظاهر قوله: «وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ

ص: 266


1- الأنفال: 9.

اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» يقتضي أنّ اللّه نصرهم ببدر و قد وقع النصر ببدر و قلّة العدد كانت يوم بدر أكثر و كان الاحتياج إلى تقوية القلب في ذلك اليوم أكثر.

و ليس لأحد أن يقول: إنّهم نزلوا لكنّهم ما قاتلوا لأنّ الوعد كان بالإمداد و بمجرّد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بدّ من الإعانة حصلت يوم بدر و لم يحصل يوم أحد النهاية أنّ الجواب عن القول: بأنّ واقعة بدر كان عدد الملائكة مذكورا في الآية بتعيين الألف هو أنّه تعالى أمدّ أصحاب الرسول بألف ثمّ زاد ألفين فيهم فصاروا ثلاثة آلاف ثمّ زادوا ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف فكأنّه قال صلّى اللّه عليه و آله لهم: «أ لن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بألف من الملائكة» فقالوا: بلى، ثمّ قال: «أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ» فقالوا: بلى، ثمّ قال لهم: «إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا ... يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ» و هذا الكلام كما قال صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه: أ يسرّكم أن تكونوا ربع أهل الجنّة قالوا: نعم، قال: أ يسرّكم أن تكونوا ثلث أهل الجنّة، قالوا: نعم، قال: فإنّي أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة.

و قال بعض أهل التفسير: إنّ اللّه تعالى أمدّ أهل البدر بألف من الملائكة فقيل:

إنّ كرز بن جابر المحاربيّ يريد أن يمدّ المشركين فشقّ ذلك على المسلمين فقال النبيّ:

«أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ» يعني بتقدير أن يجي ء المشركين مدد فاللّه يمدّكم أيضا بثلاثة آلاف و خمسة آلاف، ثمّ إنّ المشركين ما جاءهم المدد فكذا هاهنا الزائد على الألف ما جاء المسلمين.

قال الرازيّ: إنّ أبا بكر الأصمّ أنكر بعض هذه المعاني أشدّ الإنكار و احتجّ عليه بوجوه:

منها أنّ الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما أنّ جبرئيل أدخل تحت المدائن الأربع أو الخمس لقوم لوط و بلغ جناحه إلى الأرض السابعة و رفعها إلى السماء

ص: 267

و قلّب عاليها سافلها فإذا حضر هو يوم بدر فأيّ حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفّار ثمّ بتقدير حضوره فأيّ فائدة في إرسال سائر الملائكة؟

و أيضا قال: إنّ أكابر الكفّار كانوا مشهورين و كلّ أحد منهم مقابله من الصحابة معلوم و إذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.

و أيضا قال: إنّ الملائكة لو قاتلوا لكانوا إمّا أن يصيروا بحيث أن يراهم الناس أو لا يراهم فإن رآهم الناس فإمّا أن يقال: إنّهم رأوهم في صورة الناس أو في غير صورة الناس؛ فإن كان الأوّل فعلى هذا التقدير صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر و لم يقل أحد بذلك، و إن شاهدوهم في صورة غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق؛ فإنّ من شاهد الجنّ لا شكّ أنّه يشتدّ فزعه، و قال:

إنّه على تقدير أنّ الملائكة إذا حاربوا و جزّوا الرؤوس و مزّقوا البطون و أسقطوا الكفّار عن الأفراس فحينئذ الناس كانوا يشاهدون حصول هذه الأفعال مع أنّهم ما كانوا شاهدوا أحدا من الفاعلين و مثل هذا من أعظم المعجزات و لو كانت الملائكة أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكلّ و إن كانوا أجساما لطيفة مثل الهواء لم يكن فيهم صلابة و قوّة و كيف يكونوا راكبين على الخيول؟

انتهى كلام أبي بكر الأصمّ في هذه الشبهات الركيكة لأنّها تليق بمن ينكر القرآن و النبوّة فأمّا من يقرّ بالقرآن و النبوّة فلا تليق به أن يتفوّه بمثل هذه الخرافات و نصّ القرآن ناطق بها و غير قابل للتأويل؛ لأنّ التأويل جاز في كلام لا يجوز حمله على ظاهره و أنّه لو حمل على ظاهره لكان مخالفا للأصول أو الفروع المتّفق، فأمّا مثل هذه الآية المحكمة ناطقة بهذا الأمر و شبهاته إذا قوبلت بقدرة اللّه زالت و طاحت بالكلّيّة يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد. و استدلاله بقوّة جبرئيل ليس مناف كون ألوف من الملائكة مع جبرئيل من القوّة بل لعلّ يكون لأجل إجلال النبيّ في تلك الواقعة. و كذلك سائر استدلالاته بالنسبة إلى قضاء اللّه و أمره أوهن من نسج العنكبوت، انتهى.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 126]

وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)

.

ص: 268

الضمير في «جَعَلَهُ» راجع إلى المصدر. و المعنى: ما جعل اللّه المدد و الإمداد إلّا بشارة لكم بأنّكم تنصرون و دلّ يمددكم على الإمداد «و البشرى» اسم من الإبشار [وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي بالإمداد و تسكن إليه نفوسكم من الخوف كما كانت السكينة لبني إسرائيل.

[وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كائن لا من العدّة و العدد، و هو تنبيه على أنّه لا حاجة في نصرتهم إلى مدد و إنّما أمدّهم ربطا على قلوبهم و تطييبا لنفوسهم من حيث إنّ نظر العامّة إلى الأسباب أكثر [الْعَزِيزِ] الغالب في أمره [الْحَكِيمِ الّذي يفعل حسبما يقتضي الحكمة.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 127]

لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)

. وجه اتّصال الآية بما قبلها أي أعطاكم اللّه هذا النصر [لِيَقْطَعَ جمعا [مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا] بالأسر و القتل أو متّصل بقوله: «وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ... لِيَقْطَعَ» و يهلك طائفة و جماعة منهم و لقد انقطع يوم بدر صناديدهم و قادتهم إلى الكفر فقتل من رؤسائهم سبعون و أسر سبعون. و قيل: هو يوم احد [أَوْ يَكْبِتَهُمْ أي يخزيهم، و قيل: أي يصرعهم اللّه على وجوههم.

و المراد حصول الإخزاء و اللعن و «أَوْ» في الآية للتنويع [فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لم ينالوا ممّا أملوا عرفا بشي ء من مبتغاهم.

و قيل: إنّ معنى الآية: لتطمئنّ قلوبكم به و ليقطع طائفة و جمعا من الكفّار. و إنّما ذكر بغير حرف العطف لأنّ العطف إذا كان البعض قريبا من البعض جاز حذف حرف العطف كما يقول السيّد لعبده: أكرمتك لتخدمني لتقوم بحقّي لتعينني، فكذا هاهنا.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 128]

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)

. و اختلف في سبب النزول. و اختلف أيضا في القراءة بالتاء و الياء في «يَتُوبَ» و «يعذب».

العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام أنّه قرأ «أن تتوب عليهم أو تعذّبهم» بالتاء فيهما.

ص: 269

و عنه عليه السّلام قرئ عنده: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ» قال: بلى و اللّه إنّ له من الأمر شيئا و شيئا و شيئا و ليس حيث ذهبت و لكنّي أخبرك أنّ اللّه لمّا أخبر نبيّه أن يظهر ولاية عليّ عليه السّلام ففكّر صلّى اللّه عليه و آله في عداوة قومه له فيما فضّله اللّه به عليهم ضاق عن ذلك فأخبر اللّه أنّه «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ» إنّما الأمر فيه إلى اللّه أن يصيّر عليّا وصيّه و وليّ الأمر من بعده فهذا على اللّه.

و قال أبو مسلم: قوله: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ» متّصل بقوله: «وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» فيكون معناه: نصركم اللّه ليقطع طرفا منهم أو يكبتهم و ليس لك و لا لغيرك من هذا النصر شي ء.

و قيل في معنى الآية: إنّ قوله: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ» اعتراض واقع بين قوله:

«لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، الآية» و قوله: «أو يتوب عليهم» و التقدير: ليقطع طرفا منهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذّبهم أي ليس لك من هذه الأربعة شي ء.

و أمّا اختلاف النزول قال جماعة منهم ابن عبّاس و أنس بن مالك و الحسن: إنّه لمّا كان من المشركين يوم أحد ما كان من كسر رباعيّته و شجّه حتّى جرت الدماء على وجهه قال: كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيّهم و هو صلّى اللّه عليه و آله حريص على فلاحهم و هدايتهم؟

فأعلم اللّه أنّه ليس إليه فلاحهم و أنّه ليس إليه إلّا التبليغ و إنّما ذلك إلى اللّه و كان الّذي كسر رباعيّته و شجّه في رأسه عتبة بن أبي وقّاص و أدمى وجهه الشريف رجل من هذيل يقال له عبد اللّه بن قينة و هو صلّى اللّه عليه و آله كان يمسح الدم عن وجهه و يقول: اللّهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.

و قيل في معنى الآية: إنّه صلّى اللّه عليه و آله استأذن ربّه أن يدعو عليهم يوم أحد فنزلت هذه الآية فلم يدع و إنّما لم يؤذن له فيه لما كان في المعلوم من توبة بعض عن، الجبّائيّ.

و قيل: أراد رسول اللّه أن يدعو على المنهزمين يوم أحد فنزلت الآية: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ» عن ابن مسعود.

و قيل: لمّا رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما فعل بعمّه حمزة و بأصحابه من المثلة من جدع الأنوف قال: لئن أدالنا اللّه منهم لنفعلنّ بهم مثل ما فعلوا بنا و لنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من

ص: 270

العرب بأحد قطّ؛ فنزلت الآية عن الشعبيّ و محمّد بن إسحاق.

و قيل: نزلت الآية في أهل بئر معونة و هم سبعون رجلا من قرّاء أصحاب الرسول و أميرهم المنذر بن عمرو بعثهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من وقعة أحد ليعلّموا الناس القرآن فقتلهم جميعا عامر بن الطفيل فحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك وجدا شديدا، فنزلت الآية.

قال الطبرسيّ: و الأصحّ أنّها نزلت في أحد و يقتضيه سياق الكلام و إنّما قال:

«لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ» مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله يدعوهم إلى اللّه، المراد: أنّ أمر عقابهم أو الدعاء عليهم و لعنهم ليس لك لأنّه يقع إنابة بعضهم.

قال الرازيّ: لو قيل: إنّ ظاهر هذه الآية تدل على أنّ النبيّ فعل فعلا و كانت هذه الآية كالمنع منه و الأمر الممنوع منه إن كان حسنا فلم منعه اللّه و إن كان قبيحا فكيف يليق بالنبيّ؟ فالجواب أنّ المنع من الفعل لا يدلّ على أنّ الممنوع منه كان مشتغلا به، فإنّه تعالى قال: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (1) و أنّه ما أشرك قطّ و قوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ» (2) لا يدلّ على أنّه ما كان يتّقي اللّه و قوله: «وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ» (3) و هو ما أطاعهم بل الفائدة من هذا المنع ذهاب غمّه الشديد و الغضب في مثلة حمزة و المسلمين غيرة على دين اللّه و تقوية لتصبّره صلّى اللّه عليه و آله و إكمالا لدرجة العبوديّة.

قوله: [أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عطف على قوله: «أَوْ يَكْبِتَهُمْ» أي إن اللّه مالك أمرهم فإمّا أن يهلكهم أو يخزيهم أو يقبل توبتهم إن أسلموا [أَوْ يُعَذِّبَهُمْ إن أصرّوا [فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ بكفرهم و ظلمهم.

[سورة آل عمران (3): آية 129]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

. لمّا قال سبحانه «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ» في الآية السابقة عقّب في هذه الآية بأنّ الأمر له. و ذكر لفظ «ما» لأنّ «ما» أعمّ ممّن يعقل و ما لا يعقل، له ملكا و خلقا [يَغْفِرُ

ص: 271


1- الزمر: 65.
2- الأحزاب: 1.
3- الأحزاب: 1.

لِمَنْ يَشاءُ] أن يغفر له و مشيئته مبنيّة على الحكم و المصالح [وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ] أن يعذّبه، و قدّم المغفرة لسبق رحمته غضبه و لم يبيّن من يغفر له و من يشاء تعذيبه ليكون المكلّف بين الخوف و الرجاء فلا يأمن من عذابه و لا ييأس من روحه.

و سأل بعضهم كيف يعذّب اللّه عباده بالأجرام مع سعة رحمته؟ فقال: رحمته لا تغلب حكمته و لا يكون رحمته برقّة القلب كما يكون الرحمة منّا. قال ابن عبّاس: معنى الآية:

يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء ممّن لم يتب. و أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام يا داود بشّر المذنبين و أنذر الصدّيقين، قال: يا ربّ فكيف ابشّر المذنبين و أنذر الصدّيقين؟ قال: بشّر المذنبين بأنّي لا يتعاظمني ذنب إلّا أغفره، و أنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم و أنّي لا أضع عدلي و حسابي على أحد إلّا أهلكه. فالإنسان و إن كثرت عبادته لا بدّ أن يطلب بقلبه و لسانه أن تدركه رحمته.

قال بعض علماء الأخلاق: دواء القلب خمسة: تلاوة القرآن مع التدبّر و خلاء البطن و قيام الليل و التضرّع إلى اللّه عند السحر و مجالسة الصالحين.

[سورة آل عمران (3): آية 130]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)

. لمّا ذكر أنّ له التعذيب لمن يشاء و المغفرة لمن يشاء وصل ذلك بالنهي عمّا لو فعلوا لاستحقّوا عليه العذاب و هو الربى فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ صدّقوا اللّه و رسوله [لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا] ذكر الأكل لأنّه معظم الانتفاع و إن كان غيره من التصرّفات أيضا منهيّا عنه و «الربا» الزيادة على أصل المال بالتأخير عن الأجل الحال. و قيل: هو ربي الجاهليّة.

[أَضْعافاً مُضاعَفَةً] زيادات مكرّرة كان الرجل في الجاهليّة إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل و لم يكن المديون واجدا لذلك المال قال: زدني في المال حتّى أزيدك في الأجل، فربّما جعله مأتين ثمّ إذا حلّ الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثمّ إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها و «أضعافا» جمع ضعف حال من «الربى» أي متضاعفا و لمّا كان جمع قلّة و المقصود الكثرة أتبعه بما يدلّ على الكثرة حيث وصفه بقوله: «مضاعفة»

ص: 272

و هي اسم مفعول لا مصدر و هذه الحال ليس لتقييد النهي بها حتّى تنتفي الحرمة عند انتفائها بل بيان ما كانوا عليه من العادة توبيخا لهم على ذلك.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهيتم عنه [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تنجوا بإدراك ما تأملونه من ثواب الجنّة، و إنّما أعاد تحريم الربا مع ما سبق من ذكره في سورة البقرة لأمرين:

أحدهما التصريح بالنهي عنه بعد الإخبار بتحريمه لشدّة التحذير منه و لتأكيد النهي عن هذا الضرب منه الّذي يجري على الأضعاف.

[سورة آل عمران (3): آية 131]

وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131)

. و اتّقوا بالتحرّز عن تعاطي ما يتعاطونه. و في الآية تنبيه على أنّ النار بالذات معدّة للكفّار و بالعرض للعصاة. قيل: هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد اللّه المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتّقوه في أصناف محارمه.

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ في كلّ ما أمركم به و نهاكم عنه و الرسول الّذي يبلّغكم

[سورة آل عمران (3): آية 132]

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

أي لكي ترحموا و في هذا البيان نهاية التهديد على الربى حيث أتى بلعلّ في فلاح من اجتنبه لأنّ تعليق إمكان الفلاح و رجائه بالاجتناب منه يستلزم امتناع الفلاح لهم إذا لم يجتنبوه فما أعظمها من مصيبة توجب عقاب الكفّار للمؤمنين! و كيف درج التغليظ في التهديد حتّى ألحقه بالكفّار في الجزاء و العقاب؟

قال رسول اللّه: لعن اللّه آكل الربا و مؤكله و شاهده و كاتبه و المحلّل. و روي عن عبد اللّه ابن سلام للربى اثنان و سبعون حوبا أصغرها كمن أتى امّه في إسلام، كذا في تنبيه الغافلين. قال صاحب روح البيان: و آخذ الربا لا يقبل اللّه منه صدقة و لا جهادا و لا حجّا و لا صلاة.

[سورة آل عمران (3): آية 133]

وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

. لمّا حذّر اللّه عن الأفعال الموجبة للعقاب عقّبه بالحثّ على الأفعال الموجبة للثواب أي بادروا [إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ باجتناب المعصية و إلى الأعمال الّتي توجب المغفرة.

ص: 273

و اختلف في ذلك فقيل: سارعوا إلى الإسلام، عن ابن عبّاس. و قيل: إلى أداء الفرائض، عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. و قيل: إلى الهجرة. و قيل: إلى التكبيرة الاولى عن أنس بن مالك. و قيل: إلى الصلاة الخمس، و قيل: إلى الجهاد، عن الضحّاك. و قيل: إلى التوبة، عن عكرمة.

[وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ أي و إلى جنّة عرضها كعرض السماوات السبع و الأرضين السبع إذا ضمّ بعض ذلك إلى بعض، عن ابن عبّاس و جماعة. و إنّما ذكر العرض بالعظم دون الطول لأنّه يدلّ على أنّ الطول أعظم من العرض بخلاف ما إذا ذكر الطول دون العرض، فمعنى الآية مثل قوله: «ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» (1) أي كخلق نفس واحدة.

و قيل: المراد في الآية بيان عظم ثمنها أي لو بيعت و عرضت للبيع كثمن السماوات و الأرض كما يقال: عرضت هذا المتاع للبيع و المراد بيان جلالة قدرها و ثمنها.

و روي أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقيل له: إذا كانت الجنّة عرضها كعرض السماوات و الأرض فأين تكون النار؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: سبحان اللّه إذا جاء النهار فأين الليل؟ أي إنّ القادر على أن يذهب بالليل حيث شاء قادر على أن يخلق النار حيث شاء.

و بيانه صلّى اللّه عليه و آله في جوابهم معارضة فيها إسقاط المسألة؛ و الجواب أنّ الجنّة فوق السماوات السبع و تحت العرش، و النار تحت الأرضين السبع و معنى قولهم: إنّ الجنّة في السماء أي إنّها في ناحية السماء و جهتها و السماء يحويها و لا ينكر أن يخلق اللّه في العلو أمثال السماوات و الأرضين، و إن صحّ الخبر أنّها في السماء الرابعة كان كما يقال: في الدار بستان لاتّصاله بها و كونه في ناحية منها أو يشرع إليها بابه و إن كان أضعاف الدار.

و قيل: إنّ اللّه يزيد عرضها يوم القيامة فيكون المراد من قوله: «عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ» يوم القيامة لا في الحال على تسليم أنّها في السماء.

[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ المطيعين للّه و لرسوله، و إنّما أضيفت إلى المتّقين لأنّهم المقصودون بها أصلا و إن دخلها غيرهم من الأطفال و المجانين على وجه التبع و كذلك الفسّاق لوعفي

ص: 274


1- لقمان: 28.

عنهم. و قيل: معناه لو لا المتّقون لما خلقت الجنّة كما يقال: وضعت المائدة للأمير. و قوله:

«أُعِدَّتْ» يدلّ على أنّ الجنّة مخلوقة اليوم لأنّها لا تكون معدّة إلّا و هي مخلوقة، و أنّها خارجة عن هذا العالم؛ أمّا الأوّل فلدلالة لفظ الماضي، و أمّا الثاني فلأنّ ما يكون عرضها السماوات و الأرض لا يكون في هذا العالم و لا داخلا فيه.

[سورة آل عمران (3): آية 134]

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

. [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ] وصف سبحانه حال المتّقين فقال: الّذين ينفقون كلّما يصلح للإنفاق في حالة اليسر و في حالة العسر أو في حالة الفرح و الغمّ أي في الأحوال كلّها؛ لأنّ الإنسان لا يخلو عن هاتين الحالتين [وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ] عطف على الموصول و «الكظم» الحبس أي الممسكين غضبهم الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه [وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ التاركين عقوبة من استحقّ مؤاخذته [وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و هم الّذين عمّت فواضلهم و تمّت فضائلهم، و اللام يجوز للجنس فيدخل تحته هؤلاء و يصلح للعهد فيكون الإشارة إليهم.

قال رسول اللّه: من كظم غيظا و هو يقدر على إنفاذه ملأ اللّه قلبه أمنا و إيمانا و أمّا في الآخرة فهو أن يبرأ ذمّته من التبعات و المطالبات.

قال الفضيل بن عياض: الإحسان بعد الإحسان مكافأة و الإساءة بعد الإساءة مجازاة و الإحسان بعد الإساءة كرم وجود و الإساءة بعد الإحسان لؤم و شؤم.

روي أنّ جارية لعليّ بن الحسين عليه السّلام جعلت تسكب عليه الماء ليتهيّأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجّه و رفع رأسه عليه السّلام إليها فقالت الجارية: إنّ اللّه يقول:

«وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: «وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» قال: قد عفى اللّه عنك، قالت: «وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» فقال عليه السّلام: اذهبي يا جارية فأنت حرّة لوجه اللّه.

و تأمّل بأنّ اللّه تعالى عدّد من أخلاق أهل الجنة السخاء في الآية؛ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

السخاء شجرة في الجنّة أغصانها في الدنيا من تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنّة

ص: 275

و البخل شجرة في الجنّة أغصانها في الدنيا فمن تعلّق بغصن منها قادته إلى النار. قال عليّ عليه السّلام:

الجنّة دار الأسخياء و قال عليه السّلام: السخيّ قريب من اللّه قريب من الجنّة قريب من الناس بعيد من النار. و البخيل بعيد من اللّه بعيد من الجنّة بعيد من الناس قريب من النار انتهى.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 135 الى 136]

وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)

النزول: روي أنّ قوما من المؤمنين قالوا: يا رسول اللّه بنو إسرائيل أكرم على اللّه منّا؛ كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفّارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه: اجدع أنفك و اذنك أو افعل كذا و كذا. فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت الآية فقال صلّى اللّه عليه و آله: أ لا أخبركم بخير من ذلكم؟ و قرأ عليهم الآية عن ابن مسعود. و في ذلك تسهيل لهم إذ جعل الاستغفار بدلا منه.

و قيل: نزلت في تيهان التمّار أتته امرأة تبتاع منه تمرا فقال: إنّ هذا التمر ليس بجيّد و في البيت أجود منه، و ذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه فقبّلها فقالت: اتّق اللّه، فتركها و ندم و أتى النبيّ و ذكر له ذلك فنزلت الآية، عن عطا.

و اختلفوا في معنى الفاحشة الكبائر و ظلم النفس؛ فقيل: المراد بالفاحشة الزنا، و من ظلم النفس سائر المعاصي. و قيل: الفاحشة الكبائر و ظلم النفس الصغائر، عن القاضي عبد الجبّار الهمدانيّ. و قيل: الفاحشة الكبائر و لو أنّها اسم لكلّ معصية ظاهرة أو باطنة لكنّها لا يقع إلّا على الكبيرة. و قيل: المراد: [فَعَلُوا فاحِشَةً] فعلا [أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ قولا [ذَكَرُوا اللَّهَ أي وعيده و ذكروا جلاله الموجب للخشية [فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ بأن يندموا على المعصية مع العزم على ترك مثله في المستقبل و أمّا مجرّد الاستغفار باللسان فلا أثر له في إزالة الذنب و هو توبة الكذّابين.

[وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ و «مَنْ» استفهام إنكاريّ أي جنس الذنوب، من يغفر

ص: 276

جنس الذنوب غيره تعالى و «إِلَّا اللَّهُ» بدل من الضمير المستتر في «يَغْفِرُ» و هو معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه تطييبا لقلوب التائبين و بشارة لهم بسعة رحمته و تحريضا للعباد على التوبة و ردعا من اليأس و القنوط.

[وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا] عطف على «فَاسْتَغْفَرُوا» أي لم يقيموا على الذنوب و أصل «الصرّ» الشدّ و الاستحكام من الصرّة و المراد هنا الارتباط بالذنب بالإقامة و الثبات عليه [وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أي و هم عالمون بقبحه و وعيده، و التقييد بذلك لما أنّه قد يعذر من لا يعلم إذا لم يكن عن تقصير في تحصيل العلم به، أو المراد و هم ذاكرين للخطيئة غير ساهين و لا ناسين، لأنّ اللّه يغفر للعبد ما نسيه و إن لم يتب منه بعينه، أو المراد أنّهم يعلمون الحجّة في أنّها خطيئة و هذا قريب من معنى الأوّل فإذا لم يعلموا و لا طريق لهم إلى العلم به كان الإثم موضوعا عنهم كمن تزوّج امّه من الرضاع أو النسب و هو لا يعلم به فإنّه لا يأثم، و هذا قول ابن عبّاس. و قيل: و هم يعلمون أنّ اللّه يملك مغفرة ذنوبهم.

[أُولئِكَ إشارة إلى الموصوفين في قوله: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ» إلى هنا، أي هؤلاء [جَزاؤُهُمْ على هذه الأمور [مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ و ستر لذنوبهم من اللّه [وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ و «الجنّات» مفسّرة مرارا، و المخصوص بالمدح محذوف أي و نعم أجر العاملين ذلك. و التعبير بالأجر و إن كان الجزاء بالتفضيل لا بالاستحقاق لمزيد الترغيب في الطاعات و الزجر عن المعاصي.

في تفسير روح البيان: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ربّه قال: ابن آدم إنّك ما دعوتني و رجوتني غفرت لك ما كان منك، ابن آدم إنّك إن تلقني بتراب الأرض خطايا لقيتك بترابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئا، ابن آدم إنّك إن تذنب حتّى تبلغ ذنبك عنان السماء ثمّ تستغفرني أغفر لك.

قال ثابت البنانيّ: بلغني أنّ إبليس بكى حتّى نزلت هذه الآية و هي «وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» قال رسول صلّى اللّه عليه و آله: ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثمّ يقوم و يصلّي ثمّ يستغفر اللّه إلّا غفر اللّه له.

روي أنّ اللّه أوحى إلى موسى عليه السّلام ما أقلّ حياء من يطمع في جنّتي بلا عمل! يا

ص: 277

موسى كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي؟ قال شهر بن حوشب: طلب الجنّة بلا عمل ذنب من الذنوب و انتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور.

قالت رابعة البصريّة:

ترجو النجاة و لم تسلك مسالكهاإنّ السفينة لا تجري على اليبس

قال القشيريّ: أوحى اللّه سبحانه إلى موسى عليه السّلام قل: للظلمة حتّى لا يذكروني فإنّي أوجبت أن أذكر من يذكرني و ذكري للظلمة باللعنة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 137 الى 138]

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)

لمّا بيّن سبحانه ما يفعله بالمؤمن و الكافر ذكر في هذه الآية أنّ ذلك عادته في خلقه «و السنّة» الطريقة المجعولة ليقتدى بها «و الخلوّ» الانفراد و يستعمل في الزمان الماضي لأنّ ما مضى انفرد عن الوجود و خلا عنه، و المراد بسنن اللّه معاملاته في الأمم المكذّبة بالهلاك و العذاب. قيل: خطاب لمن هزم يوم احد.

أي قد مضت يا امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أو يا أهل أحد المنهزمين عادات من اللّه في الأمم المتقدّمة إذا كذّبوا رسله بالإهلاك، و تبقية آثارهم في الديار للاعتبار و الاتّعاظ.

و قيل: معناه قد مضت لكلّ امّة سنّة و منهاج إذا اتّبعوها يحصل لهم رضى اللّه إن شككتم في ذلك [فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ و لعلّ المراد من السير ليست المسافرة في الأرض بسير الأقدام بل تعرّف أحوالهم فإن لم تحصل المعرفة فإنّ أثر المشاهدة أقوى من أثر السماع كما قيل: ليس الخبر كالعيان [فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ و «كَيْفَ» خبر مقدّم «لكان» أي عاقبة مكذّبي رسلي و أنبيائي.

[هذا] إشارة إلى ما سلف من قوله: «قَدْ خَلَتْ» إلى آخر الآية [بَيانٌ لِلنَّاسِ و إيضاح ليعتبروا و دلالة و هداية و زيادة بصيرة [وَ مَوْعِظَةٌ] لأهل الدين و التقوى لأنّهم هم المتّعظون.

قال صاحب روح البيان: في الآية تسلية للمؤمنين فيما أصابهم يوم احد؛ فإنّ الكفّار و إن نالوا من المؤمنين بعض النيل لحكمة اقتضته، فالعاقبة للمتّقين و لو كانت الغلبة

ص: 278

كلّ مرّة للمؤمنين لصار الإيمان ضروريّا و هو خلاف التكليف و الحكمة، و العاقل لا يغترّ بالحظوظ الفانية و اللائق أن يجتهد فيما هو خير.

[سورة آل عمران (3): آية 139]

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)

. أي لا تضعفوا من الجهاد بما أصابكم من الجراح يوم احد [وَ لا تَحْزَنُوا] على من قتل منكم. و هذا النهي ورد للتسلّي و التصبير لا النهي عن الحزن و ذلك أنّه لمّا انهزم المسلمون في الشعب و أقبل خالد بن الوليد بخيل من المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا يعلنّ علينا، اللّهم لا قوّة لنا إلّا بك اللّهمّ ليس يعبدك بهذه البلدة إلّا هؤلاء النفر؛ فنزلت الآية و قام نفر رماة فصعدوا الجبل و رموا خيل المشركين حتّى هزموهم و علوا المسلمون الجبل، فذلك قوله: [وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ و أصله «الأعليون» واحده «الأعلى» و مؤنّثه «العليا» و جمعه «العليات و العلى» و حذفت الياء كراهة الجمع بين اخت الكسرة و الضمّة أي و الحال أنتم الغالبون [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و الجواب محذوف دلّ عليه المذكور أي إن كنتم مؤمنين لا تهنوا، فإنّ الإيمان يوجب قوّة القلب.

قوله: [سورة آل عمران (3): آية 140]

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

. أي إن يصبكم قرح- بفتح القاف و بضمّها- كالشهد و الشهد، و قيل: إنّ القرح- بالضمّ- الجراحات بأعيانها، و القرح- بالفتح- ألم الجراحات [فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ أي الكفّار يوم بدر، و قتل المسلمون من الكافرين يوم بدر سبعين و أسروا سبعين و قتل الكافرون من المسلمين بأحد سبعين و أسروا سبعين. و المعنى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله و لم يضعف ذلك قلوبهم و لم يمنعهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أولى بأن لا تضعفوا فإنّكم ترجون من اللّه ما لا يرجون.

[وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ إشارة إلى أوقات الظفر و الغلبة [نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أي نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة و لهؤلاء اخرى و «المداولة» نقل الشي ء من واحد إلى واحد يقال:

تداولته الأيدي أي تناقلته، و ليس المراد أنّه تعالى تارة ينصر المؤمنين و اخرى ينصر الكافرين

ص: 279

لأنّ نصره تعالى منصب شريف لا يليق بالكافر بل المراد أنّه تعالى تارة يشدّد المحنة على الكفّار و اخرى على المؤمنين و أنّه لو شدّد المحنة على الكفّار في جميع الأوقات و أزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الضروريّ بأنّ الإيمان حقّ و ما سواه باطل: و لو كان كذلك لبطل التكليف و الثواب و العقاب فلهذا المعنى تارة كذا و تارة كذا لتكون الشبهات باقية و المكلّف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل.

[وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] عطف على علّة محذوفة أي تلك الأيّام نداولها بينكم ليكون المصالح كيت و كيت و إيذانا بأنّ العلّة فيما فعل غير واحدة. و «لِيَعْلَمَ» أي و ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين من غيرهم، أو العلم في الآية مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبّب أي ليميّز الثابتين على الإيمان من غيرهم، و المراد تعلّق العلم بالمعلوم من حيث إنّه موجود بالفعل إذ هو الّذي يدور عليه فلك الجزاء لا من حيث إنّه موجود بالقوّة فالمعنى: ليعلم اللّه الّذين آمنوا علما يتعلّق به الجزاء.

[وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ] أي و يكرم ناسا منكم بفوز الشهادة و هم شهداء احد [وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ و نفي المحبّة كناية عن البغض، و في الآية إشعار بأنّه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة و إنّما يغلبهم أحيانا استدراجا لهم و ابتلاء للمؤمنين و لا ينافي هذا مع قوله «وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» (1).

[سورة آل عمران (3): آية 141]

وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)

عطف على «يتّخذ» أي ليصفيهم و يطهّرهم من الذنوب إن كانت الدولة عليهم [وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ و يهلكهم إن كانت عليهم، و قابل سبحانه بين التمحيص و المحق لأنّ محص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم و هذه مقبلة في المعنى.

[سورة آل عمران (3): آية 142]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)

. «أَمْ» منقطعة و «الحسبان» الظنّ، و الخطاب للّذين انهزموا يوم أحد أي بل أ ظننتم [أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ] و تفوزوا بنعيمها [وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ المجاهدين [مِنْكُمْ حال من ضمير «تَدْخُلُوا» مؤكّدة للإنكار فإنّ رجاء الأجر من غير عمل مستبعد في العقول و عدم

ص: 280


1- الصافات: 173.

العلم كناية عن عدم المعلوم أي ما جاهدتم لأنّ وقوع الشي ء يستلزم كونه معلوما عند اللّه و نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم؛ فنزّل نفي العلم بمنزلة نفي المعلوم و هو الجهاد و «لَمَّا» بمعنى «لم» إلّا أنّ فيه ضربا من التوقّع تقول: وعدني أن يفعل كذا و لمّا يفعل، أي لم يفعل و أنا أنتظر فعله.

[وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ منصوب بإضمار «أن» أي و أن يعلم الصابرين و يقع منكم الصبر على الشدائد فيعلّق العلم بالمعلوم.

و اعلم أنّ تحقيق المسألة في علمه ليس شأنه أن يسع في هذا المختصر و لا شكّ أنّ علمه تعالى قديم و هو عين ذاته تعالى و علمه بالأشياء كان حاصلا قبل أن يحصل الأشياء فعلمه القديم هو ذاته لم يقترن بمعلوم بل هو علم و لا معلوم، مثاله أنّك إذا قابلت المرآة انطبعت فيها صورتك و هي في المرآة مثال المخلوق المعلوم بحصوله و حضوره و هذه الصورة المنطبعة هي ظلّ صورتك الّتي فيك و شبحها يعني أنّك ظهرت للصورة الّتي في المرآة بواسطة صقالتها و مقابلتها الّتي هي المشخّصات لها عن الصورة الّتي قامت بها فالظهور الّذي انطبع من صورتك الّتي قامت بك في المرآة منفصل عن صورتك الّتي قامت بك؛ فاللّه سبحانه عالم و لا معلوم فمثله كنت أنت بصورتك الّتي هي أنت عليه و لك و معك و هي كينونتك و لا صورة في المرآة فلمّا أحدث الأشياء و تكوّن المعلوم وقع العلم على المعلوم مثل أنّ المقابلة في المرآة شخص تلك الّتي هي قديمة فيك و كنت تعلم بها و علمك بالصورة المقابلة في المرآة هو علمك بالصورة قبل المقابلة في المرآة واحد. و هو تعالى شأنه أحديّ الذات ليس في شي ء و ليس فيه شي ء و لا يبتدئ منه الخلق بمعنى أنّه أصل مادّة الخلق أو ينتهي إليه الخلق برجوع مادّة أو صورة، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، فالخلق من أمره بقاؤه و فناؤه لا من شي ء أو جزء منه تعالى عن الشيئيّة و التركيب.

[سورة آل عمران (3): آية 143]

وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

. [وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي الحرب فإنّها من مبادئ الموت أو الموت بالشهادة، و الخطاب للّذين لم يشهدوا البدر و كانوا يتمنّون أن يشهدوا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مشهدا

ص: 281

لينالوا ما ناله شهداء بدر من الكرامة فألحّوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الخروج ثمّ ظهر منهم خلاف ذلك [مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أي من قبل أن تشاهدوا و تعرفوا شدّته [فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أي ما تمنّونه من أسباب الموت [وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ معاينين مشاهدين له حتّى قتل من قتل من إخوانكم و شارفتم أن تقتلوا أيضا أنتم فلم فعلتم ما فعلتم و هزمتم؟

و في الآية توبيخ لهم بأنّ حبّ الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة و بقدر ما يزداد أحدهما ينتقص عن الآخر؛ فإنّ الحبّ هو الّذي لا ينقص بالجفاء و لا يزداد بالوفاء؛ و لذا قيل من ظنّ أنّه يصل إلى محلّ عظيم دون مقاسات الشدائد ألقته أمانيّه في مهواة الهلاك و من عرف قدر مطلوبه سهل عليه بذلك مجهوده؛ قال الشاعر:

و ما جاد دهر بلذّاته على من يضيق بخلع العذار

[سورة آل عمران (3): آية 144]

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

. قال ابن عبّاس: لمّا نزل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل و أن لا ينتقلوا عن ذلك سواء كان الأمر لهم أو عليهم، فلمّا وقفوا و حملوا على الكفّار و هزموهم و قتل عليّ عليه السّلام طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم و الزبير و المقداد حملا على المشركين ثمّ حمل الرسول مع أصحابه فهزموا أبا سفيان، ثمّ إنّ بعض القوم لمّا أن رأوا انهزام الكفّار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة.

و كان خالد بن الوليد صاحب الميمنة من الكفّار فلمّا رأى تفرّق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم و فرّق جمعهم و كثر القتل في المسلمين و رمى عبد اللّه بن قميئة الحارثيّ رسول اللّه بحجر فكسر رباعيّته و شجّ وجهه الشريف فذبّ عنه مصعب بن عمير فقتله ابن قميئة فظنّ أنّه قتل رسول اللّه؛ فقال: قد قتلت محمّدا صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: صرخ صارخ: ألا إنّ محمّدا قد قتل، و كان الصارخ الشيطان، ففشا في الناس خبر قتله صلّى اللّه عليه و آله فهنالك قال بعض المسلمين: ليت عبد اللّه بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان فقال أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك: يا قوم إن كان قد قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّ ربّ

ص: 282

محمّد حيّ لا يموت و ما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه؟ قاتلوا على ما قاتل عليه و موتوا على ما مات عليه، اللّهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء ثمّ سلّ سيفه فقاتل حتّى قتل.

و بالجملة لمّا شجّ ذلك الكافر وجه رسول اللّه و كسر رباعيّته احتمله طلحة بن عبد اللّه و دافع عنه أمير المؤمنين و نفر آخرون معهم ثمّ إنّه صلّى اللّه عليه و آله جعل ينادي و يقول: عباد اللّه إليّ حتّى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم فقالوا: يا رسول اللّه، فديناك بآبائنا أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب علينا فولّينا مدبرين.

فمعنى الآية: [وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلوا كما خلوا و كما أنّ أتباعهم بقوا متمسّكين بدينهم بعد خلوّهم فعليكم أن تمسّكوا بدينه بعد خلوّه.

[أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ إنكار لارتدادهم عن الدين بخلوّه بموت أو قتل، أي تصيرون كفّارا بعد إيمانكم و ترجعون قهقرى وراءكم؛ و ذلك أنّ المنافقين قالوا لبعض ضعفة المسلمين: إن كان محمّد قد قتل فالحقوا بدينكم.

[وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ بإدباره عمّا كان يقبل عليه رسول اللّه من أوامره من الجهاد أو غيره [فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ بما فعل من الانقلاب [شَيْئاً] من الضرر و إنّما يضرّ نفسه و اللّه منزّه عن النفع و الضرر [وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ لنعمة الإسلام الثابتين عليه؛ لأنّ الثبات عليه شكر له و إيفاء لحقّه.

روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ألم تروا كيف صرف اللّه عنّي شتم قريش؟ و ذلك أنّهم كانوا يقولون لي مذمّما- و كانت امّ جميل امرأة أبي لهب تقول محمّدا:

مذمّما أتانا و دينه قلانا- و أنا محمّد.

و في مسند عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام عن آبائه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إذا سمّيتم الولد محمّدا فأكرموه و أوسعوا له في المجلس و لا تقبحوا له وجها، و ما من قوم كان لهم من هو اسمه محمّد أو أحمد فأدخلوه في مشورتهم إلّا خير لهم، و ما من مائدة وضعت فحضرها من اسمه محمّد أو أحمد إلّا قدّس في كلّ يوم ذلك المنزل مرّتين.

و اعلم أنّه ليس لقائل أن يقول: لمّا علم أنّه لا يقتل لم قال: «أَوْ قُتِلَ» لأنّ صدق القضيّة الشرطيّة لا يقتضي صدق جزأيها فإنّك تقول: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا»

ص: 283

فهذا حقّ مع أنّه ليس فيهما آلهة و ليس فيهما فساد فكذا هاهنا.

فإن قيل: إنّ قوله: «أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ» شكّ و هو على اللّه لا يجوز؛ فالمراد أنّه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين و وقوع الارتداد.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 145]

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

. وجه تعلّق هذه الآية بما قبلها أنّ المنافقين أرجفوا أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد قتل فاللّه تعالى يقول: إنّه لا يموت إلّا بإذن اللّه و قضائه و قدره، و تحريض المؤمنين على الجهاد بإعلامهم أنّ الحذر لا يدفع القدر و أنّ أحدا لا يموت قبل الأجل و إذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشي ء و لا فائدة في الحبس و الخوف، و لأنّ المنافقين لمّا رجع أصحاب أحد و قتل منهم من قتل قالوا: «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا» (1) فأجابهم اللّه أنّ الموت و القتل لا يكونان إلّا بإذن اللّه.

و المراد من إذن اللّه في الآية أمر اللّه تعالى أنّه يأمر ملك الموت بقبض الأرواح.

أو المراد من الإذن تكوين اللّه و تخليقه. و قيل: المراد من الإذن تخلية اللّه و ترك المنع بالقهر و الإجبار. فيكون المعنى يتخلّى اللّه بين القاتل و المقتول. و قيل: المراد من الإذن العلم؛ فالمعنى أنّ نفسا لن تموت إلّا في الوقت الّذي علم اللّه موتها فيه. و قال ابن عبّاس: معنى إذن اللّه في الآية قضاؤه. قال الأخفش اللام في «لِنَفْسٍ» معناها النفي، و التقدير: و ما كانت نفس لتموت إلّا بإذن اللّه.

و حاصل المعنى: ما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس إلّا بمشيئته [كِتاباً مُؤَجَّلًا] مسمّى في علمه أي كتب الموت كتابا موقّتا بوقت معلوم [وَ مَنْ يُرِدْ] بعلمه [ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها] أي من ثواب الدنيا و في الآية تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم احد.

[وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها] من ثواب الآخرة ما يشاء من الأصناف حسبما جرى به الوعد الكريم [وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ نعمة الإسلام الثابتين عليه الّذين جاهدوا

ص: 284


1- السورة: 156.

في سبيل اللّه تحقيقا لتكون كلمة اللّه هي العليا لا لذكر الجميل و الغنائم.

قال رسول اللّه: من كانت نيّته طلب الآخرة جعل اللّه غناه في قلبه و جمع له شمله و أتته الدنيا و هي راغمة، و من كانت نيّته طلب الدنيا جعل اللّه الفقر بين عينيه و شتّت عليه شمله و لا يأتيه منها إلّا ما كتب له.

[سورة آل عمران (3): آية 146]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

. في الآية تنبيه للمنهزمين يوم أحد بأنّ لكم بالأنبياء المتقدّمين و أتباعهم أسوة حسنة فكيف يليق بكم هذا الفرار و الانهزام؟ قرأ ابن كثير «و كائن» على وزن «كاعن» مهموزا مخفّفا و الباقون قرءوا «كَأَيِّنْ» على وزن «كصيّب» و هي لفظة مركّبة من كاف التشبيه و «أيّ» حدث فيها بعد التركيب معنى التكثير كما حدث في «كذا و كذا» و النون فيها نون التنوين تثبت في الخطّ بغير قياس، و قرئ على خمس لغات اثنتين منها هي اللغتين المذكورتين و الثالث مثل «كإين» على وزن كعين، و الرابعة «كيئن» بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة و هي قلب ما قلبها، و الخامسة «كأن» مثل «كعن» مخفّفة و قد قرئ بكلّ منها و محلّها الرفع بالابتداء.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو «قتل معه ربّيّون» و الباقون قرءوا «قاتَلَ مَعَهُ».

فعلى القراءة الاولى معناه أنّ كثيرا من أصحاب الأنبياء قتلوا و الّذين بقوا من بعدهم [فَما وَهَنُوا] في دينهم بل استمرّوا على جهاد أعدائهم و نصرة دينهم، ينبغي أن يكون حالكم يا امّة محمّد كحالهم.

أو أنّ المعنى: و كأيّن من نبيّ قتل ممّن كان معه و على دينه ربّيّون، أي أخيار فقهاء منسوبون إلى الربّ موحّدون فما ضعف الباقون و لا استكانوا لقتل من قتل منهم بل مضوا على جهاد أعداء الدين فينبغي أن يكون حالكم كحالهم.

و من قرأ «قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ» فالمعنى: و كم من نبيّ قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوّهم قرح فما وهنوا فكيف ينبغي لكم أن تفعلوا ذلك؟ و المراد ترغيب الأصحاب و المسلمين في الجهاد مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 285

[وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ على مقاساة الشدائد في سبيله.

[سورة آل عمران (3): آية 147]

وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)

. أي إنّهم كانوا عند لقاء العدوّ و اقتحام مضائق الحرب يقولون: [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا] أي صغائرنا [وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا] أي تجاوزنا الحدّ في ركوب الكبائر. و أضافوا الذنوب و الإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربّانيّين هضما لنفوسهم، و حاصل المعنى: ما كان قولهم إلّا طلب المغفرة و تثبيت الأقدام عند ملاقات للعدوّ، أو المراد التثبيت في الدين.

[وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ و لم يزالوا مواظبين على هذا الاستغفار و الدعاء من غير أن يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع و التزلزل، و فيه تعريض بالمنهزمين ما لا يخفى.

تذييل: قال صاحب الكشّاف: الربّيّون الربّانيّون، و قرئ بالحركات الثلاث في الراء، و الفتح على القياس، و الفتح و الكسر من تغييرات النسب. و قال الزجّاج: هم الجماعات الكثيرة الواحد «ربّيّ» قال ابن قتيبة أصله من «الربّة» و هي الجماعة. و قال ابن زيد:

الربّانيّون الأئمّة و الولاة، و الربّيّون الرعيّة و هم المنتسبون إلى الربّ.

[سورة آل عمران (3): آية 148]

فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

. أي أعطاهم النصر و الغنيمة و العزّ و الشرف و الذكر الجميل، و ثواب الآخرة الجنّة و النعيم المخلّد [وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و محبّة اللّه مبدأ لكلّ سعادة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 149 الى 150]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)

هذه الآية من تمام كلام الأوّل و ذلك أنّ الكفّار لمّا ارجفوا أنّ النبيّ قد قتل، و قال المنافقون: إنّه قد ضعف حاله بسبب انكساره في أحد و لو كان على الحقّ لم ينكسر.

و دعوا ضعفة المسلمين إلى الكفر، منع اللّه المسلمين بهذه الآية عن الالتفات بكلام الكفّار و المنافقون فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، الآية] قيل: المراد من «الَّذِينَ كَفَرُوا» أبو سفيان لأنّه كان ذلك اليوم كبيرهم و شجرة الكفر. و قيل: المراد عبد اللّه بن ابيّ و أصحابه من المنافقين

ص: 286

لأنّه كان يقول: إنّ محمّد رجل كسائر الناس يوما له و يوما عليه فارجعوا إلى دينكم الّذي كنتم فيه. و قيل: المراد اليهود الّذين في المدينة و إنّهم كانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين لا سيّما عند وقوع هذه الفتنة. و الصحيح أنّه يتناول كلّ الكفّار لأنّ اللفظ عام و خصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ.

[إِنْ تُطِيعُوا] الكفّار يدخلوكم في دينهم فيكون الجور بعد الكور فإذن ترجعون [خاسِرِينَ كرامة الدنيا و سعادة الآخرة: أمّا الدنيا فبانقيادكم للعدوّ و التذلّل له و أمّا الآخرة العذاب الدائم و الحرمان من الجنّة.

[بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي هم ليسوا أنصاركم حتّى تطيعوهم، بل اللّه ناصركم [وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فأطيعوه.

[سورة آل عمران (3): آية 151]

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)

. و اختلفوا في أنّ هذا الوعد هل هو مختصّ بيوم أحد أو هو عامّ في جميع الأوقات؟

قال جماعة من المفسّرين: إنّه مختصّ بأحد و ذكروا كيفيّة إلقاء الرعب في هذا اليوم بأنّ المشركين لمّا استولوا على المسلمين و هزموهم أوقع اللّه الرعب في قلوب المشركين فتركوهم و فرّوا من غير سبب مع أنّ الغلبة كانت لهم حتّى روي أنّ أبا سفيان صعد الجبل و قال: أين ابن أبي كبشة و أين أصحابه؟ و ما تجاسر على النزول من الجبل و الذهاب إليهم، و رجع أبو سفيان و ذهب هو و أصحابه إلى مكّة فلمّا كانوا في بعض الطريق قالوا: ما صنعنا شيئا قتلنا الأكثرين منهم ثمّ تركناهم و نحن قاهرون، ارجعوا حتّى نستأصلهم بالكلّيّة و عزموا على الرجوع فألقى اللّه الرعب في قلوبهم.

و قيل: إنّ هذا الوعد غير مختصّ بيوم أحد و إنّه تعالى وعد أنّه سيلقي الرعب منكم في قلوب الكافرين بعد ذلك حتّى يظهر دينكم.

[بِما أَشْرَكُوا] أي إلقاء الرعب بسبب إشراكهم به تعالى فإنّه من موجبات خذلانهم [ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً] أي أشركوا في عبادة اللّه ما لم ينزّل به سلطانا و قدرة و هم يوهمون أنّ فيه سلطانا و اللّه ما أنزله و ما أظهره و ليس لما يشركونه به تعالى سلطة و قدرة و لم يجعل

ص: 287

لهم في ذلك برهانا و حجّة.

و «السلطان» هاهنا الحجّة و البرهان؛ قال الزجّاج: اشتقاقه من «السليط» و هو الّذي يضاء به السراج. و قال الليث: أصل بناء السلطان من «التسليط» و يسمّى البرهان سلطانا لقوّته على دفع الباطل. قال ابن دريد: سلطان كلّ شي ء حدّته و هو مأخوذ من اللسان السليط، و السلاطة معناها الحدّة و أصل مادّة الرعب المل ء فقال: سبيل راعب إذا ملأ الوادي فسمّي الفزع رعبا لأنّه يملأ القلب خوفا انتهى.

و في الآية إيذان بأنّ المتّبع في الأمور هو البرهان السماويّ دون الآراء و الأهواء الباطلة.

[وَ مَأْواهُمُ النَّارُ] لا ملجأ لهم غيرها و إليها يأوون و يسكنون [وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ و المخصوص بالذمّ محذوف أي النار مثواهم و في قوله: «مثواهم» بعد ذكر «مَأْواهُمُ» إشعار إلى الخلود لأنّ المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث.

[سورة آل عمران (3): آية 152]

وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

. نزلت الآية حين قال ناس من المؤمنين عند رجوعهم إلى المدينة بعد احد: من أين أصبنا هذا و قد وعدنا اللّه بالنصر؟ و هو ما وعدهم على لسان نبيّه من النصر حيث قال صلّى اللّه عليه و آله: للرماة لا تبرحوا مكانكم فإنّا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان و قد كان كذلك؛ فإنّ المشركين لمّا أقبلوا جعل الرماة يرشّفون نبلهم و الباقون يضربون بالسيوف حتّى انهزموا و المسلمون على آثارهم يقتلونهم قتلا ذريعا و ذلك قوله:

[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلونهم و تبطلون حسّهم و حياتهم؛ قال ابن قتيبة: «الحسّ» القتل الذريع يقال: جراد محسوس إذ قتله البرد. يقال: بطنه، إذا أصاب بطنه، و رأسه إذا أصاب رأسه. أو الوعد بالنصر وقع من كلامه تعالى حيث قال: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ» و كان الوعد مشروطا بالصبر و التقوى فإذا انتفى الشرط

ص: 288

انتفى المشروط. «إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ» أي تقتلونهم بعلمه أو بأمره.

[حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي جبنتم و ضعف رأيكم أو ملتم إلى الغنيمة فإنّ الحرص من ضعف القلب [وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ] أي في أمر الرسول فقال بعض الرماة حين انهزم المشركون و المسلمون على أعقابهم: فما موقفنا هذا؟ و قال رئيسهم عبد اللّه بن جبير: لا نخالف أمر الرسول فثبت مكانه في نفر دون العشرة من أصحابه و نفر الباقون للنهب و الغنيمة و ذلك قوله تعالى:

[وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من الظفر و الغنيمة و انهزام العدوّ صرتم فريقين [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا] و هم الّذين تركوا المركز و أقبلوا على النهب [وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ] و هم الّذين ثبتوا مكانهم حتّى نالوا شرف الشهادة.

[ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ قال أبو مسلم معناه أنّه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفّار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم و فشلهم «لِيَبْتَلِيَكُمْ» أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى اللّه بسبب عصيانكم و ميلكم إلى الغنيمة و يعاملكم معاملة المختبر في الثواب و العقاب.

فإن قيل: لمّا كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصّة بالبعض دون الكلّ فلم جاء هذا العتاب باللفظ العامّ؟

فالجواب: هذا اللفظ و إن كان عامّا إلّا أنّه جاء المخصّص بعده و هو قوله: «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ».

قال الرازيّ في المفاتيح: و قد اختلف قول أصحابنا و قول المعتزلة في معنى قوله تعالى: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ» و ذلك لأنّ صرفهم عن الكفّار معصية فكيف أضافه إلى نفسه؟

أمّا عند أصحابنا فهذا الإشكال غير وارد عليهم لأنّ مذهبهم أنّ الخير و الشرّ بإرادة اللّه و تخليقه فعلى هذا قالوا: معنى الآية أنّ اللّه ردّ المسلمين عن الكفّار و ألقى الهزيمة عليهم و سلّط الكفّار عليهم.

و قالت المعتزلة: هذا المعنى غير جائز و يدلّ عليه القرآن و العقل: أمّا القرآن فهو

ص: 289

قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا» (1) فأضاف ما كان منهم إلى الشيطان فكيف يضيفه إلى نفسه بعد هذا؟ و أمّا المعقول فهو أنّه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف و لو كان بفعل اللّه لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم و قصرهم.

قالوا: و لمّا كانت الآية مشتملة على فريقين: عاصية و هم الّذين خالفوا ابن جبير و أخلّوا الجبل، و غير عاصية و هم الّذين تثبّتوا معه و لم يفارقوه أدّب اللّه الطائفة و قال: [وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ و أدبه تعالى ذلك الصرف ليتوبوا إلى اللّه و لا شكّ أنّهم أذنبوا لأنّهم خالفوا نصّ الرسول و صارت تلك المخالفة سببا لانهزام المسلمين و قتل جمع عظيم.

قال الرازيّ: ظاهر هذه الآية يدلّ على أنّه قد يعفو عن أصحاب الكبائر لأنّه تعالى عفا عنهم من غير توبة؛ لأنّ التوبة غير مذكورة، انتهى كلام الرازيّ.

[وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي شأنه أن يتفضّل عليهم بالعفو أديل لهم أو أديل عليهم؛ إذ الابتلاء أيضا رحمة.

قوله: [سورة آل عمران (3): آية 153]

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)

. و لمّا قال سبحانه: «وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ» لا بدّ و أن يتعلّق بأمر اقترفوه و ذلك الأمر بيّنه بقوله: [إِذْ تُصْعِدُونَ و المراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان و الأخذ في الوادي كالمنهزمين [لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ] و لا تلتفتون من شدّة الهرب و أصل «اللوى» العرج على الشي ء يلوي إليه عنقه أو عنان دابّته، و يستعمل في ترك الالتفات إلى شي ء و لا يعطف عليه و لا يبالي به.

ثمّ قال: [وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا عباد اللّه إليّ أنا رسول اللّه من كرّ فله الجنّة، كان يدعوهم صلّى اللّه عليه و آله و هو واقف في آخرهم يقال: جاء فلان في أخريات الناس أي آخرهم لأنّ القوم بسبب الهزيمة قد تقدّموه.

ثمّ قال: [فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ و لفظ الثواب يستعمل على الأغلب في الخير و يجوز

ص: 290


1- السورة: 155.

أيضا استعماله في الشرّ، و أصل الثواب معناه الرجوع و ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرّا فإن حملناه على استعمال الأغلب كان ذلك واردا على سبيل التهكّم كما يقال: تحيّتك الضرب. و إن حملناه على أصل اللغة استقام الكلام أي جزينا و عاوضنا غمّا لمّا آذقتم الرسول غمّا بسبب أن عصيتم أمره فاللّه أذاقكم هذا الغمّ و هو الغمّ الّذي حصل لكم من الهزيمة و قتل الأحباب فالمعنى: جازاكم من ذلك الغمّ بهذا الغمّ. قيل: المراد يريد غمّ أحد للمسلمين بغمّ بدر للمشركين.

[لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ أي لتمترنوا على الصبر في الشدائد و تعتادوا بجرع الغموم فلا تحزنوا على نفع فات أو ضرّآت. و قيل: معناه فعل بكم هذا الغمّ لأن لا تحزنوا ما فاتكم من الغنيمة و لا تتركوا أمر النبيّ و لئلّا تحزنوا على ما أصابكم و ليكون غمّكم بأن خالفتم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقط حتّى يشغلكم حزنكم على سوء صنعكم من الحزن على غيره.

و قيل: وجه آخر أي «و لقد عفا عنكم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم» فإنّ عفو اللّه يذهب كلّ حزن.

[وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيه ترغيب في الطاعة و ترهيب عن المعصية. ثمّ ذكر ما أنعم عليهم بعد ذلك حتّى تراجعوا و أقبلوا يعتذرون إلى رسول اللّه.

[سورة آل عمران (3): آية 154]

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)

. إنّ الّذين كانوا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم أحد فريقان:

أحدهما كانوا جازمين بأنّه صلّى اللّه عليه و آله نبيّ حقّا و أنّه صلّى اللّه عليه و آله أخبرهم بأنّ اللّه ينصر هذا الدين فكانوا قاطعين بأنّ هذه الواقعة لا تؤدّي إلى الاستيصال و كانوا آمنين و بلغ ذلك الأمن إلى حيث غشيهم النعاس؛ فإنّ النوم لا يكون مع الخوف.

ص: 291

و أمّا الطائفة الثانية و هم المنافقون الّذين كانوا شاكّين في نبوّته و ما حضروا إلّا لطلب الغنيمة فهؤلاء اشتدّ جزعهم و عظم خوفهم فوصف سبحانه حال كلّ واحدة من هاتين الطائفتين فقال في صفة المؤمنين:

[ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً] «و الأمنة» مصدر «كالأمن» و مثله من المصادر: العظمة و الغلبة يقال: أمن فلان يأمن أمنا و أمنة و أمانا.

و قرأ صاحب الكشّاف «أمنة» بسكون الميم لأنّها المرّة من الأمن، و «نُعاساً» إمّا يكون بدلا من «أَمَنَةً» أو مفعولا، و «أمنة» يجوز أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى «ذوي أمنة» و الأوجه أن يكون «أَمَنَةً» منصوبة على المفعوليّة و «نُعاساً» بدلا منه أي أعطى و وهب لكم أيّها المؤمنون. «و أَنْزَلَ» مجاز من أعطى أمنا و سنّا.

قال أبو طلحة: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت لا أرى أحدا من القوم إلّا و هو يميد تحت حجفته من النعاس و كنت ممّن القي عليه النعاس يومئذ فكان السيف يسقط من يدي فأخذه ثمّ يسقط السوط فآخذه. و فيه دلالة على أنّ من المؤمنين من لم يلق عليه النعاس كما ينبئ عنه قوله تعالى: «يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» و هم المهاجرون و عامّة الأنصار و لا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكلّ، و الجملة في محلّ النصب صفة لنعاسا.

[وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي أوقعتهم في الهموم و الأحزان و ما بهم إلّا همّ أنفسهم و قصد خلاصها و هم المنافقون [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ حال من ضمير «أَهَمَّتْهُمْ» غير الظنّ الحقّ الّذي يجب أن يظنّ به سبحانه [ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ] بدل منه و هو الظنّ المختصّ بالملّة الجاهليّة و أهلها.

و قوله: «ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ» هو أنّهم كانوا ينكرون الإله العالم بكلّ المعلومات القادر على جميع المقدورات و هم عبد اللّه بن ابيّ و معتب بن قشير و أصحابهما و ينكرون النبوّة و البعث فلا جرم ما وثقوا بقول الرسول و عظم الخوف فيهم. و هذا الأمن كان معجزة عظيمة لأنّ الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتل المؤمنين فبقاؤهم في النعاس مع السلامة في مثل تلك الحالة من أدلّ الدلائل على أنّ حفظ اللّه معهم و كيف يكون الإنسان في مثل هذه الحالة المضطربة خصوصا في أحد أن ينعس و ينام؟

ص: 292

و فسّر بعض أنّ المراد من ذكر النعاس في هذه الموضع كناية عن غاية الأمن قال الرازيّ: و هذا ضعيف لأنّ صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلّا عند قيام الدليل المعارض.

و قرئ «تغشى» بالتاء ردّا إلى «الأمنة» و الباقون بالياء ردّا إلى «النعاس» محتجّا بأنّ النعاس بدل الأمنة و الكناية إلى الأصل أحسن، و يمكن ظنّهم بغير الحقّ كانوا يقولون: لو كان محمّد محقّا في دعواه لما سلّط عليه، و هذا غلط فاسد؛ لأنّ المصالح في أحكام اللّه جارية فلعلّ أن يكون للّه تعالى في التخلية بين الكافر و المسلم حكم خفيّة، هذا عندنا و عند المعتزلة.

و أمّا عند أهل السنّة و الجماعة «يَفْعَلُ ما يَشاءُ* و يَحْكُمُ ما يُرِيدُ» لا اعتراض لأحد عليه و المراد من قوله «ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ» ظنّ أهل الجاهليّة.

[يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ] قيل: في معناه وجوه: الأوّل أنّ عبد اللّه بن ابيّ لمّا شاوره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في هذا الأمر أشار عليه أن لا يخرج من المدينة و الصحابة ألحّوا عليه بالخروج فغضب عبد اللّه عن ذلك فقال: عصاني و أطاع الولدان ثمّ لمّا كثر القتل في الخزرج قيل لعبد اللّه: قتل بنو الخزرج. فقال عبد اللّه: هل لنا من الأمر من شي ء.

يعنى أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لم يقبل قولي حين أمرته أن لا يخرج من المدينة، فحكاه اللّه عنهم أي لو أطاعونا ما قتلوا، و هو استفهام على سبيل الإنكار.

الوجه الثاني أنّ من عادة العرب أنّه إذا كانت الدولة لعدوّه قالوا: عليه الأمر؛ فقوله: «هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ» أي هل لنا من الشي ء الّذي كان يعدنا به محمّد صلّى اللّه عليه و آله- و هو النصرة- شي ء؟ و هذا استفهام على سبيل الإنكار و كان غرضهم أنّ ما يعدكم به محمّد صلّى اللّه عليه و آله كذب؛ فأجاب اللّه بقوله: [قُلْ يا محمّد: [إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ .

ثمّ قال: [يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ حال من ضمير «يَقُولُونَ» أي مظهرين أنّهم مسترشدون طالبون للنصرة مبطنين الإنكار و التكذيب [يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ] كأنّه قيل: أيّ شي ء يخفون؟ فقيل: يحدّثون و يقولون بعضهم لبعض فيما بينهم خفية:

«لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ» كما وعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالغلبة [ما قُتِلْنا هاهُنا] في المعركة.

[قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ و لو لم تخرجوا إلى أحد و قعدتم بالمدينة كما زعمتم

ص: 293

[لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في اللوح بسبب من الأسباب [إِلى مصارعهم و قتلوا هناك البتّة و لم تنفع الإقامة بالمدينة قطعا.

و حاصل المعنى أنّه إنّكم أيّها المنافقون لو كنتم في منازلكم لخرج الّذين كتب و قدّر عليهم الموت و القتل في اللوح المحفوظ في ذلك الوقت إلى مصارعهم.

و قيل: معنى الآية أنّكم أيّها المنافقون و المرتابون لو تخلّفتم عن القتال لخرج الّذين آمنوا باللّه و فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون و يقتلون و ما تخلّفوا.

[وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليختبر اللّه ما في نيّاتكم و قد علمه سبحانه عينا لكن لتكون العلم مشاهدة لأنّ المجازاة لا بدّ و أن تقع على ما علم مشاهدة لا على ما هو معلوم منهم، و هذه فائدة الامتحان من اللّه.

[وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ و يخلصه و يكشفه من مخفيّات الأمور [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] أي السرائر و الضمائر الّتي لا تكاد تفارق الصدور و تلازمها.

[سورة آل عمران (3): الآيات 155 الى 158]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)

[إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ من المسلمين و المنهزمين و المنافقين [إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ و هم المنهزمون أي إنّما كان سبب انهزامهم أنّ الشيطان طلب منهم الزلل و دعاهم إليه ببعض ما كسبوا من الذنوب و المعاصي الّتي هي مخالفة الرسول و ترك المركز و الحرص على الغنيمة و الحياة فحرموا التأييد.

[وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لتوبتهم و اعتذارهم [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة المذنب ليتوب. و الإنسان بالعمل يتمكّن أن يصل إلى مقام يعجز الشيطان عن إغوائه و وسوسته.

ص: 294

حكي أنّ بعض السالكين رأى إبليس في المنام يبثّ جنوده و أولاده لإغواء بني آدم و كان اللعين عريانا فقال السالك للشيطان حين رآه عريانا: أ لا تستحيي من الناس؟ فقال الشيطان:

ليس هؤلاء ناس، الناس أقوام في مسجد الشونسريّة أفنوا جسدي و احترقوا كبدي قال ذلك السالك- و أظنّه الجنيد-: فلمّا انتهيت غدوت إلى المسجد فرأيت جماعة وضعوا رؤوسهم على ركبتهم متفكّرين فلمّا رأوني قالوا: لا يغرنّك حديث الخبيث.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا] و هم المنافقون القائلون: «لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» [وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ و معنى «الاخوّة» اتّفاقهم نسبا أو عقيدة [إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا فيها و أبعدوا للتجارة، و الضرب في الأرض الإيغال في السير، فماتوا و إنّما خصّ الأرض بالذكر لأنّ أكثر أسفارهم في البرّ أو اكتفى بذكر «البرّ» عن البحر كقوله: «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» أو الأرض يشمل البرّ و البحر.

[أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا] أو كانوا غزاة و «غزّى» جمع غازي و هو على وزن طلّب في طالب، فقتلوا و كان مقول قولهم: [لَوْ كانُوا] مقيمين [عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ اللام لام العاقبة أي قالوا هذا القول ليمنعوا المؤمنين عن الجهاد فلم يمتنعوا و لم يقبلوا منهم و خرجوا للغزو فصار حسرة في قلوب المنافقين.

و قيل: المعنى و لا تكونوا أيّها المؤمنون كهؤلاء الكفّار و المنافقين في هذه المقالة و العقيدة لكي يجعل اللّه تلك المقالة سببا لإلزام الحسرة و الحزن في قلوبهم فيما أمّلوا منكم من الموافقة معهم لما فاتهم من عزّ الظفر و الغنيمة. و على هذا المعنى فاللام ليست للعاقبة بل لام العلّة.

[وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ أي هو المحيي و المميت من غير أن يكون للإقامة أو السفر فإنّه قد يحيي المسافر و الغازي مع اقتحامهما لموارد الحتوف و يميت القاعد و المقيم مع حيازتهما لأسباب السلامة [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] فلا تكونوا مثل هؤلاء المنافقين.

[وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي إن قتلتم أو متّم في دينه و سبيله و أنتم مؤمنين، و اللام هي الموطّئة للقسم المحذوف و جوابه «لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ» و حذف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مسدّه للدلالة عليه. و المعني: و باللّه

ص: 295

أنّ الغزو و السفر ليس ممّا يوجب الموت و تقدّم الأجل، و لئن وقع ذلك بأمر اللّه لنفحة يسيرة من مغفرة و رحمة كائنتين من اللّه بمقابلة ذلك خير ممّا يجمعون الكفرة من منافع الدنيا و طيّباتها مدّة أعمارهم.

فإن قيل: كيف يكون المغفرة خير ممّا يجمعون و لا خير فيما يجمعون أصلا؟

فالجواب أنّه وارد بزعمهم و معتقدهم و أنّهم يحسبون أنّه خير.

[وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ على أيّ وجه اتّفق هلاككم [لَإِلَى اللَّهِ أي إلى المعبود العظيم الشأن [تُحْشَرُونَ لا إلى غيره فيوفّي اجوركم فبين الحشر مع المغفرة و الحشر بدون المغفرة فرق كثير.

روي أنّ عيسى بن مريم عليه السّلام مرّ بقوم نحفت أبدانهم و اصفرّت وجوههم و رأى عليهم أثر العبادة فقال لهم: ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب اللّه، فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثمّ مرّ بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا: نطلب الجنّة و الرحمة، فقال عليه السّلام: هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثمّ مرّ بقوم ثالث و رأى آثار العبوديّة عليهم أكثر فسألهم فقالوا: نعبده لأنّه إلهنا و نحن عبيده لا لرغبة و لا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصون، انتهى.

و هذا المقام لا يمكن تحصيله إلّا بالتجريد و الفناء؛ حكي أنّ امرأة قالت لجماعة من الكرماء: ما السخاء عندكم؟ قالوا: بذل المال، قالت: هو سخاء أهل الدنيا و العوامّ فما سخاء الخواصّ؟ قالوا: بذل المجهود في الطاعة، قالت: ترجون الثواب؟ قالوا: نعم قالت: تأخذون العشرة بواحد لقوله: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» (1) فأين السخاء؟ قالوا: فما عندك؟

قالت: العمل للّه لا للجنّة و لا للنار و لا للثواب و خوف العقاب.

[سورة آل عمران (3): آية 159]

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

. «ما» زائدة مؤكّدة للكلام ليتمكّن المعنى في النفس فجرى مجرى التكرير بيّن سبحانه

ص: 296


1- الانعام: 161.

أنّ مساهلة النبيّ إيّاهم و مجاوزته عنهم من رحمته تعالى أي بسبب رحمة اللّه، رحمة عظيمة كائنة من اللّه و هي تخصيصه بمكارم الأخلاق. كنت ليّن الجوانب لهم و عاملتهم بالرفق و التلطّف بعد ما كان منهم من المخالفة.

[وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ أي جافيا بين الخلق قاسي القلب غير رؤوف [لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ و تفرّق أصحابك و نفروا منك، فنفى سبحانه تعالى الفضاضة عن لسانه و القساوة عن قلبه [فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يتعلّق بحقوقك [وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما يتعلّق بحقوقه تعالى إكمالا للبرّ بهم [وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ] أي استخرج آراءهم من قولهم: شرت العسل إذا استخرجته من مواضع النحل.

و فائدة الاستشارة الاستعلام عمّا عندهم و التطييب لنفوسهم و حصول التأليف لهم أو ليمتحنهم بالمشاورة ليميّز الناصح من الغاشي، و لعلّ المراد إجلال أصحابه و ليقتدي امّته في لقاء العدوّ و الحرب، و ليس المراد أنّك تجهل أمرا و ستعلم من مشاورتهم و كيف يحتاج إلى رأيهم و هو مستغن بالوحي عن تعرّف الثواب و الخطاء؟ و القلم الأعلى علمه صلّى اللّه عليه و آله و اللوح كتابه و دفتره فكيف يكون محتاجا إلى شورهم؟ هيهات أين الثرى و الثريّا؟ و لو كان المراد مثل قولهم: «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة» و يريد اقتداء امّته بهذه السنّة فذلك أيضا في امور مجهولة معزوبة عن علم بعضهم مثل أنّ تاجر الثمار مثلا لا يعرف أنّ تمر البصرة شراؤها أنفع أم تمر الهجر فيستشير منه أيّهما اشترى أنفع، و أمثال هذه الأمور لا أن يتشاوروا بينهم أن يجعلوا حدّ الزاني ألف جلدة إذا كان فقيرا و واحدة إذا كان ذا شرف، و نعم ما قال أمير المؤمنين: فيا للّه و للشورى! قال الرازيّ: ثمّ إنّه اتّفق أهل الإسلام و أجمعوا على أنّ ما نزل فيه وحي من عند اللّه لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمّة لأنّه إذا جاء النصّ بطل الرأي و القياس فأمّا ما لا نصّ فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا؟

قال الكلبيّ و كثير من العلماء: هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب و حجّتهم أنّ الألف و اللام في «الْأَمْرِ» للاستغراق و لمّا بيّنّا أنّ الّذي ينزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه فوجب حمل الألف و اللام هاهنا على المعهود السابق و المعهود السابق في هذه الآية إنّما

ص: 297

هو ما يتعلّق بالحرب و لقاء العدوّ فكأنّ قوله: «وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» مختصّا بذلك. و قال بعض:

اللفظ عام خصّ عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجّيّته في الباقي.

و بالجملة فالقدر المتيقّن أنّ المشورة فيما نصّ عليه غير جائزة. قال العلّامة أبو السعود: إنّ الآية قرئت: و شاورهم في بعض الأمر.

[فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي إذا عقدت قلبك على الفعل و إمضائه، و عن جعفر ابن محمّد عليه السّلام و عن جابر بن يزيد «فَإِذا عَزَمْتَ» بضمّ التاء فعلى هذا يكون المعنى: فإذا عزمت لك و أرشدتك فاعتمد على اللّه وثق به و فوّض أمرك إليه.

[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ الواثقين به و المنقطعين إليه، و الانقطاع إليه لا ينافي مع مراعاة الأسباب الظاهرة لكنّ الإنسان يكون يعلم أنّ المؤثّر هو اللّه لا الأسباب، و الحكمة اقتضت أن يجري الأمور بالأسباب فحينئذ لا يجوز لك ترك الأسباب و إذا تركت الأسباب خالفت الحكمة و كأنّك أردت ما لم يرد اللّه، نعم لا يجوز أن يعوّل بقلبه على الأسباب و قد يكون التعطيل معصية.

[سورة آل عمران (3): آية 160]

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

. و النصر نوعان: معونة و منع، أي إن يعنكم اللّه و يمنعكم من عدوّكم و يكلؤكم كما فعل يوم بدر ذلك [فَلا غالِبَ لَكُمْ فلا أحد يغلبكم [وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ الخذلان القعود عن النصرة أي إن يترككم و لم ينصركم كما فعل يوم احد [فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي بعد خذلانه، و هذا تنبيه على أنّ الأمر كلّه له؛ و لذا قال و أمر بالتوكّل عليه [وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و من التوكّل أن لا تعتقد لنفسك ناصرا غيره و لا لرزقك خازنا غيره قال صلّى اللّه عليه و آله: لو أنّكم تتوكّلون على اللّه حقّ توكّله ليرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا و تروح بطانا. و من نصرته تعالى أن ينصرك على نفسك فإنّها أعدى عدوّك، و حقيقة خذلانه التخلية بينك و بين نفسك فحينئذ لا جابر لكسرك و لا آخذ ليدك.

[سورة آل عمران (3): آية 161]

وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)

.

ص: 298

النزول: عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير أنّها نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من المغانم فقال بعضهم: لعلّ النبيّ أخذها. قال الضحّاك: إنّ رجلا غلّ بمخيط من غنائم هوازن يوم حنين فنزلت الآية.

و قال مقاتل: إنّها نزلت في غنائم أحد حين تركت الرماة المركز طلبا للغنيمة و قالوا: نخاف أن يقول رسول اللّه: من أخذ شيئا فهو له و لا يقسّم كما لم يقسّم يوم بدر، و وقعوا في الغنائم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ ظننتم أنّا نغلّ أي نخون و لا نقسّم لكم؟

فأنزل اللّه الآية.

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله يقرأ القرآن و فيه عيب آلهتهم و عيب دينهم و يؤدّي الوحي فسألوه أن يطوي ذلك فأنزل اللّه الآية.

و قيل: إنّ أشراف الناس من صحابته طمعوا أن يخصّهم النبيّ من الغنائم بشي ء زائد، فنزلت الآية.

و الغلول هو الخيانة و أصله أخذ الشي ء في الخفية يقال: أغلّ الجازر و السالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم على طريق الخيانة؛ قال صلّى اللّه عليه و آله: من بعثناه على عمل فغلّ شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه، و قال صلّى اللّه عليه و آله: هدايا الولاة غلول، و قال صلّى اللّه عليه و آله: لا إغلال و لا إسلال أي لا خيانة و لا رشوة. المعنى في الآية: لمّا كانت الآيات السابقة بيان أمر الجهاد ذكر في هذه الآية بيان ما يتعلّق به من أمر الغنائم و النهي عن الخيانة فيها. و قرئ «يغلّ» على البناء للمجهول فعلى هذا يوافق الآية في شأن نزولها قول الضحّاك.

[وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ أي لا تجتمع النبوّة و الغلول كقوله: «ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ» و على القراءة للبناء للمجهول أي ما كان لنبيّ أن يخونه أصحابه و يكتمونه شيئا من المغنم على ما مضى فيه القول. و على قراءة المعلوم خصّه صلّى اللّه عليه و آله بالذكر و إن كان لا يجوز أن يغلّ غيره من أحد لأنّ النبيّ قائم بأمر الغنائم فإذا حرّمت عليه و هو صاحب الأمر فحرمتها على غيره أولى.

[وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ] أي يأتي حاملا على ظهره كما روي في حديث طويل: ألا لا يغلّنّ أحد بعيرا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء، ألا لا يغلّنّ أحد فرسا

ص: 299

فيأتي به على ظهره له حمحمة فيقول: يا محمّد يا محمّد فأقول: قد بلّغت لا أملك لك من اللّه شيئا عن ابن عبّاس و أبي حميد أحمد الساعديّ و ابن عمر و قتادة. قال الجبّائيّ: و ذلك ليفضح به على رؤوس الأشهاد. و قد روي أنّ النبيّ كان يأمر مناديا ينادي في الناس ردّوا المخيط و الخيط فإنّ الغلول عار و شنار يوم القيامة؛ فجاء رجل بكبّه شعر فقال: إنّي أخدتها لأخيط بها برذعة بعيري فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّا نصيبي منها فهو لك، فقال الرجل: أمّا إذا بلغ الأمر هذا المبلغ فلا حاجة لي فيها. و حمل الغلول على عنقه أمارة يعرف و ذلك حكم اللّه في كلّ من وافى يوم القيامة بمعصية لم يتب منها أو أراد اللّه تعالى أن يعامله بالعدل ليعلمه أهل القيامة كما أنّ من وافى يوم القيامة بطاعة فإنّه تعالى يظهر من طاعته علامة يعرف بها.

[ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي يعطى كلّ نفس جزاء ما عملت تامّا وافيا [وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ و لا ينقص أحد عن مقدار ما يستحقّه من الثواب و لا يزاد ما يستحقّه من من العذاب.

قال الطبرسيّ: و في هذه الآية دلالة على فساد قول الجبريّة فإنّهم يقولون: إنّ اللّه لو عذّب أولياءه لم يكن ذلك منه ظلما؛ لأنّه بيّن أنّه لو لم يوفّها ما كسبت لكان ظلما.

قوله: [سورة آل عمران (3): الآيات 162 الى 163]

أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)

لمّا أمر رسول اللّه بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين و اتّبعه المؤمنون فأنزل اللّه هذه الآية.

أي [أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ في العمل بطاعته [كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ منه في العمل بمعصيته، و الهمزة للإنكار و الفاء العطف على محذوف تقديره: أمن اتّقى فاتّبع رضوان اللّه مثل من احتمل و رجع بمعصية اللّه و غضبه، و «الرضوان» مصدر كالحسبان، و قرئ بضمّ الراء كالكفران.

و حاصل المعنى أنّ من أطاع النبيّ و خالفه و من أتى بالغلول و الأمانة لا يستوي بل مأوى من باء بسخط اللّه [جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ].

ص: 300

[هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ الضمير راجع إلى الموصولين باعتبار المعنى أي طبقات متفاوتة و التقدير: ذوو درجات فوجب أن يكون بينهم تفاوتا ذاتيّا كالدرجات بسبب أعمالهم.

[وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم بحسبها، و درجات أهل السعادة متفاوتة كما أنّ دركات أهل النار متفاوتة و أهل الجنّة أصناف: الرسل و الأنبياء ثمّ الأولياء و هم أتباع الرسل على بصيرة من ربّهم، ثمّ المؤمنون و هم المصدّقون بها، ثمّ المؤمنون أيضا درجاتهم مختلفة و كلّ من هؤلاء المذكورة مراتبهم متفاوتة: منهم أصحاب منابر و هي الطبقة العليا، و منهم أصحاب الأسرّة و العروش، و منهم أصحاب الكرسيّ، و منهم على كثبان النور. و كذلك أهل الدركات متفاوتون في العذاب؛ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرّهما دماغه ينادي:

يا ربّ و هل أحد يعذّب عذابي؟

هنا ينتهي الجزء الثاني من الكتاب مشتملا على 121 آية من سورة البقرة (165- 286) و 163 آية من سورة آل عمران، و للّه الحمد و المنّة

ص: 301

كلمة المصحح

لا يرتاب من استوعب النظر في هذا الجزء و ما سبق عليه في بذل جهد رائع و سعي مشكور لنسج الكتاب على منوال جديد و نسق واحد من أوّله إلى آخره، و دقّة في تصحيحه و رقّة في ترتيبه بعد سبق اضطراب في الجزء المملوّ اضطرابا يجعل القارئ حيرانا و العاطش هيمانا.

و بودّنا- إن وفّقنا اللّه تعالى- أن نديم مشروعنا هذا إلى ختام الأجزاء. و إن عاقنا من التخريج كثرة أشغالنا فلا يصرفنا أيّ مهمّ عن إخراجه بوجه بديع يطبّي المطالع الشادي، و نحن على عزم راسخ منه إعلاء لكلمة اللّه الحقّ و إتحافا للطيفة مؤلّفة السعيد راجيا من المولى سبحانه التوفيق و الثواب، و إليه يصعد الكلم الطيّب و العمل الصالح يرفعه.

سيّد كاظم موسوى

ص: 302

المجلد 3

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

تتمة سورة آل عمران

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 164]

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

. جواب قسم محذوف، و اللام موطّئة للقسم أي و اللّه [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ و أنعم عَلَى [الْمُؤْمِنِينَ من قومه [إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من نسبهم و جنسهم عربيّا مثلهم ليفقهوا كلامه بسهولة و يكونوا واقفين على حاله في الصدق و الأمانة و في ذلك لهم شرف عظيم قال سبحانه: «وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ» (1) و قرئ «من أنفسهم» أي أشرفهم فإنّه صلى اللّه عليه و آله كان من أشرف قبائل العرب و بطونها.

و في الآية بيان براءة ساحته صلى اللّه عليه و آله من الطمع و الغلول الّذي زعم بعضهم أنّه صلى اللّه عليه و آله خصّ نفسه ببعض الغنائم.

[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي القرآن بعد ما كانوا أهل الجاهليّة لم يطرق أسماعهم الوحي.

[وَ يُزَكِّيهِمْ و يطهّرهم من دنس الطبائع و أوضار الأوزار و سوء العقائد [وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي القرآن [وَ الْحِكْمَةَ] أي السنّة فتكمل نفوسهم بحسب القوّة العلميّة و العمليّة.

و وجه المنّ و الانتفاع ببعثة الرسل في طريق الدين لأنّ الخلق جبلوا على النقصان و قلّة الفهم و عدم الدراية فهو صلى اللّه عليه و آله أصلح أمورهم بأحكام محكمة، و أنّهم جبلوا على الكسل و الغفلة و التواني فأورد عليهم أنواع الترغيبات و الترهيبات حتّى أنّهم كلّما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم ذلك البيان للطاعة.

ص: 2


1- الزخرف: 44.

تمّ إنّ أنوار عقول الخلق يجري مجرى أنوار البصر و الانتفاع بنور البصر لا يكمل إلّا عند سطوع نور الشمس و نوره صلى اللّه عليه و آله عقليّ إلهيّ يجري مجرى طلوع الشمس فتقوى العقول بنور عقله و بيانه.

[وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «إن» هي المخفّفة من المثقّلة و الضمير الشأن محذوف، و اللام فارقة بينها و بين النافية. و قيل: هي نافية و اللام بمعني «إلّا» أي و ما كانوا من قبل إلّا في ضلال مبين، و أيّا ما كان فالجملة مبيّنة لكمال النعمة و قد أرسله اللّه إلى أقوام عتاة أشراس فذلّل منهم كلّ من عتا و عاس، و نكس بمولده الأصنام على الرأس و انشقّ أيوان كسرى و سقطت منه أربع عشرة شرافة بعدد المعصومين: هو صلى اللّه عليه و آله و فاطمة و الأئمّة الاثنا عشر صلوات اللّه عليهم، و خمدت نار فارس، و بحيرة ساوه غاصت على غير القياس، و أيّام دولته كأيّام التشريق و ليلات الأعراس.

و فضائل نعمة وجوده صلى اللّه عليه و آله لا تحصى و فيما خطب به أبو طالب عليه السّلام في تزويج خديجة ذكر بعض شرافته و قد حضر معه بنو هاشم و رؤساء مضر: الحمد للّه الّذي جعلنا من ذرّيّة إبراهيم، و زرع إسماعيل، و ضئضى ء معدّ، و عنصر مضر و جعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه، و جعل لنا بيتا محجوجا و حرما أمنا و جعلنا الحكّام على الناس، ثمّ ابن أخي هذا محمّد بن عبد اللّه من لا يوزن به فتى من قريش إلّا رجّح به و هو و اللّه بعد هذا له نبأ عظيم و خطر جليل.

قالت عائشة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: قال لي جبرئيل: يا محمّد قلّبت الأرض مشارقها و مغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمّد صلى اللّه عليه و آله و لم أجد بني أب أفضل من بني هاشم ثمّ آدم و من دونه تحت اللواء.

و حكي أنّ عبد المطّلب جدّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله بينا هو نائم في الحجر انتبه مذعورا قال العبّاس: فتبعته و أنا يومئذ غلام أعقل ما يقال، فأتى كهنة قريش فقال: رأيت كأنّ سلسلة من فضّة خرجت من ظهري و لها أربعة أطراف طرف قد بلغ مشارق الأرض و طرف قد بلغ مغاربها و طرف قد بلغ عنان السماء و طرف قد جاوز الثرى فبينا أنا أنظر عادت شجرة خضراء لها نور فبينا أنا كذلك قام عليّ شيخان فقلت لأحدهما: من أنت؟ قال: أنا نوح نبيّ ربّ

ص: 3

العالمين، و قلت للآخر: من أنت؟ قال: أنا إبراهيم خليل ربّ العالمين، ثمّ انتبهت قالوا:

إن صدقت رؤياك ليخرجنّ من ظهرك نبيّ يؤمن به أهل السماوات و أهل الأرض و دلّت السلسلة على كثرة أتباعه و أنصاره و قوّتهم لتداخل السلسلة و حلقها، و رجوعها شجرة تدلّ على ثبات أمره و علوّ ذكره و سيهلك من لم يؤمن به كما هلك قوم نوح و سيظهر به ملّة إبراهيم، انتهى.

[سورة آل عمران (3): آية 165]

أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165)

. و لمّا كانت وقعة أحد قال المنافقون: لو كان رسولا من عند اللّه لما انهزم عسكره و ما وقع هذا الانكسار فأجاب اللّه عن شبهتم:

[أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ الهمزة للتقريع و التقرير و الواو عاطفة على محذوف قبلها و المعنى: أحين أصابكم من المشركين نصف ما قد أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم و قلتم من أين أصابنا هذا و قد وعدنا اللّه النصر؟ و المراد تقريعهم بسبب صدور ذلك القول عنهم في ذلك؛ فإنّ كون مصيبة عدوّهم ضعف مصيبتهم ممّا يهوّن الخطب.

و بيان ضعف مصيبة المشركين أنّ المسلمين هزموا الكفّار يوم بدر و قتلوا منهم سبعين و أسروا سبعين و ايضا هزم المسلمون المشركين في يوم احد أوّلا ثمّ لمّا عصوا و لم يستمرّوا على العكوف في المركز حسبما أمرهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله هزم المشركون المسلمين؛ فانهزام المشركين و مصيبتهم حصلت مرّتين و انهزام المسلمين حصل مرّة واحدة و هذا معنى قوله:

«قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها».

و «لمّا» ظرف «لقلتم» و متعلّق بها و إنّما دخلت الواو في قوله: «أو لمّا» لعطف جملة على جملة و قدّمتها ألف الاستفهام لأنّ له صدر الكلام و وصلت هذه الواو الكلام الثاني بالأوّل ليدلّ على تعلّقه به في المعنى.

[قُلْتُمْ أَنَّى هذا] استفهام على سبيل الإنكار لأنّه لمّا انهزم عسكره صلى اللّه عليه و آله من الكفّار يوم احد أدّى ذلك إلي أن قالوا: من أين هذا المغلوبيّة و كيف صار المشركون منصورون علينا؟ فأمر اللّه رسوله بأن يجيب عن اعتراضهم الفاسد فقال: [قُلْ هُوَ] يا محمّد:

ص: 4

هذا الانهزام إنّما حصل بشؤم عصيانكم و [مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ حيث حرصتم على الغنيمة و تركتم المركز.

[إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] و من جملته النصر عند الطاعة و الخذلان عند المخالفة صلى اللّه عليه و آله فأصابكم ما أصابكم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 166 الى 167]

وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)

و المراد من الجمعين جمع المشركين الّذين كانوا مع أبي سفيان و جمع أصحاب رسول اللّه يوم احد.

[فَبِإِذْنِ اللَّهِ و المراد من الإذن عبارة عن التخلية و ترك النصرة، استعار الإذن لتخلية الكفّار فإنّه تعالى لم يمنعهم لتبتليهم لأنّ الإذن في الشي ء لا يدفع المأذون عن مراده و لا يمنعه فلمّا كان ترك النصرة و المدافعة من لوازم الإذن أطلق لفظ الإذن على سبيل المجاز.

و قيل: المعنى «فبإذن اللّه» أي بعلمه كقوله: «وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ» (1) أي إعلام و كقوله:

«آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» (2) و قوله: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ» (3) و كلّ ذلك بمعنى العلم.

و قيل: إنّ المراد من «الإذن» أي بأمر اللّه بدليل قوله: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ» و المعنى أنّه تعالى لمّا أمر بالمحاربة ثمّ صارت تلك المحاربة مؤدّية إلى ذلك الانهزام صحّ على سبيل المجاز أن يقال: حصل ذلك بأمره.

و القول الرابع و هو قول ابن عبّاس: أنّ المراد من «الإذن» قضاء اللّه بذلك و حكمه به.

[وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا] عطف على قوله: «فَبِإِذْنِ اللَّهِ» عطف المسبّب

ص: 5


1- التوبة: 3.
2- فصلت: 47.
3- البقرة: 779.

على السبب. و المراد من العلم التمييز و الظهور فيما بين الناس و ليتميّز المنافق، و حاصل المعنى أنّ ما أصابكم يومئذ فهو كائن لتميّز الثابتين على الإيمان و الّذين نافقوا على النفاق.

[وَ قِيلَ لَهُمْ عطف على «نافقوا» قال ابن عبّاس: المنافقون هم عبد اللّه بن ابيّ و أصحابه حيث انصرفوا يوم احد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و القائل لهم عبد اللّه بن عمرو بن خرام فقال لعبد اللّه بن ابيّ و أصحابه: اذكّركم اللّه أن تخذلوا نبيّكم و قومكم و دعاهم إلى القتال و ذلك قوله:

[تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا] و المراد من قوله: «أو ادفعوا» أي ادفعوا عنّا العدوّ بتكثّر سوادنا إن لم تقاتلوا معنا. و قيل: المعنى: أو ادفعوا عن أهلكم و بلدكم و حريمكم إن لم تقاتلوا في سبيل اللّه، و ترك العطف بين «تعالوا» «و قاتلوا» لما أنّ المقصود بهما واحد و هو القتال و ذكر الأوّل توطئة له.

[قالُوا] كأنّه قيل: فما ذا صنعوا؟ فقيل: قالوا: [لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ أي لو نعلم ما يصحّ أن يسمّى قتالا لاتّبعناكم فيه لكن ما أنتم عليه ليس بقتال بل إلقاء النفس في الهلاك. و قيل: المعنى لو نعرف و نحسن قتالا لاتّبعناكم و إنّما قالوه استهزاء.

[هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ فأجابهم سبحانه عند ما ذكروا هذا الجواب فقال: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان؛ و ذلك أنّهم كانوا قبل هذه الواقعة ما ظهرت منهم أمارات تدلّ على كفرهم بحسب الظاهر فلمّا رجعوا عن عسكر المؤمنين فتباعدوا عن أن يظنّ بهم كونهم مؤمنين لأنّ عدم الوثوق بصدق النبيّ و استهزائهم بقتال المؤمنين و سخريّتهم كفر، أو المعنى أنّهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإسلام لأنّهم كانوا في الظاهر أبعد من الكفر فلمّا ظهر منهم ما كانوا يكتمون صاروا أقرب للكفر برجوعهم عن معاونة المسلمين.

[يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي يظهرون خلاف ما يضمرون، و إضافة القول إلى الأفواه تأكيد؛ فإنّ الكلام و إن كان يطلق على اللسانيّ و النفسانيّ إلّا أنّ القول لا يطلق إلّا على ما يكون باللسان و الفم فذكر الأفواه بعده تأكيد كقوله: «وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» فقوله: «بأفواههم» مع أنّ القول لا يكون إلّا من اللسان و الفم تأكيد و

ص: 6

تصوير بصورة فرده الصادر عن آلته الّتي هي الفرد.

[وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من النفاق و ما يخلو به بعضهم إلى بعض فإنّه يعلمه مفصّلا بعلم واجب و أنتم تعلمونه مجملا بأمارات.

[سورة آل عمران (3): آية 168]

الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)

. [الَّذِينَ بدل من الواو في «يكتمون» [قالُوا لِإِخْوانِهِمْ من جنس المنافقين المقتولين يوم احد، أو المراد من «إخوانهم» في سكنى الدار و في النسب فحينئذ يندرج فيهم بعض الشهداء [وَ قَعَدُوا] حال من ضمير «قالوا» بتقدير «قد» أي قالوا و قد قعدوا عن القتال معهم.

[لَوْ أَطاعُونا] فيما أمرناهم و وافقونا في ذلك [ما قُتِلُوا] كما لم نقتل، و فيه إيذان بأنّهم أمروهم بالانخذال و ترك القتال و أغووهم كما غووا.

[قُلْ تبكيتا لهم و إظهارا لكذبهم [فَادْرَؤُا] أي ادفعوا [عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله و تقدير الكلام: إن كنتم صادقين فيما ينبئ عنه قولكم من أنّكم قادرون على دفع القتل، فادفعوا عن أنفسكم الموت الّذي كتب عليكم بوقت موقّت و أنفسكم أعزّ عليكم من إخوانكم.

و اعلم أنّ الموت ليس له وقت معلوم لك و إنّما اختفى وقته ليكون المرء على اهبة للسفر و مستعدّا لذلك، و كان بعض الصالحين ينادي باللّيل على سور المدينة: الرحيل الرحيل، و توفّي آخر الليل و فقد صوته أمير تلك المدينة، فسأل عنه فقيل: إنّه مات، ما زال يلهج بالرحيل و ذكره حتّى أناخ ببابه الحمّال فأصابه متيقّظا متمشّرا ذا اهبة لم تلهه الآمال.

روي أنّ دانيال عليه السّلام مرّ بنادية فسمع مناديا: يا دانيال قف ساعة تر عجبا، فلم ير شيئا ثمّ نودي الثانية قال: فوقفت فإذا بيت يدعوني إلى نفسه فدخلت فإذا سرير مرصّع بالجواهر فإذا النداء من السرير: اصعديا دانيال تر عجبا، قال: فارتقيت السرير فإذا فراش من ذهب مشحون بالمسك و العنبر فإذا عليه رجل ميّت كأنّه نائم و عليه من الحلل و الحليّ ما لا يوصف و في يده اليسرى خاتم و فوق رأسه تاج و على منطقته سيف أشدّ خضرة

ص: 7

من البقل فإذا النداء من السرير: احمل هذا السيف و اقرأ ما عليه، قال: فإذا مكتوب عليه: هذا سيف صمصام بن عوج بن عنق بن عاد بن إرم و إنّي عشت ألف عام و سبعمائة و افتضضت اثني عشر ألف جارية و بنيت أربعين ألف مدينة و هزمت سبعين ألف جيش و في كلّ جيش قائد مع كلّ قائد اثنا عشر ألف مقاتل، و باعدت الحكيم و قرّبت السفيه و خرجت بالجور و العنف و الحمق عن حدّ الإنصاف، و كان يحمل مفاتيح الخزائن أربعمائة بغل و يحمل إليّ خراج الدنيا فلم ينازعني أحد من أهل الدنيا فادّعيت الربوبيّة فأصابني الجوع حتّى طلبت كفّا من ذرّة بألف قفيز من درّ فلم أقدر عليه فمتّ جوعا؛ يا أهل الدنيا اعتبروا بي و لا تغرّنكم الدنيا كما غرّتني فإنّ خدمي و أهلي لم يحملوا من وزري شيئا، انتهى.

[سورة آل عمران (3): آية 169]

وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

. المراد بهم شهداء احد، و كانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطّلب و مصعب بن عمرو و عثمان بن شهاب و عبد اللّه بن جحش، و باقيهم من الأنصار. و الآية جواب لقولهم: «لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» بأنّ القتل في سبيل اللّه فيه الحياة الأبديّة و المقتولون في سبيله مفضّلون بأنواع السعادة و مرزوقون بأنواع الرزق.

قال الرازيّ: اختلفوا في الحياة فقال بعضهم: إنّه تعالى تصعد أجساد الشهداء إلى السماوات تحت العرش و يوصل إليهم أنواع السعادة. و منهم من قال: يتركها في الأرض و يحييها و يوصل إليها السعادات. و منهم من أنكر الحياة للجسد و أثبت الحياة للروح؛ و أوّل بعض الحياة ببقاء ذكرهم الجميل.

أقول: و هذا التأويل صريح في مخالفة النصّ لأنّه قال: «عند ربّهم يرزقون» فهذا التأويل سفسطة.

قال الباقر عليه السّلام و كثير من المفسّرين: إنّ الآية تتناول قتلى بدر و احد معا.

و قيل: نزلت الآية في شهداء بئر معونة و كان سبب ذلك على ما رواه محمّد بن إسحاق بإسناده عن أنس بن مالك و غيره قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنّة- و كان سيّد بني عامر بن صعصعة- على رسول اللّه و أهدى له هديّة فأبي النبيّ صلى اللّه عليه و آله أن يقبلها

ص: 8

و قال: يا أبا براء لا أقبل هديّة مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديّتك و قرأ عليه القرآن فلم يسلم و لم يبعد و قال: إنّ أمرك هذا الّذي تدعوا إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول اللّه:

إنّي أخشى عليهم أهل نجد فقال أبو براء: أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك؛ فبعث رسول اللّه المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من خيار المسلمين منهم الحارث بن صمه و حزام بن ملجان و عروة السلميّ و نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ، و ذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من احد فساروا حتّى نزلوا بئر معونة.

فلمّا نزلوا قال بعضهم لبعض: أيّكم يبلغ رسالة رسول اللّه أهل هذا الماء؟ فقال حزام ابن ملجان أنا مخرج بكتاب رسول اللّه إلى عامر بن الطفيل فلمّا أتاهم لم ينظر عامر في كتاب رسول اللّه، فقال حزام: يا أهل بئر أنا رسول رسول اللّه إليكم و أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه فآمنوا باللّه و رسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فطعن به في جنب حزام حتّى خرج من الشقّ الآخر فقال حزام: اللّه أكبر فزت و ربّ الكعبة.

ثمّ استصرخ عامر بن الطفل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه على ما دعاهم إليه و قالوا: لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقدا، و جوارهم قبائل من بني سليم فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتّى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلمّا رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتّى قتلوا عن آخرهم إلّا كعب بن زيد فإنّهم تركوه و به رمق فارتثّ بين القتلى فعاش حتّى قتل يوم الخندق.

و أخذ عمرو بن اميّة أسيرا فلمّا عرّف نفسه أنّه مضريّ أطلقه عامر بن الطفيل بعد أن جزّ ناصيته و أعتقه عن رقبة زعم أنّها كانت على أبيه.

فقدم عمرو بن اميّة على رسول اللّه و أخبره الخبر فقال رسول اللّه: هذا عمل أبي براء و قد كنت لهذا كارها متخوّفا فبلغ ذلك أبا براء فشقّ عليه إخفار عامر بن الطفيل إيّاه و ما أصاب رسول اللّه بسببه و أنزل اللّه تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية».

روي عن ابن عبّاس أنّه صلى اللّه عليه و آله قال في صفة الشهداء: إنّ أرواحهم في أجواف طير خضر و أنّها ترد أنهار الجنّة و تأكل من ثمارها و تسرح حيث شاءت و تأوي إلى قناديل

ص: 9

من ذهب تحت العرش فلمّا رأوا أطيب مسكنهم و مطعمهم و مشربهم قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه و ما صنع اللّه بنا كي يرغبوا في الجهاد.

قال الفيض في الصافي: إنّه قيل للصادق عليه السّلام: إنّ الناس يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر حول العرش فقال عليه السّلام: لا، المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حواصل طير و لكن في أبدان كأبدانهم.

قوله: [سورة آل عمران (3): الآيات 170 الى 171]

فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)

[فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و هو شرف الشهادة و الفوز بالحياة الأبديّة و التمتّع بالنعيم المخلّد عاجلا.

[وَ يَسْتَبْشِرُونَ عطف على قوله: «فرحين» و عطف الفعل على الاسم لكون الفعل في تأويل الاسم أي فرحين و مستبشرين. في الكشّاف: بشّرهم اللّه بذلك فهم مستبشرون به. قال البيضاوي: يسرّون بالبشارة [بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أي بإخوانهم الّذين لم يقتلوا بعد فيلحقوا بهم [مِنْ خَلْفِهِمْ متعلّق «بيلحقوا» أي الّذين بقوا في الدنيا و هم قد تقدّموهم [أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ «أن» هي المخفّفة أي يفرحون بما بشّر لهم و أنّ الّذين بقوا إذا ماتوا أو قتلوا يفوزون بحياة الأبديّة لا يدركهم خوف و لا حزن فوات مطلوب.

و قوله: «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» يكون من كلام الاولى، و بيّن اللّه أحوال الشهداء أنّه لا يكون خوف بسبب توقّع المكروه النازل في المستقبل و لا يصيبهم حزن بسبب فوات أمر من الماضي.

[يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ كرّر الاستبشار لبيان أنّ الاستبشار المذكور ليس بمجرّد عدم الخوف و الحزن بل به و بما يقارنه من نعمة عظيمة لا يقادر قدرها و هي ثواب أعمالهم و زيادة عظيمة و أنّه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين كافّة سواء كانوا شهداء أو غيرهم، أو الاستبشار الأوّل بسبب سعادة إخوانهم و الثاني بسعادة أنفسهم.

ص: 10

فإن قيل: أليس ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم و الفرح عين الاستبشار؟ فالجواب أنّ الاستبشار هو الفرح التامّ فلا يلزم تكرار، أو أنّ حصول الفرح بما حصل لهم في الحال و حصول الاستبشار بما عرفوا ما يحصل لهم في الآخرة.

قال الرازيّ: «و أنّ اللّه لا يضيع أجر المؤمنين» عندنا دالّة على العفو عن فسّاق أهل الصلاة؛ لأنّه بإيمانه استحقّ الجنّة فلو بقي بسبب فسقه مؤبّدا مخلّدا لما وصل إليه أجر إيمانه فحينئذ يضيع أجر المؤمنين، و ذلك خلاف الآية.

[سورة آل عمران (3): آية 172]

الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

. أي الّذين أطاعوا فيما أمروا به و نهوا عنه من بعد ما أصابهم الجرح في غزوة احد يعني المقروحين الّذين اتّبعوا جميع المأمورات [وَ اتَّقَوْا] أي الّذين انتهوا عن المنهيّات ثواب عظيم و جملة قوله: «للّذين» خبر مقدّم مبتدؤه [أَجْرٌ عَظِيمٌ و كلمة «من» في قوله:

«منهم» ليست للتبعيض لأنّ الّذين استجابوا للّه و الرسول كلّهم قد أحسنوا لا بعضهم بل هي لبيان الجنس.

و سبب نزول الآية أنّه لمّا رجع أبو سفيان و أصحابه من احد فبلغوا الروحاء و هو موضع بين مكّة و المدينة ندموا و همّوا بالرجوع حتّى يستأصلوا ما بقي من المؤمنين فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان و قال: لا يخرجنّ معنا إلّا من حضر يومنا بالأمس أي وقعتنا، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إراءة من نفسه و من أصحابه جلدا و قوّة و معه جماعة حتّى بلغوا حمراء الأسد و هي من المدينة على ثمانية أميال و كان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم أي حملوا المشقّة كيلا يفوتهم الأجر و ألقى اللّه الرعب في قلوب المشركين فرجعوا فنزلت الآية فهذه هي غزوة حمراء الأسد.

[سورة آل عمران (3): الآيات 173 الى 175]

الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

.

ص: 11

روي أنّ أبا سفيان لمّا عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكّة نادى: يا محمّد موعدنا موسم بدر الصغرى لقابل نقتتل بها إن شئت، فقال صلى اللّه عليه و آله: «إن شاء اللّه» فلمّا كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكّة حتّى نزل مرّ الظهران فألقى اللّه الرعب في قلبه. و المراد من قوله «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ» المؤمنون.

[إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان و أصحابه [قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أي اجتمعوا لحربكم، و القائل قيل: نعيم بن مسعود الأشجعيّ أو ركب من بني عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم أبو سفيان حمل بعير من زبيب أن ثبّطوا المسلمين.

و قيل: إنّ أبا سفيان لقي نعيم بن مسعود و قد قدم معتمرا فقال له: يا نعيم إنّي واعدت محمّدا أن نلتقي بموسم بدر إلّا أنّ هذا العام عام جدب و لا يصلحنا إلّا عام نرعي فيه الشجر و نشرب فيه اللبن و قد بدا لي أن أرجع و لكن إن خرج محمّد و لم أخرج زاده ذلك جرأة فاذهب إلى المدينة فثبّطهم و لك عندي عشر من الإبل، و ضمنها سهيل بن عمرو فجاء نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهّزون للخروج فقال لهم: ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد أ فترون أن تخرجوا و قد جمعوا لكم؟ فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد؛ فأثّر هذا الكلام في قلوب قوم منهم، فلمّا عرف رسول اللّه ذلك منهم قال: و الّذي نفسي بيده لأخرجنّ و لو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين كلّهم يقولون:

«حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ».

[فَزادَهُمْ القول [إِيماناً] و لم يلتفتوا إلى ذلك بل ازداد اطمئنانهم و أظهروا حميّة الإسلام [وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ أي كافينا اللّه و نعم الموكول إليه اللّه.

[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ الفاء فصيحة أي خرجوا إليهم و وافوا الموعد فرجعوا عن مقصدهم ملتبسين نعمة عظيمة من اللّه لا يقادر قدرها كائنة منه تعالى و هي العافية على الإيمان و حذر العدوّ منهم و ربح عظيم في التجارة في سبيل اللّه.

[لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ] سالمين من المكاره، روي أنّه صلى اللّه عليه و آله وافى بجيشه بدر الصغرى و كانت موضع سوق لبني كنانة يجتمعون فيها كلّ عامّ ثمانية أيّام و لم يلق رسول اللّه هناك أحدا من المشركين و أتوا السوق و كانت معهم تجارات فباعوا و اشتروا أريا (1) و زبيبا و ربحوا و أصابوا

ص: 12


1- الارى: العسل.

بالدرهم درهمين و انصرفوا إلى المدينة غانمين و رجع أبو سفيان إلى مكّة فسمّى أهل مكّة جيشه جيش السويق و قالوا: إنّما خرجتم لتشربوا السويق.

[وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في كلّ ما أتوا من قول و فعل [وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ حيث تفضّل عليهم بزيادة الإيمان و التصلّب في الدين و إظهار الجرأة على العدوّ. و روي أنّهم قالوا: هل يكون هذا غزو؟ فأعطاهم اللّه ثواب الغزو.

[إِنَّما ذلِكُمُ إشارة إلى المثبّط أو إلى من حمل المثبّط على التثبيط، و الخطاب للمؤمنين و هو مبتدأ [الشَّيْطانُ خبره [يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ جملة مستأنفة مبيّنة لشيطنته و المراد «بأوليائه» أبو سفيان و أصحابه أو نعيم الأشجعيّ و من أمره.

فإن قيل: إنّ الّذين سمّاهم اللّه بالشيطان إنّما خوّفوا المؤمنين فما معنى «يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ»؟ قال ابن عبّاس: المفعول الأوّل في «يخوّفكم» محذوف فتقدير الكلام: ذلكم الشيطان يخوّفكم بأوليائه، و حذف الجارّ مثل قوله: «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ» (1) أي بيوم التلاق، و حذف المفعول مثل قوله: «فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» (2) أي إذا خفت عليه فرعون. و في قراءة أبيّ بن كعب «يخوّفكم بأوليائه».

و قيل: إنّ التخويف يتعدّى إلى مفعولين من غير حرف يقال. خوّفته القتال، و لا يحتاج إلى تقدير حرف جرّ و حذفه كما عليه قراءة ابن مسعود.

و قيل في معنى الآية قول آخر و هو أنّ الشيطان يخوّف أولياءه و هم المنافقون ليقعدوا عن قتال المشركين مثل أبي سفيان و أصحابه فأمّا أولياء اللّه فإنّهم لا يخافونهم إذا خوّفهم و لا ينقادون لأمره.

و الضمير في [فَلا تَخافُوهُمْ على المعنى الأوّل راجع إلى الأولياء و على القول الثاني عائد إلى الناس في قوله: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» [وَ خافُونِ بحذف الياء [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

[سورة آل عمران (3): الآيات 176 الى 178]

وَ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)

ص: 13


1- المؤمن: 15
2- القصص: 7

قرأ نافع في جميع القرآن «يَحْزَنُونَ»* بضمّ الياء و كسر الزاي إلّا قوله: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» (1) فإنّه فتحها و ضمّ الزاي. و قرأ الباقون أجمعون في جميع القرآن بفتح الياء و ضمّ الزاي.

و قرأ أبو جعفر عليه السّلام عكس ما قرأ نافع فإنّه فتح الياء في جميع القرآن إلّا قوله:

«لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» فإنّه ضمّ الياء.

المعنى: لمّا علّم اللّه المؤمنين ما يصلحهم عند تخويف الشيطان إيّاهم خصّ رسوله بضرب من التعليم في هذه الآية فقال: [وَ لا يَحْزُنْكَ أيّها الرسول [الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] لغاية حرصهم عليه و شدّة رغبتهم فيه و هم المنافقون المتخلّفون الّذين يسارعون إلى ما أبطنوه من الكفر مظاهرة للكفّار و سعيا في إطفاء نور اللّه [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً] و لا يرد الضرر إلّا على أنفسهم.

[يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ] و المراد من إرادة اللّه عدم جعل النصيب لهم في الآخرة و تركهم في طغيانهم و كفرهم و عدم إجبارهم على الإيمان لأنّه ليس في سنّة التكليف إجبار؛ و لذلك تركهم بسوء اختيارهم إلى أن يهلكوا على الكفر لأنّ كفرهم بلغ النهاية و لا يستحقّون الرحمة أبدا [وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ مع ذلك الحرمان الكلّيّ من الثواب.

[إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ أخذوه بدلا منه رغبة فيما أخذوه [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً] لأنّه تعالى غنيّ عن كفرهم و إيمانهم [وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع.

[وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] الموصول مع صلته فاعل «يحسبنّ» [أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ و «ما» في الكلام موصولة أو مصدريّة و كان حقّها في قياس علم الخطّ أن يكتب مفصولة لكنّها وقعت في مصحف عثمان متّصلة فتبعوه الكتّاب، و الإملاء إطالة المدّة.

ص: 14


1- الأنبياء: 103.

بيّن سبحانه أنّ إمهال الكفّار لا ينفعهم إذا كان يؤدّي إلى العقاب أي لا يظنّ الّذين كفروا أنّ إطالتنا لأعمارهم خير لهم من القتل في سبيل اللّه لأنّ قتل الشهداء أدّاهم إلى الجنّة و بقاء هؤلاء الكفّار في الكفر يؤدّيهم إلى النار و نطيل عمرهم و نترك المعاجلة لعقوبتهم.

[لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي لتكون عاقبة أمرهم ازدياد الإثم، و اللام لام العاقبة مثل قولهم:

أموالنا لذوي الميراث نجمعهاو دورنا لخراب الدهر نبنيها

و قول الآخر: لدوا للموت و ابنوا للخراب.

و لا يجوز أن يكون اللام لام الإرادة و الغرض؛ لأنّها لو كانت لام الغرض و الإرادة يوجب أن يكون الكفّار مطيعين للّه من حيث فعلوا ما وافق إرادته تعالى، و ذلك لم يقل به أحد، و لأنّ إرادة القبيح قبيحة و هو تعالى منزّه عن القبيح و قد قال: «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (1) و قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» (2) و قال: «وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ» (3) فالّذين فسّروا اللام بلام الإرادة من أهل السنّة و الجماعة بمعزل عن القبول.

و دلّت الآية على أنّ إطالة عمر الكافر و إيصاله إلى مراداته في الدنيا ليس بخير بل نقمة في الحقيقة لأنّ الخبيص المسموم لا يعدّ نعمة.

و في تفسير روح البيان: قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: خير الناس من طال عمره و حسن عمله و شرّ الناس من طال عمره و ساء عمله.

قال اللّه تعالى لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ليلة المعراج: إنّ من نعمتي على امّتك أنّي قصّرت أعمارهم كي لا تكثر ذنوبهم و أقللت أموالهم كيلا يشتدّ في القيامة حسابهم و أخّرت زمانهم كيلا يطول في القبور حبسهم.

و قال أيضا: يا أحمد لا تتزيّن بلين اللباس و طبب الطعام و لين الوطأة فإنّ النفس

ص: 15


1- الذاريات: 56.
2- النساء: 63.
3- البينة: 5.

مأوى كلّ شرّ و هي رفيق سوء كلّما تجرّها إلى طاعة تجرّك إلى معصية، و تخالفك في الطاعة و تطيع لك في المعصية و تطغى إذا شبعت و تتكبّر إذا استغنت و هي قرينة للشيطان و قيل في النفس: مثلها كمثل النعامة تأكل الكثير و إذا حمّلت عليها لا تطير، و إذا قيل:

أنت طائر، قالت: أنا بعير و هذه رجلي، و إذا حمّلت عليها شيئا، قالت: أنا طائر و هذا جناحي.

فكثرة المال تغرّ النفس.

قال الحقّيّ في تفسيره: و عن عائشة أنّها قالت: قلت لرسول اللّه ألا تستطعم اللّه فيطعمك لما رأيت به من الجوع و شدّ الحجر من السغب؟ قال صلى اللّه عليه و آله: يا عائشة و الّذي نفسي بيده لو سألت ربّي أن يجري معي جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض و لكنّي اخترت جوع الدنيا على شبعها و فقر الدنيا على غنائها و حزن الدنيا على فرحها، يا عائشة إنّ الدنيا لا تنبغي لمحمّد و لا لآل محمّد، و الدنيا و الآخرة ضرّتان فمن يطلب الجمع بينهما فهو ممكور و من يدّعي الجمع بينهما فهو مغرور و من رام متابعة الهوى و ترك البلوغ إلى الدرجات العلى فهو غريق في الغفلة، الحديث.

و بالجملة يا أيّها الإخوان اعلموا أنّ الّذين مضوا قبلنا من الأمم قد عاشوا طويلا و جمعوا كثيرا فما أغنتهم أموالهم فتذكّروا موتهم و مصارعهم تحت التراب و تأمّلوا كيف تبدّدت أجزاؤهم و كيف أرملوا نساءهم و أيتموا أولادهم و ضيّعوا أموالهم و هلكت بعدهم صغارهم و كبارهم و انقطعت آثارهم و ديارهم؟ فلم يرجع من كفر بنعمة اللّه إلّا إلى العذاب، فمن كانت غفلته كغفلتهم فستصير إلى ما صاروا و إن عاش طويلا فإنّ اللّه يمهل و لا يهمل قال اللّه تعالى: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» (1) و ما التمتّع بها إلّا قليل فالدنيا ساعة فاجعلها طاعة.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 179]

ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

. النزول: قيل: إنّ المشركين قالوا لأبي طالب: إن كان محمّد صادقا فليخبرنا

ص: 16


1- لقمان: 24.

من يؤمن منّا و من يكفر فإن وجدنا مخبره كما أخبرنا آمنّا به فذكر ذلك للنبيّ فأنزل اللّه هذه الآية.

قال الرازيّ في تفسيره: هذه الآية من بقيّة الكلام في قصّة احد؛ فأخبر تعالى أنّ الأحوال الّتي وقعت في وقعة احد من القتل و الهزيمة ثمّ دعاء النبيّ إيّاهم مع ما كان بهم من الجراحات إلى الخروج لطلب العدوّ ثمّ دعاؤه إيّاهم مرّة اخرى إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان فأخبر سبحانه أنّ كلّ هذه الأحوال لامتياز المؤمن من المنافق لأنّ المنافقين خافوا و رجعوا و شتموا بكثرة القتلى منكم ثمّ تبطّؤ المؤمنين عن العود إلى الجهاد فأخبر سبحانه أنّه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم و إظهارهم أنّهم منكم و من أهل الإيمان بل كان في حكمته رفع هذه الشبهات حتّى يحصل الامتياز فهذا وجه النظم.

و «ماز» يتعدّى إلى المفعول و قرئ «يميز» مخفّفا و مشدّدا و منه الحديث من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة و حجّة.

و المعنى: [ما كانَ اللَّهُ ليذركم يا معشر المؤمنين [عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من اختلاط المؤمن بالمنافق و أشباهه [حَتَّى يَمِيزَ] المنافق من المؤمن.

و اختلفوا بأيّ شي ء ميّز بينهم: قيل: بإلقاء المحن و القتل و الهزيمة فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه و تصديق الرسول و من كان منافقا ظهر نفاقه و إنكاره.

و قيل: إنّ اللّه وعد بنصرة المؤمنين و إذلال الكافرين فلمّا قوي الإسلام عظمت دولته و ذلّ الكفر و أهله فعند ذلك حصل الامتياز.

و قيل: القرائن الدالّة مثل أنّ المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام و المنافقين كانوا يغتمّون بسبب ذلك.

فإن قيل: إنّ هذا التميّز إن ظهر و انكشف يبقى كونهم منافقين و إن لم يظهر لم يحصل موعود اللّه؛ فالجواب أنّه ظهر عند الملائكة و خواصّ المؤمنين و عند الرسول و عند البعض حصل الامتياز الظنّيّ لا القطعيّ.

ثمّ قال: [وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ معناه أنّه سبحانه لا يظهر على غيبه

ص: 17

عامّة الناس فيعلموا ما في القلوب أنّ هذا مؤمن و هذا منافق و لا يكون له تعالى أن يبيّن أنّ فلانا من أهل الجنّة و فلانا من أهل النار لعامّة الناس بل يكون يعرف هذا الأمر من الإطاعة و المعصية و الامتحانات فأمّا معرفة ذلك على الاطّلاع من الغيب فهو من خواصّ الأنبياء و لهذا قال:

[وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ] فخصّهم بإعلامهم أنّ هذا مؤمن و هذا منافق أو المعنى: و لكنّ اللّه يجتبي من رسله من يشاء فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتّى يتميّز الفريقان بالامتحان. و يمكن أن يكون المعنى: و ما كان اللّه ليجعلكم كلّكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتّى تصيروا مستغنين عن الرسول بل اللّه يخصّ من يشاء من عباده بالرسالة ثمّ يكلّف الباقين طاعة هؤلاء الرسل.

ثمّ قال سبحانه: [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ و لا تشكّوا في دين الإسلام [وَ إِنْ تُؤْمِنُوا] حقّ الإيمان [وَ تَتَّقُوا] النفاق [فَلَكُمْ بمقابلة ذلك الإيمان و التقوى [أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يبلغ كنهه، و هذا الأجر على قدر عظم التقوى فإنّ السير في مسلك التقوى يتهيّأ بقدمي التقوى إلى أن يبلغ السائر بمقام لا يصدر منه المباحات و يكون سعيه أن يجعل المباحات مستحبّات.

قال إبراهيم بن أدهم: بتّ ليلة تحت صخرة بيت المقدس فلمّا كان بعض الليل رأيت في الرؤيا أنّه نزل ملكان فقال أحدهما: من هاهنا؟ فقال الآخر: إبراهيم بن أدهم، فقال:

ذلك الّذي حطّ اللّه درجة من درجاته، فقال: لم؟ قال: لأنّه اشترى بالبصرة التمر فوقعت تمرة على تمره من تمر البقّال فلم يردّها.

قال إبراهيم: فمضيت إلى البصرة و اشتريت التمر من ذلك الرجل و أوقعت تمرة على تمره و رجعت إلى بيت المقدس و بتّ في الصخرة فلمّا كان بعض الليل إذ أنا بملكين قد نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه: من هنا؟ فقال أحدهما: ذلّك الّذي ردّ التمرة إلى مكانها فرفعت درجته.

فهذا هو التقوى على الحقيقة و لا يتيسّر مثل هذا المقام إلّا بالتوسّل إلى اقتداء رسول اللّه كما قال سبحانه: «وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» (1) فيا أخي لا تضيّع أيّامك فإنّ أيّامك رأس

ص: 18


1- المائدة: 35.

مالك و إنّك مادمت قابضا على رأس مالك قادر على طلب الربح فإنّ الموتى يتمنّون أن يؤذن لهم بأن يصلّوا ركعتين أو يقولوا مرّة: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»* أو يسبّحوا مرّة فلا يؤذن لهم و يتعجّبون من الأحياء كيف يضيّعون أيّامهم في الغفلة.

[سورة آل عمران (3): آية 180]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

. لمّا بالغ في التحريص على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدّمة شرع في التحريص على بذل المال و بيّن الوعيد الشديد لمن يبخل يبذل المال المقرّر إنفاقه في سبيله.

قرأ حمزة بالياء و الباقون بالباء؛ قال الزجّاج: على الخطاب معنى الآية: و لا تحسبنّ بخل الّذين يبخلون خيرا لهم، فحذف المضاف لدلالة «يبخلون» عليه، و أمّا من قرأ بالياء المنقّطة من تحت أي لا يحسبنّ ضمير رسول اللّه أو ضمير أحد بخل الّذين يبخلون خيرا لهم، أو يكون فاعل «يحسبنّ» كلمة «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ» فيكون المفعول محذوفا و تقديره:

[وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بخلهم «هُوَ خَيْراً لَهُمْ» فحاصل المعنى: لا يحسبنّ البخلاء [هُوَ] أي البخل [خَيْراً لَهُمْ من إنفاقهم و «خيرا» مفعول ثان ليحسبنّ [بَلْ هُوَ] أي البخل [شَرٌّ لَهُمْ لاستجلاب العقاب عليهم [سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ] بيان لقوله: «هُوَ شَرٌّ لَهُمْ» أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق.

اختلف في معناه فقيل: الكلام من قبيل الاستعارة التمثيليّة شبّه لزوم وبال البخل و إثمه بهم بلزوم طوق الحمامة بها في عدم زوال الطوق عنها فعبّر عن لزوم الوبال بهم بالتطويق. و هذا المعنى يحتاج إلى تمحّل المجاز و خروج من الحقيقة و لا حاجة لنا به على أنّ هذا المعنى مخالف لأخبار كثيرة عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و المعنى الصحيح هو أن يجعل ما بخل به طوقا على عنق البخيل حقيقه و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام و هو قول ابن مسعود و ابن عبّاس و السدّيّ و الشعبيّ و جماعة.

ص: 19

و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما من رجل لا يؤدّي الزكاة إلّا جعل في عنقه شجاع يوم القيامة ثمّ تلا هذه الآية و قال: ما من ذي رحم يأتي رحمه يسأله من فضل ما أعطاه اللّه إيّاه فيبخل به عنه إلّا أخرج اللّه له من جهنّم شجاعا يتلمّظ بلسانه حتّى يطوّقه و تلا هذه الآية.

و قيل: معنى الآية: يجعل في عنقه يوم القيامة طوق من نار.

و قال ابن عبّاس: يجعل الزكاة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خدّيه و يقول: أنا الزكاة الّتي بخلت في الدنيا بي.

و قيل: المعنى سيكلّفون ما بخلوا به يوم القيامة أن يؤتوا به فيكون ذلك توبيخا و تشديدا لعذابهم.

و لكنّ الصحيح حمل الكلام على الحقيقة لأنّ الروايات وردت بها كما في رواية اخرى: يجعل ما بخل به من الزكاة حيّة يطوّقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدميه و تنقّر رأسه و يقول: أنا مالك.

و في حديث اخرى قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدّي حقّها إلّا اتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون و أسمنها تطأه بأخفافها و تنطحه بقرونها كلّما جازت اخراها ردّت عليه أولاها حتّى يقضى بين الناس.

قال أبو حامد: مانع زكاة الإبل يحمل بعيرا على كاهله، له رغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم، و مانع زكاة البقر يحمل ثورا على كاهله له خوار و ثقل يعدل الجبل العظيم، و مانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم، و الرغاء و الخوار و الثغاء كالرعد القاصف و مانع الزكاة من الزرع يحمل على كاهله أعدالا قد ملئت من الجنس الّذي كان يبخل به برّا كان أو شعيرا أثقل ما يكون، ينادي تحته بالويل و الثبور.

و قال: مانع زكاة المال يحمل شجاعا أقرع له زبيبتان و ذنبه قد انساب في منخريه و استدار بجيده و ثقل على كاهله كأنّه طوق بكلّ رحى في الأرض و تقول الملائكة: هذا ما بخلتم به.

ص: 20

[وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي ما يتوارثه أهلهما من مال و غيره من الرسالات الّتي يتوارثها أهل السماوات فما لهم يبخلون عليه بملكه أو المعنى أنّه يرث منهم ما يمسكونه عند هلاكهم [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] من المنع و الإعطاء فيجازيكم بحسبه.

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله حصّنوا أموالكم بالزكاة و داووا مرضاكم بالصدقة و استقبلوا البلايا بالدعاء قال صلى اللّه عليه و آله: لا صلاة لمن لا زكاة له.

روي أنّ موسى عليه السّلام مرّ برجل و هو يصلّي مع حضور القلب و خشوع فقال:

يا ربّ ما أحسن صلاته، فقال اللّه: لو صلّى في كلّ يوم و ليلة ألف ركعة و أعتق ألف رقبة و صلّى على ألف جنازة و حجّ ألف حجّة و غزا ألف غزوة لم ينفعه حتّى يؤدّي زكاة ماله.

و قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ملعون مال لا يزكّى كلّ عام، و ملعون بدن لا يبتلي في كلّ أربعين ليلة، و من البلاء النكبة و العثرة و المرضة و الخدشة و اختلاج العين فما فوق ذلك.

[سورة آل عمران (3): الآيات 181 الى 182]

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)

وجه النظم: قال الطبرسيّ: لمّا نزلت «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً»* (1) قالت اليهود: إنّ اللّه فقير يستقرض منّا و نحن أغنياء. و قائله حييّ بن أخطب و قيل: كتب النبيّ صلى اللّه عليه و آله مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و أن يقرضوا اللّه قرضا حسنا فدخل أبو بكر بيت مدارستهم فوجد ناسا كثيرا منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص بن عازورا، فدعاهم إلى الإسلام و الصلاة فقال فنحاص: إن كان ما تقول حقّا فإنّ اللّه إذن لفقير و نحن أغنياء، و لو كان غنيّا لما استقرضنا أموالنا فغضب أبو بكر و ضرب وجهه فنزلت الآية.

قال الرازيّ في المفاتيح: إنّه يبعد من العاقل أن يقول: «إنّ اللّه فقير و نحن أغنياء» و قد صدر هذا الكلام منهم فإمّا أن ذكروه على سبيل الاستهزاء و السخريّة على سبيل

ص: 21


1- البقرة: 245.

الطعن في نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله.

و المعنى: لو صدق محمّد في أنّ الإله يطلب المال من عبيده لكان فقيرا و لمّا كان ذلك محالا ثبت أنّه كاذب.

و بالجملة فلو كان القائل بهذا الكلام فنحاص فوجه الجمع رضى الباقين بذلك.

المعنى: أدرك سبحانه و علم قول القائلين [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ] أي ذو حاجة لأنّه يستقرض منّ [وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ] عن الحاجة و إنّما قالوه تلبيسا على عوامّهم، و قيل: معناه أنّ اللّه فقير لأنّه يضيّق علينا الرزق و نحن أغنياء لأنّا نوسّع الرزق على أهالينا.

[سَنَكْتُبُ ما قالُوا] أي سنكتب قولهم في صحائف الحفظة و لا نهمله، و السين للتأكيد أي لن يفوتنا أبدا تدوينه و إثباته كيف لا و هو كفر باللّه و استهزاء بالقرآن العظيم و الرسول الكريم؟

[وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ] أي سنكتب قتلهم الأنبياء و المراد أسلافهم و هم راضون بفعل آبائهم إذ لم ينهوهم. و في العطف إيذان بأنّهما في العظم أخوان. و في الآية دلالة على أنّ الرضا بفعل القبيح يجري مجراه في عظم الجرم لأنّ اليهود الّذين وصفوا بقتل الأنبياء لم يتولّوا ذلك بأنفسهم و إنّما ذمّوا بذلك لأنّهم بمنزلة من تولّى في عظم الإثم [بِغَيْرِ حَقٍ متعلّق بمحذوف وقع حالا من «قتلهم» أي كائنا بغير حقّ و جرم في اعتقاداتهم و في نفس الأمر.

[وَ نَقُولُ عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتب [ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ نقول: ذوقوا عذاب المحرق كما أذقتم المرسلين الغصص.

[ذلِكَ إشارة إلى العذاب المذكور [بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ بسبب ما اقترفتموه من قتل الأنبياء و التفوّه بمثل تلك العظيمة، و التعبير عن الأنفس «بالأيدي» لأنّ أكثر الأعمال يزاول و يداوم بهنّ فاستعمل على التغليب.

[وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] و إنّما ذكر لفظ «الظلّام» و هو للتكثير تأكيدا لنفي مطلق الظلم.

ص: 22

[سورة آل عمران (3): آية 183]

الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)

. هذه شبهة للكفّار في طعن نبوّته صلى اللّه عليه و آله و تقريرها: أنّهم قالوا: [إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ] و أنت يا محمّد ما فعلت ذلك فوجب أن لا تكون من الأنبياء.

قال ابن عبّاس: نزلت الآية في كعب بن الأشرف و كعب بن أسيد و مالك بن الصيف و وهب بن يهودا و زيد بن التابوت و فنحاص و غيرهم أتوا رسول اللّه فقالوا: تزعم أنّك رسول اللّه و أنّه تعالى أنزل عليك كتابا و قد عهد اللّه إلينا في التوراة «أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ» و يكون لها دويّ خفيف ينزل من السماء فإن جئتنا بهذا صدّقناك، فنزلت الآية.

قال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبّحون للّه فيأخذون الشروب و أطائب اللحم فيضعونها في وسط بيت و السقف مكشوف فيقوم النبيّ في البيت و يناجي ربّه و بنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دويّ خفيف و لا دخان لها فتأكل ذلك القربان. و هذا الاقتراح منهم غلط و عناد؛ لأنّ أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلّا لكونه معجزة فهو و سائر المعجزات سواء؛ و ذلك لأنّ اليهود ادّعوا أنّ اللّه قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنّه نبيّ فلا تصدّقوه حتّى يأتيكم بقربان تأكله النار.

قال الرازيّ: و للعلماء في هذا الادّعاء قولان:

الأوّل: و هو قول السدّيّ: أنّ هذا الكلام جاء في التوراة و لكنّه مع شرط و ذلك أنّه تعالى قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنّه نبيّ فلا تصدّقوه حتّى يأتيكم بقربان تأكله النار إلّا المسيح و محمّدا فإنّهما إذا أتيا فآمنوا بهما فإنّهما يأتيان بغير قربان تأكله النار.

و القول الثاني: أنّ هذا الكلام كذب على التوراة لأنّه لو كان ذلك حقّا لكانت معجزات كلّ الأنبياء هذا القربان و معلوم أنّه ما كان الأمر كذلك؛ فإنّ معجزات موسى عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان.

ص: 23

و بالجملة ردّ اللّه عليهم هذه الشبهة بقوله: [قُلْ لهم يا محمّد: [قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ كثيرة العدد كبيرة المقدار [مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الواضحة [وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ بعينه من القربان الّذي تأكله النار [فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّكم تؤمنون لرسول يأتيكم بقربان تأكل النار فإنّ زكريّا و يحيى و غيرهما من الأنبياء قد جاءوكم بما قلتم فلم قتلتموهم و لم تؤمنوا لهم؟

و «القربان» البرّ الّذي يتقرّب به إلى اللّه و أصله المصدر كالكفران و الخسران ثمّ سمّي به نفس المتقرّب به و منه قوله صلى اللّه عليه و آله لكعب بن عجرة: يا كعب الصوم جنّة و الصلاة قربان. أي بها يتقرّب إلى اللّه و يستشفع في الحاجة لديه.

[سورة آل عمران (3): آية 184]

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)

. أي فإن كذّبوك في نبوّتك فطالما كذّبوا رسلا من قبلك و أنكروهم مثل نوح و هود و صالح و إبراهيم و شعيب بل قتلوهم مثل يحيى و زكريّا، و المقصود تسلية رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و بيان أنّ هذا التكذيب ليس أمرا مختصّا به بل شأن جميع الكفّار تكذيب الأنبياء و هم صبروا على ما نالهم فكن متأسّيا سالكا طريقتهم؛ لأنّ المصيبة إذا عمّت طابت و خفّت.

و أمّا البيّنات فهي الدلائل و المعجزات و أمّا الزبر فهي الكتب و هي جمع «زبر» بمعنى المزبور أي المكتوب. قال الزجّاج: الزبور كلّ كتاب ذي حكمة. و على هذا فالأنسب أن يكون معنى الزبور من الزبر الّذي هو الزجر يقال زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل و سمّي الكتاب زبورا لما فيه من الزبر عن خلاف الحقّ و به سمّي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر و المواعظ و «المنير» الموضح.

و من المعلوم أنّ المواعظ الحسنة و الزواجر المصلحة تطهّر النفس من الصفات الرذيلة بشرط أن يكون الإنسان خاليا عن العناد و الإصرار حتّى يرى الحقّ حقّا و الباطل باطلا فحينئذ يهتدي بسراج الشريعة و علامة اهتدائه انقطاعه عن ميل الدنيا و اتّباع الهوى.

ص: 24

روي أنّ عيسى عليه السّلام مرّ بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية و الطرق فقال: يا معشر الحواريّين إنّ هؤلاء ماتوا على سخط و لو ماتوا على غير ذلك لتدافنوا فقالوا: يا روح اللّه وددنا أنّا علمنا خبرهم، فسأل عليه السّلام ربّه فأوحى اللّه اليه إذا كان الليل فنادهم يجيبوك؛ فلمّا كان الليل أشرف على الموتى ثمّ نادى: يا أهل القرية فأجابه مجيب: لبّيك يا روح اللّه فقال: ما حالكم و ما قصّتكم؟ قال: بتنا في عافية و أصبحنا في الهاوية، قال: و كيف ذلك؟ قال:

لحبّنا الدنيا و طاعتنا أهل المعاصي، قال: و كيف كان حبّكم للدنيا؟ قال: كحبّ الصبيّ لأمّه إذا أقبلت فرحنا و إذا أدبرت حزنّا، قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال: لأنّي ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد، قال: كيف أجبتني من بينهم؟ قال: لأنّي كنت فيهم و لم أكن منهم فلمّا نزل العذاب أصابني فأنا معلّق على شفير جهنّم لا أدري أ أنجو منها أم أكبكب فيها؟ انتهى.

و إيّاك أيّها الإنسان و التكذيب و الإنكار فيما بيّنه الأنبياء و أهل الذكر و قد نهى الحكماء الإلهيّة أن لا يجالس الجاهل أهل الإنكار بل يكون لا يلتفت إليهم أصلا إذ المجاورة مؤثّرة و من موجبات تشكيك الأمر و تشويق الذهن كما قيل:

عدوى البليد إلى الجليد سريعةو الجمر توضع في الرماد فتخمد

[سورة آل عمران (3): آية 185]

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)

. أي كلّ نفس تخرج و تنفكّ من البدن بسبب الموت فكنّي بالذوق عن القلّة. في الحديث: لمّا خلق اللّه آدم اشتكت الأرض إلى ربّها لما أخذ منها فوعدها أن يردّ فيها ما أخذ منها فما من أحد إلّا و يدفن في التربة الّتي أخذ منها.

[وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ و تعطون جزاء أعمالكم خيرا كانّ أو شرّا تامّا وافيا [يَوْمَ الْقِيامَةِ] أي يوم قيامكم من قبوركم و لعلّ في لفظ «التوفية» إشعارا بأنّ بعض أجورهم يصل إليهم قبله كما ينبئ عن هذا قوله صلى اللّه عليه و آله: الفقر روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران.

[فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ] و بعد عنها يومئذ و «الزحزحة» تكرير الزحّ و هو الجذب

ص: 25

بعجلة [وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ] بالنجاة و نيل المراد، قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: من أحبّ أن يزحزح عن النار و ادخل الجنّة فلتدركه منيّته و هو يؤمن باللّه و اليوم الآخر و يأتي إلى الناس بما يحبّ أن يؤتى به.

[وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا] و زخارفها و لذّاتها [إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ] شبّهها سبحانه بالمتاع الّذي يدلّس به على المستام (1) و تغترّ حتّى يشتريه و هذا لمن آثرها على الآخره؛ فالعاقل لا يغترّ بالدنيا فإنّها ليّن مسّها قاتل سمّها ظاهرها مطيّة السرور و باطنها مطيّة الشرور.

قال صلى اللّه عليه و آله: لموضع سوط في الجنّة خير من الدنيا و ما عليها. و ممّا نزل على بعض أنبيائه:

يا ابن آدم تشتري النار بثمن غال و لا تشتري الجنّة بثمن رخيص. قيل في معناه: إنّ فاسقا يتّخذ ضيافة للفسّاق بمائة درهم أو أكثر فيشتري النار و لو اتّخذ للفقراء بدرهم أو درهمين يكون ثمن الجنّة.

قوله: [سورة آل عمران (3): آية 186]

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

. بيّن سبحانه أنّ الكفّار بعد أن آذوا الرسول و المؤمنين يوم احد فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكلّ طريق يمكنهم بالمال و النفس، و الغرض من هذا الإعلام أن يوطّنوا أنفسهم على الصبر و ترك الجزع.

قال الواحديّ: اللام لام القسم و النون دخلت مؤكّدة و ضمّت الواو لسكونها و سكون النون و لم يكسر لالتقاء الساكنين لأنّها واو جمع فحرّكت بما كان تجب لما قبلها من الضمّ و مثله «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ»* (2).

أي تعاملون معاملة المختبر لأنّه لا يجوز له في وصف الاختبار، و المراد ما ينالهم من الشدّة و الفقر و القتل و الجرح و الهزيمة من جهة الكفّار و الصبر على الجهاد و التكاليف المتعلّقة بالبدن و المال من الصلاة و الزكاة.

ص: 26


1- افتعال من السوم، و المراد المشترى.
2- البقرة: 16.

[وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و هم اليهود و النصارى [وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا] من الناس كأبي جهل و أبي سفيان و الوليد و أضرابهم [أَذىً كَثِيراً] من الطعن في الدين الحنيف و القدح في أحكام الشريف و صدّ من أراد أن يؤمن و تخطئة من آمن و ما كان من كعب بن الأشرف اليهوديّ و أصحابه من هجاء المؤمنين فأخبر اللّه المؤمنين بذلك قبل وقوعها لتوطين النفس على الصبر و يستعدّوا للقائها فإنّ هجوم الأوجال ممّا يزلزل أقدام الرجال و الاستعداد للكروب ممّا يهوّن الخطوب.

[وَ إِنْ تَصْبِرُوا] على تلك الشدائد و البلوى بحسن التقابل [وَ تَتَّقُوا] و تحترزوا عمّا لا ينبغي [فَإِنَّ ذلِكَ أي الصبر و التقوى من معزومات الأمور الّتي يتنافس فيها المتنافسون، أو المعنى ممّا عزم اللّه عليكم فيه و الزمتم الأخذ به و أصل العزم من قول الرجل: عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمته إيّاك لا محالة على وجه لا يجوز لك الترخّص في تركه.

قوله: [سورة آل عمران (3): آية 187]

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)

. بيان النظم أنّه تعالى أوجب على أهل الكتابين من امّة موسى و عيسى عليهما السّلام في أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل على صحّة نبوّة محمّد و علائمه صلى اللّه عليه و آله فشرعوا يحرّفونها و يذكرون لها تأويلات فاسدة فبيّن سبحانه أنّ هذا من تلك الجملة الّتي تجب فيها الصبر. و قرأ عاصم و أبو عمرو: «ليبيّننه و لا يكتمونه» بالياء.

المعنى: اذكر يا محمّد وقت أخذه تعالى ميثاق أهل الكتاب و هم علماء اليهود و النصارى و ذلك الأخذ على لسان الأنبياء [لَتُبَيِّنُنَّهُ و الضمير للكتاب و اللام للقسم كأنّه قيل لهم: باللّه لتبيّننّه [لِلنَّاسِ و تظهرنّ جميع ما فيه من الأخبار الّتي من جملتها أمر نبوّته صلى اللّه عليه و آله [وَ لا تَكْتُمُونَهُ عطف على جواب القسم.

[فَنَبَذُوهُ النبذ الرمي و الإبعاد أي طرحوا هذا الميثاق [وَراءَ ظُهُورِهِمْ و لم يراعوه و نبذ الشي ء وراء الظهر مثل في الاستهانة به و الإعراض كما أنّ نصب العين مثل في كمال العناية بالأمر.

[وَ اشْتَرَوْا بِهِ أي بالكتاب الّذي أمروا ببيانه و نهوا عن كتمانه و «الاشتراء» مستعار

ص: 27

عن استبدال متاع الدنيا بما كتموا أي أخذوا بدله [ثَمَناً قَلِيلًا] و شيئا قليلا من حطام الدنيا و هو ما تناولوه من سفلتهم و من الرواتب من ملوكهم و كرهوا أن يؤمنوا بمحمّد صلى اللّه عليه و آله فينقطع ذلك عنهم فكتموا ما علموا [فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ و المخصوص بالذمّ محذوف أي بئس شي ء يشترونه ذلك الثمن.

و الآية و إن كانت نازلة في حقّ الّذين كانوا يخفون الحقّ في أمر محمّد صلى اللّه عليه و آله إلّا أنّ حكمها يعمّ من كتم من المسلمين أحكام القرآن الّذي هو أشرف الكتب و أنّهم أشرف أهل الكتاب لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب و كلّ من لم يبيّن الحقّ للناس و كتم شيئا من أحكام القرآن أو غيّر و حرّف حكما دخل تحت وعيد الآية قطعا.

قال فضيل بن عياض: لو أنّ أهل العلم أكرموا أنفسهم و شحّوا على دينهم و أعزّوا العلم و أنزلوه حيث أنزله اللّه لخضعت لهم رقاب الجبابرة و انقاد لهم الناس، و لكنّه أذلّوا أنفسهم و لم يسألوا ما نقص من دينهم إذا سلمت دنياهم فذلّوا و هانوا على الناس.

و قال الفضيل: بلغني أنّ الفسقة من العلماء و من حملة القرآن يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان فيقولون: ربّنا ما بالنا؟ فيقول اللّه: ليس من يعلم كمن لا يعلم.

حكي أنّ ذا القرنين اجتاز على قوم تركوا الدنيا و جعلوا قبور موتاهم على أبوابهم يقتاتون بنبات الأرض و يشتغلون بالطاعة فأرسل ذو القرنين إلى رئيسهم فقال: مالي حاجة إلى صحبة ذي القرنين فجاء ذو القرنين فقال: ما سبب قلّة الذهب و الفضّة عندكم قال: ليس للدنيا طالب عندنا فجعلنا القبور على أبوابنا حتّى لا ننسى الموت ثمّ أخذ قحف إنسان و قال: هذا رأس ملك من الملوك كان يظلم الرعيّة و يجمع حطام الدنيا فقبضه اللّه و بقي عليه السيّئات ثمّ أخذ آخر و قال: هذا رأس ملك عادل مشفق فقبضه و أسكنه جنّته ثمّ وضع يده على رأس ذي القرنين و قال: من أيّ الرأسين يكون رأسك فبكى ذو القرنين و قال له إن رغبت في صحبتي شاطرتك مملكتي و سلّمت إليك وزارتي، فقال: هيهات، فقال ذو القرنين:

و لم قال: لأنّ الناس أعداؤك بسبب المال و أحبابي بسبب القناعة.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 188 الى 189]

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189)

ص: 28

الخطاب للرسول أو لكلّ أحد يصلح له [الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا] بسبب ما فعلوا من كتمان الحقّ و التدليس و يحبّون أن يحمدوا بأنّهم أهل البرّ و التقوى و الديانة.

قيل: نزلت الآية في الّذين حرّفوا نصوص التوراة و فسّروها بتفسيرات باطلة و أظهروا بأنّا أظهرنا الحقّ و وفينا بالميثاق [وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا] و هو ادّعاؤهم باتّباع دين إبراهيم و أنّه عليه السّلام كان على دين اليهوديّة.

و قال أبو سعيد الخدريّ: نزلت الآية في رجال من المنافقين كانوا يتخلّفون عن رسول اللّه في الغزو و يعتذرون بالمعاذير و يفرحون بقعودهم فيقبل صلى اللّه عليه و آله عذرهم فطمعوا أن يثني صلى اللّه عليه و آله عليهم كما يثني على المسلمين. لكنّ الموصول على عمومه شامل لكلّ من يأتي بشي ء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب و يودّ أن يمدحه الناس بما هو عار منه، و كون السبب خاصّا لا يقدح في عموميّة حكم الآية و قرئ «بما أوتوا» أي اعطوا و قرئ «بما أتوا» و قرأ عليّ عليه السّلام «بما أوتوا» أي «بما أوتوه».

[بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي بمنجاة منه من قولهم: فاز فلان إذا نجا؛ قال الفرّاء: أي ببعد من العذاب؛ لأنّ الفوز معناه التباعد من المكروه [وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع.

[وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي له السلطة القاهرة فيهما إيجادا و إعداما [وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فكيف يرجو النجاة من هو معذّبه؟

[سورة آل عمران (3): الآيات 190 الى 193]

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193)

روى الثعلبيّ بإسناده عن محمّد بن الحنفيّة عن أمير المؤمنين أنّ رسول اللّه كان إذا قام من الليل يسوك ثمّ ينظر إلى السماء ثمّ يقول: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ إلى قوله-:

فَقِنا عَذابَ النَّارِ» و قد اشتهرت الرواية عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآيات قال: ويل لمن لاكها بين فكّيه و لم يتأمّل ما فيها.

ص: 29

قال الطبرسيّ: و روي عن الأئمّة من آل محمّد صلى اللّه عليه و آله بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة و في الضجعة و بعد ركعتي الفجر.

و عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و ذكر أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله كان يأتي بطهور فيخمّر عند رأسه و يوضع سواكه تحت فراشه ثمّ ينام ما شاء اللّه فإذا استيقظ جلس ثمّ قلّب وجهه إلى السماء و تلا الآيات من آل عمران أوّلها «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ» ثمّ يستتر و يتطهّر ثمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات ثمّ يركع حتّى يقال متى يرفع رأسه و يسجد حتّى يقال متى يرفع رأسه ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء اللّه ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران الخمس و هو يقلّب بصره صلى اللّه عليه و آله إلى السماء ثمّ يستتر و يتطهّر و يقوم إلى المسجد و يصلّي أربع ركعات كما ركع أوّلا ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء اللّه ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات الخمس و يقلّب بصره في السماء ثمّ يستتر و يتطهّر و يقوم إلى المسجد و يصلّى الركعتين ثمّ يخرج إلى الصلاة.

المعنى: قيل: إنّ أهل مكّة سألوا رسول اللّه أن يأتيهم ببرهان و آية لصحّة دعواه لأنّه كان يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده فنزلت [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ الآية أي في هذه الخلقتين العظيمتين من الشمس و القمر النجوم في خلق السماوات و الجبال و البحار و الأشجار و الوحوش و الطيور.

[وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] بذهاب الليل و مجي ء النهار و اختلاف لونيهما و زيادة كلّ منهما بانتقاص الآخر و انتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بحسب الأزمنة [لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ لعبرات كثيرة لذوي العقل الخالص من شوائب التكدير و «اللبّ» خالص العقل فإنّ العقل له ظاهر و له لبّ و في أوّل الأمر يكون عقلا و في حال كماله يكون لبّا.

[الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ نعت «لِأُولِي الْأَلْبابِ» أي يذكرونه دائما على الحالات كلّها قائمين و قاعدين و مضطجعين فإنّ الإنسان لا يخلو عن هذه الهيئات غالبا. و قيل: المعنى: يصلّون على قدر إمكانهم في صحّتهم و سقمهم؛ فالصحيح يصلّي قائما

ص: 30

و السقيم جالسا و على جنبيه مضطجعا فسمّي الصلاة ذكرا رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره.

[وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي و من صفة اولي الألباب أن يعتبروا في خلقهما؛ قال صلى اللّه عليه و آله: تفكّروا في الخلق و لا تفكّروا في الخالق. و إنّما نهى التفكّر في الخالق لأنّ معرفة حقيقة الخالق غير ممكنة، و لمّا كان الإنسان مركّبا من النفس و البدن كانت العبوديّة للبدن بقوله: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ» فإنّ ذلك باستعمال الجوارح و الأعضاء و أشار بعبوديّة النفس بقوله: «وَ يَتَفَكَّرُونَ».

قال الحقّيّ في روح البيان: و عن عطاء بن أبي رياح قال: دخلت مع ابن عمر و عبيد اللّه بن عمر على عائشة فسلّمت عليها فقالت: من هؤلاء؟ فقلت: عبيد اللّه بن عمر فقالت:

مرحبا بك مالك لا تزورنا؟ فقال عبيد اللّه: زر غبّا تزدد حبّا. قال ابن عمر: دعونا من هذا، حدّثينا بأعجب ما رأيت من رسول اللّه فبكت فقالت:

كلّ أمره عجيب أتاني في ليلتي فدخل في فراشي فقال: يا عائشة أ تاذنين لي أن أتعبّد لربّي فقلت: و اللّه إنّي لا حبّ قربك و هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة ماء فتوضّأ منها ثمّ قال: فبكى و هو قائم حتّى بلغ الدموع حقويه حتّى اتّكأ على شقّه الأيمن و وضع يده اليمنى تحت خدّه الأيمن فبكى حتّى أدرّت الدمرع و بلغت الأرض ثمّ أتاه بلال بعد ما أذن للفجر فلمّا رآه يبكي قال: لم تبكي يا رسول اللّه و قد غفر اللّه لك ما تقدّم و ما تأخّر من ذنبك؟ قال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا و ما لي لا أبكي و قد أنزلت عليّ الليلة «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ إلى قوله- فَقِنا عَذابَ النَّارِ» ويل لمن قرأها و لم يتفكّر فيها، انتهى.

و في الحديث: تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة. و وجه التفضيل أنّ التفكّر عمل القلب و العبادة عمل الجوارح. و القلب أشرف الجوارح فكان عمل القلب أشرف من عمل الجوارح.

[رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا] معنى يتفكّرون في صنعه و يقولون: ربّنا ما خلقت السماوات و الأرض عبثا ضائعا عن الحكمة خاليا عن المصلحة بل منتظما لمصالح عظيمة من جملتها أن تكون مدارا لمعايش العباد و منارا و آثارا إلى معرفة أحوال المبدء و المعاد.

ص: 31

و تذكير الضمير باعتبار تعلّق الخلق لهما في معنى المخلوق.

[سُبْحانَكَ ننزّهك عمّالا يليق بك من الأمور الّتي من جملتها خلق مالا حكمة فيه [فَقِنا عَذابَ النَّارِ] أي من عذاب النار الّذي جزاء الّذين لا يعرفون خالقهم.

و فائدة الفاء الدلالة علي أنّ علمهم بما لأجله خلقت السماوات و الأرض حملهم على الاستعاذة من عذابه فينبغي للإنسان دائما أن يتولّى الذكر باللسان و التفكّر بالقلب و المعرفة بالروح و ذكر اللسان يوصل صاحبه إلى ذكر القلب و هو التفكّر في قدرة اللّه و التفكّر في القلب في قدرة اللّه يوصل إلى مقام الكمال في المعرفة للروح فيخلّص من ظلمة الجهل و يتنوّر بنور المعرفة و لذا قيل: معنى «لا إله إلّا اللّه» للعوامّ: لا معبود إلّا اللّه، و للخواصّ:

لا محبوب و لا مقصود إلّا اللّه.

و مراتب العبوديّة و المعرفة تنقسم إلى قشر و لبّ و لبّ لبّ و تمثيل ذلك بالجوز فإنّ له قشرا و له لبّ و للّبّ دهن و هو لبّ اللبّ فالمرتبة الاولى من العبوديّة أن يقول الإنسان «لا إله إلّا اللّه» و قلبه غافل عنه و هو القشر، و الثانية أن يصدّق قلبه بمعناه و هو اعتقاد و و عمل و هو اللبّ، و الثالثة أن يشاهد ذلك بواسطة نور إلهيّ و يرى الأشياء صادرة من الواحد القهّار و لا يختار لنفسه رضى غير رضى اللّه و هذا المقام لبّ اللبّ كالدهن في الجوز و هو المراد بقوله: «أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» (1).

[رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ غاية الإخزاء، و المراد طلب الخلق الوقاية من عذابه تعالى و تهويل المستعاذ منه [وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ] و جمع الأنصار بالنظر إلى جمع الظالمين أي و ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار ينصر بالمدافعة و القهر فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة لأنّها مسألة بطريق اللين.

[رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ و المراد به الرسول فإنّه ينادي و يدعو إلى الإيمان و هو قول الأكثرين و الدليل عليه قوله: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ» (2) «وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ» (3) و قيل، إنّ المنادي هو القرآن كما حكى عن مؤمني الجنّ قوله: «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ» (4) و هذا و إن كان مجازا إلّا أنّه مجاز

ص: 32


1- الزمر: 22.
2- النحل: 125.
3- الأحزاب: 46.
4- الجن: 1- 2.

متعارف و الدليل على هذا الوجه في تفسير الآية أنّه أولى لأنّه ليس كلّ أحد لقي النبيّ صلى اللّه عليه و آله لكنّ القرآن فكلّ أحد سمع به إذا أراد أن يسمع كما قيل: في جهنّم: «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى» و الفصحاء يصفون الدهر بأنّه ينادي و يعظ:

يا واضع الميّت في قبره خاطبك الدهر فلم تسمع

و اللام في قوله: «للإيمان» بمعنى «إلى» كقوله: «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا» (1) و مثل قوله تعالى: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» (2) و قيل اللام لام الأجل و الغرض و المعنى: سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس.

[أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ و مالككم و متولّي أموركم [فَآمَنَّا] أي فأجبنا نداءه [رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ] فطلبوا من اللّه في هذا الدعاء غفران الذنوب أوّلا و تكفير السيّئات و أن تكون وفاتهم مع الأبرار.

قيل: المراد من الذنوب في الآية كبائرهم، و من السيّئات الصغائر فإنّها مكفّرة عن مجتنب الكبائر.

و قيل: المراد بهما شي ء واحد و إنّما أعيد للتأكيد فإنّ الإلحاح في الدعاء و المبالغة فيه مندوب و قيل: المراد من الذنوب ما تقدّم، و من السيّئات المستأنف.

و قيل: المراد من الغفران ما يزول بالتوبة، و بالتكفير ما تكفّره الطاعات العظيمة، و «الأبرار» جمع برّ مثل ربّ و أرباب، قال القفّال. أي وفاتهم معهم أن يموتوا على مثل أعمالهم حتّى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة كما يقال: أنا مع فلان، يريد كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد أو كونهم في أتباعهم.

قال الرازيّ: احتجّ أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية و الاستدلال بأنّهم طلبوا غفران الذنوب و لم يكن للتوبة فيه ذكر فدلّ على أنّهم طلبوا المغفرة مطلقا ثمّ إنّ اللّه سبحانه أجابهم لأنّه قال: في آخر الآية «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ» و هذا صريح في أنّه قد يعفو عن الذنب و إن لم توجد التوبة.

ص: 33


1- المجادلة: 7.
2- الزلزلة: 5.

[سورة آل عمران (3): آية 194]

رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)

. [رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك أو تصديقهم من الثواب و الكرامة [وَ لا تُخْزِنا] لا تهنّا [يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ] اسم مصدر بمعنى الوعد، و هذه الدعوات من كمال الضراعة لا لخوفهم من اختلاف الميعاد بل لخوفهم أن يكونوا من جملة الموعودين لسوء عاقبة أو قصور في الامتثال فإنّه ربّما ظنّ الإنسان أنّه على الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح ثمّ إنّه يظهر له يوم القيامة أنّ اعتقاده كان ضالًّا و عمله كان ذنبا. و قوله: «وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ» مثل قوله: «وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ». (1)

[سورة آل عمران (3): آية 195]

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)

. أي استجاب اللّه لهم طلبتهم. و «استجاب» أخصّ من «أجاب» فإنّ أجاب معناه:

أعطاه الجواب، و هو قد يكون بتحصيل المطلوب و بدونه و استجاب إنّما يقال لتحصيل المطلوب و يعدّى بنفسه و باللام.

[أَنِّي أي بأنّي [لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ و هو ما حكى عنهم من المواظبة على ذكر اللّه في جميع حالاتهم و التفكّر في مصنوعاته استدلالا و الاشتغال بالدعاء [مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان للعامل من غير تفاوت بين الذكر و الأنثى إذا كانا جميعا في التمسّك بالطاعة.

و إشعار في الآية بأنّ الفضل في باب الدين بالأعمال لا بسائر الصفات من نسب خسيس أو شريف و لا تأثير له في هذا الباب.

[بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ و قيل: «من» في الآية بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض في الثواب و الطاعة؛ روي أنّ امّ سلمه قالت: يا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إنّي أسمع اللّه يذكر

ص: 34


1- الزمر: 47.

الرجال في الهجرة و لا يذكر النساء فنزل قوله: «أَنِّي لا أُضِيعُ إلى آخره».

[فَالَّذِينَ هاجَرُوا] تفصيل لأعمال العاملين منهم و ما أعدّ لهم من الثواب، فالّذين هاجروا من أوطانهم فارّين إلى اللّه بدينهم [وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ و اضطرّوا إلى الخروج بإيذاء المشركين إيّاهم و اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول [وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي في دين الحقّ بسبب إيمانهم باللّه فتحمّلوا الأذى لأجل الدين. قال البلخيّ: نزلت الآية و ما قبلها في المهاجرين معه صلى اللّه عليه و آله و المتّبعين له ثمّ هي في جميع من سلك سبيلهم إلى يوم القيامة [وَ قاتَلُوا] في سبيل اللّه [وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي لأمحق بها عنهم ذنوبهم و أتفضّل عليهم بعفوي.

[وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً] «الثواب» في الأصل اسم لما يثاب به كالعطاء اسم لما يعطى إلّا أنّه قد يوضع موضع المصدر فهو مصدر مؤكّد بمعنى الإثابة أي لأثيبنّهم بذلك إثابة كائنة [مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قصد بتوصيفه به تعظيم شأن الثواب فإنّ السلطان العظيم الشأن إذا قال لعبده: البسك خلعة من عندي، دلّ ذلك على كون تلك الخلعة في غاية الشرف [وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ و الجزاء على الطاعات و هو نعيم الجنّة الباقية.

[سورة آل عمران (3): الآيات 196 الى 197]

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (197)

قيل: الخطاب للنبيّ و المراد امّته، أو الخطاب لكلّ من بلغه هذا الخطاب فمعناه:

لا يغرّنّك أيّها السامع تقلّب الّذين كفروا في البلاد.

نزلت في مشركي مكّة كانوا يتّجرون و يتنعّمون فقال بعض المؤمنين: إنّ أعداء اللّه فيما نرى من الخير و قد هلكنا الجوع و الجهد، فنزلت الآية و المراد من التقلّب في البلاد تصرّفهم في التجارات و المكاسب أي لا يغرّنّكم أمنهم على أنفسهم و تصرّفهم في البلدان و أنتم معاشر المؤمنين خائفون محصورون فإنّ ذلك لا يبقى إلّا مدّة قليلة ثمّ ينتقلون إلى أشدّ العذاب.

[مَتاعٌ قَلِيلٌ أي ذلك التقلّب متاع قليل لا قدر له في جنب ما أعدّ اللّه للمؤمنين؛

ص: 35

قال صلى اللّه عليه و آله: ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع فإذا لا يجدي وجوده لواجديه و لا يضرّ فقدانه لفاقديه.

[ثُمَّ مَأْواهُمْ و مصيرهم الّذي يأوون إليه [جَهَنَّمُ الّتي لا يوصف عذابها، و النعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرّة العظيمة لم يعدّ ذلك نعمة [وَ بِئْسَ الْمِهادُ] أي بئس ما يمهدون لأنفسهم جهنّم.

لكن الذين اتقوا ربهم أي خافوه فلم يخالفوا أمره و لا نهيه.

[سورة آل عمران (3): آية 198]

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)

. إذا لم يستفيدوا من حطام الدنيا لهم الجنّات مؤبّدون فيها [نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ النزل ما يعدّ للنازل من طعام و شراب و غيرهما [وَ ما عِنْدَ اللَّهِ لكثرته و دوامه [خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ] ممّا يتقلّب فيه الكفّار لقلّته و سرعة زواله.

و عن ابن مسعود قال: ما من نفس برّة و لا فاجرة إلّا و الموت خير لها أمّا البرّة فإنّ اللّه يقول: «وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» و أمّا الفاجرة فإنّه تعالى يقول: «إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً» (1). و ممّا وجد في خزائن الإسكندر مكتوبا بالذهب: حركات الأفلاك لا تبقي على أحد نعمة فإذا اعطي العبد مالا أوجاها أو رفعة فلتكن همّته تقليد المنن أعناق الرجال فإنّ المال و الجاه يزول إمّا بندم طويل أو مدح جزيل و إنّ للدهر عثرات يجبر كما يكسر و يكسر كما يجبر و الأمر إلى اللّه.

و قد قيل: مادام قلمك يرعد و يبرق فليمطر معروفا و ليرعف جيلا.

و عن الحسن قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ذات يوم على أصحابه فقال: هل منكم من يريد أن يذهب اللّه عنه العمى و يجعله بصيرا؟ ألا إنّه من رغب في الدنيا و طال أمله فيها أعمى اللّه قلبه على قدر ذلك و من زهد في الدنيا و قصّر أمله أعطاه اللّه علما بغير تعلّم و هدى بغير هاد، ألا إنّه سيكون بعدي قوم لا يستقيم لهم الملك إلّا بالقتل و التجبّر و لا الغنى إلّا بالبخل و الفخر و لا المحبّة إلّا باتّباع الهوى ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على

ص: 36


1- السورة: 178.

الفقر و هو يقدر على الغنى و صبر على البغضاء و هو يقدر على المحبّة و صبر على الذلّ و هو يقدر على العزّ لا يريد بذلك إلّا وجه اللّه أعطاه اللّه ثواب خمسين صدّيقا.

قال ابن عبّاس: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء (1) زرقاء و أنيابها بادية مشوّهة خلقها و يشرف على الخلائق فيقال: أ تعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ باللّه من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا الّتي تفاخرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام و بها تحاسدتم و تباغضتم و اغتررتم، ثمّ تقذف في جهنّم فتنادي أين أتباعي و أشياعي؟ فيقول اللّه: ألحقوا بها أتباعها.

قال صلى اللّه عليه و آله: يحشر أقوام يوم القيامة و أعمالهم كجبال تهامة و يؤمر بهم إلى النار قالوا: يا رسول اللّه مصلّين؟ قال: نعم، كانوا يصلّون و يصومون و يأخذون سنّة من الليل فإذا عرض لهم شي ء من الدنيا وثبوا عليه.

روي أنّه عرض عليه عشار من النوق- و هي الحوامل منها- فغضّ بصره مع أنّها من أحبّ الأموال إليهم و أنفسها عندهم لأنّها كانت تجمع الظهر و اللحم و اللبن فلمّا لم يلتفت صلى اللّه عليه و آله إليها قيل له: يا رسول اللّه هذه أنفس أموالنا فلم لا تنظر إليها؟ قال صلى اللّه عليه و آله قد نهى اللّه عن ذلك ثمّ تلا «وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ الآية» (2).

هذا معاملته صلى اللّه عليه و آله مع الدنيا فكن أيّها العاقل متّبعه.

قال صلى اللّه عليه و آله: أنا حبيب اللّه و لا فخر و أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم و من دونه و لا فخر و أنا أوّل من يحرّك باب الجنّة فيفتح اللّه لي فيدخلنّها معي فقراء المؤمنين و لا فخر.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 199]

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)

. نزلت في عبد اللّه بن سلام و أصحابه.

و قيل: نزلت في أربعين رجلا من نجران و اثنين من الحبشة و ثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا.

ص: 37


1- من خالط بياض رأسه سواد.
2- طه: 131، الحجر: 88.

و قيل: نزلت في أصحمة النجاشيّ فإنّه لمّا مات نعاه جبرئيل لرسول اللّه في اليوم الّذي مات فيه فقال صلى اللّه عليه و آله لأصحابه: اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، فقالوا:

من هو؟ قال صلى اللّه عليه و آله النجاشيّ، فخرج إلى البقيع و كشف له إلى أرض حبشة فأبصر صلى اللّه عليه و آله سرير النجاشيّ فصلّى عليه و كبّر التكبيرات فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلّي على علج نصرانيّ حبشيّ لم يره قطّ و ليس على دينه؛ فأنزل اللّه هذه الآية.

[وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن [وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الكتابين [خاشِعِينَ لِلَّهِ أي متواضعين له من خوف عذابه و رجاء ثوابه، و هو حال من فاعل «يؤمن» لأنّ «من» في معنى الجمع [لا يَشْتَرُونَ لا يأخذون [بِآياتِ اللَّهِ المكتوبة في التوراة و الإنجيل من نعوت النبيّ صلى اللّه عليه و آله [ثَمَناً قَلِيلًا] شيئا يسيرا من حطام الدنيا مثل بعض أحبارهم فإنّهم أخذوا و بدّلوا.

[أُولئِكَ أي أهل هذه الصفة [لَهُمْ أَجْرُهُمْ الموعود المختصّ بهم [عِنْدَ رَبِّهِمْ و المراد به التشريف [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لنفوذ علمه بجميع الأشياء من غير حاجة إلى تأمّل و وعي صدر و كتب يد أي جزاؤهم سريع الوصول إليهم، فإنّ سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء و الإنسان يبعث على ما مات عليه فإنّ من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، و الغافل يرد صفر الكفّ.

قيل: إنّ إبراهيم أدهم أراد أن يدخل الحمّام فمنعه الحمّاميّ و قال: لا تدخل إلّا باجرة فبكى إبراهيم و قال: لا يؤذن لي أن أدخل بيت الشيطان مجّانا فكيف بالدخول إلى بيت النبيّين و الصدّيقين مجّانا؟ فمن لم يعمل صالحا كان هناك خاليا من المثوبات.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّ في الجنّة حوراء يقال لها «لعبة» لو بصقت في البحر لعذب البحر، مكتوب على نحرها من أحبّ أن يكون له مثلي فليعمل بطاعة ربّي.

بقدر الكدّ تكتسب المعالي و من طلب العلى سهر الليالي

تروم العزّ ثمّ تنام ليلايغوص البحر من طلب اللئالي

[سورة آل عمران (3): آية 200]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

.

ص: 38

لمّا ذكر سبحانه في هذه السورة أنواعا من علوم الأصول و الفروع ختم السورة بهذه الآية المشتملة على حقيقة الآداب لأنّ أحوال الإنسان قسمان: منها ما يتعلّق به وحده و منها ما يكون مشتركا بينه و بين غيره.

أمّا القسم الأوّل فلا بدّ فيه من الصبر حتّى أنّ الإنسان لا بدّ أن يصبر على مشقّة النظر و الاستدلال في معرفة التوحيد و العدل و النبوّة فهذا في الأصول، و أمّا في الفروع فلا بدّ أن يصبر على أداء الواجبات و المندوبات و مشقّة التحمّل عن النفس في الاحتراز عن المنهيّات و شدائد الدنيا و آفاتها من المرض و الفقر و القحط و الخوف و أمثالها فقوله تعالى: «اصْبِرُوا» يدخل تحته هذه الأقسام.

و أمّا المصابرة فهي عبارة عن تحمّل المكاره الواقعة بينه و بين الغير و يدخل فيه تحمّل الأخلاق الرديئة من الأهل و الجيران و الأقارب و يدخل فيه ترك الانتقام ممّن أساء إليك كما قال: «وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (1) و يدخل فيه الإيثار على الغير.

و بالجملة [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا] على مشاقّ التكليف و ما يصيبكم من الشدائد [وَ صابِرُوا] و غالبوا على أعداء اللّه في الجهاد و على أعدا عدوّكم في الصبر على مخالفة الهوى، و المصابرة أفضل من الصبر، و الصبر هو حبس النفس عمّا تريد و عمّا لا يرضاه اللّه و أوّل درجته التصبّر و هو التكلّف لذلك ثمّ المصابرة ثمّ الاصطبار و الالتزام [وَ رابِطُوا] أنفسكم على الطاعة و أبدانكم و خيولكم في الثغور؛ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ألا أدلّكم على ما يمحو اللّه به الخطايا و يرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: إسباغ الوضوء على المكاره و كثرة الخطى (2) إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا غاية الفلاح، و اتّقوا القبائح لعلّكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة المرتّبة الّتي هي الصبر على مضض الطاعات و مصابرة النفس في رفض العادات و مرابطة السرّ و عقد القلب على الترصّد لإيجاب الواردات المعبّر عنها بالشريعة.

ص: 39


1- الأعراف: 199.
2- جمع الخطوة.

حكي أنّ شيخا من الصلحاء كان يسير إلى بيت اللّه راجلا فإذا أعرابيّ على ناقة فقال:

يا شيخ إلى أين؟ فقال الشيخ: إلى بيت اللّه، قال الأعرابيّ: كيف و أنت راجل و المسافة بعيدة؟

فقال الشيخ: إنّ لي مراكب كثيرة، فقال: و ما هي؟ قال: إذا نزلت عليّ بليّة ركبت مركب الصبر و إذا نزلت عليّ نعمة ركبت مركب الشكر و إذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضاء و إذا دعتني النفس إلى شي ء علمت أنّ ما بقي من العمر أقلّ من ما مضى، فقال الأعرابيّ: أنت الراكب و أنا الراجل، سر على بركة اللّه.

قيل: إنّ صفوان بن سليم كان يجتهد في العبادة و القيام و كان من شدّة مخالفته لنفسه و هواه من عادته أن يبيت على السطح في أيّام الشتاء لئلّا يستريح من البرد و في الصيف ينزل إلى بيته لتعذّب نفسه بحرّ الهواء و كان عادته ذلك إلى أن مات في سجدته.

و قيل في أحوال رابعة العدويّة: إنّها ما نامت بالليل مدّة أربعين سنة و كانت معاذة العدويّة إذا جاء النهار تقول: هذا اليوم يوم موتي فيشتغل بالعبادة إلى المساء فإذا جاء الليل تقول:

هذه الليلة ليلة موتي فتحييها إلى الصباح إلى أن ماتت على هذا النمط:

و لو كان النساء كمن ذكرنالفضّلت النساء على الرجال

فلا التأنيث لاسم الشمس عيب و لا التذكير فخر للهلال

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 40

سورة النساء* (هي مدنية كلها)*

اشارة

و قيل: إلّا قوله: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، الآية» و آية «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، الآية» فإنّ الآيتين نزلت بمكّة.

فضلها: ابيّ بن كعب عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: من قرأها فكأنّما تصدّق على كلّ مؤمن و مؤمنة و برأ من الشرك و كان في مشيئة اللّه من الّذين يتجاوز عنهم.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: من قرأ سورة النساء في كلّ جمعة أومن من ضغطة القبر إذا دخل قبره.

ص: 41

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النساء (4): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)

. [يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب للمكلّفين من جميع البشر، قيل: إنّ النداء إنّما كان في سائر كتب اللّه السالفة «بيا أيّها المساكين» لكن في القرآن فيما نزل بمكّة فالنداء «ب يا أَيُّهَا النَّاسُ»* و ما نزل بالمدينة فمرّة «ب يا أَيُّهَا النَّاسُ*» و مرّة «ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»* [اتَّقُوا] معصية [رَبَّكُمُ و مخالفته بترك ما أمر به و ارتكاب ما نهى عنه.

و قيل: المعنى: اتّقوا حقّه أن تضيّعوه فكأنّه قال: يحقّ عليكم أن تتّقوا عقاب من أنعم عليكم بأعظم النعم و هي أن [خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] و الّذي قدر هذه القدرة أن أوجدكم من نفس واحدة فهو على عقابكم أقدر. و المراد «بالنفس» هنا آدم عليه السّلام و «النفس» مؤنّث بالصيغة.

[وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها] يعني حوّاء، ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّها خلقت من ضلع من أضلاع آدم و رووا عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: خلقت المرأة من ضلع آدم إن أقمتها كسرتها و إن تركتها و فيها عوج استمتعت بها. فحينئذ «من» للتبعيض.

[وَ بَثَ أي فرّق و نشر [مِنْهُما] أي من تلك النفس و زوجها بطريق التوالد [رِجالًا كَثِيراً] و تذكير «كثير» للحمل على الجمع و العدد أي عددا كثيرا [وَ نِساءً] أي بنين و بنات كثيرة. و حاصل المعنى: اتّقوا ربّكم الّذي كثّركم و جعلكم صنوانا متفرّعة من ارومة واحدة.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما يجب لبعضكم على بعض من حقوق المواصلة الّتي بينكم فحافظوا

ص: 42

عليها و لا تقطّعوا في الدين و النسب أغصانا تتشّعب من جرثومة واحدة [الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض: أسألك باللّه [وَ الْأَرْحامَ أي يسأل بعضكم باللّه و بالرحم، أو يقول: اناشدك اللّه و الرحم افعل كذا. أي اتّقوا اللّه و اتّقوا الأرحام فصلوها، فقرن الأرحام باسمه إشعارا بأنّ صلتها بأمر منه.

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: الرحم معلّقة بالعرش يقول: من وصلني وصله اللّه و من قطعني قطعه اللّه. و قال صلى اللّه عليه و آله: ما من عمل حسنة أسرع ثوابا من صلة الرحم و ما من عمل سيّئة أسرع عقوبة من البغي.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] الرقيب هو المراقب الّذي يحفظ عليك أفعالك في خلواتك.

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّه كان بالبصرة رجل معروف بالمسكيّ لأنّه كان يفوح منه رائحة المسك، فسئل عنه فقال: كنت من أحسن الناس وجها و كان لي حياء فقيل لأبي: لو أجلسته في السوق لا نبسط مع الناس، فأجلسني في حانوت بزّاز فجاءت عجوز و طلبت متاعا فأخرجت لها ما طلبت فقالت: لو توجّهت معي لثمنه فمضيت معها حتّى أدخلتني في قصر عظيم فيه قبّة عظيمة فإذا فيها جارية على سرير عليه فراش مذهّب فجذبتني إلى صدرها فقلت: اللّه اللّه! فقالت: لا بأس، فقلت: إنّي حادق فدخلت المستراح و تغوّطت و مسحت به وجهي و بدني، فقيل: إنّه مجنون فخلصت.

فرأيت الليلة رجلا قال لي: أين أنت من يوسف بن يعقوب؟ ثمّ قال لي في الرؤيا:

أنا ملك ثمّ مسح يده على وجهي و بدني فمن ذلك الوقت يفوح المسك عليّ و ذلك ببركة التقوى.

و للعبد أن يراقب اللّه في أحواله و أفعاله و هي أصل كلّ خير للعبد. قال سليمان ابن عليّ: لئن كنت عصيت اللّه في الخلوة و ظننت أنّه تعالى يراك فقد اجترأت على أمر عظيم و لئن كنت تظنّ أنّه لا يراك فقد كفرت لقوله: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً».

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 2]

وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)

ص: 43

اليتيم من الناس المنفرد عن الأب بموته و من سائر الحيوانات عن الأمّ. و المراد بإيتاء أموالهم قطع المخاطبين أطماعهم الفارغة عنها و ليس المراد الإعطاء بالفعل فإنّه مشروط بإيناس الرشد و البلوغ.

و المعنى: أيّها الأولياء و الأوصياء احفظوا أموال اليتامى و لا تتعرّضوا لها بسوء و سلّموها إليهم وقت التسليم [وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي لا تستبدلوا الحلال المكتسب بالحرام المغتصب من مال اليتيم.

[وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ و «إلى» بمعنى «مع» لقوله: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ»* (1) أي مع اللّه أي لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم، و إنّما ذكر الأكل لأنّه معظم ما يقع لأجله التصرّف [إِنَّهُ أي الأكل المنهيّ عنه [كانَ حُوباً كَبِيراً] أي ذنبا عظيما عند اللّه.

روي أنّ رجلا من بني غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمّه فترافعا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله فنزلت هذه الآية فلمّا سمع العمّ قال:

أطعنا اللّه و أطعنا الرسول نعوذ باللّه من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله:

من يوق شحّ نفسه و يطع ربّه هكذا فإنّه يحلّ داره- يعني جنّته- فلمّا قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل اللّه فقال صلى اللّه عليه و آله: ثبت الأجر و بقي الوزر، فقالوا: كيف بقي الوزر؟ فقال:

ثبت الأجر للغلام و بقي الوزر على والده.

و قد عدّ أكل مال اليتيم من المهلكات؛ عن ابن عبّاس قال: ستّ موبقات ليس لهنّ توبة: أكل مال اليتيم و قذف المحصنة و الفرار من الزحف و السحر و الشرك باللّه و قتل نبيّ من الأنبياء.

روى أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقال: عندي يتيم أضربه؟ قال: بما تضرب ولدك للتأديب، أي إن تضربه للتأديب لا بأس إذا ضربت ضربا غير مبرح مثل ما يضرب الوالد ولده و لكن إذا أمكن التأديب بغير ضرب فلا يجوز الضرب فإنّ ضرب اليتيم أمر شديد؛ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّ اليتيم إذا ضرب اهتزّ العرش لبكائه فيقول اللّه: يا ملائكتي من أبكى

ص: 44


1- السورة: 52، الصف: 14.

الّذي غيّبت أباه في التراب؟ و هو أعلم به فيقول الملائكة: ربّنا لا علم لنا، قال اللّه: فإنّي أشهدكم أنّ من أرضاه أرضه من عندي يوم القيامة.

قال اللّه لداود عليه السّلام: كن لليتيم كالأب الرحيم و اعلم أنّك كما تزرع كذلك تحصد.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 3 الى 4]

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)

الإقساط العدل، و المراد بالخوف العلم أى و إن علمتم بوقوع الجور المخوف.

و سبب النزول أنّهم كانوا يتزوّجون من يحلّ لهم من اليتامى اللاتي يؤلونهنّ لكن لا لرغبة بل في مالهنّ و يسيئون الصحبة و المعاشرة و يتربّصون بهنّ أن يمتن فيرثونهنّ. و قيل:

هي اليتيمة تكون في حجر وليّها فيرغب في مالها و جمالها و يريد أن ينكحها بأدنى من سنّة نسائها فنهوا أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ في إكمال الصداق فأمروا أن ينكحوا من سواهنّ من النساء.

فمعنى الآية [و إن خفتم أن لا تعدلوا] في حقّ اليتامى إذا تزوجتم بهنّ بإساءة العشرة أو بنقص الصداق [فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ] «ما» موصوله اوثرت على «من» إشعارا إلى الوصف أي نكاحا طاب لكم من النساء غير اليتامى؛ فانكحوا من استطابتها نفوسكم من الأجنبيّات و هذا المعنى بشهادة قرينة المقام [مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ و قرئ: من طاب لكم من النساء.

قال الزمخشريّ و الواحديّ في قوله «ما طاب»: أي ما حلّ لكم من النساء لأنّ منهنّ من يحرم نكاحهنّ و هي الأنواع المذكورة في قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ الآية (1)».

ص: 45


1- السورة: 22.

لكنّ الرازيّ أنكر هذا المعنى و قال: إذا حملنا الطيب على استطابة النفس و ميل القلب أولى، النهاية أنّ الآية عامّة و دخله التخصيص بقوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية».

و كلمة «مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» معناه اثنين اثنين و ثلاثا و ثلاثا و أربعا و أربعا و هو غير منصرف اجتمع في الكلمة العدل و الوصف: أمّا العدل عبارة عن أنّك تذكّر كلمة و تريد بها اخرى كما تقول: عمرو تريد عامر فهي معدولة، و أمّا أنّه وصف لمعنى الوصفيّة لأنّ معنى قوله: «أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» (1) أي موصوفين بهذه الصفات فهذه الألفاظ معدولة عن تكرّرها فإنّك لا تريد بقولك: مثنى ثنتين فقط بل ثنتين ثنتين فإذا قلت: جاءني اثنان أو ثلاثة، كان غرضك الإخبار عن مجي ء هذا العدد فقط أمّا إذا قلت:

جاءني القوم مثنى، أفاد أنّ ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين فثبت أنّه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد.

و الحكم في الآية لا يتناول العبيد بل خاص للأحرار لأنّ العبد لا يتمكّن من النكاح إلّا بإذن مولاه قال اللّه تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ» (2) و قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر. فثبت أنّ هذه الآية المخاطب بها الحرّ و لا يندرج فبها العبد.

و قوله: «مَثْنى وَ ثُلاثَ» يجوز أن يكون حال من قوله: «ما طابَ لَكُمْ» و يجوز أن يكون بدل من «ما» و إنّما جاءت الواو في «و ثلاث» و لم تأت «أو» لأنّه على طريق البدل كأنّه قال: و ثلاث بدل من مثنى، و رباعا بدل من ثلاثا، و لو جاء «أو» لكان لا يجوز لصاحب المثنى ثلاث و لصاحب الثلاث رباع.

قال الطبرسيّ: إنّ هذا لا يؤدّي إلى جواز نكاح التسع بأنّ اثنين و ثلاثة و أربعة تسعة؛ فإنّ من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع، لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول، و لأنّ لهذا العدد لفظا موضوعا و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث نوع من العيّ مقدّس كلامه عن ذلك؛ قال الصادق: لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من

ص: 46


1- فاطر: 1.
2- النحل: 75.

أربعة أرحام من الحرائر.

[فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا] بين الأربع و الثلاث في النفقة و سائر وجوه التسوية فتزوّجوا [واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي و اقتصروا على الإماء حتّى لا تحتاجوا إلى التسوية و القسم بينهنّ لأنّهنّ لا حقّ لهنّ في القسم.

[ذلِكَ إشارة إلى اختيار الواحدة [أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا] العول الميل من قولهم عال الميزان إذا رجح و مال، و عال في الحكم إذا جار، و المراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من اختيار الواحدة و التسرّي أقرب إلى التقوى بالنسبة إلى ما عداهما.

[وَ آتُوا النِّساءَ] أي أعطوا النساء اللاتي امر بنكاحهنّ [صَدُقاتِهِنَ مهورهنّ [نِحْلَةً] أي فريضة من اللّه لأنّها ممّا فرضه اللّه في النحلة أي الملّة و الشريعة. و قيل: معنى النحلة عطيّته من اللّه عليهنّ. و انتصاب النحلة على الحاليّة، و تعبير إيتاء المهور بالنحلة و العطيّة مع كونها واجبة لإفادة طيب الخواطر و كمال الرضى. و الخطاب يعمّ الأولياء أيضا و كانوا يأخذون مهور بناتهم و كان أهل الجاهليّة يقولون لمن يولد له بنت: هنيئا لك النافجة يعنون بذلك: تأخذ مهرها فتنفج به مالك و تعظمه و تكثره.

[فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ الضمير للصدقات و تذكيره لإجرائه مجرى المال [نَفْساً] تميز و التوحيد لبيان الجنس أي إن وهبن لكم شيئا من الصداق عن نفوس طيّبة راضية غير مضطرّة إلى البذل من شكاسة أخلاقكم.

[فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً] صفتان من قولهم: هنأ الطعام و مرأ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، و نصبهما على المصدريّة على أنّهما صفتان للمصدر المحذوف أي كلوه أكلا هنيئا مريئا، عبارة المبالغة في الإباحة و إزالة التبعة.

و في الآية دليل على حفظ الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس و بيان لجواز معروفها و ترغيب في حسن المعاشرة بينهما فإنّ خير الناس خيرهم لأهله و أنفعهم لعياله في توسعتهم.

في الحديث: جهاد المرأة حسن التبعّل. و كانت المرأة على عهد النبيّ صلى اللّه عليه و آله تستقبل زوجها إذا دخل و تقول مرحبا بسيّدي و سيّد أهلي، و تقصد إلى أخذ ردائه فيأخذه و تعمد إلى نعله فتخلعه فإن رأته حزينا قالت: ما يحزنك إن كان حزنك لآخرتك فزاد اللّه فيها و إن كان

ص: 47

لدنياك فكفاك اللّه؟ و كان يقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله: يا فلان اقرأها منّي السلام و أخبرها أنّ لها نصف أجر الشهيد.

و علامة الزوجة الصالحة عند أهل الحقيقة أن يكون حسنها مخافة اللّه و غناها القناعة و حليّها العفّة و هي التكفّف عن الشرور و المفاسد و عبادتها بعد الفرائض حسن الخدمة للزوج.

قال رسول اللّه: ثلاثة من امّتي يكونون في جهنّم كعمر الدنيا سبع مرّات: أوّلهم متسنّمون مهزولون و الثاني كاسون عارون و الثالث عالمون جاهلون قيل: من هؤلاء يا رسول اللّه؟

قال: أمّا المتسنّمون المهزولون فالنساء متسنّمات باللحم مهزولات في امور الدين و أمّا الكاسون العارون فهنّ النساء كاسيات من الثياب عاريات من الحياء و أمّا العالمون الجاهلون فهم أهل الدنيا التاجرون الكاسبون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و فطنين بأمورها و هم عن الآخرة هم غافلون لا يبالون من أين يجتمعون المال و هم لا يشبعون من الحلال و لا يبالون بالحرام.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 5]

وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)

. أي و لا تعطوا أيّها الأولياء [السُّفَهاءَ] أي المبذّرين من الرجال و النساء و الصبيان و اليتامى و قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّهم النساء و الصبيان. و روي عن أنس بن مالك جاءت امرأة جريئه المنطق ذات ملح إلى رسول اللّه فقالت: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه قل فينا خيرا مرّة واحدة فإنّه بلغني أنّك تقول فينا كلّ شرّ، قال: أيّ شي ء قلت؟ قالت: سمّيتنا السفهاء، قال: اللّه سمّاكنّ السفهاء في كتابه، قالت: و سمّيتنا النواقص، فقال: و كفى نقصانا أن تدعن في كلّ شهر أيّاما لا تصلّين فيها، ثمّ قال: ما يكفي إحداكنّ أنّها إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل اللّه فإذا وضعت كانت كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه فإذا أرضعت كان لها بكلّ جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل فإذا سهرت كان لها بكلّ سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل و ذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشيرة.

قال: قالت المرأة: يا له فضلا لو لا ما يتبعه من الشرط!

ص: 48

و قيل: المراد من السفهاء كلّ من كان سفيها و مبذّرا من الرجال و النساء.

الأموال [الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً] أي جعل اللّه شيئا يقومون به و تنتعشون فلو ضيّعتموه لضيّعتم، و لمّا كان المال سببا للقيام و الاستقلال سمّاه بالقيام إطلاقا لاسم المسبّب على السبب على سبيل المبالغة فكأنّها من فرط احتياجهم إليها نفس قيامهم.

و قيل: معنى الآية أنّها خطاب الأولياء أي أيّها الأولياء لا تؤتوا الّذين تحت ولايتكم و كانوا سفهاء أموالهم، و الدليل على هذا المعنى قوله: «وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ» و على هذا المعنى يحسن تعلّق الآية بما قبلها.

فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال: «و لا تؤتوا السفهاء أموالهم» فلم قال: «أَمْوالَكُمُ»؟

قيل في الجواب: إنّه أضاف المال إليهم لا لأنّهم ملكوه لكن من حيث ملكوا التصرّف فيه و يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب و الوحدة بالنوع يجرى مجرى الوحدة بالتشخّص نحو قوله: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» (1) و قوله: «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» (2) و معلوم أنّ الرجل منهم ما كان يقتل نفسه و لكن كان يقتل بعضهم بعضا و كان الكلّ من نوع واحد فكذا هاهنا المال شي ء واحد ينتفع به الإنسان فلأجل هذه الوحدة النوعيّة حسنت إضافة أموال السفهاء إليهم.

و القول الأوّل هو تسلّط السفيه على ماله مثل أن يسلّمه إلى ابنه السفيه أو امرأته السفيهة فيتلف المال فيبقى الأب صفر الكفّ فقيرا فيكون الخطاب للآباء بحفظ المال و عدم تضييعه و على هذا الوجه يكون إضافة المال حقيقة؛ قال الطبرسيّ: و الأولى حمل الآية على العموم.

[وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ الرزق من اللّه العطيّة من غير حدّ و من العباد إجراء موقّت محدود و، المعنى: أطعموهم منها و لم يقل: «منها» لئلّا يكون ذلك أمرا بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتّجروا فيها و يثمروا فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من اصول الأموال.

ص: 49


1- التوبة: 129.
2- البقرة: 54.

[وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً] أي كلاما ليّنا يطيب به نفوسهم مثل أن يقول للصبيّ:

المال مالك و أنا خازن لك و إذا زال صباك أردّ المال عليك و يعظه و ينصحه و يحثّه على الصلاة و يأمره بترك التبذير و يعرّفه أنّ غاية التبذير الاحتياج و الفقر و ما يشبه هذا النوع من الكلام.

و حفظ المال من السرف و التبذير أمر واجب و سلاح للمؤمن للفقر الّذي كاد أن يهلك دينه، و كان السلف يقولون لطبقة من الناس: اتّجروا و اكتسبوا فإنّكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أوّل ما يأكل دينه. و ربّما رأوا رجلا في جنازة فقالوا له: اذهب إلى دكّانك لأنّ أغلب طبقات الناس ما لم يكونوا فارغي البال لا يمكنهم القيام بتحصيل الآخرة فمن أراد الدنيا لهذا الغرض كانت الدنيا له من الأسباب المعينة على اكتساب سعادة الآخرة أمّا من أرادها للذّة نفسه فكانت من أعظم الخطايا و أكبر المعوّقات عن كسب سعادة الآخرة فخير المال ما كان متاع البلاغ.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 6]

وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)

أي و اختبروا أيّها الأولياء و الأوصياء، و جرّبوهم من أمورهم مثل أن تعطوهم من المال ما يتصرّفون فيه بيعا و ابتياعا و إن كانوا ممّن له ضياع و أهل و خدم بأن يباشروا في الجملة إلى نفقة عيالهم و خدمهم حتّى يتبيّن لكم كيفيّة أحوالهم.

[حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ شرط سبحانه في دفع أموالهم إليهم شرطين: أحدهما بلوغ النكاح مثل أن يحتلموا فحينئذ يصلحون عنده للنكاح، و الثاني إيناس الرشد و هو قوله:

[فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً] أي شاهدتم و أحسستم اهتداء إلى وجوه التصرّفات من غير تبذير [فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ من غير تأخير إذا طالبوا.

[وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً] بغير ما أباحه اللّه لكم، و قيل: معناه: لا تأكلوا من مال اليتيم فوق ما تحتاجون إليه فإنّ لوليّ اليتيم أن يتناول من ماله قدر القوت بشرط أن

ص: 50

يكون محتاجا إلى وجه الاجرة على عمله في مال اليتيم.

و قيل: كلّ شي ء أكل من مال اليتيم فهو الأكل على وجه الإسراف. و الأوّل أليق بمذهبنا فقد روى محمّد بن مسلم عن أحدهما قال: سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخيه يتيم في حجره أ يخلط أمرها بأمر ماشيته قال: إن كان يليط حياضها و يقوم على خدمتها و يردّ نادتها فليشرب من ألبانها غير مضرّ بالولد. و قوله: «و بدارا» أي لا تبادروا بأكل أموالهم قبل كبرهم و رشدهم حذرا من أن يكبروا فيلزمكم تسليم المال إليهم خوفا من [أَنْ يَكْبَرُوا] و يقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبروا.

[وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا] من الأولياء و الأوصياء [فَلْيَسْتَعْفِفْ و ليتنزّه عن أكلها و ليقنع بما آتاه اللّه من الغنى و لا يأخذ لا قليلا و لا كثيرا، يقال: استعفّ عن الشي ء و عفّ عنه إذا امتنع منه و تركه.

[وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أي من كان فقيرا من الأولياء و الأوصياء فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة و الكفاية.

[فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ بعد ما راعيتم الشرائط المذكورة [فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأنّهم تسلّموها و قبضوها فيعلمون أنّه برئت ذممكم لما أنّ ذلك أبلغ من التهمة و أنفى للخصومة و أسلم في الأمانة [وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً] و حافظا لأعمال خلقه فاللائق للإنسان أن يحترز عن حقّ الغير خصوصا اليتيم فإنّه يجرّه إلى نار الجحيم.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من كانت عنده مظلمة لأخيه أو شي ء فليستحلل منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار و لا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته و إن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه. و من اجتمعت عليه مظالم و قد تاب منها و عسر عليه استحلال أرباب المظالم فليكثر من حسناته ليوم القصاص و ليسرع ببعض الحسنات و يجتهد فيها غاية الإخلاص فعساه يقرّ به ذلك العمل الخالص إلى اللّه فينال به لطفه تعالى الّذي ادّخره لأهل الخلوص في دفع مظالم العباد عن المخلص بإرضائه تعالى إيّاهم.

[سورة النساء (4): آية 7]

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)

.

ص: 51

قال الطبرسيّ:

النزول: كانت العرب في الجاهليّة يورّثون الذكور دون الإناث فنزلت الآية ردّا لقولهم. قال قتادة و ابن جريح و ابن زيد: و قيل: كانوا لا يورّثون إلّا من طاعن بالرماح و ذاد عن الحريم و المال، فقال تعالى مبيّنا حكم أموال الناس بعد موتهم.

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّ أوس بن صامت الأنصاريّ خلّف زوجته امّ كحة و ثلاث بنات فزوى ابنا عمّه سويد و عرفطة ميراثه عنهنّ على سنّة الجاهليّة فإنّهم ما كانوا يورّثون النساء و يقولون: إنّما يرث من يحارب و يذبّ عن الحوزة فجاءت امّ كحة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في مسجد الفضيخ فشكت إليه فقال صلى اللّه عليه و آله: ارجعي حتّى أنظر ما يحدث اللّه فنزلت الآية فبعث إليهما أن لا يفرّقا من مال أوس شيئا فإنّ اللّه قد جعل لهنّ نصيبا و لم يبيّن حتى بيّن و نزل «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ الآية» (1).

المعنى: [لِلرِّجالِ سهم و حظّ من تركة الوالدين و الأقربين [وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ أي و للنساء أيضا من قرابة الميّت حصّة و سهم من تركته قليلة كانت التركة أو كثيرة [نَصِيباً مَفْرُوضاً] فرض تسليمه إلى أهله و مستوجبه لا محالة، و الفرض يقتضي فارضا فرضه و الوجوب قد يجب الشي ء في نفسه من غير إيجاب موجب و لذلك صحّ وجوب الثواب عليه تعالى فهذا هو الفرق بين الفرض و الوجوب.

و هذه الآية تدلّ على أنّ ذوي الأرحام يرثون لأنّهم من جملة الرجال و النساء الّذين مات عنهم الأقربون.

و أيضا تدلّ على بطلان القول بالعصبة و يدخل في عموم اللفظ الأنبياء و غير الأنبياء، و تدلّ على أنّ الأنبياء و غير الأنبياء في الحكم سواء كما ذهبت إليه الفرقة الإماميّة.

[سورة النساء (4): آية 8]

وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)

. و اختلف المفسّرون في هذه الآية على قولين:

ص: 52


1- السورة: 11.

أحدهما أنّها محكمة غير منسوخة عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير و جماعة كالزهريّ و الشعبيّ و السدّيّ و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام و أكثر المفسّرين.

و القول الثاني أنّها منسوخة بآي المواريث.

و أيضا اختلف من قال: إنّها محكمة على قولين:

أحدهما أنّ الأمر فيها على الوجوب و اللزوم عن مجاهد و قال: هو ما طابت به نفس الورثة.

و قال الآخرون: إنّ الأمر فيها على الندب.

قال الرازيّ في المفاتيح: إنّ القائلين بالوجوب منهم من قال: الوارث إن كان كبيرا وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب نفسه به و إن كان صغيرا وجب على الوليّ إعطاؤهم من ذلك المال، و منهم من قال: إن كان الوارث كبيرا وجب عليه الإعطاء من ذلك المال و إن كان صغيرا وجب على الوليّ أن يعتذر إليهم و يقول: إنّي لا أهلك هذا المال و إنّما هو لهؤلاء الّذين لا يعقلون و إن يكبروا فسيعرفون حقّكم فهذا هو القول المعروف. و قال جماعة مثل الحسن و النخعيّ: هذا الرضخ مختصّ بقسمة الأعيان فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين و الرقيق و ما أشبه ذلك قال لهم قولا معروفا مثل أن يقول لهم: ارجعوا بارك اللّه فيكم.

و هذه الأقوال كلّها على قول من قال بالوجوب و أمّا على قول الاستحباب إنّما يكون الرضخ إذا كانت الورثة كبارا أمّا إذا كانوا صغارا فليس إلّا القول المعروف و احتجّوا بأنّه لو كان لهؤلاء حقّ معيّن لبيّن اللّه قدر ذلك الحقّ كما في سائر الحقوق و حيث لم يبيّن علمنا أنّه غير واجب و لو كان واجبا لتوفّرت الدواعي على نقله لشدّة حرص الفقراء و المساكين على تقديره و لو كان ذلك لنقل إلينا على سبيل التواتر.

و بالجملة فالمعنى في قوله: [وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ] أي إذا شهد الميراث و قسمته [أُولُوا الْقُرْبى أي فقراء قربة الميّت [وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ أي و يتاماهم و مساكينهم يرجون أن تعودوا عليهم [فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم من التركة قبل القسمة شيئا.

و اختلف في المخاطبين بقوله: «فَارْزُقُوهُمْ» قيل: إنّ المخاطب بذلك الورثة أمروا

ص: 53

بأن يرزقوا المذكورين إذا كانوا لا سهم لهم في الميراث عن ابن عبّاس و ابن الزبير و سعيد ابن جبير و أكثر المفسّرين. و قيل: إنّ المخاطب بذلك من حضرته الوفاة و أراد الوصيّة فقد امر بأن يوصي لمن لا يرثه من المذكورين بشي ء من ماله.

[وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً] أمر اللّه الوليّ أن يقول للّذي لا يرث من المذكورين قولا معروفا إذا كانت الورثة صغارا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 9]

وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)

. في الآية أقوال: أحدها أنّه كان الرجل إذا حضرته الوفاة قعد عنده بعض المؤمنين فقالوا: انظر لنفسك فإنّ ولدك لا يغنون عنك من اللّه شيئا فيقدّم جلّ ماله فقال تعالى:

و ليخش الّذين تركوا من بعدهم أولادا صغارا خافوا عليهم الفقر، و هذا نهي عن الوصيّة بما يجحف بالورثة و أمر لمن حضر الميّت عند الوصيّة أن يأمره بأن يبقي لورثته و لا يزيد وصيّته على الثلث، و هذا قول ابن عبّاس و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة و الضحّاك و مجاهد.

و ثانيها أنّ الأمر في الآية لوليّ اليتيم يأمره بأداء الأمانة و القيام بحفظه كما لو خاف على مخلفيه إذا كانوا ضعافا فيكون المعنى: من كان في حجره يتيم فليفعل به ما يحبّ أن يفعل بذرّيّته من بعده.

و حاصل المعنى [وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ صفتهم و حالهم أنّهم لو شارفوا أن يتركوا [مِنْ خَلْفِهِمْ أي بعد موتهم [ذُرِّيَّةً ضِعافاً] أولادا عجزة لا غنى لهم و ذلك عند احتضارهم [خافُوا عَلَيْهِمْ الضياع بعدهم لذهاب كافلهم و الفقر و التكفّف، و المراد «بالّذين» هم الأوصياء على القول الثاني و المحتضرين على القول الأوّل.

[فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في ذراريهم أو ذراري غيرهم [وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً] أي قولا لا خلل فيه و عدلا موافقا للشرع، و قيل: معناه فليخاطبوا اليتامى بخطاب حسن جميل.

ثمّ أوعد اللّه لآكلي مال اليتم نار جهنّم فقال:

[سورة النساء (4): آية 10]

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)

.

ص: 54

أي ينتفعون بأموال اليتامى و يأخذونها [ظُلْماً] و لم يرد قصر الحكم على الأكل و تخصيص الأكل في الذكر لما أنّه معظم منافع المقصودة فذكره اللّه تنبيها على وجوه الانتفاع كقوله: «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» (1) و إنّما علّق الوعيد بكونه ظلما لأنّه قد يكون يأكله الإنسان على وجه الاستحقاق بأن يأخذ منه اجرة المثل أو يأكل منه بالمعروف على ما تقدّم القول فيه؛ فلا يكون ظلما. و سئل الرضا عليه السّلام كم أدنى ما يدخل به أكل مال اليتيم تحت الوعيد في هذه الآية؟ فقال عليه السّلام: قليله و كثيره واحد إذا كان في نيّته أن لا يردّه إليهم.

[إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً] قيل: إنّ النار ستلتهب من أفواههم و أسماعهم و أنافيهم يوم القيامة ليعلم أهل الموقف أنّهم آكلة أموال اليتامى؛ روي عن الباقر عليه السّلام أنّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: يبعث ناس من قبورهم يوم القيامة تؤجّج أفواههم نارا، فقيل له:

يا رسول اللّه من هؤلاء؟ فقرأ هذه الآية.

[وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً] أي سيلزمون النار المسعرة و إنّما ذكر «البطون» تأكيدا كما قال: نظرت بعيني و مشيت برجلي، و لمناسبة الأكل مع ذكر البطن.

و روى الحلبيّ عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ في كتاب عليّ عليه السّلام: إنّ آكل مال اليتيم ظلما سيدركه وبال ذلك من عقبه من بعده و يلحقه وبال ذلك في الآخرة.

و في الحديث قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: رأيت ليلة اسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل إحداهما قالصة على منخريه و الاخرى على بطنه و خزنة جهنّم يلقمونه جمر جهنّم و صخرها فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً».

قال رسول اللّه: تقبّلوا لي ستّا أتقبّل لكم الجنّة: إذا حدّثتم فلا تكذبوا و إذا وعدتم فلا تخلفوا و إذا ائتمنتم فلا تخونوا و غضّوا أبصاركم و احفظوا فروجكم و كفّوا أيديكم عن الحرام و ادخلوا الجنّة (2).

قال رسول اللّه: لو صلّيتم حتّى تكونوا كالحنايا و صمتم حتّى تكونوا كالأوتار فما ينفعكم إلّا بالورع. و المراد من الورع الاحتراز عمّا نهى اللّه في شريعة محمّد بالنهي التحريميّ.

ص: 55


1- البقرة: 188.
2- الخصال (1: 156).

قال علماء الأخلاق: الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض و زهد فضل و زهد سلامة، فزهد الفرض هو الزهد في الحرام و زهد الفضل هو الزهد في الحلال و زهد السلامة هو الزهد في الشبهات.

قيل: إنّ حسّان ابن أبي سنان لا ينام مضطجعا و لا يأكل سمينا و لا يشرب باردا ستّين سنة فرؤي في المنام بعد ما مات فقيل له: ما فعل اللّه بك؟ فقال: خيرا غير أنّي محبوس عن الجنّة بإبرة استعرتها فلم أردّها.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 11]

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)

. قال السدّيّ: نزلت الآية في عبد الرحمن أخي حسّان الشاعر و ذلك أنّه مات و ترك امرأة و خمس أخوات فجاءت الورثة فأخذوا ماله و لم يعطوا امرأته شيئا فشكت إلى رسول اللّه فأنزل اللّه آية المواريث.

و لمّا ذكر سبحانه قبل «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ الآية» بيّن في هذا الآية ما أجمله في الآية السابقة فقال:

[يُوصِيكُمُ اللَّهُ أي يأمركم و يفرض عليكم لأنّ الوصيّة منه تعالى أمر و فرض و يدلّ على ذلك قوله: «وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ» (1) و هذا من الفرض المحكم علينا [فِي أَوْلادِكُمْ أي في ميراث أولادكم أو في توريث أولادكم أو في امور أولادكم فبيّن سبحانه فيما وصّى و أمر به فقال: [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي للابن من الميراث مثل نصيب البنتين.

ص: 56


1- الانعام: 152.

ثمّ ذكر نصيب الإناث من الأولاد فقال: [فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي فإن كانت الأولاد نساء فوق اثنتين [فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ من الميراث.

و ظاهر هذا الكلام يقتضي أنّ البنتين لا تستحقّان الثلثين لكنّ الامّة اجتمعت على أنّ حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات لكن ذكروا في وجه المعنى أنّ المراد في الآية بيان حكم البنتين فما فوقهما لأنّ معناه فإن كنّ اثنتين فما فوقها فلهنّ ثلثا ما ترك إلّا أنّه قدّم ذكر الفوق على الاثنتين كما روي عن النبيّ أنّه قال: لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيّام إلّا و معها زوجها أو ذو محرم لها. فمعنى الحديث أنّه لا تسافر سفرا ثلاثة أيّام فما فوقها و كذلك في الآية فحكم البنتين كحكم ما فوقهما.

[وَ إِنْ كانَتْ الباقية و المولود [واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ أي نصف ما ترك الميّت ثمّ ذكر حكم ميراث الوالدين فقال: [وَ لِأَبَوَيْهِ يعني الأب و الأمّ سمّي تغليبا، و الهاء في «أبويه» كناية عن غير مذكور أي و لأبوي الميّت [لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ] أي و للأب السدس مع الولد و كذلك الأمّ لها السدس مع الولد ذكرا كان الولد أو أنثى واحدا كان أو أكثر.

ثمّ إن كان الولد ذكرا كان الباقي له و إن كان ذكورا فالباقي لهم بالسويّة و إن كانوا ذكورا و إناثا فللذكر مثل حظّ الأنثيين و إن كانت بنتا فلها النصف و لأحد الأبوين السدس أولهما السدسان و الباقي عندنا الإماميّة يردّ على البنت و على أحد الأبوين أو عليهما على قدر سهامهم بدلالة قوله: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ»* (1) لكن عند غيرنا أنّ الأب في صورة الأنوثة بعد ما أخذ فرضه المذكور يأخذ ما بقي من ذوي الفروض بالعصوبة.

[فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أي للميّت [وَلَدٌ] أي ابن و لا بنت و لا أولادهما لأنّ اسم الولد يعمّ الجميع [وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ممّا ترك قال الطبرسيّ: و ظاهر هذا يدلّ على أنّ الباقي للأب و فيه إجماع فإن كان في الفريضة زوج فإنّ له النصف و للامّ الثلث و الباقي للأب و هو مذهب ابن عبّاس و أئمّتنا.

ص: 57


1- الأنفال: 75.

[فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ و الإخوة تقع على الاثنين فصاعدا أو الأخوات، قال أصحابنا الإماميّة: إنّما يكون لها السدس إذا كان هناك أب. و يدلّ عليه ما تقدّمه من قوله: «وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ» فإنّ هذه الجملة معطوفة على قوله: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» و تقديره: فإن كان له إخوة و ورثه أبواه فلامّه السدس.

قال الطبرسيّ: و قال بعض أصحابنا: إنّ لها السدس مع وجود الإخوة و إن لم يكن هناك أب و قالوا: إنّ الأخوين يحجبان الأمّ من الثلث إلى السدس. و قال ابن عبّاس:

لا تحجب الأمّ من الثلث إلى السدس بأقلّ من ثلاثة من الإخوة و الأخوات كما يقتضيه ظاهر الآية من لفظ الجمع و أصحابنا يقولون: لا تحجب الأمّ عن الثلث إلى السدس إلّا بالإخوان أو أخ و أختين أو أربع أخوات من قبل الأب و الأمّ أو من قبل الأب خاصّة دون الأمّ.

و في ذلك خلاف بين الفقهاء و منشأ الخلاف قالوا: و العرب تسمّي الاثنين بلفظ الجمع في كلامهم قال تعالى: «وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» (1) يعنى حكم داود و سليمان.

قوله تعالى: [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ أي تقسيم التركة على المذكور بعد قضاء الديون و إقرار الوصيّة، و لا خلاف في أنّ الدين مقدّم على الوصيّة و الميراث و إن أحاط بالمال، و أمّا الوصيّة فقد قيل: إنّها مقدّمة على الميراث. و قيل: بل الموصى له شريك الوارث و له الثلث و لهم الثلثان. و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: إنّكم تقرؤون في هذه الآية الوصيّة قبل الدين و إنّ رسول اللّه وصّى بالدين قبل الوصيّة. و الوجه في تقديم الذكر من الدين قبل الوصيّة في الآية أنّ لفظة «أو» إنّما هو لأحد الشيئين أو الأشياء و لا يوجب الترتيب فكأنّه قال: من بعد أحد هذين مفردا أو مضموما إلى الآخر و هذا كقولهم:

جالس الحسن أو ابن سيرين، فالمعنى جالس أحدهما مفردا أو مضموما إلى الآخر. و الحاصل أنّ الوصيّة و لو قدّمت على الدين في الذكر إلّا أنّها متأخّرة في الحكم و الدين مقدّم.

قوله: [آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً] ذكر فيه وجوه:

أحدها أنّ معناه أنتم لا تدرون أيّ هؤلاء أنفع لكم في الدنيا فتعطونه من الميراث

ص: 58


1- الأنبياء: 78.

ما يستحقّ و لكنّ اللّه قد فرض الفرائض على ما هو عند حكمه و علمه.

و قيل: إنّ معناه لا تدرون بأيّهم أنتم أسعد في الدنيا و الدين و اللّه يعلمه فافتسموه على ما بيّنه من المصلحة فيه، عن الحسن. و هذا المعنى على معنى الأوّل و قد جعله الطبرسيّ وجها ثانيا و ليس فيه معنى زائد من معنى الأوّل غير أنّه فيه زيادة لفظ الدين.

و ثالثها أنّ معناه لا تدرون أنّ نفعكم بتربية آبائكم لكم أكثر أم نفع أبنائكم و هذا المعنى أيضا قريب من معنى الأوّل و الثاني.

و الوجه الرابع عن ابن عبّاس أنّ المعنى: أطوعكم للّه- من الآباء و الأبناء- أرفعكم درجة يوم القيامة لأنّ اللّه يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض فإن كان الوالد أرفع درجة من ولده رفع اللّه إليه ولده في درجته لتقرّ بذلك عينه و إن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع اللّه والديه إلى درجته لتقرّ أعينهم.

و خامس الأقوال أنّ المراد لا تدرون أيّ الوارثين و المورّثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنّوا موتهم لترثوهم، عن أبي مسلم.

[فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض اللّه ذلك فريضة [إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً] أي لم يزل عليما بمصالحكم حكيما فيما يحكم به عليكم في الأموال و غيرها. و استعمال «كان» في مثل هذه الموارد بالماضي كالخبر بالاستقبال و الحال لأنّ الأشياء عند اللّه في حال واحدة ما مضى و ما يكون و ما هو كائن.

قوله: [سورة النساء (4): آية 12]

وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

. الكلالة أصلا الإحاطة و منه الإكليل لإحاطته بالرأس و منه الكلّ لإحاطته

ص: 59

بالعدد فالكلالة تحيط بأصل النسب الّذي هو الوالد و الولد.

المعنى: خاطب اللّه الأزواج فقال: [وَ لَكُمْ أيّها الأزواج [نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ أي زوجاتكم [إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ] أي ولد وارث من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها و إن سفل ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو متعدّدا منكم أو من غيركم و الباقي لورثتها.

[فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ] على نحو ما فصّل [فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ أي تركت أزواجكم من المال و الباقي لباقي الورثة [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ قد مرّ تفسيره.

[وَ لَهُنَ أي و لزوجاتكم [الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث [إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ] ذكرا أو أنثى منهنّ أو من غيرهنّ أو ولد ابن و إن سفل واحدة كانت الزوجة أو اثنين أو ثلاثا أو أربعا لم يكن لهنّ أكثر من ذلك.

[فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث واحدة كانت الزوجة أو أكثر من ذلك [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها] أيّها الأزواج [أَوْ دَيْنٍ و قد مرّ بيان الوصيّة والدين.

[وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً] اختلف في معنى الكلالة فقال جماعة من الصحابة و التابعين مثل عمر و أبي بكر و ابن عبّاس: إنّ الكلالة من هو عدا الولد و الوالد. و في رواية اخرى عن ابن عبّاس أيضا أنّه من عدا الوالد، لكنّ المرويّ عن أئمّتنا حسبما نقل الطبرسيّ في المجمع أنّ الكلالة الإخوة و الأخوات و المذكور في هذه الآية من كان من قبل الأمّ منهم و المذكور في آخر السورة من كان منهم من قبل الأب و الأمّ أو من قبل الآباء.

قال الفيض في الصافي: لهذا الكلام وجوه من الإعراب فقرى ء «يورث» بكسر الراء و بفتحها و كذلك قرئ «كلالة» منصوبة على الحاليّة و المفعوليّة و «كان» تامّة و ناقصة لكن باختلاف الإعراب لا يتغيّر الحكم.

قال الفيض: و الكلالة القرابة و يطلق على الوارث و المورّث و فسّرت في الكافي عن الصادق عليه السّلام بمن ليس بولد و لا والد و المراد القريب من جهة العرض لا الطول و المراد بها

ص: 60

في هذه الآية الإخوة و الأخوات من الأمّ خاصّة و في الآية الاخرى في آخر السورة من الأب و الأمّ أو الأب فقط، كذا عن المعصومين كما بيّنه الطبرسيّ.

[أَوِ امْرَأَةٌ] عطف على قوله: «وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ» معناه: و إن كان رجل كلالة يورث ماله أو امرأة كلالة تورث مالها: على قول من قال: إنّ الميّت نفسها تسمّى كلالة، و من قال: إنّه الحيّ الوارث؛ فالمعنى: و إن كان رجل يورث في حال تكلّل نسبه به أو امرأة يورث كذلك، و هذا المعنى قول أهل الكوفة، و يؤيّده ما روي عن جابر أنّه قال: أتاني رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أنا مريض فقلت: و كيف الميراث و إنّما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض.

فالكلالة في النسب من أحاط بالميّت و تكلّله من الإخوة و الأخوات، و الولد و الوالد ليسا بكلالة لأنّهما أصل النسب الّذي ينتهي إلى الميّت و من سواهما خارج عنهما و الوالد و الولد طرفان للرجل فإذا مات الرجل و لم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه فسمّي ذهاب طرفيه كلالة.

و قوله تعالى: [وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يعني الأخ و الاخت من الأمّ [فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ جعل الذكر و الأنثى هاهنا سواء و لا خلاف بين الامّة أنّ الإخوة و الأخوات من قبل الأمّ متساوون في الميراث.

[فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ و هذا الثلث يتوزّع عليهم بالسويّة [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى قرئ على المجهول [بِها أَوْ دَيْنٍ مرّ بيانه [غَيْرَ مُضَارٍّ] منصوب على الحال أي لم يكن قصده إضرار الورثة بأن يوصي زائدا عن الثلث لإضرارهم أو يقرّ بدين كاذب لحرمان الورثة، و قد جاء في الحديث أنّ الضرار في الوصيّة من الكبائر.

[وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ أي وصّاكم اللّه وصيّة بها لا يجوز تغييرها؛ قال صلى اللّه عليه و آله: من قطع ميراثا فرضه اللّه قطع اللّه ميراثه من الجنّة [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالمضارّ [حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة فلا يغترّ الإنسان بالإمهال.

[سورة النساء (4): الآيات 13 الى 14]

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)

ص: 61

[تِلْكَ أي الأحكام الّتي تقدّمت في أمر اليتامى و الوصايا و المواريث [حُدُودُ اللَّهِ و شرائعه الّتي هي كالحدود المحدودة بحيث لا يجوز مجاوزتها.

[وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في جميع الأوامر و النواهي الّتي من جملتها ما فصّل هاهنا.

[يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها] و صيغة الجمع بالنظر إلى جمعيّة «من» بحسب المعنى.

[وَ ذلِكَ أي هذا الثواب هو الفلاح العظيم و النجاة الوافرة يوم القيامة.

[وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و لو في بعض الأوامر و النواهي [وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ و شرائعه المحدودة في جميع الأحكام [يُدْخِلْهُ ناراً] عظيمة هائلة لا يقادر قدرها [خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ سمّاه «مهين» لأنّ اللّه يعذّبه على وجه الإهانة كما أنّه يثيب المؤمن على وجه الكرامة.

و استدلّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ صاحب الكبيرة من أهل الصلاة مخلّد في النار و معاقب فيها لا محالة.

قال الطبرسيّ: فقوله: «و يتعدّ حدوده» يدلّ على أنّ المراد به من تعدّى جميع حدوده و هذه صفة الكفّار و لأنّ صاحب الصغيرة بلا خلاف خارج من عموم الآية و الحالة أنّه فاعل للمعصية و متعدّ حدّا من حدود اللّه و إذا جاز إخراجه منه بدليل جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النبيّ أو يتفضّل اللّه عليه بالعفو بدليل آخر.

و أيضا فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية لقيام الدليل على وجوب قبول التوبة و كذلك يجب إخراج من يتفضّل اللّه بإسقاط العقوبة لقيام الدلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو.

على أنّ في المفسّرين من حمل الآية على من تعدّى حدود اللّه و عصاه مستحلّا لذلك و من كان كذلك كان كافرا قطعا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 15 الى 16]

وَ اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)

ص: 62

لمّا بيّن سبحانه حكم الرجال و النساء في باب النكاح و الميراث بيّن حكم الحدود في النساء إذا ارتكبن الحرام فقال: [وَ اللَّاتِي جمع الّتي [يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ] أي يفعلن الزنا [مِنْ نِسائِكُمْ أي الحرائر [فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي من المسلمين يخاطب الحكّام و الأئمّة فيأمرهم بطلب أربعة من الشهود في ذلك عند عدم الإقرار، و قيل:

هو خطاب للأزواج في نسائهم.

[فَإِنْ شَهِدُوا] عليهنّ بذلك [فَأَمْسِكُوهُنَ و احبسوهنّ [فِي الْبُيُوتِ و اجعلوها سجنا عليهنّ [حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي يدركهنّ الموت فيمتن في البيوت و يستوفي أزواجهنّ. و كان في مبتدء الإسلام إذا فجرت المرأة و قام عليها أربعة شهود حبست في البيت أبدا حتّى تموت ثمّ نسخ ذلك بالرجم في المحصن و الجلد في البكرين.

[أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا] قالوا: لمّا نزل قوله: «الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» (1) قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: خذوا عنّي خذوا عنّي قد جعل اللّه لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة و تعذيب عامّ و الثيّب بالثيّب جلد مائة و الرجم و قال بعض: إنّ من وجب عليه الرجم يجلد أوّلا ثمّ يرجم، و به قال الحسن و قتادة و جماعة من الفقهاء. و قال الطبرسيّ: قال أكثر أصحابنا: إنّ ذلك مختصّ بالشيخ و الشيخة فأمّا غيرهما فليس عليه غير الرجم.

و حكم هذه الآية و هي «وَ اللَّاتِي إلخ» منسوخ عند جمهور المفسّرين و هو المرويّ عن الصادقين عليهما السّلام، و قال بعضهم: إنّه غير منسوخ لأنّ الحبس لم يكن مؤبّدا.

و الصحيح عن الصادق: هي منسوخة. و السبيل هو الحدود و كان الحكم قبل السبيل أنّ المرأة إذا فجرت و قام عليها أربعة شهود دخلت بيتا و لم تحدّث و لم تكلّم و لم تجالس و أوتيت بطعامها و شرابها حتّى تموت ثمّ جعل اللّه لهنّ السبيل الجلد و الرجم.

و قال أبو مسلم الإصفهانيّ: إنّ المراد بقوله: «وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ» السحّاقات

ص: 63


1- النور: 2.

و حدّهنّ الحبس إلى الموت و بقوله: «وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» المراد أهل اللواط و المراد بالآية الّتي في سورة النور الزنى بين الرجل و المرأة و حدّه في البكر الجلد و في المحصن الرجم.

و احتجّ بأنّ قوله: «وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ» مخصوص بالنسوان و قوله: «وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» مخصوص بالرجال لأنّ كلمة «اللّذان» تثنية الذكور.

و احتجّوا على إبطال قول أبي مسلم: أنّ هذا قول لم يقله أحد من المفسّرين فكان باطلا، و قوله صلى اللّه عليه و آله قال: قد جعل اللّه لهنّ سبيلا الثيّب ترجم و البكر تجلد يدلّ على أنّ هذه الآية نازلة في حقّ الزناة.

ثمّ إنّ الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط و لم يتمسّك أحد منهم بهذه الآية. و أجاب أبو مسلم عن هذا الجواب فيطول شرحه و شرحه الرازيّ في المفاتيح من أراد فلينظر هناك.

و نقل الطبرسيّ قول أبي مسلم في الآية قال: و قال أبو مسلم: هما الرجلان يخلوان بالفاحشة بينهما و الفاحشة في الآية الاولى عنده السحق و في الآية الثانية اللواط فحكم الآيتين عنده ثابت غير منسوخة و إلى هذا التأويل ذهب أهل العراق، و هذا بعيد لأنّ الّذي عليه جمهور المفسّرين أنّ الفاحشة في الآية الزنا و أنّ الحكم في الآية منسوخة بالحدّ المفروض في سورة النور ذهب إليه الحسن و مجاهد و قتادة و السدّيّ و الضحّاك و البلخيّ و الجبّائيّ و الطبريّ و جماعة.

و قوله: [فَآذُوهُما] قيل: معناه التعيير باللسان و الضرب بالنعال، عن ابن عبّاس.

و قيل: التوبيخ باللسان.

و قرئ «وَ الَّذانِ» مشدّدا و مخفّفا و قرأ ابن كثير مشدّدا قال ابن مقسم: إنّما شدّد ابن كثير في هذه النونات مثل «اللّذانّ» «و هذانّ» لأمرين: أحدهما الفرق بين تثنية الأسماء المتمكّنة و غير المتمكّنة، و الآخر أنّ «الّذي» و «هذا» مبنيّان على حرف واحد و هو الذال فأرادوا تقوية كلّ واحد منهما بأن زادوا على نونها نونا آخر من جنسها.

و قيل: زادوا النون تأكيدا كما زادوا اللام.

ص: 64

ثمّ هاهنا مسألة و هي أنّه على قول المفسّرين ثبت أنّ الآية الاولى و الثانية في الزناة فما السبب في هذا التكرار؟

قال الرازيّ: إنّ المراد من قوله: «وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ» الزواني و المراد من قوله: «وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» الزناة ثمّ إنّه تعالى خصّ الحبس في البيت بالمرأة و خصّ الإيذاء بالرجل إذ الإيذاء كان مشتركا بينهما و الحبس كان من خواصّ المرأة.

و قال الحسن: هذه الآية نزلت قبل الآية المتقدّمة و التقدير: و اللّذان يأتيان الفاحشة من النساء و الرجال فآذوهما فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما، ثمّ نزل قوله:

«فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ» يعنى إن لم يتوبا و أصرّا على هذا الفعل القبيح.

قال الرازيّ: و هذا القول عندي في غاية البعد و يوجب فساد الترتيب في هذه الآيات، انتهى.

[فَإِنْ تابا] أي رجعا عن الفاحشة و أصلحا العمل فيما بعده [فَأَعْرِضُوا عَنْهُما] و كفّوا عن أذاهما [إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً] يقبل التوبة عن عباده و يرحمهم.

قال الحقّيّ في روح البيان: إنّ الرجل إذا زنى بامرأة و هما محصنان فحدّهما الرجم لا غير و إن كانا غير محصنين فحدّهما الجلد لا غير و إن كان أحدهما محصنا و الآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم و على الآخر الجلد، و المحصن هو أن يكون عاقلا بالغا مسلما حرّا دخل بامرأة بالغة حرّة مسلمة بنكاح صحيح فالرجم كان مشروعا في التوراة ثمّ نسخ بآية الإيذاء من القرآن ثمّ نسخ الإيذاء بآية الحبس، و آية الإيذاء و إن كانت متأخّرة في الترتيب إلّا أنّها سابقة على الاولى نزولا ثمّ صار الحبس منسوخا بحديث عبادة بن الصامت عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام و الثيّب بالثيّب جلد مائة و رجم بالحجارة ثمّ نسخ هذا كلّه بآية الجلد بقوله: «الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» و صار الحدّ هو الجلد في كلّ زان و زانية ثمّ صار هذا منسوخا بالرجم في حقّ المحصن بحديث ما عز و بقي غير المحصن في حكم الجلد و هو الترتيب في الآيات و السنّة. انتهى كلام روح البيان.

ص: 65

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 17]

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)

. لمّا ذكر سبحانه في الآيتين أنّ المرتكبين للفاحشة إذا تابا و أصلحا زال الأذى عنهما و وعد سبحانه بقبول التوبة بقوله: «تَوَّاباً رَحِيماً» ذكر في هذه الآية وقت التوبة و شرطها.

و لفظة [إِنَّمَا] يتضمّن النفي و الإثبات فالمعنى: لا توبة مقبولة [عَلَى اللَّهِ أي عند اللّه، كما فسّره الطبرسيّ. و قيل: «عَلَى» بمعنى «من» و أتى بلفظ «عَلَى» للدلالة على التحقّق البتّة بحكم كأنّه من الواجبات الّتي أوجب على نفسه بالتفضّل على القبول.

و احتجّ القاضي عبد الجبّار الهمدانيّ على أنّه يجب على اللّه عقلا قبول التوبة بهذه الآية من وجهين:

الاول: أنّ كلمة «عَلَى» للوجوب فقوله: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ» يدلّ على أنّه يجب عليه قبولها.

الثاني: لو حملنا قوله: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ» على مجرّد القبول لم يبق بينه و بين قوله: «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» فرق لأنّ هذا أيضا إخبار عن الوقوع أمّا إذا حملنا ذلك على وجوب القبول و هذا على الوقوع يظهر الفرق في بيان الآيتين و لا يلزم التكرار.

قال الرازيّ: إنّ القول بالوجوب على اللّه باطل لأنّ لازمة الوجوب استحقاق الذمّ عند الترك فهذه اللازمة إمّا أن يكون ممتنعة الثبوت في حقّ اللّه أو غير ممتنعة في حقّه و الأوّل باطل لأنّ ترك ذلك الواجب لمّا كان مستلزما لهذا الذّم و هذا الذمّ محال الثبوت في حقّ اللّه وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حقّه و إذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلا كان الفعل واجب الثبوت فحينئذ يكون اللّه موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار و ذلك باطل فثبت أنّ القول بالوجوب على اللّه باطل، ثمّ إنّ التوبة فعل يحصل باختيار العبد على

ص: 66

قولهم؛ فلو صار ذلك علّة للوجوب على اللّه لصار فعل العبد مؤثّرا في صفاته و ذاته و ذلك لا يقوله عاقل لكنّ الصحيح هو أنّه تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين فإذا وعد اللّه بشي ء و كان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب فبهذا التأويل صحّ إطلاق كلمة «على».

فإن قيل: لمّا أخبر سبحانه بقبول التوبة و كلّ ما أخبر عن وقوعه كان واجب الوقوع فيلزم أن لا يكون فاعلا مختارا.

فالجواب أنّ الإخبار عن الوقوع تبع للإيقاع فكان فاعلا مختارا في ذلك الإيقاع أمّا أنتم تقولون بأنّ وقوع التوبة من حيث إنّها هي تؤثّر في وجوب القبول على اللّه و هذا ليس بصحيح فظهر الفرق، انتهى كلام الرازيّ.

و بالجملة معنى قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ» قبولها [لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فقيل: معنى «بجهالة» أنّ كلّ معصية يفعلها العبد جهالة و إن كان على سبيل العمد لأنّ الجهل يدعو إليها و يزيّنها للعبد، عن ابن عبّاس و عطا و مجاهد و قتادة و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام قال: كلّ ذنب عمله العبد و إن كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه؛ فقد حكي قول يوسف عليه السّلام لإخوته:

«هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» (1) فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اللّه.

هذا أحد الوجوه في معنى «بجهالة».

و القول الثاني أنّ معناه أنّهم لا يعلمون كنه ما فيه من العقوبة كما يعلم الشي ء ضرورة، عن الفرّاء.

و ثالثها أنّهم يجهلون أنّها ذنوب فيفعلونها إمّا بتأويل يخطئون فيه و إمّا بأن يفرطوا في الاستدلال على قبحها.

و هذا هو الشرط الأوّل في التوبة و أمّا الشرط الثاني في الآية و هو قوله: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» و أجمع المفسّرون على أنّ المراد «مِنْ قَرِيبٍ» أي يتوبون قبل الموت لأنّ ما بين

ص: 67


1- يوسف: 89.

الإنسان و بين الموت قريب؛ فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت. و قال الحسن و الضحّاك و ابن عمر: ما لم يعاين الموت. و قال السدّيّ: هو مادام في الصحّة قبل المرض و الموت.

و في المجمع قال الطبرسيّ: روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قيل: له فإن عاد و تاب مرارا؟ قال: يغفر اللّه له، قيل: إلى متى؟ قال عليه السّلام: حتّى يكون الشيطان هو المحسور.

و في كتاب من لا يحضره الفقيه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في آخر خطبة خطبها: من تاب قبل موته بسنة تاب اللّه عليه ثمّ قال: و إنّ السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب اللّه عليه ثمّ قال: و إنّ الساعة لكثيرة من تاب قبل أن يغرغر بها (1) تاب اللّه عليه.

و روي أيضا بإسناده عن الحسن قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لمّا هبط إبليس قال:

و عزّتك و جلالك و عصمتك لا أفارق ابن آدم حتّى يفارق روحه جسده فقال اللّه سبحانه:

و عزتي و جلالي لا أحجب التوبة عن عبدي حتّى يغرغر بها.

[فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي يقبل توبتهم [وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] بمصالح العباد [حَكِيماً] فيما يعاملهم به.

[سورة النساء (4): آية 18]

وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)

. لمّا ذكر شرائط التوبة المقبولة أردفها بشرح التوبة الّتي لا يكون مقبولة و الآية دالّة على أنّ من حضره الموت و شاهد أهواله فإنّ توبته غير مقبولة كما قال سبحانه: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» (2) و كذلك لمّا أدرك فرعون الغرق قال: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ» (3) و أمثال هذه الآيات الدالّة على عدم قبول التوبة بعد حال اليأس من الحياة «كثيرة».

و الحاصل أنّه [لَيْسَتِ التَّوْبَةُ] المقبولة الّتي ينتفع بها صاحبها [لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ

ص: 68


1- غرغر بنفسه: جاد بها عند الموت.
2- غافر: 85.
3- يونس: 90.

المعاصي و يصرّون عليها و يسوّفون التوبة [حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ و أسبابها مثل معاينة ملك الموت و شواهد اليأس من الحياة [قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ و لعلّ السبب في عدم قبولها حينئذ أنّ الإيمان و العلم يقع ضروريّا فيسقط التكليف فلا فائدة فيها.

قال الطبرسيّ في المجمع: و أجمع أهل التأويل على أنّ هذه الآية قد تناولت عصاة أهل الإسلام إلّا ما روي عن الربيع انّه قال: إنّها في المنافقين و هذا لا يصحّ لأنّ المنافقين من جملة الكفّار؛ قال تعالى: «وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» (1).

و قد بيّن اللّه الكفّار بقوله: [وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ] أي ليست التوبة أيضا للذين يموتون على الكفر ثمّ يندمون بعد الموت [أُولئِكَ أَعْتَدْنا] و هيّأنا [لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً] موجعا.

قال صاحب المجمع: و من استدلّ بظاهر قوله: «أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» على وجوب العقاب لمن مات من مرتكبي الكبائر من المؤمنين قبل التوبة فالانفصال عن استدلاله أن يقال: إنّ معنى إعداد العذاب لهم إنّما خلق النار الّتي هي مصيرهم فالظاهر يقتضي استيجابهم لدخولها و ليس في الآية أنّ اللّه يفعل بهم ما يستحقّونه لا محالة.

و يحتمل أن يكون «أولئك» إشارة إلى الّذين يموتون و هم كفّار؛ لأنّه أقرب إليه من قوله: «يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ».

و يحتمل أن يكون التقدير من قوله: «أَعْتَدْنا لَهُمْ» أي إذا عاملناهم بالعدل و لم نشأ العفو عنهم، و تكون الفائدة فيه إعلامهم ما يستحقّونه من العقاب و أن لا يأمنوا من أن يفعل لهم ذلك فإنّ قوله: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* (2) لا يتناول المشيئة فيه إلّا المؤمنين من أهل الكبائر الّذين يموتون قبل التوبة لأنّ المؤمن المطيع خارج عن هذه الجملة و كذلك التائب إذ لا خلاف في أنّ اللّه لا يعذّب أهل الطاعات من المؤمنين و لا التائبين من المعصية و الكافر خارج عن المشيئة لإخبار اللّه تعالى أنّه لا يغفر الكفر فلم يبق تحت المشيئة إلّا من مات مؤمنا موحّدا و قد ارتكب كبيرة لم يتب منها.

ص: 69


1- المنافقون: 1.
2- السورة: 48.

لكن قال الربيع: إنّ الآية منسوخة بقوله: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* لأنّه حكم من اللّه و النسخ جائز في الأحكام و إنّما يمتنع النسخ في الأخبار.

قال الطبرسيّ: و هذا لا يصحّ لأنّ قوله: «أَعْتَدْنا» وارد مورد الخبر فلا يجوز النسخ فيه كما لا يجوز في سائر الأخبار.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 19]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)

. النزول: كان أهل الجاهليّة يؤذون النساء بأنواع كثيرة و بضروب من الظلم فاللّه تعالى نهاهم عنها مثل أنّ الرجل إذا مات و كانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة و قال: ورثت امرأته كما ورثت ماله فصار أحقّ بها من سائر الناس و من نفسها فإن شاء تزوّجها بغير صداق إلّا الصداق الأوّل الّذي أصدقها الميّت و إن شاء زوّجها من إنسان آخر و أخذ صداقها و أكله و لم يعطها شيئا؛ فأنزل اللّه الآية و بيّن أنّ ذلك حرام.

قال الطبرسيّ في المجمع: إنّ أبا قيس بن الأسلت لمّا مات عن زوجته كبيشة بنت معن ألقى ابنه محضر بن أبي قيس ثوبه عليها فورث نكاحها ثمّ تركها و لم يقربها و لم ينفق عليها فجاءت إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قالت: يا نبيّ اللّه لا أنا ورثت زوجي و لا أنا تركت فأنكح فنزلت الآية، عن مقاتل و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: نزلت في الرجل تكون تحته امرأة بكرة صحبتها و لها عليه مهر فيضارّها لتفتدي بالمهر، فنهوا عن ذلك، عن ابن عبّاس.

و قيل: نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده و لا حاجة له إليها و ينتظر موتها حتّى يرثها، عن الزهريّ، و روي ذلك عن أبي جعفر عليه السّلام أيضا.

و الحاصل: نهى اللّه عن الاستنان بسنّتهم أن تحبسوهنّ على كره منهنّ طمعا في

ص: 70

ميراثهنّ و أن تسيئوا صحبتهنّ ليفتدين بما لهنّ أو بما أعطيتموهنّ من مهورهنّ أو ليمتن فترثوهنّ، فنهى عن جميع هذه الأمور.

[وَ لا تَعْضُلُوهُنَ أي لا تمنعوهنّ عن النكاح أو المعنى لا تحبسوهنّ [لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ و اختلف في المعنيّ بهذا النهي على أربعة أقوال:

أحدها أنّه الزوج أمر اللّه بتخلية سبيلها إذا لم يكن له فيها حاجة و أن لا يمسكها إضرارا بها حتّى يفتدي ببعض مالها، عن ابن عبّاس و قتادة و السدّيّ و الضحّاك و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و ثانيها أنّ المخاطب بالنهي الوارث نهى عن منع المرأة عن التزويج كما يفعله أهل الجاهليّة، كما ذكر قبل هذا.

و ثالثها أنّه المطلّق أي لا يمنع المطلّقة من التزويج كما كانت يفعله قريش في الجاهليّة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فإذا لم توافقه فارقها على أن لا تتزوّج إلّا بإذنه و يشهد عليها بذلك و يكتب كتابا فإذا خطبها خاطب فإن أرضته أذن لها و إن لم تعطه شيئا عضلها و منعها عن التزويج، فنهى اللّه عن ذلك.

و رابعها أنّ المخاطب هو الوليّ بأنّه لا يمنعها عن النكاح. قال الطبرسيّ: و القول الأوّل هو الأصحّ.

[إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ] قيل: المراد من الفاحشة الزنى أي يزنين أي إذا أتت بهذا الأمر القبيح فله أخذ الفدية، عن السدّيّ و جماعة. و قيل: إنّ الفاحشة المراد منها هاهنا النشوز عن ابن عبّاس، و الأولى حمل الآية على كلّ معصية و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام و اختاره الطبريّ.

و اختلف في هذا الاستثناء ممّا ذا هو؟ فقيل: هو من أخذ المال و هو قول أهل التفسير.

و قيل: كان هذا قبل الحدود و كان الأخذ منهنّ على وجه العقوبة لهنّ ثمّ نسخ، عن الأصمّ.

و قيل: هو الحبس و الإمساك فيكون استثناء من قوله: «وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ» فالأولياء و الأزواج نهوا عن حبسهنّ في البيوت إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة ظاهرة فعند ذلك يحلّ لهم

ص: 71

حبسهنّ، أو استثناء من الحبس المذكور في قوله: «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ» لكن يتمّ هذا الكلام على قول أبي مسلم حيث زعم أنّه غير منسوخ.

[وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ و المراد من العشرة المصاحبة بما أمركم اللّه به من أداء حقوقهنّ الّتي هي النصفة في القسم و النفقات و الإجمال في القول و الفعل. و قيل: المعروف أن لا يضرّ بها و لا يضر بها و لا يسي ء القول معها و يكون منبسط الوجه معها بل يتّضع لها كما تتّضع له.

[فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ أي كرهتم إمساكهنّ و صحبتهنّ [فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ أي في ذلك الشي ء و هو إمساكهنّ على كره منكم [خَيْراً كَثِيراً] من ولد يرزقكم أو عطف لكم عليهنّ بعد الكرامة.

و في الآية حثّ للأزواج على حسن الصبر فيما يكرهون من الأزواج و ترغيبهم في إمساكهنّ مع كراهة صحبتهنّ إذا لم يخافوا في ذلك من ضرر على النفس والدين و المال لأنّه لمّا كره الرجل صحبتها ثمّ تحمّل ذلك المكروه طلبا لثواب اللّه و أنفق عليها و أحسن إليها على خلاف الطبع استحقّ الثواب الجزيل في العقبى.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 20 الى 21]

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20) وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)

قيل: إنّ الرجل منهم إذا مال إلى التزوّج بامرأة اخرى رمى زوجته بالفاحشة حتّى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج المرأة الّتي يريدها فقال اللّه:

[وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ خاطب الأزواج «وَ إِنْ أَرَدْتُمُ» أيّها الأزواج إقامة امرأة مقام امرأة و أعطيتم المطلّقة الّتي تستبدلون بها غيرها [قِنْطاراً] أي مالا عظيما كثيرا و «القنطر» يقال للداهية لأنّها كالقنطرة في عظم الصورة. و قيل: القنطار ملئي مسك ثور ذهبا أو أنّه دية الإنسان.

[فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ أي من المعطى [شَيْئاً] إذا كرهتموهنّ و أردتم طلاقهنّ [أَ تَأْخُذُونَهُ

ص: 72

بُهْتاناً] هذا استفهام إنكاريّ أي «أ تاخذونه باطلا و ظلما» كالظلم بالبهتان و البهتان كذب يحيّر الإنسان لعظمته و يبهته، و البهتان مصدر وضع موضع الحال أي مباهتين و آثمين أو المعنى تصيبون بالأخذ بهتانا [وَ إِثْماً مُبِيناً] ظاهرا لا شكّ فيه.

و ليس معنى الآية أنّ حرمة الأخذ مختصّة بالاستبدال بأن يجوز له الأخذ بغير الاستبدال بل المعنى: إن أردتم تخلية المرأة سواء استبدلتم مكانها اخرى أم لم تستبدلوا فلا تأخذوا ممّا آتيتموها شيئا. و إنّما خصّ حال الاستبدال بالنهي عن الأخذ لعدم التوهّم بجواز الاسترجاع مع الاستبدال.

[وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ و هذا تعظيم في عجب هذا الفعل، كيف تأخذون ذلك منهنّ؟

[وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ و هو كناية عن الجماع، و قيل: الإفضاء حصوله معها في فراش واحد، عن الكلبيّ.

[وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً] و الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، عن الحسن و ابن سيرين و الضحّاك و جماعة و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و القول الثاني: أنّ المراد بالميثاق كلمة النكاح الّتي يستحلّ بها الفرج. و القول الثالث: قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله حيث قال: أخذتم بأمانة اللّه و استحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه.

قال الطبرسيّ: و قد قيل في هاتين الآيتين ثلاثة أقوال:

أحدها أنّهما محكمتان غير منسوختين لكن للزوج أن يأخذ الفدية من المختلعة لأنّ النشوز حصل من جهتها فالزوج في حكم المكره لا المختار للاستبدال و لا يتنافى حكم الآيتين و حكم آية الخلع فلا يحتاج إلى نسخهما بآية الخلع، و هو قول الأكثرين.

و القول الثاني: أنّهما محكمتان و ليس للزوج أن يأخذ من المختلعة شيئا و لا من غيرها بسبب ظاهر الآية، و هذا القول عن بكر بن عبد اللّه المزنيّ.

و القول الثالث: أنّ حكمها منسوخ بقوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» (1) عن الحسن. انتهى.

ص: 73


1- البقرة: 229.

[سورة النساء (4): آية 22]

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (22)

. نزلت الآية في ما كان يفعله أهل الجاهليّة عن نكاح امرأة الأب، عن ابن عبّاس و عطا و عكرمة و قتادة و قالوا: تزوّج صفوان بن اميّة امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطّلب و تزوّج حصين بن أبي قيس امرأة أبيه كبيشة بنت معن و تزوّج منصور بن زياد امرأة أبيه مليكة بنت خارجة.

و قيل: توفّي أبو قيس و كان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت إنّك من صالحي قومك فأتى رسول اللّه و استأمره فأتته و أخبرته فقال لها رسول اللّه: ارجعي إلى بيتك، فأنزل اللّه هذه الآية.

و النكاح اسم يقع على العقد و على الوطء أمّا على العقد مثل «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ» (1) و على الوطء مثل قوله: «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً» (2) و مثل قوله صلى اللّه عليه و آله: ملعون من نكح يده و ملعون من نكح بهيمة.

و قال آخرون: إنّ لفظ النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد؛ لأنّ أصل اللغة عبارة عن الضمّ و معنى الضمّ حاصل في الوطء لا في العقد فكان لفظ النكاح حقيقة في الوطء.

ثمّ إنّ العقد سمّي بهذا الاسم لأنّ العقد لمّا كان سببا له أطلق المسبّب على السبب: كما أنّ العقيقة اسم للشعر الّذي يكون على رأس الصبيّ حال ما يولد ثمّ تسمّى الشاة الّتي تذبح عند حلق ذلك الشعر عقيقة، فكذا هاهنا.

فقوله: [وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ أي لا تتزوّجوا ما تزوّج آباؤكم و قيل: ما وطئ آباؤكم من النساء حرم عليكم. و قيل: إنّ تقديره: و لا تنكحوا نكاح آبائكم أي مثل نكاح آبائكم فيكون «ما نكح» بمنزلة المصدر و يكون النفي عن حلائل الآباء و كلّ نكاح كان لهم فاسد في الجاهليّة، و هذا قول الطبريّ.

و الإتيان «بما» فقد ذهب مذهب الجنس كما يقول القائل: لا تأخذ ما أخذ أبوك من الإماء فيذهب به مذهب الجنس ثمّ فسّره «بمن» في قوله: «مِنَ النِّساءِ».

ص: 74


1- النور: 32.
2- النور: 30.

و هاهنا بيان و هو أنّ من الناس من ذهب أنّ لفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا فهذا القائل قال: دلّت الآية على أنّ لفظ النكاح حقيقة في الوطء و في العقد معا فكان قوله:

«وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ» نهيا عن الوطء و عن العقد معا حملا للّفظ على كلا مفهوميه.

و أمّا من قال بأنّ لفظ المشترك لا يجوز استعماله في مفهوميه معا قال: إنّ لفظ النكاح قد استعمل في القرآن في الوطء تارة و في العقد اخرى، قالوا: و القول بالاشتراك و المجاز خلاف الأصل و لا بدّ من جعل حقيقة في القدر المشترك بينهما و هو معنى الضمّ حتّى يندفع الاشتراك و المجاز و إذا كان كذلك كان قوله: «وَ لا تَنْكِحُوا» نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين و النهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كلّ واحد من القسمين لا محالة؛ فإنّ النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد و عن الوطء معا، انتهى.

قوله تعالى: [إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ قيل: إنّ المعنى هذا الاستثناء على طريق المعنى أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلّا ما قد سلف قبل نزول التحريم فإنّه معفوّ عنه. و قيل الاستثناء منقطع لأنّه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل فالمعنى: لكن ما قد سلف فإنّ اللّه يجاوز عنه، و استثنى ما قد مضى ليعلم أنّه لم يكن مباحا. و قيل: «إلّا» في الآية بمعنى «بعد» كقوله: «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى (1) أي بعد الموتة الاولى.

[إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً] الضمير في «إنّه» قيل: راجع إلى هذا النكاح قبل النهي؛ لأنّ هذا الّذي حرّمه عليهم كان منكرا لم يزل في قلوبهم ممقوتا و كانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه: مقتى، و ذلك لأنّ زوجة الأب تشبه الأمّ و كان نكاح الأمّهات من أقبح الأشياء عند العرب فبيّن اللّه أنّ هذا النكاح أبدا كان ممقوتا و قبيحا. و القول الثاني:

أنّ الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي فبيّن سبحانه أنّه فاحشة و زنى في الإسلام.

[وَ مَقْتاً] عند اللّه، و المقت عبارة عن بغض مقرون باستحقار حصل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه [وَ ساءَ سَبِيلًا] و «ساء» فعل لازم و فاعله مضمر و سبيلا منصوب تفسير لذلك الفاعل.

و مراتب القبح ثلاثة في العقول و في الشرائع و في العادات فقوله: «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً»

ص: 75


1- الدخان: 56.

إشارة إلى القبح العقليّ و قوله: «مقتا» إشارة إلى القبح الشرعيّ و قوله: «وَ ساءَ سَبِيلًا» إشارة إلى القبح العرفيّ العاديّ، و متى اجتمعت في الأمر هذه الوجوه قد بلغ الغاية في القبح.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 23]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)

. ثمّ بيّن المحرّمات من النساء و لا بدّ في الكلام من محذوف؛ لأنّ التحريم لا يتعلّق بالأعيان و إنّما يتعلّق الحلال و الحرام بأفعال المكلّف و يختلف المحذوف باختلاف ما أضيف إليه فإذا أضيف إلى مأكول نحو قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ» أي أكل الميتة و إذا أضيف إلى النساء فالمراد العقد و النكاح فالتقدير في الآية: حرّم عليكم نكاح امّهاتكم، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام مفهوما عليه. و «الأمّ» كلّ امرأة رجع نسبك إليها بالولادة.

فشرح اللّه سبحانه على تحريم أربعة عشر صنفا من النساء سبعة منهنّ من جهة النسب و هنّ الأمّهات و البنات و الأخوات و العمّات و الخالات و بنات الأخ و بنات الأخت. و سبعة اخرى لا من جهة النسب بل بالسبب: الأمّهات من الرضاعة، و الأخوات من الرضاعة، و امّهات النساء، و بنات النساء و هنّ الربائب- بشرط أن يكون قد دخل بالنساء- و أزواج الأبناء و أزواج الآباء (لأنّ أزواج الأبناء مذكورة هاهنا و أزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدّمة كما شرحت) و الجمع بين الأختين.

و ذكر العلماء أنّ السبب لهذا التحريم أنّ الوطء إذلال و إهانة و أنّ الإنسان يستحيي من ذكره، و إذا كان كذلك وجب صون الأمّهات عنه لأنّ إنعام الأمّ على الولد أعظم و لا بدّ له عن صونها عن هذا الإذلال و كذا القول في البقيّة.

قوله: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ و لا شكّ أنّ «الجدّة» حكمها حكم الأمّ و إن علت.

ص: 76

قال الرازيّ: إنّ لفظ الأمّ لا شكّ أنّه حقيقة في الأمّ الأصليّة فأمّا في الجدّات فإمّا أن يكون حقيقة أو مجازا فإن كان لفظ «الأمّ» حقيقة في الأمّ الأصليّة و في الجدّات فإمّا أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا فإن كان لفظا متواطئا يعنى أن يكون لفظا موضوعا بإزاء قدر مشترك بين الأمّ الأصليّة و بين سائر الجدّات فعلى هذا التقدير يكون قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» نصّا في تحريم الأمّ الأصليّة و في تحريم جميع الجدّات و أمّا إن كان لفظ الأمّ مشتركا في الأمّ الأصليّة و في الجدّات فهذا يتفرّع على أنّ اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا؟ فمن جوّزه حمل اللفظ هاهنا على الكلّ و حينئذ يكون تحريم الجدّات منصوصا عليه، و من قال: لا يجوز فالحكم لهم في تحريم الجدّات غير مستفاد من هذا النصّ بل بدليل الإجماع و دلائل اخرى.

النوع الثاني من المحرّمات: البنات و هي كلّ أنثى يرجع نسبها إليك بدرجة أو درجات الصلبيّة، و بنات الأولاد و إن سفلن.

النوع الثالث: الأخوات من قبل الأب و الأمّ أو من قبل أحدهما.

[وَ عَمَّاتُكُمْ جمع «عمّة» و كلّ ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمّتك و قد تكون العمّة من جهة الأمّ مثل اخت أبي امّك و اخت جدّ امّك فصاعدا.

[وَ خالاتُكُمْ جمع «الخالة» و كلّ أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فاختها خالتك و قد تكون الخالة من جهة الأب مثل اخت امّ أبيك أو جدّة أبيك فصاعدا و قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» ليس المقصود أنّه قد حرم على كلّ أحد جميع امّهاتهم و قابل الجمع بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد أي حرّم على كلّ أحد بنته مثلا أو أخته فمعنى الآية حرّم اللّه على كلّ واحد منكم نكاح امّه و من يقع عليها اسم الأمّ فصاعدا مثل امّ الأمّ و نكاح بنته و من يقع عليها اسم البنت فنازلا مثل بنت البنت و كذلك الجميع.

قوله تعالى: [وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ فهذا أيضا على ما ذكر جمع بإزاء جمع فيقع على الآحاد بإزاء الآحاد و التحديد في هؤلاء كالتحديد في بنات الصلب و هؤلاء السبع هي المحرّمات بالنسب.

ص: 77

و أمّا السبع الّتي تحرم بالسبب فقال سبحانه: [وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ سمّاهنّ «امّهات» للحرمة و كلّ أنثى انتسبت إليها باللبن فهي امّك فالّتي أرضعتك أو أرضعت امرأة أرضعتك فهي امّك من الرضاعة و كذلك كلّ امرأة ولدت امرأة أرضعتك أو رجلا فهي امّك من الرضاعة.

قال الواحديّ: المرضعات سمّاهنّ امّهات لأجل الحرمة كما سمّى أزواج النبيّ امّهات المؤمنين في قوله: «وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» (1) لأجل الحرمة و قوله صلى اللّه عليه و آله:

و يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب بدلالة هذه الآية.

الصنف الثاني من المحرّمات بالسبب من الأصناف السبعة قوله: [وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ] يعني بنات المرضعة و هنّ ثلاثة الصغيرة الأجنبيّة الّتي أرضعتها امّك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك و الثانية أختك لأمّك دون أبيك و هي الّتي أرضعتها امّك بلبان غير أبيك و الثالثة أختك لأبيك دون امّك و هي الّتي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك.

و الكلام في الرضاع يشتمل على ثلاثة فصول:

أحدها: مدّة الرضاع فقد اختلف فيها فقال الأكثرون: لا يحرم الرضاع إلّا ما كان في مدّة الحولين، و هو مذهب أصحابنا و اتّفقوا على أنّ رضاع الكبير لا يحرم.

و أمّا قدر الرضاع فقال أبو حنيفة: إنّ قليله و كثيره يحرم. و قال الشافعيّ:

يحرم خمس رضعات. و قال أصحابنا: لا يحرم إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم و يعتبر ذلك برضاع يوم و ليلة لا يفصل بينه برضاع امرأة اخرى أو بخمس عشر رضعة متواليات لا يفصل بينها برضاع امرأة اخرى. و قال بعض أصحابنا: المحرّم عشر رضعات متواليات.

و أمّا كيفيّة الارتضاع فعند أصحابنا لا يحرم إلّا ما وصل إلى الجوف من الثدي في المجرى المعتاد الّذي هو الفم فأمّا ما يوجر أو يسقط أو يحقن به فلا يحرم بحال و لبن الميتة لا حرمة له في التحريم و في منع ذلك خلاف.

و الصنف الثالث [وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أي و حرّم عليكم نكاحهنّ فلا يجوز نكاح امّ

ص: 78


1- الأحزاب: 6.

الزوجة و جدّاتها قرين أو بعدن من أيّ وجه كنّ سواء كنّ من النسب أو من الرضاع و هنّ تحرمن بنفس العقد على البنت أو الثيّب سواء دخل بها أم لم يدخل.

[وَ رَبائِبُكُمُ أي نبات نسائكم من غيركم [اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ أي في ضمانكم و تربيتكم. و لا خلاف بين العلماء أنّ كونهنّ في حجره ليس بشرط في التحريم و إنّما ذكر ذلك لأنّ الغالب أنّها يكون كذلك بل تحرم بنت المرأة من غير زوجها على زوجها و كذلك بنت ابنها و بنت بنتها قربت أم بعدت لوقوع اسم الربيبة عليهنّ. و قال أبو عبيدة: «فِي حُجُورِكُمْ» أي في بيوتكم.

[مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ و هذه نعت لأمّهات الربائب لا غير، لحصول الإجماع على أنّ الربيبة تحلّ إذا لم يدخل بامّها.

قال الطبرسيّ: و اختلف في معنى الدخول على قولين: أحدهما أنّ المراد به الجماع، عن ابن عبّاس. و الآخر أنّه الجماع و ما يجري مجراه من المسّ و التجريد، عن عطاء و هو مذهبنا و في ذلك خلاف بين الفقهاء.

[فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ فيما قبل أصلا [فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ في نكاح الربائب إذا فارقتم امّهاتهنّ و طلّقتموهنّ أو متن.

[وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أي و حرّم عليكم نكاح أزواج أبنائكم حقيقة و أزال الشبهة في أمر زوجة المتبنّى به فقال: «الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» لئلّا يظنّ أنّ زوجة المتبنّى به تحرم على المتبنّي. و روي عن عطا أنّ هذه نزلت حين نكح النبيّ صلى اللّه عليه و آله امرأة زيد بن حارثة فقال المشركون في ذلك فنزل: «وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» و قوله تعالى: «وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» (1) قوله تعالى: [وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي و حرّم عليكم الجمع بين الأختين لأنّ «أن» مع صلتها في حكم المصدر.

قال الطبرسيّ: و هذا يقتضي تحريم الجمع بين الأختين على الحرائر و كذلك تحريم الجمع بينهما في الوطء بملك اليمين فإذا وطئ أحدهما فقد حرّمت عليه الاخرى

ص: 79


1- الأحزاب: 4.

حتّى تخرج تلك من ملكه و هو قول الحسن و أكثر المفسّرين و الفقهاء.

قال الرازيّ في المفاتيح: و أمّا الجمع بين الأختين بملك اليمين أو بأن ينكح أحدهما و يشتري الاخرى فقد اختلف الصحابة فيه فقال عليّ عليه السّلام و عمرو ابن مسعود و زيد بن ثابت و ابن عمر: لا يجوز الجمع بينهما. و الباقون جوّزوا ذلك.

أقول: و المنع صحيح بمقتضى ظاهر الآية لأنّ ظاهر الآية يقتضي التحريم على جميع الوجوه و لقوله صلى اللّه عليه و آله: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يجمعنّ ماءه في رحم أختين، رواه أبو السعود في تفسيره.

قوله تعالى: [إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء منقطع أي لكن ما قد مضى لا تؤاخذون به قال أبو السعود: لا سبيل إلى جعله متّصلا و ليس المراد أنّ ما سلف حال النهي يجوز استدامته بلا خلاف لأنّ قوله: [إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً] يدلّ على المنع.

و قال عطاء و السدّيّ. معناه إلّا ما كان من يعقوب فإنّه قد جمع بين ليّا امّ يهودا و بين راحيل امّ يوسف و لا يساعده التعليل لأنّ ما فعله يعقوب كان حلالا في شريعته.

و قال ابن عبّاس: كان أهل الجاهليّة يحرّمون هذه الأمور المذكورة إلّا امرأة الأب و الجمع بين الأختين و قد عقّب اللّه النهي على كلّ منهما بقوله: «إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ»*.

و اعلم أنّ كلّ ما حرّم اللّه في هذه الآية فإنّما هو على وجه التأبيد سواء كان مجتمعات أو متفرّقات إلّا الأختين فإنّهما تحرّمان على وجه الجمع دون الانفراد.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 24]

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)

[وَ الْمُحْصَناتُ بفتح العين قيل: أي و حرّمت عليكم النساء اللاتي احصنّ بالأزواج [إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من سبي من كان لها زوج عن عليّ عليه السّلام و ابن مسعود و ابن عبّاس

ص: 80

و مكحول و الزهريّ و استدلّ بعضهم على ذلك بخبر أبي سعيد الخدريّ أنّ الآية نزلت في سبى أو طاس (1) و أنّ المسلمين أصابوا نساء المشركين و كان لهنّ أزواج في دار الحرب فلمّا نزلت نادى منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن و لا غير الحبالى حتّى يستبرئن بحيضة. و من خالف فيه ضعّف هذا الخبر بأنّ سبى أوطاس كانوا عبدة الأوثان و لم يدخلوا في الإسلام و لا تحلّ نكاح الوثنيّة، و أجيب عن ذلك بأنّ الخبر محمول على ما بعد الإسلام.

قال أبو السعود: و قرئ «المحصنات» بصيغة الفاعل فإنّهنّ أحصنّ فروجهنّ عن غير أزواجهنّ و قد ورد الإحصان في القرآن بإزاء أربعة معان: التزوّج كما في هذه الآية الكريمة. الثاني: العفّة كما في قوله «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ». الثالث: الحرّيّة كما في قوله «وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ» و الرابع. الإسلام كقوله:

«فَإِذا أُحْصِنَّ» أي أسلمن.

و المعنى الثاني في الآية أنّ المراد ذوات الأزواج [إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فمن كان لها زوج لأنّ بيعها طلاقها، عن ابيّ بن كعب و جابر بن عبد اللّه و أنس و ابن المسيّب و الحسن. و قال ابن عبّاس: طلاق الأمة تثبت بستّة أشياء سبيها و بيعها و عتقها و هبتها و ميراثها و طلاق زوجها.

و القول الثالث في الآية أنّ المراد «بالمحصنات» العفائف «إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» بالنكاح أو بالثمن ملك استمتاع بسبب المهر و النفقة أو ملك استخدام بالثمن، عن سعيد بن جبير و أبي العالية و عطاء و السدّيّ.

[كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني كتب اللّه تحريم ما حرّم و تحليل ما حلّل عليكم كتابا فلا تخالفوه و تمسّكوا به.

قوله: [وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ قيل: في معناه أربعة أقوال:

ص: 81


1- هم بقية المشركين المنهزمين من حنين.

أحدها: احلّ لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم، عن عطاء.

و ثانيها: أنّ معناه احلّ لكم مادون الخمس و هي الأربع فما دونها أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح عن السدّيّ.

و ثالثها: ما وراء ذلكم ممّا ملكت أيمانكم، عن قتادة.

و رابعها: احلّ لكم ما وراء المذكورات من المحارم، و من الزيادة على الأربع و خرج منه بالسنّة ما في معنى المذكورات كسائر محرّمات الرضاع و مثل الجمع بين المرأة و عمّتها و خالتها بغير إذنها كما في الكافي عن الباقر عليه السّلام في عدّة روايات.

[أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ و تصرفوا أموالكم في مهورهنّ أو أثمانهنّ [مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ و المراد بالإحصان هاهنا العقد و السفاح الزنى أي متزوّجين غير زانين أو معنى «الإحصان» العفّة أي أعفّة غير زناة.

قوله: [فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ أي بالعقد [مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً] قيل: المراد بالاستمتاع هنا درك البغية و المباشرة و قضاء الوطر من اللذّة، عن الحسن و مجاهد و ابن زيد.

فيكون المعنى على هذا: فما استمتعتم و تلذّذتم من النساء بالنكاح فآتوهنّ مهورهنّ.

و قيل: المراد به نكاح المتعة و هو النكاح المنعقد بمهر معيّن إلى أجل معلوم، عن ابن عبّاس و السدّيّ و جماعة من التابعين و هو مذهب أصحابنا الإماميّة، و هو الصحيح الواضح لأنّ أصل الاستمتاع و التمتّع و إن كان واقعا على الانتفاع و الالتذاذ فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا العقد المعيّن لا سيّما إذا أضيف إلى النساء فيكون المعنى: فمتى عقدتم عليهنّ هذا العقد المسمّى متعة فآتوهنّ اجورهنّ.

و يدلّ على ذلك أنّ اللّه علّق وجوب إعطاء المهر بالاستمتاع و ذلك يقتضي أن يكون المراد و المعنيّ هذا العقد المخصوص دون الجماع و الاستلذاذ لأنّ المهر لا يجب إلّا به و قد علم أنّه لو طلّقها قبل الدخول لزمه نصف المهر و لو كان المراد به النكاح الدائم لوجب للمرأة بحكم الآية جميع المهر بنفس العقد لأنّه قال تعالى: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» أي مهورهنّ و لا خلاف في أنّ ذلك غير واجب و إنّما يجب الاجرة بكماله بنفس العقد في نكاح المتعة.

ص: 82

قال الفيض في الصافي: في الكافي عن الصادق عليه السّلام: إنّما نزلت الآية «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فآتوهن اجورهنّ فريضة. و العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام أنّه كان يقرؤها كذلك، و رواية العامّة أيضا عن جماعة من الصحابة منهم ابيّ بن كعب و عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن مسعود.

و في هذه القراءة بأنّ المراد به عقد المتعة و قد أورد الثعلبيّ في تفسيره عن حبيب بن أبي ثابت قال: أعطاني ابن عبّاس مصحفا فقال: هذا على قراءة ابيّ فرأيت في المصحف:

«فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى».

و بإسناده عن أبي نصرة قال: سألت ابن عبّاس عن المتعة فقال: أما تقرأ سورة النساء؟

فقلت: بلى، فقال: فما تقرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى» قلت: لا أقرؤها هكذا قال ابن عبّاس: هكذا و اللّه أنزلها اللّه تعالى، قالها ثلاث مرّات.

و بإسناده عن سعيد بن جبير أنّه قرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى».

و بإسناده عن شعبة بن الحكم بن عتبة قال: سألت عليّا عن هذه الآية: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» أ منسوخة؟ قال عليّ: لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقيّ و روي «إلّا شفيّ» بالفاء يعني إلّا قليل.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: المتعة نزلت بها القرآن و جرت بها السنّة عن رسول اللّه و كان نهى عمر عنها تارة يقول: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه أنا محرّمهما و معاقب عليهما: متعة الحجّ و متعة النساء، و اخرى بقوله: ثلاث كنّ في عهد رسول اللّه أنا محرّمهنّ متعة الحجّ و متعة النساء و «حيّ على خير العمل» في الأذان.

قال الفيض: و فيه- أي الكافي- جاء عمر الليثيّ إلى أبي جعفر عليه السّلام قال: يا أبا جعفر ما تقول في متعة النساء؟ فقال عليه السّلام: أحلّها اللّه في كتابه و على لسان رسوله فهي حلال إلى يوم القيامة، فقال: يا أبا جعفر مثلك يقول هذا و قد حرّمها عمر و نهى عنها؟

فقال عليه السّلام: و إن كان فعل، قال: فإنّي أعيذك باللّه عن ذلك أن تحلّ شيئا حرّمه عمر

ص: 83

فقال له عليه السّلام: فأنت على قول صاحبك و أنا على قول رسول اللّه فهلمّ ألاعنك (1) أنّ القول ما قال رسول اللّه و أنّ الباطل ما قال صاحبك، فأقبل عبد اللّه عمر فقال: أ يسرّك أنّ نساءك و بناتك و أخواتك و بنات عمّك يفعلن ذلك، قال: فأعرض عنه أبو جعفر عليه السّلام حين ذكر نساءه و بنات عمّه.

و فيه: سأل أبو حنيفة أبا جعفر فقال: يا أبا جعفر ما تقول في المتعة؟ فقال عليه السّلام:

إنّها حلال، قال: فما يمنعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن؛ فقال أبو جعفر عليه السّلام: ليس كلّ الصناعات يرغب فيها و إن كانت حلالا و للناس أقدار و مراتب يعرفون أقدارهم و لكن ما تقول يا با حنيفة في النبيذ أ تزعم أنّه حلال؟ قال: نعم، قال: فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نبّاذات فيكسبن عليك؟ فقال أبو حنيفة: واحدة بواحدة.

ثمّ قال له: يا با جعفر إنّ الآية الّتي في «سَأَلَ سائِلٌ» نطق بتحريم المتعة و الرواية عن النبيّ جاءك بنسخها، فقال له: أبو جعفر يا با حنيفة سورة «سأل سائل» مكّيّة و آية المتعة مدنيّة ورد منك رديئة شاذّة، فقال أبو حنيفة: و آية المواريث إنّه تنطق بنسخ المتعة، فقال له أبو جعفر: قد ثبت النكاح بغير ميراث، فقال أبو حنيفة: من أين قلت ذلك؟ فقال الباقر عليه السّلام: لو أنّ رجلا من المسلمين تزوّج بامرأة من أهل الكتاب ثمّ توفّي عنها ما تقول فيها؟ قال: لا ترث عنه، قال: فقد ثبت النكاح بغير ميراث ثمّ افترقا.

قوله [وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ] فمن قال: إنّ المراد بالاستمتاع الانتفاع و الجماع كما عليه العامّة قال: المراد به: لا حرج و لا إثم عليكم فيما تراضيتم به من زيادة مهر أو نقصانه أو حطّ أو إبراء أو تأخير و قال: معناه: لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من استيناف عقد آخر بعد انقضاء مدّة الأجل المضروب في عقد المتعة يزيدها الرجل في الأجر و يزيده المرأة في المدّة.

و هذا القول مطابق لقول الإماميّة و تظاهرت به الروايات عن أئمّتهم المعصومين كما في الكافي و العيّاشي عن الباقر عليه السّلام قال: لا بأس بأن تزيدها و تزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما و لا تحلّ لغيرك حتّى تنقضي عدّتها، و عدّتها حيضتان.

ص: 84


1- من الملاعنة.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً] عليم بما يصلح أمر الخلق حكيم فيما فرض لهم من الأمور الّتي تحفظ الأموال و الأنساب.

قوله تعالى [سورة النساء (4): آية 25]

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

قرأ الكسائيّ «المحصنات» بكسر الصاد و كذلك «مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ» و كذلك «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ» كلّها بكسر الصاد و الباقون بالفتح، فالفتح معناه ذوات الأزواج، و الكسر معناه العفائف و الحرائر.

المعنى: أي من لم يجد منكم غنى أن يتزوّج الحرائر من المهر و النفقة [فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فلينكح ممّا ملكت أيمانكم [مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ أي إمائكم فإنّ مهور الإماء أقلّ و مؤونتهنّ أخفّ في العادة و المراد به إماء الغير لأنّه لا يجوز أن يتزوّج الرجل بأمة نفسه بالإجماع.

و في الآية دلالة على أنّه لا يجوز نكاح الأمة الكتابيّة لأنّه تعالى قيّد جواز العقد عليهنّ بالإيمان، و هذا مذهب مالك و الشافعيّ، في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يتزوّج الأمة قال: لا إلّا أن يضطرّ إليه. و عن الصادق عليه السّلام لا ينبغي أن يتزوّج المملوكة اليوم إنّما كان ذلك حيث قال اللّه: «وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا» و الطول المهر و مهر الحرّة اليوم مهر الأمة. و عنه: يتزوّج الحرّة على الأمة و لا يتزوّج الأمة على الحرّة و نكاح الأمة على الحرّة باطل و إن اجتمعت عندك حرّة و أمة فللحرّة يومان و للأمة يوم و لا يجوز نكاح الأمة إلّا بإذن مولاها.

[وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ أراد سبحانه بيان أنّه إنّكم محكومون بالظاهر في هذا الحكم ما لم يكن لكم علم بخلافه إذ لا سبيل إلى الوقوف على حقيقة الإيمان لأنّه سبحانه

ص: 85

المتفرّد بعلم ذلك و أنّه العالم بالسرائر.

قوله: [بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فيه قولان: أحدهما أنّ المراد كلّكم ولد آدم فلا تستنكفوا من نكاح الإماء فإنّهنّ من جنسكم كالحرائر. و الآخر أنّ معناه كلّكم على الإيمان و دينكم واحد فلا ينبغي أن يعيّر بعضكم بعضا بالهجنة. نهى اللّه عن عادة الجاهليّة في التعيير بالإماء.

[فَانْكِحُوهُنَ أي تزوّجوا الإماء المؤمنات [بِإِذْنِ ساداتهنّ و مواليهنّ فلا يجوز نكاح الأمة بغير إذن مالكها.

[وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي اعطوا مالكهنّ مهورهنّ [بِالْمَعْرُوفِ و بما لا ينكره الشرع و هو ما يرضى به الأهلون و وقع عليه العقد من غير مطل (1) و ضرار.

[مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ حال من مفعول «فَانْكِحُوهُنَّ» أي حالكونهنّ عفائف عن الزناء «غَيْرَ مُسافِحاتٍ» حال مؤكّد لمعنى العفّة أي غير الزواني [وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ عطف على «مسافحات» و الخدن الصاحب و الصديق و المراد: لا يكن متّخذات أصدقاء على الفاحشة و أخلّاء في السرّ؛ روي عن ابن عبّاس أنّه قال: كان في الجاهليّة يحرّمون ما ظهر من الزنى و يستحلّون ما خفي منه فنهى اللّه عن الزنى سرّا و جهرا.

[فَإِذا أُحْصِنَ من قرأ بضمّ الهمزة بمعنى تزوّجن و من قرأ «أحصنّ» بفتح الهمزة أي أسلمن عن ابن مسعود و عمرو الشعبيّ و جماعة. و قال الحسن: تحصينها الزوج و تحصّنها الإسلام أي فإذا احصنّ بالتزويج.

[فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ] و هي الزنا فعليهنّ بعد الثبوت [نِصْفُ ما عَلَى الحرائر [مِنَ الْعَذابِ أي الحدّ الّذي هو جلد مائة فعليها خمسون جلدة، و المراد عدم تفاوت حدّهنّ بالإحصان و غير الإحصان ليس فيه التفاوت و ليس حكمهنّ حكم الحرائر و لا رجم عليهنّ لأنّ الرجم لا ينتصف و كذلك العبد، و في الكافي عن الصادق و الباقر عليهما السّلام في الأمة تزني قال: تجلد نصف حدّ الحرّة كان لها زوج أولم يكن لها زوج.

[ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ «ذلك» إشارة إلى نكاح الإماء لمن خاف الإثم

ص: 86


1- المطل: التسامح.

الّذي يؤدّي إليه علّة الشهوة و هو الزنى. و العنت في الأصل انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكلّ مشقّه عظيمة و الزنى سبب المشقّة فالحدّ في الدنيا و العقوبة في الآخرة.

[وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي و صبركم عن نكاح الإماء حال كونكم متعفّفين خير لكم من نكاحهنّ و إن سبقت كلمة الرخصة فيه لما فيه من تعريض الولد للرقّ و لأنّ حقّ المولى فيها فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر و لأنّ المولى يستخدمها في السفر و الحضر و لأنّها ممتهنة مبتذلة خرّاجة ولّاجة و ذلك كلّه ذلّ و مهانة سارية إلى الناكح. و مهرها لمولاها فلا يقدر المتمتّع من المهر. في الحديث: الحرائر صلاح البيت و الإماء هلاك البيت.

[وَ اللَّهُ غَفُورٌ] لذنوب عباده [رَحِيمٌ بهم. و استدلّت الخوارج بهذه الآية على بطلان الرجم قالوا: إنّ الرجم لا يمكن تبعيضه و قد قال سبحانه: «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» فعلمنا أنّ الرجم لا أصل له.

و الجواب عن ذلك إذا كان المحصنات المراد بها الحرائر سقط هذا القول، و الرجم أجمعت الامّة على أنّه من أحكام الشرع و تواتر المسلمون بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله رجم ما عز ابن مالك الأسلميّ و رجم يهوديّا و يهوديّة و لم يختلف فيه الفقهاء من عهد الصحابة إلى يومنا هذا فخلاف الخوارج في ذلك خلاف الإجماع فلا يعتدّ به.

[سورة النساء (4): الآيات 26 الى 28]

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)

أي يريد سبحانه [أن يبيّن لكم ما خفي عنكم من مصالحكم و أفاضل أعمالكم.

و اللام في «ليبيّن» مزيدة للتأكيد لمعنى الاستقبال اللازم للإرادة [وَ يَهْدِيَكُمْ أي يدلّكم على مناهج من تقدّمكم من الصالحين لتقتدوا بهم [وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي يرجع بكم عن معصيته إلى طاعته بالتوفيق للتوبة ممّا كنتم عليه من الخلاف.

و في الآية دلالة على بطلان مذهب المجبّرة لأنه بيّن تعالى أنّه لا يريد إلّا الخير و الصلاح.

[وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مرّ تفسيره [وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ و يقوّي دواعيكم إلى

ص: 87

التوبة و يلطف في توبتكم إن وقع منكم. و هذا بيان لكمال ما أراده اللّه و كمال مضرّة ما يريد الفجرة بخلاف الأوّل فإنّه بيان إرادته تعالى لتوبته عليهم فلا تكرار.

[وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يعني الفجرة، و قيل: يعني المجوس حيث كانوا يحلّون الأخوات من الأب و بنات الأخ و بنات الاخت فلمّا حرّمهنّ اللّه قالوا: فإنّكم يحلّون بنت العمّة مع أنّ العمّة و الخالة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ و الاخت فنزلت هذه الآية، أو المراد أنّهم اليهود خاصّة إذ قالوا: إنّ الاخت من الأب حلال في التوراة، و الأقرب أنّ المراد بذلك جميع المبطلين.

[أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً] تعدلوا عن الاستقامة، و العاصي يأنس بالعاصي و يألف به و يسكن الشكل بالشكل كما يأنس المطيع بالمطيع و على هذا جبلت القلوب.

[يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ في أمر النساء بإباحة نكاح الإماء، أو المعنى يريد سبحانه التخفيف بسبب قبول التوبة، أو المراد التخفيف على العموم و ذلك أنّه خفّف عن هذه الامّة ما لم يخفّف عن غيرها من الأمم الماضية.

[وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً] عاجزا عن مخالفة هواه حيث لا يصبر عن اتّباع الشهوات و لا يستخدم هواه في مشاقّ الطاعات. قال الكلبيّ: أي لا يصبر عن النساء.

[سورة النساء (4): الآيات 29 الى 30]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)

قرئ «تجارة» بالرفع فتقديره: إلّا أن تقع تجارة فحينئذ الاستثناء منقطع لأنّ التجارة عن تراض ليس من أفراد أكل المال بالباطل، و من قرأ بنصب «تجارة» أي إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراض مثل قول الشاعر:

«إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا» أي إذا كان اليوم يوما، أو التقدير إلّا أن تكون الأموال تجارة.

و لمّا بيّن سبحانه تحريم النساء و تحليلهنّ على الوجه المشروحة عقّبه بتحريم الأموال و تحليلها في الآية فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] و صدّقوا اللّه و رسوله [لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ذكر الأكل و أراد سائر التصرّفات و إنّما خصّ الأكل لأنّه معظم المنافع

ص: 88

[بِالْباطِلِ أي بوجه غير شرعيّ و بغير استحقاق كالغصب و السرقة و الخيانة و الربا و الرشوة و اليمين الكاذبة و شهادة الزور و العقود الفاسدة و ما أشبهها.

[إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي إلّا أن تكون التجارة تجارة يرضى كلّ واحد منكما بذلك على الوجه الّذي وردت الرخصة به من أسباب الملك كالهبة و الصدقة و البيع و هذا التراضي يكون يقع للمتبايعين وقت الإيجاب و القبول.

[وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم لأنّكم بعضا أهل دين واحد و أنتم كنفس واحدة.

و قيل: المراد أنّه نهى سبحانه أن يقتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر عن أبي القاسم البلخيّ. و قيل: معناه: لا تقتلوا أنفسكم بأن تهلكوها بارتكاب الآثام في أكل المال بالباطل و غيره من المعاصي الّتي تستحقّون بها العذاب و الهلاك. و القول الرابع: ما روي عن الصادق عليه السّلام أنّ المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً] أي لم يزل تعالى و كان من رحمته أن حرّم عليكم إفساد المال و قتل الأنفس.

[وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ قيل: إنّ «ذلك» إشارة إلى أكل الأموال بالباطل و قتل النفس بغير حقّ و قيل: إشارة إلى المحرّمات في هذه السورة. و قيل: من قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً». و قيل: إشارة إلى قتل النفس المحرّمة خاصّة، عن عطاء.

[عُدْواناً وَ ظُلْماً] قيل: هما واحد و أتى بهما لاختلاف اللفظين مثل قول الشاعر:

«و ألفى قولها كذبا و مينا» و قيل: «العدوان» التعدي على الغير، و «بالظلم» الظلم على النفس لتعريضها للعقاب أي متعدّيا و ظالما.

[فَسَوْفَ نُصْلِيهِ أي عن قريب ندخله و نلازمه [ناراً] هائلة [وَ كانَ ذلِكَ أي إصلاء النار [عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] لتحقّق الدواعي و عدم الصارف لأنّ الممكنات بالنسبة إلى قدرة اللّه على السويّة فحينئذ يمتنع أن يقال: إنّ بعض الأفعال أيسر على اللّه من بعض.

و هذا الكلام نزل على القول المتعارف بيننا و معناه المبالغة في التهديد فالإنسان لا بدّ و أن يجتنب عن الوقوع في المهالك و يبالغ في حفظ الحقوق، و قد جمع اللّه في التوصية بين حفظ

ص: 89

النفس و حفظ المال لأنّه شقيقها من حيث إنّه سبب لقوامها و إن وفّقت للمال فاشكر له و إلّا فلا تتعب نفسك و لا تقتلها كما يفعل بعض الجهّال.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من قتل نفسه بشي ء في الدنيا عذّب به يوم القيامة و قال صلى اللّه عليه و آله:

كان فيمن قبلكم جرح برجل فجزع منه فأخرج سكّينا فجزّ بها يده فما رقأ الدم حتّى مات فقال اللّه تعالى: بارزني عبدي بنفسه فحرّمت عليه الجنّة. و كذلك حكم من قتل نفسه لفقر أو غيره و حرمة مال المسلم كحرمة دمه.

قال صلى اللّه عليه و آله: كلّ المسلم على المسلم حرام: دمه و عرضه و ماله و لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيبة نفس منه. فالظلم حرام شرعا و عقلا و لذلك و كان لبعض أجلّاء السلف دقّة عظيمة و اهتمام تامّ في هذا الباب.

حكي أنّ بعض الملوك أهدى إلى شيخ ركن الدين غزالا (و الّذي بعثه أظنّه علاء الدولة) و قال للشيخ: إنّها حلال و كل منها فإنّي رميتها بسهم عملته بيدي على فرس ورثتها عن أبي، فقال الشيخ له: إنّه خطر ببالي أنّ واحدا من الأمراء جاء إلى استاذي بإوزّتين (1) و قال له: كل منهما فإنّي قد أخذتهما ببازي فقال: ليس الكلام في الإوزّتين و إنّما الكلام في قوت البازي من دجاجة أيّة عجوز أكل حتّى قوي على الاصطياد فالغزال الّتي رميتها على فرسك و إن كان من الصيد لكن قوت الفرس من شعير أيّ مظلوم حصل فلم يأكل منها.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 31]

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)

. لمّا قدّم ذكر السيّئات عقّبه بالترغيب في اجتنابها فقال:

[إِنْ تَجْتَنِبُوا] أي تتركوا جانبا [كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ اختلف في معنى الكبيرة؛ قيل: كلّ ما أوعد اللَّه عليه عقابا و أوجب عليه حدّا فهو كبيرة.

و قيل: كلّ ما نهى اللّه عنه فهو كبيرة، عن ابن عبّاس. قال الطبرسيّ: و إلى هذا ذهب أصحابنا فإنّهم قالوا: المعاصي كلّها كبيرة من حيث كانت قبائح لكن بعضها أكبر من

ص: 90


1- طائر مائي.

بعض و ليس في الذنوب صغيرة و إنّما تكون بالإضافة إلى ما هو أكبر منه و يستحقّ العقاب عليه أكثر.

و روى الكلبيّ عن ابن عبّاس: إن تجتنبوا الذنوب الّتي أوجب اللّه فيها الحدّ و أوعد عليها النار نكفّر عنكم ما سوى ذلك من الصلاة إلى الصلاة و من الجمعة إلى الجمعة و من رمضان إلى رمضان.

[وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً] «مدخلا» بضمّ الميم اسم مكان هو الجنّة حسنا مرضيّا قال أنس بن مالك: إنّكم تعملون ليوم هي في أعينكم أدقّ من الشعر كنّا نعدّها على رسول اللّه من الكبائر.

قال القشيريّ: الكبائر على لسان أهل الإشارة الشرك الخفيّ مطلقا و من جملة ذلك ملاحظة الخلق و استجلاب قلوبهم و التوقّد إليهم و الإغماض عن حقّ اللّه بعينهم.

و جملة الكبائر مندرجة في ثلاثة أشياء: أحدها اتّباع الهوى و هو ميلان النفس إلى ما يستلذّ به من الشهوات فقد يقع الإنسان بسببه في جملة الكبائر مثل البدعة و الضلالة و الشبهة و بحظوظ النفس من ترك الصلاة لأجل الراحة و الطاعات و عقوق الوالدين و قذف المحصنات و قطع الرحم و أمثال ذلك و لهذا قال سبحانه: «وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (1) قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ما عبد إله أبغض على اللّه من الهوى.

و ثانيها: حبّ الدنيا فإنّه مطيّة كثير من الكبائر مثل القتل و النهب و الغصب و الظلم و السرفة و أكل مال اليتيم و منع الزكاة و شهادة الزور و كتمانها و اليمين الفاجرة و الجنف في الوصيّة و استحلال الحرام و أمثالها و لهذا قال سبحانه: «وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» (2) كما قال صلى اللّه عليه و آله: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، و عنه صلى اللّه عليه و آله: أتاني جبرئيل عليه السّلام و قال: إنّ اللّه عز و جلّ قال: و عزّتي و جلالي إنّه ليس من الكبائر هي أعظم عندي من حبّ الدنيا.

و ثالثها رؤية الغير فإنّ منها ينشأ الشرك و النفاق و الرياء قال صلى اللّه عليه و آله: اليسير من الرياء شرك.

ص: 91


1- ص: 26.
2- الشورى: 20.

قال الطبرسيّ في المجمع: روى عبد العظيم بن عبد اللّه الحسنيّ عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عن موسى بن جعفر عليهم السّلام قال: دخل عمرو بن عبيد البصريّ على أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام فلمّا سلّم و جلس تلا هذه الآية «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ»* (1) ثمّ أمسك فقال أبو عبد اللّه: ما أسكتك؟ قال: احبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه قال:

نعم يا عمرو:

أكبر الكبائر الشرك باللّه لقول اللّه عزّ و جلّ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ*، الآية» (2) و قال تعالى: «مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ» (3).

و بعده اليأس من روح اللّه لأنّ اللّه يقول: «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (4).

ثمّ الأمن من مكر اللّه لأنّ اللّه يقول: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (5).

و منها عقوق الوالدين لأنّ اللّه جعل العاقّ جبّارا شقيّا في قوله: «وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا» (6).

و منها قتل النفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ لأنّه يقول: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها» (7).

و قذف المحصنات لأنّ اللّه يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (8).

و أكل مال اليتيم ظلما لقوله تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» (9).

و الفرار من الزحف لأنّ اللّه يقول: «وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ»

ص: 92


1- الشورى: 37.
2- السورة: 48، 115.
3- المائدة: 72.
4- يوسف: 87.
5- الأعراف: 99.
6- مريم: 32.
7- النساء: 92.
8- النور: 23.
9- النساء: 161.

أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» (1).

و أكل الرباء لأنّ اللّه يقول: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» (2) و يقول سبحانه «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ» (3).

و السحر لأنّ اللّه يقول: «وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» (4) و الزنى لأنّ اللّه يقول: «وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» (5).

و اليمين الغموس (6) لأنّ اللّه يقول: «الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ» (7).

و الغلول (8) قال اللّه: «وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (9).

و منع الزكاة المفروضة لأنّ اللّه يقول: «يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ» (10).

و شهادة الزور و كتمان الشهادة لأنّ اللّه يقول: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» (11).

و شرب الخمر لأنّها «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» (12).

و ترك الصلاة متعمّدا لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: من ترك الصلاة متعمّدا فقد برأ من ذمة اللّه و ذمّة رسوله.

و نقض العهد و قطيعة الرحم لأنّ اللّه يقول: «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» (13).

ص: 93


1- الأنفال: 16.
2- البقرة: 270.
3- البقرة: 279.
4- البقرة: 102.
5- الفرقان: 68.
6- اليمين الكاذبة التي يتعمدها صاحبها.
7- آل عمران: 77.
8- الغل: الخيانة.
9- آل عمران: 161.
10- التوبة: 36.
11- البقرة: 283.
12- المائدة: 93.
13- الرعد: 27.

قال: فخرج عمرو و له صراخ من بكائه و هو يقول: هلك من قال برأيه و نازعكم في الفضل و العلم.

و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: أعظم الكبائر سبع: الإشراك باللّه و قتل النفس المؤمنة و أكل الرباء و أكل مال اليتيم و قذف المحصنة و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف فمن لقى اللّه و هو بري ء منهنّ كان معي في بحبوحة جنّة مصاريعها من ذهب.

و روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه سأله رجل كم الكبائر سبع هي؟ قال ابن عبّاس: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنّه لا كبيرة مع استغفار و لا صغيرة مع إصرار، رواهما الواحديّ في تفسيره بالإسناد مرفوعا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 32]

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32)

النزول: قيل: أتت وافدة النساء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه أليس اللّه ربّ الرجال و النساء و أنت رسول اللّه إليهم جميعا فما بالنا يذكر اللّه الرجال و لا يذكرنا؟

نخشى أن لا يكون فينا خير و لا للّه فينا حاجة فنزلت الآية.

و قيل: إنّ امّ سلمة قالت: يا رسول اللّه يغزو الرجال و لا تعزو النساء و لنا نصف الميراث فليتنا رجال فنغزو و نبلغ ما يبلغ الرجال، فنزلت الآية.

و قيل: لمّا نزلت آية المواريث قال الرجال: نرجو أن نفضّل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضّلنا عليهنّ في الدنيا فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. و قالت النساء:

إنّا نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف عن نصيبهم في الدنيا، فنزلت الآية عن قتادة و السدّيّ.

المعنى: لمّا بيّن سبحانه حكم الميراث و فضّل بعضهم على بعض في ذلك منعهم عن التمنّي الّذي هو سبب التباغض أي لا يقل أحدكم: ليت ما اعطي فلان من المال و النعمة و المرأة الحسناء كان لي فإنّ ذلك يكون حسدا و يوجب الكدورة و لكن يجوز أن يقول:

اللّهم أعطني مثله، عن ابن عبّاس و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

ص: 94

و قيل: إنّ المعنى لا يجوز للرجل أن يتمنّى أن لو كان امرأة و لا للمرأة أن يتمنّى أن لو كانت رجلا؛ لأنّ اللّه لا يفعل إلّا ما هو الأصلح فيكون قد تمنّى ما ليس بأصلح.

[لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ قيل: معناه إنّ لكلّ فريق من الرجال و النساء نصيبا من أنواع نعيم الدنيا من الفوائد و التجارات و الزراعات و غير ذلك من أنواع المكاسب فينبغي أن يقنع كلّ منهم و يرضى بما قسّم اللّه له. و قيل:

إنّ المعنى لكلّ حظّ من الثواب على حسب ما كلّفه اللّه من الطاعات. و قيل: المعنى لكلّ منهما نصيب من الميراث على ما قسّمه اللّه، عن ابن عبّاس. فعلى هذا القول «الاكتساب» بمعنى الإصابة و الإحراز.

[وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أي إن أعجبكم أن يكون لكم مثل ما لغيركم فاسألوا اللّه أن يعطيكم مثل ذلك من فضله بشرط أن لا يكون فيه مفسدة لكم و لا لغيركم لأنّ المسألة لا يجاب إلّا كذلك؛ في الحديث عن ابن مسعود عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: سلوا اللّه من فضله فإنّه تعالى يحبّ أن يسأل و أفضل العبادة انتظار الفرج. و قال سفيان بن عيينة: لم يأمر سبحانه بالمسألة إلّا ليعطي.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً] فيعلم ما تظهرون و ما تضمرونه من التمنّي و الحسد.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 33]

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33)

أصل الموالي من ولي الشي ء يليه ولاية و «المولى» يقع على المعتِق و المعتَق و ابن العمّ و الورثة و الحليف و السيّد المطاع و الأولى بالشي ء و هو الأصل في معنى الجميع لأنّ ابن العمّ أولى بنصرة ابن عمّه لقرابته و الورثة أولى بميراث الميّت من غيرهم و الحليف أولى بأمر محالفه للمحالفة الّتي جرت بينهما و الوليّ أولى بنصرة من يواليه و السيّد أولى بتدبير من يسود من غيره.

معنى الآية: [وَ لِكُلٍ واحد من الرجال و النساء [جَعَلْنا مَوالِيَ أي ورثة هم أولى بميراثه، و قيل: أي عصبة. و الأوّل أصحّ لقوله تعالى: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا

ص: 95

يَرِثُنِي» (1) فجعله مولى لما يرث و وليّا له لما كان أولى به من غيره و مالكا له كما يقال:

لمالك العبد: مولاه [مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ أي أصحاب الفرائض يرثون ما ترك الأبوان و الأقارب.

[وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال الجبّائيّ: معنى الآية أي و يرثون ممّا ترك الّذين عقدت أيمانكم. و قرئ «عاقدت» و قال الرازيّ: الاختيار «عاقدت» لدلالة المفاعلة على عقد الحلف.

و الحاصل أنّ الآية على ما اختاره الجبّائيّ معناه أنّ الورثة يرثون ممّا ترك الّذين عقدت أيمانكم؛ لأنّ طبقة الورثة هم أولى بميراثهم فيكون قوله: «وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ» عطفا على قوله: «الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ» و قال: الحليف لم يؤمر له بشي ء أصلا، فحاصل الكلام أنّ ما ترك الّذين عقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به.

لكن قال أكثر المفسّرين: إنّ قوله: «وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» مقطوع من الأوّل فكأنّه قال سبحانه: و الّذين عقدت أيمانكم أيضا فآتوهم نصيبهم. ثمّ اختلفوا فيه على أقوال: أحدها أنّ المراد بهم الحلفاء و قالوا: إنّ الرجل في الجاهليّة كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك و حربي حربك و سلمي سلمك و ترثني و أرثك و تعقل عنّي و أعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف.

[فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي أعطوهم حظّهم من الميراث ثمّ نسخ ذلك بقوله: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ»* (2) و قيل: معنى قوله: «نَصِيبَهُمْ» من النصر و العقل و الرفد و ليس المراد «الميراث» و على هذا القول: فالآية تكون غير منسوخة و يؤيّده قوله:

«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

و قيل: إنّ المراد بهم قوم آخا بينهم رسول اللّه من المهاجرين و الأنصار حتّى قدموا المدينة كانوا يتوارثون بتلك المواخاة ثمّ نسخ اللّه ذلك بالفرائض، عن ابن عبّاس و ابن زيد.

ص: 96


1- مريم: 5.
2- الأنفال: 75.

و قيل: إنّهم الّذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهليّة و منهم زيد مولى رسول اللّه فأمروا في الإسلام أن يوصوا لهم عند الموت بوصيّة شي ء فذلك قوله: «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» عن سعيد بن المسيّب.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً] لم يزل عالما بالأشياء جليّها و خفيها.

[سورة النساء (4): آية 34]

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَ اللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)

. [الرِّجالُ قائمون بالأمر و النهي بالمصالح و عن الفضائح قيام الولاة على الرعيّة مسلّطون على تأديبهنّ و علّل ذلك بأمرين: وهبيّ و كسبيّ فقال: [بِما فَضَّلَ اللَّهُ بسبب تفضيله سبحانه الرجال على النساء بالحزم و القوّة و الرمي و الحماسة و السماحة و النيل ببعض السعادات الدينيّة [وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ و بسبب إنفاقهم من أموالهم في نكاحهنّ و في نفقاتهنّ.

في المجمع: قال مقاتل: نزلت الآية في سعد بن الربيع بن عمرو و كان من النقباء و في امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي وقّاص و هما من الأنصار و ذلك أنّها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبيّ فقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: لتقتصّ من زوجها فانصرفت فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ارجعوا هذا جبرئيل أتاني و أنزل اللّه هذه الآية فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا و الّذي أراد اللّه خير، و رفع القصاص.

و قال الكلبيّ: نزلت في أسعد بن الربيع و امرأته خولة بنت محمّد بن مسلمة و ذكر القصّة نحوها.

[فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ أي مطيعات و مقيمات لطاعة اللّه و طاعة أزواجهنّ، و القنوت دوام الطاعة و منه القنوت في الوتر لطول القيام فيه، و منه قوله سبحانه: «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ» (1) أي أقيمي على طاعته [حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي لأنفسهنّ و فروجهنّ و أموال أزواجهنّ في حال غيبتهم راعيات لحقوقهم.

ص: 97


1- آل عمران: 43.

[بِما حَفِظَ اللَّهُ ما مصدريّة أي بالأمر بحفظ الغيب، أو موصولة أي بالّذي حفظ اللّه لهنّ عليهم من المهر و النفقة و القيام بامورهنّ و الذبّ عنهنّ؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله:

خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك و إن أمرتها أطاعتك و إذا غبت عنها حفظتك، و تلا الآية.

و قوله: [وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ خطاب للأزواج و إرشاد لهم إلى طريق القيام عليهنّ، و الخوف حالة تحصل في القلب عند حدوث مكروه ظنّا أو علما بحدوثه أي النساء اللاتي تظنّون عصيانهنّ و ترفّعهنّ عن مطاوعتكم أو علمتم نشوزهنّ.

[فَعِظُوهُنَ و انصحوهنّ بالترغيب و الترهيب، و العظة كلام يلين القلوب القاسية و يرغّب الطبائع النافرة بتذكير العواقب.

[وَ اهْجُرُوهُنَ بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ و المراد من الهجرة الترك عن قلى [فِي الْمَضاجِعِ أي في المراقد فلا تدخلوهنّ تحت اللحف و لا تباشروهنّ. و المضاجع جمع مضجع و هو موضع وضع الجنب للنوم.

[وَ اضْرِبُوهُنَ إن لم ينفع الهجران ضربا غير مبرّح و لا شائن و لا كاسر و لا خادش فالامور الثلاثة من الوعظ و الهجر و الضرب مترتّبة ينبغي أن يدرّج فيها.

[فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بذلك [فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا] بالتوبيخ و الأذيّة، و أزيلوا عنهنّ التعرّض و اجعلوا ما كان منهنّ كأن لم يكن [إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا] أعلى قدرة منكم عليهنّ [كَبِيراً] أي أعظم حكما منكم عليهنّ، و اعفوا عنهنّ إذا رجعن لأنّكم تعصونه على علوّ شأنه ثمّ تتوبون فيتوب عليكم.

في روح البيان: قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله- مخاطبا لعائشة-: أيّما امرأة تؤذي زوجها بلسانها إلّا جعل اللّه لسانها يوم القيامة سبعين ذراعا ثمّ عقد خلف عنقها.

يا عائشة و أيّما امرأة تصلّي لربّها و تدعو لنفسها ثمّ تدعو لزوجها إلّا ضرب بصلاتها وجهها حتّى تدعو لزوجها ثمّ تدعو لنفسها.

يا عائشة و أيّما امرأة جزعت على ميّتها فوق ثلاثة أيّام أحبط اللّه عملها.

يا عائشة و أيّما امرأة أصابتها مصيبة فلطمت وجهها و مزّقت ثيابها إلّا كانت مع امرأة

ص: 98

لوط و نوح في النار و كانت آيسة من كلّ خير و كلّ شفاعة شافع يوم القيامة.

يا عائشة و أيّما امرأة خرجت من بينها بغير إذن بعلها إلّا لعنها اللّه و لعنها كلّ رطب و يابس حتّى ترجع فإذا رجعت إلى منزلها كانت في غضب اللّه و مقته إلى الغد من ساعته فإن ماتت من وقتها كانت من أهل النار.

يا عائشة اجتهدي ثمّ اجتهدي فإنّكنّ صواحبات يوسف و مخرجات آدم من الجنّة و عاصيات نوح و لوط، يا عائشة ما زال جبرئيل يوصيني في أمر النساء حتّى ظننت أنّه سيحرم طلاقهنّ يا عائشة أنا خصم كلّ امرأة يطلّقها زوجها.

ثمّ قال: يا عائشة و ما من امرأة تحبل من زوجها حين تحبل إلّا و لها مثل أجر الصائم بالنهار و القائم بالليل الغازي في سبيل اللّه.

يا عائشة ما من امرأة أتاها الطلق إلّا و لها بكلّ طلقة عتق نسمة و بكلّ رضعة عتق رقبة.

يا عائشة أيّما امرأة خفّفت عن زوجها من مهرها إلّا كان لها من العمل حجّة مبرورة و عمرة متقبّلة و غفر لها ذنوبها كلّها حديثها و قديمها سرّها و علانيتها عمدها و خطأها أوّلها و آخرها.

يا عائشة المرأة إذا كان لها زوج فصبرت على أذى زوجها فهي كالمتشحّطة في دمها في سبيل اللّه و كانت من القانتات المسلمات المؤمنات التائبات. و الحديث طويل.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 35]

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)

لمّا قدّم اللّه الحكم عند مخالفة أحد الزوجين صاحبه عقّبه بذكر الحكم عند صعوبة الأمر في المخالفة [وَ إِنْ خِفْتُمْ أي و إن خشيتم مخالفة شديدة و عداوة بين الزوجين فوجّهوا حكما من قوم الزوج و حكما من قوم المرأة لينظرا في ما بينهما، و الحكم القيّم بما يسند إليه.

و اختلف في المخاطب بإنفاذ الحكمين من هو؟ فقيل: هو السلطان الّذي يترافعان الزوجان إليه، عن سعيد بن جبير و أكثر الفقهاء و هو الظاهر في الأخبار عن الصادق عليه السّلام.

ص: 99

و قيل: المخاطب عموم المؤمنين. و قيل: إنّه الزوجان و أهل الزوجين.

و اختلفوا أيضا في أنّ الحكمين هل لهما أن يفرّقا بالطلاق إن رأياه أم لا؟ فالّذي رواه أصحابنا أنّه ليس لهما ذلك إلّا بعد أن يستأمراهما و يرضيا بذلك. و قيل: إنّ لهما ذلك، عن سعيد بن جبير و السدّيّ و الشعبيّ و رووه عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام. و من ذهب إلى هذا القول قال: إنّ الحكمين و كيلان.

قوله: [إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً] يعني الحكمين [يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما] و الضمير في «يريدا» و في «بينهما» قال الرازيّ: فيه وجوه:

الاول: إن يرد الحكمان خيرا و إصلاحا يوفّق اللّه بين الحكمين حتّى يتّفقا على الخير.

الثاني: إن يرد الحكمان يوفّق اللّه بين الزوجين.

الثالث: إن يرد الزوجان إصلاحا يوفّق اللّه بين الزوجين.

الرابع: إن يرد الزوجان إصلاحا يوفّق اللّه بين الحكمين حتّى يعملا بالصلاح.

و اللفظ محتمل لكلّ هذه الوجوه.

و أصل معنى التوفيق اللطف الّذي يتّفق عنده فعل الطاعة، و ظاهر المعنى أنّه إن كانت نيّة الحكمين إصلاح ذات البين يوفّق اللّه بين الزوجين ما هو الصلاح.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً] عليما بمصالحكم خبيرا بأعمالكم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 36]

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)

. لمّا أرشد اللّه كلّ واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر و إزالة الخشونة و الخصومة أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة و ذكر منها أحد عشر نوعا:

النوع الأوّل الأهمّ قوله: [وَ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحّدوه، و العبادة عبارة عن كلّ فعل

ص: 100

و ترك يؤتى به لمجرّد أمر اللّه بذلك فيدخل فيها جميع أفعال القلوب و أعمال الجوارح.

النوع الثاني [وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً] لأنّ بعض الناس يعبدونه تعالى و يعبدون غيره معه كما كان لبعض المشركين آلهة متعدّدة يعبدون إلها لأمر و إلها لأمر و هكذا.

النوع الثالث [وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً] أي أحسنوا إلى والديكم إحسانا كقوله:

«فَضَرْبَ الرِّقابِ» (1) أي فاضربوها ضرب الرقاب، و كفى لهذا البيان تعظيم حقّهما و وجوب برّهما حيث قرن سبحانه إلزام برّ الوالدين بتوحيده و عبادته. قال صلى اللّه عليه و آله: أكبر الكبائر الإشراك باللّه و عقوق الوالدين و اليمين الغموس. و الإحسان إليهما أن يقوم بخدمتهما و لا يرفع صوته عليهما و لا يخشن في الكلام معهما و يسعى في تحصيل مطالبهما حتّى روي أنّ النبيّ نهى حنظلة بن أبي عامر عن قتل أبيه و كان مشركا.

النوع الرابع قوله: [وَ بِذِي الْقُرْبى و هو أمر بصلة الرحم و إنّ الوالدين و إن كانا من الأقارب أيضا إلّا أنّ قرابة الولادة لمّا كانت مخصوصة ميّزها في الذكر أوّلا ثمّ أتبعها بقرابة الرحم.

النوع الخامس قوله تعالى: [وَ الْيَتامى و اليتيم مخصوصة بنوعين من العجز: الصغر و عدم المنفق، و من هذا حاله كان في غاية العجز و استحقاق الرحمة.

النوع السادس قوله: [وَ الْمَساكِينِ و الإحسان إلى المسكين إمّا بالإجمال له إن أمكن أو بالردّ الجميل، و المسكين من أسكنه الضرّ و الفقر.

النوع السابع قوله: [وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى هو الّذي قرب جواره؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله:

لا يدخل الجنّة من لا يأمن جاره بوائقه ألا و إنّ الجوار أربعون دارا. و قال الزهريّ: أربعون يمنة و أربعون يسرة و أربعون أماما و أربعون خلفا. و في حديث قيل: يا رسول اللّه إنّ فلانة تصوم النهار و تصلّى الليل و في لسانها شي ء تؤذي جيرانها، فقال صلى اللّه عليه و آله: لا خير فيها هي في النار. و روي أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: و الّذي نفس محمّد بيده لا يؤدّي حقّ الجار إلّا من رحمه اللّه و قليل ما هم، أ تدرون ما حقّ الجار؟ إن افتقر أغنيته و إن استقرض أقرضته و إن أصابه خير هنّأته و إن أصابه شرّ عزّيته و إن مرض عدته و إن مات شيّعت جنازته. و قال آخرون: عنى

ص: 101


1- محمد: 5.

سبحانه «ب الْجارِ ذِي الْقُرْبى في الآية الجار القريب النسيب و «ب الْجارِ الْجُنُبِ» الجار الأجنبيّ. و قرئ «و الجار ذا القربى» نصبا.

النوع الثامن قوله: [وَ الْجارِ الْجُنُبِ و قد ذكر تفسيره و هو البعيد منك في القرابة كما قال: «وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ» (1) أي بعّدني، و منه الجنابة لتباعده عن الطهارة و عن حضور المساجد ما لم يغتسل. و قرأ عاصم «وَ الْجارِ الْجُنُبِ» بفتح الجيم و سكون النون و يريد «بِالْجَنْبِ» الناحية و البعد أو وصفا على سبيل المبالغة مثل زيد عدل.

النوع التاسع [وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ و هو الّذي صحبك إمّا رفيقا في سفر و إمّا جارا ملاصقا و إمّا شريكا في تعلّم و حرفة و إمّا قاعدا على جنبك في مجلس أو مسجد.

و قيل: المراد من «الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ» المرأة فإنّها تكون معك و تضجع معك إلى جنبك.

النوع العاشر [وَ ابْنِ السَّبِيلِ و هو المسافر الّذي انقطع عن بلده، و قيل: الضيف.

النوع الحادي عشر قوله: [وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و هم المماليك و الإحسان إلى المماليك طاعة عظيمة؛ في الحديث: من ابتاع شيئا من الخدم فلم يوافق شيمته شيمته فليبع و ليشتر حتّى توافق شيمته شيمته فإنّ للناس شيما و لا تعذّبوا عباد اللّه. و روي أنّه صلى اللّه عليه و آله كان آخر كلامه الصلاة و ما ملكت أيمانكم. و الإحسان إليهم بأن لا يكلّفهم ما لا طاقة لهم به و لا يؤذيهم بالكلام الخشن و يعطيهم من الطعام و الكسوة ما يحتاجون إليه و كانوا في الجاهليّة يسيئون إلى الملوك فيكلّفون الإماء البغاء. و قال بعضهم: كلّ حيوان فهو مملوك.

و لمّا ذكر سبحانه هذه الأصناف قال: [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً] قال ابن عبّاس: يريد «بالمختال» العظيم في نفسه الّذي لا يقوم بحقوق أحد. قال الزجّاج:

و إنّما ذكر الاختيال هاهنا لأنّ «المختال» يأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء و لا يحسن عشرتهم و معنى الفخر التطاول، و «الفخور» الّذي يعدّد مناقبه كبرا و يفخر على عباد اللّه بما أعطاه اللّه من أنواع نعمه.

ص: 102


1- ابراهيم: 35.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 37]

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)

. و قرئ «بالبخل» بفتح الباء و الخاء قرأه حمزة و الكسائيّ [الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله: «مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» و البخل عبارة عن منع الإحسان و في الشريعة المراد منع الواجب. و قال عليّ بن عيسى: معناه منع الإحسان و نقيضه بذل الإحسان و نقيض الجود و المعنى: الّذين يمنعون ما أوجب اللّه عليهم من الزكوات و غيرها. و قيل: المراد:

الّذين يبخلون بإظهار ما علموه من صفة النبيّ، عن ابن عبّاس و جماعة.

[وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ و يأمرون غيرهم بالإمساك أو يأمرون الأنصار بترك الإنفاق على رسول اللّه و أصحابه أو يأمرون الناس بكتمان الحقّ من نعوت النبيّ، على قول ابن عبّاس.

[وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و يجحدون ما أعطاهم من اليسار و الثروة أو يكتمون ما عندهم من العلم ببعث النبيّ. قال الطبرسيّ: و الأولى أن يكون الآية عامّة في كلّ من يبخل بأداء ما يجب عليه أداؤه و يأمرون الناس به. و قد ورد في الحديث: إذا أنعم اللّه على عبده نعمة أحبّ أن يرى أثرها عليه.

[وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً] أي أعددنا للجاحدين عذابا يهانون فيه و أضاف الإهانة إلى العذاب إذ كان يحصل به.

[سورة النساء (4): الآيات 38 الى 39]

وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)

إن شئت عطفت «الّذين» في هذه الآية على «الّذين» في الآية الّتي قبلها و إن شئت جعلته في موضع خفض عطفا على قوله: «لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً».

قال الواحديّ: نزلت في المنافقين. و قيل: نزلت في مشركي قريش المنفقين على عداوة رسول اللّه، أو المراد: و الّذين ينفقون أموالهم لكن لا لغرض الطاعة بل لغرض الرياء و السمعة فقال: [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ مراءة [النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ و لا يصدّقون [بِاللَّهِ

ص: 103

وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ] الّذي فيه الثواب و العقاب [وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً] و صاحبا و خليلا يتّبع أمره و يوافقه على الكفر، و قيل: المراد يكون الشيطان قرينه في النار [فَساءَ قَرِيناً] و بئس القرين الشيطان و حاصل المعنى أنّ الشيطان قرين لأصحاب هذه الأفعال كقوله: «وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (1).

[وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] الاستفهام إنكاريّ و يجوز أن يكون «ما ذا» اسما واحدا فيكون المعنى: و أيّ شي ء عليهم؟ و يجوز أن يكون «ذا» في معنى الّذي و يكون «ما» وحدها اسما أي و ما الّذي عليهم لو آمنوا؟.

قال الكعبيّ: إنّ هذه الآية دليل على بطلان مذهب الجبر لأنّه لا يجوز أن يحدث فيه الكفر ثمّ يقول: ماذا عليه لو آمن؟ كما لا يقال لمن جعله قصيرا: ماذا عليه لو كان طويلا و لا يقال للمرأة: ماذا عليها لو كانت رجلا؟

و كذلك استدلّ القاضي عبد الجبّار بهذه الآية على بطلان الجبر و قال: إنّه لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتصرف في الصيغة و يحبسه من حيث لا يتمكّن من مفارقة الحبس ثمّ يقول له: ما ذا عليك لو تصرّفت في الصيغة؟

و أجاب الأشاعرة بجواب أضعف من حجّة نحويّ حيث قالوا: إنّ هذا قبيح إن كان من غيره لكنّه يحسن منه لأنّ الملك ملكه.

مثل أنّ الرازيّ تمسّك بالجبر و عارض المعتزلة بمسألتي العلم و الداعي، و كلامهما غير صحيح لأنّ علمك بفقر زيد لا يكون داعيه و لا يوجب فقره.

[وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي جمعوا مع إيمانهم الإنفاق في سبيل اللّه حتّى ينفعهم الإنفاق و يخلصون له و لا يجعلونه رياء [وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً] يجازيهم بما يسرّون و ما يعلنون.

[سورة النساء (4): آية 40]

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)

. قرئ «حسنة» بالرفع فمن نصب معناه: إن تك زنة الذرّة حسنة، و من رفعها فمعناه:

ص: 104


1- الزخرف: 36.

و إن تحدث حسنة؛ فيكون «كان» تامّة لا يحتاج إلى خبر، المعنى: إنّ اللّه لا يظلم أحدا قطّ زنة ذرّة و هي النملة الصغيرة الّتي لا تكاد ترى. و قيل: الذرّة جزء من أجزاء الهباء في الكوّة من أثر الشمس.

[وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها] أي إن تك الحسنة زنة الذرّة يقبلها و يجعلها ضعفين أو أضعافا أو يديمها و لا يقطعها، عن أبي عبيده [وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ سبحانه ثوابا [عَظِيماً] و معنى «مِنْ لَدُنْهُ» من قبله، و فيه لغات: لد ولدن ولد ولدي، و المعنى واحد.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 41 الى 42]

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)

لمّا ذكر اليوم الآخر وصف حال المنكرين، و «كيف» استفهام على سبيل التوبيخ و تقدير الكلام: كيف حال هؤلاء يوم القيامة و كيف حال الأمم و ما ذا يصنعون [إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ] من الأمم؟ و إنّ اللّه يستشهد يوم القيامة كلّ نبيّ على امّته فيشهد لهم و عليهم و يستشهد نبيّنا صلى اللّه عليه و آله على امّته.

و في الآية حثّ على الطاعة و منع عن المعصية لأنّ الشهود على الأعمال الأنبياء و الكرام الكاتبون و الجوارح و المكان و الزمان كما قال: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (1) روي أنّ عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه لي: اقرأ القرآن عليّ، قال فقلت: يا رسول اللّه أنت الّذي علّمتنيه، فقال صلى اللّه عليه و آله: احبّ أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء فلمّا انتهيت إلى هذه الآية بكى رسول اللّه، قال ابن مسعود: فأمسكت عن القراءة. قال الطبرسيّ: فإذا كان الشاهد تفيض عيناه لهول هذه الحالة فماذا يصنع المشهود عليه؟

ثمّ وصف سبحانه ذلك اليوم فقال: [يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يودّون أن يجعلون و الأرض سواء كما قال سبحانه: «يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» (2) و المراد أنّ الكفّار يوم القيامة يودّون أنّهم لم يبعثوا و أنّهم

ص: 105


1- النور: 24.
2- النبأ: 40.

كانوا و الأرض سواء لعلمهم بما يصيرون إليه من العذاب و الخلود في النار، قال ابن عبّاس:

يودّون أن يمشي عليهم أهل الجمع يطئونهم بأقدامهم كما يطئون الأرض.

[وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً] قيل: عطف على ما قبله. و قيل: كلام مستأنف. فعلى الأوّل فالمعنى: يودّون لو تنطبق عليهم الأرض و لم يكونوا كفروا و لم يكونوا كتموا أمر محمّد صلى اللّه عليه و آله و هذا قول ابن عبّاس. و على أنّه كلام مستأنف فالمراد أنّهم لا يقدرون كتمان شي ء من أمورهم من اللّه لأنّ جوارحهم تشهد عليهم بما فعلوه فالتقدير: لا تكتمه جوارحهم و إن كتموه.

[سورة النساء (4): آية 43]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)

. النزول: فيه و جهان:

الأوّل أنّ جماعة من الصحابة صنع لهم عبد الرحمن بن عوف طعاما و شرابا، و لم ينزل آية التحريم، فأكلوا و شربوا فلمّا تملّوا حلّ وقت فريضة المغرب فقدّموا أحدهم ليصلّي بهم فقرأ: أعبد ما تعبدون و أنتم عابدون ما أعبد، فنزلت الآية؛ فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة فإذا صلّوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلّا و قد ذهب عنهم السكر و علموا ما يقولون ثمّ نزل تحريمها في سورة المائدة و هي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» (1).

و قيل: نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثمّ يأتون المسجد للصلاة مع الرسول فنهاهم اللّه عنه، و هذا قول ابن عبّاس.

و في لفظ «الصلاة» قيل: المراد منه المسجد، فيكون المعنى: لا تقربوا موضع الصلاة، و حذف المضاف مجاز شائع كما أنّ قوله: «لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ» (2)

ص: 106


1- المائدة: 93.
2- الحج: 40.

و المراد مواضع الصلوات فإطلاق لفظ الصلاة بالموضع جائز.

لكنّ الأكثرون على أنّ المراد بالصلاة في هذه الآية نفس الصلاة أي إذا كنتم سكارى لا تصلّوا لكن قوله: «وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» يعني الموضع و المسجد؛ فإنّ العبور إنّما يكون في الموضع دون الصلاة، لكن قوله: «حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» يدلّ على أنّ المراد نفس الصلاة فكان حمل الآية على هذا أولى.

و حمل بعض معنى السكر على النوم و هو قول الضحّاك، فقال: ليس المراد سكر الخمر إنّما المراد منه سكر النوم. قالوا: و أصل السكر من السكر و هو سدّ مجرى الماء و اسم لموضع السكر لكن ما روي عن موسى بن جعفر عليه السّلام أنّ المراد سكر الشراب. و قد يسأل و يقال: كيف يجوز نهي السكران في حال السكر مع زوال العقل؟ فأجيب بأنّه قد يكون الإنسان سكران من غير أن يخرج من نقصان العقل بحيث لا يكون متعلّق التكليف أو أنّ النهي ورد عن التعرّض للسكر في حال أداء وجوب الصلاة. و قال أبو عليّ: جوابا آخر و هو أنّ النهي إنّما دلّ على أنّ إعادة الصلاة واجبة عليهم إن أدّوها في حال السكر.

[وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا] في معناه قولان:

أحدهما أنّ المراد: لا تقربوا الصلاة و أنتم جنبا إلّا أن تكونوا مسافرين فيجوز لكم حينئذ أداؤها بالتيمّم و إن كان التيمّم لا يرفع الجنابة لكن يبيح الصلاة، عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس و جماعة.

و الآخر أنّ المعنى: لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد و أنتم جنب إلّا مجتازين، عن جابر و جماعة و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

قال الطبرسيّ: و القول الثاني أقوى لأنّه سبحانه بيّن حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء فإذا حملناه على ذلك لكان تكرارا و إنّما أراد أن يبيّن حكم الجنب في دخول المساجد في أوّل الآية و يبيّن حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية.

قال بعض البارعين في علم البلاغة من أصحابنا: إنّ في الآية الاستخدام و هو عبارة من أن يأتي المتكلّم بلفظ مشترك بين معنيين أو أكثر مقرون بقرينتين أو أكثر يستخدم

ص: 107

كلّ قرينة منها معنى من معاني تلك اللفظ، فاستخدم سبحانه لفظة «الصلاة» في الآية لمعنيين أحدهما إقامة الصلاة بقرينة «حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» و الآخر موضع الصلاة بقرينة «وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» و هذا هو الصواب في معنى الآية.

[وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى نزلت الآية في رجل من الأنصار كان مريضا و لم يستطع أن يقوم، قيل: المرض الّذي يجوز معه التيمّم مرض الجراح و الكسر و القروح إذا خاف أصحابها من مسّ الماء. و قيل: هو المرض الّذي لا يستطيع معه استعمال الماء أو لا يستطيع معه تناول الماء و لا يكون هناك من يناوله، لكنّ المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام جواز التيمّم في جميع ذلك.

[أَوْ عَلى سَفَرٍ] أي إن كنتم في السفر [أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ] و هو كناية عن قضاء الحاجة، قيل: إنّ «أو» هاهنا بمعنى الواو كقوله: «وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» (1) فالمعنى «و جاء أحد منكم من الغائط» و ذلك لأنّ المجي ء من الغائط ليس من جنس المرض و السفر حتّى يصحّ عطفه عليهما فإنّهما سبب لإباحة التيمّم و المجي ء من الغائط سبب لإيجاب الطهارة.

[أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ] و قرئ «لمستم النساء» و المراد به الجماع، عن عليّ و ابن عبّاس و الجبّائيّ و جماعة. و قيل: المراد به اللمس باليد و البدن و غيرها.

قال الطبرسيّ: و الصحيح الأوّل لأنّ اللّه بيّن حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله: «وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا» ثمّ بيّن عند عدم الماء حكم المحدث «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» فلا يجوز أن يدع بيان حكم الجنب عند عدم الماء فعلمنا أنّ المراد من قوله: «أَوْ لامَسْتُمُ» الجماع ليكون بيانا لحكم الجنب عند عدم الماء.

و الغائط المكان المطمئنّ من الأرض و جمعه «الغيطان» و كان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يحجبه عن أعين الناس ثمّ سمّي الحدث بهذا الاسم تسمية للشي ء باسم مكانه.

و استعمل لفظ «اللمس» و أريد به الجماع فإنّ اللمس حقيقة المسّ، و المسّ

ص: 108


1- الصافات: 147.

ورد في القرآن بمعنى الجماع؛ قال سبحانه: «وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ» (1) و قال في آية الظهار «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» (2) قال ابن عبّاس: إنّ اللّه حيّ كريم يعفّ و يكنّى فيعبّر عن المباشرة بالملابسة.

قوله: [فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً] متعلّق بالجمل الأربع و هو يشمل عدم التمكّن عن استعماله لأنّ الممنوع منه كالمفقود أي اقصدوا ترابا طاهرا، و الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره فيجوز التيمّم على الحجر الصلد. و قيل: المراد من الطيّب أن لا تكون الأرض سبخة الّتي لا تنبت.

[فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ و اختلف في كيفيّة التيمّم على أقوال:

أحدها: أنّه ضربة للوجه و ضربة لليدين إلى المرفقين و هو قول فقهاء العامّة مثل أبي حنيفة و الشافعيّ و غيرهما و بعض قليل من أصحابنا.

و ثانيها: أنّه ضربة للوجه و ضربة لليدين من الزندين و إليه ذهب عمّار بن ياسر و مكحول و اختاره الطّبرسيّ، و هو مذهبنا إذا كان بدلا من الجنابة، فإذا كان بدلا من الوضوء كفاه ضربة واحدة يمسح بها وجهه من قصاص شعره إلى طرف أنفه و يديه من زنديه إلى أطراف أصابعها، و هو المرويّ عن سعيد بن المسيّب. و قال الزهريّ من العامّة:

إنّه إلى الإبطين.

قال الفيض: و عن الباقر عليه السّلام في صفة التيمّم: أنّه عليه السّلام وضع كفّيه في الأرض ثمّ مسح وجهه و كفّيه و لم يمسح الذراعين بشي ء.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه وصف التيمّم فضرب بيديه على الأرض ثمّ رفعهما فنفضهما ثمّ مسح على جبينه و كفّيه مرّة واحدة. و في رواية: ثمّ مسح كفّيه إحداهما على ظهر الاخرى.

و عن الرضا عليه السّلام: التيمّم ضربة للوجه و ضربة للكفّين. و عن الباقر عليه السّلام هو ضرب واحد للوضوء و الغسل عن الجنابة تضرب بيديك مرّتين ثمّ تنفضهما فمرّة للوجه و مرّة لليدين و متى أصبت ماء فعليك الغسل إن كنت جنبا و الوضوء إن لم تكن جنبا.

ص: 109


1- البقرة: 237.
2- المجادلة: 3.

قال الفيض: و في الفقيه و التهذيب عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن التيمّم من الوضوء و من الجنابة و من الحيض النساء سواء؟ فقال: نعم.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً] يقبل اليسير منكم لأنّ في التيمّم تيسيرا و تخفيفا لكم، و غفور أي كثير الستر لذنوبكم.

[سورة النساء (4): الآيات 44 الى 45]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45)

اعلم أنّ العلم اليقينيّ يشبه الرؤية فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم و المعنى: ألم ينته علمك إلى هؤلاء اليهود؟ نزلت الآية في رفاعة بن زيد بن السائب و مالك بن دخشم كانا إذا تكلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لو يا لسانهما و عاباه، عن ابن عبّاس.

وصف سبحانه اليهود المذكورين و هما كانا من الأحبار و من تبعهم بأمرين: الضلال و الإضلال، أمّا الضلال فهو قوله: «يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ» و يؤثرون تكذيب الرسول ليأخذوا الرشاء على ذلك و يحصل لهم الرياسة، و في الآية تقدير أي يشترون الضلالة بالهدى.

ثمّ وصفهم بالإضلال فقال سبحانه: [وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ و يسعون إلى إضلال المؤمنين لكي يخرجوا عن الإسلام.

ثمّ قال: [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم [وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا] للمسلمين و كفى نصره، و الوليّ المتصرّف في الشي ء أعمّ من أن يكون ناصرا أو لم يكن فأردفه بوقوع النصرة فتغنيكم نصرته عن عداوتهم فلا تبالوا بهم.

[سورة النساء (4): آية 46]

مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)

. قوله: [مِنَ الَّذِينَ خبر مبتدء محذوف و التقدير: من الّذين هادوا قوم [يُحَرِّفُونَ

ص: 110

الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ و «الكلم» اسم جنس و لذا ذكّر الضمير في «مواضع» و جمع المواضع لتكرّره في التوراة في مواضع شتّى و غيّروه و وضعوا مكانه غيره و أزالوه عن مواضعه الّتي وضعه اللّه فيها و أمالوه عنها.

و التحريف نوعان: أحدهما صرف الكلام إلى غير المراد بضرب من التأويل الباطل كما يفعل أهل البدعة في زماننا. و الثاني تبديل الكلمة بأخرى كما فعلوا في نعته و كان نعته صلى اللّه عليه و آله في التوراة: أسمر ربعة، فوضعوا مكانه أدم طوال، و نحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحدّ بدله.

[وَ يَقُولُونَ في كلّ أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبيّ صلى اللّه عليه و آله أم لا بلسان الحال و المقال [سَمِعْنا] قولك [وَ عَصَيْنا] أمرك عنادا [وَ اسْمَعْ قولنا [غَيْرَ مُسْمَعٍ حال من المخاطب و هو كلام ذو وجهين: أحدهما المدح بأن يحمل على معنى اسمع غير مسمع مكروها، و الثاني الذّم بأن يحمل على معنى اسمع حالكونك غير مسمع كلاما أصلا بموت أو صمم أي ندعو عليك بلا سمعت. قالوا ذلك تمنّيا لإجابة دعائهم عليه و هم كانوا يخاطبونه (صلى اللّه عليه و آله) بهذا القول مظهرين له إرادة المعنى الأوّل و يضمرون في أنفسهم المعنى الأخير.

[وَ راعِنا] كلمة ذات جهتين أيضا محتملة للخير بحملها على معنى: ارقبنا و انتظرنا و اصرف سمعك إلى كلامنا نكلّمك، و للشرّ بحملها على السبّ بمعنى «الرعونة و الحمق» أو بإجرائها مجرى شبهها من كلمة عبرانيّة أو سريانيّة كانوا يتسابّون بها و هي «راعِنا» و كانوا يخاطبون به النبيّ ينوون الإهانة و الشتيمة و يظهرون التوقير.

فإن قيل: كيف جاءوا بالكلام المشكّك بعد ما صرّحوا و قالوا: سمعنا و عصينا؟

فالجواب أنّ جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر و العصيان و المخالفة لكن لا يواجهونه بالسبّ و دعاء السوء حشمة و هيبة منه صلى اللّه عليه و آله.

[لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ أصل «الليّ» اللوي فإنّهم كانوا يلوون و يفتلون ألسنتهم و أشداقهم عند

ص: 111

ذكر الكلام المشكّك فيظهرون التوقير و يضمرون الشتم مثل أن يقولوا: «راعنا» و هم يقصدون «راعينا» يعني أنت راعي غنمنا [وَ طَعْناً فِي الدِّينِ و إنّما يقدمون على مثل هذه الأشياء لطعنهم في الدين.

[وَ لَوْ أَنَّهُمْ عند ما سمعوا شيئا من أو امر اللّه و نواهيه [قالُوا] حقيقة [سَمِعْنا وَ أَطَعْنا] بدل قولهم: «و اسمع غير مسمع» لا يلحقون به «غير مسمع» و بدل قولهم: «راعنا»:

[وَ انْظُرْنا] و لم يدسّوا تحت كلامهم شرّا و فسادا [لَكانَ قولهم ذلك [خَيْراً لَهُمْ ممّا قالوا [وَ أَقْوَمَ أي أسدّ و أصوب، و صيغة التفضيل على زعمهم الفاسد و إلّا فليس في فعلهم ذلك سداد و صواب و هو كقوله: «آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» (1).

[وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ و أبعدهم عن رحمته بسبب كفرهم ذلك [فَلا يُؤْمِنُونَ بعد ذلك [إِلَّا قَلِيلًا] فلم ينسدّ عليهم باب الإيمان و قد آمن فريق منهم من علمائهم و أحبارهم مثل كعب الأحبار و عبد اللّه بن سلام و أضرابهما. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من تعلّم علما لا يبتغي به وجه اللّه و لا يتعلّمه إلّا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنّة.

قال بعض المحقّقين: العلم النافع هو الّذي يستعان به على طاعة اللّه و يلزمك المخافة من اللّه، و العلوم كالدنانير و الدراهم تنفعك و تضرّك و العلم إن قارنته الخشية فلك أجره و ثوابه و إلّا فعليك وزره و قيام الحجّة به، و علامة خشية اللّه ترك الدنيا.

[سورة النساء (4): آية 47]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)

. خاطب اللّه سبحانه أهل الكتاب بالتخويف و التحذير فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ اعطوا علم الكتاب [آمِنُوا] و صدّقوا بما أنزلناه على محمّد من القرآن و أحكام الدين حال كون القرآن [مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة و الإنجيل اللذين تضمّنتا فيهما صحّة ما جاء به محمّد في الدعوة إلى التوحيد و المواعيد و العدل بين الناس و النهي عن المعاصي و الفواحش، و أمّا ما يتراءى من المخالفة في بعض الأحكام فبسبب تفاوت الأمم في الأخلاق

ص: 112


1- النمل: 59.

بالأعصار و متضمّنة للحكمة الّتي عليها يدور فلك التشريع حتّى لو تأخّر نزول المتقدّم لنزل على وفق المتأخّر و لو تقدّم نزول المتأخّر لوافق المتقدّم قطعا، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله:

لو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي.

قوله: [مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً] «الطمس» محو الآثار و إزالة الأعلام أي آمنوا من قبل أن نمحو تخطيط صورها من عين و حاجب و أنف و فم.

[فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها] فنجعلها على هيئة أدبارها و هي الأقفاء مطموسة مثلها، قال ابن عبّاس: أي نجعلها كخفّ البعير و نمحو آثار الوجوه حتّى تصير كالأقفية و نجعل عيونها في أقفيتها فيمشي القهقرى.

و قيل: إنّ معناه أن نطمسها عن الهدى فنردّها على أدبارها في ضلالها و لا تفلح أبدا، عن الحسن و الضحّاك و السدّيّ و رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قال الفرّاء: إنّ معناه نجعل في وجوههم الشعر كوجوه القرد.

و رابع الأقوال: أنّ المراد نمحو آثارهم من وجوههم أي نواحيهم الّتي هم بها و هو الحجاز الّذي مسكنهم و نردّها على أدبارها حتّى يعودوا إلى حيث جاءوا و هو الشام، و حمله على إجلاء بني النضير إلى أريحا و أذرعات الشام، عن ابن زيد. قال الطبرسيّ: و هذا أضعف الوجوه لأنّه ترك الظاهر.

فإن قيل: على معنى قول الأوّل كيف أوعد سبحانه و لم يفعل؟

فالجواب أنّ هذا الوعيد كان متوجّها إليهم إن لم يؤمنوا فلمّا آمن جماعة منهم مثل ثعلبة بن شعبة و أسد بن ربيعة و عبد اللّه بن سلام و أسعد بن عبيدة و مخيريق و غيرهم رفع العذاب عن الباقين و يفعل ذلك بهم في الآخرة.

و جواب آخر و هو سبحانه قال: «أَوْ نَلْعَنَهُمْ» فالمعنى أنّه يفعل بهم أحد الأمرين و قد لعنهم، ثمّ إنّه لم يذكر أنّه يفعل ذلك في الدنيا. و قيل وجه آخر و هو أنّ هذا الوعيد باق منتظر له و لا بدّ من أن يطمس اللّه وجوه اليهود قبل قيام الساعة بأن يمسخها، عن المبرّد.

[أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ مسخناهم قردة و خنازير [وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ

ص: 113

أي عذابه [مَفْعُولًا] كائنا لا محالة و في الآية تهديد شديد و إشارة بأنّ الإنسان يكون على حذر من اللّه و يسارع إلى الإيمان و يرجع عن المعاصي خصوصا الكفر و الكبائر بالتوبة و الاستغفار نعوذ باللّه من الجور بعد الكور (1) و من الشرّ بعد الخير.

قال عبد اللّه بن أحمد المؤذّن. كنت أطوف حول البيت و إذا أنا برجل متعلّق بأستار الكعبة و هو يقول: اللّهم أخرجني من الدنيا مسلما، لا يزيد على ذلك شيئا، فقلت له: لم لا تزيد على هذا الدعاء؟ فقال: لو علمت قصّتي كنت تعذرني، فقلت: و ما قصّتك؟ قال: كان لي أخوان و كان الأكبر منهما مؤذّنا أذّن أربعين سنة احتسابا فلمّا حضره الموت دعا بالمصحف فظننّا أنّه يتبرّك به فأخذه بيده و أشهد على نفسه من حضر أنّه بري ء ممّا فيه ثمّ تحوّل إلى دين النصرانيّة، فلمّا دفن أذّن الآخر ثلاثين سنة فلمّا حضره الموت فعل كما فعل الأوّل فمات على النصرانيّة و إنّي أخاف على نفسي أن أصير مثلهما فأدعو اللّه تعالى أن يحفظ عليّ ديني، فقلت: ما كان لهما؟ فقال: كانا ينبعان عورات لنساء و ينظران المردان (2). نعوذ باللّه من دوام المعصية.

[سورة النساء (4): آية 48]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)

. النزول: قال الكلبيّ: نزلت في المشركين: وحشيّ و أصحابه و ذلك أنّه لمّا قتل حمزة و كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يؤت له بذلك، فلمّا قدم مكّة ندم على صنيعه هو و أصحابه فكتبوا إلى رسول اللّه أنّا ندمنا على الّذي صنعنا و ليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول و أنت بمكّة: «وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ» (3) و قد دعونا مع اللّه إلها آخر و قتلنا النفس الّتي حرّم اللّه و زنينا و لو لا هذه لاتّبعناك.

فنزلت الآية «إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً» (4) فبعث صلى اللّه عليه و آله بها إلى وحشيّ و أصحابه فلمّا قرءوا الآية كتبوا إليه أنّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية.

ص: 114


1- مجتمع القرى.
2- جمع الأمرد.
3- الفرقان: 68.
4- مريم: 60.

فنزلت «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية» فبعث صلى اللّه عليه و آله بها، فلمّا قرءوها بعثوا إليه أنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئة اللّه.

فنزلت «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» (1) فبعث صلى اللّه عليه و آله بها فلمّا قرءوها دخل وحشيّ و أصحابه في الإسلام و رجعوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقبل منهم ثمّ قال لوحشيّ: أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلمّا أخبره قال لوحشيّ: غيّب شخصك عنّي فلحق بعد ذلك بالشام و كان بها إلى أن مات.

و قال الطبرسيّ: عن أبي مجلز عن ابن عمر قال: نزلت في المؤمنين و ذلك أنّه لمّا نزلت «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا، الآية» قام النبيّ صلى اللّه عليه و آله على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال: و الشرك باللّه، فسكت ثمّ قام إليه مرّتين أو ثلاثا فنزلت «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية».

و روى طرف بن الشخير عن عمر بن الخطّاب قال: كنّا على عهد رسول اللّه إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا بأنّه من أهل النار حتّى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادات.

المعنى: إنّه سبحانه آيس الكفّار من رحمته فقال: [إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أحد و لا يغفر الشرك لأحد [وَ يَغْفِرُ ما دُونَ الشرك من الذنوب لمن يريد.

قال المحقّقون: هذه الآية أرجى آية في القرآن وقف اللّه المؤمنين الموحّدين بهذه الآية بين الخوف و الرجاء و بين العدل و الفضل؛ قال الصادق عليه السّلام: لو وزن رجاء المؤمن و خوفه لاعتدلا. و يؤيّده قوله سبحانه: «وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» (2) و قوله: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (3).

قال الطبرسيّ: قال ابن عبّاس: ثمان آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الامّة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت قوله: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» (4) و «يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ» (5)

ص: 115


1- الزمر: 53.
2- الحجر: 56.
3- الأعراف: 99.
4- السورة: 25.
5- السورة: 27.

«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية» (1) «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» (2) «وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ» (3) «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» في الموضعين «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ» (4) و بيان وجه الاستدلال بهذه الآية على أنّ اللّه يغفر الذنوب من غير توبة أنّه تعالى نفى غفران الشرك و لم ينف غفرانه على كلّ حال بل نفى أن يغفر من غير توبة لأنّ الامّة أجمعت على أنّ اللّه يغفره بالتوبة و إن كان الغفران مع التوبة عند المعتزلة على وجه الوجوب و عندنا على وجه التفضّل فعلى هذا يجب أن يكون المراد بقوله: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» أنّه يغفر مادون الشرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين غير الكافرين؛ لأنّ موضع الكلام الّذي يدخله النفي و الإثبات و ينضمّ إليه «إلّا» و «دون» أن يخالف الثاني.

ألا ترى أنّه لا يحسن أن يقول الرجل: أنا لا أدخل على الأمير إلّا إذا دعاني و أدخل على من دونه إذا دعاني. و إنّما يكون الكلام مفيدا إذا قال: و أدخل على من دونه و إن لم يدعني.

و لا معنى لقول من يقول من المعتزلة: إنّ في حمل الآية على ظاهرها و إدخال مادون الشرك في المشيئة إغراء على المعصية لأنّ الإغراء إنّما يحصل بالقطع على الغفران فأمّا إذا كان الغفران معلّقا بالمشيئة فلا إغراء فيه بل يكون العبد واقعا بين الخوف و الرجاء.

و من قال: إنّ في غفران ذنوب البعض دون البعض ميلا و محاباة و لا يجوز الميل و المحاباة على اللّه؛ فجوابه أنّ اللّه متفضّل بالغفران و للمتفضّل أن يتفضّل على قوم دون قوم و هو عادل في تعذيب من يعذّبه و ليس يمنع العقل و لا الشرع عن الفضل.

و من قال: إنّ لفظة «ما دُونَ ذلِكَ» و إن كانت عامّة في الذنوب الّتي هي دون الشرك فإنّما نخصّها و نحملها على الصغائر و ما يقع منه التوبة لأجل عموم ظاهر آيات الوعيد قال الطبرسيّ: فجوابه أنّا نعكس عليكم ذلك فنقول: بل قد خصّص ظاهر تلك الآيات لعموم هذه الآية و هذا أولى لما روي عن بعض السلف أنّه قال: إنّ هذه الآية استثناء على جميع القرآن يريد به، و أيضا فإنّ الصغائر يقع عندكم محبطة و لا يجوز المؤاخذة بها

ص: 116


1- السورة: 30.
2- السورة: 109.
3- السورة: 39.
4- السورة: 147.

و ما هذا حكمه فكيف يتعلّق بالمشيئة؟ فإنّ أحدا لا يقول: إنّي أفعل الواجب إن شئت و أردّ الوديعة إن شئت، انتهى.

[وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى أي اختلق ذنبا غير مغفور يقال: افترى فلان الكذب إذا اعتمله و اختلقه- و أصله من القطع- و أثم [إِثْماً عَظِيماً] لا يغفر. و جاءت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية.

[سورة النساء (4): الآيات 49 الى 50]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)

لمّا هدّد اللّه بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» قالت اليهود: لسنا من المشركين بل نحن من خواصّ اللّه و أهل الطهارة كما حكى سبحانه عنهم أنّهم قالوا: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ» (1) و كانوا قد بالغوا في تزكية أنفسهم فقال سبحانه: لا عبرة بتزكية المرء نفسه، و إنّما العبرة بتزكية اللّه فبيّن سبحانه أنّ التزكية إليه تعالى يزكّي من يشاء و يطهّر من الذنب و يقبل عمل المتّقي فيصير زكيّا و لا يزكّي اليهود و أهل التحريف بل يعذّبهم.

[وَ لا يُظْلَمُونَ في تعذيبهم [فَتِيلًا] و هو مقدار ما يكون في شقّ النواة، و قيل: «الفتيل» ما في بطن النواة و النقير ما على ظهرها و القمطير قشرها. و في الآية دلالة على تنزيهه سبحانه عن الظلم.

[انْظُرْ] يا محمّد [كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ هؤلاء اليهود في تحريفهم التوراة و ادّعائهم بقولهم: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى (2) قال ابن عبّاس: إنّ قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قالوا: يا محمّد هل على هؤلاء ذنب؟ فقال صلى اللّه عليه و آله:

لا، فقالوا: و اللّه ما نحن إلّا كهؤلاء ما عملناه بالنهار كفّر عنّا بالليل و ما عملناه بالليل كفّر عنّا بالنهار فكذّبهم اللّه بهذه الآية.

ص: 117


1- المائدة: 20.
2- البقرة: 111.

[سورة النساء (4): الآيات 51 الى 52]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)

النزول: إنّ كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكّة بعد وقعة احد ليتحالفوا قريشا على رسول اللّه و ينقضوا العهد الّذي كان بينهم و بين رسول اللّه فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه و نزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكّة: إنّكم أهل كتاب و محمّد صاحب كتاب و لا نأمن من أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين و آمن بهما ففعل فذلك قوله: [يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ و المراد من الجبت و الطاغوت الصنمان اللّذان كانا لقريش و سجد لهما كعب بن الأشرف.

و الجبت لا تصريف له في اللغة العربيّة قال سعيد بن جبير: إنّ الجبت هو السحر بلغة الحبشة أو أنّ العرب أدخلوها في لغتهم فصارت لغة لهم.

[وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا] و هم أبو سفيان و أصحابه [هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا] يعني محمّدا و أصحابه [سَبِيلًا] أي دينا. قال القفّال: إنّ الجبت أصله جبس فأبدلت السين تاء و الجبس هو الخبيث الردي ء، و الطاغوت مأخوذ من الطغيان و الإسراف في المعصية فكلّ من دعا إلى المعاصي الكبائر لزمه هذا الاسم ثمّ توسّعوا في هذا الاسم حتّى أوقعوه على الجماد. و المراد بالجبت الصنم. و قيل: «الجبت» الساحر «و الطاغوت» الكاهن. و قيل:

«الجبت» إبليس «و الطاغوت» أولياؤه. و قيل: الطاغوت تراجمة الأصنام الّذين كانوا يتكلّمون بالأكاذيب عنها، عن ابن عبّاس. و قيل: هما كلّ ما عبد من دون اللّه من حجر أو صورة أو شيطان، عن أبي عبيدة و إنّما فسّر «السبيل» بالدين لأنّه كالطريق في الاستمرار عليه ليؤدّي إلى المقصود.

[أُولئِكَ إشارة إلى الّذين تقدّم ذكرهم [الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ و أبعدهم من رحمته و أخزاهم و خذلهم [وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ أي من يلعنه اللّه و العائد محذوف [فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً] و معينا يدفع عنه عقاب اللّه الّذي أعدّه له.

قوله: [سورة النساء (4): الآيات 53 الى 55]

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)

ص: 118

لمّا وصف اللّه اليهود في الآية المتقدّمة بالجهل الشديد بسبب اعتقادهم الفاسد أنّ عبادة الأوثان أفضل من عبادة اللّه وصفهم في هذه الآية بالبخل و الحسد و بيّن سبحانه أنّ الحكم ليس إليهم إذ الملك ليس لهم فقال:

[أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ و هذا استفهام معناه الإنكار أي ليس لهم نصيب من النبوّة حتّى يلزم الناس اتّباعهم و طاعتهم، أو المراد بالملك ما كانت تدّعيه من أنّ الملك يعود إليهم في آخر الزمان و أنّه يخرج منهم من يجدّد ملّتهم و يدعو إلى دينهم فكذّبهم اللّه. و «أم» في الآية قيل: متّصلة و تقدير الكلام أنّ قولهم للمشركين: «أنّهم أَهْدى سَبِيلًا» أمن ذلك يتعجّب أم من قولهم: «لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ» مع أنّه لو كان لهم ملك لبخلوا بأقلّ القليل و «النقير» ما في ظهر النواة من النقرة يضرب به المثل في القلّة و الحقارة.

و قوله تعالى: [فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً] بيان لعدم استحقاقهم للملك بل هم يستحقّون الحرمان من الملك بسبب أنّهم من الدناءة بحيث لو أوتوا شيئا لما أعطوا الناس منه أقلّ قليل. و في تفسير ابن عبّاس: لو كان لهم نصيب من الملك لما أعطوا محمّدا و أصحابه شيئا. و قيل: إنّهم كانوا أصحاب بساتين و أموال و كانوا لا يعطون الفقراء شيئا. فعلى هذا «أم» في الآية منقطعة بمعنى «بل».

قوله: [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ «أم» منقطعة أي بل يحسدون الناس، و اختلف في معنى الناس فقيل: أراد به النبيّ صلى اللّه عليه و آله حسدوه على ما آتاه اللّه من فضله من النبوّة و إباحة تسع نسوة و قالوا: لو كان نبيّا لشغلته النبوّة عن ذلك، فبيّن اللّه سبحانه أنّ النبوّة ليست ببدع في آل إبراهيم.

[فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً] و كان لداود تسع و تسعون امرأة و لسليمان مائة امرأة- و قال بعضهم: كان لسليمان ألف امرأة سبعمائة سرّيّة و ثلاثمائة امرأة- فلا معنى لحسدهم محمّدا على هذا و هو من أولاد إبراهيم و هم كانوا أكثر تزويجا و أوسع مملكة منه و كانوا أنبياء. و قيل: معنى الآية: لمّا كان قوام الدين به

ص: 119

صلى اللّه عليه و آله صار حسدهم له صلى اللّه عليه و آله كحسدهم لجميع الناس كقوله تعالى. «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً» (1) و القول الثاني: أنّ المراد هو الرسول و من معه من المؤمنين و قالوا: إنّ لفظ «الناس» جمع فحمله على الجمع أولى.

ثمّ قال سبحانه: [فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً] و اختلفوا في ضمير «به» في الآية فقال بعضهم: الضمير راجع بمحمّد صلى اللّه عليه و آله فيكون المعنى:

إنّ هؤلاء القوم الّذين أوتوا نصيبا من الكتاب آمن بعضهم و بقي بعضهم على الصدّ و الإنكار. و قال آخرون: المراد من تقدّم من الأنبياء فيكون المعنى تسلية للرسول.

و المعنى أنّ أولئك الأنبياء مع ما خصصتهم به من النبوّة و الملك جرت عادة أممهم فيهم أنّ بعضهم آمن به و بعضهم بقوا على الكفر فأنت يا محمّد (صلى اللّه عليه و آله) لا تتعجّب ممّا عليه هؤلاء الأقوام فإنّ أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت، ثمّ هدّد الكافرين سبحانه بقوله: «وَ كَفى بِجَهَنَّمَ» في عذابهم النار المسعرة الموقدة.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 56]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)

لمّا تقدّم ذكر المؤمنين و الكافرين عقّبه بذكر الوعد و الوعيد على الإيمان و الكفر فقال:

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا] و جحدوا حججنا و كذّبوا أنبياءنا بإنكارهم الآيات و ردّها [سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً] و نلزمهم و نحرقهم فيها و نعذّبهم بها و دخلت «سوف» للدلالة على أنّه يفعل بهم في المستقبل. يقال: شاة مصلية أي مشويّة.

ثمّ قال: [كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي يجدّد اللّه لهم جلودا غير جلود الّتي أحرقت، فلو قيل: إنّ هذا الجلد المجدّد لم يذنب فكيف يعذّب من لا يستحقّ العذاب؟ فالجواب أنّ المعذّب هو الذات الحيّ و الذات واحدة و المتبدّل هو الصفة و لا اعتبار بالأطراف و الجلود، و المراد بالغيريّة التغاير في الصفة.

ص: 120


1- النحل: 120.

و قال عليّ بن عيسى: إنّ ما يزاد لا يولم و لا هو بعض لما يولم و إنّما هو شي ء يصل بواسطته الألم إلى المستحقّ له. و قال الزجّاج و البلخيّ و الجبّائيّ: إنّ اللّه يجدّدها بأن يردّها إلى الحالة الّتي كانت عليها غير محترقة كما إذا انكسر خاتم فاتّخذ منه خاتم آخر يقال له: هذا غير الخاتم الأوّل و إن كان أصلهما واحدا، فعلى هذا يكون الجلد واحدا و إنّما يتغيّر الأحوال عليه فالتعذيب يقع على العاصي.

و أمّا من قال: إنّ الإنسان غير هذه الجملة المشاهدة و أنّه المعذّب في الحقيقة فقد تخلّص من هذا السؤال؛ لأنّ المعذّب هو الإنسان و ذلك الجلد ما كان جزءا من ماهيّة الإنسان بل كان كالشي ء الملتصق به الزائد على ذاته فإذا جدّد اللّه الجلد و صار ذلك الجلد الجديد سببا لوصول العذاب إليه لم يكن ذلك تعذيبا إلّا للعاصي.

و قيل: إنّ المراد بالجلود السرابيل قال: «سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ» (1) فتجديد الجلود إنّما هو تجديد السرابيل. و هذا خلاف الظاهر؛ قال القاضي عبد الجبّار الهمدانيّ: إنّ السرابيل لا توصف بالنضج و إنّما توصف بالاحتراق.

قال الرازيّ: يمكن أن يقال: هذا استعارة عن الدوام و عدم الانقطاع كما يقال لما يراد وصفه بالدوام: كلّما انتهى فقد ابتدأ و كلّما وصل إلى آخره فقد ابتدأ من أوّله، فكذا قوله: «كُلَّما نَضِجَتْ» يعني كلّما ظنّوا أنّهم نضجوا و احترقوا و انتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوّة جديدة من الحياة بحيث ظنّوا أنّهم الآن حدثوا و وجدوا فيكون المقصود بيان دوام العذاب و عدم انقطاعه. و قال السدّيّ: إنّه تعالى يبدّل الجلود من لحم الكافر فيخرج من لحمه جلدا آخر.

قوله: [لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي ليدوم لهم ذوقه و لا ينقطع كقولك للعزيز: أعزّك اللّه، أي أدامك على العزّ و إلّا فهم ذائقون مستمرّون عليه.

و إنّما عبّر سبحانه العذاب بالذوق مع أنّه سبحانه وصف حال الكفّار في أشدّ العذاب و الذوق إدراك قليل من الشي ء ليبيّن أنّهم كالمبتدء عليهم العذاب في كلّ حال فيحسّون آنا فآنا ألما لكن لا كمن يستمرّ به الشي ء فإنّه يصير أخفّ عليه.

ص: 121


1- ابراهيم: 50.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً] لا يدافع و لا يمانع غالب على أمره [حَكِيماً] في تقديره و تدبيره. و روى الكلبيّ عن الحسن قال: بلغنا أنّ جلود الكفّار تنضج كلّ يوم سبعين ألف مرّة.

[سورة النساء (4): آية 57]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)

. [وَ الَّذِينَ آمَنُوا] بكلّ ما يجب الإيمان به [وَ عَمِلُوا] الطاعات الصالحة الخالصة [سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحت قصورها و أشجارها ماء الأنهار دائمين فيها مؤبّدين.

و فيه ردّ على جهم بن صفوان حيث يقول: إنّ نعيم الجنّة و عذاب النار ينقطعان.

[لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ] من الحيض و النفاس و الأدناس و الأخلاق الدنيئة و الطبائع الرديئة لا يفعلن ما يوحشن أزواجهنّ [وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا] و الظلّ أصله الستر من الشمس قال رؤبة: كلّ موضع تكون فيه الشمس و يزول عنه فهو ظلّ و في ء و ما سوى ذلك فظلّ و لا يقال فيه: في ء.

و المراد من قوله: «ظِلًّا ظَلِيلًا» أي ظلّا ليس فيه حرّ و لا برد بخلاف ظلّ الدنيا أو المعنى ظلّا دائما لا تنسخه الشمس متمكّنا قويّا كما يقال: يوم أيوم و ليل أليل و داهية دهياء، يصفون الشي ء بمثل لفظه إذا أرادوا المبالغة.

[سورة النساء (4): آية 58]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)

. أمر اللّه سبحانه في هذه الآية بأداء الأمانات إلى أهلها فأمانة اللّه أوامره و نواهيه و أمانات عباده ما يأتمن بعضهم بعضا من المال و غيره، عن ابن عبّاس و ابيّ بن كعب و ابن مسعود و الحسن و قتادة و هو المرويّ عن الصادقين عليهما السّلام.

و قيل: المراد به ولاة الأمر أمرهم أن يقوموا برعاية الرعيّة و حملهم على موجبات الدين و الشريعة، عن زيد بن أسلم و مكحول و شهر بن حوشب و هو اختيار الجبّائيّ و رواه أصحابنا عن أبي جعفر الباقر و أبي عبد اللّه الصادق عليهما السّلام قالا: أمر اللّه كلّ واحدا من الأئمّة

ص: 122

أن يسلم الأمر إلى من بعده. و يؤيّد هذا المعنى أنّه أمر الرعيّة بعد هذه الآية بطاعة ولاة الأمر و قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ الآية».

و قيل: إنّ الآية نزلت خطابا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله بردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة بعد أخذه صلى اللّه عليه و آله منه.

قال الرازيّ: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا دخل مكّة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة ابن عبد الدار- و كان سادن الكعبة- باب الكعبة و صعد السطح و أبى أن يدفع المفتاح إليه و قال: لو علمت أنّه رسول اللّه لم أمنعه فلوى عليّ بن أبي طالب يده و أخذه منه و فتح و دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و صلّى ركعتين فلمّا خرج سأله العبّاس أن يعطيه المفتاح و يجمع له السقاية و السدانة فنزلت الآية فأمر عليّا عليه السّلام أن يردّه إلى عثمان فقال عثمان: أكرهت ثمّ جئت ترفقني فقال: لقد أنزل اللّه قرآنا و قرأ عليه فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، عن سعيد بن المسيّب و محمّد بن إسحاق.

و قال أبو روق: قال النبيّ لعثمان: أعطني المفتاح، فقال: هاك بأمانة اللّه فلمّا أراد أن يتناوله ضمّ يده فقال الرسول ذلك مرّة ثانية: إن كنت تؤمن باللّه و اليوم الآخر فأعطني المفتاح فقال عثمان: هاك بأمانة اللّه فلمّا أراد أن يتناوله ضمّ يده فقال الرسول مرّة ثالثة فقال عثمان: هاك بأمانة اللّه و دفعه إليه.

قال الطبرسيّ: و المعوّل على ما تقدّم في معنى الآية و إن صحّ قول الأخير و الرواية فيه فقد دلّ الدليل على أنّ الأمر إذا ورد على سبب لا يجب قصره عليه بل يكون على عمومه و العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال الرازيّ: إنّ نزول هذه الآية عند هذه القصّة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضيّة بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات من معاملات الإنسان مع ربّه في العبادات و مع سائر العباد و مع نفسه.

قوله تعالى: [وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أمر اللّه سبحانه الولاة و الحكّام بالنصفة و العدل قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: سوّ بين الخصمين في لحظك و لفظك.

ص: 123

و ورد في الآثار أنّ صبيّين ارتفعا إلى الحسن بن عليّ بن أبي طالب في خطّ كتباه و حكّماه في ذلك ليحكم أيّ الخطّين أجود فبصر به عليّ عليه السّلام فقال: يا بنيّ أنظر كيف تحكم؟ فإنّ هذا حكم و اللّه سائلك عنه يوم القيامة.

[إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم الشي ء ما يوصيكم به من الأمر بردّ الأمانات و النهي عن الخيانة و الحكم بالعدل. و معنى الوعظ الأمر بالخير و النهي عن الشرّ؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: لا تزال هذه الامّة بخير ما إذا قالت صدقت و إذا حكمت عدلت و إذا استرحمت رحمت. [إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً] عالما بأقوالكم و أفعالكم من جميع المسموعات و المبصرات.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 59]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)

. لمّا بدأ سبحانه في الآية المتقدّمة بحثّ الولاة على تأدية حقوق الرعيّة و النصفة و التسوية بين البريّة ثنّاه في هذه الآية بحثّ الرعيّة على طاعة الولاة فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ أي الزموا طاعة اللّه فيما أمركم به و نهاكم عنه و الزموا طاعة رسوله، و إنّما أفرد الأمر بطاعة الرسول مع أنّ طاعة الرسول مقترنة بطاعة اللّه قطعا و دفعا لتوهّم أنّه لا يجب لزوم ما ليس في القرآن من السنّة و قيل: معناه- و القائل الكلبيّ-: أطيعوا اللّه في الفرائض و أطيعوا الرسول في السنن.

قال الطبرسيّ: و الأوّل أصحّ لأنّ طاعة الرسول هي طاعة اللّه و ما ينطق عن الهوى و طاعته صلى اللّه عليه و آله واجبة في حياته و بعد وفاته على جميع العالمين إلى يوم القيامة كما علم أنّه رسول اللّه إليهم أجمعين.

[وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قيل: إنّهم الأمراء عن أبي هريرة و ابن عبّاس و ميمون بن مهران و اختاره الجبّائيّ و الطبريّ و البلخيّ. و قيل: إنّهم العلماء عن جابر بن عبد اللّه و ابن عبّاس في رواية اخرى و مجاهد و عطا و الحسن و جماعة، قال بعضهم: لأنّ العلماء يراجع إليهم في الأحكام فيجب الرجوع إليهم عند التنازع دون الولاة.

و أمّا أصحابنا الإماميّة فإنّهم رووا عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّ اولي الأمر

ص: 124

الأئمّة من آل محمّد عليهم السّلام أوجب اللّه طاعتهم بالإطلاق كما أوجب طاعته و طاعة رسوله و لا يجوز أن يوجب اللّه طاعة أحد على الإطلاق إلّا من ثبت عصمته و علم أنّ باطنه كظاهره و أمن منه الغلط و الأمر بالقبيح و ليس ذلك بحاصل في الأمراء و لا العلماء سواهم جلّ اللّه تعالى أن يأمر اللّه بطاعة من يعصيه و هذه صفة أئمّة الهدى من آل محمّد الّذين ثبت إمامتهم و عصمتهم و اتّفقت الامّة على علوّ رتبتهم.

[فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ فإن اختلفتم في شي ء من امور دينكم فردّوا المتنازع فيه إلى كتاب اللّه و سنّة الرسول و هذا قول العامّة، لكنّ الإماميّة يقولون: الردّ إلى الأئمّة القائمين مقام الرسول بعد وفاته هو مثل الردّ إلى الرسول في حياته لأنّهم الحافظون لشريعته و خلفاؤه في امّته.

ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله: [إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] هذا الوعيد يحتمل أن يكون إلى قوله: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ» و إلى قوله: «فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ».

ثمّ قال: [ذلِكَ إشارة إلى طاعة اللّه و طاعة رسوله و اولي الأمر [خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا] أي أحمد عاقبة و مرجعا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 60 الى 61]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)

ذكروا في سبب النزول وجوها: قال بعض المفسّرين: إنّه نازع رجل من المنافقين رجلا من اليهود فقال اليهوديّ: بيني و بينك أبو القاسم، و قال المنافق: بيني و بينك كعب بن الأشرف، و السبب في ذلك أنّ الرسول كان يقضي بالحقّ و لا يلتفت إلى الرشوة و كعب كان شديد الرغبة في الرشوة و اليهوديّ كان محقّا و المنافق كان مبطلا فلهذا المعنى كان اليهوديّ يريد التحاكم إلى الرسول و المنافق إلى كعب، ثمّ أصرّ اليهود على قوله: فذهبا إلى النبيّ

ص: 125

صلى اللّه عليه و آله فحكم الرسول لليهوديّ على المنافق فقال المنافق: لا أرضى انطلق بنا إلى أبي بكر فحكم أبو بكر لليهوديّ فلم يرض المنافق و قال المنافق: بيني و بينك عمر، فصارا إلى عمر فأخبره اليهوديّ أنّ الرسول و أبا بكر حكما على المنافق فلم يرض بحكمهما فقال للمنافق:

أ هكذا؟ فقال: نعم، فقتله عمر.

و قيل: في سبب النزول أنّه أسلم ناس من اليهود و نافق بعضهم و كانت قريظة و النضير في الجاهليّة إذا قتل قريظيّ نضيريّا قتل به و أخذ منه دية مائة وسق من تمر و إذا قتل نضيريّ قريظيّا لم بقتل به و لكن اعطي ديته ستّين وسقا من التمر، و كان بنو النضير أشرف و هم حلفاء الأوس و قريظة حلفاء الخزرج فلمّا هاجر الرسول إلى المدينة قتل نضيريّ قريظيّا فاختصما فيه فقالت بنو النضير: لا قصاص علينا إنّما علينا ستّون وسقا من التمر على ما اصطلحنا عليه من قبل، و قالت الخزرج: هذا حكم الجاهليّة و نحن و أنتم اليوم إخوة و لا فضل بيننا، فأبى بنو النضير ذلك، فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلميّ، و قال المسلمون: بل إلى رسول اللّه. فأبى المنافقون و انطلقوا إلى الكاهن ليحكم بينهم فأنزل اللّه هذه الآية، و هذا قول السدّيّ. فعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن.

و القول الثالث في النزول: قال الحسن: إنّ رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حقّ فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهليّة يتحاكمون إليه و رجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن فالمراد بالطاغوت هو ذلك الرجل المترجم.

و القول الرابع: كانوا يتحاكمون إلى الأوثان و كان طريقهم أنّهم يضربون القداح بحضرة الوثن فما خرج على القداح عملوا به و على هذا فالطاغوت هو الوثن، هذا تمام الكلام في النزول.

قال أبو مسلم: ظاهر الآية يدلّ على أنّه كان منافقا من أهل الكتاب مثل أنّه كان يهوديّا فأظهر الإسلام على سبيل النفاق لأنّ قوله تعالى: «يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» إنّما يليق بمثل هذا القسم من المنافق.

و حاصل معنى الآية [أَ لَمْ تتعجّب يا محمّد من صنيع هؤلاء [الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن [وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من التوراة و الإنجيل.

ص: 126

[يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ يعني كعب بن الأشرف أو غيره حسبما شرّح من الأوثان أو الكهّان. قال الصادق و الباقر عليهما السّلام: إنّ المعنيّ به من الطاغوت كلّ من يتحاكم إليه ممّن يحكم بغير الحقّ و قد أمروا أن يكفروا به [وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ بما زيّن لهم [أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً] عن الحقّ.

و في الآية دلالة على بطلان مذهب المجبّرة حيث نسب سبحانه إضلالهم إلى الشيطان فلو كان اللّه قد أضلّهم بخلق الضلالة فيهم على ما يقوله المجبّرة لنسب إضلالهم إلى نفسه دون الشيطان، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

قوله تعالى: [وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي المنافقين [تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من الأحكام [وَ إِلَى حكم [الرَّسُولِ [رَأَيْتَ يا محمّد [الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ و يعرضون عن المصير إليك إلى غيرك [صُدُوداً] و إعراضا.

[سورة النساء (4): الآيات 62 الى 63]

فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)

موضع «كيف» رفع بأنّه خبر مبتدء محذوف و التقدير: [فَكَيْفَ صنيع هؤلاء إذا نالتهم من اللّه عقوبة بما كسبت [أَيْدِيهِمْ من النفاق و إظهار السخط لحكم النبيّ و عدم القبول لحكمه.

[ثُمَّ جاؤُكَ يا محمّد يقسمون [بِاللَّهِ ما [أَرَدْنا] بالتحاكم إلى غيرك [إِلَّا] التخفيف عنك فإنّا نحتشمك برفع الصوت في مجلسك و نقتصر على ما يتوسّط لنا برضى الخصمين، و معنى التوفيق الجمع و التأليف و طلبا لما يوافق الحقّ قالوا: إنّ المعنيّ بالآية عبد اللّه بن ابيّ.

و المصيبة ما أصابه من الذلّ برجعتهم من غزوة بني المصطلق و هي غزوة المريسيع حتّى نزلت سورة المنافقين و اضطرب إلى الخشوع و الاعتذار، أو مصيبة الموت لمّا تضرّع إلى رسول اللّه و استوهبه ثوبه صلى اللّه عليه و آله ليتّقي به النار قالوا: ما أردنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين في غزوة بني المصطلق إلّا الإصلاح، و هذا قول حسين بن عليّ المغربيّ.

ص: 127

[أُولئِكَ أي المنافقون [الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق فلا يغني عنهم الحلف الكاذب و الكتمان من العذاب [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تقبل عذرهم [وَ عِظْهُمْ أي ازجرهم عن النفاق [وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي في حقّ أنفسهم الخبيثة، أو المراد من قوله:

«فِي أَنْفُسِهِمْ» أي خاليا بهم ليس معهم غيرهم مشارا بالنصيحة لأنّها في السرّ أنجح [قَوْلًا بَلِيغاً] مؤثّرا واصلا إلى كنه المراد مثل أن تقول: إنّ اللّه يعلم سرّكم و لا يغني عنكم إخفاؤه فطهّروا قلوبكم من الشرك و النفاق و إلّا أنزل اللّه بكم ما أنزل بالمجاهرين.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 64]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)

. ثمّ لامهم سبحانه على ردّهم أمر الرسول و ذكر أنّ غرضه من البعثة الطاعة أي لم نرسل رسولا من رسلنا [إِلَّا لِيُطاعَ الرسول بسبب إذنه سبحانه و أمره بطاعة الرسل لأنّه مؤدّ عنه و طاعته طاعة اللّه و معصيته معصية اللّه.

و هذه الآية دالّة على أنّ الأنبياء عليهم السّلام معصومون عن المعاصي و الذنوب لأنّها دلّت على وجوب طاعتهم مطلقا فلو أتوا بمعصية لوجب علينا الإطاعة لهم و الاقتداء بهم في تلك المعصية فيصير تلك المعصية واجبة علينا و كونها معصية يوجب كونها محرّمة علينا فيلزم توارد الإيجاب و التحريم على الشي ء الواحد و إنّه محال.

و أيضا في الآية دلالة على بطلان مذهب المجبّرة؛ قال أبو عليّ الجبّائيّ: معنى الآية:

و ما أرسلت من رسول إلّا و أنا مريد أن يصدّق و يطاع و لم أرسله ليعصى، فلو لم تكن في في القرآن ما يدلّ على بطلان قولهم إلّا هذه الآية لكفى لأنّ معصيتهم للرسل غير مرادة اللّه.

قوله: [وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ و عرضوها للعذاب بترك طاعتك و التحاكم إلى غيرك [جاؤُكَ تائبين من النفاق [فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ بالتوبة و الإخلاص [وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بأن يسأل اللّه أن يغفر لهم عند توبتهم.

ص: 128

فإن قيل: لو تابوا على وجه صحيح لقبلت توبتهم فما الفائدة في ضمّ استغفار الرسول إلى استغفارهم.

فالجواب أنّ التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم اللّه و إساءة إلى الرسول و إدخال الغمّ إلى قلبه الشريف و من كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الغير.

[لَوَجَدُوا اللَّهَ و صادفوه حالكونه تعالى [تَوَّاباً رَحِيماً] مبالغا في قبول التوبة و في الترحّم بفضله عليهم.

[سورة النساء (4): آية 65]

فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)

. سبب النزول: قال عطا و مجاهد و الشعبيّ: إنّ هذه بقيّة قصّة اليهوديّ و المنافق الّذي مرّ شرحه و متّصلة بما قبلها.

و قيل: نازلة في قصّة اخرى و هو ما روي عن عروة بن الزبير أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزبير في ماء يسقى به النخل فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله للزبير اسق أرضك ثمّ أرسل الماء إلى أرض جارك، فقال الأنصاريّ: لأجل أنّه ابن عمّتك. فتلوّن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ثمّ قال: للزبير اسق أرضك يا زبير إلى أن يبلغ الماء الجدر و استوف حقّك ثمّ أرسل إلى جارك.

و الحكم في المسألة كما حكم به العدل صلى اللّه عليه و آله لأنّ من كان أرضه أقرب إلى فم الوادي و الماء فهو أولى بالماء و حقّه تمام السقي فالرسول صلى اللّه عليه و آله أذن للزبير و أشار برأي فيه السعة له و لخصمه فلمّا ردّ الرجل- و اسمه حاطب بن أبي بلتعة- قوله صلى اللّه عليه و آله و لوى شدقيه و أساء الأدب و لم يعرف حقّ ما أمر به الرسول من المسامحة أمر النبيّ الزبير باستيفاء حقّه على سبيل التمام و حمل خصمه على مرّ الحقّ حتّى يهتدي للحقّ و يرضى به.

قال الراوي: ثمّ خرجا فمرّا على المقداد فقال: لمن كان القضاء يا أبا بلتعة (1)؟ قال:

قضى لابن عمّته و لوى شدقه ففطن لذلك يهوديّ كان مع المقداد فقال: قاتل اللّه هؤلاء يشهدون أنّه رسول اللّه ثمّ يتّهمونه و أيم اللّه لقد أذنبنا مرّة واحدة في حياة موسى فدعانا

ص: 129


1- كذا في الأصل.

موسى إلى التوبة فقال: «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» ففعلنا فبلغ قتالنا سبعين ألفا في طاعة ربّنا حتّى رضي عنّا.

المعنى: [فَلا وَ رَبِّكَ معناه: فو ربّك، فحينئذ «لا» مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في قوله تعالى: «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» (1) لتأكيد وجوب العلم و قوله: [لا يُؤْمِنُونَ جواب القسم و القول الثاني: أنّ «لا» مفيدة و التقدير: ليس الأمر كما يزعمون أنّهم آمنوا ثمّ استأنف القسم بقوله: «فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ» لأنّ الإيمان إنّما هو بالتزام حكم الرسول و الرضاء به و لا يدخلون في الإيمان حتّى يجعلوك حاكما [فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ من الخصومة و التبس عليهم من أحكام الشريعة.

[ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ و قلوبهم شكّا [و حَرَجاً] في أنّ ما قلته حقّ [مِمَّا قَضَيْتَ و حكمت [وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] أي ينقادون لحكمك و يقبلوه خاضعين لأمرك؛ قال الصادق عليه السّلام: لو أنّ قوما عبدوا اللّه و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و صاموا رمضان و حجّوا البيت ثمّ قالوا لشي ء صنعه رسول اللّه: هلّا صنع خلاف ما صنع؟ أو وجدوا من ذلك حرجا في أنفسهم لكانوا مشركين، ثمّ تلا هذه الآية.

قوله: [سورة النساء (4): الآيات 66 الى 68]

وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)

«لو» يمتنع بها الشي ء لامتناع غيره؛ تقول: لو أتاني زيد لأكرمته، فالمعنى أنّ إكرامي امتنع لامتناع إتيان زيد.

المعنى: أخبر سبحانه عن سرائر القوم فقال: [وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا] و أوحينا و فرضنا على هؤلاء القوم الّذين تقدّم ذكرهم [أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما أوحينا إلى قوم موسى ذلك فقتلوا أنفسهم و خرجوا إلى التيه [ما فَعَلُوهُ هؤلاء للمشقّة الّتي لا يتحمّلها إلّا المخلصون.

ص: 130


1- الحديد: 29.

[إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قيل: إنّ القليل الّذي استثنى اللّه هو ثابت بن قيس بن شماس فإنّه قال: أما و اللّه إنّ اللّه ليعلم منّي الصدق فلو أمرني محمّد أن أقتل نفسي لفعلت و قيل:

المستثنون جماعة معدودة من أصحاب رسول اللّه قالوا: لو أمرنا سبحانه لفعلنا فالحمد للّه الّذي عفانا، فمنهم عبد اللّه بن مسعود و عمّار فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّ من امّتي لرجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي.

[وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ و يؤمرون به و امتثلوا [لَكانَ الامتثال [خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً] أي أدعى له إلى الثبات في الدين و أقوى في اعتقاد الحقّ قال البلخيّ:

معنى الآية: لو فرض عليهم القتل أو الخروج من أوطانهم و لم يفعلوا فإذا لم يفرض عليهم ذلك فليفعلوا ما فرض عليهم و أسهل عليهم منه فإنّ ذلك خير لهم و أشدّ تثبيتا لهم على الإيمان كما في الدعاء اللهمّ ثبّتنا على دينك و معناه: الطف لنا ما نثبت عليه معه.

[وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ متّصل بما قبله أي و لو فعلوا ذلك لأعطيناهم [مِنْ لَدُنَّا] أي من عندنا [أَجْراً عَظِيماً] لا يبلغ أحد كنهه و منتهاه و إنّما ذكر «مِنْ لَدُنَّا» تأكيدا بأنّه لا يقدر عليه غيره و دلالة على التشريف و الاختصاص فإنّ الأجر يجوز أن يصل إلى المثاب على يد بعض العباد.

[وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً] أي أثبتناهم مع ذلك على الطريق المستقيم و يلزمون الاستقامة و وفّقناهم الهداية إلى طريق الجنّة.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 69 الى 70]

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)

نزلت الآية في ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و كان شديد الحبّ لرسول اللّه قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم و قد تغيّر لونه و نحل جسمه فقال صلى اللّه عليه و آله: يا ثوبان ما غيّر لونك؟ فقال:

يا رسول اللّه ما بي من مرض و لا وجع غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك حتّى ألقاك ثمّ ذكرت الآخرة فأخاف أنّي لا أراك هناك لأنّي عرفت أنّك ترفع مع النبيّين و إنّي إن ادخلت الجنّة كنت في منزل أدنى من منزلك و إن لم أدخل الجنّة فذاك حين لا أراك أبدا فنزلت

ص: 131

الآية ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله: و الّذي نفسي بيده لا يؤمننّ عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه و أبويه و أهله و ولده و الناس أجمعين.

و قيل: إنّ أصحاب رسول اللّه قالوا: مثل هذا الكلام فنزلت الآية.

المعنى: بيّن سبحانه حال المطيعين فقال: [وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ بالانقياد لأمره و نهيه [وَ الرَّسُولَ باتّباع شريعته و الرضا بحكمه [فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ الصدّيق المداوم على التصديق بما أوجبه الحقّ أو عادته الصدق و المراد أنّهم يتمتّعون برؤية النبيّين و الصدّيقين و زيارتهم و الحضور معهم فلا ينبغي أن يتوهّم من أجل أنّهم في أعلى علّيين أنّه لا يراهم.

لكن من المعلوم أنّه ليس المراد بكون من أطاع اللّه و أطاع الرسول مع النبيّين و الصدّيقين كون الكلّ في درجة واحدة لأنّ هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل و المفضول بل المراد كونهم في الجنّة بحيث يتمكّن كلّ واحد منهم من رؤية الآخر و إن بعد المكان فيزول الحجاب فيشاهد بعضهم بعضا متى شاؤوا فهذا هو المراد من هذه المعيّة.

[وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ أي المقتولين في الجهاد و إنّما سمّي الشهيد شهيدا لقيامه بشهادة الحقّ على جهة الإخلاص و إقراره به و دعائه إليه حتّى قتل. و قيل: إنّما سمّي شهيدا لأنّه من شهداء الآخرة على الناس و هم عدول الآخرة، و الصالحين صلحاء المؤمنين الّذين لم تبلغ درجتهم درجة النبيّين و الصدّيقين و الشهداء، و الصالح الفاعل للصلاح الملازم له المتمسّك به.

[وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً] أي من كان هؤلاء رفقاءه فما أحسنهم من رفيق، و معنى الرفيق ليّن الجانب و اللطف و الرفيق الصاحب الموصوف بالرفق؛ قال الواحديّ إنّما وحّد «الرفيق» و هو صفة الجمع لأنّ الرفيق و البريد و الرسول تذهب به العرب إلى الواحد و الجمع قال اللّه: «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» (1) و قيل: معنى «وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» أي حسن كلّ واحد منهم رفيقا.

و روى أبو بصير عن الصادق أنّه قال: يا أبا محمّد لقد ذكركم اللّه في كتابه ثمّ تلا هذه

ص: 132


1- الشعراء: 16.

الآية قال: فالنبيّ رسول اللّه و نحن الصدّيقون و الشهداء و أنتم الصالحون فاتّسموا بالصلاح كما سمّاكم اللّه.

[ذلِكَ إشارة إلى أنّ الكون مع النبيّين و الصدّيقين فضل [مِنَ اللَّهِ تفضّل به على من أطاعه [وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً] بالمطيعين و العاصين و المنافقين و المخلصين و من يصلح لمرافقة هؤلاء و من لا يصلح.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 71]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71)

. لمّا أمر اللّه الناس بطاعته و طاعة رسوله رغّبهم في الجهاد لدينه لأنّه أعظم الأمور الّتي بها يحصل تقوية الدين فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر و الحذر بمعنى واحد كالمثل و مثل و الإثر و الأثر. يقال: أخذ حذره إذا تيقّظ و احترز من المخوف كأنّه جعل الحذر آلته الّتي بها يقي نفسه و حاصل المعنى: احذروا من العدوّ و لا تمكّنوه من أنفسكم. و قيل: المراد من الحذر في الآية السلاح أو أنّ الأمر بالحذر يتضمّن الأمر بأخذ السلاح فأخذ السلاح معنى مدلول عليه بفحوى الكلام.

فإن قيل: ذلك الّذي أمر اللّه تعالى بالحذر عنه إن كان مقضيّ الوجود لم ينفع الحذر و إن كان مقضيّ العدم لا حاجة إلى الحذر فالأمر بالحذر حينئذ عبث و المقدور كائن، و قيل أيضا: الحذر لا يغني عن القدر.

فالجواب أنّ تعطيل الأسباب أيضا مناف للقدر و لمّا كان الكلّ بقدر كان الأمر بالحذر و تهيّؤ الأسباب أيضا داخلا في القدر و إلّا بطل القول بالشرائع فإنّه يقال: إن كان الإنسان من أهل السعادة في قضاء اللّه و قدره فلا حاجة إلى الإيمان و إن كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الإيمان و الطاعة فهذا يفضي إلى سقوط التكليف بالكلّيّة.

قوله تعالى: [فَانْفِرُوا ثُباتٍ يقال: نفر القوم نفرا و نفيرا إذا نهضوا لقتال العدوّ و استنفر الإمام الناس إذا حثّهم على الجهاد و دعاهم إلى النفير، و معنى الآية: فانفروا إلى قتال عدوّ الدين ثبات أي إمّا جماعات متفرّقة ثبة بعد ثبة و سريّة بعد سريّة فرقة في جهة

ص: 133

و فرقة في جهة اخرى و إمّا كلّكم مجتمعين كوكبة واحدة [أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً] إذا أوجب الرأي و الصلاح. و روي عن أبي جعفر عليه السّلام في معنى الآية أنّ المراد بالثبات السير بجميع العسكر.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 72 الى 73]

وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)

اللام في قوله: «لمن» لام الابتداء، و اللام الثانية في «ليبطئنّ» لام القسم بدلالة دخولها على الفعل مع نون التأكيد.

المعنى: و لمّا حثّ اللّه على الجهاد بيّن حال المتخلّفين عنه فقال: [وَ إِنَّ مِنْكُمْ و الخطاب لعسكر رسول اللّه كلّهم المؤمنين منهم و المنافقين و المبطّئون منافقوهم و قد جعل المنافقين داخلا فيهم لأنّهم منهم في حكم الظاهر من أحكام الشريعة من حقن الدم و الموارثة و المناكحة، أو الخطاب للجميع من باب الاختلاط في النسب و الاتّحاد في الجنس قرئ «يبطّئنّ» بالتشديد و «يبطئنّ» بالتخفيف و المعنى واحد أي من أعدادكم من يتأخّر عن الخروج مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

[فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ] من قتل أو هزيمة [قالَ قول الشامت المسرور بتخلّفه:

[قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً] حاضرا في القتال فكان يصيبني ما أصابهم، قال الصادق عليه السّلام: لو أنّ أهل السماء و الأرض قالوا: قد أنعم اللّه علينا إذ لم نكن مع رسول اللّه، لكانوا بذلك مشركين.

[وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي فتح أو غنيمة ليقولنّ يا ليتني كنت معهم و قوله: [كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ] اعتراض متّصل بما قبله مؤكّد لقولهم:

«قد أنعم اللّه علينا» و التقدير قال: «قد أنعم اللّه عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا كأن لم يكن بينكم و بينه مودّة، و حاصل الكلام أنّه لا يعاضدكم على قتال عدوّكم و لا يرعى الذمام الّذي بينكم.

ص: 134

و قوله: [لَيَقُولَنَ ... يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ] من الغنيمة [فَوْزاً عَظِيماً] هذا التمنّي من قول المبطّئين القاعدين.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 74]

فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)

. لمّا و بّخ اللّه المبطّئين في الآية السابقة حثّ المؤمنين في هذه الآية على القتال فقال:

[فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا أمر من اللّه و ظاهر أمره يقتضي الوجوب أي فليجاهد في طريق دين اللّه [الَّذِينَ يَشْرُونَ أي يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية بتوطين أنفسهم على القتال في طاعته يقال: شريت بمعنى بعت و اشتريت بمعنى ابتعت.

[وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي يجاهد في طريق دين اللّه و طاعة ربّه بأن يبذل نفسه ابتغاء مرضات اللّه [فَيُقْتَلْ بأن يستشهد [أَوْ يَغْلِبْ و يظفر بالعدوّ فكأنّه قال: هو فائز بإحدى الحسنيين إن غلب أو غلب [فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] أي نعطيه ثوابا لا يقادر قدره.

[سورة النساء (4): آية 75]

وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)

. المراد منه تعالى إنكاره لتركهم القتال و تأكيدا في الأمر بالجهاد أي لا عذر لكم في ترك المقاتلة و قد بلغ حال المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف، و في القتال تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة و في الجهاد إعزاز دين اللّه و نصرته.

و المراد من الرجال و المستضعفين قوم من المسلمين بقوا بمكّة و لم يستطيعوا الهجرة منهم سلمة بن هشام و الوليد بن الوليد و عياض بن أبي ربيعة و أبو جندب بن سهيل و كانوا جماعة يدعون اللّه أن يخلصهم من أيدي المشركين و يخرجهم من مكّة و هم [الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها] أي كانوا يقولون في دعائهم: ربّنا سهّل

ص: 135

علينا الخروج من مكّة. و المراد بقوله «الظَّالِمِ أَهْلُها» أي الّتي ظلم أهلها بافتتان المؤمنين عن دينهم و منعهم الهجرة.

[وَ اجْعَلْ لَنا] بألطافك [مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك وليّا يلي أمرنا حتّى ينقذنا من أيدي الظلمة [نَصِيراً] ينصرنا على من ظلمنا فاستجاب اللّه دعاءهم و فتح رسول اللّه مكّة و جعل اللّه نبيّه لهم وليّا فاستعمل صلى اللّه عليه و آله على مكّة عتاب بن أسيد فكان ينصف الضعيف من القويّ فصار المستضعفون أعزّ فيها من الظلمة.

و في الآية دلالة على تعظيم موقع الدعاء من اللّه و إبطال قول من زعم أنّ العبد لا يستفيد بالدعاء شيئا. قال صاحب الكشّاف: و يجوز أن يراد بالرجال و النساء الأحرار و الحرائر و بالولدان العبيد و الإماء؛ لأنّ العبد و الأمة يقال لهما الوليد و الوليدة و جمعهما الولدان و الولائد إلّا أنّه جعل هاهنا الولدان جمعا للذكور و الإناث تغليبا للذكور على الإناث.

فإن قيل: إنّ القرية مؤنّثة و قوله: «الظَّالِمِ أَهْلُها» صفة للقرية و لذلك خفض فكان ينبغي أن يقال: الظالمة أهلها.

فالجواب أنّ النحويّين يسمّون مثل هذه الصفة الصفة المشبّهة باسم الفاعل فالأصل في هذا الباب أنّك إذا أدخلت الألف و اللام في الأخير لا بدّ من المطابقة و إذا لم تدخل الألف و اللام في الأخير حملتها على الثاني فحينئذ إذا أدخلت الألف و اللام على الأهل لقلت:

من هذه القرية الظالمة الأهل. ثمّ إنّ نسبة الظلم في المعنى إلى الأهل لا إلى القرية النهاية أنّ الأهل منتسبون إلى القرية.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 76]

الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)

ثمّ رغّبهم سبحانه في الجهاد بشرط أن يكون الغرض فيه رضى اللّه فالمؤمنون يقاتلون لغرض نصرة دين اللّه و إعلاء كلمته و الكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت و طاعته، و لمّا ذكر سبحانه هذه القسمة أنّ القتال إمّا أن يكون في سبيل اللّه أو في سبيل الطاغوت

ص: 136

وجب أن يكون ما سوى قصد اللّه طاغوتا.

ثمّ أمر اللّه بأن يقاتلوا أولياء الشيطان و قال: [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً] لأنّ اللّه ينصر أولياءه، و الكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال.

قال الرازيّ: و فائدة إدخال «كان» في قوله: «كانَ ضَعِيفاً» تأكيد الضعف بمعنى أنّه قد كان موصوفا بالضعف و الذلّة، النهاية أنّ أولياءه يقوّونه بإطاعته.

قوله: [سورة النساء (4): آية 77]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)

. النزول: قال الكلبيّ: نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهريّ و المقداد بن أسود الكنديّ و قدامة بن مظعون الجمحيّ و سعد بن أبي وقّاص كانوا يلقون من المشركين أذى شديدا و هم بمكّة قبل أن يهاجروا إلى المدينة فيشكون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و يقولون: ائذن لنا في قتال هؤلاء فإنّهم قد آذونا فلمّا أمروا بالقتال و بالمسير إلى بدر شقّ على بعضهم فنزلت الآية، فقال:

[أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ و هم بمكّة [كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ و أمسكوا عن قتال الكفّار فإنّي لم اومر بقتالهم و اشتغلوا بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة [فَلَمَّا كُتِبَ و فرض [عَلَيْهِمُ الْقِتالُ و هم بالمدينة [إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ و جماعة [يَخْشَوْنَ و يخافون القتل من الناس [كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كما يخافون الموت من اللّه أو المعنى: يخافون الناس أن يقتلوهم كما يخافون اللّه أن يتوفّاهم و يخافون عقوبة الناس بالقتل كما يخافون عقوبة اللّه.

[أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً] قيل: إنّ «أو» في الآية بمعنى الواو. و قيل: إنّ «أو» في مثل هذه الموارد لإبهام الأمر على المخاطب مثل قوله: «وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» (1) كذلك هاهنا يعنى يخشونهم خشية مثل خشية اللّه أو خشية أشدّ من خشية اللّه.

[وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ قيل: لم يقولوا ذلك كراهية لأمر اللّه و

ص: 137


1- الصافات: 147.

اعتراضا و لكن لدخول الخوف عليهم بذلك على ما يكون من طبع البشر، أو قالوا ذلك استفهاما لا إنكارا. و على كلّ حال فلو لم يقولوا ذلك لكان خيرا لهم [لَوْ لا أَخَّرْتَنا] أي هلّا أخّرتنا [إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ و هو إلى أن نموت بآجالنا.

فبيّن اللّه سبحانه أنّ الدنيا بما فيها من المنافع قليل فقال: [قُلْ يا محمّد لهؤلاء:

مَتاعُ الدُّنْيا و جميع ما يستمتع بها من منافع الدنيا [قَلِيلٌ لا يبقى [وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا] أي لا يبخسون هذا القدر القليل فكيف ما زاد عليه؟ و «الفتيل» ما تفتله بيدك من الوسخ ثمّ تلقيه، عن ابن عبّاس. و قيل: ما في شقّ النواة و هو يشبه الخيط الرقيق المفتول.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 78]

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)

. و «أينما» في هذه الآية تكتب موصولة و في «أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ» تكتب مفصولة لأنّ «ما» هاهنا مزيدة و هنالك بمعنى الّذي فوصلت هذه كما توصل الحروف و فصلت تلك كما تفصل الأسماء.

[أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ المقدّر أو العذاب و في لفظ الإدراك إشعار بأنّهم في الهرب منه و هو مجدّ في طلبهم.

[وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي قصور عالية محكمة بالشيد و هو الجصّ بحيث لا يصعد إليها بنو آدم.

قال مجاهد في هذه الآية: كان فيمن قبلكم امرأة و كان لها خادم فولدت جارية فقالت لخادمها: اقتبس لنا نارا فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟

قال: جارية، قال الرجل: أمّا هذه الجارية لا تموت حتّى تزني بمائة و يتزوّجها خادمها و يكون موتها بالعنكبوت، فقال الخادم عند نفسه: فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمائة حاشا لأقتلنّها البتّة فأخذ شفرة فدخل و شقّ بطن الصغيرة و خرج على وجهه و ركب البحر فخيط بطن

ص: 138

الصبيّة و عولجت و برئت و شبّت فكانت تزني فأتت ساحلا من سواحل البحر فأقامت عليه تزني و لبث الرجل الخادم ما شاء اللّه ثم بعد مدة قدم ذلك الساحل و معه مال كثير فقال لامرأة من أهل الساحل اطّلعي لي امرأة من أجمل النساء أتزوّجها، فقالت: هاهنا امرأة من أجمل النساء و لكنّها تفجر، فقال: ايتيني بها، فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير و قال لي كذا، و كذا فقالت: إنّي تركت الفجور و لكن إن يتزوّجني تزوّجته. قال: فتزوّجها فوقعت منه موقعا فبينما هو عندها إذا أخبرها بأمره فقالت: أنا تلك الجارية و أرته الشقّ في بطنها، و قد كنت أفجر فما أدري بمائة أو أقلّ أو أكثر فقال زوجها في نفسه: إنّ الرجل الّذي كان خارج الباب قال: يكون موتها بالعنكبوت ثمّ أخبرها بذلك. قال: فبنى لها برجا في الصحراء و شيّد بأحكم بناء فبينما هي يوما في ذلك البرج إذا عنكبوت في السقف فقالت: هذا يقتلني لأقتلنّه إذ لا يقتله أحد غيري فحرّكته فسقط فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدخته فساح سمّه بين ظفرها و للحم فاسودّت رجلها فماتت، و في ذلك نزلت هذه الآية.

و أجمعت الامّة على أنّ الموت أجله غير معلوم و ذلك ليكون المرء على اهبة من ذلك مستعدّا ليومه قال صلى اللّه عليه و آله: أكثروا ذكر هادم اللذّات.

و المراد من الآية تبكيت للّذين قالوا: «رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ» فبيّن سبحانه أنّه لا خلاص من الموت لكم و الجهاد موت مستعقب لسعادة الآخرة فإذا كان لا بدّ من الموت فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسعادة كان أولى و البروج في أصل اللغة الظهور و القصور العالية حيث إنّها ظاهرة سمّيت بروجا، يقال: تبرّجت المرأة إذا أظهرت محاسنها.

[وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي إنّ هؤلاء المنافقين المتثاقلين عن الجهاد خوفا من الموت فيهم خصلة قبيحة اخرى و هي: إن أصابوا راحة أو غنيمة قالوا:

«هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» و إن أصابهم مكروه قالوا: هذه من شؤم مصاحبة محمّد صلى اللّه عليه و آله. قال المفسّرون:

كانت المدينة وقت مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله مملوءة من النعم فلمّا علا أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ظهر عناد اليهود و المنافقين و اشتغلوا بالإفساد في أمر محمّد صلى اللّه عليه و آله فأمسك اللّه عنهم بعض الإمساك فعند ذلك قال المنافقون و اليهود: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا و غلت

ص: 139

أسعارنا كما حكى سبحانه عن قوم موسى «وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى (1) و المراد بالحسنة و السيّئة السرّاء و الضرّاء و البؤس و النعيم.

[قُلْ يا محمّد: [كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي جميع ما مضى ذكره من الموت و الحياة و الخصب و الجدب من عنده و بقضائه لا يقدر أحد على ردّه و دفعه ابتلى بذلك عباده ليعترضهم لثوابه بالشكر عند العطيّة و الصبر على البليّة [فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ أي ما شأن هؤلاء المنافقين [لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً] أي لا يقربون فقه معنى الحديث الّذي هو القرآن لأنّهم يبعدون عنه بإعراضهم و كفرهم به.

فإن قيل: إنّ الطاعات و المعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة و السيّئة فالآية دالّة على أن جميع الطاعات و المعاصي من اللّه.

فالجواب أنّه باتّفاق الأئمّة على أنّ هذه الآية مفسّرة و نازلة في معنى السرّاء و الضرّاء و الخصب و الجدب فكانت مختصّة بهما و لمّا كان لفظ الحسنة واقعا بالاشتراك على الطاعة و على المنفعة.

و قد أجمع المفسّرون على أنّ المنفعة مرادة فيمتنع كون الطاعة مرادة ضرورة أنّه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه فدليل الجبريّة في هذه الآية فاسد، انتهى.

ثمّ إنّه سبحانه وصف القرآن بأنّه حديث و الحديث فعيل بمعنى مفعول فيلزم منه أن يكون القرآن محدثا.

قوله: [سورة النساء (4): آية 79]

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)

. الخطاب للرسول و المراد الامّة. و قيل: للإنسان أي ما أصابك أيّها الإنسان من نعمة في الدين أو الدنيا فإنّها من اللّه [وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ] من المعاصي [فَمِنْ نَفْسِكَ و قيل: الحسنة النعمة و الرخاء و السيّئة القحط و البلاء و المكاره و الأذاة و الشدائد الّتي تصيبهم في الدنيا بسبب المعاصي الّتي يفعلونها فيكون المعنى على هذا: ما أصابك من الصحّة

ص: 140


1- الأعراف: 130.

و السلامة وسعة الرزق و النعم دينا و دنيا فمن اللّه و ما أصابك من المحن و الآلام و المصائب فبسبب ما تكسب من الذنوب كما قال اللّه تعالى: «وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» (1).

و فسّره أبو القاسم البلخيّ فقال: ما أصاب المكلّف من مصيبة فهي كفّارة ذنب صغير أو عقوبة ذنب كبير أو تأديب وقع لأجل تفريطها و قد قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ما من خدش بعود و لا اختلاج عرق و لا عثرة قدم إلّا بذنب و ما يعفو اللّه عنه أكثر.

و قيل: معنى «فَمِنْ نَفْسِكَ» أي فمن فعلك، و في نظم الآية ما يوافق المعنى لأنّهم كانوا يقولون: إنّ هذه الشدائد بشؤم الرسول، فأجاب اللّه أنّ ما أصابهم فبشؤم ذنوبهم و أنت يا محمّد رسول طاعتك طاعة اللّه و معصيتك معصية اللّه لا يطيّر بك، بل الخير كلّه فيك.

[وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا] أي رسولا للناس جميعا لست برسول العرب كما يزعمه بعض اليهود بل أنت رسول العجم و العرب كقوله: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» (2) فرسولا حال قصد بها التعميم في الرسالة و الجار متعلّق بها قدّم عليها للاختصاص [وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً] على رسالتك بنصب المعجزات.

و قوله: [وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ لا ينافي قوله: «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» فإنّ الكلّ منه إيجادا غير أنّ الحسنة إحسان و السيّئة مجازاة و انتقام و للأعمال أربع مراتب: منها مرتبتان للّه و ليس للعبد فيهما مدخل و هما التقدير و الخلق، و منها مرتبتان للعبد الكسب و الفعل فإنّ اللّه منزّه عن الكسب و فعل السيّئة و إنّ هذين المرتبتين متعلّقتان بالعبد لكنّ العبد قدرته على الكسب من اللّه فقوله: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» أي خلقا و تقديرا بسبب سابقة علمه تعالى بفعل العبد لا كسبا و فعلا من اللّه، تعالى اللّه عن ذلك.

[سورة النساء (4): آية 80]

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)

. روي أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: من أحبّني فقد أحبّ اللّه و من أطاعني فقد أطاع اللّه فقال المنافقون: لقد قارف الشرك و هو ينهى عنه ما يريد إلّا أن نتّخذه ربّا كما اتّخذت النصارى عيسى فنزلت الآية فبيّن سبحانه أنّ طاعة النبيّ صلى اللّه عليه و آله من حيث وافقت إرادته تعالى

ص: 141


1- الشورى: 30.
2- السبأ: 28.

فإنّها طاعة اللّه على الحقيقة إذ كانت بأمره و إرادته.

[وَ مَنْ تَوَلَّى و أعرض و لم يطع [فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً] و حافظا لهم من التولّي و الإعراض حتّى يسلموا و كان هذا أوّل ما بعث كما قال في موضع آخر: «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» (1) ثمّ امر فيما بعد بالجهاد. و قيل: المعنى فما أرسلناك حافظا لأعمالهم الّتي يقع الجزاء عليها فتخاف أن لا تقوم بها. و قيل: المعنى حافظا لهم من المعاصي.

و في الآية تسلية للنبيّ في تولّي الناس عنه مع ما في الآية من تعظيم شأنه بكون طاعته طاعة اللّه.

ثمّ بيّن أنّ المنافقين أظهروا طاعته و أضمروا خلافه بقوله:

[سورة النساء (4): آية 81]

وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)

. أي [يَقُولُونَ إذا أمرتهم بشي ء [طاعَةٌ] بالرفع أي شأننا طاعة و إجابة لأمرك، و قرئ بالنصب أي أطعناك طاعة، لكنّ الرفع يدلّ على الاستقرار و الثبات.

[فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ و خرجوا من مجلسك [بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ و التبييت في الأمر هو أن يتفكّر و يتفكّر فيه كثير و اشتقاقه من البيتوتة و لمّا كان أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإنسان في بيته بالليل و يعمل فكره فيه سمّي الفكر المستقصى مبيّتا أو مأخوذ من بيت الشعر لأن الشاعر يبالغ في التفكّر إذا أراد أن ينشد في القريض و نسجه، و المراد أنّهم غيّروا بالليل و بدّلوا ما قالوه بأن أضمروا الخلاف عليك فيما أمرتهم به و نهيتهم عنه أو المعنى دبّروا ليلا غير ما أطاعوا نهارا، و هو قريب من معنى الأوّل.

[وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ في اللوح ليجازيهم به أو المراد من «يكتب» ينزله إليك في الكتاب [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فأمر نبيّه بالإعراض عنهم و أن لا يسمّيهم بأعيانهم إلى أن يستقرّ الإسلام و يعلو أمره و فوّض أمرك إليه تعالى [وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا] فثق به.

قوله: [سورة النساء (4): الآيات 82 الى 83]

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)

ص: 142


1- الشورى: 48.

و لمّا كان المنكرون نبوّته صلى اللّه عليه و آله يعتقدون أنّه متخرّص فلا جرم أمرهم اللّه بأن يتفكّروا في صحّة نبوّته بالدليل فقال: [أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ و التدبّر عبارة عن النظر في عاقبة الأمور و أدبارها.

و دلالة القرآن على صحّة نبوّته و صدق محمّد صلى اللّه عليه و آله من ثلاثة أوجه: أحدها فصاحته و ثانيها: اشتماله على الأخبار عن الغيوب و الثالث: سلامته عن الاختلاف؛ و كان المنافقون يتواطئون في السرّ على أنواع من المكر و الكيد و اللّه سبحانه يطّلع الرسول حالا فحالا و يخبره فذلك لو لم يحصل بأخبار اللّه و إلّا لما اطّرد الصدق و كان يظهر في قول محمّد صلى اللّه عليه و آله أنواع الاختلاف فلمّا لم يظهر ذلك علم أنّ ذلك بإخبار اللّه إيّاه.

و القرآن كتاب كبير و مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم فلو كان من عند غير اللّه لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة، و القرآن يصدّق بعضه بعضا.

فإن قيل: أليس قوله مثلا: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (1) كالمناقس لقوله: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ» (2) و كذلك آيات الجبر كالمناقضة لآيات القدر؟

فالجواب أنّ هذا كلام من لا يعلم علم التفسير و إلّا فمعلوم عند أهل العلم أنّه لا منافاة و لا مناقضة بين شي ء منها البتّة.

قال أبو مسلم الإصفهانيّ: إنّ عدم الاختلاف حاصل أيضا في الفصاحة بحيث لا يكون في جملته ما يعدّ في الكلام الركيك بل بقيت الفصاحة فيه من أوّله إلى آخره على نهج واحد و من المعلوم أنّ الإنسان و إن كان في غاية البلاغة و نهاية الفصاحة إذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة فلا بدّ و أن يظهر التفاوت في كلامه بحيث كان بعضه قويّا محكما و بعضه منحلّا نازلا، و لمّا لم يكن القرآن كذلك علمنا أنّه المعجز و من عند اللّه.

و حاصل المعنى: أفلا يتفكّر اليهود و المنافقون في القرآن إذ ليس فيه خلل و لا تناقض ليعلموا أنّهم لا يقدرون على مثله و أنّه حجّة و ليس من كلام أحد من الخلق و هو مشتمل على أنواع من الحكم من أمر بحسن و نهي عن قبيح و خبر صادق و دعوة إلى مكارم الأخلاق

ص: 143


1- الحجر: 92.
2- الرحمن: 39.

فإنّ من تدبّر فيه علم جميع ذلك [وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ أي لو كان من عند النبيّ أو كان يعلمه بشر كما زعموا [لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] و الاختلاف في الكلام يكون على ثلاثة أضرب: اختلاف تناقض و اختلاف تفاوت و اختلاف تلاوة، فاختلاف التفاوت يكون في الحسن و القبيح و الخطأ و الصواب و نحو ذلك فهذا الجنس من الاختلاف لا يوجد في القرآن كما أنّه لا يوجد اختلاف التناقض و أمّا اختلاف التلاوة مثل اختلاف مقادير الآيات و السور و اختلاف الأحكام في الناسخ و المنسوخ بما تقتضيه المصلحة فذلك موجود في القرآن فإنّ الناسخ ثابت مقرّر إلى يوم القيامة فليس فيه تناقض و تفاوت بعد تقريره و ثبوته.

قال أبو عليّ الجبّائيّ: دلّت الآية على أنّ أفعال العباد غير مخلوقة للّه لأن قوله:

«وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» يقتضي أنّ فعل العباد لا ينفكّ عن الاختلاف و فعل اللّه لا يوجد فيه التفاوت لقوله: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» (1) فهذا يقتضي أنّ فعل العبد لا يكون فعلا للّه، انتهى.

[وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ حكى سبحانه عن المنافقين و ضعفة المسلمين نوعا آخر من القبائح و هو أنّه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الخبر من باب الأمن مثل ظهور المؤمنين و غلبتهم على عدوّهم أو من باب الخوف مثل إرجافهم بأنّ العدوّ قصدوهم و أضرّوا بالمؤمنين أذاعوا و أفشوا من هذه الأراجيف في المدينة و كانت إذاعتهم مفسدة.

[وَ لَوْ رَدُّوهُ ذلك الخبر [إِلَى الرَّسُولِ و سكتوا إلى أن يظهر الرسول [وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ قال أبو جعفر عليه السّلام: هم الأئمّة المعصومون. و قال السدّيّ و أبو زيد و أبو عليّ الجبّائيّ: هم أمراء السرايا و الولاة. و قال الحسن و قتادة و غيرهم: إنّهم أهل العلم و الفقه الملازمون للنبيّ.

[لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ قيل: إنّ الضمير في «منهم» يعود إلى «اولي

ص: 144


1- الملك: 3.

الأمر» و هو الأظهر. و قيل: يعود إلى المنافقين و الضعفة من المسلمين أي لعلم ذلك الأمر و تدبيره الرسول و اولي الأمر الّذين يستخرجون صدقه عن كذبه و صلاحه عن فساده بعلمهم و أنظارهم الصحيحة و بالوحي و التجارب. و أصل الاستنباط إخراج النبط و هو الماء يخرج من البئر أوّل ما تحفر يقال: أنبط الحفّار إذا بلغ الماء، و سمّي القوم الّذين ينزلون بالبطائح من العراق نبطا لاستنباطهم الماء من الأرض.

و في الآية إشعار بالنهي عن إفشاء السرّ. قيل لبعض العقلاء: كيف حفظك للسرّ؟

قال: أنا قبره. و من هذا قيل: صدور الأبرار قبور الأسرار.

[وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ أي و لو لا إيصال موادّ الألطاف من جهة اللّه. و قيل:

المراد من فضل اللّه الإسلام، و المراد من الرحمة القرآن، عن ابن عبّاس. و قيل: فضل اللّه النبيّ صلى اللّه عليه و آله و رحمته القرآن، عن الضحّاك و الجبّائيّ و السدّيّ، و روي عن الصادقين عليهما السّلام فضل اللّه و رحمته محمّد و عليّ صلوات اللّه عليهما.

[لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا] بالكفر و الضلال أي إلّا قليلا منكم فإنّ من خصّه بعقل راجح و قلب مطمئنّ مثل زيد بن نفيل و ورقة بن نوفل و أمثالهم المعدودين مثل قسّ ابن ساعدة و من كان على دين المسيح صحيحا و معترفون بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله قبل بعثته، و هذا المعنى على ظاهر الآية أوفق.

و قيل: إنّ في الكلام تقديما و تأخيرا و الاستثناء من قوله: «أَذاعُوا بِهِ» فيكون المعنى: أذاعوا به إلّا قليلا، عن ابن عبّاس و جماعة كالبلخيّ و الفرّاء و الطبريّ و المبرّد و الكسائيّ. و قيل: الاستثناء من قوله: «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... إِلَّا قَلِيلًا».

أو المراد في معنى الآية: و لو لا فضل اللّه عليكم بالنصرة و الفتح مرّة بعد اخرى لاتّبعتم الشيطان فيما يلقي إليكم من الوساوس و الخواطر الفاسدة إلى الجبن و الفشل الموجبة لضعف النيّة و البصيرة إلّا قليلا من أصحاب الرسول الّذين هم أهل البصائر النافذة و النيّات الخالصة و لا يشكّون في نصرة اللّه و إنجاز وعده و إن أبطأ بعض الإبطاء.

[سورة النساء (4): آية 84]

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)

.

ص: 145

أمر سبحانه بالقتال فقال: [فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و الفاء جواب لقوله: «وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ... فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فيكون المعنى إن أردت الأجر العظيم فقاتل في سبيل اللّه؛ و يجوز أن يكون متّصلا بقوله: «وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» و الخطاب للنبيّ خاصّة أمره اللّه أن يقاتل في سبيل اللّه وحده بنفسه.

[لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ و أنت مكلّف بفعل نفسك لأنّه لا ضرر عليك في فعل غيرك فلا تهتمّ بتخلّف المنافقين على الجهاد فإنّ ضرر ذلك عليهم.

[حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ و حثّهم عليه و قد امر صلى اللّه عليه و آله بالجهاد و لو وحده، و كان أبو سفيان واعد الرسول اللقاء في بدر الصغرى فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت هذه الآية فخرج و ما معه إلّا سبعون رجلا و لم يلتفت إلى أحد و لو لم يتّبعوه لخرج وحده و دلّت الآية على أنّه صلى اللّه عليه و آله كان أشجع الخلق و أعرفهم بكيفيّة القتال لأنّه ما كان يأمره بذلك إلّا و هو صلى اللّه عليه و آله أشجع الناس و أقدرهم.

قال الزمخشريّ: قرئ «لا تكلّف» بالجزم على النهي و «لا نكلّف» بالنون و كسر اللام.

و نصب «نفسك» على مفعول ما لم يسمّ فاعله.

[عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و عسى من اللّه جزم، و عسى حرف من حروف المقاربة و فيه ترجّ و طمع و ذلك على اللّه محال، و لكن إطماع الكريم إيجاب. و البأس أصله المكروه يقال: بئس الشي ء هذا، إذا وصف بالرداءة و قد كفّ سبحانه بأسهم فقد بدا لأبي سفيان و قال: هذا عام مجدب و ما كان معهم زاد إلّا السويق فترك إلى محاربة رسول اللّه.

ثمّ قال: [وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا] يقال: نكلت فلانا إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله أي إنّ عذاب اللّه و تنكيله أشدّ من عذاب غيره و من تنكيله، و قيل في معنى التنكيل: الشهرة بالأمور الفاضحة أو الانتقام و الإهلاك.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 85]

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (85)

. الشفاعة من الشفع الّذي هو ضدّ الوتر فإنّ الرجل إذا شفع بصاحبه صار ثانيه.

ص: 146

و وجه تعلّق الآية بما قبلها أنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا كان يرغّبهم في القتال و يبالغ في تحريضهم عليه فكان بعض المنافقين يشفع إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله في أن يأذن لبعضهم في التخلّف عن الغزو فنهى اللّه عن مثل هذه الشفاعة و بيّن أنّ الشفاعة إنّما تحسن إذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة اللّه فإذا كانت وسيلة إلى معصية كانت محرّمة منكرة فبيّن سبحانه أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا حرّضهم على الجهاد فقد استحقّ بذلك التحريض أجرا عظيما.

و حاصل المعنى أنّ الشفاعة الحسنة هي أن يشفّع إيمانه باللّه بقتال الكفّار، و الشفاعة السيّئة أن يشفّع كفره بالمحبّة للكفّار و الشفاعة الحسنة هي الّتي روعي بها حقّ مسلم و دفع بها عنه شرّ أو جلب إليه خير و ابتغي بها وجه اللّه و كانت في أمر جائز لا في حدّ من حدود اللّه و لا في حقّ من الحقوق [يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها] و هو ثواب الشفاعة.

[وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً] و هي ما كانت بخلاف الحسنة [يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها] أي نصيب من وزرها مساولها في المقدار من غير أن ينقص منه شي ء، و الشفاعة في الحدود لا تجوز و الحدود عقوبة مقدّرة يجب على الإمام إقامتها بعد الثبوت حقّا للّه.

قال الزمخشريّ: شيئان شينان في الإسلام: الشفاعة في الحدود و الرشوة في الأحكام.

قال صلى اللّه عليه و آله: ما من صدقة أفضل من صدقة اللسان، قيل: و كيف ذلك؟ قال: الشفاعة يحقن بها الدم و يجرّ بها المنفعة إلى مسلم و يدفع بها المكروه عن آخر.

قال الغزاليّ: إنّ الشفاعة هي التوسّط بالقول في وصول شخص إلى منفعة من المنافع المباحة الدنيويّة أو الاخرويّة و خلاصه من مضرّة ما كذلك.

و من حقوق الإسلام على المسلمين أن يشفع المسلم لكلّ من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة و يسعى في قضاء حاجته بما يقدر عليه، و من الشفاعة الحسنة الدعاء للمسلم فإنّه شفاعة إلى اللّه.

و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله: من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له و قال له الملك:

و لك مثل ذلك. و ذلك لأنّ الدعاء بظهر الغيب بعيد عن شائبة الطمع و الرياء بخلاف دعاء الحاضر للحاضر فإنّه قلّما يسلم من ذلك فالغائب لا يدعو للغائب إلّا للّه خالصا فيكون مقبولا.

ص: 147

[وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً] قيل: في معنى المقيت أقوال: أحدها أنّه المقتدر.

و قيل: الحفيظ الّذي يعطي الشي ء قدر الحاجة و قيل: معناه الشهيد. و قيل: الحسيب. و قيل: المجازي أي يجازي على كلّ شي ء من الحسنات و السيّئات و على المعاني يؤول المعنى إلى أنّه تعالى قادر على إيصال النصيب و الكفل من الجزاء إلى الشافع إن خيرا فخير إن شرّا فشرّ.

[سورة النساء (4): آية 86]

وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً (86)

. لمّا أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأنّ الأعداء لو رضوا بالمسالمة فكونوا أنتم أيضا راضين بذلك. و «التحيّة» تفعلة من حيّيت و كان في الأصل «تحيية» مثل توصية و التسمية و كان عادة العرب قبل الإسلام أنّه إذا لقى بعضهم بعضا قالوا: «حيّاك اللّه» و اشتقاقه من الحياة كأنّه يدعو له بالحياة فكانت التحيّة عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض: حيّاك اللّه، فلمّا جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام فجعلوا التحيّة اسما للسلام قال تعالى: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» (1) و منه قولهم: «إنّا محيّوك يا سلمى فحيّينا» و قال عنترة:

«حيّيت من طلل تقادم عهده» . و كلمة «السلام عليك» أتمّ و أكمل من قوله: «حيّاك اللّه» لأنّ الحيّ إذا كان سليما كان حيّا لا محالة و ليس إذا كان حيّا كان سليما فقد تكون حياته مقرونة بالآفات فثبت أنّ قوله: «السلام عليك» أتمّ و أكمل من قوله: حيّاك اللّه.

على أنّ السلام اسم من أسماء اللّه فالابتداء بذكر اللّه أكمل و قد وصف ذاته المقدّس بالملك القدّوس السلام و أمر محمّدا على سبيل المشافهة فقال: «وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» (2).

قيل: إنّ ملك الموت يقول في إذن المؤمن: السلام يقرؤك السلام، و يقول: أجبني فإنّي مشتاق إليك و اشتاقت الجنّات و الحور العين إليك، فإذا سمع المؤمن البشارة يقول

ص: 148


1- الأحزاب: 44.
2- الانعام: 54.

لملك الموت: للبشير منّي هديّة و لا هديّة أعزّ من روحي فاقبض روحي هديّة لك.

و يروى في التفسير أنّ اليهود كانوا إذا دخلوا قالوا: «السلام عليك» فحزن الرسول لهذا المعنى فبعث اللّه جبرئيل و قال إن كان اليهود يقولون: «السلام عليك» فأنا أقول: «السلام عليك» و أنزل قوله: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ الآية» (1).

روي أنّ عبد اللّه بن سلام قال: لمّا سمعت بقدوم رسول اللّه دخلت في غمار الناس فأوّل ما سمعت منه: يا أيّها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام و صلوا الأرحام و صلّوا بالليل و الناس نيام تدخلوا الجنّة بسلام. و كان تحيّة النصارى وضع اليد على الفم و تحيّة اليهود بعضهم لبعض الإشارة بالأصابع و تحيّة المجوس الانحناء و تحيّة المسلمين «السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته». و السلام سنّة و الجواب واجب بين المسلمين؛ و ترك الجواب إهانة و الإهانة ضرر و الضرر حرام.

[فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها] روي أنّ رجلا قال للرسول صلى اللّه عليه و آله: السلام عليك يا رسول اللّه، فقال صلى اللّه عليه و آله: و عليك السلام و رحمة اللّه، و قال آخر: السلام عليك و رحمة اللّه، فقال صلى اللّه عليه و آله: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته، و جاء ثالث فقال: السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته فقال صلى اللّه عليه و آله: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته، فقال الرجل: فأين قول اللّه: «فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها»؟ فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّك ما تركت لي فضلا فرددت عليك ما ذكرت.

قال الرازيّ: إنّ المبتدئ يقول: السلام عليك، و المجيب يقول: و عليكم السلام، فكان الابتداء بذكر اسم اللّه؛ فإذا قال المجيب: و عليكم السلام، كان الاختتام بذكر اللّه، و هذا الترتيب حسن.

قيل: إذا استقبلك رجل واحد فابتدء و قل: سلام عليكم، و اقصد الرجل و الملكين فإنّك إذا سلّمت عليهما ردّ السلام عليك و من سلّم الملك عليه فقد سلم من عذاب اللّه، و الأمر بردّ السلام على المسلم إن كان مسلما و إلّا فليقل: و عليكم، لا يزيد على ذلك.

ص: 149


1- الأحزاب: 56.

قال ابن عبّاس: في قوله «أَوْ رُدُّوها» لأهل الكتاب. و روى الواحديّ بإسناده عن أبي أمامة عن مالك بن التيّهان قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من قال: السلام عليكم، كتب له عشر حسنات، و من قال: السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته، كتب له عشرون حسنة و من قال: السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته، كتب له ثلاثون.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً] أي حفيظا أو كافيا و مجازيا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 87]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)

. قوله: [اللَّهُ مبتدأ و خبره [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] أي لا إله في الأرض و لا في السماء غيره [لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف أي و اللّه ليحشرنّكم من قبوركم [إِلى حساب [يَوْمِ الْقِيامَةِ] «و القيامة» بمعنى القيام و التاء للمبالغة لشدّة ما يقع فيه من الهول (1).

[لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً] أي موعدا لا خلف لوعده. و قيل: معناه لا أحد أصدق من اللّه في الخبر الّذي يخبر به.

النظم: لمّا أمر تعالى و نهى فيما قبل بيّن بعده أنّه الإله الّذي لا يستحقّ العبادة سواه أي فاعلموا على حسب ما أوجبه عليكم فإنّه يجازيكم به ثمّ بيّن وقت الجزاء، و قيل:

إنّما اتّصل بقوله: «حسيبا» أي إنّما الحسيب هو اللّه.

[سورة النساء (4): آية 88]

فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)

. النزول: اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فيه، فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكّة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثمّ رجعوا إلى مكّة لأنّهم استوخموا (2) المدينة فأظهروا الشرك ثمّ سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال

ص: 150


1- هنا سقط من النسخة عدة أوراق اوردنا مكانها من نص الطبرسي في المجمع. و لم تتعرض لما ذكره في وجه الاعراب و القراءة و الحجة عليها صونا لسرد الكتاب و سنشير عند اختتام ما فقد.
2- لم يوافق هواؤها أبدانهم.

بعضهم: لا نفعل فإنّهم مؤمنون و قال آخرون: إنّهم مشركون، فأنزل اللّه فيهم الآية، عن مجاهد و الحسن و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: نزلت في الّذين تخلّفوا عن احد و قالوا: «لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ الآية» فاختلف أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال فريق منهم: نقتلهم، و قال آخرون: لا نقتلهم، فنزلت الآية، عن زيد بن ثابت.

المعنى: ثمّ عاد الكلام إلى ذكر المنافقين فقال تعالى: [فَما لَكُمْ أيّها المؤمنون صرتم [فِي أمر هؤلاء [الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ؟ أي فرقتين مختلفتين فمنكم من يكفّرهم و منكم من لا يكفّرهم [وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا] أي ردّهم إلى حكم الكفّار بما أظهروا من الكفر، عن ابن عبّاس. و قيل: معناه أهلكهم بكفرهم، عن قتادة و قيل: خذلهم فأقاموا على كفرهم و تردّدوا فيه فأخبر عن خذلانه إيّاهم بأنّه أركسهم، عن أبي مسلم.

[أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا] أي تحكموا بهداية [مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي حكم اللّه بضلاله و سمّاه ضالًّا. و قيل: معنى «أضلّه اللّه» خذله و لم يوفّقه كما وفّق المؤمنين، لأنّهم لمّا عصوا و خالفوا استحقّوا هذا الخذلان عقوبة لهم على معصيتهم أي أ تريدون الدفاع عن قتالهم مع أنّ اللّه حكم بضلالهم و خذلهم و وكلهم إلى أنفسهم؟

و قال أبو عليّ الجبّائيّ: معناه أ تريدون أن تهدوا إلى طريق الجنّة من أضلّه تعالى عن طريق الجنّة و الثواب، و طعن على القول الأوّل: بأنّه لو أراد التسمية و الحكم لقال:

من ضلّل اللّه، و هذا لا يصحّ لأنّ العرب تقول: أكفرته و كفّرته قال الكميت:

و طائفة قد أكفروني بحبّكم و طائفة قالوا: مسي ء و مذنب

و أيضا فإنّه تعالى إنّما وصف المؤمنون بهدايتهم بأن سمّاهم مهتدين لأنّهم كانوا يقولون: إنّهم مؤمنون، فقال تعالى: لا تختلفوا فيهم و قولوا بأجمعكم: إنّهم منافقون.

[وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا] معناه و من نسبه اللّه إلى الضلالة فلن ينفعه أن يحكم غيره بهدايته كما يقال: من جرحه الحاكم فلا ينفعه تعديل غيره.

و قيل: معناه من يجعله اللّه في حكمه ضالًّا فلن تجد له في ضلالته حجّة، عن جعفر

ص: 151

ابن حرث قال: و يدلّ على أنّهم هم الّذين اكتسبوا ما صاروا إليه من الكفر دون أن يكون اللّه تعالى اضطرّهم إليه قوله على أثر ذلك: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا» فأضاف الكفر إليهم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 89]

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (89)

. المعنى: ثمّ بيّن تعالى أحوال هؤلاء المنافقين فقال: [وَدُّوا] أي ودّ هؤلاء المنافقون الّذين اختلفتم في أمرهم يعني تمنّوا [لَوْ تَكْفُرُونَ أنتم باللّه و رسوله [كَما كَفَرُوا] هم [فَتَكُونُونَ سَواءً] أي فتستوون أنتم و هم و تكونون مثلهم كفّارا، ثمّ نهى تعالى المؤمنين أن يودّوهم فقال:

[فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ] أي فلا تستنصروهم و لا تستنصحوهم و لا تستعينوا بهم في الأمور [حَتَّى يُهاجِرُوا] أي حتّى يخرجوا من دار الشرك و يفارقوا أهلها المشركين باللّه [فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في ابتغاء دينه و هو سبيله فيصيروا عند ذلك مثلكم لهم مالكم و عليهم ما عليكم، و هذا قول ابن عبّاس. و إنّما سمّي الدين سبيلا و طريقا لأنّ من يسلكه أدّاه إلى النعمة و ساقه إلى الجنّة [فَإِنْ تَوَلَّوْا] أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل اللّه، عن ابن عبّاس.

[فَخُذُوهُمْ أيّها المؤمنون [وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي أين أصبتموهم من أرض اللّه من الحلّ و الحرم [وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا] أي خليلا [وَ لا نَصِيراً] أي ناصرا ينصركم على أعدائكم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 90]

إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)

. المعنى: لمّا أمر تعالى المؤمنين بقتال الّذين لا يهاجرون عن بلاد الشرك و أن لا يوالوهم استثنى من جملتهم فقال:

ص: 152

[إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ معناه إلّا من وصل من هؤلاء إلى قوم بينكم و بينهم موادعة و عهد فدخلوا فيهم بالحلف أو الجوار فحكمهم حكم أولئك في حقن دمائهم.

و اختلف في هؤلاء فالمرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: المراد بقوله تعالى:

«قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» هو هلال بن عويمر السلميّ واثق عن قومه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال في موادعته: على أن لا تحيف يا محمّد من أتانا و لا نحيف من أتاك فنهى اللّه أن يتعرّض لأحد عهد إليهم، و به قال السدّيّ و ابن زيد.

و قيل: هم بنو مدلج و كان سراقة بن مالك بن خثعم المدلجيّ جاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعد احد فقال: أنشدك اللّه و النعمة و أخذ منه ميثاقا أن لا يغزو قومه فإن أسلم قريش أسلموا لأنّهم كانوا في عقد قريش فحكم اللّه فيهم ما حكم في قريش ففيهم نزلت، هذا ذكره عمر ابن شيبة.

ثمّ استثنى لهم حالة اخرى فقال: [أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت قلوبهم من [أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ يعني من قتالكم و قال قومهم فلا عليكم و لا عليهم و إنّما عني به أشجع فإنّهم قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن دخيلة فأخرج إليهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله أحمال التمر ضيافة و قال: نعم الشي ء الهديّة أمام الحاجة، و قال: لهم ما جاء بكم؟ قالوا: لقرب دارنا منك و كرهنا حربك و حرب قومنا (يعنون بني ضمرة الّذين بينهم و بينهم عهد) لقلّتنا فيهم فجئنا لنوادعك فقبل النبيّ صلى اللّه عليه و آله ذلك منهم و وادعهم فرجعوا إلى بلادهم، ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره، فأمر اللّه تعالى المسلمين أن لا يتعرّضوا لهؤلاء.

[وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بتقوية قلوبهم فيجترءون على قتالكم و قيل: هذا إخبار عمّا في المقدور و ليس فيه أنّه يفعل ذلك بأن يأمرهم به أو يأذن لهم فيه و معناه أنّه يقدر على ذلك لو شاء لكنّه لا يشاء ذلك بل يلقي في قلوبهم الرعب حتّى يفزعوا و يطلبوا الموادعة و يدخل بعضهم في حلف من بينكم و بينهم ميثاق [فَلَقاتَلُوكُمْ أي لو فعل ذلك لقاتلوكم.

[فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ يعني هؤلاء الّذين أمر بالكفّ عن قتالهم بدخولهم في عهدكم

ص: 153

أو بمصيركم إليهم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم [فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ يعني صالحوكم و استسلموا لكم كما يقول القائل: ألقيت إليك قيادي و ألقيت إليك زمامي، إذا استسلم له و انقاد لأمره، و السلم الصلح [فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا] يعني إذا سالموكم فلا سبيل لكم إلى نفوسهم و أموالهم.

قال الحسن و عكرمة: نسخت هذه الآية و الّتي بعدها و الآيتان في سورة الممتحنة «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ» إلى قوله. «الظَّالِمُونَ» الآيات الأربع بقوله: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ». الآية (1)».

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 91]

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)

. النزول: اختلف في من عني بهذه الآية فقيل: نزلت في أناس كانوا يأتون النبيّ صلى اللّه عليه و آله فيسلمون رئاء ثمّ يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا قومهم و يأمنوا نبيّ اللّه فأبى اللّه ذلك عليهم، عن ابن عبّاس و مجاهد. و قيل: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعيّ كان ينقل الحديث بين النبيّ صلى اللّه عليه و آله و بين المشركين، عن السدّيّ و قيل:

نزلت في أسد و غطفان، عن مقاتل و قيل: نزلت في عيينة بن حصين الفزاري؛ و ذلك أنّه أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و وادعه على أن يقيم ببطن نخل و لا يتعرّض له و كان منافقا ملعونا و هو الّذي سمّاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الأحمق المطاع في قومه، و هو المرويّ عن الصادقين عليهما السّلام.

المعنى: ثمّ بيّن تعالى طائفة اخرى منهم فقال: [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يعني قوما آخرين غير الّذين وصفتهم قبل [يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ فيظهرون الإسلام [وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فيظهرون لهم الموافقة في دينهم [كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها] المراد بالفتنة هناك الشرك أي كلّما دعوا إلى الكفر أجابوا و رجعوا إليه و الفتنة في اللغة الاختبار و الإركاس

ص: 154


1- التوبة: 6.

الردّ؛ قال الزجّاج: «اركسوا فيها» انتكسوا في عقدهم؛ فالمعنى: كلّما ردّوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر رجعوا إليه.

[فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ أيّها المؤمنون أي فإن لم يعتزل قتالكم هؤلاء الّذين يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم [وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ يعني و لم يستسلموا لكم فيعطوكم المقادة و يصالحوكم [وَ] لم [يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم [فَخُذُوهُمْ أي فأسروهم [وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم و أصبتموهم.

[وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً] أي حجّة ظاهرة، و قيل: عذرا بيّنا في القتال. و سمّيت الحجّة سلطانا لأنّه يتسلّط بها على الخصم كما يتسلّط بالسلطان.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 92]

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)

النزول: نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ أخي أبي جهل لأمّه لأنّه كان أسلم و قتل بعد إسلامه رجلا مسلما و هو لا يعلم إسلامه، و المقتول الحارث بن يزيد بن أبي نبشة العامريّ، عن مجاهد و عكرمة و السدّيّ قال: قتله بالحرّة بعد الهجرة و كان من أحد من ردّه عن الهجرة و كان يعذّب عيّاشا مع أبي جهل و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سريّة فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلّا اللّه، فبدر بضربة ثمّ جاء بغنمه إلى القوم ثمّ وجد في نفسه شيئا فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فذكر ذلك له فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ألّا شققت عن قلبه و قد أخبرك بلسانه فلم تصدّقه؟ قال: كيف بي يا رسول صلى اللّه عليه و آله؟ فقال: فكيف بلا إله إلّا اللّه؟ قال أبو الدرداء: فتمنّيت أنّ ذلك اليوم مبتدأ إيماني، فنزلت الآية عن ابن زيد.

المعنى: [وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً] معناه ما أذن اللّه و لا أباح لمؤمن

ص: 155

فيما عهد إليه أن يقتل مؤمنا إلّا أن يقتله خطأ، عن قتادة و غيره. و قيل: ما كان له كما ليس له الآن قتل مؤمن إلّا أن يقع القتل خطأ. و قيل: تقديره و ما كان لمؤمن ليقتل مؤمنا إلّا خطأ كقوله: «ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ» (1) معناه ما كان اللّه ليتّخذ ولدا.

و قوله: «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها» (2) أي ما كنتم لتنبتوا شجرها. و إنّما قلنا:

إنّ معناه ما ذكرنا لأنّ اللّه لا يلحقه الأمر و النهي و إنبات الشجر لا يدخل تحت قدرة العبد فلا يصحّ النهي عنه فمعنى الآية على ما وصفناه: ليس من صفة المؤمن أن يقتل مؤمنا إلّا خطأ، و على هذا يكون الاستثناء متّصلا.

و من قال: إنّ الاستثناء منقطع قال: قد تمّ الكلام عند قوله: «أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً» ثمّ قال: فإن كان القتل خطأ فحكمه كذا، و إنّما لم يحمل قوله: «إِلَّا خَطَأً» على حقيقة الاستثناء لأنّ ذلك يؤدّي إلى الأمر بقتل الخطأ أو إباحته و لا يجوز واحد منهما. و الخطأ هو أن يريد شيئا فيصيب غيره مثل أن يرمي إلى غرض أو إلى صيد فيصيب إنسانا فيقتله و كذلك لو قتل رجلا ظنّه كافرا كما ظنّ عيّاش بن أبي ربيعة و أبو الدرداء على ما قلناه قبل.

[وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] أي فعليه إعتاق رقبة مؤمنة في ماله خاصّة على وجه الكفّاره حقّا للّه و الرقبة المؤمنة هي البالغة الّتي آمنت و صلّت و صامت فلا يجزي في كفّارة القتل الطفل و لا الكافر، عن ابن عبّاس و الشعبيّ و إبراهيم و الحسن و قتادة و قيل: تجزي كلّ رقبة ولدت على الإسلام، عن عطا. و الأوّل أقوى لأنّ لفظ المؤمن لا يطلق إلّا على البالغ الملتزم للفرائض إلّا أنّ من ولد بين مؤمنين فلا خلاف أنّه يحكم له بالإيمان.

[وَ دِيَةٌ] أي و عليه و على عاقلته دية [مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي إلى أهل القتيل، و المسلّمة هي المدفوعة إليهم موفّرة غير منقّصة حقوق أهلها منها تدفع إلى أهل القتيل فتقسّم بينهم على حسب حساب الميراث [إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا] يعني إلّا أن يتصدّق أولياء القتيل بالدية على عاقلة القاتل و يتركوها عليهم.

[فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ معناه فإن كان القتيل من جملة قوم هم أعداء لكم يناصبونكم الحرب و هو في نفسه مؤمن و لم يعلم قاتله أنّه مؤمن فقتله و هو

ص: 156


1- مريم: 35.
2- النمل: 60.

يظنّه مشركا [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] أي فعلى قاتله تحرير رقبة [مُؤْمِنَةٍ] كفّارة و ليس فيه دية، عن ابن عبّاس.

و قيل: إنّ معناه إذا كان القتيل في عداد قوم أعداء و هو مؤمن بين أظهرهم و لم يهاجر فمن قتله فلا دية له و عليه تحرير رقبة مؤمنة فقط؛ لأنّ الدية ميراث و أهله كفّار لا يرثونه، عن ابن عبّاس في رواية اخرى و إبراهيم و السدّيّ و قتادة و ابن زيد.

[وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد و ذمّة و ليسوا أهل حرب لكم [فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ تلزم عاقلة قاتله [وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] أي يلزم قاتله كفّارة لقتله، و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و اختلف في صفة هذا القتيل أهو مؤمن أم كافر؟ فقيل: إنّه كافر إلّا أنّه يلزم قاتله ديته بسبب العهد، عن ابن عبّاس و الزهريّ و الشعبيّ و إبراهيم النخعيّ و قتادة و ابن زيد.

و قيل: بل هو مؤمن يلزم قاتله الدية يؤدّيها إلى قومه المشركين لأنّهم أهل ذمّة، عن الحسن و إبراهيم و رواه أصحابنا أيضا إلّا أنّهم قالوا: تعطى ديته ورثته المسلمين دون الكفّار، و لفظ الميثاق يقع على الذمّة و العهد جميعا.

[فَمَنْ لَمْ يَجِدْ] أي لم يقدر على عتق الرقبة بأن لا يجد العبد و لا ثمنه [فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين [مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي ليتوب اللّه به عليكم فتكون التوبة من فعل اللّه، و قيل: إنّ المراد بالتوبة هنا التخفيف من اللّه لأنّ اللّه إنّما جوّز للقاتل العدول إلى الصيام تخفيفا عليه، و يكون كقوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ» (1).

[وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] أي لم يزل عليما بكلّ شي ء [حَكِيماً] فيما يأمر به و ينهى عنه، و أمّا الدية الواجبة في قتل الخطأ فمائة من الإبل إن كانت العاقلة من أهل الإبل بلا خلاف، و إن اختلفوا في أسنانها فقيل: هي أرباع: عشرون بنت مخاض و عشرون ابن لبون ذكر، و ثلاثون بنت لبون و ثلاثون حقّة، و روي ذلك عن عثمان و زيد بن ثابت و رواه أصحابنا أيضا.

ص: 157


1- المزمل: 20.

و قد روي أيضا في أخبارنا خمس و عشرون بنت مخاض و خمس و عشرون بنت لبون و خمس و عشرون حقّة و خمس و عشرون جذعة، و به قال الحسن و الشعبيّ.

و قيل: إنّها أخماس: عشرون حقّة و عشرون جذعة و عشرون بنت لبون و عشرون ابن لبون و عشرون بنت مخاض، و هذا قول ابن مسعود و ابن عبّاس و الزهريّ و الثوريّ و إليه ذهب الشافعيّ. و قال أبو حنيفة: هي أخماس أيضا إلّا أنّه جعل مكان ابن لبون ابن مخاض، و به قال النخعيّ، و رووه أيضا عن ابن مسعود.

قال الطبريّ: هذه الروايات متكافئة و الأولى التخيير.

فأمّا الدية من الذهب فألف دينار، و من الورق عشرة آلاف درهم و هو الأصحّ، و و قيل: اثنا عشر ألفا و دية الخطأ تتأدّى في ثلاث سنين.

و لو خلّينا و ظاهر الآية لقلنا: إنّ دية الخطأ على القاتل لكن علمنا بسنّة الرسول و الإجماع أنّ الدية في الخطأ على العاقلة و هم الإخوة و بنو الإخوة و الأعمام و بنو الأعمام و أعمام الأب و أبناؤهم و الموالي و به قال الشافعيّ. و قال أبو حنيفة: يدخل الوالد و الولد فيها و يعقّل القاتل، و قد روى ابن مسعود عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا يؤخذ الرجل بجريرة ابنه و لا الابن بجريرة أبيه. و ليس إلزام الدية للعاقلة على سبيل مؤاخذة البري ء بالسقيم لأنّ ذلك ليس بعقوبة بل هو حكم شرعيّ تابع للمصلحة، و قد قيل: إنّ ذلك على سبيل المواسات و المعاونة.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 93]

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)

. النزول: نزلت في مقيس بن صبابة الكنانيّ وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجّار فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فأرسل معه قيس بن هلال الفهريّ و قال له: قل لبني النجّار:

إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه و إن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته، فبلّغ الفهريّ الرسالة فأعطوه الدية، فلمّا انصرف و معه الفهريّ وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئا أخذت دية أخيك فيكون سبة عليك، اقتل الّذي معك لتكون نفس بنفس و الدية فضل، فرماه بصخرة فقتله و ركب بعيرا و رجع إلى مكّة كافرا و أنشد يقول:

ص: 158

قتلت به فهرا و حمّلت عقله سراة بني النجّار أرباب فارع

فأدركت ثأري و اضطجعت موسّداو كنت إلى الأوثان أوّل راجع

فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: لا أومنه في حلّ و لا حرم فقتل يوم الفتح، رواه الضحّاك و جماعة من المفسّرين.

المعنى: لمّا بيّن تعالى قتل الخطأ و حكمه عقّبه ببيان القتل العمد و حكمه فقال: [وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً] أي قاصدا إلى قتله عالما بإيمانه و حرمة قتله و عصمة دمه.

و قيل: معناه مستحلّا لقتله، عن عكرمة و ابن جريح و جماعة. و قيل: معنى التعمّد أن يقتله على دينه، رواه العيّاشيّ بإسناده عن الصادق عليه السّلام.

[فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً] مقيما [فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ و أبعده من الخير و طرده عنه على وجه العقوبة [وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً] ظاهر المعنى، و صفة قتل العمد أن يقصد قتل غيره بما جرت العادة بأن يقتل مثله سواء بحديدة حادّة كالسلاح أو بخنق أو سمّ أو إحراق أو تغريق أو موالاة ضرب بالعصا أو بالحجارة حتّى يموت، فإنّ جميع ذلك عمد يوجب القود، و به قال إبراهيم و الشافعيّ و أصحابه.

و قال قوم: لا يكون قتل العمد إلّا بالحديد، و به قال سعيد بن المسيّب و طاوس و أبو حنيفة و أصحابه. و أمّا القتل شبيه العمد فهو أن يضرب بعصا أو غيرها ممّا لم تجر العادة بحصول الموت عنده فيموت ففيه الدية مغلظة تلزم القاتل خاصّة في ماله دون العاقلة.

و في هذه الآية و عيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمّدا حرّم اللّه به قتل المؤمن و غلظ فيه، و قال جماعة من التابعين: الآية الليّنة و هي «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* (1) نزلت بعد الشديدة و هي «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً».

و قال أبو مجلز: في قوله: «فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها» فهي جزاؤه إن جازاه. و يروى هذا أيضا عن أبي صالح، و رواه أيضا العيّاشيّ بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و قد روي أيضا مرفوعا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: هو جزاؤه إن جازاه.

ص: 159


1- السورة: 47 و 115.

و روى عاصم بن أبي النجود عن ابن عبّاس في قوله: «فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ» قال: هي جزاؤه فإن شاء عذّبه و إن شاء غفر له، و روي عن أبي صالح و بكر بن عبد اللّه و غيره أنّه كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمره: إن فعلته فجزاؤك القتل و الضرب، ثمّ إن لم يجاوز بذلك لم يكن ذلك منه كذبا.

و اعترض على هذا أبو عليّ الجبّائيّ فقال: ما لا يفعل لا يسمّى جزاء ألا ترى أنّ الأجير إذا استحقّ الاجرة فالدراهم الّتي مع مستأجره لا تسمّى بأنّها جزاء عمله، و هذا لا يصحّ لأنّ الجزاء عبارة عن المستحقّ سواء فعل ذلك أو لم يفعل، و لهذا يقال: جزاء المحسن الإحسان و جزاء المسي ء الإساءة. و إن لم يتعيّن المحسن و المسي ء حتّى يقال: إنّه فعل ذلك به أو لم يفعل. و يقال لمن قتل غيره: جزاء هذا أن يقتل، و إنّما لا يقال للدراهم: إنّها جزاء الأجير لأنّ الأجير إنّما يستحقّ الاجرة في الذمّة لا في دراهم معيّنة، فللمستأجر أن يعطيه منها و من غيرها.

و من تعلّق بهذه الآية من أهل الوعيد في أنّ مرتكب الكبيرة لا بدّ أن يخلّد في النار فإنّا نقول له: ما أنكرت أن يكون المراد به من لا ثواب له أصلا بأن يكون كافرا أو يكون قتله مستحلّا لقتله أو قتله لإيمانه، فإنّه لا خلاف أنّ هذا صفة من يخلّد في النار، و يعضده من الرواية ما تقدّم ذكره في سبب نزول الآية و أقوال الأئمّة في معناها، و بعد فقد وافقنا على أنّ الآية مخصوصة بمن لا يتوب و أنّ التائب خارج عن عمومها.

و أمّا ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: لا توبة لقاتل المؤمن إذا قتله في حال الشرك ثمّ أسلم و تاب، و به قال ابن مسعود و زيد بن ثابت، فالأولى أن يكون هذا القول منهم محمولا على سلوك سبيل التغليظ في القتل، كما روي عن سفيان الثوريّ أنّه سئل عن توبة القاتل فقال: كان أهل العلم إذا سألوا قالوا: لا توبة له و إذا ابتلى الرجل قالوا له: تب.

و روى الواحديّ بإسناده مرفوعا إلى عطاء عن ابن عبّاس أنّ رجلا سأله القاتل المؤمن توبة؟ فقال: لا، و سأله آخر القاتل المؤمن توبة؟ فقال: نعم. فقيل له في ذلك فقال جاءني ذلك و لم يكن قتل فقلت لا توبة لك لكي لا يقتل، و جاءني هذا و قد قتل قلت:

لك توبة لكي لا يلقي نفسه بيده إلى التهلكة.

و من قال من أصحابنا: إنّ قاتل المؤمن لا يوفّق للتوبة لا ينافي ما قلناه، لأنّ هذا

ص: 160

القول إن صحّ فإنّما يدلّ على أنّه لا يختار التوبة مع أنّها لو حصلت لأزالت العقاب.

و إذا كان لا بدّ من تخصيص الآية بالتوبة جاز أن يختصّ أيضا بمن تفضّل عليه بالعفو.

و روى الواحديّ بإسناده مرفوعا إلى الأصمعيّ قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو ابن العلاء فقال: يا أبا عمرو أ يخلف اللّه ما وعده؟ فقال: لا!، قال: أ فرأيت من أوعده على عمل عقابا أ يخلف اللّه وعده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان؟ إنّ الوعد غير الوعيد، إنّ العرب لا تعدّ عارا و لا خلفا أن تعد شرّا ثمّ لا تفعله يرى ذلك كرما و فضلا و إنّما الخلف في أن تعد خيرا ثمّ لا تفعله، قال: فأوجدني هذا في كلام العرب؟ قال: نعم سمعت قول الأوّل:

و إنّي و إن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي و منجز موعدي

و وجد في الدعاء المرويّ بالرواية الصحيحة عن الصادقين عليهما السّلام: «يا من إذا وعد و في و إذا توعّد عفا» و هذا يؤيّد ما تقدّم، و قد أحسن يحيى بن معاذ في هذا المعنى حيث قال:

الوعد حقّ و الوعيد حقّ، فالوعد حقّ العباد على اللّه ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا و من أولى بالوفاء من اللّه؟ و الوعيد حقّة على العباد قال: لا تفعلوا كذا فاعذّبكم ففعلوا، فإن شاء عفا و إن شاء عاقب لأنّه حقّه، و ألا هما بربّنا العفو و الكرم إنّه غفور رحيم.

و روى إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت قيس بن أنس يقول: كنت عند عمرو بن عبيد في بيته فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي اللّه فيقول: قلت: إنّ القاتل في النار فأقول: أنت قلت: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً،، الآية»، فقلت له:- و ما في البيت أصغر سنّا منّي- أ رأيت أن لو قال لك فإنّي قلت: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* من أين علمت أنّي لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يردّ عليّ شيئا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 94]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)

.

ص: 161

النزول: قيل: نزلت في اسامة بن زيد و أصحابه بعثهم النبيّ في سريّة فلفوا رجلا قد انحاز بغنم له إلى جبل، و كان قد أسلم فقال لهم: السلام عليكم! لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه، فبدر إليه اسامة فقتله و استاقوا غنمه، عن السدّيّ.

و روي عن ابن عبّاس و قتادة أنّه لمّا نزلت الآية حلف اسامة أن لا يقتل رجلا قال لا إله إلّا اللّه، و بهذا اعتذر إلى عليّ عليه السّلام لمّا تخلّف عنه، و إن كان عذره غير مقبول لأنّه قد دلّ الدليل على وجوب طاعة الإمام في محاربة من حاربه من البغاة لا سيّما و قد سمع النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقول: حربك يا عليّ حربي و سلمك سلمي.

و قيل: نزلت في محلم بن جثامة الليثيّ و كان بعثه النبيّ صلى اللّه عليه و آله في سريّة فلقيه عامر ابن الأضبط الأشجعيّ فحيّاه بتحيّة الإسلام، و كان بينهما إحنة فرماه بسهم فقتله، فلمّا جاء إلى النبيّ جلس بين يديه و سأله أن يستغفر له، فقال صلى اللّه عليه و آله: لا غفر اللّه لك، فانصرف باكيا فما مضت عليه سبعة أيّام حتّى هلك فدفن فلفظته الأرض، فقال صلى اللّه عليه و آله- لمّا اخبر به-: إنّ الأرض تقبل من هو شرّ من محلم صاحبكم، و لكنّ اللّه أراد أن يعظم من حرمتكم ثمّ طرحوه بين صدفي جبل و ألقوا عليه الحجارة، فنزلت الآية، عن الواقديّ و محمّد بن إسحاق ابن يسار رواية عن ابن عمرو ابن مسعود و أبي حدرد.

و قيل: كان صاحب السريّة المقداد، عن سعيد بن جبير. و قيل: أبو الدرداء، عن ابن زيد.

المعنى: لمّا بيّن تعالى أحكام القتل و أنواعه عقّب ذلك بالأمر بالتثبّت و التأنّي حتّى لا يفعل ما يعقّب الندامة فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ أي سرتم و سافرتم [فِي سَبِيلِ اللَّهِ للغزو و الجهاد [فَتَبَيَّنُوا] أي ميّزوا بين الكافر و المؤمن- و بالثاء و التاء- توقّفوا و تأنّوا حتّى تعلموا من يستحقّ القتل، و المعنيان متقاربان، و المراد بهما لا تعجلوا في القتل لمن أظهر السلام ظنّا منكم بأنّه لا حقيقة لذلك.

[وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ أي حيّاكم بتحيّة أهل الإسلام أو من استسلم

ص: 162

إليكم فلم يقاتلكم مظهرا أنّه من أهل ملّتكم [لَسْتَ مُؤْمِناً] أي ليس لإيمانك حقيقة و إنّما أسلمت خوفا من القتل أو لست بآمن.

[تَبْتَغُونَ أي تطلبون [عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا] يعني الغنيمة و المال و المتاع الحياة الدنيا الّذي لا بقاء له [فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ] أي في مقدوره فواضل و نعم و رزق إن أطعتموه فيما أمركم به، و قيل: معناه: ثواب كثير لمن ترك قتل المؤمن.

[كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ اختلف في معناه فقيل: كما كان هذا الّذي قتلتموه مستخفيا في قومه بدينه خوفا على نفسه كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم، عن سعيد بن جبير. و قيل: كما كان هذا المقتول كافرا فهداه اللّه كذلك كنتم كفّارا فهداكم اللّه، عن ابن زيد و الجبّائيّ. و قيل: كذلك كنتم أذلّاء و احاد إذا سار الرجل منكم وحده خاف أن يختطف، عن المغربيّ.

[فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فيه قولان: أحدهما فمنّ اللّه عليكم بإظهار دينه و إعزاز أهله حتّى أظهرتم الإسلام بعد ما كنتم تكتمونه من أهل الشرك، عن سعيد بن جبير. و قيل:

معناه: فتاب اللّه عليكم.

[فَتَبَيَّنُوا] أعاد هذا اللفظ للتأكيد بعد ما طال الكلام، و قيل: الأوّل معناه: تبيّنوا حاله و الثاني معناه: تبيّنوا هذه الفوائد بضمائر و اعرفوها و ابتغوها [إِنَّ اللَّهَ كانَ أي لم يزل [بِما تَعْمَلُونَ أي بما تعملونه [خَبِيراً] عليما قبل أن تعملوه.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 95 الى 96]

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)

النزول: نزلت الآية في كعب بن مالك من بني سلمة و مرارة بن ربيع من بني عمرو بن عوف و هلال بن اميّة من بني واقف، تخلّفوا عن رسول اللّه يوم تبوك و عذّر اللّه اولي الضرر

ص: 163

و هو عبد اللّه بن امّ مكتوم، و رواه أبو حمزة الثماليّ في تفسيره.

و قال زيد بن ثابت: كنت عند النبيّ حين نزلت عليه «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» و لم يذكر «أُولِي الضَّرَرِ» فقال ابن امّ مكتوم: فكيف و أنا أعمى لا أبصر؟ فتغشّى النبيّ صلى اللّه عليه و آله الوحي ثمّ سري عنه فقال: اكتب «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» فكتبتها.

المعنى: لمّا حثّ سبحانه على الجهاد عقّبه بما فيه من الفضل و الثواب فقال:

[لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي لا يعتدل المتخلّفون عن الجهاد في سبيل اللّه من أهل الإيمان باللّه و برسوله و المؤثرون الدعة و الرفاهية على مقاساة الحرب و المشقّة بلقاء العدوّ [غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ] أي إلّا أهل الضرر منهم بذهاب أبصارهم و غير ذلك من العلل الّتي لا سبيل لأهلها إلى الجهاد للضرر الّذي بهم.

[وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و منهاج دينه لتكون كلمة اللّه هي العليا و المستفرغون جهدهم و وسعهم في قتال أعداء اللّه و إعزاز دينه [بِأَمْوالِهِمْ إنفاقا لها فيما يوهن كيد الأعداء [وَ أَنْفُسِهِمْ حملا لها على الكفاح في اللقاء.

[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً] معناه فضيلة و منزلة.

[وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى معناه و كلا الفريقين من المجاهدين و القاعدين عن الجهاد وعد اللّه الجنّة، عن قتادة و غيره من المفسّرين.

و في هذه دلالة على أنّ الجهاد فرض على الكفاية لأنّه لو كان فرضا على الأعيان لما استحقّ القاعدون بغير عذر أجرا، و قيل: لأنّ المراد بالكلّ هنا المجاهد و القاعد من اولي الضرر المعذور، عن مقاتل.

[وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ من غير اولي الضرر [أَجْراً عَظِيماً. دَرَجاتٍ مِنْهُ أي منازل بعضها أعلى من بعض من منازل الكرامة، و قيل: هي درجات الأعمال كما يقال: الإسلام درجة و الفقه درجة و الهجرة درجة و الجهاد في الهجرة درجة و القتل في الجهاد درجة، عن قتادة.

ص: 164

و قيل: معنى الدرجات هي الدرجات التسع الّتي درّجها في سورة براءة في قوله:

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إلى قوله- لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (1) فهذه الدرجات التسع، عن عبد اللّه بن زيد.

[وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً] هذا بيان خلوص النعيم بأنّه لا يشوبه غمّ بما كان منه من الذنوب بل غفر له ذلك ثمّ رحمه بإعطائه النعم و الكرامات [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً] لم يزل اللّه غفّارا للذنوب صفوحا لعبيده من العقوبة عليها رحيما بهم متفضّلا عليهم.

و قد يسأل فيقال: كيف قال في أوّل الآية: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً» ثمّ قال في آخرها: «وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً. دَرَجاتٍ» و هذا متناقض الظاهر؟

و أجيب عنه بجوابين: أحدهما أنّ في أوّل الآية فضّل اللّه المجاهدين على القاعدين من اولي الضرر درجة و في آخرها فضّلهم على القاعدين غير أولي الضرر درجات فلا تناقض؛ لأنّ قوله: «وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى يدلّ على أنّ القاعدين لم يكونوا عاصين و إن كانوا تاركين للفضل.

و ثانيها ما قاله أبو عليّ الجبّائيّ و هو أنّه أراد بالدرجة الاولى علوّ المنزلة و ارتفاع القدر على وجه المدح لهم كما يقال: فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان يريدون بذلك أنّه أعظم منزلة، و بالثانية الدرجات في الجنّة الّتي يتفاضل بها المؤمنون بعضهم على بعض على قدر استحقاقهم.

و قال المغربيّ: إنّما كرّر لفظ التفضيل، لأنّ بالأوّل أراد تفضيلها في الدنيا و أراد بالثاني تفضيلهم في الآخرة. و جاء في الحديث: إنّ اللّه فضّل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة بين كلّ درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمر.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 97 الى 99]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)

ص: 165


1- الآية: 121.

النزول: قال أبو حمزة الثماليّ: بلغنا أنّ المشركين يوم بدر لم يخلفوا إذا خرجوا أحدا إلّا صبيّا أو شيخا كبيرا أو مريضا فخرج معهم ناس ممّن تكلّم بالإسلام، فلمّا التقى المشركون و رسول اللّه نظر الّذين كانوا قد تكلّموا بالإسلام إلي قلّة المسلمين فارتابوا و أصيبوا فيمن أصيب من المشركين، فنزلت فيهم الآية و هو المرويّ عن ابن عبّاس و السدّيّ و قتادة.

و قيل: إنّهم قيس بن الفاكه بن المغيرة و الحارث بن زمعة بن الأسود و قيس بن الوليد ابن المغيرة و أبو العاص بن منبّه بن الحجّاج و عليّ بن اميّة بن خلف عن عكرمة، و رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام. قال ابن عبّاس: كنت أنا من المستضعفين و كنت غلاما صغيرا.

و ذكر عنه أيضا أنّه قال: كان أبي من المستضعفين من الرجال و امّي كانت من المستضعفات من النساء و كنت أنا من المستضعفين من الولدان.

المعنى: ثمّ أخبر تعالى عن حال من قعد عن نصرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعد الوفاة فقال:

[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ أي قبض أرواحهم أو تقبض أرواحهم [الْمَلائِكَةُ] ملك الموت أو هو و غيره فإنّ الملائكة تتوفّى و ملك الموت يتوفّى و اللّه يتوفّى و ما يفعله ملك الموت أو الملائكة يجوز أن يضاف إلى اللّه إذ فعلوه بأمره، و ما تفعله الملائكة جاز أن يضاف إلى ملك الموت إذ فعلوه بأمره [ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي في حال هم فيها ظالمو أنفسهم إذ بخسوها حقّها من الثواب و أدخلوا عليها العقاب بفعل الكفر.

[قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أي قالت لهم الملائكة: فيم كنتم؟ أي في أيّ شي ء كنتم من دينكم؟

على وجه التقرير لهم أو التوبيخ لفعلهم [قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ يستضعفنا أهل الشرك باللّه في أرضنا و بلادنا بكثرة عددهم و قوّتهم و يمنعونا من الإيمان باللّه و اتّباع رسوله على جهة الاعتذار.

ص: 166

[قالُوا]: أي قالت الملائكة لهم: [أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها] أي فتخرجوا من أرضكم و دوركم و تفارقوا من يمنعكم من الإيمان باللّه و رسوله إلى أرض يمنعكم أهلها من أهل الشرك فتوحّدوه و تعبدوه و تتّبعوا رسوله، و روي عن سعيد بن جبير أنّه قال في معناه: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها.

ثمّ قال تعالى: [فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي مسكنهم جهنّم [وَ ساءَتْ هي أي جهنّم [مَصِيراً] لأهلها الّذين صاروا إليها.

ثمّ استثنى من ذلك فقال: [إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ الّذين استضعفهم المشركون [مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ و هم الّذين يعجزون عن الهجرة لإعسارهم و قلّة حيلتهم و هو قوله: [لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا] في الخلاص من مكّة و قيل: معناه لا يهتدون لسوء معرفتهم بالطريق طريق الخروج منها أي لا يعرفون طريقا إلى المدينة، عن مجاهد و قتادة و جماعة من المفسّرين.

[فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ معناه: لعلّ اللّه أن يعفو عنهم لما هم عليه من الفقر و يتفضّل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة من حيث لم يتركوها اختيارا [وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا] أي لم يزل اللّه ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده بترك عقوبتهم على معاصيهم [غَفُوراً] أي ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها. قال عكرمة: و كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله يدعو عقيب صلاة الظهر: اللّهم خلّص الوليدين و سلمة بن هشام و عياض بن أبي ربيعة و ضعفة المسلمين من أيدي المشركين.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 100]

وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)

. النزول: قيل: لمّا نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من المسلمين و هو جندع أو جندب بن ضمرة و كان بمكّة فقال: و اللّه ما أنا ممّا استثنى اللّه إنّي لأجد قوّة و إنّي لعالم بالطريق و كان مريضا شديد المرض فقال لبنيه: و اللّه لا أبيت بمكّة حتّى أخرج منها فإنّي أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير حتّى إذا بلغ التنعيم مات، فنزلت

ص: 167

الآية، عن أبي حمزة الثماليّ و عن قتادة و عن سعيد بن جبير.

و قال عكرمة: و خرج جماعة من مكّة مهاجرين فلحقهم المشركون و فتنوهم عن دينهم فافتتنوا فأنزل اللّه فيهم «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ» (1) فكتب بها المسلمون إليهم، ثمّ نزلت فيهم «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» (2).

المعنى: ثمّ قال سبحانه: [وَ مَنْ يُهاجِرْ] يعني يفارق أهل الشرك و يهرب بدينه من وطنه إلى أرض الإسلام [فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في منهاج دين اللّه و طريقه الّذي شرعه لخلقه [يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً] أي متحوّلا من الأرض وسعة في الرزق، عن ابن عبّاس و الضحّاك و الربيع. و قيل: مزحزحا عمّا يكره وسعة من الضلالة إلى الهدى، عن مجاهد و قتادة. و قيل: مهاجرا فسيحا متّسعا ممّا كان فيه من تضييق المشركين عليه.

[وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أخبر سبحانه أنّ من خرج من بلده مهاجرا من أرض الشرك فارّا بدينه إلى اللّه و رسوله ثمّ يدركه الموت قبل بلوغه دار الهجرة و أرض الإسلام [فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ثواب عمله و جزاء هجرته على اللّه تعالى [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً] أي ساترا على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم [رَحِيماً] بهم رفيقا.

و ممّا جاء في معنى الآية من الحديث ما رواه الحسن عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: من فرّ بدينه من أرض إلى أرض و إن كان شبرا من الأرض استوجب الجنّة و كان رفيق إبراهيم و محمّد صلى اللّه عليه و آله، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن أبي عمير، حدّثني محمّد بن حكيم قال: وجّه زرارة بن أعين ابنه عبيدا إلى المدينة ليستخبر له خبر أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام و عبد اللّه فمات قبل أن يرجع إليه عبيد ابنه، قال محمّد بن أبي عمير: حدّثني محمّد بن حكيم قال:

ذكرت لأبي الحسن عليه السّلام زرارة و توجيهه عبيدا ابنه إلى المدينة فقال: إنّي لأرجو أن يكون زرارة ممّن قال اللّه فيهم: «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ الآية».

ص: 168


1- العنكبوت: 9.
2- النحل: 112.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 101]

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)

المعنى: [وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ معناه سرتم فيها إذا سافرتم [فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج و إثم [أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ] فيه أقوال:

أحدها أنّ معناه أن تقصروا من عدد الصلاة فتصلّوا الرباعيّات ركعتين، عن مجاهد و جماعة من المفسّرين و هو قول أكثر الفقهاء و هو مذهب أهل البيت عليهم السّلام. و قيل:

تقصر صلاة الخائف من المسافر، و هما قصران قصر الأمن من أربع إلى ركعتين و قصر الخوف من ركعتين إلى ركعة واحدة، عن جابر و مجاهد و قد رواه أيضا أصحابنا.

و ثانيها أنّ معناه القصر من حدود الصلاة، عن ابن عبّاس و طاوس و هو الّذي رواه أصحابنا في صلاه شدّة الخوف و أنّها تصلّى إيماء و السجود أخفض من الركوع، فإن لم يقدر على ذلك فالتسبيح المخصوص كاف عن كلّ ركعة.

و ثالثها أنّ المراد بالقصر الجمع بين الصلاتين. و الصحيح الأوّل.

[إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا] يعني خفتم فتنة الّذين كفروا في أنفسكم أو دينكم، و قيل: معناه إن خفتم أن يقتلكم الّذين كفروا في الصلاة، عن ابن عبّاس. و مثله قوله تعالى: «عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ» (1) أي يقتلهم. و قيل: معناه أن يعذّبكم الّذين كفروا بنوع من أنواع العذاب.

[إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً] أي ظاهري العداوة. و في قراءة أبيّ بن كعب «فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الّذين كفروا» من غير أن يقرأ «إِنْ خِفْتُمْ» و قيل: إنّ معنى هذه القراءة: أن لا يفتنكم أو كراهة أن يفتنكم، كما في قوله: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (2).

و ظاهر الآية يقتضي أنّ القصر لا يجوز إلّا عند الخوف لكنّا قد علمنا جواز القصر عند الأمن ببيان النبيّ، و يحتمل أن يكون ذكر الخوف في الآية قد خرج مخرج الأعمّ و الأغلب عليهم في أسفارهم؛ فإنّهم كانوا يخافون الأعداء في عامّتها و مثله في القرآن كثير.

ص: 169


1- يونس: 83.
2- السورة: 175.

و اختلف الفقهاء في قصر الصلاة في السفر؛ فقال الشافعيّ: هي رخصة، و اختاره الجبّائيّ.

و قال أبو حنيفة: هو عزيمة و فرض، و هذا مذهب أهل البيت عليهم السّلام قال زرارة و محمّد بن مسلم:

قلنا لأبي جعفر: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي و كم هي؟ قال: إنّ اللّه يقول: «وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» فصار التقصير واجبا في السفر كوجوب التمام في الحضر.

قالا: قلنا: إنّه قال «لا جناح عليكم أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» و لم يقل: افعل فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام؟ قال: أ و ليس قال تعالى في الصفا و المروة: «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» (1)، ألا ترى أنّ الطواف واجب مفروض لأنّ اللّه تعالى ذكرهما في كتابه و صنعهما نبيّه؟ و كذا التقصير في السفر شي ء صنعه رسول اللّه و ذكره اللّه في الكتاب.

قال: قلت: فمن صلّى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟ قال: إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّى أربعا أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه، و الصلاة في السفر كلّ فريضة ركعتان إلّا المغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول اللّه في في السفر و الحضر ثلاث ركعات.

و في هذا الخبر دلالة على أنّ فرض المسافر مخالف لفرض المقيم، و قد اجتمعت الطائفة على ذلك و على أنّه ليس بقصر، و قد روي عن النبيّ أنّه قال: فرض المسافر ركعتان غير قصر، و عندهم أنّ الخوف بانفراده موجب للقصر، و فيه خلاف بين الفقهاء.

و ذهب جماعة من الصحابة و التابعين إلى أنّ اللّه عنى بالقصر في الآية قصر صلاة الخوف من صلاة السفر لا من صلاة الإقامة، لأنّ صلاة السفر عندهم ركعتان تمام غير قصر، فمنهم جابر بن عبد اللّه و حذيفة اليمان و زيد بن ثابت و ابن عبّاس و أبو هريرة و كعب- و كان من الصحابة قطعت يده يوم اليمامة- و ابن عمر و سعيد بن جبير و السدّيّ.

و أمّا حدّ السفر الّذي يجب عنده القصر فعندنا ثمانية فراسخ، و قيل: مسيرة ثلاثة أيّام بلياليها و هو مذهب أبي حنيفة و أصحابه. و قيل: ستّة عشر فرسخا ثمانية و أربعين ميلا

ص: 170


1- البقرة: 158.

و هو مذهب الشافعيّ.

النظم: وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّه لمّا أمر بالجهاد و الهجرة بيّن صلاة السفر و الخوف رحمة منه و تخفيفا لعباده

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 102]

وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)

المعنى: ثمّ ابتدأ تعالى ببيان صلاة الخوف في جماعة فقال: [وَ إِذا كُنْتَ يا محمّد [فِيهِمْ يعني في أصحابك الضاربين في الأرض الخائفين عدوّهم أن يغزوهم [فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ] بحدودها و ركوعها و سجودها، عن الحسن. و قيل معناه: أقمت لهم الصلاة بأن تؤمّهم [فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من أصحابك الّذين أنت فيهم [مَعَكَ في صلاتك و ليكن سائرهم في وجه العدوّ و تقديره: و لتقم طائفة منهم تجاه العدوّ، و لم يذكر ما ينبغي أن تفعله الطائفة غير المصلّية لدلالة الكلام عليه.

[وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اختلف في هذا فقيل: المأمور بأخذ السلاح الطائفة المصلّية مع رسول اللّه يأخذون من السلاح مثل السيف يتقلّدون به و الخنجر يشدّونه إلى دروعهم و كذلك السكّين و نحو ذلك، و هو الصحيح. و قيل: هم الطائفة الّتي بإزاء العدوّ دون المصلّية، عن ابن عبّاس.

[فَإِذا سَجَدُوا] يعني الطائفة الّتي تصلّي معه و فرغوا من سجودهم [فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ يعني فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم مصافّين العدوّ.

و اختلف في الطائفة الاولى إذا رفعت رؤوسهم من السجود و فرغت من الركعة كيف يصنعون؟ فعندنا أنّهم يصلّون ركعة اخرى و يتشهّدون و يسلّمون و الإمام قائم في الثانية، ثمّ ينصرفون إلى مواقف أصحابهم و يجي ء الآخرون فيستفتحون الصلاة و يصلّي بهم الإمام

ص: 171

الركعة الثانية حسب، و يطيل تشهّده حتّى يقوموا فيصلّوا بقيّة صلاتهم، ثمّ يسلّم بهم الإمام فيكون للطائفة الاولى تكبيرة الافتتاح و للثانية التسليم، و هو مذهب الشافعيّ أيضا.

و قيل: إنّ الطائفة الاولى إذا فرغت من ركعة يسلّمون و يمضون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الاخرى و يصلّي بهم ركعة، و هو مذهب مجاهد و جابر و من يرى أنّ صلاة الخوف ركعة واحدة.

و قيل: إنّ الإمام يصلّي بكلّ طائفة ركعتين فيصلّي بهم مرّتين بكلّ طائفة مرّة، عن الحسن.

و قيل: إنّه إذا صلّى بالطائفة الاولى ركعة مضوا إلى وجه العدوّ و تأتي الطائفة الاخرى فيكبّرون و يصلّي بهم الركعة الثانية و يسلّم الإمام و يعودون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الاولى فيقضون ركعة بغير قراءة لأنّهم لاحقون و يسلّمون و يرجعون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الثانية فيقضون ركعة بغير قراءة لأنّهم مسبوقون، عن عبد اللّه ابن مسعود و هو مذهب أبي حنيفة.

[وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا] و هم الّذين كانوا بإزاء العدوّ [فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ يعني و ليكونوا حذرين من عدوّهم متأهّبين لقتالهم بأخذ الأسلحة أي آلات الحرب، و هذا يدلّ على أنّ الفرقة المأمورة بأخذ السلاح في الأوّل هم المصلّون دون غيرهم [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] معناه تمنّى الّذين كفروا [لَوْ تَغْفُلُونَ لو تعتزلون [عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ و تشتغلون عن أخذها تأهّبا للقتال [وَ أَمْتِعَتِكُمْ أي و عن أمتعتكم الّتي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها [فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً] أي يحملون عليكم حملة واحدة و أنتم متشاغلون بصلاتكم فيصيبون منكم غرّة فيقتلونكم و يستبيحون عسكركم و ما معكم.

المعنى: لا تتشاغلوا بأجمعكم بالصلاة عند مواقفة العدوّ فيمكّن عدوّكم من أنفسكم و أسلحتكم و لكن أقيموها على ما أمرتم به، و من عادة العرب أن يقولوا: ملنا عليهم

ص: 172

بمعنى حملنا، قال العبّاس بن عبادة بن فضلة الأنصاريّ لرسول اللّه ليلة العقبة الثانية: و الّذي بعثك بالحقّ إن شئت لنميلنّ غدا على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول اللّه: لم نؤمر بذلك يعني في ذلك الوقت.

[وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ] معناه لا حرج عليكم و لا إثم و لا ضيق إن نالكم أذى من مطر و أنتم مواقفو عدوّكم [أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى يعني أعلّاء أو جرحى [أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ إذا ضعفتم عن حملها لكن إذا وضعتموها فاحترسوا منهم [وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ لئلّا يميلوا عليكم و أنتم غافلون [إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً] مذلّا يبقون فيها أبدا.

و في الآية دلالة على صدق النبيّ و صحّة نبوّته و ذلك أنّها نزلت و النبيّ بعسفان و المشركون بضجنان فتواقفوا فصلّى النبيّ و أصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع و السجود، فهمّ المشركون بأن يغيروا عليهم فقال بعضهم: إنّ لهم صلاة اخرى أحبّ إليهم من هذه- يعنون صلاة العصر- فأنزل اللّه عليه هذه الآية فصلّى بهم العصر صلاة الخوف، و كان ذلك سبب إسلام خالدين الوليد، القصّة.

و فيها دلالة اخرى ذكر أبو حمزة في تفسيره أنّ النبيّ غزا محاربا لبني أنمار فهزمهم اللّه و أحرزوا الذراري و المال، فنزل رسول اللّه و المسلمون و لا يرون من العدوّ واحدا فوضعوا أسلحتهم، و خرج رسول اللّه ليقضي حاجته و قد وضع سلاحه فجعل بينه و بين أصحابه الوادي إلى أن يفرغ من حاجته، و قد درأ الوادي و السماء ترش، فحال الوادي بين رسول اللّه و بين أصحابه و جلس في ضلّ شجرة، فبصر به غورث بن الحارث المحاربيّ فقال له أصحابه: يا غورث هذا محمّد قد انقلع من أصحابه، فقال: قتلني اللّه إن لم أقتله و انحدر من الجبل و معه السيف و لم يشعر به رسول اللّه إلّا و هو قائم على رأسه و معه السيف قد سلّه من غمده، و قال:

يا محمّد من يعصمك الآن؟ فقال الرسول صلى اللّه عليه و آله: اللّه! فانكبّ عدوّ اللّه لوجهه فقام رسول اللّه فأخذ سيفه و قال: يا غورث من يمنعك منّي الآن؟ قال: لا أحد، قال: أتشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّي عبد اللّه و رسوله؟ قال: لا، و لكنّي أعهد أن لا أقاتلك أبدا و لا أعين عليك عدوّا، فأعطاه رسول اللّه سيفه، فقال له غورث: و اللّه لأنت خير منّي قال

ص: 173

صلى اللّه عليه و آله: إنّي أحقّ بذلك و خرج غورث إلى أصحابه، فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ فقال: أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من زلخني (1) بين كتفي فخررت لوجهي و خرّ سيفي و سبقني إليه محمّد و أخذه. و لم يلبث الوادي أن سكن فقطع رسول اللّه إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، و قرأ عليهم: «إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ، الآية كلّها».

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 103]

فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)

المعنى: [فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ] معناه فإذا فرغتم من صلاتكم أيّها المؤمنون و أنتم مواقفو عدوّكم [فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً] أي في حال قيامكم و قعودكم [وَ عَلى جُنُوبِكُمْ أي مضطجعين فقوله: «وَ عَلى جُنُوبِكُمْ» في موضع نصب عطفا على ما قبله من الحال أي ادعوا اللّه في هذه الأحوال لعلّه ينصركم على عدوّكم و يظفركم بهم، مثل قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (2) عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين.

و قيل: معناه فإذا أردتم الصلاة فصلّوا قياما إذا كنتم أصحّاء و قعودا إذا كنتم مرضى لا تقدرون على القيام، و على جنوبكم إذا لم تقدروا على القعود عن ابن مسعود، و روي أنّه قال: عقيب تفسير الآية لم يعذر اللّه أحدا في ترك ذكره إلّا المغلوب على عقله.

[فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] اختلف في تأويله فقيل: معناه إذا استقررتم في أوطانكم و أقمتم في أمصاركم فأتمّوا الصلاة الّتي أذن لكم في قصرها عن مجاهد و قتادة و قيل: معناه إذا استقررتم بزوال خوفكم فأتمّوا حدود الصلاة عن السدّيّ و ابن زيد و مجاهد في رواية اخرى.

[إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً] اختلف في تأويله فقيل: معناه إنّ الصلاة كانت على المؤمنين واجبة مفروضة عن ابن عبّاس و عطيّة العوفيّ و السدّيّ و مجاهد

ص: 174


1- الزلخة وجع يأخذ في الظهر لا يتحرك الإنسان من شدته.
2- الأنفال: 46.

و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام و قيل: معناه فرضا موقوفا أي منجّما تؤدّونها في أنجمها عن ابن مسعود و قتادة و القولان متقاربان.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 104]

وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)

. النزول: قيل: نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم احد، و قيل: نزلت يوم احد في الذهاب خلف أبي سفيان و عسكره إلى حمراء الأسد عن عكرمة.

المعنى: عاد الكلام إلى الحثّ على الجهاد فقال تعالى:

[وَ لا تَهِنُوا] أي و لا تضعفوا [فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي في طلب القوم الّذين هم أعداء اللّه و أعداء المؤمنين من أهل الشرك [إِنْ تَكُونُوا] أيّها المؤمنون [تَأْلَمُونَ ممّا ينالكم من الجراح منكم [فَإِنَّهُمْ يعني المشركون [يَأْلَمُونَ أيضا ممّا ينالهم منكم من الجراح و الأذى [كَما تَأْلَمُونَ أي مثل ما تألمون أنتم من جراحهم و أذاهم.

[وَ تَرْجُونَ أنتم أيّها المؤمنون [مِنَ اللَّهِ الظفر عاجلا و الثواب آجلا على ما ينالكم منهم [ما لا يَرْجُونَ هم على ما ينالهم منكم أي فأنتم إن كنتم موقنين من ثواب اللّه لكم على ما يصيبكم منهم بما هم مكذّبون به أولى و أحرى أن تصبروا على حربهم و قتالهم منهم على حربكم و قتالكم عن ابن عبّاس و قتادة و مجاهد و السدّيّ.

[وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] بمصالح خلقه [حَكِيماً] في تدبيره إيّاهم و تقديره أحوالهم القصة: قال ابن عبّاس و عكرمة: لمّا أصاب المسلمين ما أصابهم يوم احد و صعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله الجبل قال أبو سفيان: يا محمّد لنا يوم و لكم يوم، فقال صلى اللّه عليه و آله: أجيبوه؛ فقال المسلمون: لا سواء؛ قتلانا في الجنّة و قتلاكم في النار. فقال أبو سفيان: «لنا عزّى و لا عزّى لكم». فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: قولوا: «اللّه مولانا و لا مولى لكم» فقال أبو سفيان:

«اعل هبل» فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: قولوا: «اللّه أعلى و أجلّ»: فقال أبو سفيان: موعدنا و موعدكم بدر الصغرى. و نام المسلمون و بهم الكلوم، و فيهم نزلت «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ

ص: 175

فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ الآية» و فيهم نزلت «إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ الآية» لأنّ اللّه أمرهم- على ما بهم من الجراح- أن يتبعوهم، و أراد بذلك إرهاب المشركين، و خرجوا إلى حمراء الأسد و بلغ المشركين ذلك فأسرعوا حتّى دخلوا مكّة.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 105 الى 106]

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)

النزول: نزلت في بنى أبيرق و كانوا ثلاثة إخوة: بشر و بشير و مبشّر، و كان بشير يكنّى أبا طعمة و كان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ثمّ يقول: قاله فلان، و كانوا أهل حاجة في الجاهليّة و الإسلام، فنقب أبو طمعة على علية رفاعة بن زيد و أخذ له طعاما و سيفا و درعا، فشكا ذلك إلى ابن أخيه قتادة بن النعمان، و كان قتادة بدريّا فتجسّسا في الدار و سألا أهل الدار في ذلك، فقال بنوا بيرق: و اللّه ما صاحبكم إلّا لبيد بن سهل رجل ذو حسب و نسب، فأصلت، عليهم لبيد بن سهل سيفه و خرج إليهم و قال: يا بني أبيرق أترمونني بالسرق و أنتم أولى به منّي؟ و أنتم منافقون تهجون رسول اللّه و تنسبون ذلك إلى قريش لتبيّننّ ذلك أو لأضعنّ سيفي منكم فداروه.

و أتى قتادة رسول اللّه فقال: يا رسول اللّه إنّ أهل بيت منّا أهل بيت سوء عدوا على عميّ فخرقوا علية له من ظهرها و أصابوا له طعاما و سلاحا، فقال رسول اللّه: انظروا في شأنكم فلمّا سمع بذلك رجل من بطنهم الّذي هم منه يقال له أسيد بن عروة: جمع رجالا من أهل الدار ثمّ انطلق إلى رسول اللّه فقال: إنّ قتادة بن النعمان و عمّه عمدا إلى أهل بيت منّا لهم حسب و نسب و صلاح و أنّبوهم بالقبيح و قالوا لهم ما لا ينبغي و انصرف، فلمّا أتى قتادة رسول اللّه بعد ذلك ليكلّمه جبّهه رسول اللّه جبها شديدا و قال: عمدت إلى أهل بيت حسب و نسب تأتيهم بالقبيح و تقول لهم ما لا ينبغي؟ قال: فقام قتادة من عند رسول اللّه و رجع إلى عمّه و قال:

يا ليتني متّ و لم أكن كلّمت رسول اللّه! فقد قال لي ما كرهت. فقال عمّه رفاعة:

اللّه المستعان، فنزلت الآيات: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ إلى قوله:- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ».

ص: 176

فبلغ بشيرا ما نزلت فيه من القرآن فهرب إلى مكّة و ارتدّ كافرا فنزل على سلافة بنت سعد بن شهيد و كانت امرأة من الأوس من بني عمرو بن عوف نكحت في بني عبد الدار فهجاها حسّان فقال:

فقد أنزلته بنت سعد و أصبحت ينازعها جلد استها و تنازعه

ظنتم بأن يخفى الّذي قد صنعتمواو فينا نبيّ عنده الوحي واضعه

فحملت رحله على رأسها فألقته بالأبطح و قالت، ما كنت تأتيني بخير، أهديت إليّ شعر حسّان، هذا قول مجاهد و قتادة بن النعمان و عكرمة و ابن جريح، إلّا أنّ عكرمة قال: إنّ بني أبيرق طرحوا ذلك على يهوديّ يقال له: زيد بن السهين، فجاء اليهوديّ إلى رسول اللّه و جاء بنو أبيرق إليه و كلّموه أن يجادل، فهمّ رسول اللّه أن يفعل و أن يعاقب اليهوديّ فنزلت الآية و به قال ابن عبّاس.

و قال الضحّاك: نزلت في رجل من الأنصار استودع درعا فجحد صاحبها فخوّنه رجال من أصحاب النبيّ، فغضب له قومه فقالوا: يا نبيّ اللّه خوّن صاحبنا و هو مسلم أمين فعذّره النبيّ صلى اللّه عليه و آله و كذب عنه و هو يرى أنّه بري ء مكذوب عليه، فأنزل اللّه فيه الآيات و اختار الطبريّ هذا الوجه قال: لأنّ الخيانة إنّما تكون في الوديعة لا في السرقة.

المعنى: ثمّ خاطب اللّه نبيّه فقال:

[إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمّد [الْكِتابَ يعني القرآن [بِالْحَقِ الّذي يجب اللّه على عباده و قيل: معناه إنّك به أحقّ [لِتَحْكُمَ يا محمّد [بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ أي أعلمك اللّه في كتابه [وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً] نهاه أن يكون لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله «خَصِيماً» يدافع من طالبه عنه بحقّه الّذي خانه فيه و يخاصم.

ثمّ قال: [وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ أمره بأن يستغفر اللّه في مخاصمته عن الخائن [إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً] يصفح عن ذنوب عباده المسلمين و يترك مؤاخذتهم بها و الخطاب و إن توجّه إلى النبيّ من حيث خاصم عمّن رآه على ظاهره الإيمان و العدالة و كان في الباطن بخلافه، فالمراد بذلك امّته، و إنّما ذكر ذلك على وجه التأديب له في أن لا يبادر بالخصام و الدفاع

ص: 177

عن خصم إلّا بعد أن تبيّن وجه الحقّ فيه، جلّ نبيّ اللّه عن جميع المعاصي و القبائح، و قيل: إنّه لم يخاصم عن الخصم و إنّما همّ بذلك فعاتبه اللّه عليه.

النظم: وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّه لمّا تقدّم ذكر المنافقين و الكافرين و الأمر بمجانبتهم عقّب ذلك بذكر الخائنين و الأمر باجتناب الدفع عنهم. و قيل: إنّه تعالى لمّا بيّن الأحكام و الشرائع في السورة عقّبها بأنّ جميع ذلك انزل بالحقّ.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 107 الى 109]

وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)

النزول: نزلت الآيات في القصّة الّتي ذكرناها قبل.

المعنى: ثمّ نهى تعالى عن المجادلة و الدفع عن أهل الخيانة مؤكّدا لمّا تقدّم فقال:

[وَ لا تُجادِلْ قيل: الخطاب للنبيّ صلى اللّه عليه و آله حين همّ أن يبرئ أبا طعمة لمّا أتاه قوم ينفون عنه السرقة. و قيل: الخطاب له و المراد قومه. و قيل: تقديره: و لا تجادل أيّها الإنسان [عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ أي يخونون أنفسهم و يظلمونها أراد من سرق الدرع و من شاركه في السرقة و الخيانة، و قيل: إنّه أراد به قومه الّذين مشوا معه إلى النبيّ و شهدوا له بالبراءة عمّا نسب إليه من السرقة. و قيل: أراد به السارق و قومه و من هو في معناهم، و إنّما قال: «يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ» و إن خانوا غيرهم لأنّ ضرر خيانتهم كأنّه راجع إليهم لا حق بهم كما تقول لمن ظلم غيره: ما ظلمت إلّا نفسك، و كقوله تعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» (1).

[إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً] هو فعّال من الخيانة أي من كان كثير الخيانة و قد ألفها و اعتادها، و قد يطلق الخوّان على الخائن في شي ء واحد إذا عظمت تلك الخيانة، و

ص: 178


1- الإسراء: 7.

الأثيم فاعل الإثم، و قيل: معناه لا يحبّ من كان خوّانا إذا سرق الدرع و أثيما إذا رمى به اليهوديّ.

و قال ابن عبّاس في معنى الآية: لا تجادل عن الّذين يظلمون أنفسهم بالخيانة و يرمون بالخيانة غيرهم يريد به سارق الدرع، سرق الدرع و رمى بالسرقة إلى اليهوديّ فصار خائنا بالسرقة و أثيما في رميه غيره بها.

[يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أي يكتمون عن الناس [وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ يعني الّذين مشوا في الدفع عن ابن أبيرق و معناه يتستّرون عن الناس معاصيهم في أخذ الأموال لئلّا يفتضحوا في الناس و لا يتستّرون من اللّه و هو مطّلع عليهم.

و قيل: معناه يستحيون من الناس و لا يستحيون من اللّه و علمه معهم فيكون معناه:

يخفون الخيانة عن الناس و يطلبون إخفاءها حياء منهم و لا يتركونها حياء من اللّه و هو عالم بأفعالهم.

[إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ أي يدبّرون بالليل قولا لا يرضاه اللّه، و قيل:

يغيّرون القول من جهته و يكذبون فيه. و قيل: إنّه قول ابن أبيرق في نفسه بالليل:

أرمي بهذا الدرع في دار اليهوديّ ثمّ أحلف أنّي بري ء منه فيصدّقني المسلمون لأنّي على دينهم و لا يصدّقون اليهوديّ لأنّه ليس على دينهم. و قيل: إنّه رمى بالدرع إلى دار لبيد بن سهل.

[وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً] قال الحسن: حفيظا لأعمالهم. و قال غيره: عالما بأعمالهم لا يخفى عليه شي ء منها.

و في هذه الآية تقريع بليغ لمن يمنعه حياء الناس و حشمتهم عن ارتكاب القبائح و لا يمنعه خشية اللّه عن ارتكابها و هو سبحانه أحقّ أن يراقب و أجدر أن يحذر، و فيها أيضا توبيخ لمن يعمل قبيحا ثمّ يقذف غيره به سواء كان ذلك الغير مسلما أو كافرا.

[ها أَنْتُمْ خطاب للذابّين عن السارق [هؤُلاءِ] يعني الّذين [جادَلْتُمْ أي خاصمتم و دافعتم [عَنْهُمْ عن الخائنين [فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] استفهام يراد به النهي لأنّه في معنى التقريع و التوبيخ أي لا مجادل عنهم و لا شاهد على براءتهم

ص: 179

بين يدي اللّه يوم القيامة، و في هذه الآية النهي عن الدفع عن الظالم و المجادلة عنه.

[أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا] أي من يحفظهم و يتولّى معونتهم يعنى لا يكون يوم القيامة عليهم وكيل يقوم بأمرهم و يخاصم عنهم، و أصل الوكيل من جعل إليه القيام بالأمر، و اللّه يسمّى وكيلا بمعنى أنّه القائم بالأمر، و يقال: إنّه يسمّى وكيلا بمعنى الحافظ، و لا يقال: إنّه وكيل لنا و إنّما يقال: إنّه وكيل علينا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 110 الى 112]

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112)

المعنى: ثمّ بيّن تعالى طريق التلافي و التوبة ممّا سبق منهم من المعصية فقال:

[وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً] أي معصية أو أمرا قبيحا [أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بارتكاب جريمة، و قيل: يعمل سوءا بأن يسرق الدرع أو يظلم نفسه بأن يرمي بها بريئا. و قيل: المراد بالسوء الشرك و بالظلم مادون الشرك [ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي يتوب إليه و يطلب منه المغفرة [يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً] ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ جريمتهم و إن عظمت فإنّها غير مانعة من المغفرة و قبول التوبة إذا استغفروا و تابوا.

[وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ ظاهر المعنى و نظيره: «لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها» (1) «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها»* (2) [وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] بكسبه [حَكِيماً] في عقابه، و قيل: عليما في قضائه فيهم. و قيل: عليما بالسارق حكيما في إيجاب القطع عليه. ثمّ بيّن أنّ من ارتكب إثما ثمّ قذف به غيره كيف يعظم عقابه فقال:

[وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً] أي يعمل ذنبا على عمد أو غير عمد [أَوْ إِثْماً] أي ذنبا تعمّده،

ص: 180


1- الانعام: 164.
2- فصلت: 46. الجاثية: 14.

و قيل: الخطيئة الشرك و الإثم مادون الشرك [ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً] ثمّ ينسب ذنبه إلى بري ء.

و قيل: البري ء هو اليهوديّ الّذي طرح عليه الدرع، عن الحسن و غيره. و قيل: هو لبيد بن سهل (سهين خ) و قد مضى ذكرهما قبل، و قوله: «ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً» اختلف في الضمير الّذي هو الهاء في «به» فقيل: يعود إلى الإثم أي بالإثم. و قيل: إلى واحد منهما. و قيل:

يعنى بكسبه [فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً] كذبا عظيما يتحيّر من عظمه [وَ إِثْماً مُبِيناً] أي ذنبا ظاهرا بيّنا.

و في هذه الآيات دلالة على أنّه تعالى لا يجوز أن يخلق أفعال خلقه ثمّ يعذّبهم عليها، لأنّه إذا كان الخالق لها فهم برآء منها، فلو قيل: إنّ الكسب مضاف إلى العبد؛ فجوابه أنّ الكسب لو كان مفهوما و له معنى لم يخرج العبد بذلك من أن يكون بريئا، لأنّه إذا قيل: إن اللّه تعالى أوجد الفعل و أحدثه و أوجد الاختيار في القلب و الفعل لا يتجزّأ فقد انتفى عن العبد من جميع جهاته.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 113 الى 114]

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)

النزول: قيل: نزلت في بني أبيرق و قد مضت قصّتهم عن أبي صالح عن ابن عبّاس.

و قيل: نزلت في و قد من ثقيف قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قالوا: يا محمّد جئناك نبايعك على أن لانكسر أصنامنا بأيدينا و على أن نتمتّع بالعزّى سنة فلم يجبهم إلى ذلك و عصمه اللّه منه، عن جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس.

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه لطفه برسوله و فضله عليه إذ صرف كيدهم عنه و عصمه من الميل إليهم فقال:

[وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ قيل: فضل اللّه النبوّة و رحمته نصرته إيّاه بالوحي.

ص: 181

و قيل: فضله تأييده بألطافه و رحمته نعمته، عن الجبّائيّ. و قيل: فضله النبوّة و رحمته العصمة [لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ لقصدت و أضمرت جماعة من هؤلاء الّذين تقدّم ذكرهم [أَنْ يُضِلُّوكَ فيه أقوال:

أحدها: أنّ المعنيّ بهم الّذين شهدوا للخائنين من بني أبيرق بالبراءة، عن ابن عبّاس و الحسن و الجبّائيّ فيكون المعنى: همّت طائفة منهم أن يزيلوك عن الحقّ بشهادتهم للخائنين حتّى اطّلعك اللّه على أسرارهم.

و ثانيها: أنّهم وفد ثقيف الّذين التمسوا من رسول اللّه ما لا بجوز، و قد مضى ذكرهم عن ابن عبّاس أيضا.

و ثالثها: أنّهم المنافقون الّذين همّوا بإهلاك النبيّ و المراد بالإضلال القتل و الإهلاك كما في قوله تعالى: «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ» (1)، فيكون المعنى: لو لا حفظ اللّه تعالى لك و حراسته إيّاك لهمّت طائفة من المنافقين أن يقتلوك و يهلكوك و مثله «وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» (2) عن أبي مسلم.

[وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي و ما يزيلون عن الحقّ إلّا أنفسهم، و قيل: ما يهلكون إلّا أنفسهم و معناه: أنّ وبال ما همّوا به من الإهلاك و الإذلال يعود عليهم حتّى استحقّوا العذاب الدائم [وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ] أي لا يضرّونك بكيدهم و مكرهم شيئا فإنّ اللّه حافظك و ناصرك و مسدّدك و مؤيّدك.

[وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ] أي القرآن و السنّة، و اتّصاله بما قبله أنّ المعنى كيف يضلّونك و هو ينزل عليك الكتاب و يوحي إليك بالأحكام؟ [وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أي ما لم تعلمه من الشرائع و أنباء الرسل الأوّلين و غير ذلك من العلوم [وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً] قيل: فضله عليك منذ خلقك إلى أن بعثك عظيم إذ جعلك خاتم النبيّين و سيّد المرسلين و أعطاك الشفاعة و غيرها.

ثمّ قال [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ أي أسرارهم و معنى النجوى لا يتمّ إلّا بين

ص: 182


1- الم السجدة: 10.
2- التوبة: 75.

اثنين فصاعدا كالدعوى [إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ] فإنّ في نجواه خيرا [أَوْ مَعْرُوفٍ يعني بالمعروف أبواب البرّ لاعتراف العقول بها، و قيل: لأنّ أهل الخير يعرفونها [أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ أي تأليف بينهم بالمودّة، و قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره: حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه فرض التحمّل في القرآن فقال: قلت:

و ما التحمّل في القرآن جعلت فداك؟ قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتحمل له، و هو قوله: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ الآية» قال: و حدّثني أبي رفعه إلى أمير المؤمنين أنّه قال: إنّ اللّه فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم.

[وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني ما تقدّم ذكره [ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضاء اللّه [فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أي نعطيه [أَجْراً عَظِيماً] أي مثوبة عظيمة في الكثرة و المنزلة و الصفة؛ أمّا الكثرة فلأنّه دائم، و أمّا المنزلة فلأنّه مقارن للتعظيم و الإجلال، و أمّا الصفة فلأنّه غير مشوب بما ينغّصه.

و في الآية دلالة على أنّ فاعل المعصية هو الّذي يضرّ بنفسه لما يعود عليه من وبال فعله، و فيها دلالة أيضا على أنّ الّذي يدعو إلى الضلال هو المضلّ، و على أنّ فاعل الضلال مضلّ لنفسه، و على أنّ الدعاء إلى الضلال يسمّى إضلالا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 115]

وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (115)

. النزول: قيل: نزلت في شأن ابن أبي أبيرق سارق الدرع، و لمّا أنزل اللّه في تقريعه و تقريع قومه الآيات كفر و ارتدّ و لحق بالمشركين من أهل مكّة، ثمّ نقب حائطا للسرقة فوقع عليه الحائط فقتله، عن الحسن. و قيل: إنّه خرج من مكّة نحو الشام فنزل منزلا و سرق بعض المتاع و هرب فأخذ و رمي بالحجارة حتّى قتل، عن الكلبيّ.

المعنى: لمّا بيّن سبحانه التوبة عقّبه بذكر حال الإصرار فقال:

[وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي من يخالف محمّدا و يعاده [مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي

ص: 183

ظهر له الحقّ و الإسلام و قامت له الحجّة و صحّت الأدلّة بثبوت نبوّته و رسالته [وَ يَتَّبِعْ طريقا [غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير طريقتهم الّذي هو دينهم [نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نكله إلى من انتصر به و اتّكل عليه من الأوثان و حقيقته نجعله يلي ما اعتمده من دون اللّه أي يقرب منه، و قيل: معناه نخلّي بينه و بين ما اختاره لنفسه [وَ نُصْلِهِ أي نلزمه دخول [جَهَنَّمَ عقوبة له على ما اختاره من الضلالة بعد الهدى [وَ ساءَتْ مَصِيراً] قد مرّ معناه.

و قد استدلّ بهذه الآية على أنّ إجماع الامّة حجّة لأنّه توعّد علي مخالفة سبيل المؤمنين كما وعد على مشاققة الرسول صلى اللّه عليه و آله.

و الصحيح أنّه لا يدلّ على ذلك لأنّ ظاهر الآية يقتضي إيجاب متابعة من هو مؤمن على الحقيقة ظاهرا و باطنا، لأنّ من أظهر الإيمان لا يوصف بأنّه مؤمن إلّا مجازا فكيف يحمل ذلك على إيجاب متابعة من أظهر الإيمان؟ و ليس كلّ من أظهر الإيمان مؤمنا، و متى حملوا الآية على بعض الامّة حملها غيرهم على من هو مقطوع على عصمته عنده من المؤمنين و هم الأئمّة من آل محمّد صلى اللّه عليه و آله على أنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ الوعيد إنّما يتناول من جمع بين مشاققة الرسول و اتّباع غير سبيل المؤمنين، فمن أين لهم أنّ من فعل أحدهما يتناوله الوعيد؟ و نحن إنّما علمنا يقينا أنّ الوعيد إنّما يتناول بمشاققة الرسول بانفرادها بدليل غير الآية فيجب أن يسندوا لتناول الوعيد باتّباع غير سبيل المؤمنين إلى دليل آخر.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 116]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)

. قد مرّ تفسيره فيما تقدّم و قوله: [فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً] أي ذهب عن طريق الحقّ، و الغرض المطلوب و هو النعيم المقيم في الجنّة ذهابا بعيدا لأنّ الذهاب عن نعيم الجنّة يكون على مراتب أبعدها الشرك باللّه.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 117 الى 121]

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121)

.

ص: 184

المعنى: لمّا ذكر في الآية المتقدّمة أهل الشرك و ضلالهم ذكر في هذه الآية حالهم و فعالهم فقال:

[إِنْ يَدْعُونَ أي ما يدعون هؤلاء المشركون و ما يعبدون [مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه [إِلَّا إِناثاً] فيه أقوال:

أحدها: إلّا أوثانا و كانوا يسمّون الأوثان باسم الإناث اللات و العزّى و مناة الثالثة الاخرى و أساف و نائلة، عن أبي مالك و السدّيّ و مجاهد و ابن زيد، و ذكر أبو حمزة الثماليّ في تفسيره قال: كان في كلّ واحدة منهنّ شيطانة أنثى تتراءى للسدنة و تكلّمهم و ذلك من صنع إبليس و هو الشيطان الّذي ذكره اللّه فقال: لعنه اللّه. قالوا: و اللات كان اسما لصخرة، و العزّى كان اسما لشجرة إلّا أنّهم نقلوهما إلى الوثن و جعلوهما علما عليهما. و قيل: العزّى تأنيث الأعزّ، و اللات تأنيث لفظ اللّه. و قال الحسن: كان لكلّ حيّ من العرب وثن يسمّونه باسم الأنثى.

و ثانيها: أنّ المعنى إلّا أمواتا، عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة، فعلى هذا يكون تقديره: ما يعبدون من دون اللّه إلّا جمادا و أمواتا لا تعقل و لا تنطق و لا تضرّ و لا تنفع، فدلّ ذلك على غاية جهلهم و ضلالهم، و سمّاها إناثا لاعتقاد مشركي العرب الأنوثة في كلّ ما اتّضعت منزلته، و لأنّ الإناث من كلّ جنس أرذله. و قال الزجّاج: لأنّ الموات يخبر عنها بلفظ التأنيث تقول: الأحجار تعجبني، و لا تقول: يعجبونني، و يجوز أن يكون إناثا سمّاها لضعفها و قلّة خيرها و عدم نصرها.

و ثالثها: أنّ المعنى: إلّا ملائكة لأنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات اللّه و كانوا يعبدون الملائكة، عن الضحّاك.

ص: 185

[وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً] أي ماردا شديدا في كفره و عصيانه متماديا في شركه و طغيانه، يسأل عن هذا فيقال: كيف نفى في أوّل الكلام عبادتهم لغير الأوثن ثمّ أثبت في آخره عبادتهم الشيطان فأثبت في الآخر ما نفاه في الأوّل؟ و أجاب الحسن عن هذا فقال: إنّهم لم يعبدوا إلّا الشيطان في الحقيقة لأنّ الأوثان كانت مواتا ما دعت أحدا إلى عبادتها، بل الداعي إلى عبادتها الشيطان فأضيفت العبادة إلى الشيطان بحكم الدعاء، و إلى الأوثان لأجل أنّهم كانوا يعبدونها و يدلّ عليه قوله تعالى: «و يوم نحشرهم جميعا ثمّ نقول للملائكة أ هؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون* قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ» (1)، أضافت الملائكة عبادتهم إلى الجنّ حتّى قيل: إنّ الجنّ دعتهم إلى عبادة الملائكة. و قال ابن عبّاس: كان في كلّ واحد من أصنامهم الّتي كانوا يعبدونها شيطان مريد يدعو المشركين إلى عبادتها فلذلك حسن إضافة العبادة إلى الأصنام و إلى الشيطان. و قيل: ليس في الآيات إثبات المفيّ بل ما يعبدون إلّا الأوثان و إلّا الشيطان و هو إبليس.

[لَعَنَهُ اللَّهُ بعّده اللّه عن الخير بإيجاب الخلود في نار جهنّم [وَ قالَ يعني الشيطان لمّا لعنه اللّه [لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً] أي حظّا [مَفْرُوضاً] أي معلوما، عن الضحّاك. و قيل: مقدّرا محدودا. و أصل الاتّخاذ أخذ الشي ء على وجه الاختصاص؛ فكلّ من أطاعه فإنّه من نصيبه و حزبه كما قال سبحانه: «كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ» (2). و روي أنّ النبيّ قال في هذه الآية: من بني آدم تسعة و تسعون في النار و واحد في الجنّة. و في رواية اخرى من كلّ ألف واحد للّه و سائرهم للنار و لإبليس، أوردهما أبو حمزة الثماليّ في تفسيره.

و يقال: كيف علم إبليس أنّ له أتباعا يتابعونه؟ و الجواب علم ذلك من قوله:

«لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ» (3). و قيل: إنّه لمّا نال من آدم ما نال طمع في ولده و إنّما

ص: 186


1- سبأ: 41.
2- الحج: 4.
3- ص: 84.

قال ذلك ظنّا، و يؤيّده قوله تعالى: «وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ» (1).

[وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ هذا من مقالة إبليس يعني لأضلّنّهم عن الحقّ و الصواب، و إضلاله دعاؤه إلى الضلال و تسبيبه له بحبائله و غروره و وساوسه [وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ يعني امنّينّهم طول البقاء في الدنيا فيؤثرون بذلك الدنيا و نعيمها على الآخرة، و قيل: معناه أقول لهم: ليس وراءكم بعث و لا نشر و لا نشر و لا جنّة و لا نار و لا ثواب و لا عقاب فافعلوا ما شئتم، عن الكلبيّ.

و قيل: معناه: امنّينّهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية و ازيّن لهم شهوات الدنيا و زهراتها و أدعو كلّا منهم إلى نوع يميل طبعه إليه فأصدّه بذلك عن الطاعة و ألقيه في المعصية.

[وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ تقديره: و لآمرنّهم بتبتيك آذان الأنعام فليبتّكنّ أي ليشقّقنّ آذانهم، عن الزجّاج و قيل: ليقطعنّ الآذان من أصلها، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و هذا شي ء قد كان مشركو العرب يفعلونه، يجدعون آذان الأنعام.

و يقال: كلوا يفعلونه بالبحيرة و السائبة، و سنذكر ذلك في سورة المائدة إن شاء اللّه.

[وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ أي لآمرنّهم بتغيير خلق اللّه فليغيّرنّه، و اختلف في معناه فقيل: يريد دين اللّه و أمره، عن ابن عبّاس و إبراهيم و مجاهد و الحسن و قتادة و جماعة و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و يؤيّده قوله سبحانه و تعالى: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» (2) و أراد بذلك تحريم الحلال و تحليل الحرام، و قيل:

أراد معنى الخصاء، عن عكرمة و شهر بن حوشب و أبي صالح عن ابن عبّاس، و كرهوا الإخصاء في البهائم. و قيل: إنّه الوشم، عن ابن مسعود. و قيل: إنّه أراد الشمس و القمر و الحجارة عدلوا عن الانتفاع بها إلى عبادتها، عن الزجّاج.

[وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا] أي ناصرا و قيل: ربّا يطيعه [مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً] أي ظاهرا، و أيّ خسران أعظم من استبدال الجنّة بالنار؟ و أيّ صفقة أخسر من استبدال رضاء الشيطان برضاء الرحمن؟

ص: 187


1- سبأ: 2.
2- الروم: 30.

[يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ أن يكون لهم ناصرا [وَ يُمَنِّيهِمْ الأكاذيب و الأباطيل، و قيل:

معناه يعدهم الفقر إن أنفقوا ما لهم في أبواب البرّ و يمنّيهم طول البقاء في الدنيا و دوام النعيم فيها ليؤثروها على الآخرة [وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً] أي لا يكون لما يعدهم و يمنّيهم أصل و حقيقة، و الغرور إيهام النفع فيما فيه ضرر.

[أُولئِكَ إشارة إلى الّذين اتّخذوا الشيطان وليّا من دون اللّه فاغترّوا بغروره و تابعوه فيما دعاهم إليه [مَأْواهُمْ مستقرّهم جميعا [جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً] أي مخلصا و لا مهربا و لا معدلا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 122]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)

قدّ مرّ تفسير صدر الآية في هذه السورة. و قوله: «وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ...، وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» (1) و نحوه بإشمام الزاي كوفيّ غير عاصم و رويس و الباقون بالصاد و قد ذكرنا الوجه عند ذكر الصراط في الفاتحة، و قوله: «وَعْدَ اللَّهِ» نصب على المصدر و تقديره: وعد اللّه ذلك وعدا، فهو مصدر دلّ معنى الكلام الّذي تقدّم على فعله الناصب له، «حَقًّا» أيضا مصدر مؤكّد لما قبله كأنّه قال: أحقّه حقّا. و «قِيلًا» منصوب على التمييز كما يقال: هو أكرم منك فعلا، و معناه وعد اللّه ذلك وعدا حقّا لا خلف فيه «وَ مَنْ أَصْدَقُ» استفهام فيه معنى النفي أي لا أحد أصدق من اللّه قولا فيما أخبره و وعدا فيما وعده.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 123 الى 124]

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (123) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)

النزول: قيل: تفاخر المسلمون و أهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم و كتابنا قبل كتابكم و نحن أولى باللّه منكم، فقال المسلمون: نبيّنا خاتم النبيّين و كتابنا يقضي على الكتب و ديننا الإسلام فنزلت الآية. فقال أهل الكتاب: نحن و أنتم سواء فأنزل اللّه

ص: 188


1- السورة: 87.

الآية الّتي بعدها: «وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ»، ففلح المسلمون، عن قتادة و الضحّاك، و قيل: لمّا قالت اليهود: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ»، و قال أهل الكتاب: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى نزلت الآية. عن مجاهد.

المعنى: لمّا ذكر اللّه سبحانه الوعد و الوعيد قال عقيب ذلك:

[لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ معناه ليس الثواب و العقاب بأمانيّكم أيّها المسلمون، عن مسروق و السدّيّ. و قيل: الخطاب لأهل الشرك من قريش لأنّهم قالوا: لا نبعث و لا نعذّب، عن مجاهد و ابن زيد [وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ أي و لا بأمانيّ أهل الكتاب في أنّه لا يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى، و هذا يقوّي القول الأخير على أنّه لم يجر للمسلمين.

ذكر في الأمانيّ و ذكر أمانيّ الكفّار قد جرى في قوله: «وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ» هذا و قد وعد اللّه المؤمنين فيما بعد بما هو غاية الأمانيّ.

[مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ اختلف في تأويله على أقوال:

أحدها أنّه يريد بذلك جميع المعاصي صغائرها و كبائرها و أنّ من ارتكب شيئا منها فإنّ اللّه سبحانه يجازيه عليها إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة، عن عائشة و قتادة و مجاهد.

و روي عن أبي هريرة أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية بكينا و حزنّا و قلنا يا رسول اللّه: ما أبقت هذه الآية من شي ء، فقال: أما و الّذي نفسي بيده إنّها لكما أنزلت، و لكن ابشروا و قاربوا و سدّدوا إنّه لا تصيب أحدا منكم مصيبة إلّا كفّر اللّه بها خطيئته حتّى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه، رواه الواحديّ في تفسيره مرفوعا.

و قال القاضي أبو عاصم القارئ العامريّ: في هذا قطع لتوهّم أنّ المعصية لا تضرّ مع الإيمان كما أنّ الطاعة لا تنفع مع الكفر.

و ثانيها أنّ المراد به مشركو قريش و أهل الكتاب، عن الحسن و الضحّاك و ابن زيد قالوا: و هو كقوله: «وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ».

و ثالثها أنّ المراد بالسوء هنا الشرك، عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير.

[وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً] معناه: و لا يجد هذا الّذي يعمل سوءا من معاصي اللّه و خلاف أمره وليّا يلي أمره ينصره و يحامي عنه و يدفع عنه ما ينزل به من

ص: 189

عقوبة اللّه، و لا نصيرا أي ناصرا ينصره و ينجيه من عذاب اللّه.

و من استدلّ بهذه الآية على المنع من جواز العفو عن المعاصي فإنّا نقول له: إنّ من ذهب إلي أنّ العموم لا ينفرد في اللغة بصيغة مختصّة به لا يسلّم أنّها تستغرق جميع من فعل السوء، بل يجوز أن يكون المراد بها بعضهم على ما ذكره أهل التأويل كابن عبّاس و غيره على أنّهم قد اتّفقوا على أنّ الآية مخصوصة، فإنّ التائب و من كان معصيته صغيرة لا يتناوله العموم فإذا جاز لهم أن يخصّصوا العموم في الآية بالفريقين جاز لنا أن نخصّها بمن يتفضّل اللّه عليه بالعفو و هذا بيّن و الحمد للّه.

و قوله سبحانه: [وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ و إنّما قال «وَ هُوَ مُؤْمِنٌ» ليبيّن أنّ الطاعة لا تنفع من دون الإيمان [فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً] وعد اللّه تعالى بهذه الآية جميع المكلّفين من الرجال و النساء إذا عملوا الأعمال الصالحة أي الطاعات الخالصة، و هم مؤمنون موحّدون مصدّقون نبيّه بأن يدخلهم الجنّة و يثبتهم فيها و لا يبخسهم شيئا ممّا يستحقّونه من الثواب و إن كان مقدار نقير في الصغر.

و قد قابل سبحانه الوعيد العامّ في الآية الّتي قبل هذه الآية بالوعد العامّ في هذه الآية ليقف المؤمن بين الخوف و الرجاء.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 125 الى 126]

وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً (126)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه من يستحقّ الوعد الّذي ذكره قبل فقال: [وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً] و هو في صورة الاستفهام و المراد به التقرير و معناه من أصواب طريقا و أهدى سبيلا؟ أي لا أحد أحسن اعتقادا [مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي استسلم وجهه، و المراد بقوله:

«وَجْهَهُ» هنا ذاته و نفسه كما قال تعالى: «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (1) و المعنى: انقاد للّه سبحانه بالطاعة و لنبيّه صلى اللّه عليه و آله بالتصديق. و قيل: معنى «أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» قصده بالعبادة

ص: 190


1- القصص: 88.

وحده كما أخبر عن إبراهيم عليه السّلام أنّه قال: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» (1) و قيل: معناه أخلص أعماله للّه أي أتى بها مخلصا للّه فيها.

[وَ هُوَ مُحْسِنٌ أي فاعل للفعل الحسن الّذي أمره اللّه تعالى، و قيل: معناه و هو محسن في جميع أقواله و أفعاله، و قيل: إنّ المحسن هنا الموحّد. و روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله سئل عن الإحسان فقال: أن تعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك.

[وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي اقتدى بدينه و سيرته و طريقته يعني ما كان عليه إبراهيم و أمر به بنيه من بعده، و أوصاهم به من الإقرار بتوحيده و عدله، و تنزيهه عمّا لا يليق به، و من ذلك الصلاة إلى الكعبة و الطواف حولها و سائر المناسك [حَنِيفاً] أي مستقيما على منهاجه و طريقه، و قد مرّ معنى الحنيف في سورة البقرة.

[وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا] أي محبّا لا خلل في مودّته لكمال خلّته، و المراد بخلّته للّه أنّه كان مواليا لأولياء اللّه و معاديا لأعداء اللّه، و المراد بخلّة اللّه تعالى له نصرته على من أراده بسوء كما أنقذه من نار نمرود و جعلها عليه بردا و سلاما، و كما فعله بملك مصرحين راوده عن أهله، و جعله إماما للناس و قدوة لهم، قال الزجّاج: جائز أن يكون سمّي خليل اللّه بأنّه الّذي أحبّه اللّه بأن اصطفاه محبّة تامّة كاملة، و أحبّ اللّه هو محبّة تامّة كاملة. و قيل سمّي خليلا لأنّه افتقر إلى اللّه و توكّل عليه و انقطع بحوائجه إليه، و هو اختيار الفرّاء و أبي القاسم البلخيّ. و إنّما خصّه اللّه بهذا الاسم و إن كان الخلق كلّهم فقراء إلى رحمته تشريفا له بالنسبة إليه من حيث إنّه فقير إليه لا يرجو لسدّ خلّته بسواه، كما خصّ موسى عليه السّلام بأنّه كليم اللّه، و عيسى عليه السّلام بأنّه روح اللّه، و محمّدا صلى اللّه عليه و آله بأنّه حبيب اللّه. و قيل إنّما سمّي خليلا لأنّه سبحانه خصّه بما لم يخصّ به غيره من إنزال الوحي عليه و غير ذلك من خصائصه.

و إنّما خصّه من بين سائر الأنبياء بهذا الاسم على المعنيين اللّذين ذكرناهما و إن كان كلّ واحد من الأنبياء خليل اللّه في زمانه، لأنّه سبحانه خصّهم بالنبوّة، و قد روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: قد اتّخذ اللّه صاحبكم خليلا- يعني نفسه- و هذا الوجه اختيار أبي عليّ الجبّائيّ قال: و كلّ ما تعبّد اللّه به إبراهيم فقد تعبّد به نبيّنا صلى اللّه عليه و آله و زاده أشياء لم يتعبّد به إبراهيم عليه السّلام.

ص: 191


1- الانعام: 79.

و ممّا قيل: في وجه خلّة إبراهيم ما روي في التفسير أنّ إبراهيم كان يضيف الضيفان و يطعم المساكين، و أنّ الناس أصابهم جدب فارتحل إبراهيم إلى خليل له بمصر يلتمس منه طعاما لأهله فلم يصب ذلك عنده، فلمّا قرب من أهله بمفازة ذات رمل ليّنه ملأ غرائره (1) من ذلك الرمل لئلّا يغمّ أهله برجوعه من غير ميرة (2)، فحوّل اللّه ما في غرائره دقيقا فلمّا وصل إلى أهله دخل البيت و نام استحياء منهم، ففتحوا الغرائر و عجنوا من الدقيق و خبزوا و قدّموا إليه طعاما طيّبا، فسألهم من أين خبزوا؟ قالوا: من الدقيق الّذي جئت به من عند خليلك المصريّ. فقال: أما إنّه من خليلي ليس بمصريّ، فسمّاه اللّه سبحانه خليلا، رواه عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه اتّخذ إبراهيم خليلا لطاعته و مسارعته إلى رضاه لا لحاجة منه سبحانه إلى خلّته فقال: [وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و ملكا فهو مستغن عن جميع خلقه و الخلق محتاجون إليه [وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً] يعني لم يزل سبحانه عالما بجميع ما يفعله عباده، و معنى المحيط بالشي ء أنّه العالم به جميع وجوهه.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 127]

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)

. المعنى: ثمّ عاد كلام اللّه تعالى إلى ذكر النساء و اليتامى و قد جرى ذكرهم في أوّل السورة فقال:

[وَ يَسْتَفْتُونَكَ أي يسألونك الفتوى و هو تبيين المشكل من الأحكام [فِي النِّساءِ] يستخبرونك يا محمّد عن الحكم فيهنّ و عمّا يجب لهنّ و عليهنّ و إنّما حذف ذلك لإحاطة

ص: 192


1- جمع الغرارة- بالكسر-: الجوالق.
2- الطعام الذي يدخر.

العلم بأنّ السؤال في أمر الدين إنّما يقع عمّا يجوز و عمّا لا يجوز و عمّا يجب و عمّا لا يجب.

[قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ معناه قل يا محمّد: يبيّن لكم ما سألتم في شأنهنّ [وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أي و يفتيكم أيضا ما يقرأ عليكم في الكتاب أي القرآن و تقديره: و كتابه يفتيكم أي يبيّن لكم الفرائض المذكورة [فِي يَتامَى النِّساءِ] أي الصغار اللاتي لم يبلغن و قوله: [اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَ أي لا تعطونهنّ [ما كُتِبَ لَهُنَ و اختلف في تأويله على أقوال:

أولها: أنّ المعنى و ما يتلى عليكم في توريث صغار النساء و هو آيات الفرائض الّتي في أوّل السورة، و كان أهل الجاهليّة لا يورّثون المولود حتّى يكبر و لا يورّثون المرأة، و كانوا يقولون: لا نورّث إلّا من قاتل و دفع عن الحريم، فأنزل اللّه آية المواريث في أوّل السورة و هو معنى قوله: «لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ» أي من الميراث عن ابن عبّاس و سعيد ابن جبير و مجاهد و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و ثانيها: أنّ المعنى: اللّاتي لا تؤتونهنّ ما وجب لهنّ من الصداق، و كانوا لا يؤتون اليتامى اللّاتي يلون عليهنّ من الصداق فنهى اللّه عن ذلك بقوله: «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا- من غيرهنّ- ما طابَ لَكُمْ» (1)، و قوله: «وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» هو ما ذكره في أوّل السورة من قوله: «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا، الآية» عن عائشة و هو اختيار أبي عليّ الجبّائيّ، و اختار الطبريّ القول الأوّل، و اعترض على هذا القول بأن قال: ليس الصداق ممّا كتب اللّه للناس إلّا بالنكاح فمن لم تنكح فلا صداق لها عند أحد.

و ثالثها: أنّ المراد بقوله: «لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ» النكاح الّذي كتب اللّه لهنّ في قوله: «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى الآية» فكان الوليّ يمنعهنّ من التزويج، عن الحسن و قتادة و السدّيّ و ابن مالك و إبراهيم قالوا: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة بها دمامة و لها مال و كان يرغب أن يتزوّجها و يحبسها طمع أن تموت فيرثها، قال السدّيّ: و كان جابر

ص: 193


1- السورة: 3.

ابن عبد اللّه الأنصاريّ له بنت عمّ عمياء دميمة و قد ورثت عن أبيها مالا، فكان جابر يرغب عن نكاحها و لا ينكحها مخافة أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبيّ صلى اللّه عليه و آله عن ذلك فنزلت الآية.

و قوله: [وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ معناه على القول الأوّل و الثالث: و ترغبون عن أن تنكحوهنّ أي عن نكاحهنّ و لا تؤتونهنّ نصيبهنّ من الميراث فيرغب فيهنّ غيركم فقد ظلمتموهنّ من وجهين. و في قول عائشة معناه: و ترغبون في أن تنكحوهنّ أي في نكاحهنّ لجمالهنّ أو لمالهنّ.

[وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ معناه: و يفتيكم في المستضعفين من الصبيان الصغار أن تعطوهم حقوقهم، و كانوا لا يورّثون صغيرا من الغلمان و لا من الجواري، لأنّ ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله: «وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» (1) يدلّ على الفتيا في إعطاء حقوق الصغار من الميراث.

[وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ] أي و يفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط في أنفسهم و في مواريثهم و أموالهم و تصرّفاتهم و إعطاء كلّ ذي حقّ منهم حقّه صغيرا كان أو كبيرا ذكرا كان أو أنثى، و فيه إشارة إلى قوله سبحانه: «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى الآية» (2).

[وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ] أي مهما فعلتم من خير أيّها المؤمنون من عدل و برّ في أمر النساء و اليتامى و انتهيتم في ذلك إلى أمر اللّه و طاعته [فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً] أي لم يزل به عالما و لا يزال كذلك يجازيكم به و لا يضيع عنه شي ء منه.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 128]

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)

النزول: كانت بنت محمّد بن سلمة عند رافع بن خديج، و كانت قد دخلت في السنّ، و كانت عنده امرأة شابّة سواها فطلّقها تطليقة حتّى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك و صبرت على الأثرة و إن شئت تركتك، قالت: بلى راجعني و أصبر على الأثرة،

ص: 194


1- السورة: 2.
2- السورة: 3.

فراجعها، فذلك الصلح الّذي بلغنا أنّ اللّه تعالى أنزل فيه هذه الآية عن أبي جعفر عليه السّلام و سعيد بن المسيّب. و قيل: خشيت سودة بنت زمعة أن يطلّقها رسول اللّه فقالت: لا تطلقني و أجلسني مع نسائك و لا تقسم لي و اجعل يومي لعائشة، فنزلت الآية عن ابن عبّاس.

المعنى: لمّا تقدّمت حكم نشوز المرأة بيّن سبحانه تعالى نشوز الرجل فقال:

[وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ أي علمت و قيل: ظنّت [مِنْ بَعْلِها] أي من زوجها [نُشُوزاً] أي استعلاء و ارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها إمّا لبغضه و إمّا لكراهته منها شيئا إمّا دمامتها و إمّا علوّ سنّها أو غير ذلك [أَوْ إِعْراضاً] يعني انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه الّتي كانت لها منه، و قيل: يعني بإعراضه عنها هجرانه إيّاها و جفاها و ميله إلى غيرها.

[فَلا جُناحَ عَلَيْهِما] أي لا حرج و لا إثم على كلّ واحد منهما من الزوج و الزوجة [أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً] بأن تترك المرأة له يومها أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة أو غير ذلك لتستعطفه بذلك و تستديم المقام في حباله [وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ] معناه و الصلح بترك بعض الحقّ [خير] من طلب الفرقة بعد الألفة هذا إذا كان بطيبة من نفسها فإن لم يكن كذلك فلا يجوز له إلّا ما يسوغ في الشرع من القيام بالكسوة و النفقة و القسمة و إلّا طلّقها، و بهذه الجملة قالت الصحابة و التابعون منهم عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس و عائشة و سعيد بن جبير و قتادة و مجاهد و غيرهم.

[وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ اختلف في تأويله فقيل: معناه و أحضرت أنفس النساء الشحّ على أنصبائهنّ من أنفس أزواجهنّ و أموالهنّ و أيّامهنّ منهم، عن ابن عبّاس و سعيد ابن جبير و عطاء و السدّيّ. و قيل: معناه: و أحضرت أنفس كلّ واحد من الرجل و المرأة الشحّ بحقّه قبل صاحبه، فشحّ المرأة يكون بترك حقّها من النفقة و الكسوة و القسمة و غيرها، و شحّ الرجل بإنفاقه على الّتي لا يريدها و هذا أعمّ، و به قال ابن وهب و ابن زيد.

[وَ إِنْ تُحْسِنُوا] خطاب للرجال أي إن تفعلوا الجميل بالصبر على ما تكرهون من النساء [وَ تَتَّقُوا] من الجور عليهنّ في النفقة و الكسوة و العشرة بالمعروف، و قيل: بأن تحسنوا في أقوالكم و أفعالكم و تتّقوا معاصي اللّه [فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً]

ص: 195

أي هو سبحانه خبير بما يكون منكم في أمرهنّ بحفظه لكم و عليكم حتّى يجازيكم بأعمالكم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 129 الى 130]

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)

المعنى: لمّا تقدّم ذكر النشوز و الصلح بين الزوجين عقّبه سبحانه بأنّه لا يكلّف من ذلك ما لا يستطاع فقال:

[وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ أي لن تقدروا أن تسوّوا بين النساء في المحبّة و المودّة بالقلب و لو حرصتم على ذلك كلّ الحرص، فإنّ ذلك ليس إليكم و لا تملكونه فلا تكلّفونه و لا تؤاخذون به، عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة. و قيل: معناه لن تقدروا أن تعدلوا بالتسوية بين النساء في كلّ الأمور من جميع الوجوه من النفقة و الكسوة و العطيّة و المسكن و الصحبة و البرّ و البشر و غير ذلك، و المراد به أنّ ذلك لا يخفّف عليكم بل يثقل و يشقّ لميلكم إلى بعضهنّ.

[فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي فلا تعدلوا بأهوائكم عن من لم تملكوا محبّة منهنّ كلّ العدول حتّى يحملكم ذلكم على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب عليكم من حقّ القسمة و النفقة و الكسوة و العشرة بالمعروف.

[فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ] أي تذروا الّتي لا تميلون إليها كالّتي هي لا ذات زوج و لا أيّم، عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة و مجاهد و غيرهم، و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّه سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول عن قوله سبحانه: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» ثمّ قال: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ»، و بين القولين فرق، قال: فلم يكن عندي جواب ذلك حتّى قدمت المدينة فدخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فسألته عن ذلك فقال: أمّا قوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا» فإنّه عنى في النفقة، و أمّا قوله: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا» فإنّه عنى في المودّة، فإنّه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة، قال: فرجعت إلى الرجل

ص: 196

فأخبرته فقال: هذا ما حملته من الحجاز. و روى أبو قلابة عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه كان يقسم بين نسائه و يقول: اللّهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تلك و لا أملك.

قوله: [وَ إِنْ تُصْلِحُوا] يعني في القسمة بين الأزواج و التسوية بينهنّ في النفقة و غير ذلك [وَ تَتَّقُوا] اللّه في أمرهنّ و تتركوا الميل الّذي نهاكم اللّه عنه في تفضيل واحدة على الاخرى [فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً] يستر عليكم ما مضى منكم من الحيف في ذلك إذا تبتم و رجعتم إلى الاستقامة و التسوية بينهنّ و يرحمكم بترك المؤاخذة على ذلك، و كذلك كان يفعل فيما مضى مع غيركم، و روي عن جعفر الصادق عليه السّلام عن آبائه عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به بينهنّ، و روي أنّ عليّا كان له امرأتان فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضّأ في بيت الاخرى. و كان معاذ بن جبل له امرأتان ماتتا في الطاعون فأقرع بينهما أيّهما تدفن قبل الاخرى.

و قوله: [وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ يعني إذا أبى كلّ واحد من الزوحين مصلحة الآخر بأن تطالب المرأة بنصيبها من القسمة و النفقة و الكسوة و حسن العشرة و يمتنع الرجل من إجابتها إلى ذلك و يتفرّقا حينئذ بالطلاق فإنّه سبحانه يغني كلّ واحد منهما من سعته أي من سعة فضله و رزقه.

[وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً] أي لم يزل واسع الفضل على العباد حكيما فيما يدبّرهم به. و في هذه الآية دلالة على أنّ الأرزاق كلّها بيد اللّه و هو الّذي يتولّاها بحكمته و إن كان ربّما أجراها على يدي من يشاء من بريّته.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 131 الى 132]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)

المعنى: ثمّ ذكر سبحانه بعد إخباره بإغناء كلّ واحد من الزوجين بعد الافتراق من سعة فضله ما يوجب الرغبة إليه في ابتغاء الخير منه فقال:

[وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إخبارا عن كمال قدرته وسعة ملكه، أي فإنّ

ص: 197

من يملك ما في السماوات و ما في الأرض لا يتعذّر عليه الإغناء بعد الفرقة و الإيناس بعد الوحشة.

ثمّ ذكر الوصيّة بالتقوى فإنّ بها ينال خير الدنيا و الآخرة فقال: [وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ من اليهود و النصارى و غيرهم [وَ إِيَّاكُمْ أي و أوصيناكم أيّها المسلمون في كتابكم [أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ و تقديره: بأن اتّقوا اللّه أي اتّقوا عقابه باتّقاء معاصيه و لا تخالفوا أمره و نهيه [وَ إِنْ تَكْفُرُوا] أي تجحدوا وصيّته إيّاكم و تخالفوها [فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لا يضرّه كفرانكم و عصيانكم، و هذه إشارة إلى أنّ أمره جميع الأمم بطاعته و نهيه إيّاهم عن معصيته ليس استكثارا بهم عن قلّة و لا استنصارا بهم عن ذلّة و لا استغناء بهم عن حاجة، فإنّ له ما في السماوات و ما في الأرض ملكا و ملكا و خلقا لا يلحقه العجز و لا يعتريه الضعف و لا تجوز عليه الحاجة، و إنّما أمرنا و نهانا نعمة منه علينا و رحمة بنا [وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا] أي لم يزل سبحانه غير محتاج إلى خلقه بل الخلائق كلّهم محتاجون إليه [حَمِيداً] أي مستوجبا للحمد عليكم بصنائعه الحميدة إليكم، و آلائه الجميلة لديكم فاستديموا ذلك باتّقاء معاصيه و المسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به.

ثمّ قال: [وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا] أي حافظا لجميعه لا يعزب عنه علم شي ء منه و لا يؤوده حفظه و تدبيره و لا يحتاج مع سعة ملكه إلى غيره.

و أمّا وجه التكرار لقوله: «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ»* في الآيتين ثلاث مرّات فقد قيل: إنّه للتأكيد و التذكير. و قيل: إنّه للإبانة عن علل ثلاث: أحدها: بيان إيجاب طاعته فيما قضى به لأنّ له ملك السماوات و الأرض. و الثاني: بيان غناه عن خلقه و حاجتهم إليه و استحقاقه الحمد على النعم لأنّ له ما في السماوات و ما في الأرض و الثالث:

بيان حفظه إيّاهم و تدبيره لهم لأنّ له ملك السماوات و الأرض.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 133 الى 134]

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)

المعنى: لمّا ذكر سبحانه غناه عن الخلق بأنّ له ملك السماوات و الأرض عقّب

ص: 198

ذلك بذكر كمال قدرته على خلقه و أنّ له الإهلاك و الإنجاء و الاستبدال بعد الإفناء فقال:

[إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعني إن يشأ اللّه يهلككم [أَيُّهَا النَّاسُ و يفنكم، و قيل: فيه محذوف أي إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم أيّها الناس [وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ أي بقوم آخرين غيركم ينصرون نبيّه و يوازرونه. و يروى أنّه لمّا نزلت هذه الآية ضرب النبيّ صلى اللّه عليه و آله يده على ظهر سلمان و قال: هم قوم هذا يعني عجم الفرس [وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً] أي لم يزل سبحانه و لا يزال قادرا على الإبدال و الإفناء و الإعادة.

ثمّ ذكر سبحانه عظم ملكه و قدرته بأنّ جزاء الدارين عنده فقال: [مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا] أي الغنيمة و المنافع الدنيويّة، أخبر سبحانه عمّن أظهر الإيمان بمحمّد صلى اللّه عليه و آله من أهل النفاق يريد عرض الحياة الدنيا بإظهار ما أظهره من الإيمان بلسانه [فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ] أي يملك سبحانه الدنيا و الآخرة فيطلب المجاهد الثوابين عند اللّه، عن أبي عليّ الجبّائيّ. و قيل: إنّه وعيد للمنافقين و ثوابهم في الدنيا ما يأخذونه من الفي ء و الغنيمة إذا شهدوا الحرب مع المسلمين و أمّنهم على نفوسهم و أموالهم و ذراريهم و ثوابهم في الآخرة النار.

[وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً] أي لم يزل على صفة يجب لأجلها أن يسمع المسموعات و و يبصر المبصرات عند الوجود، و هذه الصفة هي كونه حيّا لا آفة به، و قيل: إنّما ذكر هذا ليبيّن أنّه يسمع ما يقول المنافقون إذا خلوا إلى شياطينهم و يعلم ما يسرّون من نفاقهم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 135]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)

. المعنى: لمّا ذكر سبحانه أنّ عنده ثواب الدنيا و الآخرة عقبه بالأمر بالقسط و القيام بالحقّ و ترك الميل و الجور فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ] أي دائمين على القيام بالعدل و معناه:

ص: 199

و لتكن عادتكم القيام بالعدل في القول و الفعل [شُهَداءَ] و هو جمع شهيد، أمر اللّه تعالى عباده بالثبات و الدوام على قول الحقّ و الشهادة بالصدق تقرّبا إليه و طلبا لمرضاته، و عن ابن عبّاس: كونوا قوّامين بالحقّ في الشهادة على من كانت و لمن كانت من قريب أو بعيد.

[وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي و لو كانت شهادتكم على أنفسكم [أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ أي على والديكم و على أقرب الناس إليكم فقوموا فيها بالقسط و العدل و أقيموها على الصحّة و الحقّ و لا تميلوا فيها لغنى غنيّ أو لفقر فقير، فإنّ اللّه قد سوّى بين الغنيّ و الفقير فيما ألزمكم من إقامة الشهادة لكلّ واحد منهما بالعدل.

و في هذا دلالة على جواز شهادة الولد لوالده و الوالد لولده و عليه و شهادة كلّ ذي قرابة لقرابته و عليه، و إليه ذهب ابن عبّاس في قوله: أمر اللّه سبحانه المؤمنين أن يقولوا الحقّ و لو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، و لا يحابّوا غنيّا لغناه و لا مسكينا لمسكنته.

و قال ابن شهاب الزهريّ: كان سلف المسلمين على ذلك حتّى دخل الناس فيما بعدهم و ظهرت منهم امور حملت الولاة على اتّهامهم فتركت شهادة من يتّهم، و أمّا شهادة الإنسان على نفسه فيكون بإقرار الخصم، فإقراره له شهادة منه على نفسه و شهادته لنفسه لا تقبل.

[إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً] معناه إن يكن المشهود عليه غنيّا أو فقيرا أو المشهود له غنيّا أو فقيرا فلا يمنعكم ذلك عن قول الحقّ و الشهادة بالصدق، و فائدة ذلك أنّ الشاهد ربّما امتنع عن إقامة الشهادة للغنيّ على الفقير لاستغناء المشهود له و فقر المشهود عليه، فلا يقيم الشهادة شفقة على الفقير، و ربّما امتنع عن إقامة الشهادة للفقير على الغنيّ تهاونا للفقير و توقيرا للغنيّ أو خشية منه أو حشمة له فبيّن سبحانه بقوله: [فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما] أنّه أولى بالغنيّ و الفقير و أنظر لهما من سائر الناس أي فلا تمتنعوا من إقامة الشهادة على الفقير شفقة عليه و نظرا له، و لا من إقامة الشهادة للغنيّ لاستغنائه عن المشهود به؛ فإنّ اللّه تعالى أمركم بذلك مع علمه بغناء الغنيّ و فقر الفقير، فراعوا أمره فيما أمركم به فإنّه أعلم بمصالح العباد منكم.

[فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى يعني هوى الأنفس في إقامة الشهادة فتشهدوا على إنسان لإحنة بينكم و بينه أو وحشة أو عصبيّة، و تمنعوا الشهادة له لأحد هذه المعاني، و تشهدوا

ص: 200

للإنسان بغير حقّ لميلكم إليه بحكم صداقة أو قرابة [أَنْ تَعْدِلُوا] أي لأن تعدلوا يعني لأجل أن تعدلوا في الشهادة، قال الفرّاء: هذا كقولهم: لا تتبّع هواك لترضي ربّك، أي كيما ترضي ربّك. و قيل: إنّه من العدول الّذي هو الميل و الجور، و معناه: و لا تتّبعوا الهوى في أن تعدلوا عن الحقّ أو لأن تعدلوا عن الحقّ.

[وَ إِنْ تَلْوُوا] أي تمطلوا في أداء الشهادة [أَوْ تُعْرِضُوا] عن أدائها، عن ابن عبّاس و مجاهد. و قيل: إنّ الخطاب للحكّام أي و إن تلووا أيّها الحكّام في الحكم لأحد الخصمين على الآخر و تعرضوا عن أحدهما إلى الآخر، عن ابن عبّاس و السدّيّ. و قيل:

معناه إن تلووا أي تبدّلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها، عن ابن زيد و الضحّاك و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

[فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً] معناه إنّه كان عالما بما يكون منكم من إقامة الشهادة أو تحريفها و الإعراض عنها.

و في هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سلوك طريقة العدل في النفس و الغير، و قد روي عن ابن عبّاس في معنى قوله: «وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا» أنّهما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي و إعراضه لأحدهما عن الآخر.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 136]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

. المعنى: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ قيل فيه ثلاثة أقوال:

أحدها:- و هو الصحيح المعتمد عليه- أنّ معناه: يا أيّها الّذين آمنوا في الظاهر بالإقرار باللّه و رسوله آمنوا في الباطن ليوافق باطنكم ظاهركم، و يكون الخطاب للمنافقين الّذين كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون [وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ و هو القرآن [وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ هو التوراة و الإنجيل، عن الزجّاج و غيره.

ص: 201

و ثانيها: أن يكون الخطاب للمؤمنين على الحقيقة ظاهرا و باطنا فيكون معناه:

أثبتوا على هذا الإيمان في المستقبل و داوموا عليه و لا تنتقلوا عنه، عن الحسن و اختاره الجبّائيّ، قال: لأنّ الإيمان الّذي هو التصديق لا يبقى و إنّما يستمرّ بأن يجدّده الإنسان حالا بعد حال.

و ثالثها: أنّ الخطاب لأهل الكتاب أمروا بأن يؤمنوا بالنبيّ و الكتاب الّذي أنزل عليه كما آمنوا بما معهم من الكتب، و يكون قوله: «وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ» إشارة إلى ما معهم من التوراة و الإنجيل، و يكون وجه أمرهم بالتصديق بهما و إن كانوا مصدّقين بهما أحد أمرين: إمّا أن يكون لأنّ التوراة و الإنجيل فيهما صفات نبيّنا و تصديقه و تصحيح نبوّته، فمن لم يصدّقه و لم يصدّق القرآن لا يكون مصدّقا بهما لأنّ في تكذيبه تكذيب التوراة و الإنجيل، و إمّا أن يكون اللّه تعالى أمرهم بالإقرار بمحمّد صلى اللّه عليه و آله و بالقرآن و بالكتاب الّذي أنزل من قبله و هو الإنجيل و ذلك لا يصحّ إلّا بالإقرار بعيسى أيضا و هو نبيّ مرسل.

و يعضد هذا الوجه ما روي عن عبد اللّه بن عبّاس أنّه قال: إنّ الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب: عبد اللّه بن سلام و أسد و أسيد ابني كعب و ثعلبة بن قيس و ابن اخت عبد اللّه سلام و يامين بن يامين، و هؤلاء من كبار أهل الكتاب قالوا: نؤمن بك و بكتابك و بموسى و بالتوراة و عزير و نكفر بما سواه من الكتب و بمن سواهم من الرسل، فقيل لهم: بل آمنوا باللّه و رسوله الآية، فآمنوا كما أمرهم اللّه.

[وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ أي يجحده أو يشبهه بخلقه أو يردّ أمره و نهيه [وَ مَلائِكَتِهِ أي ينفيهم أو ينزّلهم منزلة لا يليق بهم كما قالوا: إنّهم بنات اللّه [وَ كُتُبِهِ فيجحدها [وَ رُسُلِهِ فينكرهم [وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] أي يوم القيامة [فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً] أي ذهب عن الحقّ و بعد قصد السبيل ذهابا بعيدا، و قال الحسن: الضلال البعيد هو مالا ائتلاف له و المعنى أنّ من كفر بمحمّد و جحد نبوّته فكأنّه جحد جميع ذلك لأنّه لا يصحّ إيمان أحد من الخلق بشي ء ممّا أمر اللّه به إلّا بالإيمان به و بما أنزل اللّه عليه.

و في هذا تهديد لأهل الكتاب و إعلام لهم أنّ إقرارهم باللّه و وحدانيّته و ملائكته

ص: 202

و كتبه و رسله و اليوم الآخر لا ينفعهم مع جحدهم بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و يكون وجوده و عدمه سواء.

النظم: وجه اتّصال هذه الآية بما قبلها أنّ اللّه سبحانه لمّا بيّن الإسلام عقّبه بالدعاء إلى الإيمان و شرائطه. و قيل: إنّها متّصل بقوله: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» و القيام بالسقط هو الإيمان على وجه المذكور.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 137 الى 139]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)

المعنى: ثمّ قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا] قيل في معناه أقوال:

أحدها: أنّه عنى به الّذين آمنوا بموسى ثمّ كفروا بعبادة العجل و غير ذلك [ثُمَّ آمَنُوا] يعني النصارى بعيسى [ثُمَّ كَفَرُوا] به [ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً] بمحمّد صلى اللّه عليه و آله، عن قتادة.

و ثانيها: أنّه عنى به الّذين آمنوا بموسى ثمّ كفروا بعد موسى ثمّ آمنوا بعزيز ثمّ كفروا بعيسى ثمّ ازدادوا كفرا بمحمّد صلى اللّه عليه و آله عن الفرّاء و الزجّاج.

و ثالثها: أنّه عنى به طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك نفر من أصحاب رسول اللّه فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم ثمّ يقولون قد عرضت لنا شبهة اخرى فيكفرون، ثمّ ازدادوا كفرا بالثبات عليه إلى الموت، عن الحسن؛ و ذلك معنى قوله تعالى: «وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (1).

و رابعها: أنّ المراد به المنافقون آمنوا ثمّ ارتدّوا ثمّ آمنوا ثمّ ارتدّوا ثمّ ماتوا على كفرهم، عن مجاهد و ابن زيد. و قال ابن عبّاس: دخل في هذه الآية كلّ منافق

ص: 203


1- آل عمران: 72.

كان في عهد النبيّ في البحر و البرّ.

[لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ بإظهارهم الإيمان، فلو كانت بواطنهم كظواهرهم في الإيمان لما كفروا فيما بعد [وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا] معناه: و لا يهديهم إلى سبيل الجنّة كما قال فيما بعد «وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ» (1) و يجوز أن يكون المعنى أنّه يخذلهم و لا يلطف بهم عقوبة لهم على كفرهم المتقدّم.

ثمّ قال: [بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أي أخبرهم يا محمّد [بِأَنَّ لَهُمْ في الآخرة [عَذاباً أَلِيماً] أي وجيعا إن ماتوا على كفرهم و نفاقهم. و في هذه الآية دلالة على أنّ الآية المتقدّمة نزلت في شأن المنافقين و أنّه الأصحّ من الأقوال المذكورة.

ثمّ وصف هؤلاء المنافقين فقال: [الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أي مشركي العرب، و قيل: اليهود [أَوْلِياءَ] أي ناصرين و معينين و أخلّاء [مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي من غيرهم [أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ] أي أ يطلبون عندهم القوّة و المنعة باتّخاذهم هؤلاء أولياء من دون الإيمان باللّه تعالى، ثمّ أخبر سبحانه أنّ العزّة و المنعة له فقال: [فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً] يريد سبحانه أنّهم لو آمنوا مخلصين له و طلبوا الاعتزاز باللّه تعالى و بدينه و رسوله و المؤمنين لكان أولى بهم من الاعتزاز بالمشركين، فإنّ العزّة جميعا للّه سبحانه و من عنده يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 140]

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)

النزول: كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهاهم اللّه عن ذلك، عن ابن عبّاس.

المعنى: لمّا تقدّم ذكر المنافقين و موالاتهم الكفّار عقّب ذلك بالنهي عن مجالستهم و مخالطتهم فقال:

[وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أي في القرآن [أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها] أي يكفر بها المشركون و المنافقون و يستهزئون بها [فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ أي مع

ص: 204


1- السورة: 167.

هؤلاء المستهزئين الكافرين [حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي حتّى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بالدين، و قيل: حتّى يرجعوا إلى الإيمان و يتركوا الكفر و الاستهزاء. و المنزل في الكتاب هو قوله سبحانه في سورة الأنعام: «وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» (1).

و في هذا دلالة على تحريم مجالسة الكفّار عند كفرهم بآيات اللّه و استهزائهم بها و على إباحة مجالستهم عند خوضهم في حديث غيره.

و روي عن الحسن أنّ إباحة القعود مع الكفّار عند خوضهم في حديث آخر غير كفرهم و استهزائهم بالقرآن منسوخ بقوله تعالى: «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (2).

[إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني إنّكم إذا جالستموهم على الخوض في كتاب اللّه و الهزء به فأنتم مثلهم، و إنّما حكم بأنّهم مثلهم لأنّهم لم ينكروا عليهم مع قدرتهم على الإنكار و لم يظهروا الكراهة لذلك، و متى كانوا راضين بالكفر كانوا كفّارا لأنّ الرضا بالكفر كفار.

و في الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر مع القدرة و زوال العذر، و أنّ من ترك ذلك مع القدرة عليه فهو مخطئ آثم.

و فيها أيضا دلالة على تحريم مجالسة الفسّاق و المبتدعين من أيّ جنس كانوا و به قال جماعة من أهل التفسير، و ذهب إليه عبد اللّه بن مسعود و إبراهيم و أبو وائل، قال إبراهيم:

من ذلك إذا تكلّم الرجل في مجلس يكذب فيضحك منه جلساؤه فيسخط اللّه عليهم، و به قال عمر بن عبد العزيز، و روي أنّه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام في تفسير هذه الآية قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ و يكذب به و يقع في أهله فقم من عنده و لا تقاعده. و روي عن ابن عبّاس أنّه قال: أمر اللّه تعالى في هذه الآية بالاتّفاق و نهى عن الاختلافات و الفرقة و المراء و الخصومة.

ص: 205


1- الآية: 68.
2- الانعام: 68.

و به قال الطبريّ و البلخيّ و الجبّائيّ و جماعة من المفسّرين.

و قال الجبّائيّ: و أمّا الكون بالقرب منهم بحيث يسمع صوتهم و لا يقدر على إنكارهم فليس بمحظور، و إنّما المحظور مجالستهم من غير إظهار كراهية لما يسمعه أو يراه، قال:

و في الآية دلالة على بطلان قول نفاة الأعراض و قولهم ليس هاهنا شي ء غير الأجسام لأنّه قال: «حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» فأثبت غيرا لما كانوا فيه و ذلك هو العرض.

[إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً] أي إنّ اللّه يجمع الفريقين من أهل الكفر و النفاق في القيامة في النار و العقوبة فيها كما اتّفقوا في الدنيا على عداوة المؤمنين و المظاهرة عليهم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 141]

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)

المعنى: قد وصف اللّه سبحانه المنافقين و الكافرين فقال:

[الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أي ينتظرون لكم أيّها المؤمنون لأنّهم كانوا يقولون: سيهلك محمّد صلى اللّه عليه و آله و أصحابه فنستريح منهم و يظهر قومنا و ديننا.

[فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أي فإن اتّفق لكم فتح و ظفر على الأعداء [قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ نجاهد عدوّكم و نغزوهم معكم؟ فأعطونا نصيبنا من الغنيمة فقد شهدنا القتال.

[وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي حظّ بإصابتهم من المؤمنين [قالُوا] يعني المنافقين أي قال المنافقون للكافرين: [أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي ألم نغلب عليكم، عن السدّيّ، و معناه:

ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم [وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الدخول في جملة [الْمُؤْمِنِينَ و قيل:

معناه ألم نبيّن لكم أنّا على ما أنتم عليه أي ألم نضمّكم إلى أنفسنا و نطّلعكم على أسرار محمّد صلى اللّه عليه و آله و أصحابه و نكتب إليكم بأخبارهم حتّى غلبتم عليهم؟ فاعرفوا لنا هذا الحقّ عليكم، عن الحسن و ابن جريح. و نمنعكم من المؤمنين أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتحديثنا

ص: 206

إيّاهم عنكم و كوننا عيونا لكم حتّى انصرفوا عنكم و غلبتموهم.

[فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] هذا إخبار منه سبحانه عن نفسه بأنّه الّذي يحكم بين الخلائق يوم القيامة و يفصل بينهم بالحقّ.

[وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] قيل فيه أقوال:

أحدها أنّ المراد لن يجعل اللّه لليهود على المؤمنين نصرا و لا ظهورا، عن ابن عبّاس.

و قيل: لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا بالحجّة و إن جاز أن يغلبوهم بالقوّة لكنّ المؤمنين منصورون بالدلالة و الحجّة، عن السدّيّ و الزجّاج و البلخيّ، قال الجبّائيّ: و لو حملناه على الغلبة لكان ذلك صحيحا لأنّ غلبة الكفّار للمؤمنين ليس ممّا فعله اللّه فإنّه لا يفعل القبيح و ليس كذلك غلبة المؤمنين للكفّار فإنّه يجوز أن ينسب إليه سبحانه.

و قيل: لن يجعل لهم في الآخرة عليهم سبيلا لأنّه مذكور عقيب قوله: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بيّن اللّه سبحانه أنّه لن يثبت لهم سبيل على المؤمنين في الدنيا بالقتل و القهر و النهب و الأسر و غير ذلك من وجوه الغلبة فلن يجعل لهم يوم القيامة عليهم سبيلا بحال.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 142 الى 143]

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه أفعالهم القبيحة فقال:

[إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ قد ذكرنا معناه في أوّل البقرة و على الجملة خداع المنافقين للّه إظهارهم الإيمان الّذي حقنوا به دماءهم و أموالهم. و قيل: معناه يخادعون النبيّ كما قال: «إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» (1) فسمّى مبايعة النبيّ مبايعة اللّه للاختصاص و لأنّ

ص: 207


1- الفتح: 10.

ذلك بأمره عن الحسن و الزجّاج، و معنى خداع اللّه إيّاهم أن يجازيهم على خداعهم كما قلنا في قوله: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» (1). و قيل: هو حكمه بحقن دمائهم مع علمه بباطنهم. و قيل: هو أن يعطيهم اللّه نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثمّ يسلبهم ذلك النور و يضرب بينهم بسور، عن الحسن و السدّيّ و جماعة من المفسّرين.

[وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى أي متثاقلين [يُراؤُنَ النَّاسَ يعني إنّهم لا يعملون شيئا من أعمال العبادات على وجه القربة إلى اللّه، و إنّما يفعلون ذلك إبقاء على أنفسهم و حذرا من القتل و سلب الأموال و إذا رآهم المسلمون صلّوا ليروهم أنّهم يدينون بدينهم، و إن لم يرهم أحد لم يصلّوا، و به قال قتادة و ابن زيد.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سئل فبم النجاة غدا؟ قال صلى اللّه عليه و آله: النجاة أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم فإنّه من يخادع اللّه يخدعه و نفسه يخدع لو شعر، فقيل له: كيف يخادع اللّه؟ قال صلى اللّه عليه و آله: يعمل بما أمر اللّه ثمّ يريد به غيره فاتّقوا الرياء فإنّه شرك باللّه. إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر، حبط عملك و بطل أجرك و لا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له.

[وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا] أي ذكرا قليلا و معناه: لا يذكرون اللّه عن نيّة خالصة و لو ذكروه مخلصين لكان كثيرا، و إنّما وصف بالقلّة لأنّه لغير اللّه، عن الحسن و ابن عبّاس.

و قيل: لا يذكرون إلّا ذكرا يسيرا نحو التكبير و الأذكار الّتي يجهر بها و يتركون التسبيح و ما يخافت به من القراءة و غيرها، عن أبي عليّ الجبّائيّ. و قيل: إنّما وصف الذكر بالقلّة لأنّه سبحانه لم يقبله و كلّ ما ردّه اللّه قليل.

[مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مردّدين بين الكفر و الإيمان يريد كأنّه فعل بهم ذلك و كان الفعل لهم على الحقيقة، و قيل: معنى مذبذبين مطرودين من هؤلاء و من هؤلاء، من الذبّ الّذي هو الطرد، وصفهم سبحانه بالحيرة في دينهم و أنّهم لا يرجعون إلى صحّة نيّة لا مع المؤمنين

ص: 208


1- البقرة: 16.

على بصيرة و لا مع الكافرين على جهالة، و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّ مثلهم مثل الشاة العابرة بين الغنمين تتحيّر فتنظر إلى هذه و هذه لا تدري أيّهما تتبع.

[لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ] أي لامع هؤلاء في الحقيقة و لا مع هؤلاء؛ يظهرون الإيمان كما يظهره المؤمنون و يضمرون الكفر كما يضمره المشركون فلم يكونوا مع أحد الفريقين في الحقيقة، فإنّ المؤمنين يضمرون الإيمان كما يظهرون و المشركون يظهرون الكفر كما يضمرونه.

[وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا] أي طريقا و مذهبا و قد مضى ذكر معنى الإضلال مشروحا في سورة البقرة عند قوله: «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» (1) فلا معنى لإعادته.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 144 الى 146]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)

المعنى: ثمّ نهى سبحانه عن موالاة المنافقين فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ] أي أنصارا [مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فتكونوا مثلهم [أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً] أي حجّة ظاهرة و هو استفهام يراد به التقرير.

و فيه دلالة على أنّ اللّه لا يعاقب أحدا إلّا بعد قيام الحجّة عليه و الاستحقاق به و إنّه لا يعاقب الأطفال بذنوب الآباء، و أنّه كان لا حجّة له على الخلق لو لا معاصيهم، قال الحسن:

معناه: أ تريدون أن تجعلوا للّه سبيلا إلى عذابكم بكفركم و تكذيبكم.

[إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ] أي في الطبق الأسفل من النار فإنّ للنار طبقات و دركات كما أنّ للجنّة درجات فيكون المنافق على أسفل طبقة منها لقبح عمله، عن ابن كثير و أبي عبيدة و جماعة. و قيل: إنّ المنافقين في توابيت من حديد مغلقة عليهم في النار، عن عبد اللّه بن مسعود و ابن عبّاس. و قيل: إنّ الإدراك يجوز أن يكون منازل بعضها

ص: 209


1- البقرة: 26.

أسفل من بعض بالمسافة، و يجوز أن يكون ذلك إخبارا عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال: إنّ السلطان بلّغ فلانا الحضيض و بلّغ فلانا العرش، يريدون بذلك انحطاط المنزلة و علوّها لا المسافة، عن أبي القاسم البلخيّ.

[وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً] و لا تجد يا محمّد لهؤلاء المنافقين ناصرا ينصرهم فينقذهم من عذاب اللّه إذ جعلهم في أسفل طبقة من النار.

ثمّ استثنى تعالى فقال: [إِلَّا الَّذِينَ تابُوا] من نفاقهم [وَ أَصْلَحُوا] نيّاتهم، و قيل:

ثبتوا على التوبة في المستقبل [وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي تمسّكوا بكتاب اللّه و صدّقوا رسله، و قيل: وثقوا باللّه [وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أي تبرّؤوا من الآلهة و الأنداد. و قيل: طلبوا بإيمانهم رحمة اللّه و رضاه مخلصين، عن الحسن [فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي فإنّهم إذا فعلوا ذلك يكونون في الجنّة مع المؤمنين و محلّ الكرامة [وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً] «سوف» كلمة ترجئة وعدة و إطماع و هي من اللّه إيجاب لأنّه أكرم الأكرمين و وعد الكريم إنجاز.

و لم يشرط على غير المنافقين في التوبة من الإصلاح و الاعتصام ما شرطه عليهم، ثمّ شرط عليهم بعد ذلك الإخلاص لأنّ النفاق ذنب القلب، و الإخلاص توبة القلب، ثمّ قال:

فأولئك مع المؤمنين، و لم يقل فأولئك المؤمنون أو من المؤمنين غيظا عليهم، ثمّ أتى بلفظ «سوف» في أجر المؤمنين لانضمام المنافقين إليهم هذا إذا عنى به جميع المؤمنين من تقدّم منه الكفر و من لم يتقدّم، و يحتمل أن يكون المراد به زيادة الثواب لمن لم يسبق منه كفر و لا نفاق.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 147]

ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

. المعنى: خاطب سبحانه بهذه الآية المنافقين الّذين تابوا و آمنوا و أصلحوا أعمالهم فقال:

[ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أي ما يصنع اللّه بعذابكم؟ و المعنى لا حاجة للّه إلى عذابكم و جعلكم في الدرك الأسفل من جهنّم لأنّه لا يجتلب بعذابكم نفعا و لا يدفع به عن نفسه

ص: 210

ضررا إذ هما يستحيلان عليه [إِنْ شَكَرْتُمْ أي أدّيتم الحقّ الواجب للّه عليكم و شكرتموه على نعمه [وَ آمَنْتُمْ به و برسوله و أقررتم بما جاء به من عنده.

[وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً] يعني لم يزل سبحانه مجازيا لكم على الشكر فسمّي الجزاء باسم المجزيّ عليه [عَلِيماً] بما يستحقّونه من الثواب على الطاعات فلا يضيّع عنده شي ء منها، عن قتادة و غيره. و قيل: معناه: إنّه يشكر القليل من أعمالكم و يعلم ما ظهر و ما بطن من أفعالكم و أقوالكم و يجازيكم عليها. و قال الحسن: معناه: إنّه يشكر خلقه على طاعتهم مع غناه عنهم فيعلم بأعمالهم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 148 الى 149]

لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)

المعنى: [لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ قيل في معناه أقوال:

أحدها: لا يحبّ اللّه الشتم في الانتصار [إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين، عن الحسن و السدّيّ و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام و نظيره: «وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» (1) قال الحسن: و لا يجوز للرجل إذا قيل له: «يا زاني» أن يقابل له بمثل ذلك من أنواع الشتم.

و ثانيها: أنّ معناه لا يحبّ اللّه الجهر بالدعاء على أحد إلّا أن يظلم إنسان فيدعو على من ظلمه فلا يكره ذلك، عن ابن عبّاس، و قريب منه قول قتادة: و يكره رفع الصوت بما يسوء الغير إلّا المظلوم يدعو على من ظلمه.

و ثالثها: أنّ المراد لا يحبّ أن يذمّ أحدا أحد أو يشكوه أو يذكره بالسوء إلّا أن يظلم فيجوز له أن يشكو من ظلمه و يظهر أمره و يذكره بسوء ما قد صنعه ليحذره الناس، عن مجاهد.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فلا جناح عليه في أن يذكره بسوء ما فعله.

ص: 211


1- الشعراء: 227.

[وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً] لما يجهر به من سوء القول [عَلِيماً] بصدق الصادق و كذب الكاذب فيجازي كلّا بعمله. و في هذه الآية دلالة على أنّ الرجل إذا هتك ستره و أظهر فسقه جاز إظهار ما فيه، و قد جاء في الحديث: قولوا في الفاسق ما فيه يعرفه الناس، و لا غيبة لفاسق. و فيها ترغيب في مكارم الأخلاق و نهي عن كشف عيوب الخلق و إخبار بتنزيه ذاته تعالى عن إرادة القبائح، فإنّ المحبّة إذا تعلّقت بالفعل فمعناها الإرادة.

ثمّ خاطب سبحانه جميع المكلّفين فقال: [إِنْ تُبْدُوا] أي تظهروا [خَيْراً] أي حسنا جميلا من القول لمن أحسن إليكم شكرا على إنعامه عليكم [أَوْ تُخْفُوهُ أي تتركوا إظهاره.

و قيل: معناه إن تفعلوا خيرا أو تعزموا عليه. و قيل: يريد بالخير المال أي تظهروا صدقة أو تخفوها [أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ] معناه أو تصفحوا عمّن أساء إليكم مع القدرة على الانتقام منه فلا تجهروا له بالسوء من القول الّذي أذنت لكم في أن تجهروا به [فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا] أي صفوحا عن خلقه يفصح لهم عن معاصيهم [قَدِيراً] أي قادرا على الانتقام منهم، و هذا حثّ منه سبحانه لخلقه على العفو عن المسي ء مع القدرة على الانتقام و المكافاة فإنّه تعالى مع كمال قدرته يعفو عنهم ذنوبا أكثر من ذنب من يسي ء إليهم، و قد تضمّنت الآية الّتي قبلها إباحة الانتصاف من الظالم بشرط أن يقف فيه على حدّ الظلم و موجب الشرع.

النظم: الوجه في اتّصال هذه الآية بما قبلها أنّه لمّا سبق ذكر أهل النفاق و هو الإظهار خلاف الإبطان بيّن سبحانه أنّه ليس كلّما يقع في النفس يجوز إظهاره فإنّه ربّما يكون ظنّا فإذا تحقّق ذلك جاز إظهاره، عن عليّ بن عيسى.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 150 الى 152]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)

المعنى: لمّا قدّم سبحانه ذكر المنافقين عقّبه بذكر أهل الكتاب و المؤمنين فقال:

ص: 212

[إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ من اليهود و النصارى [وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ أي يكذّبوا رسل اللّه الّذين أرسلهم إلى خلقه و أوحى إليهم، و ذلك معنى إرادتهم التفريق بين اللّه و رسله [وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ أي يقولون: نصدّق بهذا و نكذّب بذاك كما فعل اليهود صدّقوا بموسى و من تقدّمه من الأنبياء و كذّبوا بعيسى و محمّد، و كما فعلت النصارى صدّقوا عيسى و من تقدّمه من الأنبياء و كذّبوا بمحمّد [وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا] أي طريقا إلى الضلالة الّتي أحدثوها و البدعة الّتي ابتدعوها يدعون جهّال الناس إليه.

[أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا] أي هؤلاء الّذين أخبرنا عنهم بأنّهم يؤمنون ببعض و يكفرون ببعض الكافرون حقيقة، فاستيقنوا ذلك و لا ترتابوا بدعوتهم أنّهم يقرّون بما زعموا أنّهم مقرّون به من الكتب و الرسل، فإنّهم لو كانوا صادقين في ذلك لصدّقوا جميع رسل اللّه، و إنّما قال تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا» على وجه التأكيد لئلّا يتوهّم متوهّم أنّ قولهم: «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ» يخرجهم من جنس الكفّار و يلحقهم بالمؤمنين.

[وَ أَعْتَدْنا] أي أعددنا و هيّأنا [لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً] يهينهم و يذلّهم.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أي صدّقوا اللّه و وحّدوه و أقرّوا بنبوّة رسله [وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بل آمنوا بجميعهم [أولئك سوف نؤتيهم أي سنعطيهم (1) [أُجُورَهُمْ و سمّى اللّه الثواب أجرا دلالة على أنّه مستحقّ أي نعطيهم ثوابهم الّذي استحقّوه على إيمانهم باللّه و رسله [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] أي لم يزل كان غفورا لمن هذه صفتهم ما سلف لهم من المعاصي و الآثام رحيما متفضّلا عليهم بأنواع الأنعام هاديا لهم إلى دار السلام.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 153 الى 154]

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)

النزول: روي أن كعب بن الأشرف و جماعة من اليهود قالوا: يا محمّد إن كنت

ص: 213


1- على قراءة النون.

نبيّا فأتنا بكتاب من السماء جملة، أي كما أتى موسى بالتوراة جملة فنزلت الآية، عن السدّيّ.

المعنى: لمّا أنكر سبحانه على اليهود التفريق بين الرسل في الإيمان عقّبه بالإنكار عليهم في طلبهم المحالات مع ظهور الآيات و المعجزات فقال:

[يَسْئَلُكَ يا محمّد [أَهْلُ الْكِتابِ يعني اليهود [أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ] و اختلف في معناه على أقوال:

أحدها: أنّهم سألوا أن ينزّل عليهم كتابا من السماء مكتوبا كما كانت التوراة مكتوبة من عند اللّه في الألواح، عن محمّد بن كعب و السدّيّ.

و ثانيها: أنّهم سألوه أن ينزّل على رجال منهم بأعيانهم كتبا يأمرهم اللّه تعالى فيها بتصديقه و اتّباعه، عن ابن جريح و اختاره الطبريّ.

و ثالثها: أنّهم سألوا أن ينزّل عليهم كتابا خاصّا بهم، عن قتادة. و قال الحسن:

إنّما سألوا ذلك للتعنّت و التحكّم في طلب المعجزات لا لظهور الحقّ، و لو سألوه ذلك استرشادا لا عنادا لأعطاهم اللّه ذلك.

[فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ أي لا يعظمنّ عليك يا محمّد مسألتهم إيّاك إنزال الكتب عليهم من السماء، فإنّهم يعني اليهود سألوا موسى أعظم من ذلك بعد ما أتاهم بالآيات الظاهرة و المعجزات القاهرة الّتي يكفي الواحد منها في معرفة صدقه و صحّة نبوّته فلم يقنعهم ذلك.

[فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً] أي معاينة [فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ أنفسهم بهذا القول و قد ذكرنا قصّة هؤلاء و تفسير أكثر ما في الآية في سورة البقرة عند قوله: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، الآية» (1) و قوله: «وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ*، الآية» (2).

[ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عبدوه و اتّخذوه إلها [مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الحجج الباهرات، قد دلّ اللّه بهذا على جهل القوم و عنادهم.

ص: 214


1- الآية: 55.
2- الآية: 63.

[فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ مع عظم جريمتهم و خيانتهم، و قد أخبر اللّه بهذا عن سعة رحمته و مغفرته و تمام نعمته و أنّه لا جريمة تضيق عنها رحمته و لا خيانة تقصر عنها مغفرته [وَ آتَيْنا مُوسى أي أعطيناه [سُلْطاناً مُبِيناً] أي حجّة ظاهرة تبين عن صدقه و صحّة نبوّته.

[وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ] أي الجبل لمّا امتنعوا من العمل بما في التوراة و قبول ما جاءهم به موسى [بِمِيثاقِهِمْ أي بما أعطوا اللّه سبحانه من العهد ليعملنّ بما في التوراة، و قيل:

معناه: و رفعنا الجبل فوقهم بنقضهم ميثاقهم الّذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة، و إنّما نقضوه بعبادة العجل و غيرها، عن أبي عليّ الجبّائيّ. و قال أبو مسلم: إنّما رفع اللّه الجبل فوقهم إظلالا لهم من الشمس بميثاقهم أي بعهدهم جزاء لهم على ذلك، و هذا القول يخالف أقوال المفسّرين.

[وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً] يعني باب حطّة، و قد مرّ بيانه هناك.

[وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أي لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما حرّم عليكم، عن قتادة، قال: أمرهم اللّه أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت و أجاز لهم ما عداه [وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً] أي عهدا وثيقا و كيدا بأن يأتمروا بأوامره و ينتهوا عن مناهيه و زواجره.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 155 الى 158]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)

المعنى: ثمّ ذكر سبحانه أفعالهم القبيحة و مجازاته إيّاهم بها فقال:

[فَبِما نَقْضِهِمْ أي فبنقض هؤلاء الّذين تقدّم ذكرهم و وصفهم [مِيثاقَهُمْ أي عهودهم الّتي عاهدوا اللّه عليها أن يعملوا بما في التوراة [وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ أي جحودهم بأعلام اللّه اللّه و حججه و أدلّته الّتي احتجّ بها عليهم في صدق أنبيائه و رسله.

ص: 215

[وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ] بعد قيام الحجّة عليهم بصدقهم [بِغَيْرِ حَقٍ أي بغير استحقاق منهم لذلك بكبيرة أتوها أو خطيئة استوجبوا بها القتل، و قد قدّمنا القول في أمثال هذا و أنّه إنّما يذكر على سبيل التوكيد، فإنّ قتل الأنبياء لا يمكن إلّا أن يكون بغير حقّ و هو مثل قوله: «وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» (1) و المعنى أنّ ذلك لا يكون البتّة عليه برهان [وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ مضى تفسيره في سورة البقرة.

[بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ قد شرحنا معنى الختم و الطبع عند قوله: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» (2) [فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا] أي لا يصدّقون قوله إلّا تصديقا قليلا، و إنما وصفه بالقلّة لأنّهم لم يصدّقوا بجميع ما كان يجب عليهم التصديق، و يجوز أن يكون الاستثناء من الّذين نفى عنهم الإيمان فيكون المعنى: إلّا جمعا قليلا، فكأنّه سبحانه علم أنّه يؤمن من جملتهم جماعة قليلة فيما بعد فاستثناهم في جملة من أخبر عنهم أنّهم لا يؤمنون، و به قال جماعة من المفسّرين مثل قتادة و غيره.

و ذكر بعضهم أنّ الباء في قوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ» يتّصل بما قبله، و المعنى: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم و بنقضهم ميثاقهم و بكفرهم و بكذا و بكذا فتبع الكلام بعضه بعضا.

و قال الطبريّ: إنّ معناه منفصل ممّا قبله يعني فبهذه الأشياء لعنّاهم و غضبنا عليهم، فترك ذكر ذلك لدلالة قوله: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» على معنى ذلك، لأنّ من طبع على قلبه فقد لعن و سخط عليه قال: و إنّما قلنا ذلك لأنّ الّذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى و الّذين قتلوا الأنبياء و الّذين رموا مريم بالبهتان العظيم و قالوا:

«قتلنا عيسى» كانوا بعد موسى عليه السّلام بزمان طويل، و معلوم أنّ الّذين أخذتهم الصاعقة لم يكن ذلك عقوبة على رميهم مريم بالبهتان و لا على قولهم: «إِنَّا قَتَلْنَا» فبان بذلك أنّ الّذين قالوا هذه المقالة غير الّذين عوقبوا بالصاعقة.

و هذا كلام إنّما يتّجه على قول من قال: إنّه يتّصل بما قبله، و لا يتّجه على قول

ص: 216


1- المؤمنون: 118.
2- الآية: 7.

الزجّاج، و هذا أقوى لأنّه إذا أمكن إجراء الكلام على ظاهره من غير تقدير حذف فالأولى أن يحمل عليه.

و قوله: [وَ بِكُفْرِهِمْ أي بجحود هؤلاء لعيسى [وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً] أي أعظم كذب و أشنعه و هو رميهم إيّاها بالفاحشة، عن ابن عبّاس و السدّيّ. قال الكلبيّ مرّ عيسى برهط فقال بعضهم لبعض: قد جاءكم الساحر ابن الساحرة و الفاعل ابن الفاعلة فقذفوه بامّه، فسمع ذلك عيسى فقال: اللهمّ أنت ربّي خلقتني و لم آتهم من تلقاء نفسي اللّهمّ العن من سبّني و سبّ والدتي، فاستجاب اللّه دعوته فمسخهم خنازير.

[وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ يعني قول اليهود: إنّا قتلنا عيسى بن مريم رسول اللّه، حكاه اللّه تعالى عنهم أي رسول اللّه في زعمه، و قيل: إنّه من قول اللّه سبحانه على وجه الحكاية عنهم و تقديره: الّذي هو رسولي.

[وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ و اختلفوا في كيفيّة التشبيه فروي عن ابن عبّاس أنّه قال: لمّا مسخ اللّه تعالى الّذين سبّوا عيسى و امّه بدعائه بلغ ذلك يهودا و هو رأس اليهود، فخاف أن يدعو عليه فجمع اليهود فاتّفقوا على قتله، فبعث اللّه تعالى جبرائيل يمنعه منهم و يعينه عليهم و ذلك معنى قوله: «وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ»* (1) فاجتمع اليهود حول عيسى فجعلوا يسألونه فيقول لهم: يا معشر اليهود إنّ اللّه تعالى يبغضكم، فساروا إليه ليقتلوه فأدخله جبرائيل في خوخة البيت الداخل لها روزنة في سقفها فرفعه جبرائيل إلى السماء، فبعث يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه اسمه طيطانوس ليدخل عليه الخوخة فيقتله فدخل فلم يره، فأبطأ عليهم فظنّوا أنّه يقاتله في الخوخة، فألقى اللّه عليه شبه عيسى فلمّا خرج على أصحابه قتلوه و صلبوه، و قيل: ألقى عليه شبه وجه عيسى و لم يلق عليه شبه جسده، فقال بعض القوم: إنّ الوجه وجه عيسى و الجسد جسد طيطانوس. و قال بعضهم:

إن كان هذا طيطانوس فأين عيسى و إن كان هذا عيسى فأين طيطانوس؟ فاشتبه الأمر عليهم.

و قال وهب بن منبّه: أتى عيسى و معه سبعة من الحواريّين في بيت فأحاطوا بهم، فلمّا دخلوا عليهم صيّرهم اللّه كلّهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا، ليبرزنّ لنا عيسى

ص: 217


1- البقرة: 87.

أو لنقتلنّكم جميعا، فقال عيسى لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنّة، فقال رجل منهم اسمه سرجس: أنا، فخرج إليهم فقال: أنا عيسى. فأخذوه و قتلوه و صلبوه و رفع اللّه عيسى من يومه ذلك، و به قال قتادة و مجاهد و ابن إسحاق و إن اختلفوا في عدد الحواريّين.

و لم يذكر أحد غير وهب أنّ شبهه القي على جميعهم بل قالوا: القي شبهه على واحد و رفع عيسى عليه السّلام من بينهم.

قال الطبريّ: و قول وهب أقوى لأنّه لو القي الشبه على واحد منهم مع قول عيسى:

أيّكم يلقى عليه شبهي فله الجنّة، ثمّ رأوا عيسى رفع من بينهم، لما اشتبه عليهم و لما اختلفوا فيه و إن جاز أن يشتبه على أعدائهم من اليهود الّذين ما عرفوه لكن القي الشبه على جميعهم و كانوا يرون كلّ واحد منهم بصورة عيسى، فلمّا قتل أحدهم اشتبه الحال عليهم.

و قال أبو عليّ الجبّائيّ: إنّ رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه و صلبوه على موضع عال و لم يمكّنوا أحدا من الدنوّ إليه، فتغيّرت حليته و قالوا: قد قتلنا عيسى ليوهموا بذلك على عوامّهم لأنّهم كانوا أحاطوا بالبيت الّذي فيه عيسى عليه السّلام فلمّا دخلوه كان عيسى قد رفع من بينهم فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود به ففعلوا ذلك، و الّذين اختلفوا فيه هم غير الّذين صلبوه و إنّما هم باقي اليهود.

و قيل: إنّ الّذي دلّهم عليه و قال «هذا عيسى» أحد الحواريّين أخذ على ذلك ثلاثين درهما و كان منافقا، ثمّ إنّه ندم على ذلك و اختنق حتّى قتل نفسه، و كان اسمه بودس زكريّا بوطا، و هو ملعون في النصارى، و بعض النصارى يقول: إنّ بودس زكريّا بوطا هو الّذي شبّه لهم فصلبوه، و هو يقول: لست بصاحبكم أنا الّذي دللتكم عليه.

و قيل: إنّهم حبسوا المسيح مع عشرة من أصحابه في بيت، فدخل رجل من اليهود فألقى اللّه تعالى عليه شبه عيسى و رفع عيسى فقتلوا الرجل، عن السدّيّ.

[وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ قيل: يعني بذلك عامّتهم لأنّ علماءهم علموا أنّه غير مقتول، عن الجبّائيّ. و قيل: أراد بذلك جماعة اختلفوا فقال بعضهم: قتلناه، و قال بعضهم: لم نقتله [ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ أي لم يكن لهم بمن قتلوه علم لكنّهم اتّبعوا ظنّهم فقتلوه ظنّا منهم أنّه عيسى و لم يكن به.

ص: 218

و إنّما شكّوا في ذلك لأنّهم عرفوا عدّة من في البيت، فلمّا دخلوا عليهم و فقدوا واحدا منهم التبس عليهم أمر عيسى و قتلوا من قتلوه على شكّ منهم في أمر عيسى، هذا على قول من قال: لم يتفرّق أصحابه حتّى دخل عليهم اليهود، و أمّا من قال: تفرّق أصحابه عنه فإنّه يقول: كان اختلافهم في أنّ عيسى هل كان فيمن بقي أو كان فيمن خرج اشتبه الأمر عليهم. و قال الحسن: معناه فاختلفوا في عيسى فقالوا مرّة: هو عبد اللّه، و مرّة:

هو ابن اللّه، و مرّة: هو اللّه. و قال الزجّاج: معنى اختلاف النصارى فيه أنّ منهم من ادّعى أنّه إله لم يقتل و منهم من قال: قتل.

[وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً] اختلف في الهاء في «قَتَلُوهُ» فقيل: إنّه يعود إلى الظنّ أي ما قتلوا ظنّهم يقينا كما يقال: ما قتلته علما، عن ابن عبّاس و جويبر، و معناه: ما قتلوا ظنّهم الّذي اتّبعوه في المقتول الّذي قتلوه و هم يحسبونه عيسى يقينا أنّه عيسى و لا أنّه غيره، لكنّهم كانوا منه على شبهة. و قيل: إنّ الهاء عائد إلى عيسى يعني ما قتلوه يقينا أي حقّا فهو من باب تأكيد الخبر، عن الحسن، أراد أنّ اللّه تعالى نفى عن عيسى القتل على وجه التحقيق و اليقين.

[بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يعني بل رفع اللّه عيسى إليه و لم يصلبوه و لم يقتلوه، و قد مرّ تفسيره في سورة آل عمران عند قوله: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ» (1) [وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً] معناه لم يزل اللّه سبحانه منتقما من أعدائه حكيما في أفعاله و تقديراته، فاحذروا أيّها السائلون محمّدا أن ينزّل عليكم كتابا من السماء حلول عقوبة بكم كما حلّ بأوائلكم في تكذيبهم رسله، عن ابن عبّاس.

و ما مرّ في تفسير هذه الآية من أنّ اللّه ألقى شبه عيسى على غيره فإنّ ذلك من مقدور اللّه بلا خلاف بين المسلمين فيه، و يجوز أن يفعله اللّه سبحانه على وجه التغليظ للمحنة و التشديد في التكليف، و إن كان ذلك خارقا للعادة فإنّه يكون معجزا للمسيح، كما روي أنّ جبرائيل كان يأتي نبيّنا صلى اللّه عليه و آله في صورة دحية الكلبيّ.

و ممّا يسأل عن هذه الآية أن يقال: قد تواترت اليهود و النصارى مع كثرتهم و

ص: 219


1- ال عمران: 55.

اجتمعت على أنّ المسيح قد قتل و صلب، فكيف يجوز عليهم أن يخبروا عن النبيّ بخلاف ما هو به؟ و لو جاز ذلك فكيف يوثق بشي ء من الأخبار؟

و الجواب أنّ هؤلاء دخلت عليهم الشبهة كما أخبر اللّه سبحانه عنهم بذلك، فلم يكن اليهود يعرفون عيسى بعينه و إنّما أخبروا أنّهم قتلوا رجلا قيل لهم: إنّه عيسى، فهم في خبرهم صادقون، و إن لم يكن المقتول عيسى عليه السّلام و إنّما اشتبه الأمر على النصارى لأنّ شبه عيسى القي على غيره، فرأوا من هو على صورته مقتولا مصلوبا فلم يخبر أحد من الفريقين إلّا عمّار آه و ظنّ أنّ الأمر على ما أخبر به فلا يؤدّي ذلك إلى بطلان الأخبار بحال.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 159]

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)

المعنى: ثمّ أخبر تعالى أنّه لا يبقى أحد منهم إلّا و يؤمن به فقال:

[وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ اختلف فيه على أقوال:

أحدها: أنّه كلا الضميرين يعودان إلى المسيح أي ليس يبقى أحد من أهل الكتاب من اليهود و النصارى إلّا و يؤمننّ بالمسيح قبل موت المسيح إذا أنزله اللّه إلى الأرض وقت خروج المهديّ عليه السّلام في آخر الزمان لقتل الدجّال، فتصير الملل كلّها ملّة واحدة و هي ملّة الإسلام الحنيفيّة دين إبراهيم، عن ابن عبّاس و أبي مالك و الحسن و قتادة و ابن زيد، و ذلك حين لا ينفعهم الإيمان، و اختاره الطبريّ قال: و الآية خاصّة لمن يكون منهم في ذلك الزمان.

و ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّ أباه حدّثه عن سليمان بن داود المنقريّ عن أبي حمزة الثماليّ عن شهر بن حوشب قال: قال الحجّاج بن يوسف: آية من كتاب اللّه قد أعيتني قوله: «وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الآية» و اللّه إنّي لا مر باليهوديّ و النصرانيّ فيضرب عنقه ثمّ أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يحمل، فقلت: أصلح اللّه الأمير ليس على ما أوّلت! قال: فكيف هو؟ قلت: إنّ عيسى بن مريم ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا و لا يبقى أهل ملّة يهوديّ أو نصراني أو غيره إلّا و آمن به قبل موت عيسى و يصلّي خلف المهديّ عليه السّلام، قال: ويحك أنّى لك هذا و من أين جئت به؟ قال قلت:

ص: 220

حدّثني به الباقر محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السّلام) قال: جئت و اللّه بها من عين صافية. فقيل لشهر: ما أردت بذلك؟ قال: أردت أن أغيظه.

و ذكر أبو القاسم البلخيّ مثل ذلك، و ضعّف الزجّاج هذا الوجه قال: إنّ الّذين يبقون إلى زمن عيسى من أهل الكتاب قليل، و الآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب، إلّا أنّ جميعهم يقولون: إنّ عيسى الّذي ينزل في آخر الزمان نحن نؤمن به.

و ثانيها: أنّ الضمير في «به» يعود إلى المسيح، و الضمير في «موته» يعود إلي الكتابيّ، و معناه: لا يكون أحد من أهل الكتاب يخرج من الدنيا إلّا و يؤمن بعيسى قبل موته إذا زال تكليفه و تحقّق الموت، و لكن لا ينفعه الإيمان حينئذ، و إنّما ذكر اليهود و النصارى لأنّ جميعهم مبطلون: اليهود بالكفر به و النصارى بالغلوّ في أمره، و ذهب إليه ابن عبّاس في رواية اخرى و مجاهد و الضحّاك و ابن سيرين و جويبر قالوا: و لو ضربت رقبته لم تخرج نفسه حتّى يؤمن.

و ثالثها: أن يكون المعنى ليؤمننّ بمحمّد صلى اللّه عليه و آله قبل موت الكتابيّ، عن عكرمة و رواه أيضا أصحابنا، و ضعّف الطبريّ هذا الوجه بأن قال: لو كان ذلك صحيحا لما جاز إجراء أحكام الكفّار عليهم إذا ماتوا، و هذا لا يصحّ لأنّ إيمانهم بحمد صلى اللّه عليه و آله إنّما يكون في حال زوال التكليف فلا يعتدّ به، و إنّما ضعّف هذا القول من حيث لم يجر ذكر لنبيّنا صلى اللّه عليه و آله هاهنا، و لا ضرورة توجب ردّ الكناية إليه و قد جرى ذكر عيسى فالأولى أن يصرف ذلك إليه.

[وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً] يعني عيسى يشهد عليهم بأنّه قد بلّغ رسالات ربّه و أقرّ على نفسه بالعبوديّة، و لم يدعهم إلى أن يتّخذوه إلها، عن قتادة و ابن جريح.

و قيل: يشهد عليهم بتصديق من صدّقه و تكذيب من كذّبه، عن أبي عليّ الجبّائيّ. و في هذه الآية دلالة على أنّ كلّ كافر يؤمن عند المعاينة و على أنّ إيمانه ذلك غير مقبول كما لم يقبل إيمان فرعون في حال اليأس عند زوال التكليف.

و يقرب من هذا ما رواه الإماميّة أنّ المحتضرين من جميع الأديان يرون رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله

ص: 221

و خلفاءه عند الموت، و يروون في ذلك عن عليّ عليه السّلام أنّه قال للحارث الهمدانيّ: (1)

يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرفه و أعرفه بعينه و اسمه و ما فعلا

فإن صحّت هذه الرواية فالمراد برؤيتهم في تلك الحال العلم بثمرة و لا يتهم و عداوتهم على اليقين بعلامات يجدونها من نفوسهم، و مشاهدة أحوال يدركونها كما قد روي أنّ الإنسان إذا عاين الموت أري في تلك الحالة ما يدلّه على أنّه من أهل الجنّة أو من أهل النار.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 160 الى 161]

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)

المعنى: ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم بقوله:

[فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا] أي من اليهود معناه: فبما ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي الّتي تقدّم ذكرها، و قد مضى فيما تقدّم عن الزجّاج أنّه قال: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا» بدل من قوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ» و ما بعده، و العامل في الباء قوله: [حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ و لكنّه لمّا طال الكلام أجمل في قوله: «فَبِظُلْمٍ» ما ذكره قبل، و أخبر أنّه حرّم على اليهود الّذين نقضوا ميثاقهم الّذي واثقوا اللّه عليه و كفروا بآياته و قتلوا أنبياءه، و قالوا على مريم بهتانا عظيما و فعلوا ما وصفه اللّه، طيّبات من المآكل و غيرها [أُحِلَّتْ لَهُمْ أي كانت حلالا لهم قبل ذلك فلمّا فعلوا ما فعلوا اقتضت المصلحة تحريم هذه الأشياء عليهم، عن مجاهد و أكثر المفسّرين و قال أبو عليّ الجبّائيّ: حرّم اللّه سبحانه هذه الطيّبات على الظالمين منهم عقوبة لهم على ظلمهم و هي ما بيّن في قوله تعالى: «وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ الآية.» (2) [وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً] أي و بمنعهم عباد اللّه عن دينه و سبيله الّتي شرعها

ص: 222


1- الأبيات للحميري نظم بها حديثا جرى بين امير المؤمنين عليه السلام و حارث و أول القطعة: قول على لحارث عجب.
2- الانعام: 146.

لعباده صدّا كثيرا، و كان صدّهم عن سبيل اللّه بقولهم على اللّه الباطل و ادّعائهم أنّ ذلك عن اللّه و تبديلهم كتاب اللّه و تحريفهم معانيه عن وجوهه، و أعظم من ذلك كلّه جحدهم نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و تركهم بيان ما علموه من أمره لمن جهله من الناس، عن مجاهد و غيره.

[وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا] أي ما فضل على رؤوس أموالهم بتأخيرهم له عن محلّه إلى أجل آخر [وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ أي عن الرباء [وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي بغير استحقاق و لا استيجاب و هو ما كانوا يأخذونه من الرشى في الأحكام، كقوله: «وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ»* (1) و ما كانوا يأخذونه من أثمان الكتب الّتي كانوا يكتبونها بأيديهم و يقولون: هذا من عند اللّه، و ما أشبه ذلك من المآكل الخبيثة، عاقبهم اللّه تعالى على جميع ذلك بتحريم ما حرّم عليهم من الطيّبات.

[وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ أي هيّأنا يوم القيامة لمن جحد اللّه أو الرسل من هؤلاء اليهود [عَذاباً أَلِيماً] أي مولما موجعا.

و اختلف في أنّ التحريم هل كان على وجه العقوبة أم لا؟ فقال جماعة من المفسّرين:

إنّ ذلك كان عقوبة. و إذا جاز التحريم ابتداء على جهة المصلحة جاز أيضا عند ارتكاب المعصية على جهة العقوبة، و قال أبو عليّ: كان تحريمه عقوبة فيمن تعاطى ذلك الظلم و مصلحة في غيرهم. و قال أبو هاشم: إنّ التحريم لا يكون إلّا للمصلحة، و لمّا صار التحريم مصلحة عند إقدامهم على هذا الظلم جاز أن يقال: حرّم عليهم بظلمهم، قال: لأنّ التحريم تكليف يستحقّ الثواب بفعله و يجب الصبر على أدائه فهو معدود في النعم بخلاف العقوبات.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 162]

لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)

المعنى: ثمّ ذكر سبحانه مؤمني أهل التوراة فقال:

[لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ والدين. ذلك أنّ عبد اللّه بن سلام و أصحابه قالوا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّ اليهود لتعلم أنّ الّذي جئت به حقّ و أنّك لعندهم مكتوب في التوراة، فقالت

ص: 223


1- المائدة: 65- 66.

اليهود: ليس كما يقولون إنّهم لا يعلمون شيئا و إنّهم يغرّونك و يحدّثونك بالباطل، فقال اللّه تعالى: لكن الراسخون الثابتون المبالغون في العلم المدارسون بالتوراة [مِنْهُمْ أي من اليهود يعنى ابن سلام و أصحابه من علماء اليهود [وَ الْمُؤْمِنُونَ يعني أصحاب النبيّ من غير أهل الكتاب [يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا محمّد من القرآن و الشرائع أنّه حقّ [وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب على الأنبياء و الرسل.

و قيل: إنّما استثنى اللّه تعالى من وصفهم ممّن هداه اللّه لدينه و وفّقه لرشده من اليهود الّذين ذكرهم فيما مضى من قوله: «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ» إلى هاهنا فقال: لكنّهم لا يسألونك ما يسأل هؤلاء الجهّال من إنزال الكتب من السماء لأنّهم قد علموا مصداق قولك بما قرءوا في الكتب المنزلة على الأنبياء و وجوب اتّباعك عليهم، فلا حاجة لهم إلى أن يسألوك معجزة اخرى و لا دلالة غير ما علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم، عن قتادة و غيره.

[وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ] إذا كان نصبا على الثناء و المدح على تقدير و اذكر المقيمين الصلاة و هم المؤتون الزكاة، و يكون على هذا عطفا على قوله: «الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ» و المعنى و الّذين يؤدّون الصلاة بشرائطها. و إذا كان جرّا عطفا على «ما أُنْزِلَ» أي يؤمنون بما انزل إليك و ما انزل من قبلك و المقيمين الصلاة؛ فقيل: إنّ المراد بهم الأنبياء أي و يؤمنون بالأنبياء المقيمين للصلاة. و قيل: المراد بهم الملائكة و إقامتهم للصلاة تسبيحهم ربّهم و استغفارهم لمن في الأرض أي و بالملائكة، و اختاره الطبريّ قال: لأنّه في قراءة ابيّ و كذلك هو في مصحفه. و قيل: المراد بهم الأئمّة المعصومون.

[وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ] أي و المعطون زكاة أموالهم [وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بأنّه واحد لا شريك له [وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] و بالبعث الّذي فيه جزاء الأعمال [أُولئِكَ أي هؤلاء الّذين وصفهم اللّه [سَنُؤْتِيهِمْ أي سنعطيهم [أَجْراً] أي ثوابا و جزاء على ما كان منهم من طاعة اللّه و اتّباع أمره [عَظِيماً] أي جزيلا و هو الخلود في الجنّة.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 163]

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)

ص: 224

المعنى: ثمّ خاطب سبحانه نبيّه بقوله: [إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد. قدّمه في الذكر و إن تأخّرت نبوّته لتقدّمه في الفضل [كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ و قدّم نوحا لأنّه أبو البشر كما قال: «وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» (1) و قيل: لأنّه كان أطول الأنبياء عمرا و كانت معجزته في نفسه لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما لم يسقط له سنّ و لم تنقص قوّته و لم يشب شعره. و قيل: لأنّه لم يبالغ أحد منهم في الدعوة مثل ما بالغ فيها و لم يقاس أحد من قومه ما قاساه و هو أوّل من عذّبت امّته بسبب أن ردّت دعوته [وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أي و أوحينا إلى النبيّين من بعد نوح.

[وَ أَوْحَيْنا إِلى النبيّين [إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أعاد ذكر النبيّين تعظيما لأمرهم و تفخيما لشأنهم [وَ الْأَسْباطِ] و هم أولاد يعقوب، و قيل: إنّ الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل، و قد بعث منهم عدّة رسل كيوسف و داود و سليمان و موسى و عيسى عليهم السّلام، فيجوز أن يكون أراد بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم كما تقول:

أرسلت إلى بني تميم، إذا أرسلت إلى وجوههم، و لم يصحّ أنّ الأسباط الّذين هم إخوة يوسف كانوا أنبياء.

[وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ و قدّم عيسى عليه السّلام على أنبياء كانوا قبله لشدّة العناية بأمره لغلوّ اليهود في الطعن فيه، و الواو لا يوجب الترتيب [وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً] أي كتابا يسمّى زبورا و اشتهر به كما اشتهر كتاب موسى بالتوراة و كتاب عيسى بالإنجيل.

النظم: هذه الآية تتّصل بما قبلها من قوله «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ» و هذا يدلّ على أنّهم قد سألوا ما يدلّ على نبوّته فأخبر سبحانه أنّه أرسله كما أرسل من تقدّمه من الأنبياء و أظهر بعد موسى على أيديهم.

و قيل: إنّ اليهود لمّا تلا النبيّ صلى اللّه عليه و آله عليهم تلك الآيات قالوا: ما أنزل اللّه على بشر من شي ء بعد موسى، فكذّبهم بهذه الآيات إذ أخبر أنّه قد أنزل على من بعد موسى من الّذين سمّاهم و ممّن لم يسمّهم، عن ابن عبّاس.

ص: 225


1- الصافات: 77.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 164 الى 165]

وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)

المعنى: ثمّ أجمل ذكر الرسل بعد تسمية بعضهم فقال:

[وَ رُسُلًا] أي و رسلا آخرين [قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ أي ما حكينا لك أخبارهم و عرّفناك شأنهم و أمورهم [مِنْ قَبْلُ قال بعضهم: قصّهم عليه بالوحي في غير القرآن من قبل ثمّ قصّهم عليه من بعد في القرآن. و قال بعضهم: قصّهم عليه من قبل هؤلاء بمكّة في سورة الأنعام و في غيرها لأنّ هذه السورة مدنيّة.

[وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ هذا يدلّ على أنّ اللّه سبحانه أرسل رسلا كثيرة لم يذكرهم في القرآن و إنّما قصّ بعضهم على النبيّ لفضيلتهم على من لم يقصصهم عليه.

[وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً] فائدته أنّه سبحانه كلّم موسى عليه السّلام بلا واسطة إبانة له بذلك من سائر الأنبياء؛ لأنّ جميعهم كلّمهم اللّه سبحانه بواسطة الوحي، و قيل: إنّما قال:

«تَكْلِيماً» ليعلم أنّ كلام اللّه علا ذكره من جنس هذا المعقول الّذي يشتقّ من التكليم بخلاف ما قاله المبطلون، و روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا قرأ الآية الّتي قبل هذه على الناس قالت اليهود فيما بينهم: ذكر محمّد النبيّين و لم يبيّن لنا أمر موسى، فلمّا نزلت هذه الآية و قرأها عليهم قالوا: إنّ محمّدا قد ذكره و فضّله بالكلام عليهم.

[رُسُلًا مُبَشِّرِينَ بالجنّة و الثواب لمن آمن و أطاع [وَ مُنْذِرِينَ بالنار و العقاب لمن كفر و عصى [لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيقولوا: لم ترسل إلينا رسولا و لو أرسلت لآمنّا بك، كما أخبر سبحانه في آية اخرى بقوله: «لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا» (1).

و في هذه الآية دلالة على فساد قول من زعم أنّ عند اللّه تعالى من اللطف ما لو فعله بالكافر لآمن؛ لأنّه لو كان كذلك لكان للكفّار الحجّة بذلك على اللّه تعالى قائمة، فأمّا من لم يعلم من حاله أنّ له في إنفاذ الرسل إليه لطفا فالحجّة قائمة عليه بالعقل، و أدلّته الدالّة على توحيده و عدله و لو لم يقم الحجّة إلّا بإنفاذ الرسل لفسد ذلك من وجهين:

أحدهما: أنّ صدق الرسول لا يمكن العلم به إلّا بعد تقدّم العلم بالتوحيد و العدل

ص: 226


1- طه: 134.

فإن كانت الحجّة عليه غير قائمة فلا طريق له إلّا معرفة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و صدقه.

و الثاني: أنّه لو كانت الحجّة لا تقوم إلّا بالرسل لاحتاج الرسول أيضا إلى رسول آخر حتّى تكون الحجّة عليه قائمة، و الكلام في رسوله كالكلام فيه حتّى يتسلسل و ذلك فاسد، فمن استدلّ بهذه الآية على أنّ التكليف لا يصحّ بحال إلّا بعد إنفاذ الرسل فقد أبعد لما قلناه.

[وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً] أي مقتدرا على الانتقام ممّن يعصيه و يكفر به [حَكِيماً] فيما أمر به عباده و في جميع أفعاله.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 166]

لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)

النزول: و قيل: إنّ جماعة من اليهود دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال النبيّ لهم:

إنّي أعلم أنّكم تعلمون أنّي رسول اللّه، فقالوا: لا نعلم ذلك و لا نشهد به، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

المعنى: ثمّ قال سبحانه بعد إنكارهم و جحودهم: [لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ معناه: إن لم يشهد لك هؤلاء بالنبوّة فاللّه يشهد لك بذلك، قال الزجّاج: و الشاهد هو المبيّن لما يشهد به و اللّه سبحانه يبيّن ما أنزل على رسوله صلى اللّه عليه و آله بنصب المعجزات له و يبيّن صدقه بما يغني عن بيان أهل الكتاب.

[أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ معناه: أنزل القرآن و هو عالم بأنّك موضع لإنزاله عليك لقيامك فيه بالحقّ و دعائك الناس إليه، و قيل: معناه أنزل القرآن الّذي فيه علمه، عن الزجّاج.

[وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ بأنّك رسول اللّه و أنّ القرآن نزل من عنده [وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً] معناه: أنّ شهادة اللّه تكفي في تثبيت المشهود و لا يحتاج معها إلى شهادة.

و في هذه الآية تسلية النبيّ صلى اللّه عليه و آله على تكذيب من كذّبه و لا يصحّ قول من استدلّ على أنّ اللّه سبحانه عالم بعلم غير ذاته بما في هذه الآية من قوله: «أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ» لأنّه لو أراد بالعلم ما ذهبوا إليه من كونه ذاتا سواه لوجب أن يكون آلة له في الإنزال كما يقال:

كتبت بالقلم و عمل النجّار بالقدوم، و لا خلاف أنّ العلم ليس بآية في الإنزال.

ص: 227

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 167 الى 169]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)

المعنى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] بأنفسهم [وَ صَدُّوا] غيرهم [عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الدين الّذي بعثك اللّه به إلى خلقه [قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً] يعني جاوزوا عن قصد الطريق جوازا شديدا، و زالوا عن الحجّة الّتي هي دين اللّه الّذي ارتضاه لعباده، و بعثك به إلى خلقه زوالا بعيدا عن الرشاد.

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] جحدوا رسالة محمّد [وَ ظَلَمُوا] محمّدا بتكذيبهم إيّاه و مقامهم على الكفر على علم منهم بظلمهم أولياء اللّه حسدا لهم و بغيا عليهم [لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أي لم يكن اللّه ليغفر لهم عن ذنوبهم بترك عقابهم عليها [وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً] أي لا يهديهم إلى طريق الجنّة لأنّ الهداية إلى طريق الإيمان قد سبقت و عمّ اللّه بها جميع المكلّفين [إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ معناه لكن يهديهم طريق جهنّم جزاء لهم على ما فعلوه من الكفر و الظلم [خالِدِينَ فِيها] أي مقيمين فيها [أَبَداً].

[وَ كانَ ذلِكَ أي تخليد هؤلاء الّذين وصفهم في جهنّم [عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] لأنّه إذا أراد ذلك لم يقدر على الامتناع منه أحد.

النظم: و اتّصال هذه الآية بما قبلها اتّصال النقيض على جهة المقابلة؛ لأنّ ما قبلها يتضمّن الشهادة له بالنبوّة تسلية له عمّا لحقه من تكذيب الكفّار، و هذه الآيات تتضمّن تحيّر الكفّار بذهابهم من الرشد.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 170]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)

المعنى: ثمّ عاد سبحانه إلى العظة و عمّ الخلق بذلك فقال:

[يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لجميع المكلّفين و قيل: خطاب للكفّار [قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعني محمّدا صلى اللّه عليه و آله [بِالْحَقِ أي بالدين الّذي ارتضاه اللّه لعباده، و قيل: بولاية من أمر اللّه

ص: 228

تعالى بولايته عن أبي جعفر عليه السّلام [مِنْ رَبِّكُمْ أي من عند ربّكم.

[فَآمِنُوا] أي صدّقوه و صدّقوا ما جاءكم به عند ربّكم [خَيْراً لَكُمْ أي ائتوا خيرا لكم ممّا أنتم عليه من الجحود و التكذيب.

[وَ إِنْ تَكْفُرُوا] أي تكذّبوه فيما جاءكم به من عند اللّه [فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي فإنّ ضرر ذلك يعود عليكم دون اللّه فإنّه يملك ما في السماوات و الأرض لا ينقص كفركم فيما كذّبتم به نبيّه شيئا من ملكه و سلطانه.

[وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] بما أنتم صائرون إليه من طاعته أو معصيته [حَكِيماً] في أمره و نهيه إيّاكم و تدبيره فيكم و في غيركم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 171]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)

المعنى: ثمّ عاد سبحانه إلى حجاج أهل الكتاب فقال:

[يا أَهْلَ الْكِتابِ قيل: إنّه لليهود و النصارى عن الحسن قال: لأنّ النصارى غلت في المسيح فقالت: هو ابن اللّه، و بعضهم قال: هو اللّه، و بعضهم قال: هو ثالث ثلاثة: الأب و الابن و روح القدس. و اليهود غلت فيه حتّى قالوا ولد لغير رشده، فالغلوّ لازم للفريقين. و قيل: للنصارى خاصّة، عن أبي عليّ و أبي مسلم و جماعة من المفسّرين.

[لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تفرطوا في دينكم و لا تجاوزوا الحقّ فيه [وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ أي قولوا: إنّه جلّ جلاله واحد لا شريك له و لا صاحبة و لا ولد، و لا تقولوا في عيسى: إنّه ابن اللّه أو شبهه فإنّه قول بغير الحقّ.

[إِنَّمَا الْمَسِيحُ و قد ذكرنا معناه، و قيل: سمّي بذلك لأنّه كان يمسح الأرض

ص: 229

مشيا [عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هذا بيان لقوله: «الْمَسِيحُ» يعني إنّه ابن مريم لا ابن اللّه كما يزعمه النصارى، و لا ابن أب كما تزعمه اليهود [رَسُولُ اللَّهِ أرسله اللّه إلى الخلق لا كما زعم الفرقتان المبطلتان.

[وَ كَلِمَتُهُ يعني أنّه حصل بكلمته الّتي هي قوله: «كن» عن الحسن و قتادة. و قيل: معناه إنّه يهتدي به الخلق كما اهتدوا بكلام اللّه و وحيه، عن أبي عليّ الجبّائيّ.

و قيل: معناه بشارة اللّه الّتي بشّر بها مريم على لسان الملائكة كما قال: «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ» (1) و هو المراد بقوله: [أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ كما يقال: ألقيت إليك كلمة حسنة أي قلت، و قيل: معنى «أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» خلقها في رحمها عن الجبّائيّ.

[وَ رُوحٌ مِنْهُ فيه أقوال:

أحدها أنّه إنّما سمّاه روحا لأنّه حدث عن نفخة جبرائيل في درع مريم بأمر اللّه تعالى و إنّما نسبه إليه لأنّه كان بأمره، و قيل: إنّه أضافه إلى نفسه تفخيما لشأنه كما قال: الصوم لي و أنا اجزى به. و قد يسمّى النفخ روحا و استشهد على ذلك ببيت ذي الرمّة يصف نارا:

فقلت له ارفعها إليك و أحيهابروحك و اقتته لها قتية قدرا

و ظاهر لها من يابس الشخت و استعن عليه الصبا و اجعل يديك لها سترا

و معنى أحيها بروحك أي بنفخك، و يقال: اقتتّ النار إذا أطعمتها حطبا.

و الثاني أنّ المراد به: يحيي به الناس في دينهم كما يحيون بالأرواح عن الجبّائيّ فيكون المعنى: إنّه جعله نبيّا يقتدى به و يستنّ بسنّته و يهتدى بهداه.

و الثالث أنّ معناه إنسان أحياه اللّه بتكوينه بلا واسطة من جماع أو نطفة كما جرت العادة بذلك، عن أبي عبيدة.

و الرابع أنّ معناه: و رحمة منه كما قال في موضع آخر: «وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (2) أي برحمة منه، فجعل اللّه عيسى رحمة على من آمن به و اتّبعه لأنّه هداهم إلى سبيل الرشاد.

ص: 230


1- ال عمران: 45.
2- المجادلة: 22.

و الخامس أنّ معناه روح اللّه من اللّه خلقها فصوّرها ثمّ أرسلها إلى مريم فدخلت في قلبها فصيّرها اللّه تعالى عيسى، عن أبي العالية عن ابيّ بن كعب.

و السادس أنّ معنى الروح هاهنا جبرائيل عليه السّلام فيكون عطفا على ما في ألقاها من من ضمير ذكر اللّه و تقديره: ألقاها اللّه إلى مريم و روح منه أي من اللّه أي جبرائيل ألقاها أيضا إليها.

[فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أمرهم اللّه بتصديقه و الإقرار بوحدانيّته و تصديق رسله فيما جاءوا به من عنده، و فيما أخبروهم به من أنّ اللّه سبحانه لا شريك له و لا صاحبة و لا ولد.

[وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ] هذا خطاب للنصارى أي لا تقولوا: إلهنا ثلاثة، عن الزجّاج.

و قيل: هذا لا يصحّ لأنّ النصارى لم يقولوا بثلاثة آلهة و لكنّهم يقولون: إله واحد ثلاثة أقانيم أب و ابن و روح القدس، و معناه لا تقولوا: اللّه ثلاثة أب و ابن و روح القدس، و قد شبّهوا قولهم: جوهر واحد ثلاثة أقانيم بقولنا: سراج واحد، ثمّ نقول: ثلاثة أشياء: دهن و قطن و نار، و شمس واحدة، و إنّما هي جسم وضوء و شعاع، و هذا غلط بعيد؛ لأنّا لا نعني بقولنا «سراج واحد» أنّه شي ء واحد بل هو أشياء على الحقيقة، و كذلك الشمس كما تقول عشرة واحدة، و إنسان واحد، و دار واحدة، و إنّما هي أشياء متغايرة. فإن قالوا: إنّ اللّه شي ء واحد و إله واحد حقيقة فقولهم «ثلاثة» متناقضة، و إن قالوا: إنّه في الحقيقة أشياء مثل ما ذكرناه في الإنسان و السراج و غيرهما فقد تركوا القول بالتوحيد و التحقوا بالمشبّهة و إلّا فلا واسطة بين الأمرين.

[انْتَهُوا] عن هذه المقالة الشنيعة أي امتنعوا عنها [خَيْراً لَكُمْ أي ائتوا بالانتهاء عن قولكم خيرا لكم ممّا تقولون [إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ] أي ليس كما تقولون: إنّه ثالث ثلاثة؛ لأنّ من كان له ولد أو صاحبة لا يجوز أن يكون إلها معبودا و لكنّ اللّه الّذي له الإلهيّة و تحقّ له العبادة إله واحد لا ولد له و لا شبه له و لا صاحبة له و لا شريك له.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عمّا يقوله المبطلون فقال: [سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ] و لفظة «سُبْحانَهُ» تفيد التنزيه عمّا لا يليق به أي هو منزّه عن أن يكون له ولد [لَهُ ما فِي السَّماواتِ

ص: 231

وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و ملكا و خلقا و هو يملكهما و له التصرّف فيهما و فيما بينهما، و من جملة ذلك عيسى و امّه، فكيف يكون المملوك و المخلوق ابنا للمالك و الخالق.

[وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا] أي حسب ما في السماوات و ما في الأرض باللّه قيّما و مدبّرا و رازقا، و قيل: معناه: و كفى باللّه حافظا لأعمال العباد حتّى يجازيهم عليها، فهو تسلية للرسول و وعيد للقائلين فيه سبحانه بما لا يليق به.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 172 الى 173]

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (173)

النزول: روي أنّ وفد نجران قالوا، لنبيّنا يا محمّد! لم تعيب صاحبنا؟ قال: و من صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه السّلام قال: و أيّ شي ء أقول فيه؟ قالوا: تقول إنّه عبد اللّه و رسوله، فنزلت الآية.

المعنى: لمّا تقدّم ذكر النصارى و الحكاية عنهم في أمر المسيح عقّبه سبحانه بالردّ عليهم فقال:

[لَنْ يَسْتَنْكِفَ أي لن يأنف و لم يمتنع [الْمَسِيحُ يعني عيسى عليه السّلام من [أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ [وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أي و لا الملائكة المقرّبون يأنفون و يستكبرون عن الإقرار بعبوديّته و الإذعان له بذلك، و المقرّبون الّذين قرّبهم تعالى و رفع منازلهم على غيرهم من خلقه.

[وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ أي من يأنف عن عبادته و يستكبر أي يتعظّم بترك الإذعان لطاعته [فَسَيَحْشُرُهُمْ أي فسيبعثهم [إِلَيْهِ يوم القيامة [جَمِيعاً] يجمعهم لموعدهم عنده و معنى قوله: «إِلَيْهِ» أي إلي الموضع الّذي لا يملك التصرّف فيه سواه، كما يقال:

صار أمر فلان إلى الأمير أي لا يملكه غير الأمير، و لا يراد بذلك المكان الّذي فيه الأمير.

و استدلّ بهذه الآية من قال بأنّ الملائكة أفضل من الأنبياء قالوا: إنّ تأخير ذكر الملائكة في مثل هذا الخطاب يقتضي تفضيلهم لأنّ العادة لم تجر بأن يقال: لن يستنكف الأمير أن يفعل كذا و لا الحارس، بل يقدّم الأدون و يؤخّر الأعظم فيقال: لن يستنكف

ص: 232

الوزير أن يفعل كذا و لا السلطان، و هذا يقتضي فضل الملائكة على الأنبياء.

و أجاب أصحابنا عن ذلك بأن قالوا: إنّما أخّر ذكر الملائكة عن ذكر المسيح لأنّ جميع الملائكة أفضل و أكثر ثوابا من المسيح، و هذا لا يقتضي أن يكون كلّ واحد منهم أفضل من المسيح عليه السّلام و إنّما الخلاف في ذلك.

و أيضا فإنّا و إن ذهبنا إلى أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة فإنّا نقول مع قولنا بالتفاوت: إنّه لا تفاوت في الفضل بين الأنبياء و الملائكة و مع التقارب و التداني يحسن أن يقدّم ذكر الأفضل، ألا ترى أنّه يحسن أن يقال: ما يستنكف الأمير فلان من كذا و لا الأمير فلانا إذا كانا متساويين في المنزلة أو متقاربين و إنّما لا يحسن أن يقال: ما يستنكف الأمير فلان من كذا و لا الحارس لأجل التفاوت.

[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ و يؤتيهم جزاء أعمالهم وعد اللّه الّذين يقرّون بوحدانيّته و يعملون بطاعته أنّه يوفّيهم أجورهم و يؤتيهم جزاء أعمالهم الصالحة وافيا تامّا [وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يزيدهم على ما كان وعدهم به من الجزاء على أعمالهم الحسنة و الثواب عليها من الفضل و الزيادة ما لم يعرّفهم مبلغه، لأنّه وعد على الحسنة عشر أمثالها من الثواب إلى سبعين ضعفا و إلى سبعمائة و إلى الأضعاف الكثيرة و الزيادة على المثل تفضّل من اللّه تعالى عليهم.

[وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا] أي أنفوا عن الإقرار بوحدانيّته [وَ اسْتَكْبَرُوا] أي تعظّموا عن الإذعان له بالطاعة و العبوديّة [فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً] أي مولما موجعا [وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً] أي و لا يجد المستنكفون المستكبرون لأنفسهم وليّا ينجيهم من عذابه و ناصرا ينقذهم من عقابه.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 174 الى 175]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)

المعنى: لمّا فصّل اللّه ذكر الأحكام الّتي يجب العمل بها ذكر البرهان بعد ذلك ليكون الإنسان على ثقة و يقين فقال:

ص: 233

[يا أَيُّهَا النَّاسُ و هو خطاب للمكلّفين من سائر الملل الّذين قصّ قصصهم في هذه السورة [قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي أتاكم حجّة من اللّه يبرهن لكم عن صحّة ما أمركم به محمّد لما معه من المعجزات القاهرة الشاهدة بصدقه، و قيل: هو القرآن.

[وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ معه [نُوراً مُبِيناً] يبيّن لكم الحجّة الواضحة و يهديكم إلى ما فيه النجاة لكم من عذابه و أليم عقابه، و ذلك النور هو القرآن، عن مجاهد و قتادة و السدّيّ. و قيل: النور ولاية عليّ عليه السّلام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ أي صدّقوا بوحدانيّة اللّه و اعترفوا ببعث محمّد صلى اللّه عليه و آله [وَ اعْتَصَمُوا بِهِ أي تمسّكوا بالنور الّذي أنزله على نبيّه [فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ أي نعمة منه هي الجنّة، عن ابن عبّاس [وَ فَضْلٍ يعني ما يبسط لهم من الكرامة و تضعيف الحسنات و ما يزاد لهم من النعم على ما يستحقّونه.

[وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً] أي يوفّقهم لإصابة فضله الّذي يتفضّل به على أوليائه و يسدّدهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته و اقتفاء آثارهم و الاهتداء بهداهم و الاستنان بسنّتهم و اتّباع دينهم و هو الصراط المستقيم الّذي ارتضاه اللّه منهجا لعباده.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 176]

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176)

النزول: اختلف في سبب نزول الآية فروي عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال:

اشتكيت و عندي تسعة أخوات لي أو سبع فدخل عليّ النبيّ فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك أ لا اوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال أحسن. قلت: الشطر؟ قال أحسن، ثمّ خرج و تركني و رجع إليّ فقال: يا جابر إنّي لا أراك ميّتا من وجعك هذا، و إنّ اللّه تعالى قد أنزل في الّذي لأخواتك فجعل لهنّ الثلثين، قالوا: و كان جابر يقول:

ص: 234

أنزلت هذه الآية فيّ. و عن قتادة قال: إنّ الصحابة كان همّهم شأن الكلالة فأنزل اللّه فيها هذه الآية.

و قال البراء بن عازب: آخر سورة نزلت كاملة براءة، و آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: «يَسْتَفْتُونَكَ الآية» أورده البخاريّ و مسلم في صحيحهما. و قال جابر:

نزلت بالمدينة. و قال ابن سيرين: نزلت في مسير كان فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه.

و تسمّى هذه الآية آية الصيف، و ذلك أن اللّه تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء و هي الّتي في أوّل هذه السورة، و اخرى في الصيف و هي هذه الآية.

و روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: سألت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عن الكلالة فقال: يكفيك أو يجزيك- آية الصيف.

المعنى: لمّا بيّن سبحانه في أوّل السورة بعض سهام الفرائض ختم السورة ببيان ما بقي من ذلك فقال:

[يَسْتَفْتُونَكَ يا محمّد أي يطلبون منك الفتيا في ميراث الكلالة [قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ أي يبيّن لكم الحكم في الكلالة، و هو اسم للإخوة و الأخوات، عن الحسن و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام. و قيل: هي ما سوى الوالد و الولد عن أبي بكر و جماعة من المفسّرين.

[إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ] قال السدّيّ: يعني ليس له ولد ذكر و أنثى، و هو موافق لمذهب الإماميّة فمعناه: إن مات رجل ليس له ولد و لا والد، و إنّما أضمرنا فيه الوالد للإجماع، و لأنّ لفظ الكلالة ينبئ عنه فانّ الكلالة اسم للنسب المحيط بالميّت دون اللصيق و الوالد لصيق الولد كما أنّ الولد لصيق الوالد، و الإخوة و الأخوات المحيطون بالميّت.

[وَ لَهُ أُخْتٌ يعني و للميّت اخت لأبيه و امّه أو لأبيه؛ لأنّ ذكر أولاد الأمّ قد سبق في أوّل السورة [فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ] عنى به أنّ الاخت إذا كانت هي الميّتة و لها أخ من أب و امّ أو من أب فالمال كلّه له بلا خلاف إذا لم

ص: 235

يكن هناك ولد و لا والد.

[فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ يعني إن كانت الأختان اثنتين [فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ الأخ أو الاخت من التركة.

[وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَ نِساءً] أي إخوة و أخوات مجتمعين لاب و امّ أو لأب [فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .

و في قوله سبحانه: «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ» دلالة على أنّ الأخ أو الاخت لا يرثان مع البنت لأنّه سبحانه شرط في ميراث الأخ و الاخت عدم الولد، و الولد يقع على الابن و البنت بلا خلاف فيه بين أهل اللغة، و ما روي من الخبر في أنّ الأخوات مع البنات عصبة خبر واحد يخالف نصّ القرآن، و إلى هذا الّذي ذكرناه ذهب ابن عبّاس و هو المرويّ عن سادة أهل البيت عليهم السّلام.

[يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ امور مواريثكم [أَنْ تَضِلُّوا] معناه: كراهة أن تضلّوا أو لئلّا تضلّوا أي لئلّا تخطؤوا في الحكم فيها. و قيل: معناه يبيّن اللّه لكم جميع الأحكام لتهتدوا في دينكم، عن أبي مسلم [وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فائدته هنا بيان كونه سبحانه عالما بجميع ما يحتاج إليه عباده من أمر معاشهم و معادهم على ما توجبه الحكمة.

و قد تضمّنت الآية الّتي أنزلها اللّه في أوّل هذه السورة بيان ميراث الولد و الوالد و الآية الّتي بعدها بيان ميراث الأزواج و الزوجات و الإخوة و الأخوات من قبل الأمّ، و تضمّنت هذه الآية الّتي ختم بها السورة بيان ميراث الأخوة و الأخوات من الأب و الأمّ و الإخوة و الأخوات من قبل الأب عند عدم الإخوة و الأخوات من الأب و الأمّ، و تضمّن قوله سبحانه: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ»* أنّ تداني القربى سبب في استحقاق الميراث، فمن كان أقرب رحما و أدنى قرابة كان أولى بالميراث من الأبعد، و الخلاف بين الفقهاء في هذه المسائل و فروعها مذكور في كتب الفقه.

ص: 236

سورة المائدة

اشارة

هي مدنيّة في قول ابن عبّاس و مجاهد، و قال جعفر بن مبشّر و الشعبيّ: هي مدنيّة كلّها إلّا قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» فإنّه نزل و النبيّ (صلى اللّه عليه و آله) واقف على راحلته في حجّة الوداع.

عدد آيها: هي مائة و عشرون آية كوفيّ، ثلاث و عشرون آية بصريّ، و اثنان و عشرون في الباقين. اختلافها ثلاث: «بِالْعُقُودِ» و «يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» غير الكوفيّ «فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» بصريّ.

فضلها: ابيّ بن كعب عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة المائدة اعطي من الأجر بعدد كلّ يهوديّ و نصرانيّ يتنفّس في دار الدنيا عشر حسنات و محا عنه عشر سيّئات و رفع له عشر درجات.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن عيسى بن عبد اللّه عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه السّلام قال:

كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، و إنّما يؤخذ من أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بأخذه و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها: و لم ينسخها شي ء، لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء، و ثقل عليه الوحي حتّى وقفت و تدلّى بطنها حتّى رئيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض، و اغمي على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حتّى وضع يده على رأس شيبة بن وهب الجمحيّ ثمّ رفع ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقرأ علينا سورة المائدة فعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و عملنا.

و بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام قال: من قرأ سورة المائدة في كلّ يوم خميس لم يلبس إيمانه بظلم و لا بشرك أبدا.

ص: 237

و بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أبا عبد اللّه الصادق عليه السّلام يقول: نزلت المائدة كملا و نزل معها سبعون ألف ملك.

تفسيرها: لمّا ختم اللّه سورة النساء بذكر أحكام الشريعة افتتح سورة المائدة أيضا ببيان الأحكام و أجمل ذلك بقوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ثمّ أتبعه بذكر التفصيل فقال:

ص: 238

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المائدة (5): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)

. المعنى: خاطب اللّه سبحانه المؤمنين فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] و تقديره: يا أيّها المؤمنون و هو اسم تكريم و تعظيم [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] أي بالعهود، عن ابن عبّاس و جماعة من المفسّرين.

ثمّ اختلف في هذه العهود على أقوال:

أحدها: أن المراد بها العهود الّتي كان أهل الجاهليّة عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة و المؤازرة و المظاهرة على من حاول ظلمهم أو بغاهم سوءا و ذلك هو معنى الحلف، عن ابن عبّاس و مجاهد و الربيع بن أنس و الضحّاك و قتادة و السدّيّ.

و ثانيها: أنّها العهود الّتي أخذ اللّه سبحانه على عباده بالإيمان به و طاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم عليهم، عن ابن عبّاس أيضا، و في رواية اخرى قال: هو ما أحلّ و حرّم و ما فرض و ما حدّ في القرآن كلّه أي فلا تتعدّوا فيه و لا تنكثوا، و يؤيّده قوله «وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ إلى قوله- سُوءُ الدَّارِ» (1).

و ثالثها: أنّ المراد بها العقود الّتي يتعاقدها الناس بينهم و يعقدها المرء علي نفسه كعقد الأيمان و عقد النكاح و عقد العهد و عقد البيع و عقد الحلف، عن ابن زيد و زيد بن أسلم.

و رابعها: أنّ ذلك أمر من اللّه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة و الإنجيل في تصديق نبيّنا و ما جاء به من عند اللّه، عن ابن جريح و أبي صالح.

و أقوى هذه الأقوال قول ابن عبّاس: إنّ المراد بها عقود اللّه الّتي أوجبها اللّه على

ص: 239


1- الرعد: 25.

العباد في الحلال و الحرام و الفرائض و الحدود، و يدخل في ذلك جميع الأقوال الاخر فيجب الوفاء بجميع ذلك إلّا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح فإنّ ذلك محظور بلا خلاف.

ثمّ ابتدأ سبحانه كلاما آخر فقال: [أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ و اختلف في تأويله على أقوال:

أحدها أنّ المراد به الأنعام، و إنّما ذكر البهيمة للتأكيد كما يقال: نفس الإنسان، فمعناه: احلّت لكم الأنعام الإبل و البقر و الغنم، عن الحسن و قتادة و السدّيّ و الربيع و الضحّاك.

و ثانيها أنّ المراد بذلك أجنّة الأنعام الّتي توجد في بطون امّهاتها إذا أشعرت و قد ذكيت الأمّهات و هي ميتة، فذكاتها ذكاة امّهاتها، عن ابن عبّاس و ابن عمر و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و ثالثها أنّ بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء و بقر الوحش و حمر الوحش، عن الكلبيّ و الفرّاء. و الأولى حمل الآية على الجميع.

[إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ معناه: إلّا ما يقرأ عليكم تحريمه في القرآن و هو قوله:

«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، الآية» (1) عن ابن عبّاس و الحسن و مجاهد و قتادة و السدّيّ [غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ من قال: إنّه حال من «أَوْفُوا» فمعناه:

أوفوا بالعقود غير محلّي الصيد و أنتم محرمون أي في حال الإحرام، و من قال: إنّه حال من «أُحِلَّتْ لَكُمْ» فمعناه: احلّت لكم بهيمة الأنعام أي الوحشيّة من الظباء و البقر و الحمر غير مستحلّين اصطيادها في حال الإحرام، و من قال: إنّه حال من «يُتْلى عَلَيْكُمْ» فمعناه:

احلّت لكم بهيمة الأنعام كلّها إلّا ما يتلى عليكم من الصيد في آخر السورة غير مستحلّين اصطيادها في حال إحرامكم.

[إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ] معناه: إنّ اللّه يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما يريد تحليله و تحريم ما يريد تحريمه و إيجاب ما يريد إيجابه، و غير ذلك من أحكامه و قضاياه فافعلوا ما أمركم به و انتهوا عمّا نهاكم عنه. و في قوله: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ»

ص: 240


1- السورة: 4.

دلالة على تحليل أكلها و ذبحها و الانتفاع بها.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 2]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لا الْهَدْيَ وَ لا الْقَلائِدَ وَ لا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (1)

النزول: قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له: الحطم، و قال السدّيّ: أقبل الحطم بن هند البكريّ حتّى أتى النبيّ صلى اللّه عليه و آله وحده و خلّف خيله خارج المدينة فقال: إلى ما تدعو؟ و قد كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال:

لأصحابه يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة يتكلّم بلسان شيطان فلمّا أجابه النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: أنظرني لعلّي أسلم ولي من أشاوره فخرج من عنده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لقد دخل بوجه كافر، و خرج بعقب غادر فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه و انطلق به و هو يرتجز و يقول:

قد لفّها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل و لا غنم

و لا بجزّار على ظهر و ضم باتوا نياما و ابن هند لم ينم (2)

بات يقاسيها غلام كالزلم خدلّج الساقين ممسوح القدم (2)

ثمّ أقبل من عام قابل حاجّا قد قلّد هديا فأراد رسول اللّه أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية: «وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» و هو قول عكرمة و ابن جريح.

و قال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يؤمّون البيت من المشركين يهلّون بعمرة فقال المسلمون: يا رسول اللّه إنّ هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم فأنزل اللّه تعالى الآية.

المعنى: ثمّ ابتدأ سبحانه بتفصيل الأحكام فقال:

ص: 241


1- الزلم قداح الميسر و خدلج الساقين سمينهما.
2- الوضم خشبة يقطع عليها الجزار اللحم.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] أي صدّقوا اللّه و رسوله فيما أوجب عليهم [لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ اختلف في معنى شعائر اللّه على أقوال:

أحدها أنّ معناه: لا تحلّوا حرمات اللّه و لا تعتدوا حدود اللّه، و حملوا الشعائر على المعالم أي معالم حدود اللّه و أمره و نهيه و فرائضه، عن عطاء و غيره.

و ثانيها أنّ معناه: لا تحلّوا حرم اللّه، و حملوا الشعائر على المعالم أي معالم حرم اللّه من البلاد، عن السدّيّ.

و ثالثها أنّ معنى شعائر اللّه مناسك الحجّ أي لا تحلّوا مناسك الحجّ فتضيّعوها، عن ابن جريح و ابن عبّاس.

و رابعها ما روي عن ابن عبّاس أنّ المشركين كانوا يحجّون البيت و يهدون الهدايا و يعظمون حرمة المشاعر و ينحرون في حجّهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم اللّه عن ذلك.

و خامسها أنّ شعائر اللّه هي الصفا و المروة و الهدي من البدن و غيرها، عن مجاهد.

و قال الفرّاء: كانت عامّة العرب لا ترى الصفا و المروة من شعائر اللّه و لا يطوفون بينهما فنهاهم اللّه عن ذلك. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و سادسها أنّ المراد لا تحلّوا ما حرّم اللّه عليكم في إحرامكم، عن ابن عبّاس في رواية اخرى.

و سابعها أنّ الشعائر هي العلامات المنصوبة للفرق بين الحلّ و الحرم، نهاهم اللّه سبحانه أن يتجاوزوها إلى مكّة بغير إحرام، عن أبي عليّ الجبّائيّ.

و ثامنها أنّ المعنى: لا تحلّوا الهدايا المشعرة أي المعلمة لتهدى إلى بيت اللّه الحرام، عن الزجّاج و الحسين بن عليّ المغربيّ و اختاره البلخيّ.

و أقوى الأقوال هو القول الأوّل، لأنّه يدخل فيه جميع الأقوال من مناسك الحجّ و غيرها، و حمل الآية على ما هو الأعمّ أولى.

[وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ معناه: و لا تستحلّوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من

ص: 242

المشركين كما قال تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» (1) عن ابن عبّاس و قتادة.

و اختلف في معنى الشهر الحرام هنا فقيل: هو رجب و كانت مضر تحرّم فيه القتال.

و قيل: هو ذو القعدة، عن عكرمة. و قيل: هي الأشهر الحرم كلّها نهاهم اللّه عن القتال فيها، عن الجبّائيّ و البلخيّ، و هذا أليق بالعموم. و قيل: أراد به النسي ء زيادة في الكفر، عن القتيبيّ.

[وَ لَا الْهَدْيَ أي و لا تستحلّوا الهدي و هو ما يهديه الإنسان من بعير أو بقرة أو شاة إلى بيت اللّه تقرّبا إليه و طلبا لثوابه فيكون المعنى: و لا تستحلّوا ذلك فتغصبوه أهله و لا تحولوا بينهم و بين أن يبلغوه محلّه من الحرم، و لكن خلّوهم حتّى يبلغوا به المحلّ الّذي جعله اللّه له.

و قوله: [وَ لَا الْقَلائِدَ] معناه: و لا تحلّوا القلائد، و فيه أقوال:

أحدها أنّه عنى بالقلائد الهدي المقلّد، و إنّما كرّر لأنّه أراد المنع من حلّ الهدي الّذي لم يقلّد و الهدي الّذي قلّد، عن ابن عبّاس و اختاره الجبّائيّ.

و ثانيها أنّ المراد بذلك القلائد الّتي كان المشركون يتقلّدونها إذا أرادوا الحجّ مقبلين إلى مكّة من لحاء السمر و إذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها إلى المشعر، عن قتادة قال: كان في الجاهليّة إذا خرج الرجل من أهله يريد الحجّ يقلّد من السمر فلا يتعرّض له أحد، و إذا رجع يقلّد قلادة شعر فلا يتعرّض له أحد. و قال عطاء: إنّهم كانوا يتقلّدون من لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا من الحرم. و قال الفرّاء: أهل الحرم كانوا يتقلّدون بلحاء الشجر و أهل غير الحرم كانوا يتقلّدون بالصوف و الشعر و غيرهما.

و ثالثها أنّه عنى به المؤمنين نهاهم أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يتقلّدون به كما كان المشركون يفعلونه في جاهليّتهم. عن عطاء في رواية أخرى و الربيع بن أنس.

ص: 243


1- البقرة: 217.

و رابعها أنّ القلائد ما يقلّد به الهدي، نهاهم عن حلّها لأنّه كان يجب أن يتصدّق بها، عن أبي عليّ الجبّائيّ قال: هو صوف يفتل و يعلّق به على عنق الهدي. و قال الحسن:

هو نعل يقلّد به الإبل و البقر و يجب التصدّق بها إن كانت لها قيمة. و الأولى أن تكون نهيا عن استحلال القلائد فيدخل فيه الإنسان و البهيمة، أو يكون نهيا عن استحلال حرمة المقلّد هديا كان ذلك أو إنسانا.

[وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ أي و لا تحلّوا قاصدين البيت [الْحَرامَ أي لا تقاتلوهم لأنّه من قاتل في الأشهر الحرم فقد أحلّ فقال: لا تحلّوا قتال الآمّين البيت الحرام أي القاصدين.

و البيت الحرام بيت اللّه بمكّة و هو الكعبة سمّي حراما لحرمته، و قيل: لأنّه يحرم فيه ما يحلّ في غيره.

و اختلف في المعنيّ بذلك فمنهم من حملهم على الكفّار و استدلّ بقوله فيما بعد:

«وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ الآية» و منهم من حمله على من أسلم فكأنّه نهى أن يؤخذ بعد الإسلام بذحل الجاهليّة لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

[يَبْتَغُونَ أي يطلبون يعني الّذين يؤمّون البيت [فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً] أي أرباحا في تجاراتهم من اللّه و أن يرضى عنهم بنسكهم على زعمهم فلا يرضى اللّه عنهم و هم مشركون. و قيل: يلتمسون رضوان اللّه عنهم بأن لا يحلّ بهم ما حلّ بغيرهم من الأمم من العقوبة في عاجل دنياهم، عن قتادة و مجاهد. و قيل: فضلا من اللّه في الآخرة و رضوانا منه فيها. و قيل: فضلا في الدنيا و رضوانا في الآخرة. و قال ابن عبّاس: إنّ ذلك في كلّ من توجّه حاجّا، و به قال الضحّاك و الربيع.

و اختلف في هذا فقيل: هو منسوخ بقوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» (1) عن أكثر المفسّرين. و قيل: لم ينسخ من هذه السورة شي ء و لا من هذه الآية لأنّه لا يجوز أن يبتدأ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال إلّا إذا قاتلوا، عن ابن جريح و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام و روي نحوه عن الحسن. و ذكر أبو مسلم أن المراد به الكفّار

ص: 244


1- التوبة: 6.

الّذين كانوا في عهد النبيّ صلى اللّه عليه و آله فلمّا زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر و دخلوا في حكم قوله تعالى: «فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا».

و قيل: لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية «لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ» عن الشعبيّ و مجاهد و قتادة و الضحّاك و ابن زيد.

و قيل: إنّما نسخ منها قوله: «وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ إلى- آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» ذكر ذلك ابن أبي عروبة عن قتادة قال: نسخها قوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» و قوله: «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ» (1) و قوله: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» (2) في السنة الّتي نادى فيها عليّ بالأذان، و هو قول ابن عبّاس.

و قيل: لم ينسخ من هذه الآية إلّا «الْقَلائِدَ» عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.

[وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا] معناه: إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا فيها الصيد الّذي نهيتم أن تحلّوه فاصطادوه إن شئتم حينئذ؛ لأنّ السبب المحرّم قد زال عند جميع المفسّرين.

[وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي و لا يحملنّكم، و قيل: لا يكسبنّكم [شَنَآنُ قَوْمٍ أي بغضاء قوم [أَنْ صَدُّوكُمْ أي لأن صدّوكم أي لأجل أنّهم صدّوكم [عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني النبيّ و أصحابه لمّا صدّوكم عام الحديبيّة [أَنْ تَعْتَدُوا] و معناه: لا يكسبنّكم بغضكم قوما الاعتداء عليهم بصدّهم إيّاكم عن المسجد الحرام. قال أبو عليّ الفارسيّ:

معناه لا تكتسبوا لبغض قوم عدوانا و لا تقترفوه.

هذا فيمن فتح «أن» و يوقع النهي في اللفظ على «الشنآن» و المعنيّ بالنهي المخاطبون كما قالوا: لا أرينّك هاهنا «وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ». و من جعل شنآن صفة فقد أقامت الصفة مقام الموصوف و يكون تقديره: و لا يحملنّكم بغض قوم، و المعنى على الأوّل. و من قرأ «أَنْ صَدُّوكُمْ» بكسر الألف فقد مرّ ذكر معناه. و «أَنْ تَعْتَدُوا» معناه أن تتجاوزوا حكم اللّه فيكم إلى

ص: 245


1- التوبة: 18.
2- التوبة: 29.

ما نهاكم عنه، نهى اللّه المسلمين عن الطلب بذحول الجاهليّة عن مجاهد، و قال: هذا غير منسوخ، و هو الأولى. و قال ابن زيد: و هو منسوخ.

[وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ و هو استئناف كلام و ليس بعطف على «تَعْتَدُوا» فيكون في موضع نصب، أمر اللّه عباده بأن يعين بعضهم بعضا على البرّ و التقوى و هو العمل بما أمرهم اللّه تعالى به و اتّقاء ما نهاهم عنه، و نهاهم عن أن يعين بعضهم بعضا على الإثم و هو ترك ما أمرهم به و ارتكاب ما نهاهم عنه من العدوان، و هو مجاوزة ما حدّ اللّه لعباده في دينهم و فرض لهم في أنفسهم، عن ابن عبّاس و أبي العالية و غيرهما من المفسّرين.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ هذا أمر منه تعالى بالتقوى و وعيد و تهديد لمن تعدّى حدوده و تجاوز أمره. يقول: احذروا معصية اللّه فيما أمركم اللّه به و نهاكم عنه فتستوجبوا عقابه و تستحقّوا عذابه، ثمّ وصف تعالى عقابه بالشدّة لأنّه نار لا يطفأ حرّها و لا يخمد جمرها نعوذ باللّه منها.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 3]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه ما استثناه في الآية المتقدّمة بقوله: «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» فقال مخاطبا للمكلّفين:

[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ] أي حرّم عليكم أكل الميتة و الانتفاع بها، و هو كلّ ماله نفس سائلة من دوابّ البرّ و طيره ممّا أباح اللّه أكله أهليهما و وحشيهما فارقة روحه من غير تذكية، فقد روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه سمّى الجراد و السمك ميتا فقال: ميتتان مباحتان الجراد و السمك.

ص: 246

[وَ الدَّمُ أي و حرّم عليكم الدم، و كانوا يجعلونه في المباعر و يشوونه و يأكلونه، فأعلم اللّه سبحانه أنّ الدم المسفوح أي المصبوب حرام فأمّا المتلطّخ باللحم فإنّه كاللحم، و ما كان كاللحم مثل الكبد فهو مباح، و أمّا الطحال فقد رووا الكراهية فيه عن عليّ عليه السّلام و ابن مسعود و أصحابهما، و اجتمعت الإماميّة على أنّه حرام و ذهب سائر الفقهاء إلى أنّه مباح.

[وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ] و إنّما ذكر لحم الخنزير ليبيّن أنّه حرام بعينه لا لكونه ميتة حتّى أنّه لا يحلّ تناوله و إن حصل فيه ما يكون ذكاة لغيره، و فائدة تخصيصه بالتحريم مع مشاركة الكلب إيّاه في التحريم حالة وجود الحياة و عدمها، و كذلك السباع و المسوخ و ما لا يحلّ أكله من الحيوانات أنّ كثيرا من الكفّار اعتادوا أكله و ألفوه أكثر ما اعتادوا في غيره.

[وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ موضع «ما» رفع و تقديره: و حرّم عليكم ما أهل لغير اللّه به، و قد ذكرنا معناه في سورة البقرة. و فيه دلالة على أنّ ذبائح من خالف الإسلام لا يجوز أكله لأنّهم يذكرون عليه اسم غير اللّه لأنّهم يعنون به من أيّد شرع موسى أو اتّحد بعيسى أو اتّخذه ابنا، و ذلك غير اللّه؛ فأمّا من أظهر الإسلام و دان بالتجسّم و التشبيه و الجبر و خالف الحقّ فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته و فيه خلاف بين الفقهاء.

[وَ الْمُنْخَنِقَةُ] و هي الّتي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتخنق و تموت، عن السدّيّ.

و قيل: هي الّتي تخنق بحبل الصائد فتموت، عن الضحّاك و قتادة. و قال ابن عبّاس: كان أهل الجاهليّة يخنقونها فيأكلونها.

[وَ الْمَوْقُوذَةُ] و هي الّتي تضرب حتّى تموت، عن عبّاس و قتادة و السدّيّ.

[وَ الْمُتَرَدِّيَةُ] و هي الّتي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر فتموت، عن ابن عبّاس و قتادة و السدّيّ. و متى وقع في بئر و لا يقدر على تذكيته جاز أن يطعن و يضرب بالسكّين في غير المذبح حتّى يبرد ثمّ يؤكل.

[وَ النَّطِيحَةُ] و هي الّتي ينطحها غيرها فتموت.

[وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ أي و حرّم عليكم ما أكله السبع بمعنى قتله السبع، و هي

ص: 247

فريسة السبع، عن ابن عبّاس و قتادة و الضحّاك.

[إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعني إلّا ما أدركتم ذكاته فذكّيتموه من هذه الأشياء، و موضع «ما» نصب بالاستثناء، و روي عن السيّدين الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّ أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرّك اذنه أو ذنبه أو تطرف عينه، و به قال الحسن و قتادة و إبراهيم و طاوس و الضحّاك و ابن زيد.

و اختلف في الاستثناء إلى ماذا يرجع؟ فقيل: إلى جميع ما تقدّم ذكره من المحرّمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الخنزير و الدم، عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس. و قيل: هو استثناء من التحريم لا من المحرّمات لأنّ الميتة لا ذكاة لها، و لا الخنزير فمعناه: حرّمت عليكم سائر ما ذكر إلّا ما ذكّيتم ممّا أحلّه اللّه لكم بالتذكية فإنّه حلال لكم، عن مالك و جماعة من أهل المدينة و اختاره الجبّائيّ.

و متى قيل: ما وجه التكرار في قوله: «وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ» إلى آخر ما عدّد تحريمه مع أنّه افتتح الآية بقوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» و الميتة تعمّ جميع ذلك و إن اختلف أسباب الموت من خنق أو تردّ أو نطح أو إهلال لغير اللّه به أو أكل سبع؟

فالجواب أنّ الفائدة في ذلك أنّهم كانوا لا يعدّون الميتة إلّا ما مات حتف أنفه من دون شي ء من هذه الأسباب فأعلمهم اللّه سبحانه أنّ حكم الجميع واحد، و أنّ وجه الاستباحة هو التذكية المشروع فقط؛ قال السدّيّ: إنّ ناسا من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك و لا يعدّونه ميّتا إنّما يعدّون الميّت الّذي يموت من الوجع.

[وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ يعنى الحجارة الّتي كانوا يعبدونها و هي الأوثان، عن مجاهد و قتادة و ابن جريح يعني و حرّم عليكم ما ذبح على النصب أي على اسم الأوثان. و قيل:

معناه ما ذبح للأوثان تقرّبا إليها، و اللام و «على» متعاقبان ألا ترى إلى قوله تعالى:

«فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» (1) بمعنى عليك، و كانوا يقرّبون و يلطّخون أوثانهم بدمائها.

قال ابن جريح: ليست النصب أصناما إنّما الأصنام ما تصوّر و تنقش بل كانت

ص: 248


1- الواقعة: 91.

أحجارا منصوبة حول الكعبة، و كانت ثلاثمائة و ستّين حجرا، و قيل كانت ثلاثمائة منها لخزاعة فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت، و شرحوا اللحم و جعلوه على الحجارة فقال المسلمون: يا رسول اللّه كان أهل الجاهليّة يعظّمون البيت بالدم فنحن أحقّ بتعظيمه، فأنزل اللّه سبحانه «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها، الآية» (1).

[وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ موضعه رفع أي و حرّم عليكم الاستسقام بالأزلام، و معناه طلب قسم الأرزاق بالقداح الّتي كانوا يتفأّلون بها في أسفارهم و ابتداء أمورهم و هي سهام كانت للجاهليّة مكتوب على بعضها «أمرني ربّي» و على بعضها «نهاني ربّي» و بعضها غفل لم يكتب عليه شي ء فإذا أرادوا سفرا أو أمرا يهتمّون به ضربوا على تلك القداح فإن خرج السهم الّذي عليه «أمرني ربّي» مضى الرجل في حاجته، و إن خرج الّذي عليه «نهاني ربّي» لم يمض، و إن خرج الّذي ليس عليه شي ء أعادوها فبيّن اللّه تعالى أنّ العمل بذلك حرام، عن الحسن و جماعة من المفسّرين.

و روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السّلام أنّ الأزلام عشرة سبعة لها أنصباء، و ثلاثة لا أنصباء لها فالّتي لها أنصباء: الفذّ و التوأم و المسبل و النافس و الحلس و الرقيب و المعلّى، فالفذّ له سهم و التوأم له سهمان و المسبل له ثلاثة أسهم و النافس له أربعة أسهم و الحلس له خمسة أسهم و الرقيب له ستّة أسهم و المعلّى له سبعة أسهم، و الّتي لا أنصباء لها: الفسيح و المنيح و الوغد، و كانوا يعمدون إلى الجزور فيجزئونه أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل، و ثمن الجزور على من تخرج له الّتي لا أنصباء لها، و هو القمار فحرّمه اللّه تعالى.

و قيل: هي كعاب فارس و الروم الّتي كانوا يتقامرون بها، عن مجاهد.

و قيل: هي الشطرنج، عن أبي سفيان بن وكيع.

[ذلِكُمْ فِسْقٌ معناه: أنّ جميع ما سبق ذكره فسق أي ذنب عظيم، و خروج من طاعة اللّه إلى معصية، عن ابن عبّاس. و قيل: إنّ «ذلِكُمْ» إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أى إنّ ذلك الاستقسام فسق، و هو الأظهر.

ص: 249


1- الحج: 37.

[الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ليس يريد يوما بعينه بل معناه: الآن يئس الكافرون من دينكم كما يقول القائل: اليوم قد كبرت، يريد أنّ اللّه تعالى حوّل الخوف الّذي كان يلحقكم من الكافرين اليوم إليهم، و يئسوا من بطلان الإسلام و جاءكم ما كنتم توعدون به في قوله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»* و الدين اسم لجميع ما تعبّد اللّه به خلقه و أمرهم بالقيام به، و معنى «يَئِسَ» انقطع طمعهم من دينكم أن تتركوه و ترجعوا منه إلى الشرك، عن ابن عبّاس و السدّيّ و عطاء.

و قيل: إنّ المراد باليوم يوم عرفة من حجّة الوداع بعد دخول العرب كلّها في الإسلام، عن مجاهد و ابن جريح و ابن زيد، و كان يوم جمعة و نظر النبيّ صلى اللّه عليه و آله فلم ير إلّا مسلما موحّدا و لم ير مشركا.

[فَلا تَخْشَوْهُمْ خطاب للمؤمنين نهاهم اللّه أن يخشوا و يخافوا من الكفّار أن يظهروا على دين الإسلام، و يقهروا المسلمين و يردّوهم عن دينهم [وَ اخْشَوْنِ أي و لكن اخشوني أي خافوني إن خالفتم أمري و ارتكبتم معصيتي أن احلّ بكم عقابي، عن ابن جريح و غيره.

[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قيل فيه أقوال:

أحدها أنّ معناه: أكملت لكم فرائضي و حدودي و حلالي و حرامي بتنزيلي ما أنزلت و بياني ما بيّنت لكم فلا زيادة في ذلك و لا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم، و كان ذلك يوم عرفة عام حجّة الوداع، عن ابن عبّاس و السدّيّ و اختاره الجبّائيّ و البلخيّ قالوا: و لم ينزل بعد هذا على النبيّ صلى اللّه عليه و آله شي ء من الفرائض في تحليل و لا تحريم، و إنّه مضى بعد ذلك بإحدى و ثمانين ليلة.

فإن اعترض معترض فقال: أ كان دين اللّه ناقصا وقتا من الأوقات حتّى أتمّه في ذلك اليوم؟ فجوابه أنّ دين اللّه لم يكن إلّا كاملا في كلّ حال، و لكن لمّا كان معرضا للنسخ و الزيادة فيه و نزول الوحي بتحليل شي ء أو تحريمه لم يمتنع أن يوصف بالكمال إذا أمن من جميع ذلك فيه كما توصف العشرة بأنّها كاملة، و لا يلزم أن توصف بالنقصان لمّا كانت المائة أكثر منها و أكمل.

و ثانيها أنّ معناه: اليوم أكملت لكم حجّكم و أفردتكم بالبلد الحرام تحجّونه

ص: 250

دون المشركين و لا يخالطكم مشرك، عن سعيد بن جبير و قتادة و اختاره الطبريّ قال: لأنّ اللّه سبحانه أنزل بعده «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» قال الفرّاء: و هي آخر آية نزلت. و هذا الّذي ذكره لو صحّ لكان لهذا القول ترجيح لكن فيه خلاف.

و ثالثها أنّ معناه: اليوم كفيتكم الأعداء و أظهرتكم عليهم كما تقول: الآن كمل لنا الملك و كمل لنا ما نريد بأن كفينا ما كنّا نخافه، عن الزجّاج.

و المرويّ عن الإمامين أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّه إنّما انزل بعد أن نصب النبيّ صلى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام علما للأنام يوم غدير خم منصرفه عن حجّة الوداع، قالا: و هو آخر فريضة أنزلها اللّه تعالى ثمّ لم ينزل بعدها فريضة.

و قد حدّثنا السيّد العالم أبو الحمد مهديّ بن نزار الحسينيّ قال: حدّثنا أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكانيّ قال: أخبرنا أبو عبد اللّه الشيرازيّ قال: أخبرنا أبو بكر الجرجانيّ قال: حدّثنا أبو أحمد البصريّ قال: حدّثنا أحمد بن عمّار بن خالد قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحمانيّ قال: حدّثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبديّ عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآية قال: اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضا الربّ برسالتي و ولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله.

و قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره: حدّثني أبي عن صفوان عن العلاء عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان نزولها بكراع الغميم (1) فأقامها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بالجحفة. و قال الربيع بن أنس: نزلت في المسير في حجّة الوداع.

[وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي خاطب سبحانه المؤمنين بأنّه أتمّ النعمة عليهم بإظهارهم على المشركين و نفيهم عن بلادهم، عن ابن عبّاس و قتادة. و قيل: معناه أتممت عليكم نعمتي بأن أعطيتكم من العلم و الحكمة ما لم يؤت قبلكم نبيّ و لا امّة. و قيل: إنّ تمام النعمة دخول الجنّة.

[وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً] أي رضيت لكم الإسلام لأمري و الانقياد لطاعتي على ما شرعت لكم من حدوده و فرائضه و معالمه «دِيناً» أي طاعة منكم لي، و الفائدة في هذا أنّ اللّه

ص: 251


1- جبل اسود في وادي الغميم منه الى مكة نحو 20 ميلا.

سبحانه لم يزل يصرف نبيّه محمّدا و أصحابه في درجات الإسلام و مراتبه درجة بعد درجة و منزلة بعد منزلة حتّى أكمل لهم شرائعه و بلغ بهم أقصى درجاته و مراتبه، ثمّ قال: رضيت لكم الحال الّتي أنتم عليها اليوم فالزموها و لا تفارقوها.

ثمّ عاد الكلام إلى القضيّة المتقدّمة في التحريم و التحليل، و إنّما ذكر قوله:

«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا- إلى قوله- وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» اعتراضا.

[فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ] معناه: فمن دعته الضرورة في مجاعة حتّى لا يمكنه الامتناع من أكله، عن ابن عبّاس و قتادة و السدّيّ [غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير مائل إلى إثم و هو نصب على الحال يعني فمن اضطرّ إلى أكل الميتة و ما عدّد اللّه تحريمه عند المجاعة الشديدة غير متعمّد لذلك و لا مختار له و لا مستحلّ له، فإنّ اللّه سبحانه أباح تناول ذلك له قدر ما يمسك به رمقه بلا زيادة عليه، عن ابن عبّاس و قتادة و مجاهد، و به قال أهل العراق.

و قال أهل المدينة: يجوز أن يشبع منه عند الضرورة. و قيل: إنّ معنى قوله: «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» غير عاص بأن يكون باغيا أو عاديا أو خارجا في معصية، عن قتادة.

[فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ في الكلام محذوف دلّ عليه ما ذكر، و المعنى: فمن اضطرّ إلى ما حرّمت عليه غير متجانف لإثم فأكله فإنّ اللّه غفور لذنوبه، ساتر عليه أكله لا يواخذه به، و ليس يريد أنّه يغفر له عقاب ذلك الأكل لأنّه أباحه له، و لا يستحقّ العقاب على فعل المباح، و هو رحيم أي رفيق بعباده، و من رحمته أباح لهم ما حرّم عليهم في حال الخوف على النفس

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 4]

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)

النزول: عن أبي رافع قال: جاء جبرائيل إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله يستأذن عليه فأذن له و قال: قد أذنّا لك يا رسول اللّه، قال: أجل و لكنّا لا ندخل بيتا فيه كلب، قال أبو رافع: فأمرني رسول اللّه أن أقتل كلّ كلب بالمدينة فقتلت حتّى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها و جئت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فأخبرته فأمرني فرجعت

ص: 252

و قتلت الكلب فجاؤوا فقالوا: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك ماذا يحلّ لنا من هذه الامّة الّتي أمرت بقتلها؟ فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فانزل الآية فأذن رسول اللّه في اقتناء الكلاب الّتي يقنص بها، و نهى عن إمساك ما لا نفع فيها، و أمر بقتل العقور و ما يضرّ و يؤذي.

و عن أبي حمزة الثماليّ و الحكم بن ظهير أنّ زيد الخيل و عديّ بن حاتم الطائيّين أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقالا: إنّ فينا رجلين لهما ستّة أكلب تأخذ بقرة الوحش و الظباء فمنها ما يدرك ذكاته و منها ما يموت، و قد حرّم اللّه الميتة فماذا يحلّ لنا من هذا؟

فأنزل اللّه «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» و سمّاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله زيد الخير.

المعنى: لمّا قدّم سبحانه ذكر المحرّمات عقّبه بذكر ما احلّ فقال:

[يَسْئَلُونَكَ يا محمّد [ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ معناه: أيّ شي ء احلّ لهم؟ أي يستخبرك المؤمنون ما الّذي احلّ لهم من المطاعم و المآكل؟ و قيل: من الصيد و الذبائح [قُلْ يا محمّد [أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ منها و هي الحلال الّذي أذن لكم ربّكم في أكله من المأكولات و الذبائح و الصيد، عن أبي عليّ الجبّائيّ و أبي مسلم. و قيل: ممّا لم يرد بتحريمه كتاب و لا سنّة، و هذا أولى لما ورد أنّ الأشياء كلّها على الإطلاق و الإباحة حتّى يرد الشرع بالتحريم و قال البلخيّ: الطيّبات ما يستلذّ.

[وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أي و احلّ لكم أيضا مع ذلك صيد ما علّمتم من الجوارح أي الكواسب من سباع الطير و البهائم، فحذف المضاف لدلالة قوله: «مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» عليه، و لأنّه جواب عن سؤال السائل عن الصيد.

و قيل: الجوارح هي الكلاب فقط، عن ابن عمر و الضحّاك و السدّيّ و هو المروي عن أئمّتنا عليهم السّلام فإنّهم قالوا: هي الكلاب المعلّمة خاصّة أحلّه اللّه إذا أدركه صاحبه و قد قتله لقوله: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ».

و روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبي بكر الحضرميّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن صيد البزاة و الصقور و القهود و الكلاب، فقال: لا تأكل إلّا ما ذكّيت إلّا الكلاب، فقلت: فإن قتله؟ قال: كل فإنّ اللّه يقول «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» ثمّ قال عليه السّلام:

ص: 253

كلّ شي ء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلّا الكلاب المعلّمة فإنّها تمسك على صاحبها، و قال: إذا أرسلت الكلب المعلّم فاذكر اسم اللّه عليه فهو ذكاته و هو أن تقول:

بسم اللّه و اللّه أكبر.

و يؤيّد هذا المذهب ما يأتي بعد من قوله: [مُكَلِّبِينَ أي أصحاب الصيد بالكلاب، و قيل: أصحاب التعليم للكلاب [تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي تؤدّبونهنّ حتّى يصرن معلّمة ممّا ألهمكم اللّه بعقولكم حتّى ميّزتم بين المعلّم و غير المعلّم، و في هذا دلالة أيضا على أنّ صيد الكلب غير المعلّم حرام إذا لم يدرك ذكاته، و قيل: معناه تعلّمونهنّ كما علّمكم اللّه، عن السدّيّ. و هذا بعيد لأنّ «من» بمعنى الكاف لا يعرف في اللغة و لا تقارب بينهما لأنّ الكاف للتشبيه و من للتبعيض.

و اختلف في صفة الكلب المعلّم فقيل: هو أن يستشلي (1) لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه، و يمسك عليه إذا أخذه و يستجيب له إذا دعاه و لا يفرّ منه، فإذا توالى منه ذلك كان معلّما، عن سعد بن أبي وقّاص و سلمان و ابن عمر. و قيل: هو ما ذكرناه كلّه و أن لا يأكل منه، عن ابن عبّاس و عديّ بن حاتم و عطاء و الشعبيّ و طاوس و السدّيّ، فروى عديّ بن حاتم عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكل منه فإنّما أمسك على نفسه. و قيل: حدّ التعليم أن يفعل ذلك ثلاث مرّات، عن أبي يوسف و محمّد. و قيل: لا حدّ لتعليم الكلاب و إذا فعل ما قلناه فهو معلّم، و يدلّ على ذلك ما رواه أصحابنا أنّه إذا أخذ كلب المجوسيّ فعلّمه في الحال فاصطاد به جاز أكل ما يقتله.

و قد تقدّم أن عند أهل البيت لا يحلّ أكل الصيد غير الكلب إلّا ما أدرك ذكاته، و من أجاز ذلك قال: إنّ تعلّم البازيّ هو أن يرجع إلى صاحبه و تعلّم كلّ جارحة من البهائم و الطير هو أن يشلى على الصيد فيستشلي و يأخذ الصيد و يدعوه صاحبه فيجيب فإذا كان كذلك كان معلّما أكل منه أولم يأكل، روي ذلك عن سلمان و سعد بن أبي وقّاص و

ص: 254


1- اشلى الكلب على الصيد: اغراه.

ابن عمر. و قال آخرون: ما أكل منه فلا يؤكل، رواه عن عليّ عليه السّلام و الشعبيّ و عكرمة.

و قوله: [فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي ممّا أمسك الجوارح عليكم و هذا يقوّي قول من قال: ما أكل منه الكلب لا يجوز أكله لأنّه أمسك على نفسه، و من شرط في استباحة ما يقتله الكلب أن يكون صاحبه قد سمّى عند إرساله فإذا لم يسمّ لم يجز له أكله إلّا إذا أدرك ذكاته و أدنى ما يدرك به ذكاته أن يجده تتحرّك عينه أو اذنه أو ذنبه، فتذكيته حينئذ بفري الحلقوم و الأوداج.

[وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي قبل الإرسال، عن ابن عبّاس و الحسن و السدّيّ.

و قيل: معناه اذكروا اسم اللّه على ذبح ما تذبحونه، و هذا صريح في وجوب التسمية، و القول الأوّل أصحّ.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ أى اجتنبوا ما نهاكم اللّه عنه فلا تقربوه و احذروا معاصيه الّتي منها أكل صيد الكلب غير المعلّم أو مالا يمسكه عليكم أو ما لم يذكر اسم اللّه عليه من الصيد و الذبائح [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قد مرّ تفسيره.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 5]

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه في هذه الآية ما يحلّ من الأطعمة و الأنكحة إتماما لما تقدّم فقال:

[الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و قد مرّ معناه، و هذا يقتضي تحليل كل مستطاب من الأطعمة إلّا ما قام الدليل على تحريمه.

[وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ اختلف في الطعام المذكور في الآية:

ص: 255

فقيل: المراد به ذبائح أهل الكتاب عن أكثر المفسّرين و أكثر الفقهاء، و به قال جماعة من أصحابنا، ثمّ اختلفوا فمنهم من قال: أراد به ذباحة كلّ كتابيّ ممّن انزل عليه التوراة و الإنجيل، و من دخل في ملّتهم و دان بدينهم، عن ابن عبّاس و الحسن و عكرمة و سعيد بن المسيّب و الشعبيّ و عطاء و قتادة و أجازوا ذبائح نصارى بني تغلب.

و منهم من قال: عنى به من أنزلت التوراة و الإنجيل عليهم أو كان من أبنائهم فأمّا من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم و دان بدينهم فلا تحلّ ذبائحهم، حكى ذلك الربيع عن الشافعيّ، و حرّم ذبائح بني تغلب من النصارى و رووا ذلك عن عليّ عليه السّلام و سعيد ابن جبير.

و قيل: المراد بطعام الّذين أوتوا الكتاب ذبائحهم و غيرها من الأطعمة عن أبي الدرداء و عن ابن عبّاس و ابراهيم و قتادة و السدّيّ و الضحّاك و مجاهد و به قال الطبريّ و الجبّائيّ و البلخيّ و غيرهم.

و قيل: إنّه مختصّ بالحبوب و ما لا يحتاج فيه إلى التذكية، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و به قال جماعة من الزيديّة فأمّا ذبائحهم فلا تحلّ.

[وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ معناه: و طعامكم يحلّ لكم أن تطعموهم [وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ معناه: و احلّ لكم العقد على المحصنات أي العفائف من المؤمنات، عن الحسن و الشعبيّ و إبراهيم. و قيل: أراد الحرائر، عن مجاهد و اختاره أبو عليّ. فعلى هذا القول لا تدخل الإماء في الإباحة مع القدرة على طول الحرّة.

[وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و هم اليهود و النصارى و اختلف في معناه فقيل: هنّ العفائف حرائر كنّ أو إماء حربيّات كنّ أو ذمّيّات، عن مجاهد و الحسن و الشعبيّ و غيرهم. و قيل: هنّ الحرائر ذمّيّات كنّ أو حربيّات.

و قال أصحابنا: لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابيّة لقوله تعالى: «وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ» (1) و لقوله: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» (2) و أوّلوا هذه

ص: 256


1- البقرة: 221.
2- الممتحنة: 10.

الآية بأنّ المراد بالمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهنّ، و المراد بالمحصنات من المؤمنات اللاتي كنّ في الأصل مؤمنات بأن ولدن على الإسلام؛ و ذلك أنّ قوما كانوا يتحرّجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبيّن سبحانه أنّه لا حرج في ذلك فلهذا أفردهنّ بالذكر، حكى ذلك أبو القاسم البلخيّ، قالوا: و يجوز أن يكون مخصوصا أيضا بنكاح المتعة و ملك اليمين، فإنّ عندنا يجوز وطؤهنّ بكلا الوجهين على أنّه قد روى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه منسوخ بقوله: «وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ» و بقوله: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ».

و قوله: [إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أى مهورهنّ و هو عوض الاستمتاع بهنّ، عن ابن عبّاس و غيره [مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ يعني أعفّاء غير زانين بكلّ فاجرة، و هو منصوب على الحال [وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي و لا متفرّدين ببغية واحدة، خادنها و خادنته اتّخذها لنفسه صديقة يفجر بها، و قد مرّ معنى الإحصان و السفاح و الأخدان في سورة النساء.

[وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي و من يجحد ما أمر اللّه بالإقرار به و التصديق له من توحيد اللّه وعد له و نبوّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله [فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ الّذي عمله و اعتقده قربة إلى اللّه تعالى، و إنّما تحبط الأعمال بأن لا يستحقّ عليها ثواب [وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أي الهالكين.

و قيل: المعنيّ بقوله: «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ» أهل الكتاب و يكون معناه: و من يمتنع عن الإيمان و لم يؤمن. و في قوله: «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» هنا دلالة على أنّ حبوط الأعمال لا يترتّب على ثبوت الثواب، فإنّ الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب و إنّما يكون له عمل في الظاهر لو لا كفره لكان يستحقّ الثواب عليه، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط فهو حقيقة معناه.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 6]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

ص: 257

المعنى: لمّا تقدّم الأمر بالوفاء بالعقود و من جملتها إقامة الصلاة و من شرائطها الطهارة بيّن سبحانه ذلك بقوله:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ] معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة و أنتم على غير طهر، و حذف الإرادة لأنّ في الكلام دلالة على ذلك، و مثله قوله: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» (1) «وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ» (2) و المعنى: إذا أردت قراءة القرآن، و إذا كنت فيهم فإذا أردت أن تقيم لهم الصلاة، و هو قول ابن عبّاس و أكثر المفسّرين.

و قيل: معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فعليكم الوضوء، عن عكرمة و إليه ذهب داود قال: و كان عليّ عليه السّلام يتوضّأ لكلّ صلاة و يقرأ هذه الآية، و كان الخلفاء يتوضّؤون لكلّ صلاة.

و القول الأوّل هو الصحيح و إليه ذهب الفقهاء كلّهم و ما رووه من تجديد الوضوء فمحمول على الندب و الاستحباب.

و قيل: إنّ الفرض كان في بدء الإسلام التوضّؤ عند كلّ صلاة ثمّ نسح بالتخفيف، و به قال ابن عمر قال: حدّثتني الأسماء بنت زيد بن الخطّاب أنّ عبد اللّه بن حنظلة ابن أبي عامر الغسيل حدّثها أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أمر بالوضوء عند كلّ صلاة فشقّ ذلك عليه فأمر بالسواك و رفع عنه الوضوء إلّا من حدث فكان عبد اللّه يرى أنّ فرضه على ما كان عليه فكان يتوضّأ. و روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يتوضّأ لكلّ صلاة فلمّا كان عام الفتح صلّى الصلاة كلّها بوضوء واحد فقال عمر بن الخطّاب:

يا رسول اللّه صنعت شيئا ما كنت تصنعه، قال: عمدا فعلته يا عمر.

ص: 258


1- النحل: 98.
2- النساء: 101.

و قيل: إنّ هذا إعلام بأنّ الوضوء لا يجب إلّا للصلاة لأنّه روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلّها حتّى أنّه لا يردّ جواب السلام حتّى يتطهّر للصلاة، ثمّ يجيب حتّى نزلت هذه الآية.

[فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ هذا أمر منه سبحانه بغسل الوجه، و الغسل هو إمرار الماء على المحلّ حتّى يسيل و المسح أن يبلّ المحلّ بالماء من غير أن يسيل.

و اختلف في حدّ الوجه فالمرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّه من قصاص الشعر إلى محادر شعر الذقن طولا، و ما دخل بين الإبهام و الوسطى عرضا.

و قيل: حدّه ما ظهر من بشرة الإنسان من قصاص شعر رأسه منحدرا إلى منقطع ذقنه طولا، و ما بين الأذنين عرضا دون ما غطّاه الشعر من الذقن و غيره، أو كان داخل الفم و الأنف و العين فإنّ الوجه عندهم ما ظهر لعين الناظر و يواجهه دون غيره كما قلناه، و هو المرويّ عن ابن عبّاس و ابن عمرو الحسن و قتادة و الزهريّ و الشعبيّ و غيرهم، و إليه ذهب أبو حنيفة و أصحابه.

و قيل: الوجه كلّ ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا و من الأذن إلى الاذن عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر من منابت شعر اللحية و العارض، و ما بطن و ما كان منه داخل الفم و الأنف، و ما أقبل من الأذنين على الوجه، عن أنس ابن مالك و امّ سلمة و عمّار و مجاهد و سعيد بن جبير و جماعة و إليه ذهب الشافعيّ.

[وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أي و اغسلوا ذلك أيضا، و المرافق جمع مرفق و هو المكان الّذي يرتفق به أي يتّكأ عليه من اليد. قال الواحديّ: كثير من النحويّين يجعلون «إلى» هنا بمعنى «مع» و يوجبون غسل المرفق و هو مذهب أكثر الفقهاء. و قال الزجّاج:

لو كان معناه مع المرافق، لم يكن في المرافق فائدة و كانت اليد كلّها يجب أن تغسل، لكنّه لمّا قيل: «إلى المرافق» اقتطعت في الغسل من حدّ المرفق فالمرافق حدّ ما ينتهى إليه في الغسل منها، و الظاهر على ما ذكره.

لكنّ الامّة أجمعت على أنّ من بدأ من المرفقين في غسل اليدين صحّ وضوؤه

ص: 259

و اختلفوا في صحّة وضوء من بدأ من الأصابع إلى المرافق.

و أجمعت الامّة أيضا على أنّ من غسل المرفقين صحّ وضوؤه و اختلفوا في من لم يغسلها هل يصحّ وضوؤه؟ و قال الشافعيّ: لا أعلم خلافا في أنّ المرافق يجب غسلها.

و ممّا جاء في القرآن «إلى» بمعنى «مع» قوله تعالى: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ»* (1) أي مع اللّه، و قوله: «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ» (2) أي مع أموالكم، و نحوه قول امرئ القيس:

له كفل كالدعص بلّله الندى إلى حارك مثل الرتاج المضبّب

و في أمثال ذلك كثرة.

[وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ و هذا أمر بمسح الرأس و المسح أن تمسح شيئا بيدك كمسح العرق عن جبينك، و الظاهر لا يوجب التعميم في مسح الرأس لأنّ من مسح البعض يسمّى ماسحا، و إلى هذا ذهب أصحابنا قالوا: يجب أن يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح، و به قال ابن عمرو إبراهيم و الشعبيّ، و هو مذهب الشافعيّ. و قيل: يجب مسح جميع الرأس، و هو مذهب مالك. و قيل: يجب مسح ربع الرأس فإنّ رسول اللّه كان يمسح على ناصيته و هي قريب من ربع الرأس، عن أبي حنيفة، و رويت عنه روايات في ذلك لا نطول بذكرها.

[وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ اختلف في ذلك فقال جمهور الفقهاء: إنّ فرضهما الغسل.

و قالت الإماميّة: فرضهما المسح دون غيره، و به قال عكرمة. و قد روي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة و التابعين كابن عبّاس و أنس و أبي العالية و الشعبيّ، و قال الحسن البصريّ بالتخيير بين المسح و الغسل و إليه ذهب الطبريّ و الجبّائيّ إلّا أنّهما قالا:

يجب مسح القدمين و لا يجوز الاقتصار على مسح ظاهر القدم. قال ناصر الحقّ- من جملة أئمّة الزيديّة-: يجب الجمع بين المسح و الغسل.

و روي عن ابن عبّاس أنّه وصف وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فمسح على رجليه. و روي عنه أنّه قال: إنّ في كتاب اللّه المسح و يأبى الناس إلّا الغسل، و قال: الوضوء غسلتان و

ص: 260


1- آل عمران: 52. الصف: 14.
2- النساء: 2.

مسحتان. و قال قتادة: فرض اللّه غسلتين و مسحتين. و روى ابن عليّة عن حميد عن موسى ابن أنس أنّه قال لأنس و نحن عنده: إنّ الحجّاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال:

اغسلوا وجوهكم و أيديكم و امسحوا برءوسكم، و إنّه ليس شي ء من بني آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما و ظهورهما و عراقيبهما؛ فقال أنس: صدق اللّه و كذب الحجّاج قال اللّه تعالى: «وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» قال: فكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. و قال الشعبيّ: نزل جبرائيل عليه السّلام بالمسح ثمّ قال: إنّ في التيمّم يمسح ما كان غسلا و يلقي ما كان مسحا. و قال يونس: حدّثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه إنّما كان يمسح عليهما.

و أمّا ما روي عن سادة أهل البيت عليهم السّلام في ذلك فأكثر من أن يحصى فمن ذلك ما روى الحسين بن سعيد الأهوازيّ عن فضالة عن حمّاد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال:

سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المسح على الرجلين، فقال: هو الّذي نزل به جبرائيل. و عنه عن أحمد بن محمّد قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفّه على الأصابع ثمّ مسحها إلى الكعبين فقلت له: لو أنّ رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين؟ قال: لا إلّا بكفّه كلّها.

أمّا وجه القراءتين في «أَرْجُلَكُمْ» فمن قال: بالغسل حمل الجرّ فيه على أنّه عطف على «بِرُؤُسِكُمْ» و قال: المراد بالمسح هو الغسل. و روي عن أبي زيد أنّه قال: المسح خفيف الغسل، فقد قالوا: تمسّحت للصلاة، و قوّى ذلك بأنّ التحديد و التوقيت إنّما جاء في المغسول و لم يجي ء في الممسوح، فلمّا وقع التحديد في المسح علم أنّه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد، و هذا قول أبي عليّ الفارسيّ. و قال بعضهم: هو خفض على الجوار كما قالوا: جحر ضبّ خرب، و «خرب» من صفات الجحر لا الضبّ و كما قال امرؤ القيس:

كأنّ ثبيرا في عرانين و بله كبير أناس في بجاد مزمّل

و قال الزجّاج: إذا قرئ بالجرّ يكون عطفا على الرؤوس فيقتضي كونه ممسوحا،

ص: 261

و ذكر عن بعض السلف أنّه قال: نزل جبرائيل بالمسح و السنّة الغسل، قال: و الخفض على الجوار لا يجوز في كتاب اللّه تعالى، و لكنّ المسح على هذا التحديد في القرآن كالغسل.

و قال الأخفش: هو معطوف على «الرؤوس» في اللفظ مقطوع عنه في المعنى كقول الشاعر:

«علّفتها تبنا و ماء باردا» المعنى: و سقيتها ماء باردا.

و أمّا القراءة بالنصب فقالوا فيه: إنّه معطوف على «أَيْدِيَكُمْ» لأنّا رأينا فقهاء الأمصار عملوا على الغسل دون المسح و لما روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله رأى قوما توضّؤوا و أعقابهم تلوح، فقال: ويل للعراقيب من النار، ذكره أبو عليّ الفارسيّ.

و أمّا من قال: بوجوب مسح الرجلين حمل الجرّ و النصب في «وَ أَرْجُلَكُمْ» على ظاهره من غير تعسّف؛ فالجرّ للعطف على الرؤوس و النصب للعطف على موضع الجار و المجرور و أمثال ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى قالوا: «ليس بقائم و لا ذاهبا» و أنشد:

معاوي إنّنا بشر فأسجح فلسنا بالجبال و لا الحديدا

و قال تأبّط شرّا:

هل أنت باعث دينار لحاجتناأو عبد رب أخا عوف بن مخراق

فعطف بعبد على موضع «دينار» فإنّه منصوب على المعنى.

و أبعد من ذلك قول الشاعر:

جئني بمثل بني بدر لقومهم أو مثل إخوة منظور بن سيّار

فإنّه لمّا كان معنى جئني هات أو احضر لي مثلهم عطف بالنصب على المعنى.

و أجابوا الأوّلين عمّا ذكروه في وجه الجرّ و النصب بأجوبة نوردها على وجه الإيجاز، قالوا: ما ذكروه أوّلا من أنّ المراد بالمسح الغسل فباطل من وجوه:

أحدها أنّ فائدة اللفظين في اللغة و الشرع مختلفة في المعنى و قد فرّق اللّه سبحانه بين الأعضاء الممسوحة، فكيف يكون معنى المسح و الغسل واحدا؟

ص: 262

و ثانيها أنّ «الأرجل» إذا كان معطوفة على «الرؤوس»، و كان الفرض في الرؤوس المسح الّذي ليس بغسل بلا خلاف فيجب أن يكون حكم الأرجل كذلك لأنّ حقيقة العطف تقتضي ذلك.

و ثالثها أنّ المسح لو كان بمعنى الغسل لسقط استدلالهم بما رووه عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه توضّأ و غسل رجليه؛ لأنّ على هذا لا ينكر أن يكون مسحهما فسمّوا المسح غسلا، و في هذا ما فيه.

فأمّا استشهاد أبي زيد بقولهم: «تمسّحت للصلاة» فالمعنى فيه أنّهم لمّا أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، و لم يجز أن يقولوا: تغسّلت للصلاة، لأنّ ذلك تشبيه بالغسل قالوا بدلا من ذلك: «تمسّحت» لأنّ المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، فتجوّزوا لذلك تعويلا على أنّ المراد مفهوم؛ و هذا لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل.

و أمّا ما قالوه في تحديد طهارة الرجلين فقد ذكر المرتضى رحمه اللّه في الجواب عنه أنّ ذلك لا يدلّ على الغسل؛ و ذلك لأنّ المسح فعل قد أوجبته الشريعة كالغسل فلا ينكر تحديده كتحديد الغسل، و لو صرّح سبحانه فقال: و امسحوا أرجلكم و انتهوا بالمسح إلى الكعبين، لم يكن منكرا.

فإن قالوا: إنّ تحديد اليدين لمّا اقتضى الغسل فكذلك تحديد الرجلين يقتضي الغسل.

قلنا: إنّا لم نوجب الغسل في اليدين للتحديد بل للتصريح بغسلهما، و ليس كذلك في الرجلين.

و إن قالوا: عطف المحدود على المحدود أولى و أشبه بترتيب الكلام.

قلنا: هذا لا يصحّ لأنّ الأيدي محدودة و هي معطوفة على الوجوه الّتي ليست في الآية محدودة فإذا جاز عطف الأرجل و هي محدودة على الرؤوس الّتي ليست محدودة، و هذا أشبه ممّا ذكرتموه لأنّ الآية تضمّنت ذكر عضو مغسول غير محدود و هو الوجه و عطف

ص: 263

عضو مغسول محدود عليه ثمّ استؤنف ذكر عضو ممسوح غير محدود فيجب أن يكون الأرجل ممسوحة و هي محدودة معطوفة على الرؤوس دون غيره ليتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود، و عطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود.

و أمّا من قال: إنّه عطف على الجوار، فقد ذكرنا عن الزجّاج أنّه لم يجوّز ذلك في القرآن، و من أجاز ذلك في الكلام فإنّما يجوّز مع فقد حرف العطف. و كلّ ما استشهد به على الإعراب بالمجاورة فلا حرف فيه حائل بين هذا و ذلك، و أيضا فإنّ المجاورة إنّما وردت في كلامهم عند ارتفاع اللبس و الأمن من الاشتباه فإنّ أحدا لا يشتبه عليه أنّ «خربا» لا يكون من صفة الضبّ و لفظة «مزمّل» لا يكون من صفة البجاد، و ليس كذلك «الأرجل» فإنّها تجوز أن تكون ممسوحة كالرؤوس، و أيضا فإنّ المحقّقين من النحويّين نفوا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزا في كلام العرب، و قالوا في «جحر ضبّ خرب»:

إنّهم أرادوا خرب جحره فحذف المضاف الّذي هو جحر و أقيم المضاف إليه- و هو الضمير المجرور- مقامه و إذا ارتفع الضمير استكن في خرب، و كذلك القول في «كبيرا ناس في بجاد مزمّل» فتقديره: مزمّل كبيره، فبطل الإعراب بالمجاورة جملة، و هذا واضح لمن تدبّره.

و أمّا من جعله مثل قول الشاعر: «علّفتها تبنا و ماء باردا» كأنّه قدّر في الآية «اغسلوا أرجلكم» فقوله أبعد من الجميع لأنّ مثل ذلك لو جاز في كتاب اللّه تعالى على ضعفه و بعده في سائر الكلام فإنّما يجوز إذا استحال حمله على ظاهره، و أمّا إذا كان الكلام مستقيما و معناه ظاهرا فكيف يجوز مثل هذا التقدير الشاذّ البعيد؟

و أمّا ما قاله أبو عليّ في القراءة بالنصب على أنّه معطوف على «الأيدي» فقد أجاب عنه المرتضى رحمه اللّه بأن قال: جعل التأثير في الكلام للقريب أولى من جعله للبعيد فنصب «الأرجل» عطفا على الموضع أولى من عطفها على «الأيدي» و «الوجوه» على أنّ الجملة الاولى المأمور فيها بالغسل قد نقضت و بطل حكمها باستئناف الجملة الثانية، و لا يجوز بعد انقطاع حكم جملة الاولى أن تعطف على ما قبلها؛ فإنّ ذلك يجري مجرى قولهم: «ضربت زيدا و عمرا و أكرمت خالدا و بكرا» فإنّ ردّ بكر إلى خالد في الإكرام هو الوجه في

ص: 264

الكلام الّذي لا يسوغ سواه و لا يجوز ردّه إلى الضرب الّذي قد انقطع حكمه و لو جاز ذلك أيضا لترجّح ما ذكرناه لتطابق معنى القراءتين و لا يتنافيان.

فأمّا ما روي في الحديث أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: ويل للعراقيب من النار، و غير ذلك من الأخبار الّتي رووها عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه توضّأ و غسل رجليه، فالكلام في ذلك أنّه لا يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن المعلوم بظاهر الأخبار الّذي لا يوجب علما، و إنّما يقتضي الظنّ.

على أنّ هذه الأخبار معارضة بأخبار كثيرة وردت من طرقهم و وجدت في كتبهم و نقلت عن شيوخهم مثل ما روي عن أوس بن أوس أنّه قال: رأيت النبيّ صلى اللّه عليه و آله توضّأ و مسح على نعليه ثمّ قام فصلّى. و عن حذيفة قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سباطة قوم فبال عليها ثمّ دعا بماء فتوضّأ و مسح على قدميه، و ذكره أبو عبيدة في غريب الحديث، إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره. و قوله: ويل للعراقيب من النار، فقد روي فيه أنّ قوما من أجلاف الأعراب كانوا يبولون و هم قيام فيتشرشر البول على أعقابهم و أرجلهم فلا يغسلونها و يدخلون المسجد للصلاة، و كان ذلك سببا لهذا الوعيد.

و أمّا الكعبان فقد اختلف في معناهما فعند الإماميّة هما العظمان الناتئان في ظهر القدم عند مقعد الشراك و واقفهم في ذلك محمّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة و إن كان يوجب غسل الرجلين إلى هذا الموضع. و قال جمهور المفسّرين و الفقهاء: الكعبان هما عظما الساقين.

قالوا: و لو كان كما قالوه لقال سبحانه: و أرجلكم إلى الكعاب، و لم يقل: إلى الكعبين؛ لأنّ على ذلك القول يكون في كلّ رجل كعبان.

[وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا] معناه: إن كنتم جنبا عند القيام إلى الصلاة فتطهّروا بالاغتسال، و هو أن تغسلوا جميع البدن. و الجنابة إنّما تكون بإنزال الماء الدافق على كلّ حال أو بالتقاء الختانين و حدّه غيبوبة الحشفة في الفرج سواء كان معه إنزال أو لم يكن.

ص: 265

[وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ (1) أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ] و الغائط هو المكان الغائر المطمئنّ و هو كناية عن الحدث، لأنّ المعتاد عندهم أنّ من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.

[أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ] و ملامسة النساء مماسّة بشرة الرجل بشرة المرأة و هي كناية عن الجماع و مثل هذه الكنايات من الآداب القرآنيّة؛ إذ التصريح في مثل هذه الموارد مستهجن و مراعاة الأدب من محسّنات الكلام و المتكلّم؛ قال أيّوب: «ربّ إنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (2) فقد تأدّب من وجهين: أحدهما أنّه لم يقل: أمسستني بالضرّ، و الآخر لم يقل: ارحمني، بل عرّض تعريضا فقال: «أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» قال إبراهيم: «وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» (3) و لم يقل: إذا مرضتني، حفظا للأدب.

و كما أنّه يلزم حفظ الأدب في الأقوال كذا يلزم مراعاته في الأفعال و الأعمال و الحركات، و حقيقة الأدب حفظ السرّ و قبول سنّة صاحب الشريعة، و لمّا كان حبّ الدنيا الّذي هو الداء المهلك غلب على الطباع قلّ المؤدّب و المتأدّب، و اصطلحا في الدهنة كي لا ينكشف فضائحهم فامتنعوا عن تأديب بعضهم بعضا، فقلّ الدواء و الطبيب و كثر المرض و المرضى.

[فَلَمْ تَجِدُوا ماءً] و المراد عدم التمكّن من استعماله؛ لأنّ ما لا يتمكّن من استعماله كالمفقود.

[فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً] أي اقصدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا. و الصعيد هو وجه الأرض ترابا أو غيره، سمّي صعيدا لكونه صاعدا، و الطيّب بمعنى الطاهر.

[فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من ذلك الصعيد، و المعنى: بعد وضعهما على الصعيد إلى الوجوه و الأيدي من غير أن يتخلّلها ما يوجب الفصل، و عند الجماعة

ص: 266


1- هنا ينتهى الساقط من الأصل.
2- الأنبياء: 73، و لفظ الآية هكذا: «وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».
3- الشعراء: 80.

مسح الأيدي إلى المرفقين؛ قالوا: لأنّه بدل من الوضوء فيقدّر بقدره. و عندنا مسح الأيدي من الزندين.

[ما يُرِيدُ اللَّهُ بالأمر بالطهارة [لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و يضيق عليكم في الدين [وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ لتكونوا منظّفون و مطهّرون، أو المراد: يريد ليطهّركم من الذنوب؛ فإنّ الطهارة و الوضوء مكفّرة لها كما روي أنّ رسول اللّه قال: أيّما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثمّ غسل كفّيه نزلت خطيئة كفّيه مع أوّل قطرة فإذا تمضمض نزلت خطيئة لسانه و شفتيه مع أوّل قطرة و إذا غسل وجهه و يديه سلم من كلّ ذنب هو عليه.

أقول:- إن صحّ الخبر- لعلّ المراد من الذنوب الصغائر.

و قيل. المعنى في قوله: «وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» أي يريد أن يطهّركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء.

[وَ لِيُتِمَ بشرعه و حكمه [نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الدين و برخصه و عزائمه- و الرخصة ما شرّع نباء على الاختيار و العزيمة ما شرّع إصالة- مثل أن تمّم سبحانه نعمته بإباحته لكم التيمّم و جعله سبحانه الصعيد لكم طهورا عوض الوضوء و الغسل رخصة لكم منه تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا اللّه على نعمته و هي ما أمركم به و نهاكم عنه.

قال الطبرسيّ: و تضمّنت هذه الآية أحكام الوضوء و الغسل و التيمّم و مسائلها المتفرّعة منها مبسوطة في كتب الفقه.

[سورة المائدة (5): آية 7]

وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)

. قال سبحانه: «نِعْمَةَ اللَّهِ» و لم يقل: نعم اللّه، لأنّه ذهب مذهب الجنس في ذلك و جملة النعم تسمّى نعمة كما أنّ قطاعا من الأرض تسمّى أرضا.

و قوله: [وَ اذْكُرُوا] مشعر لسبق النسيان فكيف نسيانها مع كثرتها و هي متوالية و متواترة علينا؟ و ذلك أنّها بكثرتها و تعاقبها صارت كالأمر المعتاد فصارت غلبة ظهورها

ص: 267

و كثرتها من الحياة و الصحّة و العقل و الهداية و الصون عن الآفات سببا لوقوعها في محلّ النسيان و هو مثل قولهم: سبحان من احتجب عن العقول لشدّة ظهوره و اختفى عنها بكمال نوره، فالنعمة موجبة للانقياد و القبول لمراتب التكليف و العبوديّة و السبب الآخر بكونهم منقادين بأوامر اللّه.

قوله تعالى: [وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ و المواثقة: المعاهدة.

و للمفسّرين في تفسير هذا الميثاق وجوه قيل: المراد هو المواثيق الّتي جرت بين رسول اللّه و بينهم على البيعة و السمع و الطاعة في المحبوب و المكروه، مثل مبايعته مع الأنصار في أوّل الأمر و مبايعته عامّة المؤمنين تحت الشجرة، و أضاف الميثاق مع الرسول إلى نفسه سبحانه و ذلك مثل قوله: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (1) و مثل قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ». (2) قيل- و القائل ابن عبّاس-: هو الميثاق الّذي أخذه اللّه على بني إسرائيل حين أخذ منهم العهد بالعمل بالتوراة و بكلّ ما فيها، فلمّا كان من جملتها البشارة بمقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله لزمهم الإقرار بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله.

و قال الكلبيّ و مجاهد و مقاتل: هو الميثاق الّذي أخذه اللّه منهم حين أخرجهم من ظهر آدم و أشهدهم على أنفسهم: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ»؟

فإن قيل: إنّ بني آدم لا يذكرون هذا العهد و الميثاق فكيف يؤمرون بحفظه؟

فإنّه لمّا أخبر اللّه بأنّه كان ذلك حاصلا فقد حصل القطع بحصوله فحينئذ يحسن أن يأمرهم بالوفاء بذلك العهد.

و قال السدّيّ: المراد بالميثاق الدلائل العقليّة و الشرعيّة الّتي نصبها اللّه تعالى على التوحيد و الشرائع، و هو اختيار أكثر المتكلّمين.

[إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا] ظرف «لواثقكم به» و فائدة التقييد به وجوب مراعاته بتذكير قولهم [وَ اتَّقُوا اللَّهَ من المخالفة [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] من الصدور المنشرحة و الصدور

ص: 268


1- النساء: 80.
2- الفتح: 19.

المريضة فاعرض بنفسك على كتاب اللّه قال اللّه: «وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (1) فهل انتهيت؟

قال اللّه: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ» (2) فهل تداركت لذلك اليوم؟ و ليس هذا الإهمال إلّا لضعف الداعي فإنّ الباعث القويّ هو الخوف من اللّه و ذلك قليل.

قال صلى اللّه عليه و آله: رأس الحكمة مخافة اللّه قال اللّه: و عزّتي و جلالي لا أجمع على عبدي خوفين و لا أجمع له أمنين فإذا أمنني في الدنيا أخفته في القيامة و إذا خافني في الدنيا أمنته في القيامة. و الخوف سوط يسوق العبد إلى السعادة و علاج قلّة الخوف مشاهدة أحوال الأنبياء و الكمّلين بسماع ذلك مثل أنّ داود بسبب ترك أولى ضلّ أربعين يوما أبدا باكيا لا يرفع رأسه حتّى نبت المرعى من دموعه فحينئذ العاقل يعلم أنّه أحقّ بالخوف منهم فيقوى خوفه و كلّنا نزعم و ندّعي أنّنا خائفين و لكن لسنا بصادقين لأنّ للخوف آثارا فمن آثاره الزهد و عدم علاقه الدنيا، و للزهد أيضا درجات:

أحدها أن يزهد و نفسه مائلة إلى الدنيا و لكنّه يجاهدها فهذا بداية الزهد و هو متزهّد.

الثاني أن يتنفّر عن الدنيا و لا يميل إليها لعلمه بأنّ الجمع بينها و بين نعم الآخرة غير ممكن، و هذا هو الزهد.

أي بما تضمرونه في صدوركم و المراد بالصدور و هاهنا القلوب و إنّما قال: ذات الصدور، على لفظ التأنيث لأنّ المراد بذلك المعاني الّتي تحلّ القلوب و لم يقل: ذوات، لينبئ عن التفصيل في كلّ ذات.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 8 الى 10]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)

ص: 269


1- النازعات: 40.
2- البقرة: 254.

لمّا ذكر سبحانه الوفاء بالعهود و الميثاق بيّن ما يلزم الوفاء به فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ مقيمين لأوامره مراعين لحقوقها [شُهَداءَ بِالْقِسْطِ] و العدل و الحقّ مبيّنين دين اللّه و حججه لأنّ الشاهد يبيّن ما شهد عليه. و قيل: معناه كونوا من أهل العدل الّذين حكم اللّه بأنّ مثلهم يكونون شهداء علي الناس يوم القيامة.

[وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ قال الزجّاج: من حرّك النون من شنآن أراد بغض قوم و من سكّن أراد بغيض قوم على أنّ الشنآن محرّكة مصدر و الشنآن بالسكون صفة.

[عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا] أي لا يحملنّكم بغضكم إيّاهم، و على القول الآخر لا يحملنّكم بغيض قوم و عدوّ قوم على أن تجوروا عليهم في حكمكم فيهم و لا تعدلوا في أمورهم فتجوروا في سيرتكم عليهم.

[اعْدِلُوا] و اعملوا بالعدل أيّها المؤمنون في أوليائكم و أعدائكم [هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي العدل أقرب للتقوى.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ و خافوا عقابه بفعل الطاعات و اجتناب السيّئات [إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ] و عالم [بِما تَعْمَلُونَ أي بأعمالكم فيجازيكم عليها.

[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] و صدّقوا بوحدانيّة اللّه و أقرّوا بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الواجبات و المندوبات [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ] لذنوبهم و المراد به التغطية و الستر [وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ يريد ثوابا عظيما.

و وعد اللّه لا يقع فيه الخلف لأنّ دخول الخلف إنّما يكون إمّا للجهل حيث ينسى وعده و إمّا للعجز حيث لا يقدر على الوفاء بوعده و إمّا للبخل حيث يمنعه البخل عن الوفاء و إمّا للحاجة فإذا كان اللّه منزّها عن كلّ هذه الوجوه كان دخول الخلف في وعده محالا فالإخبار بالوعد مثل الإتيان بالموعود به بل أوكد، و هذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عند سكرات الموت.

ثمّ ذكر وعيد الكفّار فقال: [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ .

ص: 270

قال الرازيّ: هذه الآية نصّ قاطع في أنّ الخلود ليس إلّا للكفّار لأنّ قوله:

«أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» يفيد الحصر و المصاحبة يقتضي الملازمة.

[سورة المائدة (5): آية 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

النزول: قيل: إنّ المشركين في أوّل الأمر كانوا غالبين و المسلمين كانوا مقهورين و كان المشركون أبدا يريدون إيقاع البلاء و النهب بالمسلمين و اللّه تعالى كان يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام و عظمت شوكة المسلمين فقال:

[اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ و هم المشركون [أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالإيذاء و القتل [فَكَفَ اللّه بلطفه أيدي الكفّار [عَنْكُمْ أيّها المسلمون و مثل هذه الإنعام يوجب عليكم أن تتّقوا معاصيه.

ثمّ قال: [وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي كونوا مواظبين على طاعته.

و قيل في وجه النزول: إنّ الآية نزلت في وقعة خاصّة قال ابن عبّاس و الكلبيّ و مقاتل: كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعث سريّة إلى بني عامر فقتلوا ببئر معونة إلّا ثلاثة نفر أحدهم عمره بن اميّة الضمريّ و انصرف هو و آخر معه إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله ليخبراه خبر القوم فلقيا رجلين من بني سليم معهما أمان من النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقتلاهما و لم يعلما أنّ معهما أمانا فجاء قومهما يطلبون الدية فخرج النبيّ صلى اللّه عليه و آله و معه عليّ عليه السّلام و بعض الأصحاب حتّى دخلوا على بني النضير- و قد كانوا عاهدوا النبيّ على ترك القتال و على أن يعينوه في الديات- فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: رجل من أصحابي أصاب رجلين و معهما أمان منّي فلزمني ديتهما فأريد أن تعينوني فقالوا: اجلس حتّى نطعمك و نعطيك ما تريد. ثمّ همّوا بالفتك به و بأصحابه. فنزل جبرئيل و أخبر بذلك فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في الحال مع أصحابه و خرجوا فقال اليهود: إنّ قدورنا تغلي، فأعلمهم الرسول بما نزل من الوحي، و قيل: بل ألقوا حجرا عليه فأخذه جبرئيل.

ص: 271

و قيل: إنّ الرسول نزل منزلا و تفرّق الناس عنه و علّق رسول اللّه سيفه بشجرة فجاء أعرابيّ و سلّ سيف رسول اللّه فأقبل عليه و قال: من يمنعك منّي؟ قال صلى اللّه عليه و آله: اللّه، قالها ثلاثا فأسقطه جبرئيل من يده فأخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قال: من يمنعك منّي؟

فقال: لا أحد.

و قيل: إنّ المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر بالجماعة و ذلك بعسفان غزوة ذي أنمار فلمّا صلّوا ندم المشركون و قالوا: ليتنا أوقعنا بهم في أثناء الصلاة! فقيل لهم: إنّ للمسلمين بعدها صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم و آبائهم- يعنون صلاة العصر- فهمّوا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها فنزل جبرئيل بصلاة الخوف.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي راعوا حقوق شكر النعم عطف على «اذكروا» [وَ عَلَى اللَّهِ لا على غيره [فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنّه يكفيهم في إيصال كلّ خير و دفع كلّ شرّ، و التوكّل هو الاعتصام باللّه في جميع الأمور و محلّه القلب و الحركة بالظاهر لا تنافي توكّل القلب بعد ما تحقّق للعبد أنّ التقدير من قبل اللّه.

و أعلى مراتب التوكّل أن يكون بين يدي اللّه كالميّت بين يدي الغاسل تحرّكه القدرة الأزليّة و هو الّذي قوي يقينه، ألا ترى إلى قصّة إبراهيم و نمرود؟ حين أراد أن يلقاه في النار فلمّا رموه في النار جاءه جبرئيل و هو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ قال إبراهيم:

أمّا إليك فلا، وفاه بقوله: «حسبي اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ».

و من يكن اللّه حسبه و كافيه فقد فاز فوزا عظيما و قد قال اللّه: «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ» (1) فطالب الكفاية بغيره مكذّب بالآية.

قال صلى اللّه عليه و آله: لو أنّ العبد يتوكّل على اللّه حقّ توكّله لجعله كالطير تغدو خماصا و تروح بطانا؛ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أيّها الناس لا يشغلكم المضمون في الرزق عن المعروض عليكم من العمل.

و المتوكّل لا يسأل و لا يردّ و لا يمسك خوف الفقر و يجعل نفسه بين يدي اللّه كالميّت

ص: 272


1- الزمر: 36.

بين يدي الغاسل يقلّبه حيث يشاء سواء كان شدّة أو رخاء فإنّ ما قضاه اللّه له خير له. و يكفيك في تفاوت الدرجة حال إبراهيم و هو في كفّة المنجنيق و حال يوسف و هو في السجن حيث قال: اذكرني عند ربّك، فلبث في السجن بضع سنين، و قد جعل اللّه النار على إبراهيم بردا و سلاما و الأرض وردا و رياحين.

و التوكّل من أعلى درجة المقرّبين و هو صعب بسبب تخليص الذهن و الخاطر بأنّ الأسباب غير مؤثّر في إيجاد الأمر مشكل بل الغالب يزعمون بالاشتراك كما يقولون:

لو لا فلان لقتلني فلان. و تخليص الذهن عن هذه المشاركة أمر صعب.

و التفويض أوسع معنى من التوكّل فإنّ المفوّض أسلم وجوده اللّه يفعل به ما يشاء من غير أن يخطر بباله مراده بخلاف المتوكّل فإنّه يطلب من اللّه أن يقوم بمراده فيجعله وكيلا في إصلاح أمره و مراده فالتوكّل من أعلى درجات المقرّبين و المؤمن لا يكون كاملا إلّا أن يتحلّى بهذه الحلية و يسير في طريق الحقّ بسيرة هذه الفضيلة و السالك الّذي هو في السلوك إذا كان عاريا عن هذه السيرة فهو ناقص في كلّ فضيلة بل خال عنها طالب للشهرة.

قيل: إنّه دخل حكيم على رجل فرأى دارا متجدّدة و فرشا مبسوطا و رأى صاحبها خاليا من الفضل و الأخلاق الحسنة فتنحنح الحكيم و بزق على وجه الرجل فقال الرجل:

ما هذا السفه أيّها الحكيم؟ فقال: بل هو عين الحكمة لأنّ البصاق لزق إلى أخسّ ما كان في الدار و لم أر في دارك أخسّ منك فجعلته مكانه لخلوّك عن الفضائل الباطنة.

[سورة المائدة (5): آية 12]

وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)

. و لمّا أمر اللّه سبحانه في الآيات السابقة المؤمنين بتذكّر نعمه و حفظ الميثاق و ذكر أنّ بني إسرائيل نقضوه و تركوا الوفاء به فلا تكونوا أيّها المؤمنون مثل أولئك في هذا

ص: 273

الخلق الذميم فشرح سبحانه قبح عادات اليهود في خيانة الرسل فقال:

[وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ أي باللّه قد أخذ اللّه عهد طائفة اليهود بإخلاص العبادة له و الإيمان برسله و ما يأتون به من الشرائع [وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً] أي أمرنا موسى بأن يبعث من الأسباط الاثني عشر اثني عشر رجلا كالطلائع يتجسّسون أخبار أرض الشام و الجبابرة، و نقيب القوم هو الّذي ينقب عن الأسرار و مكنون الضمائر و يعلم دخيلة امور القوم و يعرف مناقبهم و هو الطريق إلى معرفة أمورهم؛ فاختار موسى من كلّ سبط رجلا يكون لهم نقيبا كفيلا زعيما أمينا فرجعوا ينهون قومهم عن قتالهم لما رأوا من شدّة بأس الجبابرة و عظم خلقهم إلّا رجلين منهم: كالب بن يوفنا و يوشع بن نون.

و قيل: معناه أخذنا من كلّ سبط منهم ضمينا بما عقدنا عليهم من الميثاق في أمر دينهم.

قال البلخيّ: يجوز أن يكونوا رسلا و يجوز أن يكونوا قادة. و قال أبو مسلم:

بعثوا أنبياء ليقيموا الدين و يعلّموا الأسباط التوراة و يأمروهم بما فرض اللّه عليهم [وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ قيل: الخطاب لبني إسرائيل. و قيل: إنّه خطاب للنقباء و يجوز للنقباء و بني إسرائيل. و قال اللّه لهم فحذف كلمة «لهم» لدلالة قوله: «إِنِّي مَعَكُمْ» بالنصر و الغلبة إن قاتلتموا أعدائي و أعداءكم.

ثمّ قال: [لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ] معشر بني إسرائيل، و ذكر سبحانه جملة شرطيّة مركّبا من امور خمسة و هي قوله: «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ» [وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ] أي أعطيتموها [وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي و تصدّقون بما أتوا به من شرائع ديني [وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ و التعزير التوقير و التعظيم و النصرة و التقوية [وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً] أي أنفقتم في سبيل اللّه و أعمال البرّ من أموالكم نفقة حسنة فكأنّه قرض من هذا الوجه. و معنى «حسنا» أي طيّبة النفس بها و أن لا يتبعه منّ و لا أذى، أو المراد حلالا [لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ و أسقط عنكم سيّئاتكم، جواب للقسم المدلول عليه باللام سادّ مسدّ جواب الشرط [وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا] و تحت أشجارها و مساكنها [الْأَنْهارُ] الأربعة، و أخّر ذكر الإدخال لضرورة تقدّم التخلية على التحلية.

ص: 274

[فَمَنْ كَفَرَ] برسلي و بما عدّد في حيّز الشرط [بَعْدَ ذلِكَ الشرط المعلّق به الوعد العظيم [مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي وسط الطريق الواضح ضلالا بيّنا و أخطأ خطاء فاحشا لا عذر معه أصلا. فإن قيل: إنّ من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضلّ سواء السبيل، نعم كذلك الأمر و لكنّ الضلال بعده أعظم لأنّ الكفر بعد النعمة أقبح فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر و بلغ النهاية القصوى.

قوله: [سورة المائدة (5): آية 13]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)

[فَبِما نَقْضِهِمْ «ما» زائدة مؤكّدة أي فبنقضهم [مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ و طردناهم عن رحمتنا، و في الكلام حذف اكتفي بدلالة الظاهر عليه و التقدير: فنقضوا عهدهم فلعنّاهم بنقضهم ذلك الميثاق و العهد و أبعدناهم من رحمتنا على وجه العقوبة. و قيل: معناه: مسخناهم قردة و خنازير. و قيل: عذّبناهم و ذلّلناهم بالجزية.

[وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً] يابسة غليظة لا تلين لقبول الحقّ فسلبناهم اللطف و التوفيق الّذي تنشرح به صدورهم حتّى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، و هذا كما يقول الإنسان لغيره: أفسدت سيفك، إذا ترك تعاهده. و قيل: معناه أخبرنا و بيّنا عن حال قلوبهم و ما هي عليها من القساوة و حكمنا بأنّهم لا يؤمنون و لا تنجع فيهم موعظة كما يقال: فلان جعل فلانا فاسقا و فلانا عدلا، أي أخبر و بيّن عن حالهما.

[يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ و يفسّرونه على غير ما انزل فيكون التحريف بسوء التأويل و بالتغيير و التبديل كما غيّروا نعوت النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

[وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا نصيبا ممّا أمروا به في كتابهم و هو الإيمان بمحمّد صلى اللّه عليه و آله و ضيّعوا ما ذكره اللّه في كتابهم ممّا فيه رشدهم.

[وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ الخائنة أي خيانة على أنّها مصدر كاللاغية

ص: 275

و الكاذبة مثل قوله: «لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» (1) أي لغوا، و المعنى: أنّ الغدر و الخيانة عادة مستمرّة لهم و لأسلافهم بحيث لا يكادون يتركونها فلا تزال ترى ذلك منهم. و يجوز أن يكون «الخائنة» صفة فالمعنى: لا تزال تطّلع على نفس خائنة أو ذات خيانة إلّا قليلا منهم لم يخونوا و هم الّذين آمنوا منهم كعبد اللّه بن سلام و أضرابه، (2) و هو استثناء من الضمير المجرور في «منهم».

[فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ أي أعرض عنهم و لا تتعرّض لهم بالمعاقبة إن تابوا و آمنوا أو عاهدوا و التزموا الجزية. و قيل: الحكم مطلق فنسخ بآية السيف و هو قوله: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» (3).

[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للأمر بالصفح، و قيل: المراد بهؤلاء المحسنين هم المعنيّون بقوله «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» و هم الّذين ما نقضوا العهد.

[سورة المائدة (5): آية 14]

وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)

. المراد من الآية أنّ سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في بعض المواثيق من عند اللّه.

[وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا] أي و أخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممّن قبلهم من اليهود و «من» متعلّقة «بأخذنا» و التقديم للاهتمام و إنّما قال سبحانه: «قالُوا إِنَّا نَصارى و لم يقل: و من النصارى، تنبيها على أنّهم نصارى بنسبتهم أنفسهم بهذه الأمم ادّعاء لنصرة اللّه بقولهم لعيسى «نحن أنصار اللّه» و الميثاق المأخوذ منهم هو ما أخذ اللّه عليهم في الإنجيل من الأمر المؤكّد و العهد باتّباع محمّد صلى اللّه عليه و آله و إظهار صفته و نعوته.

ص: 276


1- الغاشية: 11.
2- لا يخلو من شي ء فان عبد اللّه بن سلام اسلم قبل نزول الآية بمدة فالظاهر ان المراد به بعض اليهود الذين لم يسلموا حين نزول الآية. الميزان
3- التوبة: 29.

[فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ مرّ تفسيره [فَأَغْرَيْنا] أي ألصقنا و ألزمنا من غري بالشي ء إذا لزمه [بَيْنَهُمُ ظرف متعلّق بأغرينا بين اليهود و النصارى، و قيل: بين فرق النصارى فإنّ بعضهم يكفّر بعضا إلى يوم القيامة [الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ] و هي تباعد القلوب و النيّات [إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] غاية للإغراء أو للعداوة و البغضاء.

[وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ و يخبرهم في الآخرة بما عملوا، قيل: السبب في وقوع العداوة و الاختلاف بين النصارى هو رجل يقال له يونس و كان بينه و بين النصارى قتال قتل منهم خلقا كثيرا فأراد أن يحتال بحيلة يلقي بينهم القتال فيقتل بعضهم بعضا فجاء إلى النصارى و جعل نفسه أعور و قال لهم: ألا تعرفونني؟ فقالوا: أنت الّذي فعلت ما فعلت و قتلت ما قتلت، فقال: قد فعلت ذلك كلّه و الآن تبت لأنّي رأيت عيسى في المنام نزل من السماء فلطم وجهي لطمة فقأ عيني و قال: أيّ شي ء تريد من قومي؟ تبت على يده ثمّ جئتكم لأكون بين ظهرانيكم و اعلّمكم شرائع دينكم كما علّمني عيسى في المنام.

فاتّخذوا له غرفة فصعد تلك الغرفة و فتح كوّة إلى الناس في الحائط و كان يتعبّد في الغرفة و ربّما كانوا يجتمعون إليه و يسألونه و يجيبهم من تلك الكوّة و ربّما يأمرهم بأن يجتمعوا و ينادي لهم من تلك الكوّة و يقول لهم بقول كان في الظاهر منكرا و ينكرون عليه فكان يفسّر ذلك القول تفسيرا يعجبهم ذلك فانقادوا كلّهم له و كانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به.

فقال يوما من الأيّام: اجتمعوا عندي فقد حضرني علم، فاجتمعوا فقال لهم: أليس خلق اللّه هذه الأشياء في الدنيا لمنفعة بني آدم؟ قالوا: نعم، فقال: لم تحرّمون على أنفسكم هذه الأشياء يعني الخمر و الخنزير و قد خلق لكم ما في الأرض جميعا؟ فأخذوا قوله فاستحلّوا الخمر و الخنزير.

فلمّا مضى على ذلك أيّام دعاهم و قال: قد حضرني علم، فاجتمعوا فقال لهم: من أيّ ناحية تطلع الشمس؟ فقالوا: من قبل المشرق، فقال: و من أيّ ناحية تطلع القمر و النجوم؟ فقالوا: من قبل المشرق، فقال: و من يرسلهم من المشرق؟ قالوا: اللّه تعالى، فقال:

ص: 277

اعلموا أنّه تعالى في قبل المشرق فإن صلّيتم له فصلّوا إليه، فحوّل صلاتهم إلى المشرق.

فلمّا مضى على ذلك أيّام دعا بطائفة منهم و أمرهم بأن يدخلوا عليه في الغرفة فقال لهم: إنّي أريد أن أجعل نفسي الليلة قربانا لأجل عيسى و قد حضرني علم فأريد أن أخبركم في السرّ لتحفظوا ما عنّي و تدعوا الناس إلى ذلك بعدي- و يقال أيضا: إنّه أصبح يوما و فتح عينه الاخرى ثم دعاهم و قال لهم: جاءني عيسى الليلة و قال: قد رضيت عنك فمسح يده على عيني فبرئت و الآن أريد أن أجعل نفسي قربان له- ثمّ قال: هل يستطيع أحد أن يحيي الموتى و يبرئ الأكمه و الأبرص إلّا اللّه؟ فقالوا: لا، فقال: إنّ عيسى قد فعل هذه الأشياء فاعلموا أنّه هو اللّه، فخرجوا من عنده.

ثمّ دعا بطائفة اخرى فأخبرهم بذلك أيضا و قال: إنّه كان ابنه.

ثمّ دعا بطائفة ثالثة و أخبرهم بذلك أيضا و قال لهم: إنّه ثالث ثلاثة. و أخبرهم أنّه يريد أن يجعل نفسه الليلة قربانا.

فلمّا كان بعض الليالي خرج من بين الناس فأصبحوا و جعل كلّ فريق يقول: علّمني كذا و كذا. و قال الفريق الآخر: أنت كاذب بل علّمني كذا و كذا. فوقع بينهم الجدال و القتال فاقتتلوا خلقا كثيرا و بقيت العداوة بينهم.

و هم ثلاث فرق منهم النسطوريّة قالوا: المسيح ابن اللّه. و الثانية الملكائيّة- و هم الروم- قالوا: إنّ اللّه تعالى ثالث ثلاثة المسيح و امّه و اللّه. و الفرقة الثالثة اليعقوبيّة قالوا: إنّ اللّه هو المسيح. انتهي كلام صاحب روح البيان.

و بالجملة فعلى العاقل أن يلاحظ قوله فإن الرجل يقتل ما بين فكّيه.

و الوجه في نسبة الإغراء إليه تعالى معناه: أنّا بسبب تركهم الميثاق أخطرنا على بال كلّ منهم ما يوجب الوحشة و المباينة عن صاحبه عقوبة لهم.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 15 الى 16]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

ص: 278

ثمّ خاطب اليهود و النصارى فقال:

[يا أَهْلَ الْكِتابِ و الكتاب جنس شامل للتوراة و الإنجيل.

[قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا] يعني محمّد صلى اللّه عليه و آله الإضافة للتشريف و الإيذان بوجوب اتّباعه [يُبَيِّنُ لَكُمْ حالكونه صلى اللّه عليه و آله مبيّنا لكم على التدريج [كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ و ذلك أنّهم أخفوا صفة محمّد في التوراة و أخفوا أمر الرجم، ثمّ إنّ الرسول بيّن ذلك لهم و أخبرهم صلى اللّه عليه و آله بأسرار ما في كتابهم أنّه لم يتلمّذ عند أحد و لم يقرأ و هذه معجز له صلى اللّه عليه و آله.

[وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ] و هذه أيضا صفته صلى اللّه عليه و آله أي لا يظهره إذا لم يضطرّ إليه بسبب أمر دينيّ صيانة لكم عن زيادة الافتضاح.

[قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ قيل: المراد من النور و الكتاب هو القرآن لما فيه من كشف ظلمات الشرك و الشكّ و إبانة ما خفي على الناس من الحقّ، و العطف يلزم المغايرة و هاهنا لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات. و قيل: المراد من النور الرسول و سمّي الرسول نورا لأنّ أوّل شي ء أظهره الحقّ بنور قدرته من ظلمه العدم كان نور محمّد صلى اللّه عليه و آله قال صلى اللّه عليه و آله: كنت نورا بين يدي ربّي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام. و قيل: المراد القرآن.

[يَهْدِي بِهِ اللَّهُ وحّد الضمير لأنّهما في حكم الواحد فإنّ المقصود منهما دعوة الحقّ إلى الحقّ فكلاهما هاديان أي يهدي اللّه بمحمّد أو بالقرآن. كلامكم نور و أمركم رشد و وصيّتكم التقوى و فعلكم الخير و عادتكم الإحسان [مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي اتّبع برضاء اللّه في تصديق النبيّ و قبول شريعته [سُبُلَ السَّلامِ قيل: المراد من السلام هو اللّه أي شرائع اللّه و سبله الّتي شرعها لعباده و هو الدين. و قيل: المراد من السلام السلامة من كلّ ضرّ فمعنى الآية: يهدي إلى طرق السلامة من اتّبعه. و السلام و السلامة كالضلال و الضلالة و يهدي أي يفعل اللطف المؤدّي إلى سلوك طريق السلامة و الحقّ.

[وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ] لأنّ الكفر يتحيّر فيه صاحبه كما يتحيّر في الظلام و يهتدى بالإيمان إلى النجاة كما يهتدى بالنور [بِإِذْنِهِ و توفيقه و تيسيره تعالى.

ص: 279

[وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو طريق الجنّة؛ قال الحقّيّ في تفسيره: و هذه الهداية عين الهداية إلى سبل السلام و إنّما عطف عليها تنزيلا للتغاير الوصفيّ منزلة التغاير الذاتيّ كما في قوله: «وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ... وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (1)».

[سورة المائدة (5): الآيات 17 الى 18]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)

اللام في «لقد كفر» جواب القسم و التقدير: اقسم باللّه لقد كفر الّذين قالوا: كفّرهم اللّه لهذا القول لأنّهم قالوا على وجه التديّن و الاعتقاد و وصفوا المسيح و هو محدث بصفات القديم و قالوا: إله، و كلّ من كان كذلك كان كافرا البتّة فإنّهم جعلوا مخلوقة و عبده هو تعالى.

و هاهنا مسألة و هي أنّ أحدا من النصارى لا يقول: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ» إذا سألتهم فكيف يكون ذلك؟

و الجواب أنّهم و إن كانوا لا يصرّحون بعضهم بهذا القول الشنيع إلّا أنّ حاصل مذهبهم ليس إلّا ذلك.

و بيان ذلك أنّ اليعقوبيّة منهم يقولون بأنّ عيسى حلّ فيه جزء من الإلهيّة و كثيرا من الحلوليّة يقولون: إنّ اللّه يحلّ في بدن إنسان معيّن أو في روحه و بعض النصارى بل الكلّ يقولون: إنّ اقنوم الكلمة اتّحد بعيسى عليه السّلام. فاقنوم الكلمة إمّا أن يكون ذاتا أو صفة فإن كان ذاتا فذات اللّه قد حلّت في عيسى و اتّحدت بعيسى؛ فيكون عيسى هو

ص: 280


1- هود: 58.

الإله على هذا القول. و إن قلنا: إنّ الاقنوم عبارة عن الصفة فانتقال الصفة من ذات إلى ذات اخرى لو فرضنا أنّه معقول فانتقال اقنوم العلم مثلا عن ذات اللّه إلى عيسى يلزم خلوّ ذات اللّه عن العلم و من لم يكن عالما لم يكن إلها فحينئذ يكون الإله عيسى فثبت أنّ النصارى قالوا: إنّ اللّه هو المسيح بن مريم. و الحلول و الاتّحاد باطل.

قال الشيخ سديد الدين محمود الحمصيّ أو أبوه في فساد القول بوحدة الوجود و تحريره و بيانه بأنّه تعالى لو كان وجوده عين وجود خلقه و لا شكّ في قعود أفراد الممكنات يوم انقسام ذاته تعالى و حينئذ إمّا أن يكون كلّ واحد من أجزائه تعالى إلها فيلزم تعدّد الآلهة و هو كفر و شرك أو لا يكون فتوقّف إلهيّته تعالى على اجتماع الأجزاء و الاجتماع يحتاج إلى جامع و مؤلّف و هو إمّا ذاته تعالى فيلزم كونه إلها قبل كونه إلها هذا خلف، و إمّا غيره فيلزم توقّفه في إلهيّته على غيره فيكون ممكنا مع كونه واجبا و هذا خلف؛ فلمّا أدّى القول بالاتّحاد إلى واحد هذه المحالات وجب كونه فاسدا و محالا.

[قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً] فاحتجّ سبحانه على فساد هذا القول بقوله: «قل» يا محمّد: «فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ» و هذه جملة شرطيّة قدّم فيها الجزاء على الشرط و التقدير:

إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم و أمّه و من في الأرض جميعا فمن ذا الّذي يقدر على دفعه و يمنعه عن إرادته؟

و المراد من قوله: [وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً] يعني إنّ عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة و الخلقة و التركيب و التغيّر، و لمّا كان اللّه خالقا للكلّ وجب أن يكون خالقا لعيسى أيضا.

[وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما] و قال: «وَ ما بَيْنَهُما» بعد ذكر السماوات و الأرض و لم يقل: بينهنّ، أراد الصنفين [يَخْلُقُ ما يَشاءُ] أن يخلقه فإن شاء خلق من ذكر و أنثى و إن شاء خلق من أنثى بغير ذكر و لا يلزم بكون المسيح خلق من غير ذكر أن يكون إلها.

[وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فقول النصارى: «إنّ اللّه اتّحد بالمسيح فصار الناسوت لاهوتا يجب أن يتّخذ إلها و يعبد» غلط.

ص: 281

ثمّ حكى سبحانه عن الفريقين من أهل الكتاب [وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ فقالت اليهود: نحن أشياع ابنه عزير. و قالت النصارى: نحن أشياع ابنه المسيح. و حاصل المعنى: نحن من اللّه بمنزله الأبناء للآباء و قرينا منه كقرب الولد لوالده و غضب اللّه علينا كغضب الرجل على ولده و يدّعون أنّ لهم فضلا و مرتبة عند اللّه على سائر الخلق.

فردّ سبحانه عليهم ذلك [قُلْ يا محمّد إلزاما لهم [فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي إن صحّ ما زعمتم فلأيّ شي ء يعذّبكم في الدنيا بالقتل و الأسر و المسخ؟ و قد اعترفتم بأنّه سيعذّبكم في الآخرة أيّاما معدودة بعدد أيّام عبادتكم العجل.

[بَلْ لستم كذلك [أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ من جنس ما خلق اللّه كسائر الناس من غير مزيّة لكم عليهم [يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ] أن يغفر له من اولئكم المخلوقين و هم الّذين آمنوا باللّه و برسله [وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ] أن يعذّبه منهم و هم الّذين كفروا به و برسله.

[وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما] من الموجودات لا ينتمي إليه تعالى شي ء منها إلّا بالمملوكيّة و العبوديّة يتصرّف في ملكه كيف يشاء إيجادا و إعداما و إماتة و إثابة و تعذيبا فإنّى لهم ادّعاء ما زعموا؟ [وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] في الآخرة خاصّة لا إلي غيره فيجازي المحسن و المسي ء بما يستدعيه عمله و ليست المحبّة بالدعوى بل لها علامات.

تعصي الإله و أنت تظهر حبّه هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

فإذا كان المصير إليه في الثواب و العقاب فطوبى لعبد تفكّر في عاقبة أمره فرغب في الزهد و الطاعة قبل مضيّ الوقت، قال المولويّ:

ز ابتداى كار آخر را ببين تا نباشى تو پشيمان يوم دين

حكي أنّ رجلا أتى إلى صائغ يسأله الميزان ليزن رضاض ذهب له فقال الصائغ:

اذهب فإنّه ليس لي غربال، فقال الرجل: لا تسخر بي ائت الميزان، فقال: إنّما قلت الصحيح ليس بي مكنة، قال الرجل: أطلب منك الميزان و أنت تجيبني بما يضحك منه، فقال: قلت الصحيح لأنّك شيخ مرتعش فعند الوزن يتفرّق رضاضك من يدك بسبب ارتعاشك فيسقط

ص: 282

إلي التراب فتحتاج إلى المكنة و الغربال للتخليص فقلت لك ما تحتاج إليه و يؤول أمرك.

[سورة المائدة (5): آية 19]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (19)

. خاطب سبحانه أهل الكتاب لإلزامهم الحجّة برسول اللّه و استعطافهم فقال:

[يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا] يعني محمّد صلى اللّه عليه و آله يوضح لكم الشريعة و أعلام الدين، و فيه دلالة على أنّه سبحانه اختصّه من العلم بما ليس مع غيره [عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي على انقطاع و دروس من الأنبياء و الكتب.

و فيه دلالة على أنّ زمان الفترة لم تكن فيه نبيّ. و كان الفترة بين عيسى و محمّد صلى اللّه عليه و آله و كانت النبوّة متّصلة قبل ذلك في بني إسرائيل و سمّيت المدّة فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع، و فتر الشي ء فتورا إذا سكنت حركته.

[أَنْ تَقُولُوا] تعليل لمجي ء الرسول على تقدير حذف المضاف أي كراهة أن تقولوا عن تفريطكم في مراعاة أحكام الدين [ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ] يبشّرنا بالجنّة [وَ لا نَذِيرٍ] بالعقاب على المعصية فقطع عنهم عذرهم بإرسال رسوله و هو محمّد يبشّر كلّ مطيع بالثواب و يخوّف كل عاص بالعقاب.

[وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى و عيسى حيث كان بينهما ألف و سبعمائة سنة و ألف نبيّ و على الإرسال بعد الفترة ت كما فعله بين عيسى و محمّد حيث كان بينهما ستّمائة و تسعون سنة أو خمسمائة و ستّ و أربعون سنة (1) و أربعة أنبياء- على قول- ثلاثة من بني إسرائيل و واحد من العرب اسمه خالد بن سنان العبسيّ. و

ص: 283


1- الفترة بينهما عليهما السلام بناه على التاريخين المشهورين بالميلادى و الهجري يقرب من ستمائة و عشر سنين. و في رواية الربيع فيما سأله نافع مولى عمر عن ابن جعفر عليه السلام فقال: أخبرني كم بين عيسى و محمد من سنة؟ فقال: أخبرك بقولي او بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا؛ قال اما في قولي فخمسمائة سنة و اما في قولك فستمائة سنة. البرهان (ج 1: 455).

قيل: لم يكن بعد عيسى إلّا محمّد صلى اللّه عليه و آله و هو الأنسب بما يظهر من معنى الفترة من التنوين من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأنّ الرسول قد بعث إليهم عند كمال حاجتهم إليه بسبب مضيّ دهر طويل بعد انقطاع الوحي ليعدّوه أعظم نعمة من اللّه.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 20 الى 21]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)

. بيّن سبحانه صنع اليهود في المخالفة لنبيّهم تسلية لنبيّنا صلى اللّه عليه و آله فقال:

و اذكر يا محمّد لأهل الكتاب ما حدت وقت قول موسى لبني إسرائيل ناصحا لهم:

[يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ و إنعامه [إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ] من أقربائكم فأشدكم و شرّفكم بهم و لم يبعث في امّة من الأمم ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء و لا شرف أعظم من النبوّة.

[وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً] أي جعل فيكم أو منكم ملوكا كثيرة، و قيل: معناه و جعلكم أحرار تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط في مملكة فرعون بمنزلة أهل الجزية.

قال ابن عبّاس: يعني أصحاب خدم و حشم و كانوا أوّل من ملك الخدم و لم يكن لمن قبلهم خدم.

[وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر و إغراق العدوّ و تظليل الغمام و إنزال المنّ و السلوى و غير ذلك من الأمور العظام، و المراد بالعالمين الأمم الخالية إلى زمانهم.

[يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ] هي أرض بيت المقدّس قدّست و طهرت من الشرك و أصل التقدّس التطهّر و منه قيل للسطل الّذي بتطهّر به: القدس، و منه تقديس اللّه و هو تنزيهه عمّا لا يليق به [الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ في اللوح المحفوظ أنّها يكون سكنا لكم إن آمنتم و أطعتم لقوله تعالى لهم بهم ما عصوا: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ (1)».

ص: 284


1- السورة: 26.

[وَ لا تَرْتَدُّوا] أي لا ترجعوا [عَلى أَدْبارِكُمْ أي مدبرين خوفا من الجبابرة فهو حال من «فاعل ترتدّوا» [فَتَنْقَلِبُوا] و تنصرفوا حالكونهم [خاسِرِينَ مغبونين بفوات ثواب الدارين.

و مجمل القصّة أنّه لمّا عبر موسى و بنو إسرائيل البحر و هلك الفرعون أمرهم اللّه بدخول الأرض المقدّسة و كان الأمر عزيمة كما أمروا بالصلاة فلمّا نزلوا على نهر الأردن خافوا عن الدخول فبعث من كلّ سبط رجلا و هم الّذين ذكر اللّه في قوله: «وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً».

فعاينوا من عظم شأن الجبابرة و قوّتهم و أجسامهم شيئا عجيبا فرجعوا إلى بني إسرائيل فأخبروا موسى بذلك فأمرهم موسى أن يكتموا ذلك فوفى و نصح اثنان منهم و هما يوشع بن نون من سبط ابن يامين أو سبط يوسف و الثاني كالب ابن يوفنا من سبط يهودا و عصى العشرة و أخبروا بذلك- و قيل: كتم الخمسة منهم و أظهر الباقون.- و فشى الخبر في الناس فقالوا: إن دخلنا عليهم تكون نساؤنا و أهلينا غنيمة لهم و همّوا بالانصراف إلى مصر و همّوا بيوشع و كالب و أرادوا أن يرجموهما بالحجارة فاغتاظ لذلك موسى و قال: «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي».

فأوحى اللّه إليه أنّهم سيتيهون في الأرض أربعين سنة و إنّما يخرج منهم من لم يعص اللّه في ذلك فبقوا في التيه أربعين سنة في ستّة عشر فرسخا أو تسعة فراسخ و هم ستّمائة ألف مقاتل لا تنخرق ثيابهم و نزل عليهم المنّ و السلوى.

و ماتت النقباء غير يوشع بن نون و كالب و مات أكثرهم و نشأ ذراريهم فخرجوا إلى حرب أريحا و فتحوها.

و اختلفوا فيمن فتحها؛ فقيل: فتحها موسى و يوشع على مقدّمته. و قيل: فتحها يوشع بعد موت موسى و كان قد توفّي و بعثه اللّه نبيّا.

روي أنّهم كانوا في المحاربة فغابت الشمس فدعا يوشع فردّ اللّه عليهم الشمس حتّى فتحوا أريحا قبل أن تدخل ليلة السبت.

و قيل: كانت وفات موسى و هارون في التيه و توفّي هارون قبل موسى بسنة و كان عمر

ص: 285

موسى مائة و عشرين سنة في ملك أفريدون و منوچهر و كان عمر يوشع مائة و ستّة و عشرين سنة و بقي بعد وفات موسى مدبّرا لأمر بني إسرائيل سبعا و عشرين سنة.

[سورة المائدة (5): الآيات 22 الى 24]

قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)

ذكر سبحانه جواب القوم [قالُوا] يعني بني إسرائيل [يا مُوسى إِنَّ فِيها] أي في الأرض المقدّسة [قَوْماً] و جماعة [جَبَّارِينَ شديدي البطش و البأس. و الجبّار هو الّذي لا يبال بالقهر و الاستيلاء و أصله في النخل و هو ما طال وفات اليد و لم تنله، قال ابن عبّاس:

بلغ من جبريّة هؤلاء القوم أنّه لمّا بعث موسى من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم رآهم رجل من الجبّارين يقال له عوج فأخذهم في كمّه مع فاكهة كان يحملها من بستانه و أتى بهم إلى الملك فنشرهم بين يديه و قال للملك تعجّبا منهم: هؤلاء يريدون قتالنا! فقال الملك لهم: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا.

قال مجاهد: و كان فاكهتهم لا يقدر على حمل عنقود منها خمسة رجال من غيرهم بالخشب و يدخل في قشر رمّانة خمسة رجال.

أقول: إن صحّ ما قاله مجاهد فلعلّ ثمار أشجارهم غير متذلّية بل منبسطة على الأرض كالقرع و البطّيخ و إلّا كيف يتحمّل الغصن الناعم هذا الحمل الثقيل و لو كان الغصن في غاية الغلظ؟ و كان طول سرير عوج الّذي ينام عليه ثمانمائة ذراع (1).

[وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها] لقتالهم [حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا] يعني جبّارين فإنّه لا طاقة لنا بإخراجهم منها فإن خرجوا منها بسبب من الأسباب الّتي لا تعلّق لنا بها [فَإِنَّا داخِلُونَ حينئذ.

ص: 286


1- هذا و أشباهه مما يقال في العمالقة مما يصعب على الطبع السليم ان يقبلها و التاريخ لا يساعدها الميزان.

[قالَ رَجُلانِ كأنّه قيل: هل اتّفقوا على ذلك أو خالفهم البعض فقيل قال: رجلان و هما كالب و يوشع [مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ اللّه و يتّقونه في مخالفة أمره و هو صفة لرجلان [أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا] بالنشب و الوقوف و الثقة بوعده و هو صفة ثانية لرجلان [ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب بلد الجبّارين و هو أريحا أي باغترهم و امنعوهم من البروز إلى الصحراء لئلّا يجدوا للحرب مجالا [فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ أي باب بلدهم و هم فيه [فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ من غير حاجة إلى القتال فإنّا شاهدناهم أنّ قلوبهم ضعيفة و إن كانت أجسامهم عظيمة فلا تخشوهم و اهجموا عليهم.

[وَ عَلَى اللَّهِ خاصّة [فَتَوَكَّلُوا] في نصرة اللّه عليهم [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به تعالى مصدّقين بوعده.

[قالُوا] غير مبالين بقول ذينك الرجلين مصرّين على القول الأوّل [يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها] أي أرض الجبابرة [أَبَداً] دهرا طويلا [ما دامُوا فِيها] أي في أرضهم، و إنّما قالوا ذلك لأنّهم جبنوا و خافوا من قتالهم و لم يثقوا بوعد اللّه بالنصرة عليهم.

[فَاذْهَبْ الفاء فصيحة أي فإذا كان الأمر كذلك فاذهب [أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا] أي فقاتلاهم [إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ إلى أن تظفر بهم و ترجع إلينا، قيل: إنّهم قالوا هذا القول لعدم الوثوق بمواعيد اللّه أو أنّهم كانوا مشبّهة و لذلك عبدوا العجل.

[سورة المائدة (5): الآيات 25 الى 26]

قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)

قال موسى لمّا رأى منهم من المخالفة على طريقة البثّ و الشكوى إلى اللّه مع رقّة القلب الّتي بمثلها يستجلب الرحمة و تستنزل النصرة [رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي من حيث الطاعة [فَافْرُقْ بَيْنَنا] يريد نفسه و أخاه [وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يريد الّذين عصوه و خالفوه.

[قالَ اللّه تعالى [فَإِنَّها] أي الأرض المقدّسة [مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها و لا يملكونها [أَرْبَعِينَ سَنَةً] ظرف لمحرّمة أي التحريم موقّت بهذه المدّة لا مؤبّدا فلا

ص: 287

يكون مناف لقوله «كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» و لا بمعنى أنّ كلّهم يدخلونها بعد المدّة بل يدخلها من بقي منهم بعد هذه المدّة لأن أكثرهم ماتوا في التيه [يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي يتحيّرون في البرّيّة، و التيهاء من الأرض الّتي لا يهتدي فيها.

[فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ و لا تحزن روي أنّ موسى ندم على دعائه عليهم فقيل:

لا تندم و لا تحزن عليهم فإنّهم أحقّاء بذلك. فلبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ و هم ستّمائة ألف مقاتل و كانوا يسرون جادّين كلّ يوم فإذا أمسوا كانوا في الموضع الّذي ارتحلوا منه و كان الغمام يظلّهم من حرّ الشمسى و يطلع بالليل عمود من نور يضي ء لهم و ينزل عليهم المنّ و السلوى و لا تطول شعورهم و إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله و ماؤهم من الحجر الّذي يحملونه، و هذه الإنعامات عليهم مع أنّهم معاقبون لما أنّ عقابهم كان بطريق العزل و التأديب.

و اختلف في أنّ موسى و هارون هل كانا في التيه مع بني إسرائيل أم لا؟ فقال الأكثر: إن كانا في التيه لكن كان لهما روح و سلامة كالنار لإبراهيم و ملائكة العذاب مع أنّ شأن النار الإحراق و لا نقول: إنّهما عذّبا في التيه حتّى يقال: إنّ الأنبياء لا يعذّبون بعذاب اللّه.

ثمّ إنّه قيل: إنّ موسى خرج من التيه بعد أربعين سنة و سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحا و كان يوشع بن نون على مقدّمته فحارب الجبابرة و فتحها و أقام بها ما شاء اللّه ثمّ قبضه اللّه و لا يعلم قبره، و هذا أصحّ الأقوال لاتّفاق العلماء على أنّ عوج قتله موسى.

و أمّا القول في هارون قال السدّيّ: إنّ اللّه أوحى إلى موسى أنّي متوفّي هارون فائت به جبل كذا و كذا، فانطلق موسى و هارون نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم ير مثلها فإذا بيت مبنيّ و فيه سرير عليه فرش و إذا فيه ريح طيبة فلمّا نظر هارون إلى ذلك أعجبه فقال: يا موسى إنّي احبّ أن أنام على هذا السرير، قال: نم، فلمّا نام هارون جاء ملك الموت فقال هارون: يا موسى خدعتني، فلمّا قبض رفع البيت و ذهبت تلك الشجرة و رفع السرير به إلى السماء فلمّا رجع موسى إلى بني إسرائيل و ليس معه هارون قالوا: إنّ موسى قتل هارون و حسده على حبّ بني إسرائيل إيّاه. فقال لهم موسى: و يحكم كان أخي أفتروني

ص: 288

أقتل أخي؟ فلمّا كثروا عليه صلّى ركعتين ثمّ دعا فنزل السرير حتّى نظروا إليه بين السماء و الأرض فصدّقوه.

قال الحقّيّ في روح البيان: و عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: صعد موسى و هارون الجبل فقال بنو إسرائيل: أنت قتلته، فآذوه فأمر اللّه الملائكة فحملوه حتّى مرّوا به على بني إسرائيل و تكلّمت الملائكة بموته حتّى عرفت بنو إسرائيل أنّه قد مات فبرّأه اللّه ممّا قالوا: ثمّ إنّ الملائكة حملوه و دفنوه فلم يطّلع على موضع قبرة إلّا الرخم فجعله اللّه أصمّ و أبكم.

و قال عمرو بن ميمونة: مات هارون و موسى في التيه مات هارون قبل موسى، و أمّا وفات موسى قال وهب بن منبّه: خرج موسى لبعض حاجاته فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير شيئا قطّ أحسن منه من البهجة و النضرة، فقال لهم: يا ملائكة اللّه لمن تحفر هذا القبر؟ فقالوا لعبد كريم على ربّه، فقال موسى: إنّ لهذا العبد عند اللّه منزلة فما رأيت مضجعا أحسن من هذا، قالوا: يا كليم اللّه أ تحبّ أن يكون لك، قال: وددت، قالوا: فأنزل و اضطجع فيه و توجّه إلى ربّ. قال: فاضطجع فيه و توجّه إلى ربّه ثمّ تنفّس أسهل نفس قبض اللّه روحه ثمّ سوّت الملائكة عليه التراب. و قيل: إنّ ملك الموت أتاه بتفّاحة من الجنّة فشمّها فقبض روحه.

و روي أن يوشع بن نون رآه بعد موته في المنام فقال: كيف وجدت الموت؟ قال:

موسى: كشاة تسلخ و هي حسبه. و بالجملة فبعد مضيّ الأربعين امر يوشع بقتال الجبابرة فتوجّه ببني إسرائيل إلى أريحا معه تابوت العهد فأحاط بمدينة أريحا ستّة أشهر فلمّا كان السابع نفخوا في القرون و ضجّ صيحة واحدة فسقط سور المدينة و دخلوا فقاتلوا الجبّارين فهزموهم و هجموا عليهم يقتلونهم و كان القتال يوم الجمعة فبقيت بقيّة منهم و كادت الشمس تغرب و تدخل ليلة السبت فقال يوشع بن نون: اللهمّ اردد الشمس عليّ، و قال للشمس: إنّك في طاعة اللّه و أنا في طاعة اللّه فسأل اللّه الشمس أن يقف و القمر أن يقيم حتّى ننتقم من أعداء اللّه قبل دخول السبت، فردّت عليه الشمس و زيد في النهار ساعة حتّى قتلهم أجمعين و يتّبع ملوك الشام فاستباح منهم أحدا و ثلاثين ملكا حتّى غلب على جميع

ص: 289

أرض الشام و صارت لبني إسرائيل و فرّق عمّاله في نواحيها و جمع الغنائم فلم تنزل النار فأوحى اللّه إلى يوشع أنّ فيها غلولا فمرهم أن يبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال: هلمّ ما عندك. فأتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالجواهر الثمينة و كان قد غلّه فجعله في القربان و جعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل و القربان، ثمّ مات يوشع و دفن في جبل إفرائيم.

ص: 290

هنا ينتهي الجزء الثالث من الكتاب. و هو مشتمل على 37 آية من سورة آل عمران (163- 200) و تمام سورة النساء و 26 آية من سورة المائدة و للّه الحمد و المنّة

المجلد 4

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

كلمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي نزّل القرآن نورا و سراجا و قمرا و منيرا. و الصلاة و السلام على رسوله الذي انزل عليه الكتاب بيانا للناس و هدى و موعظة للمتقين، و على آله الطيبين؛ ثانى الثقلين. و لعنة الله على أعدائهم أجمعين.

و بعد فقد بذل علماء الإسلام قديما و حديثا جهدهم في تفسير علوم القرآن، و تبيين لغاته و مشكلاته؛ ففريق فسروا ألفاظه و بينوا حقائقه من مجازه. و جمع جمعوا أحكامه و بينوا حلاله و حرامه و طائفة كشفوا عن تأويلاته قناعه، و كيفما كان ما و صلوا الا الى مبلغ علمهم، و منتهى هممهم؛ و انى لهم الوصول الى حقائق التنزيل و دقائق التأويل؟

لان القرآن هو النور الذي أنزل الله على قلب حبيبه محمد صلى الله عليه و آله.

الا ان المتمسكين بولاء اهل بيت الوحى، المستضيئين بنور علمهم المأمورين بالتمسك بهم في حديث الثقلين قد اغترفوا من بحار علوم اهل بيت النبي غرفا، و غاصوا فيها و اقتنوا منها دررا؛ و ها هي «مقتنيات الدرر» قد اقتناها علم من الأعلام؛ ثمرة الشجرة الطيبة، و النخبة من السلالة الطاهرة: «الحاج المير سيد على الحائرى» تغمده الله بغفرانه، و اوتى كتابه هذا بيمينه. قد اقتنى من الدرر أغلاها، و من الغرر أسناها؛ فحقيق أن يتنافس المتنافسون في الاستفادة منها.

و قد وفق الله تعالى تلميذه المستضي ء بنور علمه المقتفى أثره الحاج ميرزا عبد الحسين المعروف بمحسنيان لبذل الجهد باحياء هذا السفر الجليل القيم.

هذا و من الله سبحانه على عبده الزاكي صاحب الهمة القعساء و ارومة الفضل الحاج محمود الكاشاني؛ فأنعم عليه و شرفه بإعطاء نفقة طبع الكتاب خدمة للدين و اتحافا للطيفة والده السعيد الحاج محمد حسين الكاشاني طيب الله رمسه. و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

و نشكر جميل مساعى الشاب الفاضل الأريب السيد كاظم الموسوي المياموى حيث بذل جل أوقاته لمقابلة أجزاء الكتاب مع نسخة الأصل، و تخريج الآيات المنثورة في ثناياه، و اسناد ما يهم من رواياته و بعض الإصلاح فيه، و نسأل الله تعالى ان يوفقنا لإتمامه بمحمد و آله.

محمد الآخوندي

ص: 2

تتمة تفسير سورة المائدة

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)*

[سورة المائدة (5): آية 27]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)

و اقرأ يا محمّد على أهل الكتاب خبر ابني آدم و هما قابيل و هابيل [بِالْحَقِ أي ملبّسة بالصدق و الحقّ. قيل: إنّ حوّاء كانت تلد في كلّ بطن ولدين ذكرا و أنثى إلّا شيثا فإنّها ولدته منفردا، فولدت أوّل بطن قابيل- و قيل: قايين- (1) و توأمته إقليما بنت آدم، و البطن الثاني هابيل و توأمته ليوذا، فلمّا أدركوا جميعا أمر اللّه أن ينكح آدم قابيل توأمة هابيل و هابيل توأمة قابيل (2) فرضي هابيل و أبى قابيل لأنّ أخته كانت أحسن منها، و قال: ما أمر اللّه بهذا و لكن هذا من رأيك. فأمرهما آدم أن يقرّبا قربانا فرضيا بذلك فغدا هابيل و كان صاحب ماشية فأخذ من خيار غنمه غنما و زبدا و لبنا، و كان قابيل صاحب زرع فأخذ من أدون زرعه و أخسّه ثمّ صعدا فوضعا القربانين على الجبل، فأتت النار فأكلت قربان هابيل و تجنّبت قربان قابيل، و كان آدم غائبا عنهما بمكّة؛ خرج إليها ليزور البيت فقال قابيل: لا عشت يا هابيل في الدنيا و قد تقبّل قربانك و لم يتقبّل قرباني و تريد أن تأخذ اختي الحسناء و آخذ أختك القبيحة! فقال له هابيل ما

ص: 3


1- لعل مراده قدس سره انه قول في المليين؛ فانه لم يقل به احد من اهل الإسلام، و انما جاء في التوراة الدائرة اليوم في الأصحاح الرابع من سفر التكوين، و هذا نصه: «و عرف آدم حواء امرأته فحبلت و ولدت قايين» إلخ.
2- تظافرت الاخبار بتشنيع هذا الأمر و انه من فعال المجوس و يقبح صدوره من نبي، راجع تفسير البرهان «ج 1: 337» في أول سورة النساء. و في رواية سليمان بن خالد: قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: انهم يزعمون ان قابيل انما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما فقال: يا سليمان تقول هذا اما تستحيي ان تروى هذا على نبي اللّه آدم؟ فقلت: جعلت فداك ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية، الحديث؛ البرهان «ج 1: 463»

حكاه اللّه، فشدخه بحجر فقتله؛ روي ذلك عن أبي جعفر عليه السّلام و غيره من المفسّرين. (1) و كان سبب قبول قربان هابيل أنّ قابيل قرّب بشرّ ماله، و هابيل بخير ماله و أضمر هابيل الرضى بحكم اللّه. و كان سبب أكل النار القربان أنّه لم يكن ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرّب به إلى اللّه فكان ينزل نار من السماء فتأكله. و عن إسماعيل ابن رافع أنّ قربان هابيل كان يرتع في الجنّة حتّى فدي به إسماعيل بن إبراهيم!.

[قالَ الّذي تقبّل قربانه و هو هابيل: و ما ذنبي؟ [إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ أي القربان [مِنَ الْمُتَّقِينَ لا من غيرهم، و التقوى من صفات القلب: قال صلى اللّه عليه و آله: التقوى هاهنا و أشار إلى القلب. و حقيقة التقوى أن يكون العاقل على خوف و وجل من تقصير نفسه فيما أتى به من الطاعات و أن يكون دائما في غاية الاحتراز من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة اللّه، و أن يكون فيه شركة لغير اللّه، و يتفكّر في معرفة خالقه و تفريط نفسه في جنب اللّه. و لا يحصل التقوى مع الهوى و طلب الجاه، و المال و الجاه ركنا الدنيا فاقطع سلسلة نمروديّة شهواتك، و كن صالحا و إبراهيم وقتك.

[سورة المائدة (5): الآيات 28 الى 30]

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)

أخبر سبحانه عن هابيل أنّه قال لأخيه حين هدّده بالقتل: [لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ أي لئن مددت إليّ يدك لأن تقتلني [ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أي لأن أقتلك.

قال أهل التفسير: إنّ القتل على سبيل المدافعة لم يكن مباحا في ذلك الوقت و كان الصبر عليه هو المأمور به ليكون اللّه هو المتولّي للانتصاف؛ قال ابن عبّاس و جماعة: إنّه قتله غيلة [إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ أي إنّي أريد باستيلامى لك و امتناعي عن التعرّض لك أن ترجع بإثم قتلي- إن قتلتني- و إثمك الّذي كان من قبل قتلي، عن ابن عبّاس و جماعة- و ذلك الإثم هو الّذي من أجله

ص: 4


1- و روى غير هذا الوجه مما هو اولى بالقبول.

لم يتقبّل قربانك- و قيل: المعنى: بإثم قتلي و إثمك الّذي هو قتل جميع الناس، حيث سبّب القتل.

فإن قيل: كما لا يجوز للإنسان أن يريد في نفسه أن يعصي اللّه فكذلك لا يجوز أن يريد من غيره أن يعصي اللّه، فكيف قال: إنّي أريد أن تبوء بإثمي و إثمك؟. فالجواب أنّ هذا الكلام إنّما دار بينهما عند ما غلب على ظنّ هابيل أنّه يريد قتله و يقتله فوعظه و نصحه فقال له: إن كنت لا تنزجر عن قصدك فلا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلّا إذا قتلتك ابتداء بمجرّد الظنّ و هذا منّي لا يجوز و معصية، فإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذا المعصية أنا و بين أن يكون أنت فأنا أريد و أحبّ أن تحصل لك لا لي؛ و من المعلوم أنّ إرادة صدور الذنب من الغير في مثل هذه الحالة على هذا الشرط لا يكون حراما بل هو عين الطاعة و محض الإخلاص و لا شكّ أنّه يجوز للمظلوم أن يريد من اللّه عقاب ظالمه.

[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ أي سهّلت له نفسه و شجّعته، و إذا أوردت النفس أنواع وساوسها و عداوتها صار الفعل سهلا عند الفاعل.

و في الآية دلالة على بطلان مذهب الجبريّة؛ لأنّه لو كان خالق الكلّ هو اللّه لكان ذلك التزيين و التطويع مضافا إلى اللّه لا إلى النفس و لا ينافي مع القدر.

قيل: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس و أخذ طيرا و ضرب رأسه بحجر فتعلّم قابيل ذلك منه، ثمّ أنّه وجد هابيل نائما يوما فضرب رأسه بحجر فمات.

قال صلى اللّه عليه و آله: لا يقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل- أي نصيب- من دمها و ذلك أنّه أوّل من سنّ القتل فخسر دنياه و آخرته، فأسخط والديه و بقي مذموما إلى يوم القيامة، و أمّا الآخرة فهو العقاب العظيم.

قيل: إن قابيل لمّا قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس و قال:

إنّما أكلت النار قربان هابيل لأنّه كان يخدم النار و يعبدها؛ فإن عبدت النار أيضا حصل مقصودك، فبنى بيت نار و هو أوّل من عبد النار. و قتل هابيل و هو ابن عشرين سنة، و كان قتله عند عقبة حراء أو بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.

ص: 5

روي أنّه لمّا قتله أسود جسده- و كان أبيض- فسأله آدم عن أخيه فقال:

ما كنت عليه وكيلا فقال: بل أنت قتلته و لذلك اسودّ جسدك و مكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قطّ. يروى أنّه رثّاه بشعر و هو:

تغيّرت البلاد و من عليها قال الزمخشريّ: و هو كذب بحت، و ما الشعر إلّا منحول ملحون، و الأنبياء معصومون عن الشعر؛ قال الرازيّ: و صدق صاحب الكشّاف فيما قال؛ فإنّ ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلّمين فكيف نسبت إلى من جعل اللّه علمه حجّة على الملائكة؟

[سورة المائدة (5): آية 31]

فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

لمّا قتله تركه لا يدري ما يصنع به، ثمّ خاف عليه السباع فحمله في جراب (1) على ظهره مدّة حتّى تغيّر فبعث اللّه غرابا. قيل: بعث اللّه غرابا يحثو التراب على المقتول.

و قيل: بعث اللّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الأخر، فحفر له بمنقاره و رجليه، ثمّ ألقاه في الحفرة فتعلّم قابيل ذلك من الغراب. قال أبو بحر: عادة الغراب دفن الأشياء، فجاء غراب فدفن شيئا فرآه قابيل فتعلّم ذلك منه.

[لِيُرِيَهُ اللّه أو الغراب، فكأنّه قصد تعليمه على سبيل المجاز (2) [كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قيل: المعنى جيفة أخيه أو عورة أخيه- و هو مالا يجوز أن ينكشف من جسده- و السوأة: الفضيحة لقبحها [قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي و «يا ويلتى» كلمة يستعمل العرب عند وقوع الداهية و النداء، يعني يا ويلتى تعالي و احضري فإنّه من أوقات حضورك؛ و قد لزمني الويل. و كذلك يا عجباه و معناه:

يا أيّها العجب احضر فقد حان وقتك. و الألف في ويلتى بدل عن ياء المتكلّم، و النداء و إن كان أصله للعقلاء لكنّ العرب تستعمل و تجوّز النداء لما لا يعقل إظهار للتحسّر

ص: 6


1- الجراب: وعاء من جلد.
2- فان التعليم بحسب الحقيقة بيد اللّه و ما سواه وسائط و وسائل.

مثل: «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ» (1) قوله: «أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ» تعجّب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب [فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على قتله، لما وقع في الحيرة في أمره و حمله على رقبته أربعين يوما حتّى أروح، (2) و لم ينتفع بقتله، و لمّا كان ندمه لأجل هذه الأسباب لا للخوف من اللّه بارتكاب المعصية لم تنفعه الندامة.

قال مجاهد: عقّلت إحدى رجلي قابيل إلى فخذها و ساقها، و علّقت من يومئذ إلى يوم القيامة، وجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه في الصيف حظيرة من نار، و في الشتاء حظيرة من ثلج. و هو أوّل من عصى اللّه من ولد آدم و أوّل من يساق إلى النار و هو أب يأجوج و مأجوج (شرّ أولاد توالدوا من شرّ والد).

و اتّخذ أولاد قابيل آلات اللّهو من اليراع و الطبول و المزامير و العيدان و الطنابير، و انهمكوا في اللّهو و عبادة النار و الخمر و الزناء و الفواحش حتّى غرقهم اللّه بالطوفان أيّام نوح و بقي نسل شيث.

قال أهل التاريخ: لمّا ذهب قابيل إلى سمت اليمن كثروا و خلفوا و طفقوا يتحاربون مع أولاد آدم، يسكنون الجبال و المغارات و الغياض (3) إلى زمن مهلائيل بن قينان ابن أنوش بن شيث ففرّقهم مهلائيل إلى أقطار الأرض، و سكن هو في أرض بابل، و كان كيومرث أخاه الصغير (4) و هو أوّل السلاطين في العالم فأخذوا يبنون المدن و الحصون و استمرّ الحرب بينهم إلى آخر الزمان.

[سورة المائدة (5): آية 32]

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

ثمّ بيّن سبحانه التكليف في باب القتل فقال: [مِنْ أَجْلِ ذلِكَ الفساد الّذي

ص: 7


1- يس: 29.
2- اى أنتن و صار ذا ريح. و هذا غريب.
3- جمع الغيضة: الاجمة، و مجتمع الشجر.
4- لم يعهد فيما بأيدينا من كتب التاريخ ظهور سلطان في العالم قبل الطوفان و مهلائيل من أجداد نوح، بل ينسبون كيومرث الى سام بن نوح.

وقع في أحد ابني آدم. و روي عن نافع أنّه كان يقف على قوله: من أجل ذلك و يجعله من تمام الكلام الأوّل لكن عامّة المفسّرين قالوا: إنّ قوله: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» ابتداء كلام و ليس بمتّصل بما قبله.

[كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي حكمنا عليهم و فرضنا [أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً] ظلما [بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قود، فإنّ القتل قد يكون بحقّ كالقود [أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي من قتل منهم نفسا بغير فساد كان منها في الأرض فاستحقّت بذلك قتلها. و فسادها في الأرض مثل إخافة السبيل أو بالحرب للّه و لرسوله مثل قوله: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» الآية (1) [فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] و في تأويله أقوال:

أحدها أنّ معناه هو أنّ الناس كلّهم خصماؤه في قتل ذلك الإنسان فكأنّه قد وترهم (2) و من استنقذها من غرق أو حرق أو هدم أو ما يميت أو استنقذها من ضلالة فكأنّما أحيا الناس جميعا، أي أجره على اللّه أجر من أحياهم جميعا. و هذا المعنى مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام ثمّ قال: و أفضل ذلك أن يخرجها من ضلال إلى هدى. (3) و ثانيها أنّ من قتل نبيّا أو إمام عدل فكأنّما قتل الناس جميعا أي يعذّب عليه كما لو قتل الناس كلّهم، و من شدّ على عضد نبيّ أو إمام عدل فكأنّما أحيا الناس جميعا في استحقاق الثواب، عن ابن عبّاس.

و ثالثها أنّ معناه من قتل نفسا بغير حقّ فعليه مآثم كلّ قاتل من الناس؛ لأنّه سنّ القتل و سهّله لغيره فكان بمنزلة المشارك كما وقع لقابيل. و من زجر عن قتلها بما فيه حياته على وجه يقتدى به فيه، و يعظّم تحريم قتلها كما حرّمه اللّه فلم يقدم على قتلها لذلك فقد أحيا الناس بسلامتهم من القتل فذلك إحياؤها. و يؤيّده قوله صلى اللّه عليه و آله: من سنّ سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و من سنّ سنّة سيّئة فله وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

ص: 8


1- الآية التالية.
2- وتره: افزعه، اصابه بظلم او مكروه.
3- و الروايات في هذا المعنى مستفيضة أوردها في البرهان «ج 1: 463- 465» و في أكثرها ان الإخراج من الضلالة الى الهداية هو التأويل الأعظم.

و قيل: إنّ معناه: يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الّذي يجب عليه لو قتل الناس جميعا و من عفى عن دمها و قد وجب القود عليها كان كمن عفى عن الناس جميعا و اللّه سبحانه هو المحيي لا يقدر على خلق الحياة غيره و إنّما قال: «أحياها» على سبيل المجاز.

فإن قيل: إنّ وجوب القصاص حكم ثابت في جميع الأمم فما فائدة تخصيصه بني إسرائيل؟ فالجواب أنّ قوله: من أجل ذلك ليس إشارة إلى قصّة هابيل و قابيل بل هو إشارة إلى ما مرّ من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام الّذي أصبح من الخاسرين و أصبح من النادمين و قدّ سنّ هذه السنّة الملعونة، و وجوب القصاص في حقّ القاتل و إن كان عامّا في جميع الأديان، و لمّا كان اليهود مع علمهم بهذا النهي الصريح الّذي كتبنا عليهم أقدموا على قتل الأنبياء و الرسل و المقصود بيان قساوتهم، و نهاية بعدهم عن طاعة اللّه، و لمّا كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول في عزم اليهود على الفتك برسول اللّه فتخصيص بني إسرائيل في هذه القصّة مناسب للكلام.

فإن قيل: إنّ قتل النفس الواحدة كيف يكون مساويا لقتل جميع الناس؟ فإنّ من الممتنع أن يكون الجزء مساويا للكلّ؛ فالجواب أنّ تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كلّ الوجوه؛ لأنّ قولك: هذا يشبه ذلك أعمّ من أن يشبهه من كلّ الوجوه أو من بعض الوجوه؛ فالمقصود من الآية مشاركتهما في الاستعظام لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام، و المقصود أنّه كما أنّ قتل كلّ الخلق أمر مستعظم عند كلّ أحد فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظما مهيبا محترزا عنه.

[وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي و لقد أتت بني إسرائيل الّذين ذكرنا أخبارهم رسلنا بالبيّنات الواضحة و المعجزات الدالّة على صحّة نبوّتهم [ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ من بني إسرائيل [بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ و مجاوزون الحدّ قال: أبو جعفر عليه السلام:

المسرفون هم الّذين يستحلّون المحارم و يسفكون الدّماء. (1)

ص: 9


1- رواه الطبرسي مرسلا و عنه في البرهان «ج 1: 465».

[سورة المائدة (5): الآيات 33 الى 34]

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

اختلف في سبب النزول؛ فقيل: نزلت في قوم كان بينهم و بين النبيّ صلى اللّه عليه و آله موادعة فنقضوا العهد و أفسدوا في الأرض؛ عن ابن عبّاس. و قيل: نزلت في قوم من عرينة لمّا نزلوا المدينة مظهرين الإسلام و استوخموها (1) و اصفرّت ألوانهم، فأمرهم النبيّ أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها و أبو الها (2) ففعلوا ذلك فصحّوا ثمّ مالوا إلى الرعاة فقتلوهم و استاقوا الإبل و ارتدّوا عن الإسلام. فأخذهم النبيّ و قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و سمل أعينهم (3) عن سعيد بن جبير و قتادة و السدّيّ. و قيل:

نزلت في قطّاع الطريق، عن أكثر المفسّرين؛ قال الطبرسيّ: و عليه جلّ الفقهاء.

المعنى: لمّا ذكر سبحانه في الآية الأولى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس و لا فساد في الأرض بيّن أنّ الفساد في الأرض الّذي يوجب القتل ما هو؛ فإنّ بعض أقسام الفساد في الأرض لا يوجب القتل فقال: [إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي يحاربون أولياء اللّه [وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً] المرويّ عن أهل البيت أنّ المحارب هو كلّ من شهر السلاح و أخاف الطريق سواء كان في المصر أو خارج المصر. (4) و قيل:

إنّ المحارب هو قاطع الطريق في غير المصر، عن عطاء الخراسانيّ.

ص: 10


1- اى لم يوافق هواؤها بدنهم.
2- شربوا البول للتداوى فإنهم كانوا مرضى على ما في رواية الكلينى باسناده عن صالح عن ابى عبد اللّه عليه السلام، فروع الكافي «ج 1: 306».
3- ليس في روايات الخاصة من سمل العين اثر و انما ورد في روايات الجمهور.
4- في رواية العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام و رواية الكلينى عن محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد، عن ابى أيوب، عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام قال: من شهر السلاح في مصر من الأمصار فعقر اقتص منه و نفى من تلك البلدة، و من شهر السلاح في غير الأمصار ضرب و عقر و أخذ المال و لم يقتل فهو محارب، البرهان «ج 1: 467»، و فروع الكافي «ج 1: 307».

قال الرازيّ: و من الناس من قال: إنّ هذا الوعيد مختصّ بالكفّار و المرتدّين عن الإسلام حسبما شرح في نزول الآية. و منهم من قال: إنّ هذا الحكم في قطّاع الطريق من المسلمين، قالوا: و الّذي يدلّ على أنّه لا يجوز حمل الآية على المرتدّين أنّ قطع المرتدّ لا يتوقّف على المحاربة و لا على إظهار الفساد في دار الإسلام، و الآية تقتضي ذلك، و إنّما على المرتدّ القتل دون القطع و لا عليه النفي و الآية تقتضي ذلك.

و أيضا الآية تقتضي سقوط الحدّ بالتوبة قبل القدرة و هو قوله: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» و المرتدّ يسقط حدّه بالتوبة قبل القدرة و بعدها و الصلب غير مشروع في حقّ المرتدّ و هو مشروع هاهنا، فوجب أن لا تكون الآية مختصّة بالمرتدّ فقوله: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» يتناول كلّ من كان موصوفا بهذه الصفة سواء كان كافرا أو مرتدّا أو مسلما.

و أقصى ما في الباب أن يقال: إنّ الآية نزلت في المرتدّين لكنّك تعلم أنّ العبرة بعموم اللّفظ دون خصوص السبب.

فإن قيل: إنّ المحاربة مع اللّه غير ممكنة و مع الرسل ممكنة؛ فلفظ المحاربة إذا نسبت إلى اللّه كان مجازا؛ لأنّ المراد منه محاربة أوليائه، و إذا نسبت إلى الرسول كانت حقيقة؛ فلفظ يحاربون في الآية يلزم أن يكون محمولا على المجاز و الحقيقة معا و ذلك ممتنع! فالجواب أنّ المراد من المحاربة مخالفة الشرع و التكليف.

فمعنى الآية: إنّما يكون جزاء من يخالف أحكام اللّه و أحكام رسوله و يسعون في الأرض فسادا كذا و كذا [أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ و في «أو» في الآية قولان:

الأوّل: الإباحة و التخيير أي إن شاء الإمام قتل و إن شاء صلب و إن شاء نفى. و القول الثاني أنّها ليست للتخيير بل للترتيب و بيان أنّ الأحكام تختلف باختلاف الجنايات؛ فمن اقتصر على القتل قتل، و من قتل و أخذ المال قتل و صلب، و من اقتصر على أخذ المال قطع يده و رجله من خلاف، و من أخاف السبل و لم يأخذ المال نفي من الأرض. و هذا قول الأكثرين و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. (1)

ص: 11


1- الروايات واردة على طبق كلا القولين فمما يدل على الاول رواية العياشي و الشيخ عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: من شهر السلاح ... و امره الى الامام ان شاء قتله و صلبه و ان شاء قطع يده و رجله، الاستبصار «ج 4: 257» و مما يدل على الثاني ما رواه الشيخ مسندا عن عبيد اللّه المدائني عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال: ... فعقده بيده ثم قال: يا عبد اللّه خذها أربعا بأربع، الاستبصار «ج 4: 256».

فصار التقدير: أن يقتّلوا إن قتلوا، أو يصلّبوا ثمّ يقتّلوا إن جمعوا القتل و أخذ المال، أو تقطّع [أَيْدِيهِمْ اليمنى من الرسغ (1) [وَ أَرْجُلُهُمْ اليسرى من الكعب إن اقتصروا على أخذ مال من مسلم أمّا أيديهم فلأخذ المال و أمّا قطع أرجلهم فلإخافة الطريق [أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن لم يفعلوا غير الإخافة. و المراد من النفي فيه أقوال:

قال الطبرسيّ: و الّذي يذهب إليه أصحابنا الإماميّة أن ينفى من بلد (2) حتّى يتوب و يرجع. و قال أهل الجماعة: المراد بالنفي الحبس فإنّه نفي عن وجه الأرض، قالوا:

المسجونون بمنزلة المخرجون من الدنيا و ممنوعون من التصرّف؛ قال الشاعر:

خرجنا من الدنيا و نحن من أهلهافلسنا من الأحياء فيها و لا الموتى

إذا جاءنا السجّان يوما لحاجةعجبنا و قلنا جاء هذا من الدنيا!

و اختلفوا أيضا في كيفيّة الصلب فقيل: يصلب حيّا ثمّ يزج بطنه برمح أو غيره حتّى يموت: و قال الشافعيّ يقتل و يصلّى عليه ثمّ يصلب [ذلِكَ أي إجراء هذه الأمور [لَهُمْ خِزْيٌ و فضيحة و هوان [فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره لغاية عظم جنايتهم. فقوله: لهم خبر مقدّم، و عذاب مبتدأ مؤخّر. و في الآخرة متعلّق بمحذوف وقع حالا من عذاب لأنّه في الأصل صفة له فلمّا قدّم انتصب حالا أي كائنا في الآخرة.

[إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء مخصوص بما هو من حقوق اللّه كما ينبئ عنه قوله: [فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأمّا ما هو من حقوق الآدميّين فإنّه لا يسقط بهذه التوبة؛ فإنّ قطّاع الطريق إن قتلوا إنسانا ثمّ تابوا قبل القدرة عليهم يسقط بهذه التوبة وجوب قتلهم جدّا لكن ولي الدم على حقّه من القصاص و العفو، و إن أخذوا مالا ثمّ تابوا قبل القدرة عليهم يسقط بالتوبة وجوب قطع أيديهم

ص: 12


1- الرسغ: مفصل ما بين الساعد و الكف.
2- و هو المروي عن جميل بن دراج عن ابى عبد اللّه عليه السلام، فروع الكافي «ج 1: 307»

و أرجلهم من خلاف و كان صاحب المال باقيا في ماله وجب عليهم ردّه، و أمّا إذا تاب بعد القدرة فظاهر الآية أنّ التوبة لا تنفعه و يقام الحدود عليه.

قال الطبرسيّ: و في هذه الآية حجّة على من قال: لا يصحّ التوبة عن معصية مع الإقامه على معصية اخرى يعلم صاحبها أنّها معصية؛ لأنّه علّق بالتوبة حكما لا يحلّ به الإقامة على معصية. قال الشافعيّ: و يحتمل أن يسقط كلّ حدّ للّه بالتوبة؛ لأنّ ما عزا (1) لمّا رجم أظهر توبته فلمّا تمّموا رجمه ذكروا ذلك لرسول اللّه فقال: هلّا تركتموه؟

- أو لفظ هذا معناه- و ذلك يدلّ على أنّ التوبة يسقط عن المكلّف كلّ ما يتعلّق بحكم اللّه.

[سورة المائدة (5): آية 35]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)

لمّا تقدّم ذكر القتل و أحكام المحاربين شرح بالموعظة و الأمر بالتقوى أي اتّقوا معاصيه و اجتنبوها [وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ] أي اطلبوا إليه القربة بالطاعات.

و قيل: الوسيلة أفضل درجات الجنّة، عن عطاء. و روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: سلوا اللّه لي الوسيلة فإنّها درجة في الجنة لا ينالها إلّا عبد واحد و أرجو أن أكون أنا هو (2).

و روى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه السلام قال: في الجنّة لؤلؤتان إلى بطنان العرش أحدهما بيضاء و الآخر صفراء في كلّ واحدة منها سبعون ألف غرفة فالبيضاء: الوسيلة لمحمّد و أهل بيته و الصفراء لإبراهيم و أهل بيته عليهم السلام.

و في الحديث: من قال حين بسمع الدعوة و الأذان: اللّهم ربّ هذه الدعوة التامّة و الصلاة القائمة آت سيّدنا محمّدا الوسيلة و الفضيلة و ابعثه المقام المحمود الّذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة [وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي في طريق دينه مع أعدائه [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تظفروا بنعيم الأبد. و قيل: «لعلّ و عسى» من اللّه محقّق الوقوع، فكأنّه سبحانه قال: اعملوا و جاهدوا في الدين لتفلحوا و الجهاد في سبيل اللّه له مراتب قد يكون

ص: 13


1- هو ما عز بن مالك الأسلمي معدود في المدنيين كتب له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كتابا بإسلام قومه، و هو الذي اعترف على نفسه بالزناء تائبا و كان محصنا فرجمه رسول اللّه، و قيل ان اسمه: غريب و ما عز لقبه. ترجمه في الإصابة «ج 3: 317» و الاستيعاب «ج 3: ص 418»
2- رواه مرسلا في المجمع و عنه في البرهان «ج 1: 420» و كذا الرواية التي بعدها.

باليد و اللّسان و القلب و بالسيف و القول و الكتاب و كلّها من درجات الجهاد.

و اعلم أنّ مجامع التكليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما أحدهما ترك المنهيّات و إليه الإشارة بقوله: «اتَّقُوا اللَّهَ» و ثانيهما فعل المأمورات و إليه الإشارة بقوله تعالى: «وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» و لمّا كان ترك المنهيّات مقدّما على فعل المأمورات بالذات لا جرم قدّمه في الذكر؛ لأنّ الترك عبارة عن بقاء الشي ء على عدمه الأصليّ.

و الفعل هو الإيقاع و التحصيل و لا شكّ أنّ عدم جميع المحدثات سابق على وجودها فكان الترك قبل الفعل لا محالة.

فإن قيل: لم جعلت الوسيلة مخصوصة بالفعل مع أنّا نعلم أنّ ترك المعاصي قد يتوسّل به إلى اللّه؛ لأنّ الترك كما قيل: إبقاء الشي ء على عدمه الأصليّ و ذلك العدم المستمرّ لا يمكن التوسّل به إلى شي ء بل إنّما يحصل التوسّل إذا دعا داعي الشهوة إلى فعل قبيح فتركه لطلب رضاء اللّه فيحصل التوسّل بذلك الامتناع و ذلك الامتناع من باب الأفعال؛ فإنّ ترك الشي ء عبارة عن فعل ضدّه فالفعل هو الاستغراق في الطاعة و الترك هو الإعراض عن نهيه فإعراض المنهيّ عنه هو فعل أيضا، و أهل الرياضة يسمّون الفعل و الترك بالتحلية و التخلية، و بالمحو و الصحو، و بالنفي و الإثبات، و بالفناء و البقاء، و لذلك قدّم النفي على الإثبات في قولنا: لا إله إلّا اللّه.

[سورة المائدة (5): الآيات 36 الى 37]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)

قوله تعالى:

الجملة المذكورة مع كلمة «لو» خبر إنّ. فإن قيل: لم وحّد الضمير في «به» مع أنّ المذكور السابق بيان ما في الأرض جميعا و مثله؟ فالمعنى: ليفتدوا بذلك المذكور، أي أنّ الكفّار لا سبيل لهم إلى الخلاص منه.

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك مل ء الأرض ذهبا أ كنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت [يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ] و يتمنّون الخروج منها. قالوا: الإرادة هنا بمعنى التمنّى و قيل: معناه الارادة

ص: 14

على الحقيقة؛ لأنّ النار إذا رفعتهم بلهبها رجوا أن يخرجوا منها كقوله: «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها» (1) و قيل: معنى يريدون: يكادون أن يخرجوا منها و يقاربون الخروج إذا رفعتهم النار بلهبها. فإن قيل: كيف يجوز أن يريدوا الخروج مع علمهم بأنّهم لا يخرجون منها؟ فالجواب أنّ العلم بأنّ الشي ء لا يكون لا يصرف عن إرادته، و إنّما الداعي إلى الإرادة الحاجة إليها [وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها] يعني من جهنّم [وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم ثابت لا يزول و لا يحول؛ في الحديث: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيغمس فيها مرّة ثمّ يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قطّ؟ هل مرّ بك نعيم قطّ؟ فيقول: لا و اللّه يا ربّ و يؤتى بأشدّ الناس بؤسا من أهل الجنّة فيصبغ صبغة من الجنّة فيقال له: هل رأيت بؤسا قطّ؟ فيقول: لا و اللّه ما مرّ بي بؤس قطّ.

قال الرازيّ: و احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّه يخرج من النار من قال:

لا إله إلّا اللّه على سبيل الإخلاص، قالوا: لأنّه تعالى جعل هذا المعنى من تهديدات الكفّار و لو لا أنّ هذا المعنى مختصّ بالكفّار لم يكن لتخصيص الكفّار به معنى، و مؤيّد هذا الّذي قلناه قوله: «وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» و هذا يفيد الحصر فكان المعنى: و لهم عذاب مقيم لا لغيرهم كقوله: «لَكُمْ دِينَكُمْ»* (2) أي لكم لا لغيركم.

أقول: لعلّ ما قاله الرازيّ صحيح لكن بشروطها و هي الولاية.

[سورة المائدة (5): الآيات 38 الى 40]

وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (40)

لمّا أوجب سبحانه في الآية السابقة قطع الأيدي و الأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة بيّن في هذه الآية أنّ قطع الأيدي عند السرقة أيضا يوجب.

و اختلف النحويّون في رفع السارق و نصبها؛ قال الزجّاج و الأخفش: هو مبتدأ محذوف الخبر أي حكم السارق و السارقة ثابت فيما يتلى عليكم [فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما]

ص: 15


1- الحج: 22.
2- الكافرون: 6.

بيان لذلك الحكم المتقدّم، فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها و إنّما قدّر الخبر لأنّ الأمر إنشاء لا يقع خبرا إلّا بإضمار و تأويل و المراد بأيديهما أيمانهما و وضع الجمع موضع المثنّى بتثنية المضاف إليه كما في قوله تعالى: «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» (1) و قرأ عيسى بن عمرو السارق و السارقة بالنصب و هو اختيار سيبويه قال: هو مثل قول القائل: زيدا فاضربه، لكنّ الفرّاء عنده الرفع أولى من النصب قال: إنّ الألف و اللّام في قوله:

«وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ» يقومان مقام «الّذي» فيكون المعنى: الّذي سرق فاقطعوا أيديه و على هذا البيان حسن إدخال الفاء على الخبر لأنّه صار جزاء.

و بالجملة فالألف و اللّام في السارق للجنس أي كلّ من سرق رجلا كان أو امرأة و بدأ بالسارق هنا لأنّ الغالب وجود السرقة في الرجال كما بدأ في آية الزناء بالنساء فقال: «الزَّانِيَةُ»* (2) لأنّ الغالب وجود ذلك في النساء. فاقطعوا أيديهما أي أيمانهما عن ابن عبّاس و الحسن و السدّيّ و عامّة التابعين؛ قال الطبرسيّ: قال أبو عليّ في تخطّي المسلمين إلى قطع الرجل اليسرى بعد قطع اليد اليمنى و تركهم قطع اليد اليسرى دلالة على أنّ اليد اليسرى لم يرد بقوله: فاقطعوا أيديهما ألا ترى أنّها لو اريدت بذلك لم يكونوا ليدعوا نصّ القرآن إلى غيره؟ و قال العلماء: إنّ هذه الآية مجملة في كيفيّة إيجاب القطع على السارق و السارقة، و بيان ذلك مأخوذ من السنّة.

قال الطبرسيّ: و اختلف في القدر الّذي يقطع به يد السّارق فقال أصحابنا:

يقطع في ربع دينار فصاعدا (3) و هو مذهب الشّافعيّ و الأوزاعيّ و أبي الثور و رووا عن عائشة عن النبيّ أنّه قال: لا يقطع يد السارق إلّا في ربع دينار فصاعدا. و ذهب أبو حنيفة و أصحابه أنّه يقطع في عشر دراهم فصاعدا و احتجّوا بما روي عن عطاء عن ابن عبّاس: إنّ أدنى ما يقطع فيه ثمن المجنّ (4) قال: و كان ثمن المجنّ في عهد رسول اللّه

ص: 16


1- التحريم: 4.
2- النور: 2.
3- و هو المروي، ففي رواية الشيخ عن احمد بن محمد، عن ابن محبوب عن ابى أيوب، عن محمد بن سالم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام في كم تقطع يد السارق؟ فقال: في ربع دينار. قال: قلت له: في درهمين! قال: في ربع دينار ما بلغ الدينار ما بلغ إلخ، الاستبصار «ج 4: 238»
4- المجن و الجنة: الترس

عشرة دراهم. و ذهب مالك إلى أنّه يقطع في ثلاثة دراهم فصاعدا و روى عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه قطع سارقا بثمن مجنّ في ثلاثة دراهم (1) و قال: بعضهم لا يقطع الخمس إلّا في خمس دراهم و اختاره أبو عليّ الجبائيّ و قال: إنّه بمنزلة من منع خمس دراهم من الزكاة و قيل: يقطع يد السارق في القليل و الكثير؛ و إليه ذهب الخوارج و احتجّوا بعموم الآية و بما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: لعن اللّه السارق يسرق البيضة فيقطع يده و يسرق الحبل يقطع يده. و هذا الخبر قد طعن أصحاب الحديث في سنده إلّا أن يكون المراد من البيضة الحديد و هي المغفر و الحبل من حبال السفينة.

و اختلف أيضا في كيفيّة القطع فقال: أكثر الفقهاء: إنّه إنّما يقطع من الرسغ و هو مفصل بين الكفّ و الساعد. ثمّ إنّ عند الشافعيّ يقطع يده اليمنى في المرّة الأولى، و رجله اليسرى في المرّة الثانية، و يده اليسرى في المرّة الثالثة و رجله اليمنى في المرّة الرابعة و يحبس في المرّة الخامسة و عند أبي حنيفة لا تقطع في الثالثة و عند أصحابنا أنّه تقطع من اصول الأصابع و يترك له الإبهام و الكفّ و في المرّة الثانية تقطع رجله اليسرى من أصل الساق و يترك عقبه يعتمد عليه في الصلاة فإن سرق بعد ذلك خلّد في السجن و هو المشهور عن عليّ عليه السّلام و أجمعت الإماميّة عليه و قد استدلّ على ذلك بقوله تعالى:

«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ» (2) و لا شكّ في أنّهم يكتبونه بالأصابع (3).

و لا خلاف أنّ السارق إنّما يجب عليه الحدّ إذا سرق من حرز إلّا ما روي عن داود أنّه قال: يقطع السارق و إن سرق من غير حرز. و حدّه عندنا كلّ موضع لم

ص: 17


1- و على هذا فيكون الاختلاف بين ابى حنيفة و مالك لفظيا يرجع الى الاختلاف في ثمن المجن في زمن رسول اللّه.
2- البقرة: 79.
3- و من الطف ما استدل له ما افاده الامام الجواد في مجلس المعتصم حيث سأل الفقهاء عن موضع قطع يد السارق فقال بعضهم: يقطع من الكرسوع- اى الزند- و بعضهم: من المرفق و و استدلا بآيتي التيمم و الوضوء فاستدعى رأى الامام فاعتذر فلم يقبل و أنشده أن يجيب فقال عليه السلام: انهم أخطئوا السنة، و القطع يجب من مفصل اصول الأصابع لقول رسول الله: السجود على سبعة أعضاء- فعدها و منها اليدين- و قوله تعالى: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» و ما كان للّه فلا يقطع، الحديث بطوله؛ البرهان «ج 1: 471».

يكن لغير مالكه الدخول إليه و التصرّف فيه إلّا بإذنه.

[جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا] أي افعلوا ذلك بهما مجازاة بكسبهما و فعلهما، عقوبة من اللّه [فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي أقلع و ندم على ما كان منه من فعل الظلم بالسرقة [وَ أَصْلَحَ أي و فعل الفعل الصلاح [فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أي يقبل توبته بإسقاط العقاب بها عن المعصية الّتي تاب منها. و في الآية ترغيب للعاصي في فعل التوبة [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و إنّ في قبول التوبة تفضّلا من اللّه تعالى لعبيده [أَ لَمْ تَعْلَمْ خطاب للنبيّ و المراد امّته و قيل: هو و المكلّفين. و اتّصال هذا الخطاب بما قبله اتّصال الحجاج و البيان عن صحّة ما تقدّم من الوعد و الوعيد و الأحكام، و المعنى: ألم تعلم يا إنسان [أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي له التصرّف فيها بلا مانع و لا منازع [يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ] إذا كان مستحقّا للعقاب [وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ] يعذّب إذا عصاه و لم يتب؛ لأنّه إذا تاب فقد وعده بأنّه لا يؤاخذه بذلك بعد التوبة [وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] لا يمتنع عليه أمر إذا أراد.

[سورة المائدة (5): آية 41]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)

لمّا بيّن سبحانه بعض التكاليف و الشرائع و كان قد علم من بعض الناس كونهم مسارعين إلى الكفر صبّر رسوله على تحمّل ذلك و أمره بأن لا يحزن و يتصبّر. و خاطب محمّدا صلى اللّه عليه و آله: يا أيّها النبيّ في مواضع كثيرة و ما خاطبه بقوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ» إلّا في موضعين في قرآن أحدهما هاهنا و الثاني بقوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» (1) و لا شكّ أنّه خطاب تشريف و تعظيم.

ص: 18


1- المائدة: 71.

النزول: قال الباقر عليه السّلام و جماعة من المفسّرين: إنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت برجل من أشرافهم و هما محصنان فكرهوا رجمهما فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله عن ذلك طمعا أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم: كعب بن الأشرف و كعب بن أسيد و سعيد بن عمرو و مالك بن الصيف و كنانة بن أبي الحقيق و جماعة قالوا: يا محمّد أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا احصنا ما حدّهما؟

فقال: و هل ترضون بقضاي في ذلك؟ قالوا: نعم فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرئيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا و وصفه له، فقال النبيّ: صلى اللّه عليه و آله هل تعرفون شابّا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا:

نعم؛ قال: فأيّ رجل هو فيكم؟ قالوا: أعلم يهوديّ على ظهر الأرض بما أنزل اللّه على موسى؛ قال: فأرسلوا إليه ففعلوا، فأتاهم ابن صوريا فقال: له النبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّي أنشدك اللّه الّذي لا إله إلّا هو الّذي أنزل التوراة على موسى و فلق لكم البحر و أنجاكم و أغرق آل فرعون و ظلّل عليكم الغمام و أنزل عليكم المنّ و السلوى هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟ قال ابن صوريا: نعم و الّذي ذكرتني به و لو لا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال صلى اللّه عليه و آله: إذا شهد أربعة عدول أنّه قد أدخله فيها كالميل في المكحلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا: هكذا أنزل اللّه في التوراة على موسى.

فقال له النبيّ: فماذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر اللّه؟ قال ابن صوريا: كنّا إذا زنى الشريف تركناه، و إذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ فكثر الزنى في أشرافنا حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه حتّى زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال له قومه:

لا حتّى ترجم فلانا- يعنون ابن عمّه- فقلنا: تعالوا نجمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف و الوضيع فوضعنا الجلد و التحميم (1) و هو أن يجلد أربعين جلدة ثمّ تسودّ وجههما ثمّ تحملان على حمارين و تجعل وجوههما من قبل دبر الحمار و يطاف بهما، فجعلوا هذا مكان الرجم.

ص: 19


1- من حمم لشي ء: إذا صيره اسود.

فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به! فقال ابن صوريا: إنّه أنشدني بالتوراة و لو لا ذلك ما أخبرته.

فأمر صلى اللّه عليه و آله بهما فرجما عند باب المسجد، فأنزل اللّه فيه: «يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ».

فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول اللّه ثمّ قال: هذا مقام العائذ باللّه و بك أن تذكر لنا الكثير الّذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض النبيّ صلى اللّه عليه و آله عن ذلك.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه فقال: تنام عيناي و لا ينام قلبي فقال: صدقت.

و أخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه شبه من أمّه أو بامّه ليس فيه شبه بأبيه؛ فقال صلى اللّه عليه و آله: أيّهما علا و سبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له قال: قد صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد و ما للمرأة منه؟ قال: فاغمي على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله طويلا ثمّ خلّي عنه محمرّا وجهه تفيض عرقا فقال: اللّحم و الدم و الظفر و الشحم للمرأة، و العظم و العصب و العروق للرجل قال له: صدقت أمرك أمر نبيّ، فأسلم ابن صوريا عند ذلك ثمّ قال: يا محمّد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرئيل، قال: صفه لي فوصفه النبيّ فقال: أشهد أنّه في التوراة كما قلت و أنّك رسول اللّه حقّا فلمّا أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود و شتموه.

فلمّا أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا: يا محمّد إخواننا بنو النضير؛ أبونا واحد و بطننا واحد و نبيّنا واحد إذا قتلوا منّا قتيلا لم يقتدونا و أعطونا ديته سبعين وسقا (1) من تمر و إذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل و أخذوا منّا مائة و أربعين وسقا من تمر، و إن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منّا و بالرجل منهم رجلين منّا، و بالعبد منهم الحرّ منّا، و جراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا و بينهم فأنزل اللّه في الرجم و القصاص الآيات، انتهى.

المعنى: [يا أَيُّهَا الرَّسُولُ خطاب التعظيم و التشريف [لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ أي صنع الّذين [يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] أي يقعون سريعا في الكفر و إظهاره إذا وجدوا منه

ص: 20


1- قال الخليل: الوسق ستون صاعا و هو حمل البعير، و الوقر حمل البغل و الحمار. منه رحمه اللّه.

فرصة، و لا تبال بتهافتهم في الكفر [مِنَ الَّذِينَ بيان للمسارعين [قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ متعلّق بقالوا، و الفائدة من بيان تعلّقه بالأفواه مع أنّ القول لا يكون إلّا بالفم و اللّسان إشارة إلى أنّ ألسنتهم ليست معبّرة بما في قلوبهم، و أنّ ما يجرون على ألسنتهم لا يجاوز أفواههم فينطقوا به غير معتقدين بقلوبهم [وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ جملة حاليّة من ضمير «قالوا» مؤكّدة عن بيان خلوّ قلوبهم عن الإيمان.

[وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا] عطف على قوله: «مِنَ الَّذِينَ قالُوا» و بيان المسارعين في الكفر بتقسيمهم إلى قسمين: المنافقين و اليهود [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي هم سمّاعون يعني المنافقين و اليهود مبالغون في سماع الكذب، و قبول ما تفتريه أحبارهم و رؤساؤهم من الكذب على اللّه و تحريف كتابهم؛ أو سمّاعون أخباركم و أحاديثكم ليكذبوا عليكم بالزيادة و التبديل؛ فإنّ منهم من يسمع من الرسول ثمّ يخرج و يقول: سمعت منه كذا و كذا و لم يسمع ذلك منه، و على المعنى الثاني فاللّام يكون لام الغرض [سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي هم سمّاعون كلامك لقوم آخرين الّذين لم يحضروا مجلسك أرسلوا السّماعين في قصّة زان محصن فقالوا لهم: إن أفتاكم محمّد بالجلد فخذوه و إن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه لأنّهم كانوا حرّفوا حكم الرجم الّذي في التوراة و قيل:

إنّما كان ذلك في قتل منهم قالوا: إن أفتاكم بالدية فاقبلوه و إن أفتاكم بالقود فاحذروه.

[يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أي كلام اللّه و أحكامه [مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد أن وضعه مواضعه، و فرض فروضه و أحلّ حلاله و حرّم حرامه؛ يعني بذلك ما غيّروه من حكم اللّه في أمر الزناء فنقلوه من الرجم إلى أربعين جلدة، أو نقلوا حكم القتل من القود إلى الدية حتّى كثر القتل فيهم. و قيل: المراد: يحرفون كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعد سماعه و يكذبون عليه و كانوا يكتبون بذلك إلى خيبر.

[يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا] أي يقول يهود خيبر ليهود مدينة- و يهود مدينة كانوا جواسيس و عيونا ليهود خيبر-: إن أعطيتم هذا أي أمركم محمّد بالجلد فاقبلوا حكمه و إن أوتيتم بالرجم فلا تقبلوه و احذروا عن قبول قوله

ص: 21

أو إن أوتيتم الدية فاقبلوه و إن أوتيتم القصاص فاحذروه.

[وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ قيل: معنى الفتنة العذاب أي من يرد اللّه عذابه مثل قوله:

«عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» (1) أي يعذّبون و قوله: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» (2) أي عذابكم عن الحسن و قتادة و الجبّائيّ و أبو مسلم. و قيل: إنّ معناه من يرد اللّه إهلاكه، عن السدّيّ و الضحّاك.

و ثالثها أنّ المراد: من يرد اللّه خزيه و فضيحته بسبب ما ينطوي عليه. و رابعها أنّ المراد: من يرد اللّه اختباره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدع ذلك و يحرّفه. قال الطبرسيّ: و الأصحّ الأوّل.

[فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً] أي فلن تستطيع أن تدفع عنه من أمر اللّه الّذي هو العذاب أو الفضيحة أو الهلاك شيئا [أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي أولئك اليهود لم يرد اللّه أن يطهّرهم من عقوبات الكفر الّتي هي الختم و الطبع بسبب سوء اختيارهم و عنادهم و لعلمه تعالى بأنّه لا ينفع لهم العظة و الذكرى و غلب عليهم السفه؛ فإنّ البلوغ بلوغان فبلوغ الأطفال بخروج المنيّ و بلوغ الرجال بخروج المنى؛ فخذوا من ممرّكم لمقرّكم، كما طهّر قلوب المؤمنين بأن شرح صدورهم للإسلام بسبب متابعتهم للرسول و عدم العناد منهم.

و قيل: المعنى: لم يرد اللّه أن يطهّرها من الكفر بالحكم عليها بأنّها برئية من الكفر، ممدوحة بالإيمان و السبب انهماكهم في الكفر و تماديهم في العناد فقوله: «لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» استعارة عن سقوط وقعهم عند اللّه و أنّه غير ملتفت إليهم بسبب قبح أفعالهم و أعمالهم و نيّاتهم. قال العاصي: و هذا لا يدلّ على أنّه سبحانه لم يرد منهم الإيمان، بل أراد منهم الايمان و لكن لمّا لم يقبلوه خلّاهم و شأنهم و ما زكّاهم.

[لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أمّا خزي المنافقين بظهور فضيحتهم بين المسلمين، و أمّا خزي اليهود فبالذلّ و الجزية و ظهور كذبهم في كتمان نصّ التوراة، و أمّا في الآخرة هو الخلود في النار.

ص: 22


1- الذاريات: 13.
2- الذاريات: 14.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 42 الى 43]

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

السحت: الرشوة في الحكم و مهر البغي و عسيب الفحل و ثمن الكلب و ثمن الخمر و ثمن الميتة و حلوان (1) الساحر و الكاهن و الاستئجار في المعصية، و أصله يرجع إلى الحرام الخسيس الّذي يكون في حصوله عار بحيث يخفي آخذه عن أعين الناس لا محالة. و كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه و لا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب و يأكل السحت. و قيل: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهوديّة، فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء، و يأكلون السحت؛ أو كانوا سمّاعين للأكاذيب الّتي كان أحبارهم ينسبونها إلى التوراة و يأخذون عليها الرشى و أكّالون للربا لقوله: «وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا» (2) قوله: [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ تكرير لما قبله [أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام حسبما شرح [فَإِنْ جاؤُكَ الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح إن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات [فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ أراد به اليهود الّذين تحاكموا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله في حدّ الزناء. و قيل: أراد بني قريظة و بني النضير لمّا تحاكموا إليه فقد خيّره اللّه بين أن يحكم بينهم و بين أن يعرض عنهم و في بعض الروايات أنّ هذا التخيير ثابت في الشرع للأئمّة و الحكّام. و قيل: إنّه منسوخ بقوله: «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ».

قوله: [وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ أي عن الحكم بينهم [فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً] و لا يقدرون لك على ضرر [وَ إِنْ حَكَمْتَ أي و إن اخترت أن تحكم بينهم [فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ] و العدل و قيل: بما في القرآن و شريعة الإسلام [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين فيحفظهم من كلّ مكروه و محذور؛ و في الحديث: المقسطون عند اللّه على منابر من

ص: 23


1- الحلوان- بالضم- عطاء للدلال او المستخدم لحاجة.
2- النساء: 159.

نور [وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ أي يحكّمك يا محمّد هؤلاء اليهود على أنفسهم فيرضوا بك حكما [وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ .

و حاصل المعنى من الآية تعجيب من اللّه لنبيّه محمّد صلى اللّه عليه و آله بتحكيم اليهود إيّاه بعد علمهم بما في التوراة من حدّ الزاني ثمّ تركهم ذلك الحكم فعدلوا عمّا يعتقدونه حكما حقّا إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة، فعدولهم عن حكم كتابهم إلى حكمك أمر عجيب. و في الآية بيان جهلهم و عنادهم لئلّا يفتري مفتر بأنّهم أهل كتاب اللّه و من المحافظين على أمر اللّه [ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عطف على قوله: «يحكّمونك» و ذلك إشارة إلى حكم اللّه الّذي في التوراة أو إشارة إلى التحكيم.

و قوله: [وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي و ما هم بالمؤمنين بالتوراة و إن كانوا يظهرون الإيمان بها؛ أو إخبار بأنّهم لا يؤمنون أبدا و يكون إخبارا عن المستأنف؛ أو المعنى أنّهم و إن طلبوا الحكم منك لكنّهم ما هم بمؤمنين بك و لا بمعتقدين في صحّة حكمك و مقصودهم تحصيل منافع الدنيا فقط.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 44]

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)

تنبيه من اللّه لليهود عن المخالفة و ترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدّميهم من مسلمي أحبارهم و الأنبياء المبعوثين إليهم قال: [إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً تهدي شرائعها و أحكامها إلى الحقّ، و ترشد الناس إلى الخير، و نور يكشف ما أبهم عليهم من الأحكام المستورة عليهم بظلمات الجهل، و ضياء لكلّ ما تشابه عليهم [يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا] و أذعنوا بحكم اللّه و أقرّوا به و نبيّنا صلى اللّه عليه و آله داخل فيهم و قيل:

هو صلى اللّه عليه و آله المفتي بذلك لما حكم في رجم المحصن و هذا لا يدلّ على أنّه كان متعبّدا بشرع موسى لأنّ اللّه هو الّذي أوجب عليه ذلك بوحي أنزله عليه لا بالرجوع إلى التوراة فصار ذلك شرعا له و إن وافق ما في التوراة. و قيل: يريد بالنبيّين الأنبياء الّذين

ص: 24

كانوا من بعد موسى، و ذلك لأنّه كان في بني إسرائيل ألوف من الأنبياء بعثهم اللّه لإقامة التوراة يحلّلون حلالها و يحرّمون حرامها.

فالمعنى: يقضي بالتوراة الّذين أسلموا من وقت موسى إلى وقت عيسى و وصفهم بالإسلام لأنّ الإسلام دين اللّه فكلّ نبيّ مسلم و ليس كلّ مسلم نبيّا؛ و لا يقال: إنّ النبوّة أعظم من الإسلام فكيف يمدح نبيّ بأنّه مسلم و ما الوصف به بعد الوصف بالنبوّة إلّا تنزّل من الأعلى إلى الأدنى؟ فإنّه ليس الأمر كذلك بل شرف النبيّ بالإسلام و العبوديّة، كما أنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله يوصف بالعبوديّة ثمّ بالرسالة. على أنّه قد يذكر الوصف مدحا للوصف و تنويه شأن الصفة و عظم قدرها، كما وصف الأنبياء بالصلاح و الملائكة بالإيمان؛ و قد قيل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف؛ قال الشاعر:

ما إن مدحت محمّدا بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمّد

قوله: [لِلَّذِينَ هادُوا] متعلّق بيحكم أي يحكمون للّذين تابوا عن الكفر. و قيل: المعنى: يحكمون لليهود بالتوراة لهم و فيما بينهم؛ قال الزجّاج: و يجوز أن يكون المعنى على التقديم و التأخير، و تقدير الكلام: إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور للّذين هادوا يحكم بها النبيّون الّذين أسلموا [وَ الرَّبَّانِيُّونَ الّذي علت درجاتهم في العلم [وَ الْأَحْبارُ] و هم العلماء [بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ أي بما أمروا بحفظ ذلك و القيام به و ترك تضييعه فيكون المعنى: يحكمون بما حفظوه من التوراة و بالّذي استحفظوه من جهة النبيّين و تلقّوا منهم و هو استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشي ء؛ فالباء سببيّة متعلّقة بيحكم أي و يحكم الربّانيّون و الأحبار أيضا بسبب ما حفظوه من كتاب اللّه حسبما وصّاهم به أنبياؤهم.

قال الفرّاء: مفرد الأحبار حبر بكسر الحاء؛ يقال ذلك للعالم، و إنّما سمّي بهذا الاسم لمناسبة الحبر الّذي يكتب به، و ذلك أنّه يكون صاحب كتب و حبر. و قيل: حبر و حبر بالفتح و الكسر من الحاء. و قال قوم: اشتقاقه من التحبير و هو التحسين في الحديث؛ يخرج من النار ذهب حبره و سبره أي ذهب جماله و بهاؤه، و لمّا كان العلم أحسن أقسام الفضيلة لا جرم سمّي العالم به.

ص: 25

[وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ] أي كان هؤلاء النبيّون و الربّانيّون و الأحبار شهداء على أنّ كلّ ما في التوراة حقّ من عند اللّه، و رقباء بحيث لا يتركونهم أن لا يراعوا حقّه [فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ يا علماء اليهود في أمر الرجم و في عدم إظهار نعوت محمّد صلى اللّه عليه و آله [وَ اخْشَوْنِ في كتمان ذلك و قيل: الخطاب للنبيّ- و المراد امّته- لا تخشوا في إقامة الحدود و إمضائها على أهلها كائنا من كان [وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا] أي لا تأخذوا لأجل الطمع. و الاشتراء: استبدال السلعة بالثمن و أخذها بدلا منه أي لا تستبدلوا بآياتي بأن تتركوا العمل بها و تأخذوا لأنفسكم بدلا منها من الرشوة و الجاه و سائر الحظوظ الدنيويّة فإنّها و إن جلّت فهي قليلة.

أقول: و هذا البيان في آخر الآية يدلّ على أنّ المخاطب في قوله: «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ» علماء اليهود و قول القائل: إنّ الخطاب للنبيّ و المراد منه أمّته بمعزل عن القبول.

[وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قال الطبرسيّ: اختلف في ذلك فمنهم من أجراه على ظاهره على العموم، عن ابن مسعود و الحسن و إبراهيم النخعيّ؛ و منهم من خصّه بالجاحد لحكم اللّه و المستهين به، عن ابن عبّاس؛ و منهم من قال: هم اليهود خاصّة، عن الجبّائيّ فإنّه قال: لا حجّة للخوارج في هذه الآية فإنّهم احتجّوا بهذه الآية فقالوا: إنّها نصّ في أنّ كلّ من حكم بغير ما أنزل اللّه فهو كافر و كلّ من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل اللّه فوجب أن يكون كافرا. و أجاب المتكلّمون أنّ هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصّة بهم. و هذا ضعيف؛ لأنّ العبرة بعموم اللّفظ و قوله: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ» كلام ادخل فيه كلمة «من» في معرض الشرط فيكون للعموم و قول من يقول: «المراد: و من لم يحكم بما أنزل اللّه من الّذين سبق ذكرهم» فهو زيادة في النصّ و ذلك غير جائز؛ قال عطا: هو كفر دون كفر. و قال طاوس: ليس بكفر ينقل عن الملّة، كأنّهم حملوا الكفر على كفر النعمة لا على كفر الدين و هذا أيضا ضعيف؛ لأنّ لفظ الكفر إذا اطلق انصرف إلى الكفر في الدين. قال عكرمة: قوله:

«وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» إنّما يتناول من أنكر بقلبه و جحد بلسانه، أمّا من عرف بقلبه كونه حكم اللّه و أقرّ بلسانه كونه حكمه إلّا أنّه أتى بما يضادّه فهو غير حاكم بما

ص: 26

أنزل اللّه و لكنّه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية؛ لأنّها خاصّة في اليهود.

و اختار عليّ بن عيسى القول الثاني، و من المعلوم أنّ من حكم بغير ما أنزل اللّه مستحلّا لذلك فهو كافر.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 45]

وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

المعنى: شرح سبحانه حكم التوراة في القصاص و المراد بيان هذا الأمر أنّه تعالى بيّن في التوراة أنّ حكم الزاني المحصن هو الرجم و اليهود غيّروه و بدّلوه، و بيّن في هذه الآية أيضا أنّه تعالى بيّن في التوراة أنّ النفس بالنفس و هؤلاء اليهود غيّروا هذا الحكم أيضا، ففضّلوا بني النضير على بني قريظة، و خصّصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا هو وجه النظم في الآية فقال:

[وَ كَتَبْنا] أي فرضنا [عَلَيْهِمْ على اليهود الّذين تقدّم ذكرهم [فِيها] أي في التوراة [أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ معناه إذا قتلت نفس نفسا اخرى عمدا فإنّه يستحقّ عليه القود إذا كان القاتل عاقلا مميّزا و كان المقتول مكافئا للقاتل إمّا بأن يكونا مسلمين حرّين أو كافرين أو مملوكين فأمّا إذا كان القاتل حرّا مسلما و المقتول كافرا أو مملوكا ففي وجوب القصاص هناك خلاف بين الفقهاء و لكن عند الإماميّة لا يجب القصاص و به قال الشافعيّ. قال الضحّاك: لم يجعل في التوراة دية في النفس (1) [وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ قرأ الكسائيّ: العين و الأنف و الأذن و السنّ و الجروح كلّها بالرفع عطفا على محلّ أنّ النفس أو على الاستئناف؛ تقديره أنّ النفس مقتولة بالنفس و العين مفقوأة بالعين نظير قوله: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى (2) و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن بأمر بنصب الكلّ سوى الجروح فإنّه بالرفع فالعين و الأنف و الاذن منصوب عطفا

ص: 27


1- بل و لا جرح و انما كان العفو او القصاص، على ما في المجمع.
2- المائدة: 73.

على النفس، ثمّ الجروح مبتدأ و قصاص خبره. و قرأ نافع و عاصم و حمزة كلّها بالنصب عطفا لبعض ذلك على بعض و خبر الجميع قصاص. و قرأ نافع الاذن بسكون الذال حيث وقع، و الباقون بالضمّ و هما لغتان.

و بالجملة لمّا ذكر اللّه تعالى بعض الأعضاء عمّم الحكم في كلّها فقال: «وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ» و القصاص هاهنا مصدر يراد به المفعول أي و الجروح متقاصّة بعضها ببعض و هو يقع بكلّ ما يمكن أن يقتصّ منه بشرط وقوع المماثلة مثل الشفتين و الأنثيين و اليدين و الرجلين و غيرهما، و يقتصّ الجراحات بمثلها؛ الموضحة بالموضحة بالموضحة و الهاشمة بالهاشمة و المنقّلة بالمنقّلة إلّا في المأمومة و الجائفة (1) فإنّه لا قصاص فيهما، و ما لا يمكن المماثلة مثل رضّة العظم (2) او اللّحم أو فكّة عظم أو جراحة يخاف منها التلف فالحكم فيها اروش مقدّرة، و تفاصيلها مذكورة في كتب الفقه.

[فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي بالقصاص الّذي وجب له فتصدّق به على صاحبه بالعفو و أسقط عنه [فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ أي للمتصدّق الّذي هو المجروح أو وليّ الدم. قال الرازيّ:

الضمير في له يحتمل أن يكون راجعا إلى العافي و هو المجروح أو الوليّ، و يحتمل أن يكون عائدا إلى المعفوّ عنه يعني كفّارة للقاتل أي أنّ المجنيّ عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفّارة للجاني لا يؤاخذه اللّه بعد ذلك العفو و أمّا المجنيّ عليه الّذي عفا فأجره على اللّه. و عن عبادة بن الصامت أنّ رسول اللّه قال: من تصدّق من جسده بشي ء كفّر اللّه عنه بقدره من ذنوبه؛ و في الحديث: من أصيب بشي ء من جسده فتركه للّه كان كفّارة له؛ قال الحقّيّ في تفسيره: في الحديث من عفا عن قاتله و من قرأ عقيب كلّ صلاة مكتوبة قل هو اللّه أحد عشر مرّات و من أدّى دينا خفيّا و جاء بهنّ يوم القيامة و هو مؤمن دخل الجنّة من أيّ أبواب الجنّة شاء و تزوّج عن الحور العين حيث شاء.

ص: 28


1- الموضحة من الشجاج ما بلغ العظم فأوضح عنه و لم يكسره و الهاشمة ما بلغه و كسره. و المنقلة ما كسره و نقله من مكانه الى مكان آخر. و المامومة ما بلغ أم الراس. و الجائفة ما بلغ جوف البدن.
2- ر ض الشي ء: دقه.

قوله: [وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام و الشرائع [فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ المتعدّون لحدوده الواضعون للشي ء في غير موضعه فإن قيل: إنّ الكفر أعظم من الظلم و هو سبحانه هدّدهم بقوله: «فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» أولا فأيّ فائدة في ذكر الأخفّ بعده؟ فالجواب أنّ الظالم يطلق على الكافر؛ قال: «وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (1) و «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (2) و أنّ الكفر من حيث إنّه إنكار لنعمة الربّ فهو كفر و من حيث إنّه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فبهذا الاعتبار هو ظلم على النفس ففي الآية الاولى ذكر اللّه ما يتعلّق بتقصيره في حقّ الخالق و في هذه الآية ذكر ما يتعلّق بالتقصّر في حقّ نفسه.

[سورة المائدة (5): الآيات 46 الى 47]

وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)

لمّا قدّم سبحانه ذكر اليهود أتبعه بذكر النصارى فقال: [وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي و أتبعنا على آثار النبيّين الّذين أسلموا. يقال: قفّيته إذا تبعته بفلان فتعديته إلى المفعول الثاني بزيادة الباء؛ فإن قيل: فأين المفعول الأوّل؟ قلنا: هو محذوف و الظرف و هو قوله: «عَلى آثارِهِمْ» سادّ مسدّه. و الضمير في آثارهم للنبيّين في قوله: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا» قوله: [مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ] وصف عيسى بكونه مصدّقا لما بين يديه و إنّما يكون كذلك إذا كان عمله على شريعة التوراة و معلوم أنّه لم يكن كذلك؛ فإنّ شريعة عيسى كانت مغايرة لشريعة موسى فلذلك قال في آخر هذه الآية: «وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ» فكيف طريق الجمع؟ فمعنى كون عيسى مصدّقا للتوراة أنّه أقرّ بأنّه كتاب منزل من عند اللّه و أنّه كان حقّا واجب العمل به قبل ورود النسخ. على أنّه ليس بينهما في الأصول اختلاف أبدا.

ص: 29


1- البقرة: 255.
2- لقمان: 12.

و إنّما قال: «بَيْنَ يَدَيْهِ» مع أنّه قد مضى؟ لأنّه إذا كان يأتي كتاب بعده و خلفه فالّذي مضى قبله يكون قدّامه و بين يديه.

فإن قيل: لم كرّر قوله: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ»؟ فالجواب أنّه ليس بتكرار؛ لأنّ في الأوّل معناه أنّ عيسى مصدّق التوراة و في الثاني أنّ الإنجيل مصدّق التوراة.

و ذكر [هُدىً مرّة اخرى لاشتمال الإنجيل على الإشارة بمقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله فيكون سببا لاهتداء الناس إلى نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و لمّا كان أشدّ وجوه المنازعة بين المسلمين و اليهود و النصارى في ذلك أعاده اللّه تنبيها على أنّ الإنجيل كان هدى في هذه المسألة الّتي هي أشدّ المسائل احتياجا إلى البيان.

و إنّما خصّها [لِلْمُتَّقِينَ لأنّهم هم المنتفعون بها دون غيرهم (1) [وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ هذا أمر لهم. قيل في معناه قولان: أحدهما أنّ تقديره و قلنا: ليحكم أهل الإنجيل و حذف القول لدلالة ما قبله عليه من قوله: «و قفّينا» و ذلك مثل: «وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ» (2) أي يقولون: سلام عليكم. و الثاني أنّه كلام مستأنف أمر أهل الإنجيل لأنّ أحكامه لم ينسخ بعد و كانوا مأمورين بحكم الإنجيل في ذلك الوقت [بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أي في الإنجيل [وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قيل:

إنّ «من» في الآية بمعنى «الّذي» و هو إخبار عن قوم معروفين و هم اليهود و الّذين تقدّم ذكرهم عن الجبّائيّ. و قيل: إنّ «من» للجزاء أي من لم يحكم من المكلّفين بما أنزل اللّه فهو فاسق [فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فيكون معنى الفاسقين الخارجين عن الدين و الكفر و الظلم و الفسق صفة لموصوف واحد و قيل: إنّ الأوّل في الجاحد و الثاني و الثالث في المقرّ التارك. قال العقال: و ليس في أفراد هذه الثلاثة بلفظ يوحب

ص: 30


1- فان المراد بالمتقين هاهنا و فيما أشبهه من الموارد ليس من يعمل بوظائفه الدينية حتى يتوهم توقف تأثير الدين على نفسه بل المراد من يكون عقله مستضيئا عن نور التقوى، غير محجوب بأستار اللجاج و العناد مع الحق كما في أمثال ابى جهل الذين جحدوا بآيات اللّه و استيقنتها أنفسهم.
2- الرعد: 23- 24.

القدح في المعنى كما يقال: من أطاع اللّه فهو المؤمن، من أطاع اللّه فهو البرّ، من أطاع اللّه فهو المتّقي؛ لأنّ كلّ ذلك صفات مختلفة حاصلة لموصوف واحد: و قال الأصم:

الأوّل و الثاني في اليهود و الثالث في النصارى.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 48]

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

هذا خطاب لمحمّد صلى اللّه عليه و آله فقوله: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» أي القرآن و قوله:

«مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ» أي كلّ كتاب نزل من السماء سوى القرآن فاللّام في قوله: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» للعهد أي الفرد الكامل الحقيق بأن يسمّى كتابا على الإطلاق لحيازة جميع الأوصاف الكماليّة و تفوّقه على بقيّة أفراده ملبّسا [بِالْحَقِ و الصدق، حال مؤكّدة من الكتاب. و قيل: من فاعل أنزلنا و قيل: من الكاف في إليك و قوله: [مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ حال من الكتاب أي حالكونه مصدّقا لما تقدّمه موافقا له في القصص و الدعوة إلى التوحيد و المواعيد و العدل بين الناس و قوله: [مِنَ الْكِتابِ بيان لما و اللّام للجنس [وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ قال الخليل و أبو عبيدة: هيمن الرجل يهيمن إذا كان رقيبا على الشي ء و حافظا و شاهدا عليه. و قيل: الأصل في آمن يؤمن فهو مؤمن: أءمن يؤأمن فهو مؤامن- بهمزتين- ثمّ قلبت الاولى هاء كما في هرقت و أرقت و قلبت الثانية ياء فصار مهيمنا. و إنّما كان القرآن مهيمنا على الكتب، لأنّه الكتاب الّذي لا يصير منسوخا و لا يتطرّق إليه التبديل بعد أبدا و إذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أنّ التوراة و الزبور و الصحف و الإنجيل حقّ باقية فكانت حقيقة هذه الكتب بشهادة القرآن معلومة أبدا.

[فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي فاحكم بين اليهود و أهل الكتاب بما في القرآن عن ابن عبّاس قال: إذا ترافع أهل الكتاب إلى الحكّام يجب أن يحكموا بينهم بحكم

ص: 31

القرآن و شريعة الإسلام لأنّه أمر اللّه بأن يحكم بينهم و الأمر يقتضي الإيجاب به.

و قال جماعة من المفسّرين: إنّ هذا ناسخ للتخيير في الحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض عنهم (1) [وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ أي و لا تنحرف عمّا جاءك من الحقّ متّبعا أهواءهم و لذلك عدّاه بعن روي أنّ جماعة من اليهود قالوا: تعالوا نذهب إلى محمّد- صلى اللّه عليه و آله- لعلّنا نفتّنه عن دينه ثمّ دخلوا عليه و قالوا: يا محمّد قد عرفت أنّا أحبار اليهود و أشرافهم و أنّا إن اتّبعناك اتّبعك كلّ اليهود و إنّ بيننا و بين خصومنا حكومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا و نحن نؤمن بك فأنزل اللّه الآية.

و تمسّك من طعن في عصمة الأنبياء بهذه الآية و قال: لو لا جواز المعصية عليهم لما قال: «وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» و الجواب أنّ ذلك مقدور له و لكن لا يفعله و لمّا كان مقدورا له فجاز النهي و قيل: الخطاب له و المراد امّته كقوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (2).

[لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً] الخطاب للأمم الثلاث: امّة موسى و امّة عيسى و امّة محمّد؛ لأنّ ذكر هؤلاء قد تقدّم في قوله: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ، الآية» ثم: «وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» ثمّ قال: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» و معنى شرع: بيّن و أوضح؛ يقال: شرعت الإهاب إذا شققته و سلخته إذا الشروع في الشي ء هو الدخول فيه. و الشريعة: المشرعة الّتي يشرعها الناس يشربون منها فالشريعة فعيلة بمعنى المفعول و هي الأشياء الّتي أوجب اللّه على المكلّفين أن يشرعوا فيها. و المنهاج:

الطريق الواضح؛ قال بعضهم: الشرعة و المنهاج عبارتان عن معنى واحد و التكرير للتأكيد و المراد بهما الدين. و قال آخرون: بينهما فرق: فالشرعة عبارة عن مطلق

ص: 32


1- قاله الجبائي على ما في المجمع. و يمكن ان يقال بعدم التنافي بين الحكمين لإمكان حمل هذه الآية على ما إذا شاء الرسول ان يحكم بينهم فيكون التخيير اقدم رتبة من وجوب الحكم بالقرآن كما أوضح عنه فيما تقدم بقوله: «فان جاءوك فاحكم بينهم او اعرض عنهم- و هذا هو التخيير- ... و ان حكمت- و هو اختيار احد طرفي التخيير- فاحكم بينهم بالقسط».
2- الزمر: 65.

الشريعة، و الطريقة عبارة عن مكارم الأخلاق و هي المراد بالمنهاج؛ فالشريعة أوّل، و الطريقة آخر. و قال المبرّد: الشريعة ابتداء الطريقة، و الطريقة المنهاج المستمرّ.

و في قوله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً» دلالة على جواز النسخ و على أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله كان متعبّدا بشريعته فقط و كذلك أمّته و يقوّي ذلك قوله: [وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً] أي جماعة متّفقة على شريعة واحدة لا اختلاف فيها و المراد بالمشيئة في الآية مشيئة الإلجاء خلاف ما قالته الأشاعرة.

قال الرازيّ: إن قيل: إنّه قد وردت آيات دالّة على عدم التباين في طريقة الأنبياء و الرسل و آيات دالّة على حصول التباين فيها فالنوع الأوّل مثل قوله: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً إلى قومه أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا» (1) و قال: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» (2) و أمّا النوع الثاني فمثل هذه الآية؛ فحينئذ كيف طريق الجمع؟ نعم، فالنوع الأوّل من الآيات مصروف إلى ما يتعلّق بأصول الدين و النوع الثاني مصروف إلى ما يتعلّق بفروع الدين، انتهى.

قوله: [وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي لكن جعلكم على شرائع مختلفة للامتحان و التمييز بين المطيع و العاصي لترتّب الثواب و العقاب. قال الحسين بن عليّ المغربيّ:

معنى الآية: لو شاء اللّه لم يبعث إليكم نبيّا فتكونون متعبّدين بما في العقل و تكونون أمّة واحدة و لكن ليختبركم فيما كلّفكم من العبادات و هو عالم بما يؤول إليه أمركم [فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ و بادروا في التقدّم بالخير و ما أمرتكم به؛ فإنّي ما آمركم إلّا بما هو خير لكم [إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً] استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات و في قوله: «فاستبقوا» دلالة على وجوب المبادرة إلى أفعال الخير، و يكون محمولا على الواجبات و من قال: إنّ الأمر على الندب حمله على جميع الطاعات [فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيخبركم بما يرتفع الاختلاف و الشكوك معه من الجزاء بين محقّكم و مبطلكم و موفيكم و مقصّركم في العمل.

ص: 33


1- الانعام: 90.
2- الشورى: 11.

[سورة المائدة (5): الآيات 49 الى 50]

وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

[وَ أَنِ احْكُمْ عطف على قوله: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أَنِ احْكُمْ و أعيد ذكر الحكم و الأمر بعد ذكره في الآية الأولى إمّا للتأكيد و إمّا لأنّهما حكمان أمر بهما لأنّ اليهود احتكموا إليه في زنى المحصن أوّلا ثمّ احتكموا في قتيل كان فيهم [وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي ما يهوون من الأحكام و يطمعوك منهم من الإجابة إلى الإسلام. و قيل: المعنى: احذرهم أن يضلّوك بالكذب على التوراة بأن يقولوا: هذا الحكم كذا في التوراة، و ليس ذلك الحكم فيها بل يريدون أن تحكم لهم حسب ما يهوون و الفتنة هنا صرف من الحقّ إلى الباطل و في الآية دلالة على وجوب مجانبة أهل البدع و الضلال و ذوي الأهواء.

[فَإِنْ تَوَلَّوْا] و أعرضوا عن حكمك [فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ و يعاقبهم ببعض أجرامهم. و ذكر البعض و المراد الكلّ كما يذكر العموم و يراد به الخصوص، عن الجبّائيّ. أو أنّه ذكر البعض تغليظ للعقاب و المراد أنّه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم في إهلاكهم. و قيل: إنّه أراد تعجيل بعض العقاب بما كان من التمرّد؛ فإنّ عذاب الدنيا يختصّ ببعض الذنوب دون بعض و عذاب الآخرة يعمّ. و لعلّ المراد في الآية بنو قريظة لمّا نقضوا العهد يوم الأحزاب عوقبوا بالقتل [وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن امتناع القوم من الإقرار بنبوّته و لا زال كان أهل الإيمان قليلا و أهل الفسق كثيرا [أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ و قرء بالخطاب تبغون.

و قرء حكم بالرفع على الابتداء و تبغون خبره و العائد محذوف من الخبر للدلالة؛ و المعنى: أحكم الجاهليّة تبغون، و المراد أنّ هذا الحكم الّذي تبغونه إنّما يحكم به حكّام الجاهليّة فأراد هؤلاء اليهود المتحاكمين إلى الرسول في أمر الرجم و الدية أن يحكم رسول اللّه بموجب هو أهم كما كان أهل الجاهليّة يحكمون عن هوى أنفسهم.

ص: 34

قال مقاتل: كانت بين قريظة و النضير دماء قبل أن يبعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فلمّا بعث تحاكموا إليه فقالت بنو قريظة: بنو النضير إخواننا؛ أبونا واحد و ديننا واحد فإن قتل بنو النضير منّا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، و إن قتلنا منهم واحدا أخذوا منّا مائة و أربعين وسقا من تمر، و أروش جراحاتنا على النصف من أروش جراحاتهم؛ فاقض بيننا و بينهم فقال صلّى اللّه عليه و آله: فإنّي أحكم أنّ دم القرظيّ وفاء من دم النضيريّ، و دم النضيريّ وفاء من دم القرظيّ؛ ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم و لا عقل و لا جراحة. فغضب بنو النضير و قالوا: لا نرضى بحكمك فإنّك عدوّ لنا فأنزل اللّه: «أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ الآية» يعني حكمهم الأوّل يطلبون و ذلك أنّهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إيّاه، و إذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به فمنعهم اللّه عن ذلك بهذه الآية.

ثمّ قال: «وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» فإنّهم هم الّذين يعرفون أنّه لا أحد أعدل من اللّه حكما و بيانا. قال الرازيّ: اللّام في قوله: «لِقَوْمٍ» للبيان كاللّام في «هبت لك» أي هذا الخطاب و هذا البيان لهؤلاء. و قال الجبّائيّ: أقيمت اللّام مقام عند و هو جائز إذا تقاربت المعاني و ارتفع اللّبس؛ قال بعضهم: إنّ الحروف يقوم بعضها مقام بعض.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 51 الى 53]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)

النزول: قيل: إنّ عبادة بن الصامت جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتبرّأ عنده من موالاته اليهود فقال عبد اللّه بن أبيّ: لكنّي لا أتبرّأ منهم لأنّي أخاف الدوائر فنزلت الآية.

ص: 35

و معنى [لا تتّخذوهم أولياء] أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم، و لا تتودّدوا إليهم و تمّ الكلام عند قوله: «أولياء» ثمّ ابتدأ سبحانه فقال: [بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ثمّ قال:

[وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قال ابن عبّاس: يريد كأنّه مثلهم و هذا تغليظ و تشديد من اللّه في وجوب مجانبة المخالف في الدين [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ و خصّ اليهود و النصارى بالذكر، لأنّ سائر الكفّار بمنزلتهما في وجوب معاداتهم؛ فإنّ الكفر ملّة واحدة و اللّه لا يهدي إلى طريق الجنّة الكفّار لكفرهم و استحقاقهم العذاب الدائم. فترى يا محمّد [الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شكّ و نفاق يعني عبد اللّه بن أبيّ و أضرابه [يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في موالاة اليهود و مناصحتهم و معاونتهم على المسلمين قال الكلبيّ: كانوا يميرونهم [يَقُولُونَ أي قائلين و هو في موضع الحال؛ عبد اللّه و أصحابه كانوا يقولون [نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ] أي نخاف أن يدور الدهر علينا بمكروه- يعنون الجدب- فلا يميروننا، و ذلك أنّ اليهود و نصاري نجران كانوا أهل ثروة و كانوا يعينون المنافقين على مهمّاتهم و يقرضونهم و المراد من الدائرة الحوادث الهائلة.

و قيل: المراد أنّا نخشى أن لا يتمّ الأمر لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله فيدور الأمر كما كان قبل ذلك فقال سبحانه: [فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ أي يقرب أن يأتي بالفتح لرسول اللّه على أعدائه و إظهار المسلمين على أعدائهم و المراد من عنده تعالى يقطع أصل اليهود أو يخرجهم من بلادهم [فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ أي فيصبح أهل النفاق من ولايتهم لليهود و النصارى و دسّ الأخبار إليهم نادمين إذا فتح اللّه على المؤمنين و كذلك إذا ما ماتوا و تحقّقوا دخول النار ندموا على ما فعلوه في الدنيا من الكفر و النفاق [وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا] أي صدقوا اللّه و رسوله ظاهرا و باطنا تعجّبا من نفاق المنافقين و جرأتهم على اللّه بالأيمان الكاذبة.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و نافع بغير واو، و كذلك هي في مصاحف أهل الحجاز و الشام. و الباقون بالواو و كذلك هي في مصاحف أهل العراق؛ قال الواحديّ. و حذف الواو هاهنا كإثباتها و ذلك لأنّ في الجملة ذكرا من المعطوف عليها فإنّ الموصوف بقوله:

«يسارعون» هم الّذين قال فيهم المؤمنون: [أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ فلمّا حصل

ص: 36

في كلّ واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى حسن العطف بالواو و بغير الواو.

و نظيره قوله تعالى: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ» (1) لمّا كان في كلّ واحدة من الجملتين ذكر ما تقدّم أغنى ذلك عن ذكر الواو ثمّ قال: «وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ» (2) فأدخل الواو يدلّ ذلك على أنّ حذف الواو و ذكرها جائز و بالجملة أن المؤمنين يقولون متعجّبين من حال المنافقين عند ما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود و النصارى و قالوا: إنّهم كانوا يقسمون باللّه جهد أيمانهم إنّهم معنا و من أنصارنا فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا؟ و انتصب «جهد» لأنّه مصدر أي جهدوا جهد أيمانهم.

فقوله: أ هؤلاء الّذين أقسموا باللّه [جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ الاستفهام إنكار ما فعلوه و استبعاد المؤمنين من فعل المنافقين و اسم الإشارة مبتدأ و ما بعده خبره فأقسموا بأغلظ الأيمان أنّهم لمعكم أي أنّهم مؤمنون و معكم في معاونتكم على أعدائكم [حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و ضاعت أعمالهم الّتي عملوها و بطل ما أظهروه من الإيمان فلم تستحقّوا به الثواب يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين و يحتمل أن يكون من كلام اللّه فأصبحوا خاسرين في الدنيا و الآخرة؛ أمّا الدنيا فليسوا من أنصار اللّه و أمّا الآخرة فقرنهم اللّه مع الكفّار و ورث المؤمنون منازلهم.

[سورة المائدة (5): آية 54]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)

قرء يرتدد بدالين و يرتدّ بدال مشدّدة.

قال صاحب الكشّاف: إنّه كان أهل الردّة إحدى عشر فرقه:

ثلاث في عهد رسول اللّه: بنو مدلج «و رئيسهم» ذو الخمار و هو الأسود العنبسيّ و كان كاهنا ادّعى النبوّة في اليمن و استولى على بلادها و أخرج عمّال رسول اللّه فكتب إلى معاذ بن جبل و سادات اليمن فأهلكه اللّه على يد فيروز الديلميّ فقتله و أخبر جبرئيل

ص: 37


1- الكهف: 22.
2- الكهف: 22.

رسول اللّه بقتله ليلة قتل فسرّ المسلمون و قبض رسول اللّه من الغد، و أتى خبره في آخر شهر ربيع الأوّل. (1) و بنو حنيفة قوم مسيلمة ادّعى النبوّة و كتب إلى رسول اللّه: من مسيلمة رسول اللّه إلى محمّد رسول اللّه؛ أمّا بعد فإنّ الأرض نصفها لي و نصفها لك فأجابه الرسول من محمّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب: أمّا بعد فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين. فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين و قتل على يد وحشيّ قاتل حمزة، و كان وحشيّ يقول: قتلت خير الناس في الجاهليّة و شرّ الناس في الإسلام، أراد: في جاهليّتي و في إسلامي.

و بنو أسد قوم طليحة بن خويلد ادّعى النبوّة فبعث إليه رسول اللّه خالدا فانهزم بعد القتال إلى الشام ثمّ أسلم.

و سبع في عهد أبي بكر: «فزارة» قوم عيينة بن حصن. و «غطفان» قوم قرّة بن سلمة العشيريّ. و «بنو سليم» قوم الفجأة بن عبد ياليل. و «بنو يربوع» قوم مالك بن نويرة.

و «بعض بني تميم» قوم سجاح بنت المنذر الّتي ادّعت النبوّة و زوّجت نفسها من مسيلمة الكذّاب. و «كندة» قوم أشعث بن قيس. و «بنو بكر بن وائل» بالبحرين قوم الحطم بن زيد و كفى اللّه جميعا.

و فرقة في عهد عمر: «غسّان» قوم جبلة بن الأيهم و ذلك أنّ جبلة أسلم على يد عمر و كان يطوف ذات يوم جارّا رداءه فوطئ رجل طرف ردائه فغضب فلطمه فتظلّم الرجل إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه إلّا أن يعفو عنه فقال جبلة أنا أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة ألف فأبى الرجل إلّا القصاص فاستنظر جبلة من عمر فأنظره فهرب إلى الروم و ارتدّ؛ قال الشاعر:

تنصّرت الأشراف من أجل لطمة قوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لمّا بيّن حال المنافقين و علم أنّ قوما منهم يرتدّون بعد وفاته ظاهرا أخبر بأنّه [من يتولّ منكم الكفّار [و يرتدّ عن دينه

ص: 38


1- هذا على مذهب الجمهور من وقوع رحلته صلّى اللّه عليه و آله في شهر الربيع.

فليعلم أنّ اللّه يأتي بقوم آخرين ينصرون هذا الذين على أبلغ الوجوه و أنّه تعالى لا يخلّي دينه من أنصار يحمونه [فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أي رحماء على المؤمنين، غلاظ شداد على الكافرين قال ابن عبّاس:

تراهم للمؤمنين كالولد لوالده و كالعبد لسيّده و هم في الغلظة على الكافرين كالسبع لفريسته؛ يجاهدون في سبيل اللّه بالقتال لإعلاء كلمة اللّه و إعزاز دينه [لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ في طاعة اللّه و اختلف في من وصف بهذه الأوصاف؛ قيل: هم أبو بكر و أصحابه الّذين قاتلوا أهل الردّة، عن الحسن و قتادة و الضحاك. و قال السدّيّ: هم الأنصار. و قال مجاهد: هم أهل اليمن قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا و أرقّ أفئدة؛ الإيمان يمانيّ و الحكمة يمانيّة. و قال عياض بن غنم الأشعريّ لمّا نزلت هذه الآية أومأ رسول اللّه إلى أبي موسى الأشعريّ فقال: هم قوم هذا. و قيل: إنّهم الفرس روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سئل عن هذه الآية فضرب بيده على عاتق سلمان فقال: هذا و ذووه ثمّ قال: لو كان الدين معلّقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس. (1) و قيل: هم أمير المؤمنين عليّ و أصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين و القاسطين و المارقين و هذه الرواية عن عمّار و حذيفة و ابن عبّاس. و قال الطبرسيّ: و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و يؤيّد هذا القول أنّ النبيّ وصفه بهذه الصفات المذكورة في الآية فقال فيه- و قد ندبه لفتح خيبر-: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله كرّارا غير فرّار و لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يده؛ ثمّ أعطاها إيّاه. فأمّا الوصف باللّين لأهل الإيمان و الشدّة على الكفّار و الجهاد في سبيل اللّه مع أنّه لا يخاف لومة لائم لا يمكن لعاقل أن ينكر هذا الأمر عنه عليه السّلام لمّا ظهر من شدّته على أهل الشرك و الكفر و مقاماته المشهورة في تشديد الدين.

و يؤيّد ذلك إنذار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قريشا بقتال عليّ عليه السّلام لهم من بعده حيث جاءه سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا له: يا محمّد إن أرقّائنا لحقوا بك فارددهم علينا فقال رسول اللّه: لتنتهنّ يا معاشر قريش أو ليبعثنّ اللّه عليكم رجلا يضربكم على تأويل

ص: 39


1- رواه و ما قبله مرسلا في الجمع.

القرآن كما ضربتكم على تنزيله؟ فقال له بعض أصحابه: من هو يا رسول اللّه؟ أبو بكر؟

قال: لا. قال: فعمر؟ قال: لا، و لكنّه خاصف النعل في الحجرة و كان عليّ يخصف نعل رسول اللّه.

و روي عن عليّ عليه السّلام أنّه قال يوم البصرة: و اللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم.

و روى أبو إسحاق الثعلبيّ في تفسيره بالإسناد عن الزهريّ عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال؛ يرد عليّ قوم من أصحابي يوم القيامة فيمنعون عن الحوض؛ فأقول: أصحابي أصحابي فيقال: إنّك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. و قيل: أنّ الآية عامّة في كلّ من استجمع هذه الخصال إلى يوم القيامة.

و ذكر عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره أنّها نزلت في مهديّ الأمم و أصحابه و أنّها خطاب لمن ظلم آل محمّد و قتلهم و غصبهم حقّهم و يمكن أن يكون قوله: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ» أن يكون ذلك القوم غير موجودين في وقت نزول الخطاب فهو يتناول من يكون بعدهم و بهذه الصفة إلى قيام الساعة.

قوله: [ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ أي هذا الأمر من محبّتهم للّه و لين جانبهم للمؤمنين و شدّتهم على الكافرين بفضل و توفيق و لطف منه تعالى [يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ] يعطيه من يعلم أنّه محلّ له [وَ اللَّهُ واسِعٌ جواد لا يخاف نفاد ما عنده [عَلِيمٌ بمن يكون من أهله و لا يبذله إلّا لمن يقتضي حكمته.

قال الرازيّ في تفسيره: و قال جماعة: إنّ الآية نزلت في عليّ و يدلّ عليه و جهان: الأوّل أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا دفع الراية إلى عليّ عليه السّلام يوم خيبر و قال: لأدفعنّ الراية غدا إلى رجل يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله و هذا هو الصفة المذكورة في الآية. و الوجه الثاني أنّه تعالى ذكر بعد هذه قوله: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا، الآية» و هذه الآية نزلت في حقّ عليّ فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا في حقّه، انتهى كلامه.

ص: 40

[سورة المائدة (5): الآيات 55 الى 56]

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (55) وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)

قوله تعالى:

الوليّ: الّذي يلي تدبير الأمر؛ يقال: فلان وليّ المرأة إذا كان يملك تدبير نكاحها، و فلان وليّ الدم: من كان إليه المطالبة بالقود. و السلطان وليّ أمر الرعيّة.

و يقال لمن يعيّنه لخلافته عليهم بعده: وليّ عهده، و الوليّ هو الّذي يلي النصرة و المعونة و لفظة «إنّما» كلمة مخصّصة لما أثبت بعده و نافية لما لم يثبت؛ يقول القائل لغيره: إنّما لك عندي درهم فيكون مثل أن يقول له: ليس لك عندي إلّا درهم.

النزول: قال الطبرسيّ في المجمع: حدّثنا السيّد أبو الحامد مهديّ بن نزار الحسينيّ القائنيّ، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ، قال: حدّثني أبو الحسن محمّد بن القاسم الفقيه الصيد لأنّي، قال: أخبرنا أبو محمّد عبد اللّه بن محمّد الشعرانيّ قال:

حدّثنا أبو عليّ أحمد بن عليّ بن رزين البياشانيّ قال: حدّثنا المظفّر بن الحسني الأنصاريّ قال: حدّثنا السنديّ بن عليّ الورّاق قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحمانيّ عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن عباية بن ربعيّ قال:

بينا عبد اللّه بن عبّاس جالس على شفير زمزم يقول: «قال رسول اللّه» إذ أقبل رجل متعمّم بعمامة فجعل ابن عبّاس لا يقول: «قال رسول اللّه» إلّا قال الرجل: «قال رسول اللّه» فقال ابن: عبّاس سألتك باللّه من أنت فكشف العمامة عن وجهه و قال: أيّها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدريّ أبو ذرّ الغفاريّ سمعت رسول اللّه بهاتين و إلّا صمّتا و رأيته بهاتين و إلّا عميتا يقول: عليّ قائد البررة و قاتل الكفرة؛ منصور من نصره و مخذول من خذله.

أما إنّي صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء فقال: اللّهم أشهدك أنّي سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئا و كان عليّ راكعا فأومأ بخنصره اليمنى إليه و كان يتختّم بها، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره و ذلك بعين رسول اللّه

ص: 41

فلمّا فرغ النبيّ من صلاته رفع رأسه إلى السماء فقال: اللّهم إنّ أخي موسى سألك فقال: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً» اللّهم و أنا محمّد نبيّك و صفيّك اللّهمّ فاشرح لي صدري و يسّر لي أمرى و اجعل لي وزيرا من أهلي عليّا اشدد به ظهري. قال أبو ذرّ: فو اللّه ما استتمّ كلامه حتّى نزل عليه جبرئيل من عند اللّه فقال:

يا محمّد اقرأ قال: و ما أقرء؟ قال: اقرأ: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ الآية» و روى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبيّ في تفسيره بهذا الإسناد بعينه.

و روى أبو بكر الرازيّ في كتاب أحكام القرآن على ما حكاه المغربيّ عنه و الرمّانيّ و الطبريّ أنّها نزلت في عليّ حين تصدّق بخاتمه و هو راكع، قاله مجاهد و السدّيّ و المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و جميع علماء أهل البيت و قال الكلبيّ:

نزلت في عبد اللّه بن سلام و أصحابه لمّا أسلموا فقطعت اليهود موالتهم نزلت الآية و في رواية عطا: قال عبد اللّه بن سلام: يا رسول اللّه أنا رأيت عليّا يتصدّق بخاتمة و هو راكع و نحن نتولّاه.

و قد رواه السيّد أبو الحامد عن أبي القاسم الحسكانيّ بالإسناد المتّصل المرفوع إلى أبي صالح عن ابن عبّاس قال: أقبل عبد اللّه سلام و معه نفر من قومه ممّن قد آمنوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا يا رسول اللّه إنّ منازلنا بعيدة و ليس لنا مجلس و لا متحدّث دون هذا المجلس و إنّ قومنا لمّا رأونا آمنّا باللّه و رسوله و صدّقناه رفضونا و آلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا و لا يناكحونا و لا يكلّمونا فشقّ ذلك علينا فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّما وليّكم اللّه و رسوله، الآية» ثمّ إنّ النبيّ خرج إلى المسجد و الناس بين قائم و راكع فبصر بسائل فقال صلّى اللّه عليه و آله: هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال: نعم خاتم من فضّة فقال النبيّ: من أعطاكه؟ قال: ذلك القائم- و أشار بيده إلى عليّ- فقال النبيّ: على أيّ حال أعطاك؟ قال: أعطاني و هو راكع فكبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قرأ «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ».

ص: 42

و في حديث إبراهيم بن الحكم من ظهير ما يقرب هذا و لا حاجة إلى الإطالة.

المعنى: بيّن سبحانه بقوله: [إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ من له الولاية على الخلق و القيام بأمورهم و يجب طاعته عليهم فقال: وليّكم الّذي ينبغي أن يتولّى مصالحكم هو اللّه و رسوله يفعله بأمره [وَ الَّذِينَ آمَنُوا] ثم وصف الّذين آمنوا فقال: [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ] بشرائطها [وَ يُؤْتُونَ أي و يعطون [الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ أي في حال الركوع و قوله: «وَ هُمْ راكِعُونَ» لا يجوز جعله عطفا على ما تقدّم؛ لأنّ الصلاة قد تقدّمت و الصلاة مشتملة على الركوع فكانت إعادة ذكر الركوع تكرارا فوجب جعله حالا أي يؤتون الزكاة حال كونهم راكعين. و أجمعوا على أنّ إيتاء الزكاة حال الركوع لا يكون إلّا في حقّ عليّ و تظاهرت الروايات على أنّ الآية نزلت في حقّ عليّ.

و لفظ الوليّ في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر؛ لأنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامّة في كلّ المؤمنين بدليل أنّه تعالى ذكر بكلمة إنّما و كلمة إنّما للحصر لقوله: «إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ» و الولاية بمعنى النصرة عامّة لقوله: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» و هذا يوجب القطع بأنّ الولاية المذكورة في هذه الآية ليست بمعنى النصرة و كانت بمعنى التصرّف في الأمور فصار معنى الآية: إنّما المتصرّف في أموركم أيّها المؤمنون هو اللّه و رسوله و المؤمنون الموصوفون بالصفة الفلانيّة و يجب أن يكون الموصوف بهذه الصفة إمام الامّة و متصرّفا في كلّ الأمور؛ فثبت بهذه الآية إمامة شخص موصوف بهذه الصفة و قد تظاهرت الروايات على أنّ الآية نزلت في عليّ فكانت الآية مخصوصة به و دالّة على إمامته.

قال الطبرسيّ: و في الآية دلالة على أنّ الولاية مختصّة به عليه السلام قال سبحانه:

«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ» فخاطب جميع المؤمنين و دخل في الخطاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله و غيره ثمّ قال:

«وَ رَسُولُهُ» فأخرج النبيّ من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته ثمّ قال: «الَّذِينَ آمَنُوا» فوجب أن يكون الّذي خوطب بالآية غير الّذي جعلت له الولاية و إلّا أدّى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه و إلى أن يكون كلّ واحد من المؤمنين وليّ نفسه

ص: 43

و ذلك باطل، قاله الواحديّ: انتهى.

و استدلّ أهل العلم بهذه الآية على أنّ العمل القليل لا يقطع الصلاة، و أنّ دفع الصدقة الى السائل في الصلاة جائز مع نيّة القربة.

[وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ بالقيام بطاعته [وَ رَسُولَهُ باتّباع أو امره [وَ الَّذِينَ آمَنُوا] باتّخاذهم أولياء [فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ كأنّه قيل: و من يتولّ هؤلاء فهو حزب اللّه و جنده و حزب اللّه هم الغالبون. و إضافتهم إليه تعالى تشريف لهم و تعريض بأنّ من يوالي غير هؤلاء فإنّه حزب الشيطان. و الحزب: الطائفة يجتمعون لأمر.

روي أنّ اللّه تعالى شكا من هذه الامّة ليلة المعراج شكايات: منها: إنّي لم اكلّفهم عمل الغد و هم يطلبون منّي رزق الغد.

و منها: إنّي لا أرفع أرزاقهم إلى غيرهم و هم يرفعون عملهم إلى غيري.

و الثالثة أنّهم يأكلون رزقي و يشكرون غيري و يخونون معي و يصالحون خلقي.

و الرابعة أنّ العزّة لي و أنا المعزّ و هم يطلبون العزّة من سواي.

و الخامسة أنّي خلقت النار لكلّ كافر و هم يجتهدون أن يوقعوا أنفسهم فيها.

[سورة المائدة (5): الآيات 57 الى 58]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)

قوله تعالى:

نهى سبحانه بالنهي العامّ عن اتّخاذ الكفار أولياء. قرأ أبو عمرو و الكسائيّ الكفّار في الآية بالجرّ عطفا على قوله: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» أي و من الكفّار و الباقون بالنصب عطفا على قوله: «الَّذِينَ اتَّخَذُوا» بتقدير و لا الكفّار.

النزول: قيل: كان رفاعة بن زيد و سويد بن الحرث أظهرا الإيمان ثمّ نافقا و كان رجال من المسلمين يوادّونهما فأنزل اللّه فيهم الآية. و هذه الآية تقضي امتياز أهل الكتاب عن الكفّار؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة و قوله: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» (1) صريح في كونهم كفّارا؛ و طريق التوفيق بينهما أنّ كفر المشركين

ص: 44


1- البينة: 1.

أعظم و أغلظ و لهذا تخصّصوا باسم الكفر.

[لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً] و معنى اتّخاذهم دين المسلمين مهزوءا به إظهارهم باللّسان مع الإصرار على الكفر بالقلب و قد رتّب النهي عن موالاتهم فإنّ من هذا شأنه ينبغي أن يعاديه لا أن يواليه.

قيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة لتنفر الناس عنها و كان بعض الكفّار يقولون: يا محمّد لقد أبدعت شيئا لم يسمع فيما مضى فان كنت نبيّا فقد خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير؟ (1) فأنزل اللّه: «وَ إِذا نادَيْتُمْ الآية» و لمّا كان منادي رسول اللّه ينادي للصلاة و قيام المسلمون إليها قالت اليهود:

قاموا لا قاموا، صلّوا لا صلّوا على طريق الاستهزاء.

قوله: [مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود و النصارى [وَ الْكُفَّارَ] من سائر طبقات أهل الكفر [أَوْلِياءَ] أي أخلّاء و بطانة [وَ اتَّقُوا اللَّهَ في موالاتهم بعد النهي عنها [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بوعده و وعيده فكيف يرضى المؤمن موالاة من يطمع في الدين؟ بل لا بدّ و إن يكافيه بالمقت و العداوة.

[وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أنّ تعظيم الخالق المنعم و امتثال أوامره من أحسن الأعمال و أشرف الأفعال كما قيل: أشرف الحركات الصلاة و أنفع السكنات الصيام.

قال السدّيّ: كان رجل من النصارى بالمدينة و كلّما سمع المؤذّن ينادي أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه يقول: احرق الكاذب فدخلت خادمته بنار ذات ليلة فتطايرت شرارة منها في البيت فأحرقت البيت و احترق هو و أهله.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 59]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)

و لمّا حكى سبحانه عنهم أنّهم اتّخذوا دين الإسلام لعبا و هزوا قال سبحانه:

[قُلْ يا محمّد ما الّذي تنقمون من هذا الدين و تجدون فيه ممّا يوجب اتّخاذه هزوا؟

ص: 45


1- العير بالفتح فالسكون: الحمار الأهلي و الوحشي.

يقال: نقمت الشي ء إذا كرهته و أنكرته بكسر القاف و فتحها و الفصيح: الكسر.

النزول: روي أنّ نفرا من اليهود سألوا رسول اللّه عن دينه فقال صلى اللّه عليه و آله: أومن باللّه و ما انزل إلينا و ما انزل إلى إبراهيم و إسحاق و يعقوب و الأسباط و ما اوتي موسى و عيسى و ما اوتي النبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم و نحن له مسلمون فحين سمعوا ذكر عيسى قالوا: لا نعلم أهل دين أقلّ حظّا في الدنيا و الآخرة منكم و لا دينا شرّا من دينكم فأنزل اللّه هذه الآية بأن الإيمان باللّه و الإيمان بجميع الأنبياء ليس مما ينقم فلم تنقموه علينا؟ [وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف علىّ «أَنْ آمَنَّا» أي خارجون أنتم عن الدين لأنكم لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحّة كتابنا و ديننا لآمنتم به و إسناد الفسق إلى أكثرهم مع أن كلّهم فاسقون لأنّهم الحاملون لأعقابهم على التمرّد و الفساد (1) أو أنّ قليلا منهم آمنوا.

و اعلم أنّ قراءة العامّة: أنّ بفتح الألف. و قرأ نعيم بن ميسرة: «أن» بالكسر فقوله:

«أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ» يدلّ على سبيل التعريض إنّهم لم يتّبعوهم فكان المعنى: و ما تنقمون منّا إلّا أن آمنّا و ما فسقنا مثلكم أو يكون المراد أنّه لمّا ذكر تعالى ما ينقم اليهود عليمهم من الإيمان بجميع الرسل و ليس ذلك ممّا ينقم ذكر في مقابلته فسقهم و هو ممّا ينقم، و مثل هذا حسن في صنعة الازدواج كقول القائل: هل تنقم منّي إلّا أنّي عفيف و أنّك فاجر و أنّي فقير و أنّك غنيّ، و يحسن هذا المعنى على سبيل المقابلة. و يجوز أن يكون الواو بمعنى مع أي و ما تنقمون منّا إلّا الإيمان باللّه مع أنّ أكثركم فاسقون أو يكون التقدير: و ما تنقمون منّا إلّا بأن آمنّا باللّه و بسبب فسقكم نقمتم الإيمان علينا، و لأجل أنّ أكثركم فاسقون تنقمونا فيكون تعليل معطوف على تعليل محذوف، و يكون التقدير: و ما تنقمون منّا إلّا الإيمان لقلّة إنصافكم و لأجل أنّ أكثركم فاسقون، و المعاني كلّها متقاربة و حاصل التقادير أنّ السبب في نقمتكم إيّانا إيماننا و فسقكم.

ص: 46


1- فالاعقاب قبل انحرافهم عن الحق- بسبب إغواء سالفيهم إياهم- ليسوا بفاسقين، فهم الأقلّون في مقابل هذه الأكثرين الفاسقين. هذا و لا ريب ان الوجه الثاني اقرب.

[سورة المائدة (5): آية 60]

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)

قوله تعالى:

أمر سبحانه نبيّه أن يخاطب المستهزئين من اليهود و الكفّار فقال: [قُلْ يا محمّد:

[هَلْ أخبركم [بِشَرٍّ مِنْ أهل [ذلِكَ الدين و ممّا ينقم في إيماننا [مَثُوبَةً] أي ثوابا و جزاء و التقدير: إن كان ذلك عندكم شرّا فأنا أخبركم بشرّ منه عاقبة عند اللّه و لا بدّ من حذف المضاف فمعنى «بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ» أي بشرّ من أهل ذلك لأنّه قال: «مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ» و لا يقال: الملعون شرّ من ذلك الدين بل يقال: إنّه شرّ ممّن له ذلك الدين.

فإن قيل: فهذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوما عليهم بالشرّ و معلوم أنّه ليس كذلك. فالجواب أنّه إنّما خرج الكلام على حسب زعمهم و اعتقادهم فإنّهم حكموا بأنّ دينهم شرّ فقيل لهم: هب أنّ الأمر كذلك و لكن من لعنه اللّه و غضب و مسخه شرّ من ذلك كقوله: «وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (1) و مثوبة نصب على التمييز، و وزنها مفعلة مثل مقولة و هو بمعنى جزاء و قد جاءت مصادر على مفعول كالميسور.

فإن قيل: المثوبة مختصّة بالإحسان فكيف جاءت في الإساءة؟ فالجواب أنّه بطريق قوله: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»* (2) و مثل قولهم: تحسنه بينهم ضرب وجيع.

قوله: [مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ في محلّ الرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف فإنّه لمّا قال:

«هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ» فكأنّ قائلا قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنه اللّه؛ و نظيره قوله تعالى: قل: «أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ» (3) معناه هو النار فكذلك هنا و يجوز أن يكون في محلّ الخفض بدلا من شرّ و المعنى انبّئكم بمن لعنه اللّه [وَ غَضِبَ عَلَيْهِ بفسقه و كفره و المراد من غضبه عليه: أراده العقوبة به أو الاستخفاف بأن ضرب عليهم الذلّة و الجزية [وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ] أي مسخهم قردة و خنازير. قال

ص: 47


1- سبأ: 24.
2- التوبة: 34.
3- الحج: 72.

المفسّرون: يعنى بالقردة أصحاب السبت، و بالخنازير: كفّار مائدة عيسى. قال ابن عبّاس:

إنّ المسخين من أصحاب السبت لأنّ شبابهم مسخوا فردة و شيوخهم مسخوا خنازير.

[وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ قال الزّجاج: هو عطف نسق على «لعنه اللّه» أي من لعنة اللّه و من عبد الطاغوت. ذكر صاحب الكشّاف في قوله: «و عبد الطاغوت» أنواعا من القراآت و كذلك صاحب المجمع الطبرسيّ قال: قرأ حمزة: و عبد الطاغوت بضمّ الباء و جرّ التاء في طاغوت، و الباقون من القرّاء السبع و عبد الطاغوت بفتح الباء و نصب التاء. و قرأ أبيّ: و عبدوا الطاغوت. و قرأ ابن مسعود: و من عبدوا الطاغوت و عابد الطاغوت عطفا على القردة. و قرء: و عابدي الطاغوت. و قرء: و عبّاد الطاغوت. و رواية عكرمة عن ابن عبّاس:

و عبّد الطاغوت بتشديد الباء و فتح الدال و خفض التاء. و قرأ أبو جعفر الرواسيّ: و عبد الطاغوت على المجهول، و رواية علقمة عن ابن مسعود: و عبد الطاغوت على وزن صرد و المشهور منها: و عبد الطاغوت بفتح الباء و نصب التاء في الطاغوت. و قرء غير هذه القراآت لا حاجة في الإطالة بذكرها.

و في قوله: «وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ» احتجّت الأشاعرة بهذه الآية على أنّ الكفر بقضاء اللّه؛ قالوا: هو الّذي جعل فيهم تلك العبادة. لكنّ هذا القول بمعزل عن القبول و لا تعلّق لهم بهذه الآية بل معنى الآية حكم عليهم بذلك و وصفهم به مثل قوله:

«وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (1) و لا شبهة في أنّه تعالى غير ظالم لعباده و أكثر ما تضمّنته الأخبار أنّ معنى جعل: خلق، أي خلق من يعبد الطاغوت و هو على قراءة حمزة و غيره ممّن قرأ عبادا و عباد و لا شبهة في أنّه خلق الكافر و أنّه لا خالق للكافر سواه غير أنّه لا يوجب أن يكون خلق كفره و جعله كافرا و ليس لهم أن يقولوا: إنّا نستفيد من قوله: و جعل منهم من عبد الطاغوت أنّه خلق ما به كان عابدا كما نستفيد من قوله: «وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ» أنّه جعل ما به كانوا كذلك بل لأنّ الدليل قد دلّ على أنّ ما به يكون القردة قردة و الخنزير خنزيرا لا يكون إلّا من فعل اللّه و ليس كذلك ما به يكون الكافر كافرا فإنّه قد ثبت أنّه سبحانه يتعالى عن ذلك فافترق الأمران ثمّ قال: [أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً] أي هؤلاء الّذين وصفهم اللّه باللّعنة و الغضب شرّ

ص: 48


1- الزخرف: 19.

مكانا لأنّ مكانهم سقر و لا شرّ في مكان المؤمنين و هذا نظير قوله: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا» (1) [وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي هم أبعد من النجاة و الطريق المستقيم قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية عيّر المسلمون أهل الكتاب و قالوا: يا إخوان القردة و الخنازير فنكسوا رؤوسهم.

[سورة المائدة (5): الآيات 61 الى 63]

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)

قوله تعالى:

النزول: نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على الرسول و يظهرون له الإيمان نفاقا فأخبره اللّه تعالى بشأنهم بأنّهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا لم يتعلّق بقلبهم شي ء من دلائلك و تذكيراتك و الباء في قوله: «دَخَلُوا بِالْكُفْرِ» و خرجوا به تفيد بقاء الكفر معهم حالتي الدخول و الخروج من غير نقصان و لا تغيّر فيه البتّة كما تقول: دخل زيد بثوبه و خرج به.

و الفائدة في ذكر كلمة «قد» تقريب الماضي من الحال و الفائدة في ذكر كلمة «هم» بيان إضافة الكفر إليهم و نفي أن يكون من النبيّ في ذلك فعل و لم يسمعوا منك يا محمّد عند جلوسهم معك ما يوجب كفرا بل هم الّذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم.

قالت المعتزلة: أنّه تعالى أضاف الكفر إليهم حالتي الدخول و الخروج على سبيل الذمّ و بالغ في تقرير تلك الإضافة بقوله: «وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ» فدلّ هذا على أنّه من العبد لا من اللّه قال الرازيّ: و الجواب المعارضة بالعلم و الداعي.

أقول: هذا الجواب منه أضعف من حجّة نحويّ؛ لأنّه من أين ثبت أنّ العلم من اللّه بكفرهم يوجب و يستلزم كفرهم؟ و من أين ثبت هذه الملازمة؟ فلو كان العلم مستلزما لوقوع الأمر فلا بدّ أن نقول: إنّ من يعلم أنّ زيدا يموت غدا أو يبرأ من مرضه فيقول:

إنّ زيدا هو الّذي أماته أو أبرأه من مرضه فلذلك علمه تعالى بحال خلقه. و أمّا مسألة الداعي فلو كان الداعي غير مقدور الترك فالأمر كذلك لكنّ الداعي مقدور الترك

ص: 49


1- الفرقان: 24.

فوجود الداعي غير مستلزم للفعل فلم يقع الملازمة و بقي الاختيار و بطل الجبر فتأمّل المعنى: أخبر اللّه عن هؤلاء المنافقين بقوله: [وَ إِذا جاؤُكُمْ أيّها المؤمنون [قالُوا آمَنَّا] أي صدقنا [وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي دخلوا و خرجوا كافرين و الكفر معهم في كلتا الحالتين. أكد الكلام بالضمير تمييزا لهم عن غيرهم بهذه الصفة [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من نفاقهم إذ أظهروا بألسنتهم ما أضمروا خلافه في قلوبهم ثمّ بيّن اللّه خصالا أخر ذميمة فقال: [وَ تَرى يا محمّد [كَثِيراً مِنْهُمْ قيل: المراد بالكثير رؤساؤهم و علماؤهم [يُسارِعُونَ و يبادرون [فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ و الفرق بين الإثم و العدوان أنّ الإثم الجرم كائنا ما كان، و العدوان الظلم و قيل: الإثم: الكذب، و العدوان:

ما يتعدّى إلى الغير [وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام و الرشوة و قد مرّ تفسير السحت. (1) قال أهل المعاني: إنّ لفظ المسارعة يستعمل في أكثر الأمر في الخير فكان اللّائق بهذا الموضع لفظ العجلة لأنّها من الشيطان إلّا أنّه تعالى ذكر لفظ المسارعة لبيان أنّهم يقدمون على هذه المنكرات كأنّهم محقّون فيه ثمّ قال: [لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بئس العمل عملهم [لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ أي هلّا ينهاهم و الكناية في ضمير «هم» يعود إلى الكثير. قال الحسن: الربّانيّون علماء أهل الإنجيل، و الأحبار علماء أهل التوراة و النسبة إلى الربّ من حيث اتّصافهم و تخلّقهم بأخلاق اللّه كما تقول: روحانيّ بالنسبة إلى الروح و بحرانيّ بالنسبة إلى البحر؛ وبّخهم اللّه بتركهم النهي عن منكر قومهم [وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ و هو كلّ قول قالوه بخلاف الحقّ من الخرافات و غيرها أو قولهم: آمنّا و ليسوا بمؤمنين [وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام مع علمهم بقبحها [لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ هو أبلغ من قوله: لبئس ما كانوا يعملون لأنّ الصنع أقوى من العمل فإنّ العمل إنّما يسمّى صناعة إذا صار مستقرّا راسخا متمكّنا.

قال الحقّيّ: جعل سبحانه معصية من عمل الإثم و العدوان و أكل السحت ذنبا غير راسخ و ذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا. و في الآية ما ينبغي على بعض العلماء من توانيهم عن المنكرات ما لا يخفى قال أمير المؤمنين في النهج: لعن اللّه الآمرين

ص: 50


1- في ص: 21.

بالمعروف التاركين له و الناهين عن المنكر العاملين به. و قيل: إنّ اللّه لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة و لكن إذا أظهروا المعاصي فلم ينكروا استحقّ القوم جميعا للعقوبة. و لو لا حقيقة هذا الأمر في التوبيخ على العلماء و المشايخ في ترك النصيحة ثابتة لما اشتغل الأخصّون المخلصون بدعوة الخلق و تربيتهم فليكن المربّي متربّيا في الأمور، بصيرا بالطريق، لا أن يكون هو أضلّ من المهتدين و يحسب أنّه يحسن صنعا و هو من الأخسرين.

قال الطبرسيّ: و في هذه الآية دلالة على أنّ تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه بل أسوأ، و وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لأنّه تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية بلفظ بئس و لكن قال في المقدمين على الإثم: لبئس العمل عملهم و قال في التاركين: لبئس الصنع صنعهم و قد شرحنا الفرق بين العمل و الصنع قبل هذا.

[سورة المائدة (5): آية 64]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

قوله تعالى:

إنّ اللّه حكى عنهم أنّهم قالوا هذا الكلام الركيك الفاسد، و ترى اليهود أنّهم متّفقون على أنّا لا نقول ذلك و هو أصدق القائلين في كلّ ما أخبر عنه فكيف يكون هذا الإشكال؟ قال المفسّرون: إنّ اللّه قد بسط على اليهود حتّى كانوا أكثر الناس مالا و أخصبهم ناحية، فلمّا عصوا اللّه في أمر محمّد صلى اللّه عليه و آله و كذّبوه، كفّ اللّه عليهم ما بسط عليهم من السعة فقال عند ذلك فنحاص بن عازورا: يد اللّه مغلولة؛ قال أهل المعاني: إنّما قاله فنحاص و لم ينهه الآخرون فلمّا رضوا بقوله فأشركهم اللّه في ذلك، عن ابن عبّاس.

و قيل: معناه: يد اللّه مكفوفة عن عذابنا فليس يعذّبنا إنّ بما يبرّ به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل، عن الحسن. و قيل: إنّه استفهام و تقديره: أيد اللّه مغلولة عنّا حيث قتر المعيشة علينا؟

ص: 51

قال الرازيّ: لعلّ القوم إنّما قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنّهم لمّا سمعوا قوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً»* (1) قالوا: لو احتياج إلى القرض لكان فقيرا عاجزا و الإله الّذي يستقرض شيئا من عباده لا جرم مغلول اليدين ممسكة فحكى اللّه عنهم هذا الكلام.

و قال البلخيّ: و لعلّه كان فيهم من كان على مذهب الفلاسفة و هو أنّه موجب لذاته و أنّ حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلّا على نهج واحد و سنن واحد، و أنّه غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه الّتي عليها يقع؛ مثل قولهم: الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد، فعبّر اليهود عن عدم الاقتدار على التغيّر و التبديل بغلّ اليد. فثبت أنّ هذه الحكاية صحيحة على كلّ هذه الوجوه و غلّ اليد مجاز مشهور عن البخل و بسطها عن الجود و منه قوله تعالى: «وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ» (2) و السبب و العلاقة فيه أنّ اليد آلة لدفع المال فأطلقوا اسم السبب على المسبّب.

و قوله: [غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بعدم القدرة و المكنة علّمنا اللّه أن ندعو عليهم بهذا الدعاء، أي أمسكت أيديهم عن الإنفاق في الخير. و اليهود أبخل الناس و لا امّة أبخل منهم. و قال الحسن: هذا الكلام إخبار من اللّه أي غلّت أيديهم في نار جهنّم على الحقيقة و شدّت إلى أعناقهم جزاء لهم على هذا القول. و حذف فاء التعقيب مثل قوله: «وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً» (3) و لم يقل: فقالوا أ تتّخذنا هزوا، و الحذف لفائدة و هي أنّه لمّا حذف كان قوله: «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» كالكلام المبتدأ به و كون الكلام مبتدأ به يزيده قوّة و وثاقة؛ لأنّ الابتداء بالشي ء يدلّ على قوّة الاهتمام و الاعتناء بتقريره [وَ لُعِنُوا] أي ابعدوا من رحمة اللّه [ب] سبب [ما قالُوا] كلمة الشنعاء [بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أي ليس شأنه تعالى كما و صفتموه بل هو موصوف بغاية الجود و الإحسان، و هذا المعنى يستفاد من تثنية اليد؛ فإنّ غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه جميعا، و يد اللّه من المتشابهات و ليس المراد أنّ له عضوا

ص: 52


1- البقرة: 245.
2- الإسراء: 29.
3- البقرة: 67.

و يدا تعالى عن ذلك! بل هي صفة من صفاته كالسمع و البصر و الوجه. و يداه في الحقيقة عبارة عن صفاته الجماليّة و الجلاليّة. و في الحديث: كلتا يديه يمين [يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ] مختار في إيقاعه يوسّع تارة و يضيّق أخرى على حسب مشيّته و حكمته.

قال الرازيّ: و قالت المجسّمة في معنى يد اللّه: أنّها عضو جسمانيّ كما في حقّ كلّ أحد، و احتجّوا عليه بقوله تعالى: «أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» (1) وجه الاستدلال أنّه تعالى قدح في إلهيّة الأصنام لأجل أنّها ليس لها شي ء من هذه الأعضاء فلو لم يحصل للّه هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إلها و لمّا بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء، و قالوا أيضا: اسم اليد موضوع لهذه العضو فحمله على شي ء آخر ترك اللّغة و إنّه لا يجوز فالجواب في إبطال هذا القول السخيف مبنيّ على أنّه تعالى ليس بجسم و الدليل عليه أنّ الجسم لا ينفكّ عن الحركة و السكون و لأنّ كلّ جسم مؤلّف من الأجزاء و كلّ ما كان كذلك يكون قابلا للتركيب و الانحلال و مفتقر إلى ما يركّبه و يؤلّفه و كلّ ما كان كذلك فهو محدث و الحركة و السكون محدثان و ما لا ينفكّ عن المحدث فهو محدث فثبت أنّه يمتنع كونه جسما فيمتنع أن تكون يده عضوا جسمانيّا انتهى.

قال الطبرسيّ: و إنّما قال: يداه على التثنية في الآية مبالغة في معنى الجود و الإنعام لأنّ ذلك أبلغ من أن يقول: بل يده مبسوطة أو المراد باليد النعمة فيكون الوجه في تثنية النعمة أنّه أراد نعمة الدنيا و نعم الآخرة فمن حيث اختص كلّ منهما بصفة يخالف صفة الاخرى كأنّهما جنسان أو أريد بهما النعم الظاهرة و الباطنة.

قوله تعالى: [وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ و هم علماؤهم و رؤساؤهم و «كثيرا» مفعول أوّل ليزيدنّ [ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ و هو القرآن و ما فيه من الأحكام و هو فاعل يزيدنّ [طُغْياناً وَ كُفْراً] مفعول ثان للزيادة أي ليزيدنّهم طغيانا على طغيانهم و كفرا على كفرهم القديمين إمّا من حيث الشدّة و الغلوّ و إمّا من حيث الكمّ و الكثرة؛ إذ كلّما نزلت آية كفروا بها فيزدادوا في الطغيان و العناد كما أنّ الطعام الصالح للأصحّاء يزيد

ص: 53


1- الأعراف: 195.

المرضى مرضا [وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ أي بين اليهود فإنّ بعضهم جبريّة و بعضهم قدريّة و بعضهم مرجئة و بعضهم مشبّهة أمّا الجبريّة فهم الّذين ينسبون فعل العبد إلى اللّه و يقولون لا فعل للعبد أصلا و لا اختيار و حركته حركة الجمادات. و أمّا القدريّة فهم الّذين يزعمون أنّ كلّ عبد خالق لفعله و المرجئة هم الّذين لا يقطعون على أهل الكبائر بشي ء من العفو أو العقوبة بل يرجعون (1) في ذلك و يؤخّرونه إلى يوم القيامة و المشبّهة هم الّذين شبّهوا اللّه تعالى بالمخلوقات و مثّلوه بالمحدثات و قيل: المراد من قوله: و ألقينا بينهم أي بين اليهود و النصارى من العداوة لأنّه جرى ذكرهم في قوله: لا تتّخذوا اليهود و النصارى و هو قول الحسن و مجاهد. و كذلك بين فرق النصارى كالملكائيّة و النسطوريّة و اليعقوبيّة و معنى ألقينا أي خلّينا بينهم و بين اختياراتهم الفاسدة حيث لم يقبلوا الصلاح فوقعت [الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ] بينهم باستحقاقهم ذلك [إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ].

ثمّ قال سبحانه: [كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ و هذا شرح آخر من انواع محن اليهود و هو أنّهم كلّما همّوا بأمر من الأمور، رجعوا خائبين، مقهورين و كلّما قصدوا لحرب محمّد صلى اللّه عليه و آله، عن الحسن و مجاهد و في هذا دلالة و معجزة لأنّ اللّه أخبرهم فوافق خبره المخبر، و قد كانت اليهود أشدّ أهل الحجاز بأسا و أمنعهم دارا حتّى أنّ قريشا كانت تعضد بهم و الأوس و الخزرج لا يستبق إلى مخالفتهم و تتكثّر بنصرتهم فأبادهم اللّه و اجتثّ أصلهم و استأصل شافتهم فأجلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله بني النضير و بني قينقاع و قتل بني قريظة و شرد أهل خيبر و غلب على فدك و دان له أهل وادي القرى [وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً] أي ليس يحصل في أمرهم منفعة و قوّة إلّا أنّهم يسعون في الأرض بالفساد و ذلك بأن يتّخذوا عضوا ضعيفا و يستخرجوا نوعا من المكر و الكيد على سبيل الخفية قيل: أنّهم لمّا خالفوا حكم التوراة سلّط عليهم بخت نصّر ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الروميّ ثم أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين [وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ و معلوم أنّ الساعي في الأرض بالفساد ممقوت عند اللّه.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 65 الى 66]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)

ص: 54


1- كذا في الأصل، و الظاهر: يرجؤون

لمّا بالغ في تهجين طريقتهم و ذمّهم بيّن أنّهم لو آمنوا و اتّقوا أي آمنوا بمحمّد و اتّقوا الكفر و المعاصي لوجدوا سعادات الآخرة و الدنيا، أمّا سعادات الآخرة محصورة في نوعين: رفع العقاب و الثاني إيصال الثواب؛ أمّا رفع العقاب فهو المراد بقوله:

«لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» و أمّا إيصال الثواب فهو المراد بقوله: «وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» أي ذوات النعمة قال الحقّي: و في الآية تنبيه على أنّ الإسلام يجبّ ما قبله و إن جلّ و أنّ الكتابيّ لا يدخل الجنّة ما لم يسلم.

قوله: [وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ] لمّا ذكر سبحانه أنّهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الآخرة بيّن في هذه الآية أنّهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا و وجدوا طيّباتها و خيراتها. و المراد من إقامة التوراة الّتي كلّفهم اللّه بها أن يعملوا بما فيها من أحكامها و ممّا يشتمل على الدلائل الدالّة على نبوّة محمّد و بعثته و قيل: المراد إقامة أحكامها و حدودها كما يقال: أقام الصلاة إذا قام بحقوقها و لا يقال لمن لم يوف بشرائطها أنّه أقامها أو المعنى:

أقاموها نصب أعينهم لئلّا يزلّوا في شي ء منها. و هذه المعاني متقاربة و يرجع إلى معنى واحد و أمّا قوله: [وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ قيل: المراد منه القرآن و كتب سائر الأنبياء مثل كتاب شعيا، و مثل كتاب حيقوق و كتاب دانيال و كلّ ما دلّ اللّه عليه من امور دينهم فإنّها مملوءة من البشارة بمقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله [لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ بإرسال السماء عليهم مدرارا [وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ بإعطاء الأرض خيرها و بركتها، أو المراد لأكلوا أثمار النخيل و الأشجار من فوقهم و الزرع من تحت أرجلهم. و قيل: المعنى:

لتركوا في ديارهم و لم يجلوا من بلادهم و لم يقتلوا و كانوا يتمتّعون بأموالهم و ثمارهم و زروعهم. و إنّما خصّ الأكل لأنّ ذلك معظم الانتفاع و قيل معنى آخر في قوله:

«لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» و هو التوسعة كما يقال: فلان في النعمة و الخير من قرنه إلي قدمه أي يأتيه الخير من كلّ جهة يلتمسه منها. قال الرازيّ: إنّ اليهود لمّا أصرّوا على تكذيب محمّد صلى اللّه عليه و آله أصابهم القحط و الشدّة إلى حيث قالوا: «يَدُ اللَّهِ

ص: 55

مَغْلُولَةٌ» فاللّه تعالى بيّن أنّهم لو تركوا الكفر لا نقلب الأمر و حصل الخصب و السعة قوله: [مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ] أي من هؤلاء قوم معتدلون في العمل من غير غلوّ و لا تقصير و انحراف؛ يعرفون موضع مقصوده ليس بمتحيّر حتّى يذهب تارة يمينا و تارة شمالا قال أبو عليّ الجبّائيّ: هم الّذين أسلموا منهم مثل عبد اللّه بن سلام و أصحابه و بايعوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و هو المرويّ في تفسير أهل البيت. و قيل: يريد بهم النجاشيّ و أصحابه.

و قيل: إنّهم قوم لم يناصبوا النبيّ مناصبة هؤلاء. قال الطبرسيّ: و يحتمل أن يكون أراد بهم من يقرّ منهم بأنّ المسيح عبد اللّه و لا يدّعي فيه الإلهيّة و يكون عدلا في دينه و لو أنّه كان كافرا لكن لا يكون فيه غلظة كاملة و عناد [وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ و المراد الأخلاف المذمومون المبغوضون منهم. و في الآية معنى التعجّب كأنّه قيل: و كثير منهم ما أسوأ عملهم! و هم الّذين يقيمون على الكفر و الجحود بمحمّد صلى اللّه عليه و آله.

[سورة المائدة (5): آية 67]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)

قوله تعالى:

قرأ نافع رسالاته على الجمع و ابن عامر و أبو بكر بن عاصم أيضا على الجمع و الباقون على الإفراد. حجّة من قال بالجمع أنّه أنّ الرسل يبعثون بضروب من الرسالات و أحكام مختلفة في الشريعة و كلّ آية أنزلها اللّه على رسوله فهي رسالة فحسن لفظ الجمع. و أمّا من أفرد فقال: القرآن كلّه رسالة واحدة، و أيضا فإنّ لفظ الواحد قد يدلّ على الكثرة و إن لم يجمع كقوله: «وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» فوقع الاسم الواحد على الجمع و كذا هاهنا لفظ الرسالة و إن كان واحدا إلّا أنّ المراد هو الجمع.

و ذكر المفسّرون في سبب النزول وجوها، قال الحسن: إنّ اللّه بعث النبيّ صلى اللّه عليه و آله برسالته ضاق بها ذرعا و كان يهاب قريشا فأزال اللّه بهذه الآية تلك الهيبة عن قلبه. و ذكر الرازيّ في تفسيره عشرة وجوها إلى أن قال: العاشر: نزلت الآية في عليّ بن أبي طالب قال: و لمّا نزلت هذه الآية أخذ صلى اللّه عليه و آله بيد عليّ و قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهم و ال من والاه و عاد من عاداه فلقيه عمر فقال: هنيئا لك يا ابن أبي

ص: 56

طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، قال الرازيّ: و هو قول ابن عبّاس و البراء بن عازب و محمّد بن عليّ، قال الرازيّ: و اعلم أنّ هذه الروايات و إن كثرت إلّا أنّ الأولى حمله على أنّه تعالى أمنه من مكر اليهود و النصارى و أمره بإظهار التبليغ من غير مبالات منه بهم و ذلك لأنّ ما قبل هذه الآية بكثير و ما بعدها بكثير لمّا كان كلاما مع اليهود و النصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه يكون أجنبيّة عمّا قبلها و ما بعدها، انتهى كلامه.

أقول: ما أبعد هذا الاستحسان الّذي استحسنه هذا الفاضل عن القبول! حيث يقول:

«لمّا كان ما قبل هذه الآية و ما بعدها كلاما مع اليهود و النصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة» و الحال أنّ هذه نزلت في حجّة الوداع و قد كان أمره صلى اللّه عليه و آله قد تمّ مع اليهود و النصارى لا يهابهم أصلا بل كانوا جميعا يهابوه و كان يأخذ منهم الجزية، فلو كان خائفا من اليهود و النصارى و لم يك مأمونا منهم فكيف حملهم على الجزية و الذلّ و الاستصغار؟ فهذا الكلام من مثل هذا الفاضل بمعزل عن القبول، نعم كان صلى اللّه عليه و آله خائفا من التهمة من قومه حيث امر صلى اللّه عليه و آله بنصب عليّ بالخلافة و هو ابن عمّه أن يتّهموه في هذا الأمر بسبب القرابة و يعادوه و لم يقبلوا منه فوعده اللّه بالعصمة من كيد قومه.

و قال الطبرسيّ في المجمع: روى العيّاشيّ في تفسيره بإسناده عن ابن أبي عمير عن ابن اذينة عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه قال: أمر اللّه محمّدا أن ينصب عليّا للناس فيختبرهم بولايته فتخوّف رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أن يقولوا جافى ابن عمّه و أن يطعنوا في ذلك عليه فأوحى اللّه إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير. و هذا الخبر بعينه قد حدّثنا السعيد أبو الحامد أحمد بن محمّد عن الحاكم أبي القاسم الحسكانيّ بإسناده عن ابن أبي عمير في كتاب شواهد التنزيل في قواعد التفضيل، و فيه أيضا بالإسناد المرفوع إلى الحسّان بن عليّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: نزلت هذه الآية في عليّ فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بيده فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه.

ص: 57

و قد أورد هذا الخبر بعينه أبو إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم النخعيّ الثعلبيّ في تفسيره بإسناده مرفوعا إلى ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عليّ؛ امر النبيّ أن يبلّغ فيه فأخذ رسول اللّه بيد عليّ فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه. و قد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه أن اللّه أوحى إلى نبيّه أن يستخلف عليّا فكان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل اللّه هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره اللّه بأدائه.

و المعنى: إن تركت تبليغ ما انزل إليك و كتمته كنت كأنّك لم تبلّغ شيئا من رسالات ربّك [فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي لم تكن ممتثلا للأمر [وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ و يمنعك من أن ينالوك بسوء [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ و معنى الهداية هنا أنّه سبحانه لا يهديهم بالمعونة و الألطاف إلى الكفر بل إنّما يهديهم إلى الإيمان أن يقبلوا لأنّ من هداه إلي غرضه فقد أعانه على بلوغه و هو سبحانه يتعالى عن ذلك، عن عليّ بن عيسى قال: و لا يجوز أن يكون المعنى: إنّ اللّه لا يهديهم إلى الإيمان بل أنّه هداهم إلى الإيمان بأنّ دلّهم عليه و رغّبهم فيه و حذّرهم من خلافه. و قيل: إنّ المعنى: لا يهديهم إلى الجنّة و الثواب، عن الجبّائيّ.

[سورة المائدة (5): آية 68]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)

قوله تعالى:

[قُلْ يا محمّد مخاطبا لليهود و النصارى: [لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ] أي دين يعتدّ به و يليق أن يسمّى شيئا لوضوح فساده، و ظهور بطلانه [حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ و من إقامتها الإذعان بحكمها و من حكمها الإيمان بمحمّد فإنّ الكتب الإلهيّة بأسرها آمرة بالإيمان بما صدّقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة. و المراد إقامة أصولها و ما لم ينسخ من فروعها [وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي الإيمان بالقرآن المجيد و نسب الإنزال إليهم لأنّهم كانوا يدّعون عدم نزوله إلى بني إسرائيل «وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ» و هم علماؤهم و رؤساؤهم [ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن [طُغْياناً وَ كُفْراً] طغيانهم و كفرهم و هذا

ص: 58

مذكور فيما قبل و التكرير للتأكيد، ثمّ قال سبحانه: [فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي لا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم فإنّ ضرر ذلك راجع إليهم أو لا تتأسّف بسبب نزول اللّعن و العذاب عليهم فإنّهم من الكافرين المستحقّين لذلك. قال ابن عبّاس: جاء جماعة من اليهود و قالوا: يا محمّد أ لست تقرأ أنّ التورية حق من اللّه؟ قال: بلى قالوا: فإنّا مؤمنون بها و لا نؤمن بغيرها فنزلت هذه الآية.

[سورة المائدة (5): آية 69]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

قوله تعالى:

و المراد من [الَّذِينَ آمَنُوا] في هذه الآية المنافقون قال الزجّاج: الّذين آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم [وَ الَّذِينَ هادُوا] أي دخلوا في اليهوديّة [النَّصارى جمع نصران معطوف على الّذين هادوا «وَ الصَّابِئُونَ» أي الّذين صبت و مالت قلوبهم إلى الجهل و الخروج من الدين قيل: هم صنف من النصارى يقال لهم الصائحون يحلقون أوساط رؤوسهم و قيل: هم الّذين يعبدون الكواكب.

و هاهنا مسألة و هي أنّ ظاهر الإعراب يقتضي أن يقال: و الصابئين و هكذا قرأ أبيّ بن كعب و ابن مسعود و ابن كثير، و للنحويّين في علّة القراءة المشهورة وجوه نذكر وجها منها و لا حاجة إلى الإطالة و هو الوجه الّذي ذهب إليه الخليل و سيبويه:

ارتفع الصابئون بالابتداء و هو محذوف الخبر و هو في التقدير: و الصابئون كذلك، و لم يعطفوا على ما قبله لفائدة في الكلام كانّه قيل: إنّ الّذين آمنوا اتّفاقا و الّذين هادوا و النصارى من آمن باللّه و اليوم الآخر و عمل صالحا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون و الصابئون كذلك.

و الفائدة في عدم العطف أنّ الصابئين أشدّ الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالا فكأنّه قيل: كلّ هذه إن آمنوا بالعمل الصالح حقيقة قبل اللّه توبتهم و أزال ذنبهم حتّى الصابئين فإنّهم إن آمنوا كذلك لا خوف عليهم؛ و الخوف يتعلّق بالمستقبل و الحزن يتعلّق بالماضي، فلا خوف عليهم بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة و لا هم يحزنون بسبب ما فاتهم من طيّبات الدنيا لأنّهم وجدوا أعظم منها و أطيب.

ص: 59

مسألة قالت المعتزلة: إنّه تعالى شرط عدم الخوف و الحزن بالإيمان و العمل الصالح، و المشروط بشي ء عدم عند عدم الشرط، فلزم أنّ من لم يأت مع الإيمان و العمل الصالح؛ فإنّه يحصل له الخوف و الحزن و ذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة. و الجواب أنّ صاحب الكبيرة لا يقطع بأنّ اللّه يعفو عنه فكان الخوف و الحزن حاصلا قبل إظهار العفو. و الإيمان يدخل تحته أقسام و أشرفها الإيمان باللّه و معرفة الخالق؛ لأنّ أعظم المعارف شرفا معرفته و كمال معرفته إنّما يحصل بكونه قادرا على الحشر فلا جرم شرح سبحانه في الآية بقوله: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ».

[سورة المائدة (5): آية 70]

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)

قوله تعالى:

اللّام في «لقد» لام القسم أي باللّه قد أخذنا العهد من بنيّ إسرائيل يريد الأيمان المؤكّدة الّتي أخذها أنبياؤهم عليهم بالتوحيد و العمل بما أمر اللّه به و الإقرار ببعثة محمّد و نبوّته و البشارة بمقدمه و خلقنا الدلائل بالعقل الهادي إلى الاستدلال و المقصود من الآية بيان عتوّهم و تمرّدهم عن الوفاء بعهد اللّه و البيان متعلّق بما افتتح اللّه به السورة و هو قوله «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و وجه الاحتجاج عليهم بذلك و إن كان أخذ الميثاق على آبائهم أنّهم عرفوا ذلك في كتبهم و سمعوا بذلك و أقرّوا بصحّته في كتابهم فالحجّة لازمة لهم و عتب المخالفة يلحقهم كما يلحق آباءهم.

[وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ و لا يوافق مرادهم و ميلهم و الكلام جواب لسؤال محذوف كأنّه قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟ فقيل:

«كُلَّما جاءَهُمْ» من أولئك الرسل بما يخالف هواهم من مشاقّ التكليف عصوه و عادوه و كأنّه قيل: كيف عصوهم؟ فقيل: [فَرِيقاً كَذَّبُوا] أي طائفة منهم كذّبوا الرسل من غير أن يتعرّضوا لهم بشي ء آخر من المضارّ [وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ أي و فريقا منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوا رسلهم أيضا مثل زكريّا و يحيى.

فإن قيل: لم عطف المستقبل على الماضي؟ ليدلّ على أنّ ذلك من شأنهم و عادتهم.

ص: 60

فإن قيل: أنّ الرسول الواحد لا يمكن أن يكونوا فريقين لكن قوله: «كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ» يدلّ على كثرة الرسل فصحّ جعلهم فريقين.

[سورة المائدة (5): آية 71]

وَ حَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)

أي و ظنّ اليهود أن لا يكون فيه عقوبة و أنّ اللّه لا يعذّب و الآية دالّة على أن عماهم و صممهم عن الهداية حصل مرّتين قيل: المراد بهاتين المرّتين أنّهم عموا و صمّوا في زمان زكريّا و يحيى و عيسى ثمّ تاب اللّه على بعضهم حيث أمّن بعضهم ثمّ عموا و صمّوا كثير منهم في زمان محمّد صلى اللّه عليه و آله بأن أنكروا رسالته. و قيل: عموا و صمّوا حين عبدوا العجل ثمّ تابوا عنه فتاب اللّه عليهم ثم عموا و صمّوا كثير منهم بالتعنّت و هو طلبهم رؤية اللّه و نزول الملائكة.

و قال المولى أبو السعود في تفسيره: المراد من المرّة الاولى حين خالف بنو إسرائيل أحكام التوراة و ركبوا المحارم، و قتلوا شعيا، و حسبوا أرميا ثمّ تاب اللّه عليهم حين تابوا و رجعوا عما كانوا عليه من الفساد و بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بخت نصّر سارى في غاية الذلّ و الوهن فوجّه اللّه ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس ليعمّره و ينجي بقايا بني إسرائيل من أسر بخت نصّر و ردّهم إلى وطنهم و تراجع من تفرّق منهم الأكناف، فعمّروا بيت المقدس في ثلاثين سنة فكثروا و حسنت أحوالهم كأحسن ما كانوا عليه [ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا] و هو إشارة إلى المرّة الاخرى من مرّتيهم و هو اجتراؤهم على قتل زكريّا و يحيى و قصدهم قتل عيسى [كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم وفق أعمالهم.

قيل: إنّ بني إسرائيل بعد أن عموا و صمّوا في المرّة الاولى و سلّط اللّه عليهم بخت نصّر فاستولى على بيت المقدس فقتل منهم أربعين ألفا ممّن يقرؤ التوراة أو أكثر و ذهب بالبقيّة إلى أرضه بالذلّة إلى أن أحدثوا توبة صحيحة، ثمّ عادوا مرّة ثانية إلى الفساد و قتلوا من الأنبياء بعد رجوعهم إلى أرضهم بيت المقدس، بعث اللّه عليهم الفرس فغزاهم ملك من ملوك الطوائف و فعل بهم ما فعل قيل: دخل صاحب الجيش مذبح قرا بينهم (1) فوجد فيه دما يغلي، فسألهم عن ذلك فقالوا: دم قربان لم يقبل منّا

ص: 61


1- جمع قربان: ما يتقرب به.

فقال: صاحب الجيش ما صدقتموني فقتل منهم الوفا ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا، فقالوا: إنّه دم يحيى فقال: بمثل هذا ينتقم اللّه منكم ثمّ قال: يا يحيى قد علم ربّي و ربّك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن اللّه قبل أن لا يبقى أحد منهم فهدأ. (1) و منشأ هذه الشقاوات كفرانهم نعم اللّه تعالى؛ حكي أنّ دانيال عليه السلام وجد خاتمه في عهد عمر بن الخطّاب و كان على فصّ خاتمه أسدان و بينهما رجل و الأسدان يلحسانه و ذلك أنّ بخت نصّر لمّا يتّبع الصبيان ليقتلهم فولد دانيال فألقته امّه في غيضة (2) رجاء أن ينجو فقبض اللّه أسدا يحفظه، و لبوة ترضعه و هما يلحسانه فلمّا كبر دانيال صوّر ذلك في خاتمه كي لا ينسي نعمة اللّه عليه. و العاقل لا بدّ و أن لا ينسي منعمه و يشكره دائما، نعم من انقطع إلى اللّه لقاه اللّه.

[سورة المائدة (5): الآيات 72 الى 74]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

قوله تعالى:

لمّا استقصى الكلام مع اليهود شرع هنا في الكلام مع النصارى فحكى سبحانه عن فريق منهم أنّهم قالوا: [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ و هذا هو قول اليعقوبيّة لأنّهم يقولون إنّ مريم ولدت إلها، و قال الرازيّ: و لعلّ هذا المذهب أنّهم يقولون: إنّ اللّه تعالى حلّ في ذات عيسى و اتّحد بذات عيسى. ثمّ حكى تعالى عن المسيح أنّه قال:

[يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ و هذا تنبيه على ما هو الحجّة القاطعة على فساد قولهم حيث لم يفرّق بين نفسه و بين غيره في أنّ دلائل الحدوث ظاهرة عليه و أقرّ على نفسه بالمربوبيّة. و نزلت الآية في نصارى نجران: السيّد و العاقب و من معهما.

ص: 62


1- هدا: سكن.
2- الفيضة: مجتمع الشجر.

ثمّ قال على لسان عيسى: [إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ] المعنى ظاهر أي إنّ الشان أنّ من يشرك شيئا في عبوديّته و ربوبيّته و ما يخصّ به تعالى من الصفات و الأفعال لن يدخل الجنّة أبدا فإنّها دار الموحّدين و مأوى المشرك النار، و ما للظالمين بالإشراك من أحد ينصرهم بإنقاذهم منها: إمّا بطريق المبالغة أو بطريق الشفاعة و هو من تمام كلام عيسى.

ثمّ حكى ما قاله النسطوريّة و الملكائيّة من النصارى فقال: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ] أي أحد ثلاثة آلهة و الإلهيّة مشتركة بينهم و هم اللّه و عيسى و مريم. و «ثلاثة» كسرت بالإضافة و لا يجوز نصبها لأنّ معناه: واحد ثلاثة لأنّهم قالوا إنّ اللّه و عيسى و مريم آلهة ثلاثة و الّذي يؤكّد ذلك قوله تعالى للمسيح: «أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (1) فمعنى ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة و الدليل على أنّ المراد ذلك قوله تعالى في الردّ عليهم: «وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ» فتقدير الآية: ثالث ثلاثة آلهة. و حذف ذكر الآلهة؛ لأنّ ذلك معلوم من سوق الكلام و من مذهبهم.

قال الواحديّ: و لا يكفر من يقول: إنّ اللّه ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة؛ فإنّه ما من شيئين إلّا و اللّه ثالثهما بالعلم لقوله: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ» (2) و المتكلّمون حكوا عن النصارى أنّهم يقولون:

جوهر واحد ثلاثة أقانيم أب و ابن و روح القدس و هذه الثلاثة إله واحد كما أنّ الشمس اسم يتناول القرص و الشعاع و الحرارة، و عنوا بالأب: الذات و بالابن: الكلمة و بالروح:

الحياة، و أثبتوا الذات و الكلمة و الحياة و قالوا: إنّ الكلمة الّتي هي كلام اللّه اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر و الماء باللّبن و زعموا أنّ الأب إله و الابن إله و الروح إله و الكلّ إله واحد، و هذا الكلام معلوم البطلان ببديهة العقل؛ فإنّ الثلاثة لا يكون

ص: 63


1- المائدة: 116.
2- المجادلة: 7.

واحدا و الواحد لا يكون ثلاثة، و لم يسمع كلام أظهر بطلانا من هذه المقالة.

[وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ] قيل: إنّ من زائدة و لكنّ الصحيح أنّها تفيد الاستغراق أي و الحال ليس في الوجود ذات مستحقّ للألوهيّة و العبادة من هذه الحقيقة إلّا فرد واحد متعالي عن قبول الشركة [وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من قبيل هذه المقالة الفاسدة من التثليث و التشريك و أقاموا على هذا القول و الدين [لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] اللّام لام القسم أي و اللّه ليمسّنّهم و وضع الموصول موضع الضمير لتكرير الشهادة عليهم بالكفر و «من» في [مِنْهُمْ بيانيّة حال من «الَّذِينَ» و ذلك لأنّ بعضهم تابوا و رجعوا عن هذا القول و الدين [أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أمر بصورة الاستفهام و الاستفهام لإنكار الواقع و استبعاده لا لإنكار الوقوع، و تعجيب من بقائهم و إصرارهم على هذه الكلمة الشنيعة، أي أ يصرّون فلا يتوبون و يطلبون منه العفو عن هذا القبيح و ينزّهونه عن ما نسبوا إليه من الاتّحاد و الحلول و الحال أنّه تعالى يبالغ في المغفرة يغفر لهم عند استغفارهم؟

[سورة المائدة (5): الآيات 75 الى 77]

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)

قوله تعالى:

لمّا ذكر سبحانه في الآية السابقة مقالات النصارى عقّبه بالردّ عليهم و الحجاج لهم فقال: ليس المسيح إلّا رسول من جنس الّذين مضوا قبله جاء بآيات اللّه كما أتوا بأمثالها فإن كان اللّه أبرأ الأكمه و الأبرص و أحيا الموتى على يده فقد أحيا الخشب و جعلها حيّة تسعى و فلق البحر على يد موسى، و إن كان خلقه من غير أب و ذكر فقد خلق آدم من غير أب و أمّ فمن ادّعى له بالإلهيّة فهو كمن ادّعى لهم الإلهيّة لتساويهم في المنزلة.

[وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ] لأنّها صدّقت بآيات ربّها و بكلّ ما أخبر عنه ولدها بدلالة قوله تعالى: «وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها» (1) و قال سبحانه:

ص: 64


1- التحريم: 12.

«فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا» (1) فلمّا كلّمها جبرئيل و صدّقته وقع عليها اسم الصدّيقة و الحاصل ما امّه إلّا كسائر النساء اللّاتي يلازمن الصدق في الأقوال و الأفعال مع الخالق و الخلق [كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ أي هما يعيشان بالغذاء كما يعيش سائر الناس، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلّا أكل الطعام، عن ابن عبّاس. و قيل: المراد كناية عن قضاء الحاجة لأنّ من أكل الطعام لا بدّ له من الحدث، فذكر الأكل و أراد لازمه [انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الباهرة المنادية ببطلان ما تقوّلوا [ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماعها؟ و الإفك: الكذب و أصله الصرف و القلب، و الكذب قلب الصدق و «ثمّ» لإظهار ترتيب ما بين العجبين في التفاوت لإتياننا الآيات أمر بديع في بابه و إعراضهم عنها أعجب [قُلْ يا محمّد إلزاما لهم و من سلك مسلكهم من اتّخاذ غير اللّه إلها: [أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي متجاوزين إيّاه إلى [ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً] يعني عيسى و هو و إن ملك ذلك لكن لا يملكه من ذاته بل بتمليك اللّه، و لا يملك عيسى مثل ما يضرّ اللّه به من البلايا و المصائب و ما ينفع به من الصحّة و السعة.

و إنّما قال: «ما» مع أنّ أصله أن يطلق على غير العاقل، نظرا إلى ما هو عليه في ذاته فإنّه في أوّل أحواله لا يوصف بعقل و لا بشي ء من الفضائل فكيف يكون مثل هذا إلها؟ فإنّ مذهب النصارى أنّ اليهود صلبوه و مزّقوا أضلاعه بزعمهم و لمّا عطش و طلب الماء صبّوا الخلّ في منخريه و من كان في الضعف هكذا كيف يكون إلها؟ و إله العالم يجب أن يكون غنيّا عن كلّ ما سواه و يكون كلّ ما سواه محتاجا إليه؛ فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة اللّه لأنّ الإله لا يعبد شيئا، و لمّا عرف بالتواتر كونه مواظبا على العبادات علمنا أنّه إنّما كان بفعلها محتاجا في تحصيل المنافع و رفع المضارّ، و اليهود كانوا يعادونه و يقصدونه بالسوء فما قدر علي الإضرار بهم و الأنصار و أصحابه يحبّونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، فالعاجز عن الإضرار و النفع كيف يعقل أن يكون إلها؟ فكان عيسى عبدا كسائر العبيد و هذا هو عين الدليل الّذي حكاه اللّه عن إبراهيم حيث قال: لأبيه:

ص: 65


1- مريم: 17.

«لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً». (1) [وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ و المراد منه التهديد أي سميع بكفرهم عليم بضمائرهم [قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ أي غلوّا باطلا فترفّعوا عيسى إلى أن تدعوا له الألوهيّة! كما ادّعته النصارى، أو تضعوه فتزعموا أنّه لغير رشده و تنسبوه إلى الكذب و الزنى! كما زعمته اليهود و قوله: «غَيْرَ الْحَقِّ» صفة المصدر أي غلوا غير الحقّ [وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ الأهواء هاهنا المذاهب الّتي تدعو إليها الشهوة دون الحقّ و لا يستعمل الهوى إلّا في الشرّ؛ لا يقال: فلان يهوي الخير إنّما يقال: يريد الخير، و سمّي الهوى هوى لأنّه يهوي بصاحبه إلى النار؛ قال ابن عبّاس كلّ هوى ضلالة و عنى سبحانه بقوله: «قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ» رؤساء الضلالة من فريقي اليهود و النصارى. و الآية خطاب للّذين كانوا في عصر النبيّ صلى اللّه عليه و آله فيهووا أن يتّبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم و أن يقلّدوهم فيما هووا، و الاتّباع هو سلوك الثاني طريقة الأوّل على وجه الاقتداء به [وَ أَضَلُّوا كَثِيراً] يعني به هؤلاء الّذين ضلّوا عن الحقّ و غلوا في دينهم، أضلّوا كثيرا من أتباعهم [وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ و هو سبيل الإسلام بعد مبعثه صلى اللّه عليه و آله لمّا كذّبوه و حسدوه و بقوا على ضلالتهم جاحدين بنبوّته، و بقوا على زعمهم الفاسد في اعتقاد الألوهيّة في حقّ عيسى حيث نظروا بعقلهم الفاسد في أمره فوجدوه مولودا من أمّ بلا أب فحكم عقلهم أن لا يكون مولود بلا أب فينبغي أن يكون هو ابن اللّه، و استدلّوا على ذلك أيضا بأنّه يخلق من الطين كهيئة الطير، و يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيي الموتى، و يخبر عمّا يأكلون في بيوتهم و ما يدّخرون و هذه الأمور من صفات اللّه و لو لم يكن المسيح ابن اللّه لما أمكنه و إنّما أمكنه لأنّ الولد سر أبيه و بسبب هذه الاستحسانات و التخيّلات ضلّوا و أضلّوا و ما عرفوا أنّ الإنسان الكامل الّذي حمل أمانة الحقّ من بين سائر الخلق و عمل بمقتضى كماله و خصّه اللّه بالخلافة، و قوّمه بأحسن التقويم في قبول هذا الكمال صار قابلا لأن يصدر منه امور تدلّ على خلافته و خارقه عن عادات البشر بإذن اللّه تعالى و أمره فصورة الفعل تظهر منه لكنّ الفاعل هو اللّه و منشأ الصفة حضرة الإلهيّة

ص: 66


1- مريم: 42.

لا عيسى و لا موسى و هذا كما أنّ لكرة البلّور المخروط استعدادا في قبول فيض الشمس إذا كانت في محاذاتها فيقبل الفيض و يحرق المحلوج المحاذي لها بذلك الفيض فيصدر الفعل المحرق من الكرة بحسب الظاهر و منشأ الصفة المحرقيّة حضرة الشمس حقيقة فصار للكرة بحسن الاستعداد المجعول فيه قابليّة لفيض الشمس و ما حلّت الشمس في كرة البلّور و الشمس شمس و البلّور بلّور و كذلك حال الأنبياء في المعجزات.

[سورة المائدة (5): الآيات 78 الى 80]

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)

قوله تعالى:

أخبر سبحانه عمّا جرى على أسلافهم فقال: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» قال أكثر المفسّرين: المراد من الملعونين: أصحاب السبت و أصحاب المائدة و هو أنّ قوم داود و هم أهل أيلة؛ لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان، قال داود: اللّهم العنهم و اجعلهم آية.

فمسخوا قردة. و أمّا أصحاب المائدة فإنّهم لما أكلوا من المائدة و لم يؤمنوا قال عيسى:

اللّهمّ العنهم كما لعنت أصحاب السبت. فأصبحوا خنازير و كانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة و لا صبيّ. و قال ابن عبّاس: المراد في الزبور و في الإنجيل، فيكون المراد أنّ اللّه لعن في الزبور من يكفر من بني إسرائيل و في الإنجيل كذلك فلذلك قيل: على لسان داود و عيسى. و ثالث الأقوال أن يكون المعنى أنّ داود و عيسى علما أنّ محمّدا نبيّ مبعوث و لعنا من يكفر به، عن الزجّاج. قال الطبرسيّ: و القول الأوّل أصحّ.

[ذلِكَ إشارة إلى اللّعن المتقدّم ذكره [بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ بسبب عصيانهم و اعتدائهم حدود اللّه [كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ استيناف؛ أي لا ينهى بعضهم بعضا عن قبيح يعملونه و اصطلحوا على الكفّ عن نهي المنكر [لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ اللّام لام القسم تعجيب من سوء فعلهم مؤكّدا بالقسم. قال ابن عبّاس: كان بنو إسرائيل ثلاث فرق، فرقة اعتدوا في السبت و فرقة نهوهم و لكن لم يدعوا مجالستهم و لا مؤاكلتهم و فرقة ارتحلوا عنهم لمّا رأوهم يعتدون. و بقيت الفرقتان المعتدية و الناهية المخالطة فلعنوا جميعا،

ص: 67

و لذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لتأمرون بالمعروف و لتنهون عن المنكر و لتأخذنّ على السفيه و لتأطرنّه (؟) على الحقّ إطراء او ليضربنّ اللّه قلوب بعضكم على بعض و يلعنكم لعنهم. و إنّما سمّي القبيح منكرا لأنّه ينكره العقل من حيث إنّ العقل يقبل الحسن و يعترف به و لا يأباه و ينكر القبيح و يأباه. و قيل: المراد بالمنكر هنا صيدهم السماء يوم السبت و قيل: أخذهم الرشى في الأحكام أو أكلهم الرباء.

[تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من اليهود [يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا] يريد كفّار مكّة عنه بذلك كعب بن الأشرف و أصحابه حين استجاشوا المشركين على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قيل أبو جعفر الباقر عليه السلام: يتولّون الملوك الجبّارين و يزيّنون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم [لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي بئس ما قدّمت أنفسهم لهم من العمل لمعاده في الآخرة [أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ هو المخصوص بالذمّ بتقديم المضاف أي موجب سخط اللّه و الخلود في العذاب لأنّ نفس السخط المضاف إلى لا يقال له أنّه المخصوص بالذّم إنّما المخصوص بالذمّ هو الأسباب الموجبة له قال ابو عبّاس و مجاهد و الحسن: إنّ هذه الآية في المنافقين من اليهود. و الضمير في قوله «وتره كَثِيراً مِنْهُمْ عائد إليهم، و يؤكّده ما بعد هذه الآية.

[سورة المائدة (5): آية 81]

وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)

قوله تعالى:

أي لو كانوا؛ أي الّذين يتولّون المشركين يصدّقون باللّه و النبيّ محمّد صلى اللّه عليه و آله و هم انزل إليه من القرآن و يعتقدون ذلك على الحقيقة كما يظهرونه [مَا اتَّخَذُوهُمْ يعنى الكافرين أولياء، عن ابن عبّاس و الحسن و المجاهد. و قيل: المراد بالنبيّ موسى و بمعنى انزل إليه التوراة فيكون المراد بهم اليهود الّذين جاهروا بالعداوة لرسول اللّه و التولّي للمشركين و يكون معنى الموالاة: النصر و المعاونة على معاداة محمّد أو الموالاة المصادفة و التحبّب على الحقيقة و تحريم ذلك مصرّح في شريعة ذلك النبيّ و في الكتاب المنزل إليه [وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الدين و الإيمان باللّه و نبيّهم و كتابهم فاتّخاذ الكفار و أعداء اللّه أولياء من أعظم المعاصي و المنكرات و موجب لسخط اللّه كما أنّ المداهنة مع أهل الفسوق كذلك و من موجبات لعنة اللّه، كما لعن اليهود على لسان داود؛ في الحديث: يحشر

ص: 68

يوم القيامة أناس من امّتي من قبورهم إلى المحشر على صورة القردة و الخنازير بما داهنوا أهل المعاصي و كفّوا عن نهيهم و هم يستطيعون.

[سورة المائدة (5): الآيات 82 الى 84]

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)

قوله تعالى:

شرح سبحانه معاداة اليهود للمسلمين فقال: «لَتَجِدَنَّ» الآية، فوصف اليهود و المشركين بأنّهم أشدّ الناس عداوة للمؤمنين، لأنّ اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين، مع أنّ المؤمنين يؤمنون بنبوّة موسى و التوراة الّتي أتى بها، فكان ينبغي أن يكونوا بمن وافقهم في الإيمان بنبيّهم و كتابهم أقرب، و إنّما فعلوا ذلك حسدا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم. و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: ما خلا يهوديّان بمسلم إلّا همّا بقتله.

ثمّ ذكر سبحانه أنّ النصارى ألين عريكة من اليهود، و أقرب إلى المسلمين.

قال ابن عبّاس و سعيد بن جبير و عطاء و السدّيّ: المراد من الآية النجاشيّ و قومه الّذين قدموا من الحبشة على الرسول و آمنوا به فقط، و لم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين؛ و قال آخرون: السبب أنّ مذهب اليهود يوجب عليهم إيصال الشرّ إلى من يخالفهم في دينهم بأيّ طريق كان؛ فإن قدروا على القتل فذاك، و إلّا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر و الكيد، و أمّا النصارى فليس مذهبهم ذاك، بل الإيذاء عندهم حرام، فهذا وجه التفاوت، و اللّام في قوله: «لتجدنّ» لام القسم، و التقدير:

قسما باللّه إنّك تجد اليهود و المشركين أشدّ الناس عداوة معك و المؤمنين، فلا تبال لكيدهم و مكرهم.

[وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى المراد من النصارى: النجاشيّ ملك الحبشة و الّذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب كما قاله ابن عبّاس و جماعة؛ و قال البغويّ: لم يرد به جميع النصارى، لأنّهم في عداوتهم للمسلمين

ص: 69

كاليهود في قتلهم المسلمين، و أسرهم، و تخريب بلادهم، و هدم مساجدهم- لا قوّة و لا كرامة لهم- بل الآية نزلت في طبقة مخصوصة ممّن أسلم منهم، و كان النجاشيّ نصرانيّا قبل ظهور الإسلام، ثمّ أسلم هو و أصحابه قبل الفتح، و مات قبله أيضا.

قال أهل التفسير: استمرّت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثب كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين، يؤذونهم و يعذّبونهم، فافتتن من افتتن: و عصم اللّه منهم من عصم، و منع اللّه رسوله بعمّه أبي طالب، فلمّا رأى رسول اللّه ما حلّ بأصحابه، و لم يقدر على منعهم، و لم يؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، و قال: إنّ بها ملكا صالحا لا يظلم و لا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتّى يجعل اللّه للمسلمين فرجا، فخرج إليها سرّا أحد عشر رجلا، و أربع نسوة، فخرجوا إلى البحر، و أخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار، و ذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه، و هذه هي الهجرة الاولى.

ثمّ خرج جعفر بن أبي طالب، و تتابع المسلمون إليها، فكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين و ثمانين رجلا سوى النساء و الصبيان، فلمّا علمت قريش بذلك وجّهوا عمرو بن العاص و صاحبه بالهدايا إلى النجاشيّ و بطارقته (1) ليردّوهم إليهم، فعصمهم اللّه، فلمّا انصرفا خائبين، و أقام المسلمون هناك بخير دار و حسن جوار، إلى أن هاجر رسول اللّه و علا أمره و ذلك في سنة ستّ من الهجرة. كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إلى النجاشيّ على يد عمرو بن اميّة الضمريّ ليزوّج النبيّ امّ حبيبة (2) بنت أبي سفيان، و كانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها، فأرسل النجاشيّ إلى امّ حبيبة جارية يقال لها نزهة تخبرها بخطبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم إيّاها، و أمرها أن توكّل من يزوّجها، فوكّلت خالد بن سعيد بن العاص، فأنكحها على صداق أربعمائة دينار، و كان الخاطب لرسول اللّه النجاشيّ، ثمّ أمر الملك نساءه أن يبعثن إلى امّ حبيبة بما عندهنّ من عود و عنبر، و كان صلى اللّه عليه و آله و سلّم يراه عليها و عندها فلا ينكر.

ص: 70


1- جمع البطريق: القائد من قواد الروم.
2- المشهور أن اسمها رملة، و قيل: هند و ان رملة اسم أم سلمة.

قالت امّ حبيبة: فخرجنا في سفينتين، و بعث معنا النجاشيّ الملّاحين، فلمّا خرجنا من البحر و وردنا المدينة و رسول اللّه بخيبر و خرج من خرج إليه و أقمت بالمدينة حتّى قدم النبيّ فدخلت عليه، فكان صلى اللّه عليه و آله و سلم يسألني عن النجاشيّ؛ فشرحت له القصّة، فأنزل اللّه: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً» (1) و لمّا جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة برسول اللّه، قيل: ذاك الفحل لا يقرع أنفه، (2) ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لا أدري أ بفتح خيبر أسرّ أم بقدوم جعفر؟.

و بعث النجاشيّ بعد قدوم جعفر إلى رسول اللّه ابنه أزهر في ستّين رجلا من الحبشة، و كتب إليه: يا رسول اللّه أشهد أنّك رسول اللّه صادقا مصدّقا و قد بايعتك و بايعت ابن عمّك و أسلمت للّه ربّ العالمين، و قد بعثت ابني أزهر، و إن شئت أن آتيك بنفسي فعلت، و السلام عليك يا رسول اللّه، فركبوا سفينة في أثر جعفر و أصحابه، فلمّا بلغوا أواسط البحر غرقوا، و كان جعفر يوم وصل المدينة وصل في سبعين رجلا، عليهم ثياب الصوف منهم اثنان و ستّون من الحبشة و ثمانية من أهل الشام، منهم بحيرا الراهب فقرأ عليهم رسول اللّه سورة: (يس) إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن فآمنوا و قالوا: ما أشبه هذا بما كان نزل على عيسى! فأنزل اللّه هذه الآية: «وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى فالمراد و قد النجاشيّ الّذين قدموا مع جعفر و هم السبعون، و كانوا أصحاب الصوامع. (3) [ذلِكَ أي كونهم أقرب مودّة للمؤمنين [بِأَنَّ مِنْهُمْ أي بسبب أنّ منهم [قِسِّيسِينَ و هم علماء النصارى و عبّادهم؛ و القسّيس: صيغة مبالغة من تقسّس الشي ء إذا تتبّعه و طلبه باللّيل، سمّوا به لمبالغتهم في تتبّع العلم؛ و القسّ في اللّغة: نشر الحديث و النميمة قاله الراغب، و قال قطرب: القسّيس بلغة الروم: العالم؛ و قال عروة بن الزبير: إنّ

ص: 71


1- الصف: 7.
2- قرع الشي ء: دقه و نقر عليه.
3- جمع الصومعة: جبل أو مكان يسكنه الراهب.

النصارى ضيّعت الإنجيل و أدخلوا فيه ما ليس فيه، و بقي من علمائهم واحد على الحقّ و الدين، و كان اسمه قسّيسا فمن كان على مذهبه و دينه فهو قسّيس. و رهبان:

جمع راهب، كراكب و ركبان، و الرهبانيّة مصدر و أصله من الرّهبة و المخافة، قال جرير:

رهبان مدين لو رأوك تنزّلواو العصم من شعف الجبال الشارد

و قيل: الرهبان يطلق على الواحد و الجمع:

لو عاينت رهبان دير في القلل لا نحدر الرهبان يمشي و نزل

و الترهّب التعبّد مع الرّهبة في صومعة، و التنكير لإفادة الكثرة، و لا بدّ من اعتبارها في القسّيسين، إذ هي الّتي تدلّ على مودّة جنس النصارى للمؤمنين، فإنّ اتّصاف أفراد كثيرة بالخصلة المعيّنة مظنّة الجنسيّة، و إلّا فمن اليهود أيضا قوم مهتدون، ألا ترى إلى عبد اللّه بن سلام (1) و أحزابه قال تعالى: «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ، وَ هُمْ يَسْجُدُونَ» الآيات؟ (2) لكنّهم لمّا لم يكونوا في الكثرة كالّذين في النّصارى لم يتعدّ حكمهم إلى جنس اليهود. قوله [وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عطف على قوله: «بِأَنَّ مِنْهُمْ» أي و بأنّهم لا يستكبرون عن قبول الحقّ إذا عرفوه، و يتواضعون و لا يتكبّرون كاليهود [وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ عطف على لا يستكبرون أي ذلك بسبب أنّهم لا يستكبرون، و بسبب أنّ أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا عند سماع القرآن، و الضمير في سمعوا راجع إلى الّذين آمنوا منهم، و المراد من «ما أُنْزِلَ» القرآن، و من «الرسول» محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم. قال ابن عبّاس: يريد النجاشيّ و أصحابه، و ذلك لأنّ جعفر الطيّار قرأ عليهم سورة مريم فأخذ النّجاشيّ تبنة من الأرض، و قال:

و اللّه، ما زاد على ما قال اللّه في الإنجيل مثل هذا، و ما زالوا يبكون حتّى فرغ جعفر

ص: 72


1- هو عبد اللّه بن سلام بن الحارث من أولاد يوسف النبي عليه السلام، حليف الخزرج، كان يهوديا عزيزا في قومه فأسلم، و استدعى رسول اللّه أن يسأل قومه عن مكانته عندهم فسألهم و اعترفوا بأنه عزيزهم و رئيسهم، فلما خرج عليهم من موقفه المستور عن أبصارهم و أظهر الإسلام قالوا: هو ذليلنا و ابن ذليلنا! مات سنة ثلاث و أربعين باتفاق أهل التاريخ على ما في الإصابة «ج 2: 313».
2- آل عمران: 113.

من القراءة، و قوله: [تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي تملأ بالدّمع، فاستعير له الفيض الّذي هو الانصباب من الامتلاء مبالغة، و «من» الاولى لابتداء الغاية، و التّقدير أنّ فيض الدّمع إنّما ابتداؤه من معرفة الحقّ و بسببه، و [مِنَ الثّانية لبيان الموصوف من قوله: [مِمَّا عَرَفُوا] [يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا] كأنّه قيل: ماذا يقولون عند سماع القرآن؟ فقيل:

يقولون: ربّنا آمنّا بهذا القرآن الّذي معنا، و شهدنا بأنّه حقّ [فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ و من جملة الّذين شهدوا بأنّه حقّ، و آمنوا به. يريد امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم لقوله: «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» (1) و المراد من الشاهدين بالتوحيد مع كلّ نبيّ، فاكتبنا معهم في أمّ الكتاب.

[وَ ما لَنا] أي أيّ شي ء حصل لنا، و لأيّ عذر [لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ ؟ و هذا جواب لمن قال لهم من قومهم تعنيفا لهم: لم آمنتم؟ عن الزّجّاج؛ و قيل: إنّهم قدّروا في أنفسهم، كأنّ سائلا سألهم عنه، فأجابوه بذلك [وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِ المراد: القرآن و الإسلام، و وصفه بالمجي ء مجاز، كما يقال: نزل، و إنّما نزل به الملك، و كذلك جاء به الملك، [وَ نَطْمَعُ أي و الحال نرجو و نؤمّل [أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا] في الجنّة لإيماننا بالحقّ، و حذف لدلالة الكلام عليه [مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ المؤمنين.

[سورة المائدة (5): الآيات 85 الى 86]

فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)

قوله تعالى:

أي جازاهم و أعطاهم بسبب ما قالوا عن اعتقادهم، لأنّ القول المجرّد عن الاعتقاد و التّوحيد غير نافع، و يدلّ على هذا المعنى قوله: [مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ فثبت أنّه ليس مجرّد القول، و قال ابن عبّاس: المراد بما قالوا: أي ما سألوا معنى قولهم:

[فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ و ذلك عن عقيدة و معرفة ثابتة [جَنَّاتٍ أي بساتين [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] أي من تحت أشجارها الأنهار و من مساكنها و غرفها الأنهار الأربعة:

الماء و العسل و الخمر و اللّبن [خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ و ذلك الجزاء للّذين

ص: 73


1- البقرة: 143.

أحسنوا النّظر و العمل، و اعتادوا الإحسان في الأمور [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] فماتوا على ذلك، و عطف التكذيب على الكفر مع أنّه ضرب من الكفر لما أنّ القصد بيان حال المكذّبين [أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أهل النار الشديدة الوقود، فقوله: [أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ليس خاليا عن إفادة الحصر و المصاحب للشي ء هو الملازم له، و يمكن تخصيص هذا الدّوام و الملازمة بالكفّار.

و لعلّ من أقوى الدّلائل على أنّ الخلود لا تحصل للمؤمن الفاسق، قوله تعالى:

[سورة المائدة (5): الآيات 87 الى 88]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

النزول: قال المفسّرون: جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يوما، فذكّر للناس القيامة، فرقّ الناس و بكوا، و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحيّ، (1) و هم: عليّ عليه السلام و عبد اللّه بن مسعود و أبو ذرّ الغفاريّ و سالم مولى أبي حذيفة و عبد اللّه بن عمر و مقداد بن الأسود الكنديّ و سلمان الفارسيّ و معقل بن مقرن و أبو بكر، (2) و اتّفقوا على أن يصوموا النّهار، و يقوموا اللّيل، و لا يناموا على الفرش، و لا يأكلوا اللّحم و لا الودك (3) و يلبسوا المسوح، (4) و يرفضوا الدّنيا، و يسيحوا في الأرض،

ص: 74


1- من معاريف الصحابة، هاجر الى الحبشة مع ابنه: السائب الهجرة الاولى، و له منزلة عظيمة عند النبي صلى اللّه عليه و آله فانه لما توفى ابراهيم ابنه قال: الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون. مات في الثانية بعد ما شهد بدرا، و هو أول من مات من المهاجرين بالمدينة، و أول من دفن بالبقيع، ترجمه ابن حجر في الإصابة «ج 2: 457».
2- الظاهران عثمان كان داخلا فيهم و هو عاشرهم فان الإفراد المعدودة هنا لا يتجاوزون عن تسعة.
3- الودك بفتحتين الدسم من اللحم و الشحم.
4- ما يلبس من نسيج الشعر قهرا للجسد.

و همّ بعضهم أن يجبّ (1) مذاكيره، فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه، فقال لامرأته أمّ حكيم بنت أبي أميّة و اسمها حولاء و كانت عطّارة: أحقّ ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول اللّه إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللّه، فلمّا دخل عثمان أخبرته بذلك، فأتى رسول اللّه هو و أصحابه، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: ألم انبّئكم أنّكم اتّفقتم على كذا و كذا؟، قالوا: بلى يا رسول اللّه، و ما أردنا إلّا الخير فقال النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم: إنّي لم اومر بذلك، ثمّ قال: إنّ لأنفسكم عليكم حقّا، فصوموا و أفطروا و قوموا و ناموا فإنّي أقوم و أنام، و أصوم و أفطر و آكل اللّحم و الدسم، و آتي النساء، و من رغب عن سنّتي فليس منّي، ثمّ جمع النّاس و خطبهم، و قال: ما بال أقوام حرّموا النساء و الطعام الطيّب و النوم و شهوات الدنيا؟

أما إنّي لست أمركم أن تكونوا قسّيسين و رهبانا، فإنّه ليس من ديني ترك اللّحم و النّساء و لا اتّخاذ الصوامع، و إنّ سياحة امّتي الصوم، و رهبانيّتهم الجهاد، اعبدوا اللّه و لا تشركوا به شيئا و حجّوا، و اعتمروا، و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و صوموا رمضان و استقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم، فأولئك بقاياهم في الأديار (2) و الصوامع، فأنزل اللّه هذه الآية.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام (3) أنّه قال: نزلت في عليّ و بلال و عثمان بن مظعون، فأمّا عليّ، فانّه حلف أن لا ينام اللّيل أبدا إلّا ما شاء اللّه، و أمّا بلال، فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا، و أمّا عثمان بن مظعون، فإنّه حلف أن لا ينكح أبدا.

و وجه النّظم في الآية بهذا التّقرير: لأنّه تعالى لمّا مدح النصارى بأنّ منهم قسّيسين و رهبانا و كان عادتهم الاحتراز عن طيّبات الدّنيا و لذّاتها، و لمّا مدحهم أوهم

ص: 75


1- جب الشي ء يجبه: قطعه.
2- جميع الدير: مسكن الرهبان.
3- رواه عنه عليه السلام الطبرسي رحمه اللّه- في المجمع «ج 3: 236» و عن الطبرسي في البرهان «ج 1: 494» و روى على بن ابراهيم في تفسيره ص 166 مسندا رواية اخرى يقرب منه الا انه مذيل بذيل ليس في هذا الخبر.

ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطّريقة فذكر سبحانه في هذه الآية إزالة ذلك التوهّم و أنّهم ليسوا مأمورين بذلك، فلو قيل: إنّ حبّ اللّذائذ مستول على الطباع فإذا توسّع الإنسان فيها يمنعه ذلك عن الاستغراق في العبادة و المعرفة، و إذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نهي اللّه عن الرهبانيّة؟ فالجواب أنّ الرهبانيّة و الاحتراز التّامّ المفرط عن الطيّبات ممّا يوقع الضعف في الأعضاء الرئيسة الّتي هي القلب و الدماغ فحينئذ تشوّش العقل، و اختلّت الفكرة، و ذلك يوجب النّقص في معرفة اللّه و العمل، فلا جرم وقع النّهي عنها، و الرهبانيّة الكاملة توجب خراب العالم، و انقطاع الحرث و النّسل، و ذلك يفضي إلى الفساد في الحكمة، لا سيّما في النّفوس الضّعيفة.

المعنى: قال سبحانه في أوّل السورة: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فقال في هذه: إنّه كما لا يجوز استحلال المحرّم كذلك لا يجوز تحريم المحلّل أي لا تعتقدوا تحريم ما أحلّ اللّه لكم، كما حرّمت العرب ما لم يحرّمه اللّه و هي البحيرة، و السائبة، و الوصيلة، و الحام، (1) و لا تجتنبوا من المحلّلات اجتنابا شبيها بالاجتناب من المحرّمات، و لا تجروها مجرى المحرّمات في شدّة الاجتناب و كذلك لا تلزموا تحريمها بنذر، أو عهد، أو يمين، و معنى الآية على جميع هذه الوجوه و المراد من الطيّبات في الآية اللّذائد؛ و قيل: الحلال [وَ لا تَعْتَدُوا] حدود اللّه و أحكامه و قيل: معنى «وَ لا تَعْتَدُوا» أي لا تجبّوا أنفسكم، فسمّي الخصاء اعتداء، عن ابن عبّاس و مجاهد و قتادة، و الأوّل أعمّ فائدة؛ و قيل: معناه:

و لا تسرفوا في الطيّبات، لأنّه لمّا أباح الطيّبات حرّم الإسراف فيها [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المجاوزين الحدّ [وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً] ظاهر الأمر للوجوب، إلّا أنّ المراد هاهنا الإباحة و التّحليل؛ و قوله: [حَلالًا طَيِّباً] يحتمل أن يكون متعلّقا بالأكل، و أن يكون متعلّقا بالمأكول، فعلى الأوّل يكون التقدير: كلوا حلالا طيّبا ممّا رزقكم اللّه، و على التقدير الثاني: كلوا من الرزق الّذي يكون موصوفا بالحلال و الطيّب.

ثمّ إنّه تعالى لم يقل: كلوا ما رزقكم و قال: كلوا ممّا رزقكم- و كلمة من

ص: 76


1- النساء: 164.

للتّبعيض- فكأنّه قال: اقتصروا في الأكل على بعض و اصرفوا البقيّة إلى الخيرات و الصدقات، و هو إرشاد إلى ترك السرف.

قالت المعتزلة: إنّ الرزق لا يكون إلّا حلالا؛ و قالت الأشاعرة: إنّ الرزق قد لا يكون حلالا، لأنّه خصّص بقوله: «حلالا» و لو كان الرزق كلّه حلالا لم يكن لهذا التّخصيص و التّقييد فائدة، و أجاب المعتزلة بأنّه، إنّما ذكر «حلالا» على وجه التّأكيد، كما قال: «وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» [وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ و هذا استدعاء إلى التّقوى بألطف الوجوه، و تقديره: أيّها المؤمنون باللّه، لا تضيّعوا إيمانكم بالتّقصير في التّقوى، فيكون عليكم الحسرة العظمى.

و في هاتين الآيتين دلالة على كراهة التفرّد و الخروج عمّا عليه المسلمون في التأهّل و عمارة الأرض و الزّواج؛ و قد روي: أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأكل الدّجاج.

و الفالوذج، و كان يعجبه الحلوا و العسل؛ و قال: إنّ المؤمن حلو يحبّ الحلاوة و قال:

إنّ في بطن المؤمن زاوية لا يملؤها إلّا الحلو، و روي: أنّ الحسن كان يأكل الفالودج فدخل عليه فرقد السبخيّ؛ فقال: يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال فرقد: لا آكله، و لا احبّ أكله، فأقبل الحسن على غيره كالمتعجّب؛ و قال: لعاب النّحل بلباب البرّ مع سمن البقر هل يعيبه مسلم؟ (1) و جاء رجل إلى الحسن بن عليّ عليهما السلام؛ فقال له: إنّ لي جارا، لا يأكل الفالودج؛ قال الحسن عليه السلام: و لم؟ قال: لئلّا يؤدّي شكره، قال عليه السلام: أ فيشرب الماء البارد؟ قال: نعم، قال: إنّ جارك هذا جاهل، أن نعمة اللّه عليه في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالودج، و سئل فضل بن عياض (2) عن

ص: 77


1- روى الطبرسي مرسلا في تفسيره «ج 3: 236» و روى على بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال، كان رسول اللّه يعجبه العسل، فروع الكافي «ج 2: 173» أقول: و انما تركنا ذكر جملة (عليه السلام) بعد لفظ (الحسن) في الرواية الاخيرة لما احتملناه من أن يكون (الحسن) في الحديث هو الحسن بن مهران الذي كان يجلس مع فرقد على المائدة على ذكره في الإصابة «ج 3: 198» و الاستيعاب «ج 3: 199» و كذا ذكره الطبرسي بدون الجملة.
2- هو فضل بن عياض بن مسعود التميمي، أصله من خراسان ترجمه النجاشيّ في رجاله ص 219 بصرى ثقة عامي، روى عن أبى عبد الله عليه السلام، و هو من مشاهير الزهاد، و له مواعظ و نصائح و مجالس مع الأمراء و كان موجها عند الرشيد مات ستة تسع و ثمانين و مائة على ما في توضيح المقال ص 242 قال: و قيل: مات قبلها و ترجمه الأردبيلي في جامع الرواة ج 2 ص 10

ترك الطيّبات من الجواري و اللّحم و الخبيص للزهد.

و قال لمن قال: لا آكل الخبيص: تأكل و تتّقي إنّ اللّه لا يكره أن تأكل الحلال الصرف، كيف برّك لوالديك؟ وصلتك للرّحم؟ كيف عطفك على الجار؟ كيف رحمتك للمؤمنين؟ كيف كظمك للغيظ؟ كيف عفوك عمن ظلمك؟ كيف إحسانك إلى من أساء إليك؟ كيف صبرك و احتمالك للأذى؟ أنت إلى أحكام هذه الأمور أحوج منك إلى ترك الخبيص و بالجملة فالاعتدال في الأمور و تناول الطعام حسن جدّا، و الزهد المشروع ممدوح جدّا، فلا تفريط و لا إفراط في كلّ باب؛ انظر إلى حديث النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم حيث قال في الحديث: إنّ في بطن المؤمن زاوية لا يملؤها إلّا الحلو، و لم يقل: إنّ في بطن المؤمن هاوية، فافهم راشدا إن شاء اللّه تعالى.

[سورة المائدة (5): آية 89]

لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

قوله تعالى:

قرأ ابن عامر: عاقدتم؛ و قرأ أهل الكوفة: عقدتم بالتّخفيف؛ و الباقون: عقّدتم بالتشديد، و اليمين تقوية أحد الطّرفين بالمقسم به.

النزول: قيل: لمّا نزلت [لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ قالوا: يا رسول اللّه فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل اللّه هذه الآية؛ و قيل: نزلت الآية في عبد اللّه بن رواحة، (1) كان عنده ضيف و أخّرت زوجته عشاه؛ فحلف أن لا يأكل من الطعام، و حلفت زوجته أن لا تأكل إن لم يأكل و حلف الضيف أن لا يأكل إن لم يأكلا فأكل عبد اللّه بن رواحة و أكلا معه فأخبر النبيّ بذلك فقال: له أحسنت؛ عن ابن زيد.

ص: 78


1- خزرجى انصارى شهد العقبة الثانية، و كان احد النقباء الاثنى عشر، و حضر المشاهد كلها الا الفتح و ما بعده لأنه قتل بمؤته سنة ثمانية، و كان يحسن الشعر في الإسلام و مدح النبي صلى اللّه عليه و آله و مما قال فيه: «لو لم تكن فيه آيات مبينةكان بديهة تنبيك بالخبر» و تصويب النبي صم حداءه للإبل معروف في باب الغناء من الفقه، ترجمه ابن حجر في الإصابة «ج 2: 298» و ابو عمرو في الاستيعاب «ج 3: 284».

و مضى الكلام في لغو اليمين و حكمه في سورة البقرة و لا كفّارة فيه عند أكثر المفسرين و الفقهاء إلّا ما روي عن إبراهيم النخعيّ أنّه قال: فيها الكفّارة [لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ إن جعلت ما موصولة، فمعناه، يؤاخذكم بالّذي عقدتم عليه الأيمان و إن جعلته مصدريّة، فمعناه: بعقدكم، أو بعقيدتكم الأيمان، أو بمعاقدتكم الأيمان. و المعاقدة أن يضمن الأمر ثمّ يحلف باللّه فيعقد عليه اليمين، و قيل: هو ما عقدت عليه قلبك، و تعمّدته [فَكَفَّارَتُهُ أى كفّارة ما عقدتم إذا حنثتم، و استغني عن ذكر الحنث للدّلالة، لأنّ الامّة قد أجمعت على أنّ الكفّارة لا تجب إلّا بعد الحنث، و معنى الكفّارة، الفعلة الّتي تذهب إثمه و تستره، [إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ و اختلف في مقدار ما يعطى كلّ مسكين، فقال الشافعيّ: مدّ؛ و قال أبو حنيفة: صاع من حنطة أو صاع من شعير أوتمر، و كذلك عندهم سائر الكفّارات قال الطبرسيّ: و قال أصحابنا: يعطى كلّ واحد مدّين، أو مدّ، و المدّ رطلان و ربع.

أقول: و لا يبعد أن يكون معنى المدّ ملأ الكفّين من الشي ء من امتداد الأصابع (1) المصطلح عندنا ب [الحفنة]؛ و لا يجوز أن يعطى خمسة ما يكفي عشرة فإن كان المساكين ذكورا و إناثا جاز ذلك، و لكن دفع بلفظ التذكير لأنّه غلب في كلام العرب [مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قيل: فيه قولان: أحدهما أن يكون المأكول متوسّطا، مثل أنّ الخبز و اللّحم لا شكّ في أنّه أعلى الخبز و الملح، و الأوسط يكون الخبز و السّمن أو الزيت. و الآخر أن يكون لحاظ الأوسطيّة في الأكل، لأنّ الأكل متفاوت أيضا فتعطيهم كما تعطي أهلك في العسر و اليسر [أَوْ كِسْوَتُهُمْ قال أصحابنا الإماميّة: «الكسوة» لكلّ واحد ثوبين: مئزرا و قميصا أو سربالا، و سروالا، و عند الضّرورة يجزي قميص واحد، و لعلّ المئزر الواحد لا يكفي، لأنّه لا يصدق عليه أنّه كساه، أو يكفي لأنّه

ص: 79


1- و يساعده اللغة؛ ففي مجمع البحرين: المد بضم الميم و التشديد مقدر بان يمد يديه فيملأ كفيه طعاما، و قال الجزري في النهاية: هو رطل و ثلث بالعراقي عند الشافعى و اهل الحجاز و هو رطلان عند ابو حنيفة و اهل العراق و قيل: إن اصل المد مقدر بان يمد الرجل يديه فيملأ كفيه طعاما، انتهى. أقول: و يمكن ان يكون هذا الأصل هو المنشأ لقول الشافعي فان المد على قوله يقرب من 91 مثقالا و ملؤ الكفين المعتدلين يبلغ هذا المقدار.

يصدق عليه أنّه غير عريان أو تحرير رقبة أي عتق رقبة عبد أو أمة؛ و الرقبة يعبّر بها عن جملة الشّخص، و هو كلّ رقبة سليمة من العاهات صغيرة كانت، أو كبيرة، مؤمنة كانت، أو كافرة، فإنّ اللّفظ مطلقة مبهمة إلّا أنّ الأفضل هو المؤمن. و هذه الثّلاثة واجبة على التخيير و معنى الواجب المخيّر أنّه بأيّ واحد من هذه الثلاثة شاء و أتى به خرج عن العهدة (1) قال الرازيّ: و من الفقهاء من قال: إنّ الواجب المخيّر، واحد لا بعينه، و هذا الكلام يحتمل وجهين: الأوّل أن يقال: الواجب عليه أن يدخل في الوجود واحدا من هذه الثلاثة لا بعينه؛ و هذا محال في العقول لأنّ الشي ء الّذي لا يكون معيّنا في نفسه، يكون ممتنع الوجود لذاته، و ما كان كذلك فإنّه لا يراد به التّكليف، الثّاني: أن يقال:

الواجب عليه واحد معيّن في نفسه و في علم اللّه إلّا أنّه مجهول العين عند العامل، و ذلك أيضا محال، لأنّ معنى كون ذلك الشي ء واجبا بعينه في علم اللّه هو أنّه لا يجوز تركه بحال، و قد أجمعت الامّة على أنّه يجوز له تركه بتقدير الإتيان بغيره [فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أي فمن لم يتمكّن إحدى الثلاث، فكفّارة حنث يمينه يكون صيام ثلاثة أيّام و «صيام» مرفوع بأنّه خبر المبتدأ، أو التقدير: فعليه صيام ثلاثة أيّام، فيكون صيام مبتدءا، و حدّ من ليس بواجد هو من ليس له ما يفضل عن قوته، و قوت عياله يومه و ليلته.

و اعلم أنّ اليمين على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يكون عقدها طاعة، و يكون حلّها معصية، و هذه تتعلّق بحنثها الكفّارة بلا خلاف، و هو كما لو قيل: و اللّه لا شربت الخمر، و الثاني أن يكون عقدها معصية، و حلّها طاعة كما يقال: و اللّه لا صلّيت، و هذا لا كفّارة في حنثه عند الإماميّة، و خالف ساير الفقهاء في ذلك، و الثالث أن يكون عقدها مباحا و حلّها مباحا كما يقال: و اللّه لا لبست هذا الثوب، و هذه تتعلق بحنثه الكفّارة بلا خلاف

ص: 80


1- اختلفوا في معنى الوجوب التخييري على اقوال ستة؛ وجه الاختلاف هو ان الحكم فيه واحد و الحكم الواحد له موضوع واحد ايضا و حيث ان الإفراد التي يمكن إسقاط التكليف بها تكون اكثر من واحد اضطربت آراؤهم في تعيين ما هو المتعلق في الحقيقة لهذا الحكم. و ما ذكره المصنف قدس سره هو نتيجة الجميع لا انه قول من الأقوال، نعم ما نقله عن الرازي هو قول منها.

أيضا [ذلِكَ إشارة الى ما تقدّم من الكفّارات [كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي إذا حلفتم و أحنثتم، لأنّ الكفّارة لا تجب بنفس اليمين، و إنّما تجب باليمين و الحنث [وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ قيل: أى احفظوا أيمانكم عن الحنث و لا تحنثوا؛ (1) و قال ابن عبّاس: معناه: لا تحلفوا، و في الآية دلالة على أنّ اليمين في المعصية لا تنعقد، لأنّها، لو انعقدت للزم حفظها، و إذا كانت لا تنعقد فلا يلزم فيها الكفّارة [كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي كما بيّن أمر الكفارة فجميع الأحكام يبيّن اللّه آياته و فروضه لتشكروه على تبيينه لكم أموركم و نعمته عليكم.

[سورة المائدة (5): الآيات 90 الى 91]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

قوله تعالى:

الخمر: عصير العنب المشتدّ الّذي يسكر كثيره و سمّي خمرا، لأنّها بالسكّر تغطي على العقل بمنزلة الخمار، (2) من قولهم: خمرت الإناء إذا أغطيته، و فلان دخل في خمار النّاس إذا خفي في ما بينهم و الميسر: القمار بأقسامه، من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار فيه، و أصله من اليسر خلاف العسر، و سمّيت يد اليسرى، تفؤّلا بتيسّر العمل بها، أو لأنّها تعين اليد اليمنى فيكون العمل أيسر. و الأنصاب: الأصنام؛ و سمّيت بذلك لأنّها كانت ينصب للعبادة لها و الانتصاب: القيام؛ و منه النصب بمعنى التّعب بسبب العمل الّذي ينتصب له، و مناصبة العدوّ: الانتصاب و القيام لعباته، قال الأعشى:

و ذا النصب المنصوب لا تنسكنّه و لا تعبد الشيطان و اللّه فاعبدا

و الأزلام: القداح، و هي سهام، كانوا يجيلونها (3) مكتوب على بعضها: أمرني

ص: 81


1- اختاره الطبرسي تبعا للجبائى و هو الأوفق بالقواعد اللفظية حيث ان الحفظ في الآية حكم محمول على الايمان و الايمان هو الموضوع و لا بد من ثبوت الموضوع بوجه ما حتى يصح الحمل كما لا يخفى.
2- ما يغطى الوجه.
3- اجال الشي ء: اداره.

ربّي، و على بعضها: نهاني ربّي يطلبون بها على ما قسّم من الخير و الشرّ، و كان أهل الجاهليّة إذا أراد أحدهم سفرا أو تجارة أو غزوا أو غير ذلك، طلب علم أنّه خير أو شرّ من الأزلام و هي قداح كانت في الكعبة عند سدنة البيت، على بعضها: أمرنى ربّي و على بعضها: نهاني ربّى و بعضها غفل لا كتابة عليها و لا علامة، فإن خرج السهم الآمر مضوا، و إن خرج الناهي يجتنبون عنه، و إن خرج الغفل أجالوها ثانية.

و قداح يقتسمون الجزور و هي عشرة هي: قد، و قوام، و رقيب و هو من أقسام القمار كاللّاتري.

المعنى: نهى اللّه سبحانه عن امور كان أهل الجاهليّة يرتكبونها، فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ قال ابن عبّاس: يريد بالخمر جمع الأشربة الّتي تسكر، و كانوا يتّخذونها من العسل و من العنب و الزبيب و من التمر و من الحنطة و الذرّة و الشعير، و غيرها [رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ و الرجس بمعنى النجس، إلّا أنّ النجس يقال في المستقذر طبعا، و الرّجس أكثر ما يقال في المستقذر عقلا، و سمّيت هذه الأمور رجسا، لوجوب اجتنابها كما يجب اجتناب الشي ء المستقذر [مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ صفة لرجس، أى رجس كائن من عمله، لأنّه هو الدّاعي و المرغّب إليه، و المزيّن له في قلوب فاعليه [فَاجْتَنِبُوهُ أى الرجس و كونوا على جانب و ناحية منه [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفوزوا بالثوّاب؛ قال الطبرسيّ: و في هذه الآية دلالة على تحريم الخمر، و هذه الأشياء المذكورة من أربعة أوجه: أحدها أنّه وصفها بالرّجس و هو النّجس و النّجس محرّم بلا خلاف و الثاني أنّه نسبها إلى عمل الشّيطان، و ذلك يوجب تحريمها؛ و الثالث أنّه أمر باجتنابها و الأمر يقتضى الإيجاب؛ و الرّابع أنّه جعل الفوز و الفلاح في اجتنابها؛ و يجوز أن يكون الهاء في قوله «فَاجْتَنِبُوهُ» راجعة إلى عمل الشيطان، و تقديره: فاجتنبوا عمل الشيطان؛ قال الباقر عليه السلام: مدمن الخمر كعابد الوثن (1) و في هذا دلالة على تحريم سائر التصرّفات في

ص: 82


1- رواه في فروع الكافي «ج 2: 182» عن ابى على الأشعري عن محمد بن حسان عن محمد بن على عن ابى جميله و زرارة ايضا و محمد بن أعين عنهما عليه السلام و بطرق أخر عن ابى عبد اللّه عليه السلام. و المد من هو الذي إذا وجد المسكر شربه على ما في رواية نعيم البصري عن الصادق عليه السلام.

في الخمر من الشرب و البيع و الشّراء، و الاستعمال على جميع الوجوه، و في الحديث:

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الإسراء: أوّل ما نهاني بعد عبادة الأوثان شرب الخمر. و الخطاب لأمّته، و إن كان المخاطب هو النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم مثل قوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (1) ثمّ بيّن سبحانه سبب النهي فقال. [إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ] قال ابن عبّاس: نزلت في سعد بن أبي وقّاص و رجل كان من الأنصار مؤاخيا لسعد فدعاه إلى الطّعام فأكلوا و شربوا نبيذا فوقع بين الأنصاريّ و سعد مراء و مفاخرة فأخذ الأنصاريّ لحي (2) جمل فضربه سعدا ففزر (3) أنفه، فأنزل اللّه تعالى ذلك فيما.

و المعنى: يريد الشّيطان إيقاع العداوة بينكم بالإغواء المزيّن لكم، حتّى إذا سكرتم زالت عقولكم و أقدمتم من القبائح من الأمور الّتي يمنعكم عقولكم ارتكابها.

قال قتادة: كان الرجل منهم يقامر في ماله و أهله فيقمر (4) و يبقى حزينا، سليبا نادما، فيكسبه ذلك العداوة و البغضاء [وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ و قوله: «فِي الْخَمْرِ» متعلّق بيوقع، على أن يكون كلمة «في» هنا لإفادة معنى السببيّة، كما في قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة أي بسبب هرّة [وَ عَنِ الصَّلاةِ] أي يمنعكم عن الذّكر للّه بالتّعظيم، و عن الصلاة الّتي هي قوام دينكم، فإنّ المخمور مع حالة نشاطه و سكره كيف يشتغل بالعبادة و الذّكر؟ و كذلك المقامر فإن صار غالبا فصار استغراقه في لذّة الغلبة فتورثه الغفلة عن العبادة، و إن صار مغلوبا صار شدّة اهتمامه بأن يحتال بحيلة يصير بها غالبا فحينئذ لا يخطر بباله شي ء سواه [فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ صيغة الاستفهام، و معناه النّهي، و إنّما جاز في صيغة الاستفهام أن يكون على معنى النّهي، لأنّ اللّه ذمّ هذه الأفعال و أظهر قبحها، و إذا ظهر قبح الفعل للمخاطب ثمّ استفهم عن تركه لم يسعه إلّا الإقرار بالتّرك، فكان هذا أبلغ في باب النّهي من أن يقال: انتهوا، و نزلت آية

ص: 83


1- الزمر: 65.
2- اللحى- بالفتح فالسكون-: عظم الحنك الذي عليه الأسنان.
3- فزر الشي ء: شقه و كسره.
4- بالبناء على المفعول اى يصير مغلوبا.

التّحريم في سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة احد.

[سورة المائدة (5): آية 92]

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)

قوله تعالى:

لمّا أمر اللّه باجتناب هذه الأمور عقّبه بالأمر بالطاعة له فيها و في غيرها فقال:

[وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ و الطاعة هي امتثال الأمر، و الانتهاء عن المنهيّ عنه، و لذلك يصحّ أن يكون الطاعة طاعة لاثنين، بأن يوافق أمرهما و إرادتهما [وَ احْذَرُوا] المناهي، قال عطاء: يريد: و احذروا سخطي. و الحذر امتناع القادر من الشي ء لما فيه من الضرر [فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم و لم تعملوا بما أمرتم به [فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ معناه: الوعيد و التّهديد، كأنّه قال سبحانه: فاعلموا أنّكم قد استحققتم العقاب لتولّيكم عمّا أدّوا رسلنا إليكم من البلاغ الظاهر الواضح، و «ما» في قوله:

«أنّما» كافّة لأنّ عن عملها.

و اعلم أنّ اللّه تعالى قرن الخمر و الميسر بالأصنام، ففيه تحريم بليغ لهما و أيضا التعبير بالرجس بمعنى اللّعنة و العذاب دليل على الحرمة؛ «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» (1) و لعلّ قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: شارب الخمر كعابد الوثن مستفاد من هذه الآية، و في الحديث: من شرب الخمر في الدنيا سقاه اللّه من سمّ الأساود و سمّ العقارب، إذا شربه تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها، فإذا شربها تفسخ لحمه كالجيفة يتأذّى به أهل الموقف، و من مات قبل أن يتوب من شرب الخمر كان حقّا على اللّه أن يسقيه بكلّ جرعة شربها في الدنيا شربة من صديد جهنّم. و في الحديث: لعن اللّه الخمر و شاربها و ساقيها، و بائعها، و مبتاعها، و عاصرها، و حاملها، و المحمولة إليه و آكل ثمنها.

و في الحديث: من شرب الخمر بعد أن حرّمها اللّه على لساني فليس له أن يزوّج إذا خطب، و لا يصدّق إذا حدّث، و لا يشفّع إذا تشفّع، و لا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة، فاستهلكها فحقّ على اللّه أن لا يخلف عليه. قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الخمر امّ الخبائث، و ذلك لأنّها تهيّج الصفات الخبيثة في النفس؛ مثل الحرص و الكبر، و الغضب و العداوة،

ص: 84


1- البقرة: 249.

و الحقد، و الحسد، و بها يضلّ العبد عن سواء السبيل و أمّا الأنصاب فهي تعبد من دون اللّه، فهي تجعل العبد مشركا باللّه، و أمّا الأزلام و الالتفات إليها عند توقّع الخير و الشرّ و النفع و الضرّ من دون اللّه من المضلّات و الفتن فإنّ اللّه هو الضارّ و النافع.

فهذه الأربعة متقاربة في القبح و المفسدة.

[سورة المائدة (5): آية 93]

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

قوله تعالى:

قال ابن عبّاس و جماعة مثل أنس بن مالك و البراء بن عازب: إنّه لمّا نزلت التحريم في الخمر و الميسر، قالت الصحابة: يا رسول اللّه ما تقول في إخواننا الّذين مضوا و هم يشربون الخمور، و يأكلون الميسر؟ فنزلت هذه الآية؛ و قيل: إنّها نزلت في القوم الّذين حرموا على أنفسهم اللّحوم، و سلكوا مسلك الترهّب فبيّن اللّه لهم أنّه لا جناح في تناول المباح مع اجتناب المحرّمات فقال: [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي إثم و حرج [فِيما طَعِمُوا] أي تناولوا، و الطّعام في الأغلب من اللّغة خلاف الشّراب، فكذلك يجب أن يكون الطعم خلاف الشّرب، إلّا أنّ اسم الطّعام قد يقع و يستعمل على المشروب، كما قال تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» فعلى هذا يصحّ أن يكون قوله: «فِيما طَعِمُوا» أى شربوا الخمر، و يجوز أن يكون معنى الطعم راجعا إلى التلذّذ بما يؤكل و يشرب؛ قالت العرب: «تطعّم تطعم» أي ذق حتّى تشتهي (1) فإذا كان معنى الكلمة راجعا إلى الذوق صلح للمأكول و المشروب معا.

و هاهنا مسألة، و هي أنّه زعم بعض الجهّال أنّه تعالى، لمّا بيّن في الخمر أنّها محرّمة عند ما تكون موقعة للعداوة و البغضاء و صادّة عن ذكر اللّه و عن الصلاة بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شي ء من تلك المفاسد، بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة و التقوى و الإحسان، ثمّ بجهلهم، قالوا: و لا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التّحريم لأنّه لو كان المراد ذلك لقال:

ص: 85


1- في الأساس: ذق تشته، و هو الصحيح.

ما كان جناح على الّذين طعموا كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة فقال: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» (1) و لكنّه لم يقل ذلك، بل قال: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا» و لا شكّ أنّ «إذا» للمستقبل لا للماضي انتهى كلامهم؛ فأمّا الجواب، قال أبو بكر الأصمّ: إنّه لمّا نزلت آية تحريم الخمر قال بعض الأصحاب: يا رسول اللّه كيف بإخواننا الّذين ماتوا و قد شربوا الخمر و فعلوا القمار؟ و كيف بالغائبين عنّا في البلدان و لا يشعرون بعد بأنّ اللّه حرّم الخمر، و هم يطعمونها؟ فأنزل اللّه هذه الآية، و على هذا التّقدير فالحمل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول الآية، لكن في حقّ الغائبين الّذين لم يبلغهم النّصّ انتهى.

رجعنا إلى تفسير الآية: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات إثم [فِيما طَعِمُوا] و في تفسير أهل البيت: فيما طعموا من الحلال [إِذا مَا اتَّقَوْا] شربها بعد التحريم [وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات [ثُمَّ اتَّقَوْا] أى داموا على الاتّقاء [وَ آمَنُوا] أي داموا على الإيمان [ثُمَّ اتَّقَوْا] عن المخالفة بفعل الطّاعات و الفرائض [وَ أَحْسَنُوا] بفعل الخيرات و إتيان النوافل. قال الطبرسيّ: الاتّقاء الأوّل اتّقاء الشّرب بعد التّحريم و الاتّقاء الثاني الدوام على ذلك، و الاتّقاء الثّالث اتّقاء مطلق المعاصي مع ضمّ الإحسان إليه، فعلى هذا يكون الاتّقاء الأوّل هو اتّقاء الشرب بعد التحريم، و الاتّقاء الثّاني هو الدوام على ذلك، و الاتّقاء الثّالث اتّقاء مطلق المعاصي و ضمّ الإحسان إليه؛ و قيل: الاتّقاء الأوّل هو اتّقاء المعاصي العقليّة، و الإيمان الأوّل هو الإيمان باللّه، و بما أوجب اللّه الإيمان به، و الإيمان بقبح هذه المعاصي، و الاتّقاء الثّاني هو اتّقاء المعاصي السمعيّة و الإيمان بقبحها و وجوب اجتنابها، و الاتّقاء الثّالث مختصّ بمظالم العباد، و بما يتعدّى إلى الغير من الظلم و الفساد. و قال أبو عليّ الجبّائيّ: إنّ الشرط في قوله: «إِذا مَا اتَّقَوْا» يتعلّق بالزمان الماضي، و الشرط الثاني يتعلّق بالدوام على ذلك و الاستمرار على فعله، و الشرط الثالث يختصّ بمظالم العباد،

ص: 86


1- البقرة: 142.

و استدلّ على أنّ هذا الاتّقاء إنّما اختصّ بالمظالم لقوله: «و أحسنوا» فإنّ الإحسان إذا كان متعدّيا وجب أن يكون المعاصي الّتي أمروا باتّقائها قبله أيضا متعدّية به.

قال الطّبرسيّ: و هذا الاستدلال ضعيف لأنّه لا يمتنع أن يكون الإحسان يراد به الفعل الحسن فيكون لازما، و يراد من الباب في الفعل المبالغة كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن: أحسنت و أجملت، ثمّ لو سلّم أنّ المراد به الإحسان المتعدّي فلم لا يجوز أن يعطف فعل متعدّ على فعل لا يتعدّى؟.

فلو قيل: إنّه لو كان المراد في قوله: «فِيما طَعِمُوا» المباحات و الحلال لزم تقييد إباحتها باتّقاء ما عداها من المحرّمات، لقوله: «إِذا مَا اتَّقَوْا» و ليس الأمر كذلك بل الكافر إذا أكل حلالا لم يكن عليه إثم؛ فالجواب أنّه إنّما تخصصت بذلك الطارئ عليها، فالجواب أنّ هذا القيد ليس المراد منه أنّ المباح مشروط إباحته بالتّقوى، بل المراد من الآية، بيان أحوال أولئك الأقوام الّذين فيهم هذه الآية و لمّا يعلموا بعد بحرمتها و كانوا على هذه الصفة، و الآية ثناء عليهم و حمد لأحوالهم من الإيمان و التقوى و الإحسان. ثمّ إنّهم لمّا لم يعلموا بعد بحرمتها و طعموا منها لم يكن لهم حراما، فصحّ القول بأنّ المراد من قوله: «فِيما طَعِمُوا» الحلال.

و في الآية قول آخر، و هو أنّ المقصود من هذا التّكرير التأكيد و المبالغة في الحثّ على الإيمان و التّقوى.

قال الطبرسيّ: وجدت في بعض رسائل السيّد المرتضى قدّس سرّه أنّه قال:

إنّ المفسّرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التّكرار الّذي تضمّنته هذه الآية، و ظنّوا أنّه المشكل فيها و تركوا ما هو أشدّ إشكالا من التكرار، و هو أنّه قد نفي الجناح عن الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات فيما يطعمونه بشرط الاتّقاء و الإيمان و عمل الصّالحات و الحال أنّ الإيمان و عمل الصّالحات ليس بشرط في نفي الجناح فإنّ المباح إذا وقع من الكافر فلا إثم عليه، قال: و لنا في حلّ هذه الشبهة طريقان:

أحدهما أن يضمّ إلى هذا الشّرط المصرّح بذكر كلمة: (غيره) حتّى يظهر تأثيرها شرط فيكون تقدير الآية: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات جناح في ما طعموا

ص: 87

و غيره، إذا ما اتّقوا و آمنوا و عملوا الصّالحات، لأنّ الشّرط في نفي الجناح لا بدّ من أن يكون له تأثير حتّى يكون متى انتفى ثبت الجناح، و قد علمنا أنّ باتّقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشّرط الّذي لا زيادة عليه، و لمّا ذكر الاتّقاء و الإيمان و عمل الصالحات- و لا تأثير لهما في نفي الجناح- علمنا أنّه أضمر ما تقدّم ذكره ليصحّ الشّرط و يطابق المشروط لأنّ من اتّقى الحرام لا جناح عليه فيما يطعم، و لكنّه قد يصحّ أن يثبت عليه الجناح فيما اخلّ به من واجب فإذا شرطنا أنّه وقع اتّقاء القبيح ممّن آمن باللّه و عمل الصّالحات ارتفع الجناح عنه من كلّ وجه، و ليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه، فمن عادة العرب ان يحذفوا ما يجري هذا المجرى و يكون قوّة الدلالة عليه مغنية عن النطق به، قال شاعرهم:

تراه كأنّ اللّه يجدع أنفه و عينيه أن مولاه يأت له و فر

لمّا كان الجدع (1) لا يليق بالعين و كانت معطوفة على الأنف الّذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص، (2) و ما يجري مجراه.

و الطّريق الثّاني هو أن يجعل الإيمان و عمل الصّالحات هنا ليس بشرط حقيقيّ، و إن كان معطوفا على الشّرط فكأنّه تعالى لمّا أراد أن يبيّن وجوب الإيمان و عمل الصّالحات عطفه على ما هو واجب من اتّقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب و إن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيما يطعم، و هذا توسّع في البلاغة يحار فيه العقل استحسانا و استغرابا انتهى كلامه.

قال الطبرسيّ: و قد قيل أيضا في الجواب عن ذلك: إنّ المؤمن يصحّ و يجوز أن يطلق عليه: لا جناح عليه، أو جناح عليه، و أمّا الكافر فمغمور في العقاب بكفره، فلا يطلق عليه هذا اللّفظ، و الكافر قد سدّ على نفسه طريق معرفة التّحريم و التّحليل، و لذلك خصّ المؤمن بالذّكر انتهى، و روي أنّ قدامة بن مظعون شرب الخمر في أيّام عمر بن الخطّاب فأراد أن يقيم عليه الحدّ، فتلا قدامة: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا»

ص: 88


1- جدع انفه: قطعه.
2- بخص العين بخصا- بسكون الخاء-: قلعها.

فأراد عمر أن يدرأ عنه الحدّ فقال عليّ عليه السلام: أديروه على الصّحابة، فإن لم يسمع أحدا منهم قرأ عليه آية التّحريم فادرؤوا عنه، فإذا كان قد سمع فاستتيبوه فأقيموا عليه الحدّ، فإن لم يتب وجب عليه القتل. (1)

[سورة المائدة (5): الآيات 94 الى 95]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)

قوله تعالى:

وجه النّظم أنّه تعالى لمّا قال: «لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ» ثمّ استثنى الخمر و الميسر فكذلك استثنى في هذه الآية هذا النوع من الصّيد عن المحلّلات و بيّن دخوله في المحرّمات، و نزلت الآية عام الحديبية في السّنة السّادسة من الهجرة، و الحديبية بتخفيف الياء الأخيرة- و قد تشدّد- موضع قريب من مكّة، و ذلك أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أراد زيارة الكعبة فسار هو و أصحابه من المدينة و هم ألف و خمسائة و أربعون رجلا، فنزلوا بالحديبية، فابتلاهم اللّه بالصيد و هم محرمون، كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث كانوا متمكّنين من صيدها أخذا بأيديهم و طعنا برماحهم فهمّوا بأخذها، قال أصحاب المعاني: امتحن اللّه امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم بصيد البرّ كما امتحن امّة موسى بصيد البحر، فأنزل اللّه [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] و اللام في قوله: [لَيَبْلُوَنَّكُمُ لام القسم لأنّ اللام و النّون قد يكونان جوابا للقسم و إذا ترك القسم جي ء بهما علامة على القسم التقدير: و اللّه ليعاملكم معاملة المختبر و الممتحن، و خصّ المؤمنين بالذّكر و إن كان الكفّار أيضا مخاطبين بالشّرائع لأنّهم القابلون لذلك المنتفعون به أو لأنّه لم يعتد

ص: 89


1- رواه الطبرسي مرسلا في تفسيره: ج 3: 242» و قدامة هو أخو عثمان بن مظعون، احد السابقين الأولين، هاجر الهجرتين- الحبشة و المدينة- و شهد بدرا، و كان زوج صفية اخت عمر، و استعمله عمر على البحرين. مات سنة ست و ثلاثين عن ثمان و ستين الإصابة «ج 3: 319- 321».

بالكفّار [بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ] أي بتحريم بعض من الصيد لأنّه عنى صيد البرّ خاصّة، منعهم اللّه عن الصّيد و هم محرمون، و لعلّ المراد من قوله: «بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ» أن يعلم أنّه ليس بفتنة من الفتن العظام الّتي يكون التكليف فيها صعبا شاقّا كالابتلاء ببذل الروح و المال و إنّما هو ابتلاء سهل [تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ قيل: الّذي تناله الأيدي، صغار الوحش و فراخ الطير، و الّذي تناله الرماح الكبار من الصّيد؛ عن ابن عبّاس، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و قيل: إنّ صيد الحرم تنال بالأيدي و الرماح لأنّه كان يأنس بالناس و لا ينفر منهم فيه، بخلاف الحلّ فإنّه كان ينفر فيه، و ذلك آية من آيات اللّه؛ عن أبي عليّ الجبّائيّ، و ثالث الأقوال أنّ المراد ما قرب من الصّيد و ما بعد [لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ و الخوف من اللّه الخوف من عقابه و غضبه، و المعنى: ليتميّز الخائف من عقابه الاخرويّ و هو غائب مترقّب لقوّة إيمانه، فلا يتعرّض للصّيد ممّن لا يخاف كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه، و لمّا كان علم اللّه مقتضى ذاته و امتنع عليه التجدّد و التغيّر كما امتنع ذلك على ذاته جعل هاهنا مجازا عن تمييز المعلوم و ظهوره على طريق إطلاق السبب على المسبّب، قال القاضي و المولى أبو السّعود: إنّما عبّر بالعلم إيذانا بمدار الجزاء ثوابا و عقابا لأنّ حصول الجزاء منوط بحصول المعلوم و تميّزه، و يجوز أن يكون معنى من يخافه بالغيب أى من يخاف حال إيمانه بالغيب كما ذكر في أوّل كتابه و هو قوله: «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» أو المعنى من يخافه بإخلاص و تحقيق، و لا يختلف حاله بسبب حضور واحد أو غيبته كما في حقّ المنافقين الّذين إذا لقوا الّذين آمنوا قالوا: آمنّا، و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنّا معكم، و الباء في قوله: «بِالْغَيْبِ» في محلّ النّصب بالحال [فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أى بعد بيان أنّ ما وقع امتحان من جهته تعالى و تعرّض للصّيد [فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ لأنّ الاعتداء بعد ذلك مكابرة صريحة، و عدم مبالاة بحكم اللّه و انخلاع عن طاعته، و المراد عذاب الآخرة إن مات قبل التّوبة، ثمّ ذكر سبحانه ما يجب على ذلك الاعتداء من الجزاء في الدنيا فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ] و اختلف في معنى الصيد قيل:

هو كلّ الوحش أكل أو لم يؤكل، و هو قول أهل العراق، و استدلّوا بقول عليّ عليه السّلام:

ص: 90

صيد الملوك أرانب و ثعالب و إذا ركبت فصيدي الأبطال

قال الطبرسيّ: و هو مذهب أصحابنا، و قيل: هو كلّ ما يؤكل لحمه، و هو قول الشّافعيّ [وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ أى محرمون بحجّ أو عمرة؛ و قيل: معناه: و أنتم في الحرم. قال الجبّائي: الآية تدلّ على تحريم قتل الصّيد على الوجهين و هو الصّحيح لكن قال عليّ بن عيسى: الآية تدلّ على الإحرام بالحجّ أو العمرة فقط [وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً] قيل: معناه هو أن يتعمّد القتل ناسيا لإحرامه عن الحسن و مجاهد و ابن زيد و ابن جريح و إبراهيم النّخعيّ قالوا: و أمّا إذا تعمّد في القتل ذاكرا لإحرامه فلا جزاء فيه لأنّه أعظم من أن يكون له كفّارة؛ و قال ابن عبّاس و الزّهريّ و عطاء:

هو أن يتعمّد القتل و إن كان ذاكرا لإحرامه، و هو قول أكثر الفقهاء فأمّا إذا قتل الصّيد خطأ و نسيانا، فهو كالمتعمّد من وجوب الجزاء عليه و هو مذهب عامّة أهل العلم و البصيرة. قال الطبرسيّ: و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام، قال الزّهريّ: نزل القرآن بالعمد و جرت السنّة في الخطأ [فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرء جزاء منوّنا، و قرء بالإضافة و بالتّنوين. المعنى: فعليه جزاء من النّعم مماثل للمقتول و الواجب عليه جزاء من النّعم مماثل ما قتل من الصّيد، و بالإضافة أيضا يؤول المعنى إلى معنى واحد باختلاف يسير، قال الزّجاج: و يجوز أن يكون المعنى: فجزاء ذلك القتل مثل ما قتل فيكون جزاء مبتدءا، و «مثل» خبره. قال الطبرسيّ: و اختلف في هذه المماثلة أهي في القيمة أو الخلقة؟ فالّذي عليه معظم أهل العلم أنّ المماثلة معتبرة في الخلقة ففي النعامة بدنة، و في حمار الوحش و شبهه بقرة، و في الظّبي و الأرنب و أمثالها شاة، و هو المرويّ عن أهل البيت، و هو قول ابن عبّاس و الحسن و الضحّاك و السدّيّ و مجاهد و عطا و غيرهم؛ و قال إبراهيم النخعيّ: يقوّم الصّيد قيمة عادلة ثمّ يشترى بثمنه مثله من النّعم، فاعتبر المائلة بالقيمة، و الصّحيح القول الأوّل، و منشأ الاختلاف: القراءتان.

[يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ و في قراءة محمّد بن عليّ الباقر و جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السلام:

يحكم به ذو عدل منكم، و في تفسير أهل البيت منقولا عن السيّدين الإمامين صلوات اللّه عليهما أنّ المراد بذي العدل رسول اللّه و أولو الأمر من بعده لأن التّقويم مع تشخيص المماثلة

ص: 91

لا يعرفه كلّ أحد من الناس و لا يهتدي إليه إلّا الربّانيّون؛ قيل: إنّ الشافعيّ أوجب في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة من حيث إنّ كلّا منهما يعبّ و يهدر مع أن النسبة بينهما في سائر الحيثيّات كما بين الضّب و النون، و على القراءة التثنية قال ابن عبّاس: يريد: يحكم في الصّيد بالجزاء رجلان صالحان من أهل دينكم، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النّعم، أي الأنعام الثّلاثة من الإبل و البقر و الغنم، فيحكمان به.

[هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ] أي يهديه هديا يبلغ الكعبة، قال ابن عبّاس: يريد إذا أتى مكّة ذبحه و تصدّق به، قال أصحابنا: إن كان أصاب الصّيد و هو محرم بالعمرة ذبح جزاءه أو نحر بمكّة قبالة الكعبة، و إن كان محرما بالحجّ ذبحه أو نحره بمعنى، و الهدي ما يهدى إلى البيت تقرّبا إلى اللّه من النّعم أيسره شاة و أوسطه بقرة و أعلاه بدنة أي ناقة، و «بالغ الكعبة» صفة لهديا، و الإضافة لفظيّة، و الأصل بالغا إلى الكعبة [أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ قيل: في معناه قولان: أحدهما أن يقوّم عدله و مثله من النّعم، ثمّ يجعل قيمته طعاما و يتصدّق به، عن عطاء و هو الصحيح، و الآخر أن يقوّم الصّيد المقتول حيّا، ثمّ يجعل طعاما، و قرأ نافع و أبي عامر: أو كفّارة طعام على الإضافة، و الباقون: أو كفارة منوّنا بالرّفع.

و وجه القراءة الاولى، فهو أنّه تعالى لمّا خيّر المكلّف بين ثلاثة أشياء: الهدي و الصيام و الطّعام حسنت الإضافة، لكون الكفّارة من هذه الأشياء، و أمّا وجه التّنوين فهو أنّه عطف على قوله: «فجزاؤ» فيكون «طَعامُ مَساكِينَ» عطف بيان؛ لأنّ الطّعام هو الكفّارة و لم تصف الطعام لأنّ الكفّارة ليست للطعام، و إنّما الكفّارة لقتل الصّيد.

[أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً] و ذلك إشارة إلى الطعام و «صِياماً» منصوب على التمييز للعدل، «واو» عطف على «طعام مساكين» و عدل بكسر العين: المثل من جنسه، و العدل بالفتح:

المثل من غير جنسه، فحاصل معنى الآية أنّ من جنى هذه الجناية فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النّعم، أو طعام مساكين حسب ما ذكر، أو صيام أيّام بعدد المساكين المطعمين و فيه قولان أيضا: أحدهما أن يصوم عن كل مد يقوّم من الطّعام يوما، و هو

ص: 92

مذهب الشّافعيّ، و الآخر أن يصوم عن كل مديّن يوما، و هو المرويّ عن أئمّتنا و هو مذهب أبي حنيفة.

ثمّ اختلفوا في هذه الكفّارات الثلاث هل هي مرتّبة أم مخيّرة؟ قيل: مخيّرة، و قيل: مرتّبة، و حجّة القائل بالتّخيير أنّ كلمة «أو» في أصل اللّغة للتّخيير، و القول بأنّها للتّرتيب ترك للظّاهر، و حجّة القائلين بالتّرتيب أنّ كلمة «أو» قد تجي ء لغير معنى التّرتيب، كما في قوله: «أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ» (1) فإنّ المراد منه تخصيص كلّ واحد من هذه الأحكام للمحارب بحالة معيّنة، فثبت أنّ هذا اللّفظ يحتمل التّرتيب؛ و قالوا: و الدليل دلّ على أنّ المراد هو الترتيب، لأنّ الواجب هنا حكم و شرّع على سبيل التّغليظ بدليل قوله: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ و التّخيير ينافي التّغليظ، و أجابوا عنه بأنّ إخراج المثل ليس أقوى عقوبة من إخراج الطّعام، فالتّخيير لا يقدح في القدر الحاصل من العقوبة في إيجاب المثل، و أمّا في موضع التّقويم فقال أكثر الفقهاء من العامّة: إنّما يقوّم في المكان الّذي قتل الصيد فيه؛ و قيل: يقوّم بمكّة.

[لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي عقوبة ما فعله و وخامة أمره و ثقله، يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه و خامة، و ماء وبيل إذا لم يستمرّ، و إنّما سمّي الجزاء و بالا مع أنّها عبادة و نعمة و مصلحة، لأنّه تعالى شدّد عليهم التّكليف و ثقل ذلك عليهم، كما حرّم الشّحم على بني إسرائيل لمّا اعتدوا في السّبت فثقل ذلك عليهم، و إن كان مصلحة، لأنّ اللّه كلّفهم و خيّرهم بين ثلاثة امور؛ اثنان منها يوجب نقصان المال و هما الجزاء بالمثل و الإطعام، و الثّالث يوجب إيلام البدن و هو الصوم.

[عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من أمر الجاهليّة، و قيل: المعنى: عفا اللّه عمّا سلف منهم قبل أن يسألوا رسول اللّه، فإن قيل: إنّهم قبل التّحريم ما كانوا خاطئين حتّى يعفوا و ذلك لأنّهم كانوا قبل الإسلام متعبّدين بشرائع من قبلهم و كان الصّيد فيها محرّما.

[وَ مَنْ عادَ] إلى قتل الصّيد بعد النّهي عنه و هو محرم [فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ خبر مبتدأ

ص: 93


1- المائدة: 33.

محذوف، أى فهو ينتقم اللّه منه، و المراد بالانتقام: التّعذيب في الآخرة، و اختلف في لزوم الجزاء بعد العود: قال ابن عبّاس و الحسن: لا جزاء عليه، و يقولون: إنّ ذنبه أعظم من أن يكفّره التصدّق بالجزاء، و على هذا القول يكون المراد من قوله: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ» في المرّة الاولى بسبب أداء الجزاء، و من عاد إليه مرّة ثانية و صاد فلا كفّارة لجرمه، بل اللّه ينتقم منه.

و حجّة هذا القول أن الفاء في قوله: «فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ» فاء الجزاء و الجزاء هو الكافي، و كونه كافيا يمنع من وجوب شي ء آخر فلا يجب الجزاء عليه، قال الطبرسيّ: و هذا القول هو الظاهر من روايات أصحابنا، و قيل: إنّه يلزمه الجزاء، عن عطا و سعيد بن جبير و إبراهيم، و به قال بعض أصحابنا، [وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ غالب في حكمه ينتقم ممّن تعدّى أمره و يرتكب نهيه.

[سورة المائدة (5): آية 96]

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

قوله تعالى:

المراد بالصيد المصيد، علي بالبحر جميع المياه، و العرب تسمّي النهر بحرا أي أبيح لكم، و الخطاب للمحرمين و إن كان غير المحرم داخلا فيه. صيد الماء: الطريّ منه [وَ طَعامُهُ أي طعام البحر، ثمّ اختلف في معناه، فقيل: يريد به ما قذفه البحر ميتا؛ و قيل: يريد بصيد البحر السّمك الطريّ و بطعامه المملوح، عن سعيد بن المسيّب و سعيد بن جبير و مجاهد، و هذا الّذي بمذهبنا، و إنّما سمّي طعاما لأنّه يدّخر ليطعم و يؤكل كالمعتاد من الأغذية.

قال الطبرسيّ: فيكون المراد بصيد البحر: الطريّ و بطعامه: المملوح، لأنّ عندنا لا يجوز أكل ما يقذف البحر ميتا للمحرم و غير المحرم؛ و قيل: المراد بطعامه ما ينبت بمائه من الزروع و الثّمار.

قوله: [مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ] في انتصاب «متاعا» قال الزجّاج: انتصب لكونه مصدرا مؤكّدا، و لمّا قال سبحانه: «أُحِلَّ لَكُمْ» كان دليلا على أنّه منعم به و ذكر «مَتاعاً لَكُمْ» تصريحا بأنّه أنعم عليكم؛ و قال صاحب الكشّاف: انتصب لكونه مفعولا له، أى احلّ

ص: 94

لكم تمتيعا لكم و منفعة و للسيّارة، أي للمقيم و المسافر؛ فالطريّ للمقيم و المالح للمسافر؛ و قيل: معناه لأهل الأمصار و القرى؛ و قيل: للمحلّ و المحرم [وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً] اتّفق المسلمون على أنّ المحرم يحرم عليه الصّيد بنصّ الآية و اختلفوا في الصيد الّذي يصيده المحلّ هل يحلّ للمحرم؟ قال عليّ عليه السلام و ابن عبّاس و سعيد بن جبير و طاوس و جماعة: إنّه يحرم بكلّ حال للمحرم، و عوّلوا فيه على قوله تعالى في هذه الآية: «وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» و ذلك لأنّ صيد البرّ يدخل فيه ما اصطاده المحرم و المحلّ و كلّ ذلك صيد البرّ، هذا أحد الأقوال و عليه المعتمد؛ و قيل: إنّ لحم الصيد لا يحرم على المحرم إذا صاده غيره، و هذا القول عن عمر و عثمان و الحسن؛ و قال الشافعيّ: إنّ لحم الصّيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم و لا يصطاد له.

و اعلم أنّ صيد البحر هو الّذي لا يعيش إلّا في الماء، و ليس كلّه حلالا أكله، و أمّا الّذي لا يعيش إلّا في البرّ و الّذي يمكنه أن يعيش في البرّ تارة و في البحر اخرى فذاك كلّه صيد البرّ فعلى هذا فمثل السلحفاة و السرطان و الضفدع و طير الماء و أمثالها كلّ ذلك يحسب من صيد البرّ و يجب على قاتله الجزاء إذا كان محرما.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ و المقصود من الآية التهديد ليكون المرء مواظبا على الطاعة محترزا عن المعصية.

[سورة المائدة (5): آية 97]

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (97)

قوله تعالى:

اتّصال هذه الآية بما قبلها هو أنّ اللّه تعالى لمّا حرّم في الآية المتقدّمة الاصطياد على المحرم بيّن في هذه الآية أنّ الحرم كما أنّه سبب لأمن الوحش و الطير فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات و المخافات، و سبب لحصول الخيرات و السعادات.

قرأ ابن عامر: «قيما» بغير ألف، و الباقون بالألف: قياما. و سمّيت الكعبة كعبة لتربيعها، (1) و الكعوبة النتوّ و منه كعب الإنسان لنتوّه، و كعبت المرأة: إذا نتا ثديها

ص: 95


1- و هو مروى في الفقيه مرسلا في باب علل الحج: 201.

و العرب تسمّي كلّ بيت مربّع كعبة، و إنّ المتفرّد من البنيان يسمّى كعبة لنتوّه من الأرض، و البيت الحرام سمّي بذلك لأنّ اللّه تعالى حرّم أمورا فيها و عظّم حرمته، و في الحديث: مكتوب في أسفل المقام: إنّي أنا اللّه ذو بكّة حرّمتها يوم خلقت السماوات و الأرض و يوم وضعت هذين الجبلين و حففتها بسبعة أملاك ضياء، من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقّه مذعنا لي بالربوبيّة حرّمت جسده على النّار.

المعنى: [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ] أي حكم و صيّر الكعبة و حجّها [الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح دون التوضيح كما يجي ء الصفة كذلك، و الحرام بمعنى المحرّم.

قال الحقّيّ في تفسيره المسمّى بروح البيان: و قد جاء في بعض التفاسير في قوله:

«ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (1) أنّه لم تجبه بهذه المقالة من الأرض إلّا أرض الحرم؛ فلذلك حرّمها فصارت حرمتها كحرمة المؤمن إنّما حرّم دمه و عرضه و ماله بسبب طاعته لربّه، فأرض الحرم لمّا قالت: أتينا طائعين حرّم صيدها و شجرها؛ و في الخبر أنّه لم يأكل الحيتان الكبار صغارها في أرض الحرم في الطوفان لحرمتها [قِياماً لِلنَّاسِ و أصله قوام لأنّه من قام يقوم مصدر كالصيام فإذا صحّ قلب حرف العلّة في الفعل صحّ في مصدره، و إذا اعتلّ في الفعل اعتلّ في مصدره و ذكروا في كون الكعبة سببا لقوام مصالح النّاس وجوها:

منها أنّ أهل مكّة كانوا محتاجين إلى حضور أهل الآفاق عندهم ليشتروا منهم ما يحتاجون إليه. فاللّه تعالى جعل الكعبة معظّمة في القلوب حتّى صاروا أهل الدنيا راغبين في زيارتها، مسافرين إليها من كل فجّ عميق لأجل التجارة و صار ذلك سببا لإسباغ النعم على أهل مكّة.

الثاني أنّ العرب كانوا يتقاتلون و يغزون إلّا في الحرم، فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم و على أموالهم حتّى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يتعرّض له، و لو جنى الرجل أعظم الجنايات ثمّ التجأ إلى الحرم لم يتعرّض له، كما قال سبحانه:

ص: 96


1- فصلت: 11.

«أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (1).

الوجه الثالث أنّه تعالى جعل الكعبة قواما للناس في دينهم بسبب ما جعل فيها من المناسك العظيمة و الطاعات الشريفة، و جعل تلك المناسك سببا لحطّ الذنوب و رفع الدرجات و كثرة الكرامات، و الآية محمولة على جميع هذه الوجوه؛ و من المعلوم أنّ قوام امور الناس إمّا بكثرة المنافع و هو الوجه الأوّل، أو بدفع المضارّ و هو الوجه الثاني، أو بحصول الدين و السعادة و هو الوجه الثالث، فصارت الكعبة سببا لقوام الناس و المراد من الناس بعض الناس و هم العرب، و إنّما حسن هذا المجاز لأن أهل كلّ بلد إذا قالوا: الناس فعلوا كذا و صنعوا كذا فإنّهم لا يريدون إلّا أهل بلدتهم، فلهذا السبب خوطبوا على وفق عادتهم.

و قيل: إنّ معنى قياما للنّاس أنّهم لو تركوه عاما واحدا لا يحجّونه ما نوظروا أن يهلكوا عن عطا، و رواه عليّ بن إبراهيم عنهم عليهم السلام: مادامت الكعبة يحجّ الناس إليها لم يهلكوا فإذا هدمت و تركوا الحجّ هلكوا. (2) [وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ يعني أشهر الحرم و هي أربعة: واحد فرد و ثلاثة سرد أي متتابعة فالفرد رجب و السرد ذو القعدة و ذو الحجّة و المحرّم، و إنّما خرج مخرج الواحد لأنّه ذهب به مذهب الجنس و هو عطف على المفعول الأوّل لجعل أي و جعل الشهر الحرام الّذي يؤدّى فيه الحجّ قياما لهم أيضا، مثل قولك: ظنت زيدا منطلقا و عمرو، فالشهر الحرام أيضا سبب لقوام النّاس و ذلك لأنّه إذا دخل الشهر الحرام زال الخوف منهم و قدروا على الأسفار و التجارات و صاروا آمنين على أنفسهم و أموالهم و يحصلون فيه من الأقوات ما كان يكفيهم طول السنة، فلو لا حرمة الشهر لهلكوا و تفانوا من الشدّة و الجوع بزيادة اكتساب الثواب العظيم إذا أقاموا مناسك الحجّ.

قوله: [وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ] أي و جعل اللّه الهدي أيضا قياما لهم و هو ما يهدى إلى

ص: 97


1- العنكبوت: 67.
2- رواه مرسلا على بن ابراهيم في: 147 من تفسيره المطبوع. و في الفقيه «ص: 258» عن حنان بن سدير قال ذكرت لأبي جعفر عليه السلام البيت فقال: لو عطلوه سنة واحدة لم يناظروا. و في خبر آخر ينزل (لنزل خ ل) عليهم العذاب.

البيت و يذبح هناك و يفرّق لحمه بين الفقراء، فهو قوام لمعيشة الفقراء. و القلائد أي و جعل القلائد أيضا قياما للنّاس، و هي جمع قلادة و هي ما يقلّد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو علامة ليعلم أنّه هدي فلا يتعرّض له بركوب أو حمل، و المراد بالقلائد ذوات القلائد و هي البدن و البقرة و الأضاحيّ، و وجه كون القلائد سببا لقوام النّاس أنّ من قلّد هديا لم يتعرّض له أحد، و ربما كانوا يقلّدون رواحلهم إذا رجعوا من مكّة من لحاء شجر الحرم، فيأمنون بذلك، فكان أهل الجاهليّة يأكل الواحد منهم القضيب و الشجر من الجوع و هو يرى الهدي و القلائد فلا يتعرّض له تعظيما، فكانت هذه الأمور دالّة على عظمة البيت و شرفه.

[ذلِكَ لِتَعْلَمُوا] إشارة إلى الجعل منصوب بفعل مقدّر أي شرع اللّه ذلك و بيّن لتعلموا [أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنّ تشريع هذه الشرائع لدفع المضارّ الدينيّة و الدنيويّة قبل وقوعها من أوضح الدّلائل على حكمة الشارع، و على عدم خروج شي ء من علمه المحيط، فإنّه تعالى لمّا علم في الأزل أنّ مقتضى عادة العرب و حرسهم الشديد على القتل و الغارة و أنّه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه، و لأدّى ذلك إلى فنائهم و انقطاعهم بالكلّيّة دبّر في ذلك تدبيرا لطيفا و هو أنّه ألقى في قلوبهم اعتقادا قويّا في تعظيم البيت، فصار ذلك سببا لحصول الأمن في البلد الحرام و في الأشهر الحرم، فاستقامت بذلك مصالح معاشهم و قلّت مفسدتهم، و ذلك التدبير بسبب علمه الأزليّ بجميع المعلومات من الجزئيّات و الكلّيات و لهذا قال سبحانه: «ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ» ثمّ قال [وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ تعميم بعد تخصيص للتّأكيد و ما أحسن هذا الترتيب في هذا البيان!.

[سورة المائدة (5): الآيات 98 الى 99]

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (99)

لمّا ذكر سبحانه رحمته لعباده عقّبه بذكر الوعيد و الوعد فقال: [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن انهتك محارمه و عصاه [وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و أناب و انقطع

ص: 98

عن الانتهاك و أطاع و جمع بين الوعيد و الوعد لأنّ الإيمان لا يتمّ إلّا بالخوف و الرجاء كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لو وزن خوف المؤمن و رجاؤه لاعتدلا. (1) ثمّ ذكر ما يدلّ على الرحمة و هو كونه غفورا رحيما، و في الآية إشعار بأنّ جانب الرحمة أغلب لأنّه اتي بوصفين من أوصاف الرحمة، و لمّا أنذر و بشّر عقّبه بقوله: [ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ و أداء الرسالة و بيان الشريعة، فأمّا القبول و الردّ فهما من شأن المكلّف [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ و لا يخفى عليه شي ء من أحوالكم الّتي تظهرونها و تخفونها، و في قوله: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» دلالة على وجوب معرفة العقاب و الثواب لكونهما لطفا في باب التكليف.

[سورة المائدة (5): آية 100]

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

قوله تعالى:

النزول: لمّا بيّن سبحانه الترغيب في الطاعة و التنفير عن المعصية بقوله: «وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ» بيّن في هذه الآية أنّ الحلال و الحرام لا يستويان، قيل:

نزلت الآية في حجّاج اليمامة لمّا همّ المسلمون أن يوقعوا بهم، و ذلك بسبب أنّه كان فيهم رجل يقال له الحطيم و قد أتى المدينة في السّنة السابقة، و استاق سرح المدينة فخرج في العام القابل- و هو عام عمرة القضاء- حاجّا، فبلغ ذلك أصحاب السرح، فقالوا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم: هذا الحطيم خرج حاجّا مع حجّاج اليمامة فخلّ بيننا و بينه، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه قلّد الهدي و ما أذن لهم أن يوقعوا به بسبب استحقاقهم الأمن من بتقليد الهدايا فنزلت الآية تصديقا له صلى اللّه عليه و آله و سلّم في نهيه إيّاهم عن تعرّض الحجّاج و إن كانوا مشركين، و قد مضت هذه القصّة في أوّل السورة أيضا عند تفسير قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ»، و بقي حكم هذه الآية إلى أن نزلت سورة البراءة فنسخ بنزولها لأنّه قد كان فيها: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» (2) و فيها أيضا: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» (3) فنسخ حكم الهدي و القلائد و الشهر

ص: 99


1- و في هذا المعنى روايات رواها الكلينى في الأصول من الكافي «ج 2: 67- 71.»
2- التوبة: 28.
3- التوبة: 5.

الحرام و الإحرام و أمنهم بدون الإسلام، و تبدّل الحكم بعد نزول سورة البراءة.

و بالجملة ففي الآية ترغيب في الجيّد و الحلال، و تحذير عن الردي، و الحرام.

و يتناول الخبيث و الطيّب أمورا كثيرة فمنها الحلال و الحرام؛ فمثقال حبّة من الحلال أرجح عند اللّه من مل ء الدنيا من الحرام، و كيف و هو خبيث مردود، و الحلال طيّب مقبول؟

و طالب الخبيث خبيث و طالب الطيّب طيّب؟ كما قال سبحانه: «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ» (1) الآية، و أيضا الخبيث من الأموال ما لم يخرج منها حقّ اللّه، و الطيّب ما أخرجت منه الحقوق، و الخبيث ما أنفق في وجوه الفساد، و الطيّب ما أنفق في وجوه الطاعات [وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يعني أنّ الّذي يكون خبيثا في عالم أحكام اللّه و في نواهيه قد يكون طيّبا و عظيم اللّذّة عندك أيّها الإنسان، إلّا أنّه مع لذّته و كثرة مقداره سبب لحرمان السعادات الباقية، و مورث للعقاب الدائم لكنّ الباقيات الصالحات الطيّبات خير عند ربّك [فَاتَّقُوا اللَّهَ و اجتنبوا الخبائث و ما حرّم اللّه عليكم [يا أُولِي الْأَلْبابِ و ذوي العقول [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفوزوا و تفلحوا بالنّعيم المقيم و الثواب العظيم.

قال أهل المعرفة: حقيقة التّقوى هو صدق قولك: لا إله إلّا اللّه و ليس في قلبك شي ء سواه، و من وصايا بعض الكاملين قبل وفاته: اوصيكم بتقوى اللّه في السرّ و العلانية و بقلّة الطعام و بقلّة المنام و بقلّة الكلام و هجر المعاصي و الآثام، و ترك الشّهوات على الدوام و احتمال الجفاء من جميع الأنام، و بترك مجالسة السفهاء و دوام مصاحبة الصالحين الكرام، فإنّ خير النّاس من ينفع النّاس و خير الكلام ما قلّ و دلّ، و اعلم أنّ اللّه يحبّ أن تعمل برخصه كما تعمل بفرائضه.

[سورة المائدة (5): آية 101]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

قوله تعالى:

ص: 100


1- النور: 26.

روي أنّه لمّا نزلت آية الحجّ و هي: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» (1) قال سراقة بن مالك: (2) أ كلّ عام؟ فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أعاد ثلاثا فقال:

لا و لو قلت: نعم لوجب و لو وجب لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم؛ فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم (3) على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه فنزلت و عن ابن عبّاس انّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخطب ذات يوم غضبان كثرة ما يسألون عنه ممّا لا يعنيهم، فقال: لا اسأل عن شي ء إلّا أجبت، فقال رجل: أين أبي؟ فقال: في النّار، و قال آخر: من أبي فقال: حذافة- و كان يدعا لغيره- فنزلت.

و ذكر الرّازيّ أنّ الآية لعلّها متّصلة في النظم بقوله: «وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ» أي فاتركوا الأمور على ظواهرها، و لا تسألوا عن أحوال خفيّة إن تبد لكم تسؤكم، و إن شرطيّة و المعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم و إن تظهر لكم تغمّكم و «أشياء» جمع شي ء غير منصرفة؛ قال الخليل و سيبويه: شي ء جمعه في الأصل شياء على وزن فعلاء فاستثقلوا اجتماع الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة الاولى الّتي هي لام الفعل إلى أوّل الكلمة فجعلت لفعاء تشبيها بالمعدول كما في: عامر و عمر، و زافر و زفر؛ قال الرازيّ: إنّه لمّا كانت في الأصل على وزن فعلاء مثل حمراء لا جرم لم تنصرف- كما لم تنصرف حمراء- و أيضا إنّا لمّا قطعنا الحرف الأخير منه و جعلناه أوّله و الكلمة من حيث إنّها قطع منها الحرف الأخير صارت كنصف الكلمة و نصف الكلمة لا يقبل الإعراب، و من حيث إنّ ذلك الحرف الذي انقطع منها ما حذف بالكلّيّة بل الصق بأوّلها كانت الكلمة كأنّها باقية بتمامها فلا جرم منعت بعض وجوه الإعراب دون البعض تنبيها على هذه الحالة، لكنّ الكسائيّ قال: إنّ «أشياء» على وزن أفعال إلّا أنّهم لم يصرفوه لكونه شبيها في الظاهر بحمراء و صفراء.

ص: 101


1- آل عمران: 97.
2- قال في مجمع البيان: فقام عكاشة بن محصن و قيل: سراقه بن مالك اه «ج 3: 250»
3- اختلف الى المكان: تردد.

قوله تعالى: [عَفَا اللَّهُ عَنْها] أي عفا اللّه عن تبعة سؤالكم الّذي سلف منكم ممّا كرهه النبيّ، استئناف مسوق لبيان أنّ نهيهم عنها لم يكن لمجرّد صيانتهم عن المساءة بل لأنّها في نفسه معصية مستتبعة للمؤاخذة و قد عفي عنها، و ضمير «عنها» راجع إلى المسألة المدلول عليها بقوله: «لا تَسْئَلُوا» [وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ فبالغ في مغفرة الذنوب و الإغضاء عن المعاصي حيث لم يؤاخذكم بعقوبة ما فرط منكم، فجملة قوله: «وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ» افتراض تذييليّ مقرّر لعفوه تعالى؛ و قال بعض المفسّرين: إنّ الآية نزلت في ما سألت الأمم أنبياءها من الآيات، و يؤيّده الآية الّتي بعدها.

[سورة المائدة (5): الآيات 102 الى 103]

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)

قوله:

أى سألوا هذه المسألة لكن لا عينها، بل مثلها في كونها محظورة و مستتبعة للوبال و عدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير [مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق ب (سألها) [ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها] أي بسببها [كافِرِينَ فإنّ بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء؛ فإذا أمروا تركوها فهلكوا، كما سأل قوم ثمود صالحا الناقة، و سأل قوم عيسى مائدة ثمّ كفروا بها، عن ابن عبّاس، أو إنّ قريشا سألوا النبيّ عن مثل هذه الأشياء، مثل سؤال ذلك الرجل عن حال أبيه فلمّا أخبرهم بذلك قالوا: ليس الأمر كذلك فكفروا بالردّ على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

فإن قيل: ما الّذي يجوز أن يسأل عنه، و ما الّذي لا يجوز أن يسأل عنه؟ فالجواب أنّ الّذي يجوز السؤال عنه هو ما يجوز العمل به، و ما لا يجوز في الأمور الدينيّة و الدّنيويّة فلا يجوز أن يسأل الإنسان من النبيّ أنّه من أبي؟ لأنّ المصلحة اقتضت أن يحكم على كلّ من ولد على فراش إنسان بأنّه ولده و إن لم يكن مخلوقا من مائه. أو أنّ جبرئيل هل خلقة رأسه مثل خلقة رأسنا؟ و أمثال هذه السؤالات و قيل: في معنى الآية المتقدّمة تقديم و تأخير، و التقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا اللّه عنها إن تبد لكم تسؤكم، قال الرازيّ. و هذا القول ضعيف، لأنّ الكلام إذ استقام

ص: 102

من غير تغيّر النظم لم يجز المصير إلى التقديم و التأخير.

قوله تعالى: [ما جَعَلَ اللَّهُ و «جعل» يستعمل في معان: أحدها: الحكم، و منه قوله: «وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (1) و ثانيها: الخلق، و منه قوله:

«وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ» (2) و بمعنى التقصير مثل قوله: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» (3) فمعنى قوله: «ما جَعَلَ اللَّهُ» أي ما حكم و لا شرع و لا أمر به.

ثمّ ذكر أربعة أشياء- و [من مزيدة للتأكيد في النفي-: [بَحِيرَةٍ] و هي فعيلة من من البحر و هو الشقّ يقال: بحر ناقته إذا شقّ اذنها و هي بمعنى المفعول و ذلك أنّه إذا أنتجت النافة خمسة أبطن و كان آخرها ذكرا شقّوا اذنها و امتنعوا من ركوبها و ذبحها و سيّبوها لآلهتهم و لا يجزّ لها و بر، و لا يحمل على ظهرها و لا تطرد عن ماء و لا تمنع عن مرعى و لا ينتفع بها و إذا لقيها المعيى لم يركبها تحريجا.

و لا سائبة هي فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال: سابت الحيّة و ساب الماء إذا جرى فالسائبة هي الّتي تركت حتّى تسبّب إلى حيث شاءت و هي المسيّبة ك «عِيشَةٍ راضِيَةٍ»* أي مرضيّة. قال أبو عبيدة: إنّ الرجل إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو وصل نعمة و شكر اللّه سيّب بعيرا فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها، عن الزجّاج و هو قول علقمة؛ و قيل: هي الّتي تسيّب للأصنام أي تعتق لها، و كان الرجل يسيّب من ماله يشاء فيجي ء به الى السدنة و هم خدمة آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل و نحو ذلك، عن ابن مسعود و ابن عبّاس؛ و قيل: إنّ السائبة هي النافة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهنّ ذكر سيّب فلم يركبوها و لم يجزّوا و برها و لم يشرب لبنها إلّا الضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقّ اذنها ثمّ يخلّى سبيلها مع امّها و هي البحيرة؛ عن محمّد بن إسحاق.

[وَ لا وَصِيلَةٍ] و هي في الغنم؛ كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، و إذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكرا و أنثى قالوا: وصلت أخاها و استحيوا الذكر من أجل الأنثى

ص: 103


1- الزخرف: 19.
2- الانعام: 1.
3- الزخرف: 2.

و لم يذبحوه لآلهتهم؛ و قيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جديا ذبحوه لآلهتهم و لحمه للرجال دون النساء، و إن كان عناقا استحيوها و كان في عرض الغنم، و إن ولدت في البطن السابع جديا و عناقا قالوا: إنّ الاخت وصلت أخاها فحرّمتا جميعا، و كانت المنفعة و اللّبن للرّجال دون النساء؛ و قال محمّد بن إسحاق: الشاة إذا نتجت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث.

[وَ لا حامٍ و هو الذكر من الإبل، كانت العرب إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه و لا يمنع من ماء و لا مرعى، عن ابن عبّاس و ابن مسعود؛ و قيل: إنّه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب عن الفرّاء، و اللّه تعالى لم يحرّم من هذه الأشياء شيئا و كلّها من آثار الجاهليّة و الشرك.

فإن قيل: إذا جاز إعتاق العبيد و الإماء فلم لا يجوز إعتاق هذه البهائم من الذبح و الإتعاب و الإيلام؟: فالجواب أنّ الإنسان مخلوق لخدمة اللّه و عبوديّته فإذا تمرّد عوقب بضرب الرقّ عليه فإذا ازيل الرقّ عنه تفرّغ لعبادة اللّه فكان ذلك أمر مستحسن، و أمّا هذه الحيوانات فإنّها مخلوفة لمنافع المكلّفين فتركها و إهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها من غير أن يحصل في مقابلتها فائدة فظهر الفرق، و أيضا إنّ الإنسان إذا كان عبدا فأعتق قدر على تحصيله مصالح نفسه، و أمّا البهيمة إذا تركت و أهملت لم تقدر على رعاية مصالح نفسها فوقعت في أنواع من المحنة أشدّ و أشقّ ممّا كانت فيها حال ما كانت مملوكة فظهر الفرق.

قوله تعالى: [وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ هذا إخبار من اللّه بأنّ الكفّار يكذبون على اللّه بادّعائهم أنّ هذه الأمور من أمره تعالى [وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ خصّ الأكثر لأنّهم أتباع و لا يعقلون أنّ ذلك كذب كما يعقله رؤساؤهم، و الجهلة يتّبعون الرؤساء و لا يعقلون ما حرّم اللّه عليهم و ما حلّل لهم، قال الطبرسيّ:

و في هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبّرة؛ لأنّه سبحانه نفى أن يكون جعل البحيرة و غيرها، و عندهم أنّه هو الجاعل لذلك و الخالق له، لأنّه تعالى بيّن أنّ هؤلاء قد

ص: 104

كفروا بهذا القول و افتروا على اللّه و نسبوا إليه تعالى ما ليس بفعل له انتهى.

قال المفسّرون: إنّ عمرو بن لحيّ بن قمعة الخزاعيّ كان قد ملك مكّة و كان أوّل من غيّر دين إسماعيل فاتّخذ الأصنام و نصب الأوثان و شرع البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: فلقد رأيته في النّار يؤذي أهل النّار بريح قصبه- و القصب: المعى و جمعه الأقصاب- و يروى: يجرّ قصبته في النار، قال ابن عبّاس: قوله:

«يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» يريد عمرو بن لحيّ و أصحابه يقولون على اللّه هذه الأكاذيب في في تحريمهم هذه الأنعام و ما استحدثه أهل الضّلالة.

[سورة المائدة (5): آية 104]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (104)

قوله تعالى:

قال الرازيّ: الواو في قوله: «أَ وَ لَوْ كانَ» و او الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار و قيل: للعطف، و التقدير: أحسبهم ذلك و لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا و لا هم يهتدون؟

يعني: الأمر كذلك و هو ردّ على أصحاب التقليد في الأصول؛ فإنّ الاقتداء إنّما يجوز بالعالم المهتدي في الفروع إذا بنى قوله على الحجّة و الدليل، فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالما مهتديا فوجب أن لا يجوز الاقتداء به.

[سورة المائدة (5): آية 105]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

لمّا بيّن التكاليف و الأحكام و قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل اللّه و إلى الرّسول قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فكانّه قال سبحانه: إنّ هؤلاء الجهّال بقوا مصرّين على جهالتهم و ضلالتهم فلا تبالوا أيّها المؤمنون بجهالتهم بل كونوا منقادين لتكاليف اللّه، فلا يضرّكم ضلالتهم، فلهذا قال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أي ألزموا و احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي؛ قال النحويّون: كلمة «عليك و عندك و دونك» من أسماء الأفعال و يقيمونها مقام الفعل و ينصبون بها الاسم الواقع بعدها على المفعوليّة

ص: 105

و معناها الإغراء، و قد يقيم العرب غير هذه الأحرف مقام الفعل لكن لا تعدّيه إلى المفعول نحو قولهم: إليك عنّي أي تأخّر عنّي و «وراك» بمعناه، و لا يجوز ذلك إلّا في الخطاب.

و لا «يضرّكم» الأصل فيه: لا يضرركم و قرء بصيغة النّهي و في ذلك أربع لغات: ضارّه يضورّه، ضارّه يضيرّه، ضرّه يضرّه، ضرّه يضرّه، و حاصل المعنى: احفظوا أنفسكم و ألزموها عن المعاصي و لا يضرّكم ضلال من ضلّ من آبائكم و غيرهم إذا كنتم مهتدين.

فلو قيل: إنّ ظاهر الآية يوهم أنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر غير واجب فالجواب أنّ الآية لا تدلّ على ذلك بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يكون مؤاخذا بذنوب العاصي فأمّا وجوب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر فثابت بالدلائل.

قال عبد اللّه بن المبارك: هذه الآية أوكد آية في وجوبهما فإنّه قال: عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا و يرغّب بعضكم بعضا في الخيرات و ينفّره عن القبائح لأنّ قوله: «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» معناه احفظوا أنفسكم فإذا لم يكن هذا الحفظ إلّا بالأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر كان ذلك واجبا و المؤمنون كنفس واحدة و قيل: وجه آخر و هو أنّ الآية مخصوصة بالكفّار الّذين علم أنّه لا ينفعهم التذكّر و لا يتركون الكفر بسبب الأمر و النّهي فعند ذلك لا يجب على الإنسان أن يأمرهم و ينهاهم أو أنّ الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر و النّهي على نفسه أو على عرضه أو على ماله و أيضا في الآية وجه آخر و هو أنّ قوله: «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» يعني من أداء الواجبات الّتي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة فإن لم يقبلوا ذلك منكم فلا يضرّكم ضلال غيركم و لا ينبغي أن تستوحشوا من ذلك؛ فإنّكم خرجتم عن عهدة التكليف، و أنّ اللّه قال لرسوله: «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ» و ذلك لا يدلّ على ثبوت الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فكذا هاهنا. و روي عن ابن مسعود و ابن عمر وجه آخر في تأويل الآية؛ قالا: قوله: «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» يكون في آخر الزمان.

قال الرازيّ: و هذا الوجه ضعيف؛ لأنّ قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» خطاب عامّ و هو أيضا خطاب مع الحاضرين فكيف يخرج و يخصّ الغائب؟ و روي أنّ أبا ثعلبة سأل رسول

ص: 106

اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عن هذه الآية فقال: ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتّى إذا رأيت دنيا مؤثّرة و شحّا مطاعا و هوى متّبعا و إعجاب كلّ ذي رأي رأيه فعليك بخويصة نفسك؛ (1) و قد روي أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوما على المنبر: يا أيّها النّاس إنّكم تقرؤون هذه الآية و تضعونها في غير موضعها و لا تدرون ما هي إنّ النّاس إذا رأوا منكرا فلم يغيّروه عمّهم اللّه بعقاب فأمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر أو ليستعملنّ اللّه عليكم أشراركم فيسومونكم سوء العذاب ثمّ ليدعنّ خياركم فلا يستجاب لهم. و بالجملة إنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر فرض لا يسقط إلا عند العجز عن ذلك.

[إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً] أي إليه مصيركم و مصير من خالفكم [فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم بأعمالكم هو وعد و وعيد للفريقين المهتدين و الضالّين، و اعلم أنّ الآمر و النّاهي لا بدّ و أن يعرف المعروف و المنكر حتّى لا يأمر بالمنكر و هو يحسبه معروفا، و لا ينهى عن المعروف و هو يحسبه منكرا و يشتغل بتزكية نفسه قبل الخلق، فالهادي الجاهل هدايته إضلال كبعض الدّجاجلة الّذين في زماننا من المتصوّفة حيث يغرّون النّاس بكلمات متشابهة و ضلالات مبتدعة، و العوامّ الجهلة يقتدون بهم يرفعون لجام الشريعة و قيد بعض التّكاليف عن أنفسهم و هم يدّعون أنّهم أهل الحقّ؛ فتارة يبيحون المحرّمات و اخرى يستحرمون المحلّلات بالرياضات المبتدعة فيظنّون أنّهم بلغوا مقام الوحدة و أنّهم مجنّبون عن النقصان و لا يضرّهم مخالفات الشريعة؛ إذ هم بادّعائهم وصلوا إلى مقام الحقيقة و هم غافلون عن اللّه و جاهلون بالأمر و لم يعلموا أنّ مقام الحقيقة لا يحصل الّا بامتثال أوامر الشريعة بأسرها و ليس مقام إلّا مقام العبوديّة و هو الامتثال بالسنن و الباقي ترّهات و اصطلاحات موضوعة كثّرها الجاهلون و لا رخصة لأحد فيها و العاملون بهذه المجعولات أهل الخديعة، و لقد شاع في الآفاق هذه الفتنة بحيث ضاع تمام الأصول و الفروع منها و ماله من دافع، فإذا كان هذا حال من يدّعي الإيمان فكيف بحال الزنادقة و الطبيعيّين و الملاحدة؟

فيا للّه و للإسلام! و إنّ الخرق قد اتّسع على الراقع خصوصا منذ توسّعت دائرة نطاق

ص: 107


1- رواه في تفسير البرهان «ج 1: 507» مرسلا عن مصباح الشريعة.

الحرّيّة فعلى الإسلام فليبك الباكون و ليندب النادبون.

أرى ألف بان لا يقوم لهادم فكيف ببان خلفه ألف هادم

و بالجملة إنّ العالم و الهادي و الآمر و النّاهي لا بدّ و أن يكون يقوم بتكليفه في إرشاد الجاهل و تنبيه الغافل من طريق الشريعة حذو النعل بالنعل باحتياط وافر و جدّ متكاثر و لا يجعل هذا الشأن العظيم لعب الصبيان و ضحك الشيطان.

و في الصمت زين للخليّ و إنّماصحيفة لبّ المرء أن يتكلّما

[سورة المائدة (5): آية 106]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)

نزلت الآية في قصّة تميم الدارميّ و هي أنّ تميما و أخاه عديّا كانا نصرانيّين خرجا إلى الشام و معهما بديل مولى عمرو بن العاص و كان مسلما مهاجرا خرجوا للتجارة فلمّا قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه و ألقاه فيما بين الأقمشة و لم يخبر صاحبيه بذلك، ثمّ أوصى إليهما و أمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، فمات بديل فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشا بالذهب ثلاث مائة مثقال، و دفعا باقي المتاع إلي أهله لمّا قدما، ففتّشوا فوجدوا الصحيفة و فيها ذكر الإناء، فقالوا لتميم و عديّ: أين الإناء؟ فقالا: لا ندري، و الّذي دفع إلينا دفعناه إليكم، فرفعوا الواقعة إلي رسول اللّه فأنزل اللّه هذه الآية عن الواقديّ عن اسامة بن زيد عن أبيه و عن جماعة و و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام.

المعنى: لمّا أمر سبحانه في الآية السابقة في الإتيان بما أنزل اللّه علي رسوله عقّبه بذكر هذا الحكم المنزّل فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] قيل: في معنى الشهادة أقوال:

أحدها: أنّها الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكّام أي شهادة الخصومات الجارية بينكم، و «بين» ظرف أضيف إليه «شهادة» على طريق الاتّساع في الظروف

ص: 108

بأن يجعل الظرف مفعولا للفعل الواقع فيه فيضاف ذلك الفعل إليه على طريق إضافته إلى المفعول نحو «يا سارق اللّيلة» أي يا سارق في اللّيلة. و «شهادة» مرفوع على الابتداء و خبرها «اثنان» و المعنى: شهادة هذه الحالة شهادة اثنين فحذف «شهادة» و أقيم «اثنان» مقامها، و يجوز أن يكون التقدير: و فيما فرض عليكم في شهادتكم أن يشهد اثنان إذا حضر أحدكم الموت أي شارفه و ظهرت علائمه و الظرف متعلّق بالشهادة و لا يجوز أن يكون يتعلّق بالوصيّة لأنّ الوصيّة مصدر فلا يتعلّق به ما تقدّم عليه.

و الثاني من الأقوال أنّ الشهادة بمعنى الحضور فيكون تقدير الآية و ليشهدكم في سفركم إذا حضركم الموت و أردتم الوصيّة [اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صفة للاثنان أي صاحبا أمانة من أهل العدالة وصيّان، جعلهما اثنين تأكيدا للأمر في الوصيّة، منكم أي من أهل دينكم عن سعيد بن جبير و أبي زيد و قيل: المراد: من أقاربكم لأنّهم أعلم بحال الميّت و أنصح له.

و القول الثالث أنّ المراد شهادة إيمان باللّه أنّ أرباب الورثة بالوصيّة من قول القائل في اللّعان: أشهد باللّه أنّي لمن الصادقين. قال الطبرسىّ: و القول الأوّل أقوى و أليق بالآية.

و قال صاحب كتاب نظم القرآن: شهادة مصدر بمعنى الشهود كما يقال: رجل عدل و رجلان عدل و قدّر حذف المضاف فيكون المعنى: عدد شهود بينكم اثنان كقوله:

«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ» أي وقت الحجّ أشهر؛ و قال ابن جنّيّ: و يجوز أن يكون التقدير:

تقيموا شهادة بينكم اثنان، فيكون على هذين القولين حذف المضاف في المبتدأ و على القولين الأوّلين الحذف في الخبر.

[أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ اي من غير أهل ملّتكم، عن ابن عباس و سعيد بن المسيّب و سعيد بن جبير و مجاهد و شريح و ابن سيرين و إبراهيم و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السلام فيكون «أو» للتفصيل لا للتخيير، لأنّ المعنى: أو آخران من غيركم إن لم تجدوا شاهدين منكم و قيل: المعنى: ذوا عدل من عشيرتكم أو آخران من غير عشيرتكم و قالوا: لا يجوز شهادة كافر في سفر و لا حضر و اختاره الزجّاج و ذهب جماعة إلي أنّ

ص: 109

الآية كانت في شهادة أهل الذمّة فنسخت؛ و قد بيّن هذه الأقاويل أبو عبيدة ثمّ قال جلّ العلماء يتأوّلونها في أهل الذمّة و يرونها محكمة. قال الطبرسيّ و يقوّي هذه القول تتابع الأخبار في سورة المائدة بقلّة المنسوخ و أنّها من محكم القرآن و آخر ما نزل.

قوله تعالى: [إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي إن أنتم سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت و لمّا علم اللّه أنّ من الناس من يصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين أو ينزل القرية الّتي لا يسكنها غيرهم و يحضرهم الموت و لا يجدون شهودا من المسلمين فقال: أو آخران من غير أهل دينكم إن أنتم سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت فالعدلان من المسلمين للحضر و السفر إن أمكن إشهادهما، و الذمّيّان في السفر خاصّة إذا لم يوجد غيرهما ثمّ قال: [تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي تحبسونهما من بعد صلاة العصر لأنّ الناس كانوا يحلفون بالحجار بعد صلاة العصر لاجتماع الناس و تكاثرهم في ذلك الوقت و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام و قتادة و سعيد بن جبير و غيرهم و قيل: هي صلاة الظهر أو العصر عن الحسن و قيل: بعد صلاة أهل دينهما يعنى الذمّيّين عن ابن عبّاس و السدّيّ و معنى «تَحْبِسُونَهُما» تقفونهما كما تقول: مرّ بي فلان على فرس محتبس على دابّته أي وقفه و قيل: معناه تصيرونهما على اليمين و هو أن يحمّل علي اليمين إن شككتم أن يكونا قد غيّرا أو بدّلا أو خانا و الخطاب في تحبسونهما للورثة او الخطاب للقضاة و هو بمعنى الأمر أي احبسوهما. و الفاء في «فيقسمان» للجزاء أي فيقدمان لأجل ذلك الحبس على القسم [لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً] جواب القسم أي لا نأخذ به ثمنا و الضمير في «به» للّه أو لا نشتري بتحريف الشهادة ثمنا أي ذا ثمن لأنّ الثمن لا يشترى، و إنّما يشترى المبيع دون ثمنه و حاصل المعنى: لا نحلف باللّه كاذبين لأجل المال أو لاشتراء البيع، أي لا نبيعه بعرض من الدنيا؛ لأنّ من باع شيئا فقد اشترى ثمنه.

[وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى أي المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام و هو الميّت قريبا منّا في الرحم تأكيدا لتبّرئهم من الحلف كاذبا و مبالغة في التنزّه عنه و خصّ ذا

ص: 110

القربى بالذكر لأنّ الميل إليه أتمّ و المداهنة بسببهم أعظم و هو كقوله: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ». (1) [وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ عطف على قوله: «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً» يعني إنّهما يقسمان حال ما يقولان «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ» أي الشهادة التي أمر اللّه بحفظها و إظهارها [إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي إذا كتمناها كنّا من الآثمين أي العاصين.

[سورة المائدة (5): الآيات 107 الى 108]

فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)

قوله تعالى:

القراءة المشهورة: استحقّ بضمّ التاء و كسر الحاء و قرأ حفص وحده بفتح التاء و الحاء و كذلك القراءة المشهورة: الأوليان بصيغة التثنية؛ تثنية الأولى. و قرأ حمزة و عاصم: الأوليين بالجمع نعتا لجميع الورثة المذكورين في قوله: «مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ» و في اعراب كلمة الأوليان قيل فيه وجوه:

الأوّل أن يكون خبر المبتدأ محذوفا و التقدير: هما الأوليان و ذلك لأنّه لمّا قال: «فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما» و كانّه قيل: و من هما؟ فقيل: الأوليان.

و الثاني أن يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان و يكون التقدير: فيقوم الأوليان.

و الثالث: أجاز الأخفش أن يكون قوله «الأوليان» صفة لقوله: فآخران و ذلك لأنّ النكرة إذا تقدّم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة كقوله: «كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ» فمصباح نكرة ثمّ قال: «الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ» ثمّ قال: «الزُّجاجَةُ».

الرابع: يجوز أن يكون قوله «الْأَوْلَيانِ» بدلا من قوله «آخران» و إبدال المعرفة من النكرة كثير و معنى الأوليان الأوليان إلى الميّت أو الأوليان باليمين و

ص: 111


1- المائدة: 11.

الاختلاف بسبب اختلاف القراءة و الاعراب قال الزجّاج: هذا الموضع من أصعب ما في القرآن في الإعراب و اختصرت في البيان و من أراد التفصيل فليراجع المجمع فإنّ الطبرسيّ شرحه على أحسن بيان.

النزول: قالوا: لمّا نزلت الآية الاولى و هي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم العصر و دعا بتميم و عديّ فاستحلفهما عند المنبر باللّه أنّه ما قبضنا منه غير هذا و لا كتمناه فخلّى سبيلهما به ثمّ اطّلعوا على إناء من فضة منقوش معهما فقالوا: هذا من متاعه فقالا: اشتريناه منه و نسينا أن نخبركم به فرفعوا أمرهما إلى رسول اللّه فنزل قوله تعالى: [فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا] الآية أي اطّلع بعد التحليف على أنّهما فعلا ما يوجب إثما من تحريف و ظهر بأيديهما شي ء من التركة و ادّعيا استحقاقهما له كذبا [فَآخَرانِ أي رجلان آخران من قرابة الميّت [يَقُومانِ مَقامَهُما] أي مقام الرجلين اللّذين حلفا كذبا فيحلفان باللّه بأن اطّلعنا على خيانة الذمّيّين و كذبهما و تبديلهما و ما اعتدينا في ذلك و ما كذبنا.

روي أنّه لمّا حلّف الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم الذميّين بموجب حكم الآية السابقة و خلّى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم سبيلهما و انقضت مدّة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا:

قد اشتريناه منه و كرهنا أن نخبركم و نزلت الآية الثانية قام عمرو بن العاص و المطّلب بن أبي رفاعة السهميّان فحلفا باللّه بموجب ما في الآية فدفع النّبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم الإناء إليهما و إلى أولياء الميّت و كان تميم الدارميّ يقول بعد ما أسلم: صدق اللّه و رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى اللّه قال ابن عبّاس. إنّه بقيت تلك الواقعة مخفيّة إلى أن أسلم تميم الدارميّ فلمّا أسلم أخبر بذلك و قال: حلفت كاذبا و أنا و صاحبي خنّا في الإناء.

قوله تعالى: [مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ المراد به موالي الميّت قال الرازيّ: و قد أكثر الناس في أنّه لم وصف موالي الميّت بهذا الوصف؟ و الأصحّ عندي وجه واحد و هو أنّهم إنّما وصفوا بذلك لأنّه لمّا أخذ ما لهم فقد استحقّ عليهم ما لهم فإنّ من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلّقه بذلك المال مستعليا على تعلّق مالكه به فصحّ ان يوصف المالك بأنّه قد استحقّ عليه ذلك المال. و وصفهما بالأوليان

ص: 112

لأنّهما أقرب إلى الميّت و أولى بالمال بسبب القرابة أو بسبب اليمين الّتي حلفوا كما ذكرناه قبل ذلك.

قوله: [فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ بيان صوره تقرير الحلف و المعنى ظاهر ثمّ بيّن سبحانه وجه الحكمة في استحلاف اليهود فقال: [ذلِكَ أَدْنى أي ذلك الحلف و الإقسام أو ذلك الحكم أقرب [أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها] و صدقها و حقّها لا يكتمون شيئا و لا يزيدون شيئا خوفا من العذاب الاخرويّ بسبب اليمين الكاذبة [أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ كأنّه قيل: ذلك الإقسام أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها و يخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاح في الدنيا على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم و العمل بأيمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدّية إليه فأيّ الخوفين وقع حصل المقصود الّذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها.

و قيل في معنى الآية وجه آخر و هو: أنّ قوله: أو «يخافوا» عطف على «يأتوا» على معنى أنّ ذلك أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو إلى ان يخافوا الافتضاح بردّ اليمين على الورثة فلا يحلفوا على موجب شهادتهم إن لم يأتوا بها على وجهها فيظهر كذبهم بنكولهم [وَ اتَّقُوا اللَّهَ أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة و لا تخالفوا أحكامه [وَ اسْمَعُوا] ما توعظون به كائنا ما كان سمع طاعة و قبول [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن الدّين و الإطاعة إلى ثوابه و حسنته.

[سورة المائدة (5): آية 109]

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)

قوله تعالى:

أي اتّقوا يوم يجمع اللّه الرسل و هو يقوم القيامة و المراد جمعهم و جمع أممهم. و انتصب «يوم» على أنّه مفعول به و لم ينتصب على الظرف لأنّهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم، و المعنى: اتّقوا عقاب يوم يجمع اللّه الرسل لأنّ اليوم لا يتّقى و لا يحذر فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و لم يذكر الأمم للدلالة و لأنّهم أتباع لهم [فَيَقُولُ اللّه تعالى: [ما ذا أُجِبْتُمْ أيّ إجابة أجبتم من جهة الأمم حين دعوتهم إلى توحيدي و طاعتي؟

ص: 113

إجابة إقرار و قبول أم إجابة إنكار و تكذيب؟ و ما الذي أجابكم قومكم فيما دعوتموهم إليه؟ و هذا تقرير في صورة الاستفهام على وجه التوبيخ للكافرين و المنافقين عند إظهار فضيحتهم على رؤوس الأشهاد [قالُوا لا عِلْمَ لَنا] كأنّه قيل: فماذا يقول الرسل هنالك؟

فقيل: يقولون: لا علم لنا بما كنت أنت تعلم و قيل: في هذا الكلام أقوال:

أحدها: الأوّل.

الثاني أنّ للقيامة أهوالا حتّى يزول القلوب عن مواضعها فإذا رجعت إلى مواضعها شهدوا لمن صدّقهم و على من كذّبهم يريد أنّه عزبت عنهم أفهامهم من هول يوم القيامة فقالوا: لا علم لنا عن عطا و ابن عبّاس و الحسن و المجاهد و السدّيّ و الكلبيّ و قيل: المعنى الأوّل هو المراد أي لا علم لنا كعلمك لأنّك تعلم ظاهرهم و باطنهم و اختار الجبّائي هذا القول و أنكر القول الثاني و قال: كيف يجوز ذهولهم مع قوله «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ»*؟ و يمكن أن يجاب عن ذلك بأنّ الفزع الأكبر دخول النار و قوله «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ»* إنّما هو كالبشارة بالنجاة مثل ما يقال للمريض: لا بأس عليك و القول الثالث أنّ معناه لا حقيقة لعلمنا إذ كنّا نعلم جوابهم و أفعالهم وقت حياتنا و ما نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا و إنّما الثواب و العقاب بما يقع به في الخاتمة على ما يموتون عليه، عن ابن الأنباري.

و رابعها لا علم لنا إلّا ما علّمتنا فحذف لدلالة الكلام عليه، عن ابن عبّاس في رواية اخرى.

و خامسها أنّ المراد تحقيق فضيحتهم أي أنت أعلم بحالهم منّا لا تحتاج إلى شهادتنا.

[إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ للمبالغة أو المراد تكثير المعلوم قال الطبرسيّ: في المجمع أنّه ذكر الحاكم أبو سعيد في تفسيره أنّها تدلّ على بطلان قول الإماميّة أنّ الأئمّة يعلمون الغيب و أقول: أنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم فإنّا لا نعلم أحدا منهم بل أحدا من أهل الإسلام يصف أحدا من الناس بعلم الغيب و من وصف مخلوقا بذلك فقد فارق الدين و الشيعة الاماميّة بريئون من هذا القول فمن نسبهم إلى ذلك فاللّه بينه و بينهم.

ص: 114

[سورة المائدة (5): آية 110]

إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

قوله تعالى:

متعلّق الظرف: يوم يجمع اللّه الرسل، أو المعنى اذكر إذ قال اللّه و المعنى: إذ يقول اللّه في الآخرة و ذكر لفظ الماضي للدلالة على قرب القيامة و تحقق وقوع القول؛ لأنّ ما هو آت قريب مكان قد وقع. أو أنّه ورد على حكاية الحال و نظيره قوله: «وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ».

قوله: [يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يجوز أن يكون عيسى في محلّ الرفع لأنّه منادى مفرد وصف بمضاف و يجوز أن يكون في محلّ النصب على الإضافة و كلّ ما كان كذلك جائز الوجهين نحو يا زيد بن عمرو و يا زيد بن عمرو. و هذا الكلام فيه إشارة إلى بطلان قول النصارى لأنّ من له امّ لا يكون إلها [اذْكُرْ نِعْمَتِي و المراد جمع النعمة لقوله «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و إنّما جاز ذلك لأنّه مضاف يصلح للجنس [عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ .

ثمّ فسّر نعمته بأن قال: [إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ هو جبرئيل؛ الروح: جبرئيل و القدس هو اللّه أضافه إلى نفسه تعالى تعظيما و تشريفا له و الأرواح مختلفة فمنها طاهرة نورانيّة و منها خبيثة ظلمانيّة كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الأرواح جنود مجنّدة فاللّه سبحانه خصّ عيسى بالروح الطاهرة المقدّسة [تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا] قيل: المراد من المهد حجر امّه أي تكلّم مع الناس في حال صباك و حال ما كنت كهلا سواء من غير أن يوجد تفاوت في الكلام بين الحالين و ذلك لقوله: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (1) و هذه المعجزة حصلت له لنبوّته و هذه المعجزة أيضا نعمة حصلت لأمّه لأنّها على براءة ساحتها ممّا

ص: 115


1- مريم: 30- 31.

نسبوها إليه و اتّهموها به و كذلك ولادة عيسى و خلقته ما كانت من نطف الرجال و إنّما كانت كلمة ألقاها إلى مريم. و الكهل من الرجال: الّذي جاوز الثلاثين و خالطه الشيب كما قيل: إنّ المراد بتكلّمه كهلا أن يكلّم الناس بعد أن ينزّل من السماء في آخر الزمان بناء على أنّه رفع قبل أن اكهل فيكون قوله تعالى: «وَ كَهْلًا» دليلا على نزوله.

[وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ قيل: المراد من الكتاب الكتابة و الخطّ و قيل: المراد جنس الكتب فإنّ الإنسان يتعلّم أوّلا كتبا سهلة ثمّ يترقّى إلى الكتب الشريفة. و أمّا الحكمة فهي عبارة من العلوم النظرية و العملية الشرعية ثمّ فصّل الكتاب بذكر التوراة و الإنجيل.

[وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي قرأ نافع: فتكون طائرا. و طير: جمع طائر كركب جمع راكب و طعن جمع طاعن و التأنيث باعتبار الهيئة، بإذني و أمري و تيسيري [فَتَنْفُخُ فِيها] أي في الهيئة المصوّرة [فَتَكُونُ تلك الهيئة [طَيْراً بِإِذْنِي فالخلق حقيقة للّه تعالى ظاهر علي يده كما أنّ النفخ في مريم كان من جبرئيل و الخلق من اللّه.

سألوا منه على وجه التعنّت فقالوا: اخلق لنا خفّاشا و اجعل فيه روحا بسؤالك من اللّه إن كنت صادقا في مقالتك فأخذ طينا و جعل منه خفّاشا ثمّ نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء و الأرض، و إنّما طلبوا منه خلق خفّاش لأنّه أعجب من سائر الخلق، و من عجائبه أنّه لحم و دم يطير بغير ريش و يلد كما يلد الحيوان و لا يبيض كما يبيض سائر الطيور، و له ضرع يخرج منه اللبن و لا يبصر في ضوء النهار و لا في ظلمة الليل و إنّما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس و بعد طلوع الفجر قبل أن يسفرّ جدّا و يضحك كما يضحك الإنسان و يحيض كما يحيض المرأة فلمّا رأوا ذلك منه ضحكوا و قالوا: هذا سحر.

[وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي الأكمه: الذي ولد أعمى، و الأبرص هو الذي به بياض في الجلد و كان بحيث إذا غرز بإبرة لا يخرج الدم منه لا يقبل العلاج و لذا

ص: 116

خصّا بذكر و كلاهما ممّا أعيى الأطبّاء [وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي من قبورهم أحياء بفعلي ذلك عند دعائك و عند قولك للميّت اخرج بإذن اللّه قال الكلبيّ: كان يحيي الموتى ب (يا حيّ و يا قيّوم) و هو الاسم الأعظم عند أهل التحقيق. و ذكر الإذن في هذه الأفاعيل على معنى إضافة حقيقيّة الى اللّه كقوله: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي إلّا بخلق اللّه الموت فيها.

و سابع النعم في الذكر قوله: [وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أى منعت اليهود الذين أرادوا لك السوء عن التعرض لك. قال الرازيّ:

يحتمل أن يكون المراد منه البيّنات الّتي تقدّم ذكرها بالألف و اللّام. و يحتمل أن يكون المراد جنس البيّنات: روي أنّه لمّا أظهر هذه المعجزات قصد اليهود قتله فخلصه اللّه منهم حيث رفعه إلي السماء.

[فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ و قرء ساحر، و كلاهما حسن قال الواحديّ: و الاختيار: سحر لجواز وقوعه على الحدث و الشخص، أمّا وقوعه على الحدث فظاهر و أمّا على الشخص فيقول: هذا سحر أي ذو سحر كما قال تعالى: «وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ» (1) أي ذا البرّ قالت الخنساء: فإنّما هي إقبال و إدبار.

فان قيل: إنّه سوق الآيات في تعديد نعمه على عيسى و قول الكفّار في حقّه:

«إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» ليس من النعم فكيف ذكره هاهنا؟ لأنّ من الأمثال المشهورة أنّ «كلّ ذي نعمة محسود» و طعن الكفّار يدلّ على أنّ نعم اللّه في حقّه كثيرة، و لإفادة هذا المعنى حسن ذكره عند تعديد النعم.

[سورة المائدة (5): آية 111]

وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)

من قال: إنّ الحواريّين كانوا أنبياء قال: ذلك الوحي هو الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء، و من قال: إنّهم ما كانوا قال: المراد بذلك الوحي الإلهام و الإلقاء في القلب كما في قوله «وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ» (2) و قوله «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» (3)

ص: 117


1- البقرة: 177.
2- القصص: 7.
3- النحل: 68.

و الحواريّ خالصة الرجل و خلصاؤه مأخوذ من الخبز الحواري لأنّه أخلصه من كلّ ما يشوبه. و الحواريّون كانوا من وزراء عيسى و أصحابه و صفوته، و يمكن أن يكون معناه مأخوذا من الحور و هو البياض الخالص، سمّوا به لخلوص نيّاتهم و نقاء سرائرهم؛ قيل: كان بعضهم من الملوك و بعضهم صيّاد السمك و بعضهم من القصّارين و بعضهم من الصبّاغين فصاروا بالصدق و الإيمان أولياء اللّه و أطبّاء النفوس.

حكي عن بعض الزهّاد أنّه اعتلّ فحمل الى البيمارستان و كتب عليّ بن عيسى الوزير إلى الخليفة المقتدر في ذلك فأرسل الخليفة اليه مقدّم الأطباء ليداويه فما أنجحت مداواته قال الطبيب للزاهد: و اللّه لو علمت أنّ مداواتك في قطعة لحم من جسدي ما عسر ذلك عليّ فقال الزاهد: دوائي في ما دون ذلك قال الطبيب: و ما هو؟ قال بقطعك الزنّار فقال الطبيب: أشهد أن لا اله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه فأخبر الخليفة فبكى و قال:

نفذنا طبيبا إلى مريض و ما علمنا أنّا نفذنا مريضا إلى طبيب. و الماحضون في الإيمان و التقوى هم أطبّاء النفوس و يعالجون المرضى حسب حذقهم فمريضا يسقونه عسلا و آخر حنظلا.

و كان فضيل بن عياض لم ير متبسّما ثلاثين سنة لمّا سمع في تفسير قوله تعالى:

«ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً» (1) عن ابن عبّاس الصغيرة: التبسّم و الكبيرة:

الضحك و رواه يوم عرفة و هو يبكي بكاء الثكلى حتّى إذا كادت الشمس تغرب قبض على لحيته و رفع رأسه إلى السماء و قال: وا سوأتاه منك و إن غفرت، و من كلامه: لو أنّ الدنيا بحذا فيرها عرضت عليّ بشرط أن لا أحاسب يوما لكنت أتقذّرها كما يتقذّر أحدكم بجيفة إذا مرّ بها أن تصيب ثوبه.

قال الفضيل: إذا قيل لك: تخاف اللّه؟ فاسكت فإنّك إن قلت: لا فقد جئت بأمر عظيم و إن قلت: نعم فالخائف لا يكون على ما أنت.

[وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي اذكر يا محمّد وقت أن أمرتهم على ألسنة الرسل أو بالإلقاء و الإلهام في قلوبهم [أَنْ آمِنُوا بِي «أن» مفسّرة لما في الإيحاء

ص: 118


1- الكهف: 49.

أي صدّقوا بوحدانيّتي بالربوبيّة و برسالة رسولي [قالُوا] كأنّه قيل: فما ذا قالوا؟ قالوا: [آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ و مخلصون في إيماننا و منقادون و مطيعون في الظاهر و القلب. روي أنّ عيسى كان يلبس الشعر و يأكل الشجر و لا يدّخر لغد شيئا و لم يكن له بيت و لا أهل و لا ولد و أينما أدركه اللّيل بات.

[سورة المائدة (5): الآيات 112 الى 113]

إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

قوله تعالى:

قرأ الكسائيّ: تستطيع بالتاء على الخطاب أي هل تستطيع سؤال ربّك؟ و هذه القراءة مرويّة عن عليّ و ابن عبّاس، و عن معاذ بن جبل قال: أقرأني رسول اللّه بالخطاب و بنصب ربّك. قال الرازيّ في تفسيره: و الخطاب أولى من الغياب، لأنّ قراءة الخطاب توجب شكّهم في استطاعة عيسى و بالغياب توجب شكّهم في استطاعة اللّه و لا شكّ أنّ الاولى أولى بجلالة شأنهم.

فلو قيل: إنّ على قراءة الغياب كيف يجوز لهم أن يكونوا باقين شاكّين في اقتدار اللّه مع أنّه سبحانه حكى عنهم أنّهم قالوا: «آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» و بعد الإيمان كيف يجوز هذا القول؟ فالجواب أنّه تعالى ما وصفهم بالإيمان و الإسلام بل حكى عنهم ادّعاءهم لهما بل دلّ قولهم: «وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا» على مرض في قلوبهم و كذلك قول عيسى لهم: «اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» يدلّ على أنّهم ما كانوا كاملين في الإيمان أو أنّهم كانوا مؤمنين إلّا أنّهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم كمال الإيمان كما قال إبراهيم: «وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (1) و لهذا السبب قالوا: «وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا» أو يكون المراد من طلبهم هذا الأمر استفهام أنّ ذلك هل يجوز في الحكمة أم لا؟ و ذلك لأنّ أفعال اللّه لمّا كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ففي الموضع الّذي لا يحصل فيه شي ء من الحكمة يكون الفعل ممتنعا فإنّ المنافي من جهة

ص: 119


1- البقرة: 260.

الحكمة كالمنافي من جهة القدرة، و هذه الأجوبة يتمشّى على قول المعتزلة و أمّا على قول الأشاعرة فهو محمول على أن اللّه هل قضى بذلك أم لا؟ و قال السدّيّ: معنى «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ»: هل يستطيع ربّك إن سألته؟ و هذا تفريع على أنّ (استطاع) بمعنى أطاع و السين زائدة.

قال ابن الأنباريّ: سمّيت المائدة بالمائدة لأنّها عطيّة من قول العرب: ماد فلان فلانا يميده ميدا إذا أحسن إليه؛ فالمائدة على هذا القول فاعلة من الميد بمعنى معطية و قال أبو عبيدة: المائدة فاعلة بمعنى المفعولة مثل عيشة راضية. و قال الزجّاج فاعلة من ماد يميد إذا تحرّك فكأنّها تميد بما عليها، و الحاصل المائدة: الخوان الّذي عليه الطعام.

في كتاب الشرعة قال: وضع الطعام على الأرض أحبّ إلى رسول اللّه ثمّ على السفرة و هي على الأرض، و الأكل على الخوان آداب الملوك و الجبّارين لئلّا يتطأطئوا عند الأكل و على السفرة فعل العرب. (1) [قالَ لهم عيسى بعد طلبهم المائدة: [اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال و إساءة الأدب [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بقدرته أو بصحّة نبوّتي [قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها] تمهيد عذر و بيان لما دعاهم إلى السؤال [نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها] و لا نريد إلّا اليقين و الاطمئنان و نحبّ أكلها فإنّ الجوع قد غلبنا [وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا] بأنّك رسول اللّه و هذا يقوّي قول من قال: إنّهم كانوا شاكّين في ابتداء الأمر في دينهم. قال الطبرسيّ: و الصحيح أنّهم طلبوا المعانية و العلم الضروريّ و معجزة سماويّة [وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ للّه بالتوحيد و لك بالنبوّة. أو المعنى: تكون من الشاهدين عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم.

[سورة المائدة (5): الآيات 114 الى 115]

قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)

ص: 120


1- روى الطريحي مرسلا ان رسول اللّه صم ما أكل على خوان قط لئلا يفتقر الى التطاول- و هو التمدد قائما- و منه يظهران المراد بالخوان كرسي معد للأكل.

قوله [اللَّهُمَ نداء و قوله [رَبَّنا] نداء ثان و قوله [تَكُونُ لَنا] صفة للمائدة و في قراءة عبد اللّه: تكن لنا بناء على أنّه جواب للأمر قال الفرّاء: و ما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل الجزم و الرفع مثل قوله تعالى: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي» (1) بالجزم و الرفع و مثل قوله: «فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» (2) بالجزم و الرفع.

و العيد اسم لما عاد إليك من شي ء في وقت معلوم و اشتقاقه من عاد يعود و أصله: العود قال اللّيث: العيد كلّ يوم مجمع فسمّي العيد عيدا لأنّه يعود كلّ سنة بفرح جديد أي نتّخذ اليوم الّذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظّمه نحن و من يأتي بعدنا. و نزلت يوم الأحد فاتّخذه النصارى عيدا [وَ آيَةً مِنْكَ كائنة دالّة على قدرتك و صحّة نبوّتي [وَ ارْزُقْنا] المائدة [وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ خير من يرزق لأنّه خالق الأرزاق.

قال الرازيّ: تأمّل في هذا الترتيب؛ فإنّ الحواريّين لمّا سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا فقدّموا ذكر الأكل فقالوا: «نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها» و أخّروا الأغراض الدينيّة الروحانيّة، فأمّا عيسى فإنّه لمّا طلب المائدة و ذكر أغراضه فيها قدّم الأغراض الدينيّة و أخّر الأغراض الدنيويّة حيث قال: «وَ ارْزُقْنا» و عند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح. ثمّ إنّه عليه السلام بصفاء دينه و شدّة إشراق روحه لمّا ذكر الرزق بقوله: «و ارزقنا» لم يقف عليه و انتقل من الرزق إلى الرازق. قال الطبرسيّ:

و في هذا دلالة على أنّ العباد قد يرزق بعضهم بعضا لأنّه لو لم يكن كذلك لم يصحّ أن يقال: و أنت خير الرازقين.

[قالَ اللَّهُ مجيبا له إلى ما التمسه: [إِنِّي مُنَزِّلُها] أي المائدة [فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ] إنزالها عليكم [فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قيل: في معناه أقوال:

أحدها أنّه أراد عالمي زمانه فجحد القوم و كفروا بعد نزولها فمسخوا قردة و خنازير. و قيل: خنازير. و ثانيها أنّه أراد عذاب الاستئصال. و الثالث أنّه أراد جنسا

ص: 121


1- مريم: 5- 6.
2- القصص: 34.

من العذاب لا يعذّب به أحدا غيرهم و ذلك لأنّهم رأوا الآية الّتي هي من أزجر الآيات عن الكفر بعد سؤالهم فاقتضت الحكمة اختصاصهم بفنّ من العذاب.

و اختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ قال الحسن و مجاهد: إنّها لم تنزل و أنّ القوم لمّا سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها و قالوا: لا نريدها فلم تنزل، قال المحقّقون من العلماء: إنّها نزلت لقوله: «إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» و لا يجوز أن يقع في خبره الخلف و لأنّ الأخبار قد استفاضت عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الصحابة و التابعين أنّها نزلت. (1) روي أنّ عيسى اغتسل و لبس جبّته و هي من صوف و صلّى ركعتين فطأطأ رأسه و غضّ بصره ثمّ دعا و اختلف في كيفيّتها فروي عن عمّار بن ياسر عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: نزلت المائدة خبزا و لحما و ذلك لأنّهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منها فقيل لهم: فإنّها مقيمة معكم ما لم تخونوا و تخبؤوا فإن فعلتم ذلك عذّبتم قال: فما مضى يومهم حتّى خبؤوا و رفعوا و خانوا قال ابن عبّاس: إنّ عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما ثم اسألوا اللّه ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين يوما فلمّا فرغوا قالوا: يا عيسى إنّا لو عملنا لأحد من الناس فقضينا عمله لأطعمنا طعاما و إنّا صمنا و جعنا فادع اللّه أن ينزّل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها؛ عليها سبعة أرغفة و سبعة أحوات حتّى وضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم و هو المرويّ عن الصادق. و روي أنّها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين و هم ينظرون حتّى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى و قال: اللهم اجعلنا من الشاكرين و لا تجعلها مثلة و عقوبة، ثمّ قام و توضّأ و صلّى و بكى ثمّ كشف المنديل الّذي عليها و قال: بسم اللّه خير الرازقين فإذا سمكة مشويّة بلا فلوس و لا شوكة يسيل دسمها و عند رأسها ملح و عند ذنبها خلّ و حولها من أنواع البقول ما خلا الكراث، و إذا خمسة أرغفة على واحد منها

ص: 122


1- روى البحراني (قده) في تفسير البرهان «ج 1: 511- 512» عدة روايات مسندة و مرسلة تدل على ذلك، و منها رواية عمار الآتية، و في بعضها ذكر ما كان فيها من الطعام و من أكل منها من الناس.

زيتون و على الثاني عسل و على الثالث سمن و على الرابع جبنّ و على الخامس قديد فقال شمعون رأس الحواريّين: يا روح اللّه أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال:

ليس منهما و لكنّه اخترعه اللّه بقدرته، كلوا ما سألتم و اشكروا يمددكم اللّه و يزدكم من فضله.

فقالوا: يا روح اللّه لو أريتنا من هذه الآية آية اخرى فقال عيسى: يا سمكة احي بإذن اللّه فاضطربت ثمّ قال لها: عودي كما كنت فعادت مشويّة فلبثت المائدة يوما واحدا فأكل من أكل منها ثمّ طارت و لم تنزل بعد ذلك اليوم و قيل: كانت تأتيهم أربعين يوما غبّا (1) يجتمع عليها الفقراء و الأغنياء و الصغار و الكبار يأكلون حتّى إذا فاء الفي ء طارت و هم ينظرون، و لم يأكل منها فقير إلّا غنى مدّة عمره و لا مريض إلّا برى ء و لم يمرض أبدا فأوحى اللّه إلى عيسى: اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكّوا و شكّكوا الناس فيها فأوحى اللّه إلى عيسى: إنّي شرطت على المكذّبين أنّ من كفر بعد نزولها اعذّبه فقال عيسى عليه السلام: «إن تعذّبهم فإنّهم عبادك و إن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم» فمسخ منهم ثلاث مائة و ثلاثة و ثلاثون رجلا باتوا من ليلهم على فراشهم مع نسائهم في بيوتهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات و الكناسات و يأكلون العذرة في الجشوش فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى و بكوا و بكى على المسوخين أهلوهم فعاشوا ثلاثة أيّام ثمّ هلكوا.

و في تفسير أهل البيت: كانت المائدة تنزل عليهم يجتمعون عليها و يأكلون منها ثمّ ترفع فقال كبراؤهم و مترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا فرفع اللّه المائدة ببغيهم و كبرهم و مسخوا قردة و خنازير.

و صار يوم نزل المائدة عيدا لامّة عيسى كما أنّ السبت عيدا لامّة موسى و كان لقوم إبراهيم عيد و كانوا قد خرجوا لعيدهم (2) و دخل إبراهيم معبدهم و كسر

ص: 123


1- أى يجي ء يوما و لا يجي ء يوما.
2- لا وجه ظاهرا للتشريك بين أعياد اليهود و النصارى و المسلمين و بين عيد قوم ابراهيم، فان أعياد اليهود و النصارى و المسلمين كانت بتشريع او بتصويب من اللّه تعالى بخلاف قوم ابراهيم فان عيدهم كان صناعيا من مجعولات أنفسهم و العلم عنه اهله.

أصنامهم و لامّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم أعياد، فالعيد المكرّر في الأسبوع: الجمعة و هو عيد الأسبوع مرتّب على إكمال الصلوات المكتوبات باجتماع الناس فيه مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم بأداء صلاة الجمعة و إدراك مثوباتها فإن اللّه تعالى فرض على المؤمنين في اليوم و الليلة خمس صلاة و إنّ الدنيا تدور على سبعة أيّام فكلّما كمل دور اسبوع من أيّام الدنيا و استكمل المسلمون صلاتهم شرع لهم في يوم استكمالهم عيد يوم الجمعة و هو اليوم الّذي كمل فيه الخلق (1) و فيه خلق آدم و ادخل الجنّة و اخرج منها، و فيه منتهى أمر الدنيا فتنزل و تقوم الساعة فيه فجعل فيه الاجتماع على سماع الذكر و الموعظة و صلاة الجمعة عيدا لهم.

و في اجتماع يوم الجمعة شبه من الحجّ حتّى قيل: إنّها حجّ المساكين قال سعيد بن المسيّب: شهود الجمعة أحبّ إليّ من حجّة النافلة و التكبير فيه يقوم مقام الهدي و شهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة الاخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما أنّ الحجّ المبرور يكفر ذنوب تلك السنة إلى الحجّة الاخرى. و قد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيّام.

و امّا الأعياد الّتي تكرّر في السنة فعيد الفطر من صوم رمضان و هو مرتّب على إكمال الصيام و يزيد ثوابه بأداء صلاته و آدابه و الصوم الركن الثالث من أركان الإسلام و مبانيه. و العيد الثالث في الإسلام باعتبار و الثاني باعتبار عيد النحر و هو أكبرهما و أفضلهما و هو مترتّب على إكمال الحجّ و هو الركن الرابع من أركان الإسلام و مبانيه فإذا أكمل المسلمون حجّتهم غفر لهم و من أعياد المسلمين النيروز و كان عيدا للعجم و قد أمضته الشريعة و سنّه النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم (2) و من الأعياد الغدير بل من أعظمها و أتّمها و أكملها كيف لا و فيه تمّت نقائص الإسلام و قد وقع القوس بيد باريها و جرت أنهار الهداية على مجاريها.

ص: 124


1- اى خلق السموات و الأرض على ما في احتجاج النبي مع اليهود فان الاخبار الواردة في باب الخلق تدل على ان يدء خلق السماوات و الأرض يوم الأحد و اخره يوم الجمعة و السبت معطل.
2- بلسان الأخيار من اهل بيته، و اما إمضاء الشريعة فمن حيث تصويب مطلق اسباب التراؤف و التراحم.

[سورة المائدة (5): الآيات 116 الى 120]

وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (120)

قوله تعالى:

قيل: إنّ هذا الكلام قيل لعيسى حين رفعه إلى السماء و تعلّق بظاهر قوله:

[وَ إِذْ قالَ اللَّهُ و «إذ» تستعمل للماضي و قيل: عطف على قوله «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ» و على هذا القول إنّما يذكره لعيسى يوم القيامة، و هذا القول أصحّ لأنّه تعالى عقّب الكلام بقوله: «هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» و المراد به يوم القيامة [أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ صيّروني و امّي معبودين بطريق إشراكهما في العبادة معي.

فلو قيل: إنّ الاستفهام كيف يليق به تعالى على أنّه تعالى كان عالما بأنّ عيسى لم يقل ذلك فكيف بهذا الخطاب؟ فالجواب أنّه هذا الاستفهام توبيخ للقائل و استفهام لتعيين القائل حتّى يجازى.

فإن قيل: إنّ أحدا من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهيّة عيسى و مريم مع القول بنفي إلهيّة اللّه تعالى فكيف ينسب هذا القول إليهم؟ قال الرازيّ: إنّ اللّه هو الخالق و النصارى يعتقدون أنّ خالق المعجزات الّتي ظهرت على يد عيسى و مريم هو عيسى و مريم و اللّه ما خلقها فهم قالوا: إنّ الخالق لتلك الأمور هما، و اللّه ليس خالقها فأثبتوا في خلق بعض الأشياء إلهيّتهما و نفوا فيها إلهيّة اللّه فصحّ بهذا التأويل هذه الحكاية.

ص: 125

[قالَ سُبْحانَكَ كأنّه قيل: فماذا يقول عيسى حينئذ؟ فقيل: يقول سبحانك أي انزّهك تنزيها من أن أقول هذه المقالة أو من أن يقال في شأنك هذه المقالة.

[ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أي ما يستقيم لي أن أقول ما ليس بحقّ لي أن أقوله و المراعات حسن الأدب و الخضوع لم يقل: ما قلته فوّض ذلك إلى علمه تعالى. قال أبو ردق: إذا سمع عيسى هذا الخطاب- و المراد إذا يسمع- ارتعدت فرائصه و تنفجر من أصل كلّ شعرة في جسده عين من دم و هذا الخطاب و إن كان ظاهره مع عيسى و لكن حقيقته مع الامّة. و معنى «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» أنّ صدور هذا القول مستلزم لعلمك قطعا فحيث انتفى العلم انتفى الصدور قطعا ضرورة استلزام عدم اللّازم عدم الملزوم.

[تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم ما اخفي و لا أعلم ما تخفي و تعلم ما في غيبي و لا أعلم ما في غيبك و قيل: المراد: تعلم ما كان منّي في الدنيا و لا أعلم ما كان منك في الآخرة. و تمسّك المجسّمة بهذه الآية و قالوا: النفس هو الشخص و ذلك يقتضي كونه تعالى جسما و هذا الكلام لا يصدر إلّا عن أحمق بحت لأنّ النفس عبارة عن الذات، نفس الشي ء و ذاته بمعنى واحد [إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تأكيد للجملتين المتقدّمين أعني قوله: «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» و قوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ».

ثمّ حكى سبحانه عن عيسى: [ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ «أن» مفسّرة و المفسّر هو الهاء في «به» الراجع إلى القول المأمور به أي ما قلت لهم إلّا قولا أمرتني به و هو أن أقول لهم: اعبدوا اللّه خالقي و خالقكم [وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً] رقيبا أراقب أحوالهم و أحملهم على العمل بموجب أمرك و أمنعهم عن المخالفة أو أشاهد أحوالهم من كفر و إيمان [ما دُمْتُ فِيهِمْ أي مدّة دوامي فيما بينهم [فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي قبضتني إليك من بينهم و رفعتني إلى السماء [كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي أنت لا غيرك كنت حافظا لأعمالهم و المراقب لها [وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] مطّلع عليه مراقب له و «على» متعلّق بشهيد و التّقديم لمراعاة الفاصلة [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ فبدأ اختيارهم

ص: 126

و لا اعتراض على المولى و المالك المطلق فيما يفعله بملكه [وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي فلا عجز و لا استقباح فإنّك القادر و القويّ على الثواب و العقاب الّذي لا يثيب و لا يعاقب إلّا عن حكمة و صواب؛ فإن عذّبت فعدل و إن غفرت ففضل.

فإن قلت: مغفرة المشرك قطعيّة الانتفاء بحسب الوجود و تعذيبه قطعي الوجود فما معنى «إن» المستعمل فيما كان كلّ واحد من جانبي وجوده و عدمه حائزا محتمل الوقوع؟

فالجواب كون غفران المشرك قطعيّ الانتفاء بحسب الوجود لا ينافي كونه حائز الوجود بحسب العقل فصحّ استعمال كلمة «إن» فيها لأنّه يكفي في صحّة استعمالها مجرّد الإمكان الذاتي و الجواز العقلي. و قيل وجه آخر و هو أنّ الترديد بالنسبة إلى فرقتين و المعنى:

إن تعذّبهم أي من كفر منهم و إن تغفر لهم أي من آمن منهم.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية أحيى رسول اللّه بها ليلته و كان بها يقوم و بها يقعد و بها يسجد ثمّ قال: امّتي امّتي يا ربّ فبكى فنزل جبرئيل فقال: اللّه يقرؤك السلام و يقول لك: إنّا سنرضيك في امّتك و لا نسؤك.

[قالَ اللَّهُ أي يقول اللّه يوم القيامة عقيب جواب عيسى مشيرا إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الّذين هو في زمرتهم: [هذا] أي يوم القيامة و هو مبتدأ و خبره ما بعده [يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ المراد الصدق في الدنيا، فإنّ النافع ما كان حال التكليف فالجاني المعترف يوم القيامة بجنايته لا ينفعه عذره و اعترافه. و المراد من الصدق في الأمور الدينيّة الّتي معظمها التوحيد؛ فالصادقون المراد بهم في الآية الرسل الناطقون بالصدق الداعون إلى ذلك و الأمم المصدّقون لهم عقدا و عملا [لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً] كأنّه قيل: ما لهم من النفع؟ فقيل: نعيم دائم و ثواب خالد [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بالطاعة [وَ رَضُوا عَنْهُ بنيل الكرامة و الرضوان فيض زائد على الجنّات لا غاية وراءه و لذلك قال سبحانه: [ذلِكَ أي الرضوان هو [الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أى النجاة الوافرة.

[لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَ تنبيه على كذب النّصارى و فساد ما

ص: 127

زعموا في حقّ المسيح و امّه أي له خاصّة تلك السماوات و الأرض و ما فيهما من العقلاء و غيرهم يتصرّف فيها كيف يشاء و عيسى و امّه فيها فكيف يكونان إلهين و هو يتصرّف كيف يشاء فيها إيجادا و إعداما و إماتة و إحياء و أمرا و نهيا من غير أن يكون لشي ء من الأشياء مدخل في ذلك لا عيسى و لا غيره؟ [وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] منزّه عن العجز و الضعف و من كان له الأمر و الإيجاد و مالك الملك فله بحكم المالكيّة أن تنسخ شرع موسى و يجعل شرع عيسى، و ليس لليهود حقّ الاعتراض على نبوّة عيسى، و كذلك يرفع شريعته و يضع شريعة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم و يخلّدها إلى يوم القيامة و ليس للنصارى الرّد و النكول.

تمّت السورة المائدة مع ما فيها من الفائدة و يتلوها ...

ص: 128

سورة الانعام

اشارة

نزلت بمكّة جملة واحدة معها سبعون ألف ملك قد سدّ و اما بين الخافقين و لهم زجل بالتسبيح و التحميد حتّى كادت الأرض ترتجّ فقال النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم: سبحان ربّي العظيم سبحان ربّي الأعلى و خرّ ساجدا و روي عنه صلى اللّه عليه و آله و سلّم مرفوعا: من قرأ ثلاث آيات من أوّل سورة الأنعام إلى قوله «تكسبون» حين يصبح وكّل اللّه به سبعين ألف ملك يحفظونه و كتب له مثل أعمالهم إلى يوم القيامة، و ينزل ملك من السماء السابعة و معه مرزبة من حديد كلّما أراد الشيطان أن يلقي في قلبه شيئا من الشرّ ضربه بها و جعل بينه و بين الشيطان سبعين ألف حجاب فإذا كان يوم القيامة قال اللّه تعالى: يا ابن آدم امش تحت ظلّي و كل من ثمار جنّتي و اشرب من ماء الكوثر و اغسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي و أنا ربّك لا حساب عليك و لا عذاب كذا رواه الواحديّ في البسيط.

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إنّ سورة الأنعام نزلت جملت واحدة و معها سبعون ألف ملك يعظّموها و يجلوها فإنّ اسم اللّه فيها في سبعين موضعا و لو يعلم النّاس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها، ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: من كانت له حاجة إلى اللّه يريد قضاءها فليصلّ أربع ركعات بفاتحة الكتاب و الأنعام و ليقل في صلاته إذا فرغ من العبادة: يا كريم يا كريم يا كريم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا أعظم من كلّ عظيم يا سميع الدعاء يا من لا يغيّره اللّيالي و الأيّام صلّ على محمّد و آل محمّد و ارحم ضعفي و فقري و فاقتي و مسكنتي يا من رحم الشيخ يعقوب حين ردّ عليه يوسف قرّة عينه، يا من رحم أيّوب بعد طول بلائه، يا من رحم محمّدا من اليتم آواه و نصره على جبابرة قريش و طواغيتها و أمكنه منهم يا مغيث يا مغيث يا مغيث تقول ذلك مرارا فو الّذي نفسي بيده لو دعوت اللّه بها ثمّ سألت اللّه جميع حوائجك لأعطاك.

ص: 129

و روى أبو صالح عن ابن عبّاس قال: من قرأ سورة الأنعام في كلّ ليلة كان من الآمنين يوم القيامة و لم ير النار بعينه أبدا. (1) أقول: و لعلّ السبب في إنزال هذه السورة جملة واحدة أنّها مشتملة على الأصول و دلائل التوحيد و العدل و النبوّة و المعاد، و إنزال ما يدلّ على الأحكام قد يكون المصلحة أن تنزّل اللّه قدر حاجتهم و بحسب الحوادث و النوازل و لكن ما يدلّ على علم الأصول أنزل اللّه جملة واحدة و ذلك يدلّ على أنّ تعلّم الأصول واجب على الفور لا على التراخي.

ص: 130


1- رواها و بعض ما تقدم في ثواب الأعمال: 102.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأنعام (6): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)

بدأ اللّه سبحانه هذه السورة بالحمد لنفسه إعلاما بأنّه المستحقّ لجميع المحامد لأنّ اصول النعم و فروعها منه تعالى و لأنّ له الصفات العليا فقال: [الْحَمْدُ لِلَّهِ اعلم أنّ المدح أعمّ من الحمد و الحمد أعمّ من الشكر و ذلك لأنّ المدح يحصل للعاقل و لغير العاقل فكما يحسن مدح الرجل العاقل كذلك يمدح اللؤلؤ الحسن شكله و صفاته لكنّ الحمد لا يحصل إلّا للعاقل المختار بسبب ما يصدر عنه من الإنعام و الإحسان؛ فثبت أنّ المدح أعم من الحمد و أمّا بيان أنّ الحمد أعمّ من الشكر فلأنّ الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر منه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك لكنّ الشكر فهو عبارة عن تعظيم المنعم لأجل إنعام وصل إليك فصار أعمّ من الشكر.

فكان قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» تصريحا بأنّ المؤثّر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلق بالقدرة و المشيئة و لم يقل: الشكر للّه لأنّ الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر عنه و وصل إليك، و هذا مشعر بأنّ العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعم فحينئذ يكون هذا التعظيم بسبب وصول النعمة إليه و هو المطلوب الأصليّ له، و هذه درجة حقيرة فأمّا إذا قال العبد: الحمد للّه يدلّ على أنّ العبد حمده لأجل كونه مستحقّا للحمد لا لخصوص أنّه تعالى أوصل النعمة إليه فيكون حينئذ الإخلاص أكمل، و استغراق القلب أتمّ و انقطاعه عمّا سوى الحقّ أقوى و أثبت. و كلمة الحمد لفظ مفرد محلّى بالألف و اللّام فيفيد أصل الماهيّة و الحقيقة فيفيد هذه الكلمة أنّ هذه الماهيّة

ص: 131

و الحقيقة للّه و ذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير اللّه و اختصاصه على الحقيقة به تعالى فاقتضى أنّ جميع أقسام الحمد و الثناء و التعظيم ليس إلّا اللّه.

فإن قيل: إنّ شكر المنعم واجب مثل شكر الأستاذ على تعليمه و شكر السلطان على عدله و شكر المحسن على إحسانه كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه؛ فالجواب أنّ المحمود و المشكور في الحقيقة ليس إلّا اللّه لأنّ صدور الإحسان من العبد يتوقّف على داعية الإحسان، و حصول الداعية ليس من العبد و إلّا لا فتقر في حصولها إلى داعية اخرى و لزم التسلسل، بل حصولها ليس إلّا من اللّه فيكون المحسن في الحقيقة هو اللّه و كلّ إحسان يقدم عليه أحد من الخلق، فالانتفاع به لا يكون إلّا بواسطة إحسان اللّه، ألا ترى أنّه لولا أنّ اللّه خلق أنواع النعمة و إلّا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة و الفواكه و الذهب إلى الغير، و لو لا أنّه سبحانه أعطى الإنسان الحواسّ و القوى لم يمكنه الانتفاع بتلك النعم و إلّا لعجز عن الانتفاع بها فثبت أنّ كلّ إحسان يصدر عن محسن سوى اللّه فالانتفاع به يكون بواسطة إحسان اللّه.

و بالجملة فقوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» يفيد هذه المعاني فقيل: معناه: «احمدوا اللّه» و إنّما جاء بصيغة الخبر لإفادة معنى أنّه تعالى مستحقّ للحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده.

ثمّ إنّ المقصود من الآية ذكر الحجّة فذكره بصيغة الخبر أولى.

و قيل: معناه: قولوا: الحمد للّه و قد يقرّر في العقول أنّ القلوب مجبولة على حبّ من أحسن إليها و بغض من أساء إليها فإذا أمر اللّه العبد بالتحميد و كان الأمر بالتحميد ممّا يحمله على تذكّر النعم صار ذلك الأمر موجبا للعبد على تذكّر أنواع النعم فيوجب رسوخ محبّة اللّه في قلب العبد و هو من أحسن الفوائد للعبد و من موجبات القرب و لذلك وقع الابتداء في الكتاب الكريم بهذا الكلمة فقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» في الفاتحة و في هذه السورة بقوله:

[الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و السماوات و الأرض حاوية لأكثر موادّ العالم

ص: 132

من الأجسام و الفلكيّات و ما فوقها من العرش و الكرسيّ، فينبغي للعبد أن يتأمّل و يتفكّر في طبقات السماوات و اتّساعها و أجرامها و أبعادها، و الكواكب الثابتة و السيّارة، ثمّ يتأمّل في عالم الأرض و العناصر الأربعة و المواليد الثلاثة و هي المعادن و النبات و الحيوان و كيفيّة حكمة خلق اللّه في الأشياء الحقيرة و الضعيفة و جامعيّة أجزائها مع صغرها في الحجم كالبقّ و البعوض و أمثالهما، ثمّ ينتقل إلى معرفة الأجناس و أعراضها و المنافع الحاصلة من كلّ نوع منها، ثمّ إذا استكمل نظره يتأمّل إلى تعرّف مراتب الأرواح السفليّة و العلويّة و الفلكيّة، و مراتب الأرواح المقدّسة، فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء المحدثة المخلوقة بقدر القوّة البشريّة فقد حضر في عقله من المدركات ذرّة من معرفة قدرة اللّه من العوالم، و عرف حينئذ أنّ إيجاد اللّه هذه العوالم العظيمة من جوده تعالى و وجوده، فعند هذا يعرف من قوله: «خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» ذرّة و هذا بحر لا ساحل له و كلام لا آخر له.

فمثل هذا القادر الخالق لهذا الخلقة العظيمة منزّه عن المثل و الشبيه في الذات و الصفات و الأفعال فأفعاله تعالى لا تشبه أفعال الخلق و كذلك ذاته و صفاته، فعند ذلك يحصل معرفة التوحيد معرفة ما و المعاني المتوجّهة في هذه كثيرة مثل أنّ قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» جار مجرى ما يقال: جاءني الرجل الرجل الفقيه فإنّ هذا يدلّ على أنّ الجائي كان موصوفا بهذه الصفة؛ فالإله هو الّذي يخلق السماوات و الأرض و لا يكون غيره إلها.

و اعلم أنّ السماوات جارية مجرى الفاعل و الأرض مجرى القابل و لذلك ذكر السماوات بلفظ الجمع و الأرض بصيغة الواحد. و الكثرة و التعدّد في السماء اقتضت الاختلافات بسبب الاتّصالات الكوكبيّة ليحصل بها الفصول و سائر الأحوالات المختلفة الّتي بسببها يحصل نظام هذا العالم.

و المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع؛ و بيانه أنّ أجرام السماوات و الأرض مقدّرات في امور مخصوصة بمقادير مخصوصة و ذلك لا يمكن حصوله إلّا بتخصيص

ص: 133

الفاعل المختار بدليل أنّ كلّ حركة فإنّه يمكن وقوعها أسرع ممّا وقع و أبطأ ممّا وقع فاختصاص تلك الحركة المعيّنة بذلك القدر المعيّن من السرعة و البطي ء اختصاص مجعول فيه، و لا بدّ لذلك من جاعل بدليل أنّ الأجسام متساوية في الطّبيعة الجسميّة باتّصاف بعضها بالحركة و بعضها بالسكون دون العكس، و بعضها بالفلكيّة و بعضها بالعنصريّة يحتاج إلى مقدّر و مخصّص بتصرّف فيها كيف شاء، و الحركة فعل حادث لا بدّ له من أوّل فإنّ وجود حركة الأوّل لها محال لأنّ حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة و هذا الانتقال و الحركة يقتضي كونها مسبوقة بالغير و وجب كون ذلك الغير و الفاعل متقدّما على هذه الحركات، و الأثر غير المؤثّر فلا يمكن أن يقال: إنّ المؤثّر علّة موجبة بالذات بل فاعل مختار خارج من ذات الأشياء خالق لها مستغن عنها خلقها إفاضة و خيرا. كذب العادلون باللّه و ضلّوا ضلالا بعيدا.

قوله: [وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ] يعنى الليل و النهار و قيل: المراد: الجنّة و النار و «الجعل» هو الإنشاء و الإبداع كالخلق و الفرق بين الخلق و الجعل أنّ الخلق فيه معنى التقدير و الإنشاء التكويني و في الجعل معنى التصيير كإنشاء شي ء من شي ء و تصيير شي ء شيئا مثل قوله تعالى: «وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» (1) «وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» (2) و إنّما حسن لفظ الجعل في الآية لأنّ النور و الظلمة لمّا تعاقبا صار كان كل واحد منها تولّد من الآخر و قدّم ذكر الظلمات لأنّ عدم المحدثات متقدّم على وجودها كما روي أنّه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثمّ رشّ عليهم من نوره. و ذكر الظلمات بصيغة الجمع فعلى قول من قال: الظلمات الكفر، و النور الإيمان فظاهر لأنّ الحقّ واحد و الباطل كثير و أمّا على قول من فسّرهما على الكيفيّة المحسوسة لأنّ النور عبارة عن تلك الكيفيّة الكاملة القويّة و الظلمة تقبل التناقص قليلا قليلا و تلك المراتب كثيرة.

ثمّ ذكر بطريق التعجّب سبحانه ممّن جعل له شريكا مع ما يرى من الآيات الدالّة على وحدانيّته فقال: [ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] و جحدوا الحقّ [بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي

ص: 134


1- النساء: 1.
2- النبأ: 8.

يسوّون به غيره بأن جعلوا له أندادا. و من وجوه التعجّب أنّ هؤلاء الكفّار مع اعترافهم بأنّ اصول النعم منه تعالى و أنّه هو الخلق و الرازق كما قال: سبحانه «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»* (1) فنقضوا ما اعترفوا به و عبدوا غيره ما لا ينفع و لا يضرّ من الحجارة و غيرها.

قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا] أي ابتدأ خلقكم أيّها الناس من تراب مخلوط بالماء لما أنّه أصل البشر قال السدّيّ: بعث اللّه جبرئيل إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها فقالت الأرض: إنّي أعوذ باللّه منك أن تنقص منّي فرجع جبرئيل و لم يأخذ شيئا حياء من اسم اللّه قال: يا ربّ إنّها عاذت بك فبعث ميكائيل فاستعاذت كالمرّة الاولى، فاستعاذت فرجع ميكائيل فبعث إسرافيل فكان كذلك فبعث ملك الموت فعاذت منه باللّه فقال ملك الموت: و انا أعوذ باللّه أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء و السوداء و البيضاء فلذلك اختلف ألوان بني آدم ثمّ عجنها بالماء العذب و الملح و المرّ فقال اللّه لملك الموت: رحم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل الأرض و لم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك فلمّا خلق اللّه آدم من تراب و جعله طينا ثمّ تركه حتّى كان حمأ مسنون أي أسود متغيّرا، منتنا ثمّ خلقه و صوّره و تركه حتّى كان صلصالا كالفخّار أي يابسا مصوّتا كالمطبوخ بالنار، ثمّ نفخ فيه من روحه و لمّا كان آدم أصلنا و نحن من أصله جاز أن يقول لنا: خلقكم من طين أو أنّا متولّدون من النطفة و هي تتولّد من أجزاء الأرض، فصحّ هذا القول.

«ثُمَّ قَضى أَجَلًا» أي كتب و قدّر أجلا، و القضاء يكون بمعنى الحكم و بمعنى الأمر و بمعنى الخلق و بمعنى الإتمام و الإكمال. و المعنى: كتب لموت كلّ واحد منكم أجلا خاصّا به و حدّا معيّنا من الزمان ينفى عند حلوله لا محالة و «ثمّ» للإيذان بتفاوت بين خلقهم و تفاوت آجالهم.

[وَ أَجَلٌ مُسَمًّى أي و حدّ معيّن لبعثكم جميعا و «أجل» مبتدأ و خبره [عِنْدَهُ أي ثبت معيّن في علمه لا يتغيّر و لا يقف على وقت حلوله أحد و علمه عنده و هو يوم

ص: 135


1- لقمان: 25. الزمر: 38.

القيامة و قيل: الأجل الأوّل في الآية: النوم و الثاني: الموت و قيل: الأجل الأوّل مقدار ما انقضى من عمره و الأجل الثاني مقدار ما بقي.

قال حكماء الإسلام: إنّ لكلّ إنسان أجلين أحدهما الآجال الطبيعيّة و الثاني الآجال الاختراميّة؛ أمّا الآجال الطبيعيّة فهو الّذي لو بقي الشخص على طبيعته و مزاجه و لم يتعرّضه العوارض الخارجيّة و الآفات المهلكة لانتهت مدّة بقائه إلى أن تتحلّل رطوبته و ينطفئ حرارته الغريزيّتان و أمّا الآجال الاختراميّة فهي الّتي تحصل بسبب من الأسباب الخارجيّة كالحرق و الغرق و لدغ الحشرات و شرب السمّ و أمثالها.

فان قيل: إنّ قوله: «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ»* (1) و قوله:

«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ* [لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى»]* (2) صريح في الدلالة على السبق على المسمّى؛ فالجواب أنّ تعدّد الأجل إنّما هو بالنسبة إلينا و أمّا بالنسبة إليه فهو واحد قطعا، و بيانه أنّه تعالى عالم في الأزل بكلّ الموجودات و مقدّر لها حسبما شمله علمه، فهو يقول في الأزل مثلا: إنّ فلانا إن اتّقى و أطاع يبلغ إلى أجله المسمّى- و الأجل هاهنا الأجل الثاني الأطول- و إن لم يتّق لم يبلغ هذه المرتبة لكن يعلم أنّه يفعل أحد الفعلين معيّنا فيقدّر له الأجل المعيّن فيكون المقدّر في علم اللّه الأجل المعيّن، و إنّا لعدم اطّلاعنا من علم اللّه لم نعلم أنّ ذلك الفلان أيّ الفعلين فعل، و أيّما الأجلين قضي له؛ فإذا فعل أحدهما المعيّن، و حلّ الأجل المرتّب عليه علمنا أنّ ذلك هو المقدّر المسمّى.

فالتردّد بالنسبة إلينا لا في التقدير، و على هذا قول اللّه للكافر: أسلم تدخل الجنّة و لا تكفر تدخل النار، مع علمه عدم إسلامه في الأزل و الأمر و النهي لإظهار الإطاعة أو المخالفة في الظاهر كمن يريد إظهار عدم إطاعة عبده للحاضرين فيأمره بشي ء و هو يعلم أنّه لا يفعله، و العلم بعدم الإطاعة للحاضرين المترددين إنّما يحصل بأمره و كذا جميع

ص: 136


1- الحجر: 5.
2- نوح: 3- 4.

المقدّرات الالهيّة من أفعال العباد الاختياريّة من هذا القبيل.

فظهر أنّ التردّد بالنسبة إلينا دون علم اللّه إلّا أن يطّلعنا عليه بأخباره الواقع في علمه كما أخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم على بعض ما وقع من حال الكفّار في زمانه مثل قوله:

«أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»* (1) و مثل قوله تعالى: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» (2) فهذا إخبار بما في علمه من أنّهم لا يختارون الايمان انتهى.

قوله: [ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ خطاب للكفّار و الّذين شكّوا في البعث و النشور استبعاد لامترائهم في البعث و احتجاج عليهم بأنّه سبحانه خلقهم و قضى عليهم الموت و هم يشاهدون ذلك ثمّ بعد هذا يشكّون و يكذّبون بالبعث.

[سورة الأنعام (6): آية 3]

وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)

قوله تعالى:

قال الطبرسيّ: الأشبه أن يكون «هو» في الآية ضمير القصّة و الشأن و تقديره:

الأمر: اللّه يعلم في السماوات و في الأرض سرّكم و جهركم فاللّه مبتدأ و «يعلم» خبره و على قول من قال: إنّ أصل اللّه إله فيكون المعنى: هو المعبود في السماوات و الأرض او الشأن: المعبود في السماوات و في الأرض يعلم سرّكم و جهركم و يجوز أنّ الضمير راجع إلى المذكور.

قيل: و يكون الخطاب في سرّكم لجميع الخلق من الملائكة و الجنّ و الإنس فهو سبحانه عالم بجميع أسراركم و أحوالكم لكن إذا جعلت اسم اللّه علما ثمّ علّقت به قوله: «فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ» لم يجز و إن علّقته بمحذوف و يكون خبر «للّه» او حالا عنه أو هم بان يكون الباري سبحانه في محلّ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

و قال أبو بكر السرّاج: إنّ لفظ «اللّه» و إن كان علما ففيه معنى الثناء و التعظيم الذي يقرب من الفعل، فيجوز أن يتعلّق لذلك بالمحلّ، و تأويله: و هو المعظّم و المنزّه في

ص: 137


1- يس: 10.
2- البقرة: 6.

السماوات و في الأرض. قال الزجّاج: لو قلت: هو زيد في الدار لم يجز إلّا أن يكون في الكلام دليل على أنّ زيدا يدبّر أمر الدار فيؤول المعنى أنّ زيدا هو المدبّر في الدار و حينئذ على قول أبي بكر السرّاج و الزجّاج يكون الكلام في متعلّقه ما دلّ عليه اسم اللّه فيصحّ المعنى و يكون «هو اللّه» مبتدءا و خبرا أي هو المتفرّد بالألوهيّة في السماوات و في الأرض، يعنى في كلّ مكان إله فلا يكون إلى مكان أقرب من مكان.

ثمّ أكّد بقوله: [يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ أي الظاهر المشكوف و الخفيّ المكتوم [وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من نيّاتكم و أعمالكم و أحوالكم.

و تمسّك بعض الحمقاء القائلون بأنّ اللّه في مكان تمسّكوا بهذه الآية، قالوا:

هذه الآية تدلّ على أنّ الإله مستقرّ في السماء و هو غلط لأنّه يستلزم كونه في المكانين معا لأنّه قال: «وَ فِي الْأَرْضِ» و هو محال، و أجابوا عن هذا الجواب بأنّه أجمعوا على أنّه ليس بموجود في الأرض، و لا يلزم من ترك أحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر؛ فوجب أن يبقى ظاهر قوله: «وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ» على ذلك الظاهر ثمّ قالوا: و لأنّ من القرّاء من وقف عند قوله: «وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ» ثمّ يبتدئ فيقول: «وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ» و المعنى أنّه سبحانه يعلم سرائركم الموجودة في الأرض فيكون قوله: «فِي الْأَرْضِ» صلة لقوله: «سِرَّكُمْ» هذا تمام كلامهم الباطل.

قال الرازيّ: إنّا نقيم الدلالة أوّلا على أنّه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره من وجوه لأنّه تعالى قال في هذه السورة: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ» و بيّن بهذه الآية و غيرها من الآيات أن كلّ ما في السماوات و الأرض فهو ملك اللّه و مملوك له فلو كان اللّه أحد الأشياء الموجودة في السماوات لزم كونه ملكا لنفسه و ذلك محال. فإن قالوا: إنّه قال: «ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»* و كلمة «ما» مختصّة بمن لا يعقل، فلا يدخل فيها ذات اللّه؛ فالجواب أنّ هذا غير مسلّم و الدليل عليه قوله: «وَ السَّماءِ وَ ما بَناها وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها» (1) و كذلك «وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ»* (2)

ص: 138


1- الشمس: 75.
2- الجحد: 3.

و لا شكّ أنّ المراد بكلمة «ما» هو اللّه سبحانه.

و الوجه الثاني أنّ قوله: «وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ» إمّا أن يكون المراد منه أنّه موجود و متمكّن في جميع السماوات أو المراد أنّه موجود في سماء واحدة، و الثاني ترك للظاهر و الأوّل على قسمين لأنّه إمّا أن يكون الحاصل منه تعالى في أحد السماوات عين ما حصل منه في سائر السماوات أو غيره، و الأوّل يقتضي حصول المتحيّز الواحد في مكانين و هو باطل ببديهة العقل و الثاني يقتضي كونه مركّبا من الأبعاض و الأجزاء و هو باطل.

و الوجه الثالث أنّه لو كان موجودا و متمكّنا في السماوات لكان محدودا متناهيا، و ما كان كذلك كان قبوله للزيادة و النقصان ممكنا، و كلّ ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعيّن لتخصيص مخصّص و تقدير مقدّر و كلّ ما كان كذلك فهو محدث.

و الدليل الرابع على بطلان قولهم أنّه تعالى قال: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» و قال:

«نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» (1) و قال: «وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ» و كلّ ذلك تبطل القول بالمكان.

قيل: إنّ إمام الحرمين أستاذ الإمام الغزّاليّ نزل ببعض الأكابر ضيفا فاجتمع عنده العلماء فقام واحد من أهل المجلس فقال: ما الدليل على تنزّهه عن المكان و هو قال: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ؟ فقال: الدليل عليه قول يونس: في بطن الحوت:

«لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (2) فتعجّب منه الناظرون فالتمس صاحب الضيافة بيانه فقال الإمام: إنّ هاهنا فقيرا مديونا بألف درهم، أدّعنه دينه حتّى ابيّنه فقال صاحب الضيافة: عليّ دينه فقال: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا ذهب في المعراج إلى ما شاء اللّه قال هناك: لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، و لمّا ابتلى يونس بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت قال: لا اله إلّا أنت فكلّ منهما خاطبه بقوله «أنت» و هو خطاب الحضور و لو كان هو في مكان لما صحّ ذلك فدلّ ذلك على أنّه ليس في مكان.

ص: 139


1- ق: 15.
2- الأنبياء: 87.

[سورة الأنعام (6): الآيات 4 الى 5]

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)

قوله تعالى:

«ما» نافية «و من» الاولى لاستغراق الجنس الّذي يقع في النفي كقولك: ما أتاني من أحد، و «من» الثانية للتبعيض. أخبر سبحانه عن أحوال الكفّار المذكورين في أوّل الآية فقال: لا تأتيهم حجّة من حججه و بيّناته من المعجزات [إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لا يقبلونهما و لا يستذلّون لها من التوحيد و صدق رسوله [فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ رتّب و شرح أحوالهم مراتب، الأدنى: كونهم معرضين عن التامّل و النظر في الدلائل، و المرتبة الثانية كونهم مكذّبين بها لأنّ المعرض عن الشي ء قد يكون غير مكذّب به، و المرتبة الثالثة: يستهزءون لها لأنّ المكذّب بالشي ء قد يكون لا يبلغ تكذيبه به إلى حدّ العناد و الاستهزاء فبيّن سبحانه أنّهم على هذا الترتيب أحوالهم. و المراد بالحقّ في الآية أنّه المعجزات قال ابن مسعود: المراد: انشقاق القمر. و قيل: القرآن. و قيل: إنّه محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: إنّه الشرع الذي أتى به الرسول و قيل: إنّه الوعد و الوعيد الّذي يرغّبهم به تارة و يرهّبهم و يحذّرهم به اخرى و الأولى شمول الكلّ. و المراد من الأنباء العذاب الّذي أنبأ اللّه به لا نفس الأنباء. و معنى الاستهزاء قال الزجّاج: إيهام التفخيم في معنى التحقير.

[سورة الأنعام (6): آية 6]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)

قوله تعالى:

ثمّ حذّرهم سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم مثل قوم نوح و عاد و ثمود و فرعون، و أجرى كلامه مجرى الموعظة و النصيحة فقال سبحانه: [أَ لَمْ يَرَوْا] الهمزة للإنكار لتقرير الرؤية و الرؤية عرفانيّة متعدّية بمفعول واحد و الضمير لأهل مكّة أي ألم يعرفوا بمعاينة الآثار و سماع الأخبار المتواترة [كَمْ عبارة عن الأشخاص استفهامية كانت أو خبريّة [أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ أي من خلق أهل مكّة و أهل زمانهم من قرن و عصر من الأعصار، سمّوا بذلك لاقترانهم ببرهة من الدهر قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: خير القرون قرني ثمّ

ص: 140

الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم. و قيل: القرن عبارة عن مدّة من الزمان ثمانين سنة أو سبعين، أو ستّين، أو أربعين، أو مائة.

و منشأ هذا الاختلاف في معنى القرن بسبب اختلاف الأعمار في الأدوار و الأزمنة فعلى هذا المضاف محذوف، أي أهل قرن؛ لأنّ نفس الزمان لا يتعلّق به الهلاك فالمدّة الّتي يجتمع فيها قوم ثمّ يتفرّقون بالموت فهي قرن لأنّ الّذين يأتون بعدهم اقترنوا بالّذين مضوا.

[مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ و تمكين الشي ء في الأرض جعله قارّا فيها و مكّن استعمل باللّام و بدون اللام مثل قوله تعالى: [ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ أي أعطيناهم ما لم نعطكم من العمر و المال و غيره [وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ] أي المطر و الغيث [عَلَيْهِمْ مِدْراراً] و المدرار الكثير الجري و الصبوب و هو حال من السماء صيغة مبالغة كمفضال [وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت أشجارهم و قصورهم و أبياتهم [فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي أهلكت كلّ قرن من تلك القرون بسبب ما يخصّهم من الذنوب [وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ و أحدثنا من بعد إهلاك كلّ قرن [قَرْناً آخَرِينَ بدلا من الهالكين و هو بيان كمال قدرته وسعة سلطانه و أنّ إهلاكهم لم ينقص من ملكه و قدرته شيئا بل كلّما أهلك أمّة أنشأ عوضها اخرى.

و في تفسير روح البيان عن أبي الدرداء أنّه قال: إنّ للّه عبادا يقال لهم الأبدال لم يبلغوا ما بلغوا بكثرة الصوم و الصلاة و حسن الحلية و لكن بلغوا بصدق الروع و حسن النيّة و سلامة الصدر و الرحمة للمؤمنين اصطفاهم اللّه بعلمه و استخلصهم لنفسه، و هم أربعون رجلا على مثل قلب إبراهيم لا يموت الرجل منهم حتّى يكون اللّه قد أنشأ من يخلفه و قد قيل في حقّهم: إنّهم لا يؤذون من تحتهم و لا يحقّرونه و لا يحسدون من فوقهم أطيب الناس خبرا، و ألينهم عريكة، و أسخاهم نفسا لا تسبقهم الخيل المجراة، و لا الرياح العواصف فيما بينهم و بين ربّهم، إنّما قلوبهم تصعد في الصفوف العلى ارتياحا الى اللّه في استباق الخيرات أولئك حزب اللّه ألا إنّ حزب اللّه هم المفلحون.

ص: 141

[سورة الأنعام (6): آية 7]

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

قوله تعالى:

نزلت الآية في النضر بن الحارث و عبد اللّه بن اميّة و نوفل بن خويلد قالوا:

يا محمّد لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند اللّه و معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنّه من عند اللّه و أنّك رسوله، عن الكلبيّ.

المعنى: أخبر اللّه سبحانه عن جحودهم [وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا محمّد [كِتاباً] مصدر بمعنى مفعول أي مكتوبا في رقّ و صحيفة و قيل: كتابا معلّقا من السماء إلى الأرض، عن ابن عبّاس [فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ أي فعاينوا ذلك معاينة و مسّوه. و اللّمس باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة فلذلك قال «فلمسوه» دون أن يقول: فعاينوه [لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لقال الكفّار عنادا بعد ظهوره كما هو دأب المحجوج اللّجوج: ما هذا الكتاب إلّا السحر الظاهر. قال الطبرسيّ: و في هذه الآية دلالة على ما يقول أهل العدل في اللّطف لأنّه بيّن أنّه لم يفعل ما سألوه حيث علم أنّهم لا يؤمنون عنده.

[سورة الأنعام (6): الآيات 8 الى 10]

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

قوله تعالى:

أخبر سبحانه تعالى عن حالهم ما يقولون في إنكار نبوّته صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الضمير في «عليه» للنبيّ أي هلّا انزل عليه ملك بحيث نراه و يكلّمنا أنّه نبيّ [وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً] على هيئته حسبما اقترحوه- و الحال أنّه من هول المنظر بحيث لا يطيق مشاهدته قوى الآحاد البشريّة.

[لَقُضِيَ الْأَمْرُ] أي هلاكهم بالكلّيّة، و القضاء في اللّغة على ضروب كلّها يرجع إلى معنى انقطاع الشي ء و تمامه.

و ذلك لأنّ إنزال الملك آية باهرة فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء فربّما لم يؤمنوا و إذا لم يؤمنوا وجب عليهم عذاب الاستئصال فانّ سنّة اللّه جارية بأنّ عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال كناقة صالح مثلا، فما أنزل اللّه الملك لهذه الحكمة؛ أو أنّهم إذا شاهدوا الملك بصورته

ص: 142

زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون؛ ألا ترى أنّ أشرف الخلق لمّا رأى جبرئيل على صورته الأصليّة غشي عليه؟ أما ترى أنّ جميع الرسل ما عاينوا الملائكة إلّا بصورة البشر كأضياف إبراهيم و أضياف لوط و كاللّذين تسوّرا المحراب، و كجبرئيل حيث تمثّل لمريم بشرا سويّا. و الوجه الثالث أنّ إنزال الملك آية جارية مجرى الإلجاء و إزالة الاختيار و ذلك مخلّ بصحّة التكليف.

[ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون بعد نزوله طرفة العين [وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً] أي لو جعلنا الرسول ملكا و الّذي ينزل عليه ليشهد بالرسالة كما يطلبون ذلك [لَجَعَلْناهُ رَجُلًا] لأنّهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته لأنّ أعين الخلق يحار عن رؤية الملائكة إلّا بعد التجسّم بالأجسام الكثيفة [وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ أي إذا امتنع إرسال الملك للجهات الّتي بيّنا من أنّ رؤية الملك غير ممكنة و أرسلناه بصورة البشر فهم يظنّون كون ذلك الملك بشرا فيعود سؤالهم بأنّا لا نرضى برسالة هذا الشخص و لو أنّا فعلنا هكذا بأن نبعث الملك بصورة البشر لصار فعل اللّه نظيرا لفعلهم في التلبيس و يبقون في اللبس و الشبهة الّتي كانوا فيها و قيل: معنى قوله: «وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» أي و لو أنزلنا ملكا لما عرفوه إلّا بالتفكّر و هم لا يتفكّرون فيبقون في اللبس الّذي كانوا فيه فأضاف اللبس إلى ذاته لأنّه يقع عند إنزاله الملائكة.

ثمّ قال على سبيل التسلية لنبيّه من تكذيب المشركين إيّاه و استهزائهم فقال:

[وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي لقد استهزئت الأمم الماضية برسلها كما استهزأ بك قومك فلست بأوّل رسول استهزئ به [فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي فحلّ بالساخرين منهم من وعيد أنبيائهم بالعقاب في الدنيا و قيل: أحاط بهم العذاب الّذي كان توعّدهم به نبيّهم إن لم يؤمنوا و حاصل المعنى: أحاط بهم العذاب الّذي كان يسخرون بوقوعه. و الحيق: ما يشمل على الإنسان من مكروه فعله و يجوز أن يكون المراد من «ما» عبارة عن القرآن و الشريعة في قوله: «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فتصير» هذه الآية من باب حذف المضاف و التقدير: فحاق بهم عقاب [ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ .

[سورة الأنعام (6): الآيات 11 الى 13]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)

قوله تعالى:

ص: 143

[قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار المكذّبين: [سِيرُوا فِي الْأَرْضِ و سافروا [ثُمَّ انْظُرُوا] بأبصاركم و تفكّروا بقلوبكم [كَيْفَ صار و آل عاقبة أمر المكذّبين المستهزئين، و إنّما أمرهم بذلك لأنّ ديار المكذّبين من الأمم السالفة كانت باقية و أخبارهم في الخسف و الهلاك كانت شائعة فإذا سار هؤلاء في الأرض و سمعوا أخبارهم و عاينوا آثارهم دعاهم ذلك إلى الإيمان و زجرهم عن التكذيب و الطغيان.

ثمّ قال: [قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار: [لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أ للّه الّذي خلقما أم للأصنام؟ فإن أجابوك فقالوا: للّه و إلّا ف [قُلْ أنت: [لِلَّهِ .

و في تصدّي السائل للجواب قبل أن يجيب غيره إيماء إلى أنّ مثل هذا السؤال لكون جوابه متعيّنا ليس من حقّه أن ينتظر جوابه بل حقّه أن يبادر إلى الاعتراف بالجواب و لزوم الحجّة؛ و لهذه الجهة أمر اللّه نبيّه بالسؤال أوّلا ثمّ بالجواب ثانيا و هذا يحسن في الموضع الّذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر و لا يقدر على دفعه دافع.

و المقصود من تقرير هذه الآية تحذير الكفّار و تقرير إثبات الصانع الأحد، و تقرير النبوّة و المعاد؛ و بيانه أنّ أحوال العالم العلويّ و السفليّ يدلّ على أنّ جميع هذه الأجسام مملوك للّه و هو المالك و الملك المطاع المتصرّف، له الأمر و النهي على مملوكه و عبيده، و الأمر لا بدّ له من مبلّغ و ذلك يلزم بعثة المبلّغ و الرسول من جانبه تعالى إلى الخلق و لمّا كان الكلّ تحت قدرته و سلطنته فهو قادر على إيجاده و إفنائه و إعادته و الآية مقرّرة لجميع هذه الأمور.

[كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] أي أوجب على ذاته الرحمة و أوجبه إيجاب الفضل و الكرم و اختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم: المراد من الرحمة هي أنّه تعالى يمهلهم مدّة عمرهم و يرفع عنهم عذاب الاستئصال و لا يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا و هذا لامّة محمّد،

ص: 144

و قيل: إنّ المراد أنّه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل و تاب و أناب و صدّق شريعتهم؛ و في الحديث ورد أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لمّا فرغ اللّه من الخلق كتب كتابا إنّ رحمتي سبقت غضبي.

فإن قيل: الرحمة إرادة الخير و الغضب إرادة الانتقام و ظاهر هذا الحديث يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الاخرى و المسبوق بالغير محدث فهذا يقتضي كون إرادة اللّه محدثة؛ فالجواب أنّ المراد بهذا السبق الكثرة لا سبق الزمان، قاله الرازيّ، و عن سلمان أنّه تعالى لما خلق السماوات و الأرض خلق مائة رحمة كلّ رحمة مل ء ما بين السماء و الأرض فعنده تسع و تسعون رحمة و قسّم رحمة واحدة بين الخلائق فيها يتعاطفون و و يتراحمون فإذا كان آخر الأمر قصّرها على المتّقين.

قوله: [لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] اللّام لام قسم مضمر أي و اللّه ليجمعنّكم و اختلفوا في أنّ قوله «لَيَجْمَعَنَّكُمْ» ابتداء كلام أو متعلّق بما قبله؟ فقال بعض المفسّرين:

إنّه ابتداء كلام و قالوا: إنّه تعالى بيّن كمال إلهيّته بقوله: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ» ثمّ بيّن أنّه يرحمهم في الدنيا بالإمهال و بيّن أنّه يجمعهم إلى يوم القيامة و لا يهملهم بل يحشرهم و يحاسبهم على كلّ ما فعلوا، و قيل: إنّه متعلّق بما قبله، و التقدير: كتب ربّكم على نفسه الرحمة و كتب على نفسه ليجمعنّكم إلى يوم القيامة. و قيل: البيان يفيد هذا المعنى و هو أنّه لمّا قال: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» فكأنّه قيل: و ما تلك الرحمة؟ فقيل: إنّه ليجمعنّكم و ذلك لأنّه لو لا خوف العذاب من يوم القيامة لحصل الهرج و المرج و لارتفع الضبط و كثر الخبط، فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا فيكون قوله: «ليجمعنّكم» كالتغيّر كقوله:

«كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ».

و «إلى» في الآية بمعنى «في» و قيل: إنّها صلة فالتقدير ليجمعنّكم يوم القيامة و قيل: فيه حذف أي ليجمعنّكم إلى المحشر في يوم القيامة لأنّ الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان و قيل: المعنى ليجمعنّكم في الدنيا بخلقكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة [لا رَيْبَ فِيهِ و لا شكّ أنّه واقع لا محالة.

ص: 145

قوله: [الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ قال الأخفش: «الَّذِينَ» موضعه نصب على البدليّة من الضمير في «ليجمعنّكم» و المعنى: ليجمعنّ هؤلاء الّذين خسروا أنفسهم و قال الزجّاج: إنّ قوله: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» رفع بالابتداء و قوله «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» خبره؛ لأنّ قوله «ليجمعنّكم» مشتمل على الكلّ على الّذين خسروا و على غيرهم، فالّذين خسروا أنفسهم هم الّذين لا يؤمنون بتضييع رأس مالهم و هو الفطرة الأصليّة الّتي فطر الناس عليها.

فإن قيل: كيف يحذّر المشركين بالبعث و النشور و هم لا يصدّقون به؟ فالجواب أنّه جار مجرى الإلزام بسبب ذكر الدليل.

فان قيل: كيف نفى الريب مطلقا و الكافر منكر أو مرتاب بعضهم؟ فالجواب أنّ الحقّ حقّ و إن ارتاب المبطل فإنّ الدليل حكم بالسمع و العقل أنّ التمكين من الظلم من غير انتصاف إمّا في العاجل أو في الآجل قبيح فوجب أن يكون دار اخرى و ينتصف المظلوم من الظالم.

[وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] أي كلّ متمكّن ساكن خلقا و ملكا و ذكر في السابق السماوات و الأرض و هنا اللّيل و النهار لأنّ الأوّل مجمع المكان و الثاني مجمع الزمان و هما ظرفان لكل موجود فكأنّه تعالى أراد الأجسام و الأعراض و إنّما ذكر الساكن دون المتحرّك لأنّ عاقبة التحرّك السكون و الساكن أعمّ و أكثر من المتحرّك أو أنّ المراد الساكن و المتحرّك؛ و التقدير: ما سكن و ما تحرّك إلّا أنّ العرب قد يذكر أحد وجهي الشي ء و يحذف الآخر بسبب أنّ المذكور ينبّه عن المحذوف كقوله:

«سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» (1) و المراد الحرّ و البرد.

و المراد من الآية باختصاص الذكر في المخلوقات بالسكون و الحركة من بين سائر كيفيّاتها التنبيه على حدوث العالم و إثبات الصانع لأنّ كلّ جسم لا ينفكّ من الحوادث الّتي هي الحركة و السكون فإذا لا بدّ من محرّك و مسكّن لاستواء الوجهين في الجواز و الإمكان فلا بدّ من وجود المخصّص بأحدهما دون الآخر و قيل: المراد من السكون الحلول كما يقال: فلان يسكن بلد كذا.

ص: 146


1- النحل: 83.

و على هذا يعمّ كلّ ما خلق.

و لمّا ثبت بالبيان و الأدلّة ثبوت الصانع و وجوب ذاته عقّبه بذكر صفته.

فقال: [وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ و السميع هو الّذي على صفة يصحّ لأجلها أن يسمع المسموعات إذا وجدت و هو كونه حيّا لا آفة به و لذلك يوصف به فيما لم يزل، و العليم هو العالم بوجوه التدبير و الأمر في خلقه و بكلّ ما يصحّ أن يعلم.

قيل في سبب نزول هذه الآية: إنّ كفّار مكّة أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا:

قد علمنا أنّك ما يحملك على ما تدعونا اليه إلّا الفقر و الحاجة، فنحن نجمع لك من القبائل أموالا تكون أغنانا رجلا و ترجع عمّا أنت عليه من الدعوة فنزلت: «وَ لَهُ ما سَكَنَ»، الآية و قيل: إنّ شأن النزول في الآية الّتي بعد هذه الآية و هي «قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ» و هو الأقرب.

قيل في سبب تقديم اللّيل في الذكر: لشرافة الليل مع أنّ النهار مضي ء و الليل مظلم، و في الخبر أنّ اللّه تعالى خلق جوهرتين أحدهما مظلمة و الآخر مضيئة، فاستخلص من المضيئة كلّ نور فخلق من نورها النهار و من الباقي النار، و استخلص من الظلمة كلّ ظلمة فخلق منها اللّيل و خلق من الباقي الجنّة؛ فاللّيل من الجنّة و النهار من النار و لذلك كان الانس بالليل أكثر و اللّيل انس المحبّين و قرّة أعين المخلصين، و اللّيل لخدمة المولى و النهار لخدمة الخلق، و معراج النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان باللّيل و القدر في اللّيل و هي خير من ألف شهر و كان بعض الأولياء يقول: إذا جاء اللّيل جاء الخلق الأعظم.

قال: الحقّيّ في تفسيره: و في الخبر عن سلمان رضي اللّه عنه قال: اللّيل موكّل به ملك يقال له شراهيل فإذا حان وقت اللّيل أخذ خرزة سوداء فدلّاها من قبل المغرب فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة العين و قد أمرت أن لا تغرب حتّى ترى الخرزة، فإذا غربت جاء اللّيل و قد نشرت الظلمة من تحت جناحي ملك فلا تزال الخرزة معلّقة حتّى يجي ء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلّقها من قبل المطلع فإذا رأتها الشمس طلعت في طرفة عين و قد أمرت أن لا تطلع حتّى ترى الخرزه

ص: 147

البيضاء فإذا طلعت جاء النهار فنشر النور من تحت جناحي ملك فلنور النهار ملك موكّل و لظلمة الليل ملك موكّل عند الطلوع و الغروب انتهى.

[سورة الأنعام (6): الآيات 14 الى 15]

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

قوله تعالى:

قال ابن عبّاس: ما كنت أدري معنى الفاطر حتّى احتكم إليّ أعرابيّان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأت حفرها و أصل الفطر الشقّ و منه إذا السماء انفطرت أي انشقّت. قال الزجّاج: فإن قال قائل: كيف يكون الفطر في معنى الخلق و الانفطار بمعنى الانشقاق؟ قيل: إنّهما يرجعان إلى شي ء واحد لأنّ معنى فطرهما خلقهما خلقا قاطعا.

المعنى: [قُلْ يا محمّد لكفّار مكّة و نزلت حين دعوه إلى الشرك و دين قومه [أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا] و معبودا فعلى هذا يكون شأن نزول الآية السابقة في هذه الآية أولى و قد ذكره الحقّيّ في شأن الآية السابقة و أظنّه وها منه. و «غير» منصوب على المفعول الأوّل لأتّخذ و «وليّا» مفعول ثان، أي لا أتّخذ غير اللّه ربّا و إلها [فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبدعهما ابتداء لا على مثال سبق و هو يدلّ على الجلالة [وَ هُوَ] و الحال أنّه [يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ أي يرزق الخلق و لا يرزق و تخصيص الطعام بالذكر لشدّة الحاجة إليه.

[قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وجهه للّه مخلصا له لأنّ النبيّ إمام امّته في الإسلام [وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ و قيل لي: لا تكوننّ من المشركين به في أمر من امور الدين، و حاصل المعنى: أمرت بالإسلام و نهيت عن الشرك قال الرازيّ:

و يجوز أن يكون المعنى في قوله: «وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ» أن يكون و هو يطعم تارة و لا يطعم اخرى على حسب المصالح كقوله: يعطي و يمنع و يبسط و يقدر و يغني و يفقر.

و حقيقة الإسلام الإخلاص من حبس الوجود و ما خلص منه غيره صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالكلّيّة و لهذا يقول الأنبياء: نفسي نفسي و هو يقول: امّتي امّتي و هذا هو السرّ في تفاوت المثوبات.

[قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بمخالفة أمره و نهيه أيّ عصيان كان [عَذابَ يَوْمٍ

ص: 148

عَظِيمٍ أي عذاب يوم القيامة و فيه تعريض بأنّهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم.

[سورة الأنعام (6): آية 16]

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

قوله تعالى:

أي من يصرف عنه العذاب في ذلك اليوم العظيم و «يومئذ» ظرف للصرف [فَقَدْ رَحِمَهُ أي نجّاه و أنعم عليه [وَ ذلِكَ الصرف [الْفَوْزُ الْمُبِينُ و النجاة الظاهرة، قال الطبرسيّ:

و يحتمل أن يكون معنى الآية أنّه لا يصرف العذاب عن أحد إلّا برحمة اللّه كما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و الّذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنّة بعمله قالوا: و لا أنت يا رسول اللّه قال: و لا أنا إلّا أن يتغمّدني اللّه برحمته و فضله و وضع يده على فوق رأسه و طوّل بها صوته رواه الحسن في تفسيره.

[سورة الأنعام (6): الآيات 17 الى 18]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)

قوله تعالى:

دليل آخر على أنّه لا يجوز للإنسان أن يتّخذ غير اللّه وليّا و إن يمسسك ببليّة أو فقر أو مرض فلا قادر على كشفه و لا مفرّج له عنك إلّا هو تعالى و لا يملك كشفه سواه ممّا يعبده المشركون [وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ] و يصبك بغنى أو سعة في الرزق أو صحّة أو شي ء من محابّ الدنيا [فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فكان قادرا على إدامته و لا رادّ لفضله.

[وَ هُوَ الْقاهِرُ] القادر الّذي لا يعجزه غيره، و هو قادر على أن يقهر غيره و هو مستعل [فَوْقَ عِبادِهِ بالقدرة و الإحاطة [وَ هُوَ الْحَكِيمُ في كلّ ما يفعله [الْخَبِيرُ] بأفعال عباده و عبّر قدرته و قهره و علوّ شأنه بالعلوّ الحسّيّ و عبّر عنه بالفوقيّة بطريق الاستعارة التمثيليّة فإنّه تعالى يقهر المعدومات بالإيجاد و التكوين و الموجودات بالإفناء و الإعدام لا من حيث المكان لعلوّ شأنه عن ذلك.

[سورة الأنعام (6): الآيات 19 الى 20]

قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)

قوله تعالى:

ص: 149

النزول: قال الكلبيّ: أتى أهل مكّة رسول اللّه فقالوا: أما وجد اللّه رسولا غيرك؟

ما نرى أحدا يصدّقك فيما تقول، و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنّه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنّك رسول اللّه كما تزعم فأنزل اللّه هذه الآية.

[قُلْ يا محمّد- صلى اللّه عليه و آله و سلّم- لهؤلاء الكفّار: [أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً] و أعظم و أصدق حتّى آتيكم به و أدلّكم بذلك على أنّي صادق؟ و قيل: معناه: أيّ شي ء أكبر شهادة حتّى يشهد لي بالبلاغ و عليكم بالتكذيب، عن الجّباني. و قيل معناه أي شي ء أعظم حجّة و أصدق شهادة، عن ابن عبّاس، فإن قالوا: اللّه و إلّا فقل لهم: [اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ يشهد لي بالرسالة و النبوّة لأنّه أوحى إليّ هذا القرآن و هو معجزة لأنّكم أنتم الفصحاء و البلغاء و قد عجزتم عن معارضته فإذا كان إظهار اللّه إيّاه على وفق دعواي شهادة من اللّه على كوني صادقا في دعواي، و الحاصل أنّهم لمّا طلبوا شاهدا مقبول الحجّة يشهد على نبوّته سبحانه أنّ أكبر الأشياء شهادة هو اللّه و شهد له بالنبوّة، و هو المراد من قوله:

[وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ و لا خوّفكم بما فيه من الوعيد أيّها الموجودون وقت نزول القرآن [وَ مَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين في «لأنذركم» أي و من بلغه القرآن من الإنس و الجنّ إلى يوم القيامة. و العائد محذوف أي و من بلغه القرآن و قيل: معنى من بلغ أي من احتلم و بلغ حدّ التكليف فعلى هذا لا يحتاج إلى العائد، و هو قول ضعيف؛ قال محمّد بن كعب القرطبيّ من بلغه القرآن فكأنّما رأى محمّدا و سمع منه، قال أهل التفسير: و في قوله: [وَ مَنْ بَلَغَ دلالة على أنّه مبعوث إلى الكافّة.

ثمّ قال توبيخا لهم: [قُلْ يا محمّد- صلى اللّه عليه و آله و سلّم- [أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى استفهام معناه الجحد و الإبكار، و إلجاء لهم إلى الإقرار بإشراكهم أو لا سبيل لهم إلى الإنكار لاشتهارهم و إذعانهم بهذا الشرك، أي و كيف تشهدون أنّ مع اللّه آلهة اخرى بعد وضوح الحجّة بوحدانيّته؟ [قُلْ لهم: [لا أَشْهَدُ] بذلك فإنّه باطل.

[قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ] تكرير الأمر للتأكيد أي بل إنّما أشهد أنّه تعالى متفرّد بالألوهيّة [وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من إشراككم و من تعدّد الآلهة قال أهل العلم:

ص: 150

ينبغي و يستحبّ لمن أسلم بل للمسلم أن يأتي بالشهادات و يتبرّأ من كلّ دين سوى الإسلام.

ثمّ ذكر سبحانه أنّ الكفّار بين جاهل و معاند فقال: [الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ المراد بالموصول اليهود و النصارى و بالكتاب الجنس المنتظم للتوراة و الإنجيل يعرفون محمّدا بحليته و نعوته في كتابهم كما يعرفون أولادهم روي أنّ رسول اللّه لما قدم المدينة قال عمر لعبد اللّه بن سلام: أنزل اللّه على نبيّه هذه الآية فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد اللّه: يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني و أنا أشدّ معرفة بمحمّد منّي بابني لأنّي لا أدري ما صنع النساء، و أشهد أنّه حقّ من اللّه تعالى.

[الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي غبنوا أنفسهم من أهل الكتابين و المشركين بأن ضيّعوا فطرة اللّه و أعرضوا عن البيّنات الموجبة للإيمان و هو مبتدأ خبره قوله: [فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و الفاء السبية تدلّ على أنّ تضييع الفطرة الأصليّة سبب لعدم الإيمان و ذلك أنّ اللّه جعل لكل آدميّ منزلا في الجنّة و منزلا في النار فإذا كان يوم القيامة جعل اللّه للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة و لأهل النار منازل أهل الجنّة في النار و ذلك هو الخسران.

[سورة الأنعام (6): الآيات 21 الى 22]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)

قوله تعالى:

المعنى: [وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ لو صفهم محمّدا صلى اللّه عليه و آله و سلّم المبعوث في الكتابين بخلاف أوصافه فإنّ تحريف أوصافه صلى اللّه عليه و آله و سلّم افتراء على اللّه و كذلك بقولهم:

الملائكة بنات اللّه أي لا أحد أظلم منه [أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ مثل أن كذّبوا بالقرآن و بالمعجزات و سمّوها سحرا و حرّفوا بعض أحكام التوراة و غيّروا نعوته صلى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّ كلّ ذلك تكذيب بآياته. و كلمة «أو» للإيذان بأنّ كلّا من الافتراء و التكذيب وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم، كيف و هم قد جمعوا فأثبتوا ما نفاه اللّه و نفوا ما أثبته؟.

[إِنَّهُ ضمير الشأن [لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ و لا ينجحون من مكروه و لا يفوزون

ص: 151

بمطلوب و إذا كان حال الظالمين هذا فما ظنّك بمن في غاية القاصية من الظلم؟ [وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ و قرء بالياء و الحشر جمع الناس إلى موضع معلوم و الضمير للكلّ و [جَمِيعاً] حال للضمير أي و يوم نحشر الناس جميعا كلّهم [ثُمَّ نَقُولُ للمشركين خاصّة للتوبيخ و التقريع على على رؤوس الأشهاد [أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ و العطف بثمّ للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في الموقف فإنّ فيه مواقف بين كلّ موقف و موقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم، أين آلهتكم الّتي جعلتموها شركاء للّه؟ و الإضافة مجازيّة باعتبار إثباتهم الشركة في العبادة لآلهتهم [الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي الشركاء الّذين تزعمون أنّها شركاء و شفعاء. و الزعم القول الباطل و الكذب في أكثر استعمال.

قيل: لكلّ شي ء لقب و لقب الكذب الزعم، و تقدير الكلام أنّ ذلك اليوم بعد ذلك القول للمشركين كان من الأحوال و الأهوال مالا يحيط به دائرة المقال.

[سورة الأنعام (6): آية 23]

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا الفتنة مرفوع على أنّه اسم «تكن» و الخبر «إِلَّا أَنْ قالُوا» و الفتنة إمّا كفرهم يراد به عاقبة أي لم تكن عاقبة كفرهم الّذي التزموه في الدنيا بأن يقولوا: وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و قرء ربّنا بالنصب بإضمار أعني أو على النداء أي و اللّه يا ربّنا. و قرأ الباقون بكسر الباء على أنّه صفة للّه تعالى و بالجملة حلفوا أنّهم ما كانوا مشركين و وجه السؤال في الآية لأنّهم لمّا رأوا تجاوز اللّه عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض: إذا سألتم فقولوا إنّا موحّدون فلمّا جمعهم اللّه قال: أين شركاؤكم؟

ليعلموا أنّ اللّه يعرف شركهم في الدنيا و أنّه لا ينفعهم الكتمان و هم أنكروا الشرك و حلفوا فلعلّ لمّا رأوا معاملة اللّه مع أهل التوحيد قالوا: «ما كُنَّا مُشْرِكِينَ».

قال ابن عباس و قتادة: إنّ المعنى في قوله: «لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا» أي لم يكن معذرتهم إلّا أن قالوا: و اللّه ربّنا ما كنّا مشركين و هو المرويّ عن الصادق، و يجوز أن يكون الفتنة افتتانهم بالأوثان و الشرك كما قال ابن عبّاس: فتنتهم يريد شركهم في الدنيا و هذا القول يرجع إلى حذف المضاف، فحينئذ المعنى: لم يكن عاقبة فتنتهم إلّا البراءة منها و هذا المعنى قريب من القول المرويّ عن الصادق.

و قال الزجّاج في معنى الآية: إنّه لمّا ذكر أمر المشركين و أنّهم مفتونون

ص: 152

بشركهم أخبر في هذه الآية أنّه لم يكن افتتانهم بشركهم و إقامتهم عليه إلّا أن تبرّؤوا منه و انتفوا منه فحلفوا أنّهم ما كانوا مشركين قال الزجّاج: و هذا المعنى حسن شائع لا يعرف تأويله إلّا من عرف معاني الكلام و تصرّف العرب في ذلك، و مثاله أن ترى إنسانا يحبّ رجلا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تباعد و تبرّأ منه فيقال له: ما كانت محبّتك لفلان إلّا أن أتقنت منه.

فإن قيل: إنّ كلّ الناس ملجؤون في الآخرة بترك القبيح لمشاهدته الحقائق و لمعرفتهم باللّه ضرورة فكيف يجوز لهم أن يكذّبوا؟ الجواب أنّ معناه ما كنّا مشركين في اعتقادنا و هم يعتقدون في الدنيا كونهم مصيبين فيحلفون على هذا، فعلى هذا يكون قولهم و حلفهم بزعمهم يقعان على وجه الصدق. و قيل وجه آخر و هو أنّهم إنّما يحلفون على ذلك لزوال عقولهم بما يلحقهم من الدهشة من أهوال يوم القيامة.

[سورة الأنعام (6): آية 24]

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)

المعنى:

يقول اللّه عند حلف هؤلاء انظر يا محمّد كيف يفترون على أنفسهم و هذا و إن كان لفظه لفظ الاستفهام فالمراد التنبيه على التعجّب منهم و حاصل المعنى: انظر إلى إخباري عن افترائهم كيف هو بأنّه لا يمكن النظر إلى ما يوجد في الآخره و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون، المراد أوثانهم الّتي كانوا يعبدونها و يفترون الكذب بقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه غدا فذهبت عنهم فلم ينتفعوا بها، أو هو عامّ في كلّ ما يعبد من دون اللّه أنّها تضلّ عن عابديها يوم القيامة و لا يغني عنهم شيئا و اختلف في أنّ أهل الآخرة هل يجوز أن يقع منهم الكذب أم لا؟ قيل:

يجوز ذلك لما يلحقهم من الحسرة و الدهش في القيامة لكن بعد ما استقرّ أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار لا يجوز أن يقع منهم القبيح و به قال أبو بكر الاخشيديّ و أصحابه و قال بعضهم: إنّه لا يجوز وقوعه منهم على جميع الأحوال.

[سورة الأنعام (6): آية 25]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)

قوله تعالى:

النزول: قيل: إنّ نفرا من مشركي مكّة منهم النضر بن الحرث و أبو سفيان

ص: 153

ابن الحرب و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة و أخوه شيبة و غيرهم جلسوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقرء القرآن فقالوا للنضر: ما يقول محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم؟ فقال النضر: أساطير الأوّلين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية فأنزل اللّه هذه الآية فقال:

[وَ مِنْهُمْ أى و من الكفّار الّذين تقدّم ذكرهم [مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ أي يستمعون إلى كلامك إذا قرأت القرآن [وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً] و قد مرّ شرح هذا العنوان في سورة البقرة عند قوله: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ الآية» قال القاضي أبو عاصم العامريّ: أصحّ الأقوال فيه ما روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي بالليل و يقرء القرآن في الصلاة جهرا رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان من قريش أو غير قريش فيتدبّر في معانيه و يؤمن به، فكان المشركون إذا سمعوه آذوه و منعوه عن الجهر بالقراءة فكان اللّه تعالى يلقي عليهم النوم أو يجعل في قلوبهم أكنّة ليمتنعوا عن أذاه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و يقطّعهم عن مرادهم و ذلك بعد أن بلغهم ما يقوم به الحجّة و ينقطع به المعذرة و أسمعهم، و بعد ما علم اللّه سبحانه أنّهم لا ينتفعون بسماعه و لا يؤمنون فشبّه إلقاء النوم بجعل الغطاء على قلوبهم و بوقر آذانهم و هذا معنى قوله: «وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً» (1) و هو قول أبي عليّ الجبّائيّ أيضا.

و يجوز أن يكون سمّى الكفر الّذي في قلوبهم تشبيها و مجازا و قرا و أكنّة توسّعا لأنّ مع الكفر و الإعراض لا يحصل الإيمان و الفهم كما لا يحصلان مع الكن و الوقر. و نسب ذلك إلى ذاته لأنّه الّذي شبّه أحدهما بالآخر كما يقول أحدنا لغيره إذا أثنى على إنسان و ذكر مناقبه: جعلته فاضلا و بالضدّ إذا ذكر مقابحه و فسقه يقال له:

جعلته فاسقا و كما يقال: جعل القاضي فلانا عدلا، و كلّ ذلك يراد به الحكم عليه بذلك و الإبانة عن حاله كما قال الشاعر:

جعلتني باخلا كلّا و ربّ مني إنّي لأسمح كفّا منك في اللزب

و معناه: سمّيتني باخلا.

ص: 154


1- الإسراء: 47.

[وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها] أي إن يروا كلّ عبرة لم يعتبروا بها، أو و إن يروا كلّ معجزة دالّة على نبوّتك لا يؤمنوا بها لعنادهم، عن الزجّاج؛ و قال تعالى في وصف بعض الكفّار: «وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، الآية» (1) و لو اجري معنى الآية على ظاهرها لم يكن لهذا معنى لأنّ من لا يمكنه أن يسمع و يفقه لا يستحقّ المذمّة لأنّه لم يعط آلة السمع فكيف يذمّ على ترك السمع؟.

[حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي أنّهم إذا دخلوا عليك يجيؤون مخاصمين رادّين عليك قولك و لم يجيؤوا مجي ء من يريد الرشاد و بلغ بهم ذلك العناد إلى أنّهم إذا جاءوك جاءوك رادّين [يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي لا يكتفون بعدم الإيمان بما سمعوا من الآيات الكريمة بل يقولون: [إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي إنّ هذا القرآن من القصص القديمة الّتي يحكونها، جمع اسطورة كالأعاجيب جمع أعجوبة.

[سورة الأنعام (6): آية 26]

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (26)

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ أي يمنعون و ينهون غيرهم عن القرآن و الإيمان به و يتباعدون عن القرآن بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم منه فإنّ اجتناب الناهي عن المنهيّ عنه من متمّمات النهي.

قال الرازيّ: الضمير في قوله «يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ» و قد سبق ذكر القرآن و ذكر محمّد فمحتمل أن يرجع إلى القرآن و أن يكون عايدا إلى محمّد، فلهذا السبب اختلف المفسّرون فقال بعضهم: أي عن القرآن و تدبّره و قال آخرون: بل المراد: ينهون عن الرسول و المراد أنّهم ينهون عن اتّباعه و الإقرار برسالته قال عطا و مقاتل: نزلت في أبي طالب كان ينهى قريشا عن إيذاء النبيّ ثمّ يتباعد منه و لا يتّبعه على دينه.

أقول: و العجب من هذين الرجلين كيف فسّروا هذه الآية بهذا المعنى مع أنّ هذا المعنى يخرج الآية عن سوقها و يجعلها غير متناسبة و غير مربوطة المعنى؟

قال الرازيّ في المفاتيح: و القول الأوّل أشبه لوجهين: الأوّل أنّ جميع الآيات المتقدّمة على هذه الآية يقتضي ذمّ طريقتهم فكذلك قوله: «وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ» ينبغي و يقتضي أن يكون محمولا على مذمّتهم فلو حملناه على أنّ أبا طالب كان ينهى عن إيذائه

ص: 155


1- لقمان: 6.

لما حصل هذا النظم و الثاني أنّه تعالى قال بعد ذلك: «وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» يعني به ما تقدّم ذكره، و لا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله: «وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ» النهي عن أذيّته صلى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّ ذلك أمر حسن جدّا لا يوجب الهلاك.

فإن قيل: إنّ قوله: «وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» يرجع إلى قوله: «وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ» لا إلى قوله: «وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ» لأنّ المراد بذلك أنّهم يبعدون عنه بمفارقة دينه، و ذلك ذمّ فلا يصحّ ما رجّحتم به هذا القول. قلنا: إنّ ظاهر قوله: «إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» يرجع إلى كلّ ما تقدّم ذكره؛ لأنّ هذا الكلام بمنزلة أن يقال: إنّ فلانا يبعد عن الشي ء الفلانيّ و ينفر عنه و لا يضرّ بذلك إلّا نفسه فلا يكون هذا الضرر معلّقا بأحد الأمرين دون الآخر انتهى كلامه.

قال الطبرسيّ: و قول عطاء و مقاتل لا يصحّ لأنّ هذه الآية معطوفة على ما تقدّمها و ما تأخّر عنها معطوف عليها و كلّها في ذمّ الكفّار المعاندين للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم هذا و قد ثبت إجماع أهل البيت على إيمان أبي طالب سالم اللّه عليه، و إجماعهم حجّة لأنّهم أحد الثقلين اللّذين أمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالتمسّك بهما بقوله: «إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».

و يدلّ على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر من أنّ أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة اسمه عتبة- يوم الفتح إلى رسول اللّه فأسلم فقال النبيّ لأبي بكر: هلّا تركت الشيخ فأنا آتيه و كان أعمى؟ فقال أبو بكر: أردت أن يأجره اللّه و الّذي بعثك بالحقّ لأنّي كنت بإسلام أبي طالب أشدّ فرحا منّي بإسلام أبي ألتمس بذلك قرّة عينك فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: صدقت.

و أشعار أبي طالب المنبئة عن إسلامه كثيرة لا تحصى لا يسعه هذا المختصر؛ فمن ذلك:

أ لم تعلموا أنّا وجدنا محمّدانبيّا كموسى خطّ في أول الكتب

و قوله في قصيدة:

ألا إنّ أحمد قد جاءهم بحقّ و لم يأتهم بالكذب

و قوله في قصيدة يحضّ و يحثّ أخاه حمزة على اتّباع النبيّ و الصبر في طاعته:

صبرا أبا يعلى على دين أحمدو كن مظهرا للدين وفّقت صابرا

ص: 156

فقد سرّني إذ قلت أنّك مؤمن فكن لرسول اللّه في اللّه ناصرا

و قوله أيضا يحضّ النجاشيّ على نصر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم:

تعلّم مليك الحبش إنّ محمّداوزير لموسى و المسيح بن مريم

أتى بهدى مثل الّذي أتيا به و كلّ بأمر اللّه يهدي و يعصم

و أنّكم تتلونه في كتابكم بصدق حديث لا حديث المرجّم

فلا تجعلوا للّه ندّا و أسلمواو إنّ طريق الحقّ ليس بمظلم

و أمثال هذه البيانات كثيرة في قصائده المشهورة و كذلك في وصاياه و خطبه، يطول بها الدفاتر على أنّ أبا طالب لم ينأ عن النبيّ قطّ بل كان ملازما له صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قائما بنصرته فكيف يكون المعنى كما قال مقاتل و عطاء؟.

أقول: بل هو صرف الخطا و لو اقتل على تخطئة قول مقاتل انتهى.

[سورة الأنعام (6): الآيات 27 الى 28]

وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)

قوله تعالى:

الخطاب للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أو لكلّ أحد من شأنه المشاهدة و العيان و الوقف الحبس و جواب «لو» و مفعول «ترى» محذوف، أي لو تراهم حين يوقفون على النار حتّى يعاينوها لرأيت مالا يساعده التعبير [فَقالُوا] أي الموقوفون: [يا لَيْتَنا نُرَدُّ] إلى الدنيا [وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا] القرآنيّة [وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بها العاملين بمقتضاها حتّى لا نرى هذا الموقف، و نصب الفعلين على جواب التمنّي بإضمار «أن» بعد الواو و إجرائها مجرى الفاء و المعنى: إن رددنا لم نكذّب و نكن من المؤمنين.

[بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ أي ليس الأمر على ما قالوه من أنّهم لو ردّوا إلى الدنيا لآمنوا فإنّ التمنّي الواقع منهم يوم القيامة ليس لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العقاب الّذي يعاينوه و ظهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا بشهادة جوارحهم و ظهور جزاء كفرهم الّذي أخفوه.

و قد اختلفوا في ذلك الّذي أخفوه على وجوه؛ قال الزجّاج: بدا للتابعين ما

ص: 157

أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث و النشور، قال: و الدليل على صحّة هذا القول أنّه تعالى ذكر عقيبه: «وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ». و الوجه الثاني في معنى الآية أنّها في المنافقين و قد كانوا يرون الكفر و يظهرون الإسلام و بدا لهم يوم القيامة حالهم لغيرهم، و عرف غيرهم بأنّهم كانوا كفّارا. و الوجه الثالث: بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوّة الرسول و نعته و صفته في الكتب و البشارة به صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ما يحرّفونه من التوراة.

و قال المبرّد: و بدا لهم وبال عقائدهم و سوء عاقبتها، و ذلك لأنّ كفرهم ما كان مضارّه باديا لهم فلمّا ظهرت يوم القيامة ظهر لهم فقال اللّه: «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ» فانّ التكذيب بالشي ء كفر و ستر به فإخفاء له لا محالة. و حاصل تمام الأقوال أنّه ظهرت فضيحتهم في الآخرة و تهتّكت أستارهم و هو معنى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» (1).

ثمّ قال تعالى: [وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ أي علم اللّه أنّه تعالى لو ردّهم لم يحصل لهم ترك التكذيب و فعل الإيمان، بل كانوا يستمرّون على طريقتهم الاولى في الكفر و التكذيب.

فإن قيل: إنّ أهل القيامة قد عرفوا اللّه بالضرورة و شاهدوا ثمرات الكفر فلو ردّهم اللّه إلى الدنيا كيف يتصوّر أن يقال: إنّهم يعودون إلى الكفر و إلى معصيته تعالى قال القاضي: تقرير الآية: و لو ردّوا إلى حالة التكليف، و إنّما يحصل الردّ لو لم يحصل في القيامة معرفة اللّه بالضرورة، و هذا الشرط يكون مضمرا لا محالة في الآية لا أنّهم بعد ما علموا بالضرورة أمرهم و امور العذاب لو يردّون يعودون.

[وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي هم قوم ديدنهم الكذب؛ فقال الطبرسيّ لو قيل: إنّ التمنّي كيف يصحّ فيه الكذب و إنّما يقع الكذب في الخبر؟ فالجواب أنّ المعنى أنّهم كاذبون إن خبّروا عن أنفسهم بأنّهم متى ردّوا آمنوا، و يجوز أن يحمل كلامهم على غير الكذب الحقيقيّ بأن يكون المراد أنّهم تمنّوا مالا سبيل إليه فكذّب تمنّيهم و

ص: 158


1- الطارق: 9.

أملهم، و هذا مشهور في كلام العرب؛ يقولون: كذّبك أملك، لمن تمنّى ما لم يدرك؛ قال شاعرهم:

كذبتم و بيت اللّه لا تأخذونهامراغمة مادام للسيف قائم

و المراد: الخيبة في الأمل. و قرأ أبو عمرو بن العلا: «لا يكذب و يكون» بالرفع و استدلّ بأنّ قوله «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» فيه دلالة على أنّهم أخبروا بذلك عن أنفسهم و لن يتمنّوه؛ لأنّ التمنّي لا يقع فيه الكذب، و التمنّي وقع منهم للردّ فبعضهم جعل بعض الكلام تمنّيا و بعضه إخبارا، و علّق تكذيبهم بالخبر دون «ليتنا» و إذا كان بعض الكلام خبرا فيكون الإعراب بالرفع دون النصب.

[سورة الأنعام (6): الآيات 29 الى 30]

وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

قوله تعالى:

في الآية قولان: الأوّل أنّه تعالى ذكر في الآية الاولى أنّه بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل فبيّن في هذه الآية: إنّ ذلك الّذي يخفونه هو أمر المعاد و الحشر، و ذلك لأنّهم كانوا ينكرونه و يخفون صحّته و كانوا يقولون: ما لنا إلّا هذه الحياة الدنيويّة و ليس بعد هذه الحياة لا ثواب و لا عقاب. و الثاني أنّ التقدير: و لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه و لأنكروا الحشر و النشر، و قالوا: إن هي إلّا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين فيكون عطفا على «عادوا».

[وَ قالُوا إِنْ هِيَ أي ما الحياة، فإنّ من الضمائر ما يذكر مبهما و لا يعلم مرجعه إلّا بذكر ما بعده [إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد ما فارقنا هذه الحياة [وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا] و حبسوا للسؤال كما توقف العبد الجاني، و جواب «لو» محذوف أي لرأيت أمرا عظيما [قالَ و أتى بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه و الماضي و الحال و الاستقبال عنده تعالى سواء. قال لهم على لسان الملائكة على سبيل التقريع و التوبيخ: [أَ لَيْسَ هذا] البعث و الحساب [بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا إنّه لحقّ قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ الّذي عاينتموه [بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم و تكذيبكم و خصّ لفظ الذوق لبيان أنّ

ص: 159

ما يجدونه من العذاب في كلّ حال هو ما يجده الذائق لكون ما يجدون بعده أشدّ من الأوّل، و هكذا إلى مالا يتناهى لأنّ عذاب الكافرين كذلك.

[سورة الأنعام (6): الآيات 31 الى 32]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (32)

ثمّ أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفّار فقال: [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي كانوا مكذّبين بلقاء ما وعد اللّه من الثواب و العقاب و جعل لقاءهم لذلك لقاءه مجازا كما يقال للميّت: لقي فلان عمله أي لقي جزاء عمله، أي كذّبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة فندموا حيث لا ينفعهم الندامة.

[قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها] كأنّه قيل: يا حسرتنا تعالي فهذا أوان حضورك كما يقال: يا للعجب احضر و ابصر خسراننا و هذا الكلام أبلغ من أن يقول: إنّا متحسّرون على التفريط في ما فعلنا و قصّرنا في الدنيا و ضيّعنا و تركنا من تقديم أعمال الآخرة. و قيل:

إنّ الهاء في قوله «فيها» يعود إلى الساعة. و قيل: يعود إلى الجنّة و طلبها لمّا يروا منازلهم في الجنة و حرمانهم عنها و حصول الخسران، و حمل الأوزار لهم و ما أعظم هذه الخسارة! لأنّ اللّه سبحانه بعث جوهر النفس الناطقة القدسيّة إلى هذا العالم الجسماني و أعطاه هذه الآلات الجسمانيّة و أعطاه التفكّر و التدبّر لأجل أن يتوصّل باستعمال هذه الأدوات إلى تحصيل المعارف و الأخلاق الفاضلة الّتي يعظم منافعها بعد الموت، فإذا استعمل الإنسان هذه الآلات و القوّة العقليّة في تحصيل هذه اللذّات الفانية، ثمّ انتهى إلى آخر عمره فقد خسر؛ لأنّ رأس المال قد فنى، و الربح الّذي ظنّ أنّه هو المطلوب فنى أيضا فلم يبق في يده لا من رأس المال أثر و لا من الربح شي ء و حصل العقاب العظيم.

[وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ أي أثقال ذنوبهم [عَلى ظُهُورِهِمْ حال من فاعل «قالوا» و الأوزار جمع وزر و هو الحمل و الثقل؛ يقال: وزرته أي حملته ثقيلا. و منه: وزير الملك لأنّه يتحمّل أعباء ما قلّده الملك من مؤونة رعيّته و حشمه. سمّي به الإثم لغاية ثقله على صاحبه و تثقّل ظهر من عمل بها. و أوزار الحرب أثقالها من السلاح.

ص: 160

و اختلف في كيفيّة حملهم الأوزار؛ قال بعضهم: هذا على سبيل التمثيل و التشبيه مجازا، قالوا: الحمل من توابع الأعيان الكثيفة لأمن عوارض المعاني فلا يوصف به العرض إلّا على التمثيل مجازا. و قال جماعة: لا مانع من حمل الكلام على الحقيقة، و في الحديث: إنّ المؤمن إذ خرج من قبره استقبله أحسن شي ء صورة و أطيبه ريحا فيقول:

هل تعرفني؟ فيقول: لا فيقول: أنا عملك الصالح فاركبني، فقد طال ماركتك في الدنيا فذلك قوله: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» (1) أي ركبانا، و إنّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شي ء صورة و أخبثه ريحا فيقول: أنا عملك السيّئ طال ما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم و ذلك قوله: «وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ» (2) فيكون الحمل على حقيقته؛ لأنّ للأعمال صورا تظهر في الآخرة و إن كان نفسها أعراضا.

[أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي بئس الحمل حملهم. أو المعنى: ساء ما ينالهم جزاء ذنوبهم إذ كان ذلك عذابا و نكالا ثمّ ردّ سبحانه عليهم قولهم حيث قالوا: ما هي إلّا حياتنا الدنيا فبيّن أنّ ما يتمتّع به في الدنيا يزول و يبيد فقال: [وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ] أي باطل و غرور إذا لم يجعل ذلك طريقا إلى الآخرة، و المراد أعمال الدنيا لأنّ نفس الدنيا لا يوصف باللعب [وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ] الّتي هي محلّ الحياة الباقية [خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي، لأنّ منافعها خالصة عن المضارّ و لذّاتها غير منقصه بالآلام [أَ فَلا تَعْقِلُونَ و الفاء للعطف على مقدّر أي أ تغفلون فلا تعقلون أيّ الأمرين خير؟ و في الآية تسلية للفقراء المؤمنين و تقريع للأغنياء المنهمكين في لذّات الدنيا.

[سورة الأنعام (6): الآيات 33 الى 34]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

قوله تعالى:

[قَدْ نَعْلَمُ «قد» هنا للتكثير و المراد بكثرة علمه تعالى كثرة تعلّقه [إِنَّهُ ضمير الشأن [لَيَحْزُنُكَ يا محمّد [الَّذِي يَقُولُونَ فاعل «يحزنك» و العائد محذوف أي الّذي يقوله

ص: 161


1- مريم: 88.
2- راجع فروع الكافي ج 1: 66 باب ما ينطق به موضع القبر.

كفّار مكّة، و هو ما حكى عنهم من قولهم «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ»* (1) و ساحر و شاعر و مجنون و أمثالها [فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ و قرء لا يكذبونك بالتخفيف و هو قراءة عليّ عليه السلام أي لا تعتدّ بما يقولون فإنّهم في تكذيبهم آيات اللّه لا يكذبونك في الحقيقة.

و اختلف في معناه على وجوه: أحدها: هذا الّذي ذكرناه. و الثاني أنّ معناه:

لا يكذّبونك بقلوبهم اعتقادا و إن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا، و يجحدون القرآن و النبوّة كما أنّ حرث بن عامر من قريش قال: يا محمّد ما كذبتنا قطّ و لكنّا إن اتّبعناك نتخطّف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب. و قال أخنس بن شريق لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمّدا صادق هو أم كاذب؟ فإنّه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له: إنّ محمّدا لصادق و ما كذب قطّ و لكن إذا ذهب بنو قصيّ باللّواء و السقاية و الحجابة و النبوّة فماذا يكون لسائر قريش؟.

قال الرازيّ: و هذا الوجه في معنى الآية غير مستبعد، و نظيره قوله تعالى في قصّة موسى و فرعون: «وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا». (2) و الوجه الثالث في تأويل الآية أنّهم لا يقولون: إنّك كذّاب لأنّهم جرّبوك الدهر الطويل و ما وجدوا منك كذبا و سمّوك بالأمين فلا يقولون: إنّك كاذب و لكن جحد واضحة نبوّتك لأنّهم اعتقدوا أنّ محمّدا عرض له نوع خبل و نقصان في عقله، فلأجله تخيّل في نفسه أنّه رسول و بهذا التقدير لا ينسبونه إلى الكذب.

و الوجه الرابع أنّ معناه أنّهم لا يصادفونك كاذبا فقول العرب: قاتلناكم فما أجبنّاكم أي ما وجدناكم جبناء؛ و قال الأعشى:

«فمضى و أخلف من قبيله موعدا» أراد:

صادف منها خلف الوعد.

[وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي و لكنّهم ينكرون آيات اللّه و يكذّبون بها فما يفعلون في حقّك، و التقديم للقصر.

ص: 162


1- الانعام: 26.
2- النمل: 14.

[وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا] تسلية للرسول فإنّ البليّة إذا عمّت طابت أي و باللّه لقد كذّبت من قبل تكذيبك رسل كانوا قبل زمانك فصبر الرسل على تكذيبهم و إيذائهم إيّاهم [حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا] أي كان غاية صبرهم نصر اللّه لهم فتأسّ بهم و اصطبر على ما نالك من قومك، و النصر الموعود للصابرين إمّا بطريق الحجج و إمّا بطريق الغلبة و بإهلاك الأعداء [وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا خلف في مواعيده بالنصر و الغلبة [وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ من خبرهم ما يسكن به قلبك و سمعت بعض أخبارهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 35 الى 37]

وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)

قوله تعالى:

قال ابن عبّاس: أتى الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم في نفر من قريش فقالوا: يا محمّد ائتنا بآية نقترحها من عند اللّه كما كانت الأنبياء تفعل فإنّا نصدّق بك فأبى اللّه أن يأتيهم بها فأعرضوا عن رسول اللّه، فشقّ ذلك عليه فبيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفّار لا يؤمنون فخاطب نبيّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه إن كان عظم عليك و شقّ و اشتدّ إعراضهم عليك بسبب امتناعهم من اتّباعك و لم يقبلوا القرآن و لم يعدّوه من قبيل الآيات و أحببت أن تجيبهم إلى ما سألوا اقتراحا لحرصك على إسلامهم.

[فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً] و سربا و منفذا في الأرض. و النفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر. و منه ما فقأ اليربوع (1) لأنّ اليربوع يخرق الأرض إلى القعر ثمّ يصعد من ذلك إلى وجه الأرض من جانب آخر [أَوْ سُلَّماً] أي مصعدا [فِي السَّماءِ] دروجا [فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ] أي حجّة تلجئهم إلى الإيمان و تجمعهم على ترك الكفر فافعل ذلك، و الجواب فافعل، و حذف الجواب شائع في كلّ موضع يعرف فيه معنى

ص: 163


1- فقأ الشي ء: شقه. العين: قلعها.

الجواب؛ ألا ترى أنّك تقول للرجل: إن استطعت أن تتصدّق؟ فتترك الجواب للمعرفة به و لكن حذف الجواب ليس في كلّ موضع فإذا قلت: إن تصم تصب خيرا فلا بدّ من الجواب (1) لأنّ معناه لا يعرف إذا ترك الجواب. و السلّم مأخوذ من السلامة لأنّه الّذي يسلّمك إلى مصعدك قال ابن عبّاس: المراد أنّه لا آية أفضل و أظهر ممّا أتيت به و هو القرآن.

[وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بالإلجاء و لم يفعل ذلك لأنّه ينافي التكليف و يسقط استحقاق الثواب الّذي هو الغرض بالتكليف و إنّما نفى سبحانه المشيئة لما يلجئهم إلى الإيمان لا أنّه نفى مشيئة إيمانهم؛ و ليس في الآية أنّه سبحانه لا يشاء منهم أن يؤمنوا بل إنّهم مختارون في الإيمان و الكفر، و الغرض من الآية أنّهم لم يغلبوه بكفرهم فإنّه تعالى لو أراد أن يحول بينهم و بين الكفر لفعل.

[فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي لا تجزع في مواطن الصبر و قيل: إنّ هذا إثبات لعلمه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و نفي للجهل عنه، أي بعد أن كنت عالما لا تكن تقارب حالك حال من لا يعلم و هو الجاهل و التغليظ في الخطاب للزجر و التبعيد عن مثل هذه الحالة بأن لا يقترح المقترحون في طلب الآيات.

[إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كلامك و يصغون إليك و إلى ما تقرء عليهم من القرآن و يتفكّر في آياته، و من لم يتدبّر و لم يستدلّ بآياتك بمنزلة من لم يسمع؛ قال الشّاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حيّاو لكن لا حياة لمن تنادي

[وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يريد أنّ الّذين لا يصغون إليك من هؤلاء الكفّار و لا يتدبّرون فيما تقرؤه عليهم من القرآن و الحجج بمنزلة الموتى فكما أنت مأيوس أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم اللّه و لا يقدرون على إجابتك فكذلك فأيس من هؤلاء أن يستجيبوا لك و إنّما يستجيب المؤمن السامع للحقّ فأمّا الكافر فهو بمنزلة الميّت فلا يجيب إلى أن يبعثه اللّه يوم القيامة فيلجئه إلى الإيمان ضرورة. و الفرق بين «يستجيب» و «يجيب» أنّ

ص: 164


1- أى جواب الشرط و هو «تصب خيرا».

«يستجيب» أي قبل لما دعي إليه و ليس كذلك «يجيب» لأنّه قد يكون يجيب بالمخالفة و الردّ [ثُمَّ إِلَيْهِ تعالى لا إلى غيره [يُرْجَعُونَ يردّون إلى جزاء أعمالهم فحينئذ يستجيبون. و قرء «يرجعون» على البناء للفاعل.

[وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ هذا إخبار عن رؤساء قريش لمّا عجزوا من معارضته في ما اوتي له من القرآن اقترحوا عليه مثل آيات الأوّلين كعصا موسى و ناقة ثمود، فقالوا لإلقاء الشبهة: لو كان رسولا من عند اللّه فهلّا انزل عليه آية قاهرة؟

و قد طعن بعض الملاحدة فقال: لو كان محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم قد أتى بآية معجزة لما صحّ أن يقول أولئك الكفّار: لو لا انزل عليه و لما قال سبحانه: إنّ اللّه قادر على أن ينزّل آية؛ و الجواب عنه أنّ القرآن معجزة قاهرة باقية إلى القيامة بدليل أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم تحدّاهم به فعجزوا عن معارضته، و ليس المراد من المعجزة إلّا أمر يعجز عن إتيان بمثله جميع الخلق.

بقي أن يقال: فإذا كان الأمر كذلك فكيف قالوا: لو لا انزل عليه آية من ربّه؟

فالجواب أنّهم طعنوا في كون القرآن معجزا على سبيل العناد، و قالوا: إنّه من جنس الكتب، و الكتاب لا يكون من جنس المعجزات فطلبوا من جنس معجزات سائر الأنبياء مثل فلق البحر، لا أنّهم ما أقرّوا بعجزهم بالإتيان بمثله فإذا ثبت إقرارهم و عجزهم ثبت المعجزة، لأنّه لا نعني بالمعجزة إلّا هذا الأمر، و لمّا كان غرضهم التعنّت و العناد فلو كان يأتي صلى اللّه عليه و آله و سلّم بما يقترحونه فينسبونه إلى السحر أيضا كما نسبوا.

[قُلْ يا محمّد [إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً] أي إنّه يجمعهم على الهدى، عن الزجّاج. و قيل: المراد آية كما يسألونها [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما في اقتراحهم و إنزالها من وجوب الاستئصال إذا لم يؤمنوا بعد إنزال الآية المقترحة و ما في الاقتصار على ما أوتوه من المصلحة و لهذا السبب ما أعطاهم مطلوبهم، و لعلمه سبحانه أنّهم طلبوا هذا الأمر على سبيل التعنّت و العناد لا لحصول اليقين، و لو أتى سبحانه على يد رسوله أيضا ما يقترحونه ممّا كانوا يؤمنون به فلا فائدة فيه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 38 الى 39]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

قوله تعالى:

ص: 165

قال القاضي: لمّا قدّم ذكر الكفّار و بيّن أنّهم يرجعون إلى اللّه و يحشرون بيّن بعده: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» في أنّهم يحشرون و هذا هو الوجه في النظم.

الحيوان إمّا أن يكون بحيث يدبّ أو يكون بحيث يطير؛ فجميع ما خلق اللّه من ذي الروح فإنّه لا يخلو عن هاتين الصفتين حتّى ما يسيح في الماء و يعيش فيه فيوصف بعضها بالدبيب النهاية دبيبه في الماء، و بعضها يسيح في الماء كما أن الطير يسيح في الهواء إلّا أنّ البحريّة وصفها بالدبيب أقرب من وصفها بالطيران و خصّ ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجا بالأظهر لأنّ ما في السماء و إن كان كذلك لكن غير ظاهر لنا و الفائدة في قوله: «يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» مع أنّ كلّ طائر إنّما يطير بجناحيه التأكيد كقوله: نعجة أنثى. و مثل قوله: رأيت بعيني و مشيت برجلي.

و في الآية ذكر في المماثلة بيننا و بين كلّ الدوابّ، و لا يمكن أن يقال: إنّ حصول المماثلة من جميع الوجوه، و لا بدّ أن يكون المماثلة من وجه. قال الواحديّ: عن ابن عبّاس أنّه قال: يريد سبحانه: يعرفونني و يوحّدونني و يسبّحونني، و إلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسّرين و قالوا: إنّها تعرف اللّه و تحمده و تسبّحه، و احتجّوا بقوله تعالى: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (1) و بقوله في صفة الحيوانات: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ» (2) و عن أبي الدرداء أنّه قال: ابهمت عقول البهائم عن كلّ شي ء إلّا عن أربعة أشياء: معرفة اللّه، و طلب الرزق، و معرفة الذكر و الأنثى، و تهيّؤ كلّ واحد لصاحبه، و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة يعجّ إلى اللّه يقول: يا ربّ إنّ هذا قتلني عبثا لم ينتفع بي و لم يدعني آكل من حشاش الأرض و قيل: المراد بالمثليّة في كونها امما و جماعات و في كونها مخلوقة بحيث يشبه

ص: 166


1- الإسراء: 46.
2- النور: 41.

بعضها بعضا و يأنس بعضها ببعض و يتوالد بعضها من بعض كالإنس.

و القول الثالث أنّها أمثالنا في أن خلقها اللّه فكما احصي في الكتاب كلّ ما يتعلّق بأحوال البشر من العمر و الرزق و الأجل و السعادة و الشقاوة فكذلك احصي في الكتاب جميع هذه الأحوال في كلّ الحيوانات و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ» و ليس لذكر هذا الكلام عقيب قوله: «إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» فائدة إلّا ما ذكرناه.

و القول الرابع أنّها أمثالنا في أنّها تحشر يوم القيامة، يوصل إليها حقوقها كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: يقتصّ للجمّاء من القرناء.

[ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ] فرّط في الشي ء تركه و ضيّعه أي ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المبهمة الّتي فيها مصالح العباد على ما ينبغي، بل بيّنّا كلّ شي ء فيه إمّا مفصّلا أو مجملا، أمّا المفصّل مثل قوله: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» (1) و أمّا المجمل كقوله: «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (2) و المجمل قد بيّنه على لسان الرسول و أمر باتّباعه و هو صلى اللّه عليه و آله و سلّم قد بيّن فحينئذ ما فرّط في الكتاب شيئا. روي عن ابن مسعود أنّه قال: مالي لا ألعن من لعنه اللّه في كتابه؟ يعني الواشمة و المستوشمة و الواصلة و المستوصلة فقرأت امرأة جميع القرآن ثمّ أتته و قالت: يا ابن امّ عبد: إنّي تلوت البارحة ما بين الدفّتين فلم أجد فيه لعن اللّه الواشمة و المستوشمة و الواصلة و المستوصلة فقال ابن مسعود: لو تلوتيه لوجدتيه؛ قال اللّه تعالى: «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» و ثاني الأقوال أنّ المراد بالكتاب هاهنا الكتاب المشتمل على ما كان و ما يكون و هو اللوح المحفوظ و فيه آجال الحيوان و أرزاقه و آثاره ليعلم ابن آدم أنّ عمله أولى بالإحصاء. و ثالثها أنّ المراد بالكتاب الأجل أي ما تركنا شيئا إلّا و قد أجّلنا له أجلا ثمّ يحشرون جميعا قال الطبرسيّ: و هذا الوجه بعيد.

ص: 167


1- المائدة: 49.
2- الحشر: 7.

[ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إلى اللّه بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر العباد فينتصف لبعضها من بعض. و عن أبي ذرّ قال: بينا أنّا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إذا انتطحت غزالان فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تدرون فيما انتطحا؟ فقالوا: لا، قال: و لكنّ اللّه يدري و سيقضي بينهما. و على هذا فإنّما جعلت أمثالنا في الحشر و الاقتصاص و اختاره الزجّاج فقال:

يعني أمثالكم في أنّهم يبعثون؛ و يؤيّده: «وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» (1) و معنى «إِلى رَبِّهِمْ» أي إلى من لا يملك النفع و الضرّ إلّا هو.

قال الطبرسيّ: و استدلّ جماعة من أهل التناسخ بهذه الآية على أنّ البهائم و الطيور مكلّفة لقوله: «أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» و هذا باطل؛ لأنّا قد بيّنّا أنّها من أيّ وجه تكون أمثالنا و لو وجب حمل ذلك على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها على مثل صورنا و هيآتنا و خلقنا. و الحال أنّه ليس كذلك و كيف يصحّ تكليف البهائم و هي غير عاقلة و التكليف لا يصحّ إلّا مع كمال العقل؟.

قال الرازيّ: و في بيان الآية دلالة على أنّ عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان و من بلغت عنايته إلى حيث لا يبخل بها على البهائم، و يقتصّ من القرناء للجمّاء كان بأن لا يبخل بها على الإنسان أولى فدلّ منع اللّه من إظهار ما اقترحوا من المعجزات القاهرة على أنّه لا مصلحة لأولئك المقترحين في إظهارها و يوجب الضرر العظيم إليهم فهذا هو الوجه في نظم هذه الآية بما قبلها انتهى كلامه.

[وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] أي القرآن أو بسائر الحجج [صُمٌّ وَ بُكْمٌ لا يسمعونها سمع تدبّر و فهم و لذا لا يعدّونها من الآيات و يقترحون غيرها. و الصمّ جمع أصمّ و المقصود تشبيه حالهم بالأصمّ و حذف حرف التشبيه للمبالغة. و بكم لا يقدرون على أن ينطقوا بالحقّ و لذلك لا يستجيبون دعوتك و هو جمع أبكم [فِي الظُّلُماتِ خبر ثالث للمبتدأ أي في ظلمات الكفر و الجهل أو في الظلمات على الحقيقة في الآخرة عقابا على كفرهم، عن الجبّائيّ.

[مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي من يشاء يخذله و يمنعه ألطافه لأنّه تعالى أوضح له الحجج

ص: 168


1- التكوير: 5.

و الأدلّة فأعرض عنها و لم يقبلها أو من يشأ اللّه إضلاله عن طريق الجنّة و نيل ثوابها يضلله بسوء كسبه و اختياره لا ابتداء [وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي و من يشأ أن يرحمه و يهديه إلى الجنّة يجعله على الصراط الّذي يسلكه المؤمنون إلى الجنّة.

[سورة الأنعام (6): الآيات 40 الى 41]

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)

قوله تعالى:

قال الفرّاء: للعرب في «أ رأيت» لغتان إحداهما: المراد رؤية العين فإذا قلت للرجل: أ رأيتك كان المعنى أهل رأيت نفسك ثمّ يثنّى و يجمع فتقول: أ رأيتكما أ رأيتكم و المعنى الثاني أن تقول: أ رأيتك و تريد أخبرني، و إذا أردت هذا المعنى تكون التاء مفتوحة تقول: أ رأيتك أ رأيتكما أ رأيتكم أ رأيتكنّ و الكاف حرف خطاب أكد به ضمير الفاعل المخاطب، لا محلّ له من الإعراب و هذا على قول البصريّين.

و قال الفرّاء: ليس الأمر كذلك فإنّه لو كان كذلك وجي ء به للتأكيد لوقعت التشبيه و الجمع على التاء كما يقعان عليها عند عدم الكاف، فلمّا فتحت التاء في خطاب الجمع و وقعت علامة الجمع على الكاف دلّ ذلك على أنّ الكاف ليس للتوكيد؛ ألا ترى أنّ الكاف لو سقطت لم يصحّ أن يقال لجماعة: أ رأيت؟ فثبت بهذا انصراف الفعل إلى الكاف و أنّها واجبة مفتقر إليها.

[قُلْ يا محمّد- صلى اللّه عليه و آله و سلّم-، أمر سبحانه رسوله بأن يبكّتهم و يلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى الإنكار: أخبروني أيّها الكفّار [إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ حسب ما أتى الأمم السابقة من أنواع العذاب الدنيويّ [أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ] الّذي لا محيص عنها [أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أي أ تدعون فيها لكشف العذاب عنكم هذه الأوثان أو تدعون اللّه الّذي هو خالقكم و سبب إلزام هذه الحجّة عليهم هو أنّهم مع كفرهم كانوا إذا مسّهم الضرّ الشديد دعوا اللّه [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و جواب الشرط محذوف أي إن كنتم في أنّ أصنامكم آلهة، و الحذف ثقة بدلالة الكلام عليه.

[بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ عطف على جملة منفيّة ينبئ عنها الجملة الّتي تعلّق بها

ص: 169

الاستخبار كأنّه قيل: لا غيره تدعون بل إيّاه تدعون [فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ] أي يكشف الضرّ الّذي من أجله طلبتم الخلاص عنه إن شاء أن يكشفه، فقبول الدعاء تابع لمشيئته فقد يقبله و قد لا يقبله كما يتعلّق بالعذاب الاخرويّ الّذي من جملته عذاب الساعة فإنّه تعالى لا يغفر أن يشرك به فلا يشاء في الآخرة، و قد يكون أنّ المصلحة تقتضي عدم إجابتهم في الدنيا [وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ عطف على تدعون أي تتركون ما تشركون به تعالى من الأصنام. و النسيان في الآية بمعنى الترك لا بمعنى الغفلة أو المعنى: تعرضون عنه إعراض الناسي لليأس من النجاة من مثله فإذا كان الأمر كذلك فلم تعبدون غيره؟

و هذا هو المعنى اللّازم في الآية.

[سورة الأنعام (6): الآيات 42 الى 45]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)

أعلم اللّه رسوله حال الأمم السابقة في مخالفة رسله و المراد أنّ حال هؤلاء إذا سلكوا طريق المخالفة كحالهم فقال: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ كثيرة كائنة قبل زمانك و «من» لابتداء الغاية في الزمان أي من زمان قبل زمانك كقولهم: نمت من أوّل اللّيل و صمت من أوّل الشهر. و في الآية تقدير أي فخالفوهم و حسن الحذف للإيجاز من غير إخلال لدلالة مفهوم الكلام عليه.

[فَأَخَذْناهُمْ و الفاء فصيحة مفصحة عن المحذوف، فبعد المخالفة و التكذيب أخذناهم [بِالْبَأْساءِ] أي بالشدّة و الفقر [وَ الضَّرَّاءِ] أي الآفات و الأسقام [لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ لكي يدعوا اللّه في كشفها بالإيمان و التذلّل و التوبة عن معاصيهم فأخبر اللّه أنّه أرسل الرسل إلى أقوام بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدّة في أنفسهم و أموالهم ليذلّوا لأمر اللّه فلم يخضعوا و لم يتضرّعوا و هو كالتسلية للرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم [فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا] أي فهلّا تضرّعوا لمّا رأوا بأسنا؟ [وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فأقاموا على

ص: 170

كفرهم و يبست و جفّت قلوبهم و لو كان في قلوبهم رقّة و خوف لتضرّعوا [وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي حسّن لهم الكفر و المعاصي بأن أغواهم و دعاهم إلى اللّذّة و الراحة دون التدبّر و العبادة، و لم يخطر ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء و الضرّاء ما اعتراهم إلّا لأجله.

[فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ عطف على مقدّر، أي فانهمكوا فيه و نسوا ما ذكّروا من البأساء و الضرّاء فلمّا نسوه [فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ] من فنون النعماء على منهاج الاستدراج [حَتَّى غاية لقوله «فتحنا» [إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا] معجبين بحالهم فرح البطر كفرح قارون بما أصابه من الدنيا.

و حاصل المعنى أنّه تعالى امتحنهم بالشدائد لكي يتضرّعوا و يتوبوا فلم ينجح و تركوا التضرّع فتح عليهم أبواب النعم و التوسعة في المال ليرغبوا بذلك في نعيم الآخرة و إنّما فعل ذلك بهم و إن كان موضع العقوبة و الانتقام دون الإكرام ليدعوهم ذلك إلى الطاعة، فإنّ الدعاء إلى الطاعة يكون تارة بالعنف و تارة باللّطف أو لتشديد العذاب و العقوبة بالاستحقاق لهم بالنقل من النعيم إلى العذاب الأليم.

[أَخَذْناهُمْ بالعذاب [بَغْتَةً] و فجأة ليكون أشدّ عليهم وقعا و أفظع هولا [فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آئسون متحيّرون غاية الحيرة و الإبلاس بمعنى اليأس من النجاة عند ورود الهلكة [فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا] أي أخّرهم بحيث لم يبق منهم أحد فالدابر يقال للتابع للشي ء من خلفه، دبر فلان القوم إذا كان أخّرهم فاستوصلوا بالعذاب و لم يبق لهم باقية و وضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلّة الحكم فإنّ هلاكهم بسبب ظلمهم الّذي هو وضع الكفر موضع الشكر و المعاصي مقام الطاعات.

[وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم فإنّ هلاكهم من حيث تخليص أهل الأرض من شومهم و عقائدهم الفاسدة نعمة جليلة يحقّ أن يحمد عليها مع ما فيه من إعلاء الكلمة الّتي نطقت بها رسلهم؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا رأيت اللّه يعطي على المعاصي فإنّ ذلك استدراج من اللّه ثمّ قرأ هذه الآية.

فاستوصلوا بعذاب حصّ دابرهم فما استطاعوا له صرفا و لا انتصروا

ص: 171

احرص و فيك بقيّة على أن تكون لك نفس تقيّة قبل أن ترى الشيب المجلّل، و الصلب المهلّل (1). لتكن مشيتك في المسجد أوقر مشية، و خشيتك في الصلاة أوفر خشية و اذكر عسرة الملك العزيز، و لا تنس ما جاء من الحديث العزيز: انظر بين يدي أيّ جبّار أنت مماثل، و لأيّ مكّار أنت مقاتل، و لا يقوم في مثل هذا المقام الصعب إلّا عبد خير المنابت مثبت بالقول الثابت، أوّاه من خوف العقاب وثّاب إلى نيل الثواب، و لا أقلّ من أن تحفظ من حديث النفس مادمت في الصلاة حتّى لا يفوتك الحضور فتكون صلاتك جسدا بلا روح و لن تشايعك الدنيا إلى ما تروم و إن ساعدتك فمساعدتها لا تدوم و حديث نفسك للدنيا في صلاتك يحجب أن يصعد كلمات الدعاء، و أن تهبط بركات السماء يا عبد الدينار و الدرهم متى أنت عتيقهما؟! هيهات لا عتاق إلّا أن تكائب على دينك يا من يشبعه القرص ما هذا الحرص؟ و يا من ترويه الجرع ما هذا الجوع؟ ستعلم غدا إذا تندّمت أن ليس لك إلّا ما قدّمت و إذا لقيك المؤمنون لم ينفعك مال و لا بنون، ما تصنع بالقناطير المقنطرة؟ عابر هذه القنطرة، و لا تعبر هذه القنطرة إلّا بزهدك فيك.

[سورة الأنعام (6): الآيات 46 الى 49]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)

قوله تعالى:

احتجاج على المشركين في التوحيد فقال: [قُلْ يا محمّد لهم: [أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني، فإنّ الرؤية بصريّة كانت أو علميّة يصحّ الخبر عنه [إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ و ذهب بهما فصرتم صمّا و عميا [وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ و طبع عليها. و قيل: معناه ذهب بعقولكم و سلب عنكم التمييز حتّى لا تفقهون شيئا. و إنّما خصّ هذه الأشياء بالذكر لأنّ بها يتمّ النعمة دينا و دنيا [مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أى من يأتيكم بما أخذ منكم؟ و حاصل المعنى أنّ هؤلاء الّذين تعبدونها لا يقدرون أن يجعلوا لكم أسماعا

ص: 172


1- الظهر المنكوس.

و أبصارا و قلوبا إن أخذ اللّه منكم، فكما لا يقدر ردّها غيره تعالى فكذلك يجب أن لا تعبدوا غيره.

[انْظُرْ] يا محمّد و تعجّب [كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ و نكرّرها و نقرّرها من أسلوب إلى أسلوب تارة بالمقدّمات العقليّة، و تارة بطريق الترهيب و التنبيه و التذكّر بأحوال المتقدّمين [ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ و «ثمّ» لاستبعاد صدفهم و إعراضهم عن تلك الآيات.

قال الكعبيّ: دلت الآية على أنّه مكّنهم من الفهم و لم يخلق فيهم الإعراض و الصدّ، و لو كان تعالى هو الخالق لما فيهم من الكفر و الإعراض لم يكن لهذا الكلام معنى.

[قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً] مفاجأة أو علانية. و إنّما قابل البغتة بالجهر لأنّ البغتة تتضمّن معنى الخفية لأنّه يأتيهم من حيث لا يشعرون. و قيل:

البغتة أن يأتيهم ليلا و الجهرة أن يأتيهم نهارا [هَلْ يُهْلَكُ بهذا العذاب [إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ استفهام معناه النفي، أي لا يهلك إلّا القوم الظالمون أي الكافرون.

فإن قيل: إنّ العذاب قد يكون يعمّ الأبرار أيضا؟ لكنّ الهلاك في الحقيقة مختصّ بالظالمين و الأخيار يستوجبون بسبب ذلك الدرجات الرفيعة عند اللّه و ليس فيه لهم هلاك.

[وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ حالان مقدّرتان من المرسلين و موجب رسالتهم الاختبار بالخبر السارّ النافع و الخبر الضارّ القطع [فَمَنْ آمَنَ بهم [وَ أَصْلَحَ عمله و دخل في الصلاح [فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب الّذي أنذروه [وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات ما بشّروا به من الثواب [وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] و هي ما ينطق به الرسل عند التبشير و الإنذار [يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ الأليم و أسند المسّ إلى العذاب- مع أنّ المسّ من شأن الحيّ القاصد المختار- على طريق الاستعارة بالكناية كأنّه حيّ مدرك يطلب إيلامهم و يقصدهم [بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب خروجهم عن الدين و الطاعة. في الكلمات القدسيّة: يا ابن آدم لا تأمن مكري حتّى تجوز على الصراط.

روي أنّ اللّه تعالى قال: يا إبراهيم ما هذا الوجل الشديد الّذي أراه منك؟ فقال: يا ربّ كيف لا اوجل و آدم أبي كان محلّه من القرب أنّك خلقته بيدك و نفخت فيه من

ص: 173

روحك و أمرت الملائكة بالسجود له فبزلّة واحدة أخرجته من جوارك فأوحى اللّه إليه يا إبراهيم أما عرفت أنّ معصية الحبيب على الحبيب شديدة؟

قال مالك بن دينار: دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون المجنون فقلت: كيف حالك و كيف أنت؟ قال: يا مالك كيف يكون حال من أمسى و أصبح يريد سفرا بعيدا بلا اهبة و لا زاد، و يقدم على ربّ عدل حاكم بين العباد، ثمّ بكى بكاء شديدا فقلت: ما يبكيك؟ فقال: و اللّه ما بكيت حرصا على الدنيا و لا جزعا من الموت و البلى لكن بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عملي، أبكاني و اللّه قلّة الزاد و بعد المفازة و العقبة الكؤود، و لا أدري بعد ذلك أصير إلى الجنّة أم إلى النار. فقلت له: إنّ الناس يزعمون أنّك مجنون فقال: ما بي جنّة و لكن حبّ مولاي خالط قلبي، و جرى بين لحمي و دمي و عظامي.

[قُلْ يا محمّد للكفرة الّذين يخالفونك: [لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي لا أدّعي أنّ خزائن اللّه و مقدوراته مفوّضة إليّ أتصرّف فيها كيف أشاء حتّى تقترحوا عليّ تنزيل المعجزات أو إنزال العذاب أو قلب الجبال ذهبا أو غير ذلك ممّا لا يليق بشأن العبوديّة، و كانوا يقترحون منه بعض الآيات و كانوا يقولون: إن كنت رسولا من عند اللّه فوسّع علينا منافع الدنيا و أرزاقها، فقل لهم: لا أدّعي أنّ مفاتيح الرزق بيدي حتّى أقبض و أبسط.

[وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أي و لا أدّعي أيضا أنّي أعلم الغيب من أفعاله تعالى حتّى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب. و «لا» في قوله «وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» زائدة تأكيد للنفي، و الحاصل أنّي لا أدّعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة حتّى تقترحوا عليّ و تجعلوا عدم إجابتي إلى مقترحاتكم دليلا على عدم صحّة ما أدّعيه من الرسالة بل الرسالة هي عبارة عن تلقّي الوحي من جهته تعالى و العمل بمقتضاه فحسب، حسب ما ينبئ عنه قوله: [إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ أي ما أفعل إلّا اتّباع ما يوحى إليّ من غير أن يكون لي مدخل ما في الوحي أو في الموحى.

و الوحي ثلاثة: ما ثبت بلسان الملك، و القرآن من هذا القبيل بإشارة الملك

ص: 174

من غير أن يبيّنه بالكلام و إليه الإشارة بقوله: إنّ روح القدس نفث في روعي و الثالث ما تبدي لقلبه بلا شبهة إلهاما من اللّه بأن أراه اللّه بنور من عنده كما قال: «لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ» (1) [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ] قل يا محمّد لهم: هل يستوي العارف باللّه العالم بدينه و الجاهل به و بدينه و هو مثل للضالّ و المهتدي لمّا وصف نفسه بأنّه متّبع للوحي الإلهيّ لزم منه أن يصف نفسه بالاهتداء و يصف من عانده بالضلال فالعمل بغير الوحي يجري عمل الأعمى. و العمل بمقتضى الوحي يجري مجرى عمل البصير [أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ في هذا الأمر فتهتدوا باتّباع الوحي.

[سورة الأنعام (6): آية 51]

وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)

أي خوّف من العذاب بما يوحى إليك قيل: الضمير في «به» راجع إلى القرآن و قيل: إلى اللّه راجع [الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ يريد أنّ المؤمنين يخافون يوم القيامة و ما فيها من شدّة الأهوال و قيل: معناه: يعلمون، قال الزجّاج: المراد بهم كلّ معترف بالبعث من مسلم و كتّابيّ.

و إنّما خصّ الّذين يخافون الحشر دون غيرهم و هو نذير على جميع الخلق؟ لأنّ الّذين يخافون و يعلمون الحشر الحجّة عليهم أوجب لاعترافهم بالمعاد. قال الصادق عليه السلام:

أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربّهم ترغبهم فيما عنده فإنّ القرآن شافع مشفّع لهم. و قيل: المراد من قوله: «وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ» الكلّ و يتناول الجميع، لأنّه لا عاقل إلّا و هو يخاف الحشر سواء قطع بحصوله أو كان شاكا فيه لأنّه بالاتّفاق أنّه غير معلوم البطلان، النهاية أنّ بعضهم ينكرونه من غير دليل، فكان هذا الخوف قائما في حقّ الكل.

و تمسّكت المجسّمة بهذه الآية على كون اللّه مختصّا بمكان وجهة قالوا:

لأنّ كلمة «إلى» للانتهاء من الغاية، و الجواب: المراد إلى المكان الّذي جعله اللّه مجمعا لهم للقضاء عليهم.

ص: 175


1- النساء: 106.

[لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ موضع «ليس» نصب على الحال كأنّه قيل:

متخلّين عن الناصر و الشافع و على هذا التقدير فظاهر الكلام أنّه هذا الأمر للكافر و المفسّرون على أنّ الآية في المؤمنين فحينئذ يكون المعنى أنّ شفاعة الأنبياء و غيرهم للمؤمنين لمّا كان بإذن اللّه فذلك راجع إلى اللّه و غيره لا يكون وليّا و شفيعا ما لم يأذن [لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و الأمر بالإنذار لكي يتّقوا و يخافوا في الدنيا و ينتهوا عمّا نهاهم اللّه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 52 الى 53]

وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

قوله تعالى:

النزول: الثعلبيّ بإسناده عن عبد اللّه بن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده صهيب و خبّاب و بلال و عمّار و غيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا:

يا محمّد أرضيت لهؤلاء من قومك أ فنحن نكون تبعا لهم؟ أ هؤلاء الّذين منّ اللّه عليهم؟

اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك فأنزل اللّه تعالى: «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ»، الآية.

قال الطبرسيّ: قال سلمان و خبّاب: نزلت هذه الآية فينا؛ جاء الأقرع بن حابس التميميّ و عينية بن حصن الفزاريّ و ذووهم من المؤلّفة قلوبهم فوجدوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قاعدا مع بلال و صهيب و عمّار و خبّاب في ناس من ضعفاء المسلمين فحقّروهم فقالوا:

يا رسول اللّه لو نحيّتهم عنك حتّى نخلو بك فإنّ وفود العرب يأتينك فنستحيي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد ثمّ إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك فأجابهم النبيّ إلى ذلك فقالا: اكتب لنا بهذا على نفسك كتابا فدعى بصحيفة و أحضر عليّا ليكتب قال: و نحن قعود في ناحية إذ نزلت الآية إلى قوله: «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ» فنحّى رسول اللّه الصحيفة و أقبل علينا و دنونا منه و هو يقول: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» فكنّا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام و تركنا فأنزل اللّه تعالى «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية» (1) قال: فكان رسول اللّه يقعد معنا و يدعونا حتّى كادت ركبتنا عن ركبتيه فإذا

ص: 176


1- الكهف: 27.

بلغ الساعة الّتي يقوم فيها و تركناه حتّى يقوم و قال لنا: الحمد للّه الّذي لم يمتني حتّى أمرني أن اصبر نفسي مع قوم من امّتي؛ معكم المحيا و معكم الممات. (1) المعنى: نهى سبحانه عن إجابة المشركين فيما اقترحوه عليه من طرد المؤمنين أقول: و إنّما أراد الإجابة لحرصه صلى اللّه عليه و آله و سلّم على إسلامهم [وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي يعبدون اللّه بالصلاة المكتوبة يعنى صلاة الصبح و العصر، عن ابن عبّاس و الحسن و جماعة و قيل: إنّ المراد بالدعاء هاهنا مطلق الذكر أي يذكرون ربّهم طرفي النهار، عن إبراهيم النخعيّ و روي عنه أيضا إنّ هذا في الصلوات الخمس.

[يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يطلبون ثواب اللّه و لا يعدلون باللّه شيئا و قد شهد اللّه لهم في هذه الآية بصدق النيّات و المراد من الوجه الجهة و الطريق و السبيل إليه [ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ] و اختلفوا في ضمير «حسابهم» و «عليهم» إلى ماذا يعود؛ القول الأوّل:

يعود إلى المشركين، و المعنى: ما عليك من حساب المشركين من شي ء و لا حسابك على المشركين و إنّما اللّه هو الّذي يدبّر عبيده. و القول الثاني أنّ الضمير عائد إلى الّذين يدعون ربّهم بالغداة و العشيّ و هم الفقراء قال الرازيّ و هو أشبه بالظاهر، و الدليل عليه أنّ الكناية في قوله: «فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» عائدة إلى هؤلاء الفقراء فلزم أن يكون سائر الكنايات عائدة إليهم و على هذا التقدير معنى «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ» أنّ الكفّار كانوا يطعنون في إيمان الفقراء و يقولون: يا محمّد- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- إنّهم إنّما اجتمعوا عندك و قبلوا دينك لأنّهم فقراء و يجدون عندك مأكولا و ملبوسا و إلّا فهم فارغون عن دينك، فقال اللّه:

إن كان الأمر كما يقولون فما يلزمك إلّا اعتبار الظاهر و حسابهم عليه تعالى، و لازم لهم

ص: 177


1- و في هذا الخبر آية باهرة لمن تدبر في صدره و ذيله فان الأقرع و عيينة حيث كانا جديدا الإسلام و لم يحصل لهما روح التفكر الإسلامي بعد لم يكن بد من المماشاة معهم و التسليم لما اقترحوه ظاهرا الى ان نزلت الآية و أراحت النبي مما أشكل عليه فان اللّه لا يستحيى مما يستحيى النبي، و هذا اظهر مما ستعرفه عن المصنف و ابن الأنباري.

لا يتعدّى إليك؟ كما أنّ حسابك عليك لا يتعدّى إليهم كأنّه قيل: لا تؤاخذ أنت بحسابهم و لا هم بحسابك.

و هذه القصّة شبيهة بقصّة نوح إذ قال له قومه: «أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» فأجابهم نوح: «وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ» (1) و قيل: المراد بقوله: «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ» أي من حساب رزقهم [مِنْ شَيْ ءٍ] فتملّهم و تطردهم، ليس رزقهم عليك و لا رزقك عليهم و إنّما يرزقك اللّه و يرزقهم.

[فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عطف على قوله «فَتَطْرُدَهُمْ» على وجه التسبّب؛ لأنّ كونه ظالما معلول طردهم و مسبّب له، و يجوز أن تكون من الظالمين لنفسك بعد الطرد أو تكون من الظالمين لهم لأنّهم بما استوجبوا التقريب و الترحيب كان طردهم ظلما لهم أيضا. قال ابن الأنباريّ: عظم الأمر في هذا على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم من خوف الدخول في جملة الظالمين: لأنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لحرصه على إسلام أولئك همّ بتقديم الرؤساء و اولى الأموال على الضعفاء، مقدّرا أنّه يستجير بإسلامهم إسلام قومهم و من لفّ لفّهم، و كان صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقصد بذلك إلّا الخير و لم ينو إذ دراء الفقراء، فأعلمه اللّه أنّ ذلك غير جائز.

ثمّ أخبره تعالى أنّه يمتحن الفقراء بالأغنياء و الأغنياء بالفقراء فقال: [وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي كما ابتلينا قبلك الغنيّ بالفقير و الشريف بالوضيع ابتلينا هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي، فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد أمن يعني حمى أنفا أن يسلم و يقول:

سبقني هذا بالإسلام، فقال: «وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» و إنّما قال: فتنّا و هو لا يحتاج إلى الاختبار؟ لأنّه عاملهم معاملة المختبر لكون ترتّب الثواب و العقاب متوقّفا على وقوع الكفر و الإيمان و لا يكون أن يعاملهم بعلمه.

[لِيَقُولُوا] اللّام للعاقبة، أي فعلنا هذا ليصبروا أو يشكروا فانتهى و آل أمرهم إلى هذه العاقبة [أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا] و الاستفهام معناه الإنكار كأنّهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضله. قال أبو عليّ الجبّائيّ: إنّ معنى «فتنّا» شددنا التكليف على

ص: 178


1- الشعراء: 111- 113.

شرفاء العرب بأن أمرناهم بالإيمان و بتقديم هؤلاء الضعفاء عليهم لتقدّمهم إيّاهم في الإيمان، و هذا أمر شاقّ عليهم فلهذا سمّاه اللّه فتنة ليرضوا بذلك من فعل رسول اللّه و لم يجعل هذه الفتنة و الشدّة من التكليف ليقولوا ذلك على وجه الإنكار: أ هؤلاء منّ اللّه عليهم؛ لأنّ إنكارهم لذلك كفر باللّه و معصية، و اللّه سبحانه لا يريد ذلك و لا يرضاه، لأنّه لو أراد ذلك و فعلوه كانوا مطيعين لا عاصين، و بهذا البيان ثبت فساد قول المجبّرة.

[أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ استفهام تقريريّ؛ أي إنّه كذلك و هذا دليل واضح على أنّ فقراء المؤمنين و ضعفاءهم أولى بالتقديم و التعظيم من أغنيائهم، و لقد قال أمير المؤمنين: من أتى غنيّا فتواضع لغنائه ذهب ثلثا دينه.

[سورة الأنعام (6): آية 54]

وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

قوله تعالى:

النزول: قيل: نزلت في الّذين نهى اللّه نبيّه عن طردهم، فكان النبيّ إذا رآهم بدأهم بالسلام و قيل: نزلت في جماعة من الصحابة منهم حمزة و جعفر و مصعب بن عمير و عمّار و غيرهم، عن عطاء. و قيل: إنّ جماعة أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: إنّا أصبنا ذنوبا كثيرة فسكت عنهم فنزلت الآية، عن أنس بن مالك. و قيل: نزلت في التائبين، عن الصادق عليه السلام.

فعلى هذا كلّ من تاب و آمن و أصلح دخل تحت هذا التشريف و هو الأولى؛ لأنّ الناس اتّفقوا على أنّ هذه السورة نزلت دفعة واحدة (1) و إذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كلّ واحدة من آيات السورة: إنّ سبب نزولها هو الأمر الفلانيّ؟

كما أورد هذه المناقشة الإمام الرازيّ في تفسيره.

أقول: يمكن أن يقال: إنّه لسابقة علمه تعالى بوقوع هذه الأمور متدرّجا

ص: 179


1- قال به ابى بن كعب و عكرمة و قتادة. و قال ابن عباس: نزلت ست آيات منها بمدينة و في رواية عنه: ثلاث آيات. قاله الطبرسي.

فأنزل هذه السورة جملة، فكلّ آية و حكم في ترتيبه موافق للأمور الّتي بقع متدرّجا، و الخطاب متوجّه لما يقع تدريجا بيانا لتكليفهم فصحّ إطلاق شأن النزول؛ إذ كلّ آية يختصّ بحكم حالهم موافقا لما يحتاجون بيانه.

قوله: [فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] أمر سبحانه نبيّه أن يسلّم عليهم من اللّه فهو محبّة من اللّه على لسان نبيّه، و قيل: إنّ اللّه أمر نبيّه أن يسلّم عليهم تكرمة لهم، عن الجبّائيّ. و ثالثها أنّ معناه اقبل عذرهم و اعترافهم و بشّرهم بالسلامة ممّا اعتذروا منه، عن ابن عبّاس.

و قال أبو بكر الأنباريّ: قال قوم: السلام هو اللّه فمعنى «السلام عليكم» يعني اللّه عليكم أي على حفظكم؛ قال الرازيّ؛ و هذا بعيد لتنكير السلام في قوله: سلام عليكم، و لو كان معرّفا لصحّ هذا الوجه.

أقول: و لو كان معرّفا أيضا لكان في المعنى تكلّف و بعدو «كتب» معناه الوجوب و «على» تفيد الإيجاب و الإيجاب بحكم التفضّل و الكرم، و هو لا ينافي كونه تعالى فاعلا مختارا بل هو عبارة عن تأكيد وقوع الرحمة تفضّلا.

[أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ] قال الرازيّ: إنّ هذا لا يتناول التوبة من الكفر لأنّ هذا الكلام خطاب مع الّذين وصفهم بقوله: «وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا» فثبت أنّ المراد منه توبة المسلم عن المعصية، و المراد من قوله: «بجهالة» ليس هو الخطأ و الغلط؛ لأنّ ذلك لا حاجة له إلى التوبة بل المراد أن يقدم على المعصية بسبب الميل و الشهوة فعمل عملا متلبّسا بجهالة حقيقة أو حكما بأن يكون جاهلا بمقدار المكروه فيه أو أنّه علم أنّ عاقبته قبيحة و مكروهة و لكنّه آثر العاجلة فهو جاهل؛ لأنّه آثر النفع القليل على الراحة الكثيرة الدائمة [ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي بعد المعصية تاب و رجع عن فعله و أصلح ما أفسده من عمله فهو تعالى يمنّ عليه بالغفران و الرحمة.

[وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ و قرء «و لتستبين» بالتاء و سبيل بالرفع. و السبيل استعمل مؤنّثة مثل قوله: «هذِهِ سَبِيلِي» و استعمل مذكّرا مثل «وَ إِنْ يَرَوْا

ص: 180

سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» (1).

المعنى: أي كما قدّمناه من الآيات و الدلالات على التوحيد و النبوّة فكذلك نخبر و نشرّح و نفصّل لك دلائلنا في كلّ حقّ ينكره أهل الباطل، و «ليستبين» عطف على محذوف؛ و التقدير: ليظهر الحقّ و ليستبين و جاز الحذف؛ لأنّ في ما ابقي دليلا على ما القي. و ليستبين سبيل المجرمين و سبيل المؤمنين.

(في النهج: اعلموا رحمكم اللّه أنّكم في زمان القائل فيه بالحقّ قليل، و اللسان عن الصدق كليل، و اللّازم للحقّ ذليل، أهله معتكفون على العصيان مصطلحون على الإدهان فتاهم عارم، و شائبهم آثم، و عالمهم منافق، و قارءوهم ممازق، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم، و لا يعول غنيّهم فقيرهم.

أقول: لازموا الحقّ و جانبوا الباطل، و اعرف الحقّ من الباطل، يا ابن مسجود الملك! لم تعبد الشيطان؟ و يا ابن خليفة اللّه لمّ تخرّب البنيان؟ و يا بعل الحور لا تباضع هذه العجوز الدردبيس، (2) و لا تبادل الكوثر بالخندريس؛ (3) تسعى للدنيا و عن قليل تقلعك، و ترفل (4) على وجه الأرض و عن قريب تبلعك).

و لم يذكر سبيل المؤمنين؛ لأنّ ذكر أحد القسمين يدلّ على القسم الآخر، نحو قوله: «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» (5) و على قراءة التاء فبعض نصب السبيل و التاء للخطاب، فالمعنى: لتستبين يا محمّد سبيل هؤلاء المجرمين و بعض رفع السبيل على أنّه فاعل. و جعلوا السبيل مؤنّثا أي لتستبين السبيل.

[سورة الأنعام (6): الآيات 56 الى 57]

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57)

كان كفّار قريش يدعونه إلى طريقتهم فنزلت الآية أن قل لهم: إنّي زجرت و منعت

ص: 181


1- الأعراف: 142.
2- الدرديس: الداهية، الشيخ. العجوز الفانية.
3- الخمر القديمة.
4- رفل: جر ذيله و تبختر.
5- النحل: 83.

- بما نصب لي من الأدلّة و الوحي في أمر التوحيد- عن عبادة ما تعبدونه [مِنْ دُونِ اللَّهِ كائنا ما كان [قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ إشارة إلى الموجب للنهي كأنّهم قالوا: لمّ نهبت عما نحن فيه؟ أجاب صلى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّ ما أنتم عليه هوى و ليس بهدى، فكيف أتّبع الهوى و أترك الهدى؟ [قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً] أي إذا اتّبعت أهواءكم فقد ضللت و تركت سبيل الحقّ [وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ و من الّذين سلكوا طريق الحقّ.

[قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي كائنة حاصلة لي. و البيّنة: الحجّة الواضحة الّتي يفصل بين الحقّ و الباطل، و أنا على يقين من اللّه و المراد بها القرآن و الوحي [وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ و الضمير المجرور تذكيره باعتبار القرآن أو البيان و البرهان، أي كذّبتم بها و بما فيها من الأخبار الّتي من جملتها الوعيد بمجي ء العذاب [ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي ليس عندي ما تستعجلون به العذاب الموعود في القرآن، و تجعلون تأخيره ذريعة لتكذيبي فإنّه ليس أمره بمفوّض إليّ. و ذلك أنّ رؤساء قريش كانوا يقولون له صلى اللّه عليه و آله و سلّم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟

[إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم في ذلك [إِلَّا لِلَّهِ وحده [يَقُصُّ الْحَقَ أي يقوله و يخبره و لا يحكم إلّا بما هو حقّ؛ فتأخير العذاب و تعجيله حقّ ثابت جار على حكمة بليغة. و قرء «يقضي الحقّ» قالوا: و المناسب في المعنى: «يقضي» لا «يقصّ» لقوله: «خير الفاصلين»؛ لأن الفصل في الحكم لا في القصص، و لو أنّ القول أيضا بمعنى الفصل و يؤول إليه، لكنّ القضاء أظهر [وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي خير الحاكمين و القاضين.

و احتجّت الأشاعرة بقوله: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» على أنّه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلّا إذا قضى اللّه به فيمتنع منه فعل الكفر إلّا إذا قضى اللّه به، و هذا يفيد الحصر، و أجاب المعتزلة بقوله: «يَقْضِي بِالْحَقِّ» و المعنى أنّ كلّ ما قضى به فهو الحقّ، و هذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر و لا المعصية من العاصي لضرورة أنّ ذلك ليس الحقّ، و من المعلوم أنّ كلّ شي ء صنعه اللّه فهو حقّ و الكفر باطل، فامتنع وجود الكفر منه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

[قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي و في قدرتي و مكنتي [ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب الّذي

ص: 182

ورد به الوعيد [لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ و لأهلكتكم غضبا لربّي باستهزائكم لآياته، و لتخلّصت سريعا [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ و بما يجب في الحكمة من التأخير و التعجيل.

[سورة الأنعام (6): آية 59]

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)

قوله تعالى:

المعنى: لمّا قال سبحانه إنّه أعلم بالظالمين بيّن في هذه الآية أنّه العالم بكلّ شي ء فهو يعجّل ما تعجيله أصلح و يؤخّر ما تأخيره أصلح. المفتاح جمع مفتح و مفتح فالمفتح بالكسر: المفتاح الّذي يفتح به. و المفتح بفتح الميم: الخزانة، و كلّ خزانة كانت محرزا لصنف الأشياء فهو مفتح بفتح الميم.

قال الفرّاء في قوله تعالى: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ» (1) يعني خزائنه فلفظ المفاتح يمكن أن يراد منه المفاتيح، و يمكن أن يكون المراد منه الخزائن، أمّا على التقدير الأوّل فقد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأنّ المفاتيح يتوصّل بها إلى ما في الخزائن المستوثق بالأغلاق و الأقفال، فالعالم بتلك المفاتيح يمكنه أن يتوصّل بتلك المفاتيح إلى ما في الخزائن فكذلك هاهنا الحقّ لمّا كان عالما بجميع المعلومات عبّر عن هذا المعنى بهذه العبارة. و قرء مفاتيح، و أمّا على التقدير الثاني فالمعنى: و عنده خزائن الغيب. فعلى التقدير الأوّل يكون المراد العلم بالغيب، و على التقدير الثاني المراد: القدرة على كلّ الممكنات كما في قوله: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ» (2).

و الحكماء قالوا: إنّه تعالى مبدأ لجميع الممكنات، و العلم بالمبدأ يوجب العلم بالأثر فوجب كونه تعالى عالما بكلّها، و هذه الآية أيضا دليل على أنّه تعالى عالم بجميع الجزئيّات، و معنى «و عنده خزائن الغيب» الّذي فيه علم العذاب المستعجل به و المتأخّر به و غيره من العلوم لا يعلمها أحد إلّا هو أو من هو أعلمه ببعضه. و قيل:

ص: 183


1- القصص: 76.
2- الحجر: 23.

معناه: و عنده خزائن الغيب من الأرزاق و الآجال و المقدورات. و قال ابن عمر: مفاتح الغيب خمس ثمّ قرأ «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، الآية» (1).

و لمّا ذكر سبحانه أوّلا و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلّا هو و هذا أمر معقول كلّيّ أكّد بيانه بمعاونة الأمثلة محسوسا مفهوما لكلّ أحد بجزئيّات محسوسة فقال:

[وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ] و ذلك لأنّ أحد أفراد معلومات اللّه هو جميع دوابّ البرّ و البحر، فذكر سبحانه هذا المحسوس لكشف ذلك المعقول؛ فإنّ الإنسان إذا شاهد أحوال البرّ و ما فيه من المدن و القرى و المفاوز و الجبال و كثرة الحيوان و النبات و كذلك عجائب البحر و طوله و عرضه و ما فيه من أجناس ما خلق في البحار فإذا استحضر الخيال صورة البرّ و البحر، و عرف أنّ مجموع هذه الأمور قسم حقير تحت قوله:

«وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» فيصير هذا المثال المحسوس مكمّلا للعظمة في علمه تعالى.

ثمّ ذكر جزئيّا آخر كاشفا عن عظمة علمه تعالى بقوله: [وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها] فإذا عرف الإنسان إحاطة علمه تعالى بسقوط ورقة من أوراق الأشجار تبيّن للمتأمّل درجة زائدة في علم خالقه و ربّه، ثمّ يجاوز من هذا المثال أيضا إلى مثال آخر أشدّ هيئة و أدّق إحاطة بقوله: [وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ و ذلك لأنّ الحبّة في غاية الصغر، و ظلمات الأرض موضع يكون أكبر الأجسام و أعظمها مخفيّا فيها على اتّساعها فصارت هذه الأمثلة كلّها منبّهة على عظمة علمه تعالى قال ابن عبّاس:

المراد من ظلمات الأرض تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع.

[وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ و قد جمع الأشياء كلّها في قوله: «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ» لأنّ الأجسام كلّها لا تخلو من أحد هذين. و قيل: المراد ما ينبت و ما لا ينبت و قيل:

الرطب: الحيّ، و اليابس: الميّت. و عن أبي عبد اللّه عليه السلام: الورقة: السقط، و الحبّة:

الولد، و ظلمات الأرض: الأرحام، و الرطب: ما يحيى و اليابس ما يغيض (2) [إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ

ص: 184


1- لقمان: 34.
2- رواه البحراني في البرهان «ج 1: 528» عن أبى الربيع عنه عليه السلام. و فيه: ما يحيى الناس به.

أي إلّا و هو مكتوب في اللّوح المحفوظ و هو امّ الكتاب و «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» بدل من الاستثناء الأوّل بدل الاشتمال و بدل الكلّ على الكتاب المبين المراد به علمه تعالى لأنّ بعض المفسّرين فسّروا الكتاب المبين هاهنا بعلمه تعالى و هو محفوظ غير منسيّ؛ كما يقول القائل لغيره: ما تفعله عندي مسطور و مكتوب، يريد أنّه حافظ له و عالم به.

قال الجرجانيّ صاحب النظم عبد القاهر: إنّ الكلام تمّ عند قوله: «وَ لا يابِسٍ» ثمّ استأنف خبر آخر بقوله: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» يعني و هو في كتاب مبين أيضا لأنّك لو جعلت قوله: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» متّصلا بالكلام الأوّل لفسد المعنى.

[وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ الخطاب عامّ للمؤمن و الكافر، أي ينمكم في الليل، و يجعلكم كالميّت في زوال الإحساس و التمييز، و من هنا ورد: النوم أخ الموت و التوفّي في الأصل: قبض الشي ء بتمامه؛ قال أمير المؤمنين عليه السلام: يخرج الروح عند النوم و يبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى الجسد بأسرع من لحظة، و إنّ الّذي يرى الرؤيا هو الروح الإنسانيّ و إنّه يرى في عالم المثال و البرزخ ما صدر عن الروح الحيوانيّ من القبيح و الحسن، و الروح الحيواني ظلّ الروح الإنسانيّ.

[وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ] و ما كسبتم فيه بعلمه تعالى و خصّ الليل بالنوم و النهار بالكسب جريا على العادة [ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم في النهار عطف على «يتوفّاكم» و توسيط قوله «وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ» بين الجملتين لبيان ما في بعثهم من عظيم الإحسان إليهم بالتنبيه على أنّه بعد ما يكسبونه من السيّئات مع كونها موجبة لإبقائهم على التوفّي بل إهلاكهم بالمرّة يفيض عليهم بالحياة و يمهلهم كما ينبئ عنه كلمة التراخي [لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي ليبلغ المتيقّظ آخر أجله المسمّى في الدنيا المتعيّن له المدّة و المراد بقضاء الأجل: فصل مدّة العمر من غيرها بالموت؛ لأنّ معنى القضاء الفصل و الأجل آخر مدّة من الحياة.

[ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي مرجعكم بالموت إليه تعالى و إلى حكمه و جزائه

ص: 185

لا إلى غيره [ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجزئكم بأعمالكم بالمجازاة في أعمالكم الّتي كنتم تعملونها في تلك اللّيالي و الأيّام فالآية السابقة بيان علمه تعالى و هذه الآية بيان قدرته لأنّ الإحياء و الإماتة من شأن قدرته تعالى.

[سورة الأنعام (6): الآيات 61 الى 62]

وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)

قوله تعالى:

ثمّ شرح أيضا قدرته فقال: و هو القاهر أي و اللّه المقتدر المستعلي على عباده، المتفوّق عليهم بالقدرة لا بالمكان؛ لأنّ ذلك من صفة الأجسام و هو تعالى منزّه عن ذلك، كما يقال: أمر فلان فوق أمر فلان مثل قوله: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ». (1) [وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً] أي و هو الّذي يقهر عباده و يرسل ملائكة يحفظون أعمالكم و يكتبونها و هم الكرام الكاتبون، و الحكمة في البيان أنّ المكلّف إذا علم أنّ أعماله يكتب عليه ينزجر عن المعاصي و أنّهم يشهدون بها عليهم يوم القيامة لعلّ ينزجر و يتأدّب و لا يكثر العصيان.

[حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا] أي يحفظون أعمالكم مدّة حياتكم حتّى إذا انتهت مدّة الحياة و جاءه أسباب الموت و مباديه [وَ هُمْ أي الرسل [لا يُفَرِّطُونَ و لا يقصّرون فيما أمروا به من الحفظ بالتواني و التأخّر طرفة عين، و المتوفّى في الحقيقة هو اللّه و إنّ ملك الموت و أعوانه وسائط، و لذلك أضيف التوفّي إليهم، و قد يكون التوفّي بدون وساطتهم كما نقل في وفات الصدّيقة الطاهرة سلام اللّه عليها و أعوان ملك الموت على ما قيل أربعة عشر ملكا سبعة منها ملائكة الرحمة و إليهم يسلّم روح المؤمن بعد القبض، و سبعة منهم ملائكة العذاب و إليهم يسلّم روح الكافر بعد الوفاة. و قد جعلت الأرض لملك الموت كالطست يتناول من حيث يشاء (2) و إن كثرت

ص: 186


1- الفتح: 10.
2- و به ورد روايات كثيرة استوفى أكثرها المجلسي رحمه اللّه في «ج 6: 139- 145» من البحار المطبوع جديدا. و في بعضها انها جعلت له مثل جام و في بعضها كالقصعة.

و كانت في أمكنة مختلفة.

قال العلماء: الموت ليس بعدم محض و لا فناء صرف و إنّما هو انقطاع تعلّق الروح بالبدن و حيلولة بينهما، و تبدّل حال و انتقال من دار إلى دار، و لمّا خلق اللّه الموت على صورة كبش أملح قال له: اذهب إلى صفوف الملائكة على هيئتك هذه فلم يبق ملك إلّا غشي عليه ألفي عام، ثمّ أقاموا فقالوا: يا ربّنا ما هذا؟ قال الموت، قالوا: لمن ذلك؟ قال: على كلّ نفس، قالوا: لم خلقت الدنيا؟ قال: ليسكنها بنو آدم، قالوا لم خلقت النساء؟ قال ليكون النسل، قالوا: من يسلّط عليه هذا هل يشتغل بالنساء و الدنيا؟

قال: إنّ طول الأمل ينسيهم الموت. و لذلك قيل: الموت من أعظم المصائب و أعظم منه الغفلة عنه.

[ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ عطف على «توفّته» أي ردّوهم الملائكة بعد البعث إلى حكم اللّه و جزائه في موقف الحساب و قيل: المردودون الملائكة حيث لا حاكم فيه سواء [مَوْلاهُمُ الْحَقِ مالكهم الّذي يملك أمورهم على الإطلاق و أمّا قوله: «وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» (1) فالمولى بمعنى الناصر هناك فلا تناقض و الحقّ الّذي لا يقضي إلّا بالعدل و هو صفة للمولى [أَلا] أي اعلموا و تنبّهوا [لَهُ الْحُكْمُ أي القضاء بين العباد يومئذ [وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب جميع الخلائق في أسرع زمان و أقصره لا يشغله حساب عن حساب و لا شأن عن شأن لا يتكلّم بآلة و لا يحتاج إلى فكرة و رويّة و عقد يد.

و للرازيّ تحقيق حقيق في قوله: «وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ»* قال: في المفاتيح:

(و تقرير هذا القهر من وجوه: الأوّل: قهّار للعدم بالتكوين و الإيجاد. و الثاني: قهّار للوجود بالإفناء و الإفساد فإنّه تعالى تارة ينقل الممكن من العدم إلى الوجود، و تارة من الوجود إلى العدم. و الثالث أنّه قاهر لكلّ ضدّ بضدّه، مثل أن يقهر النور بالظلمة و اللّيل بالنهار و النّهار باللّيل، و حصول التضادّ بينها يقضي عليها بالمقهوريّة و العجز و النقصان مثل أنّ هذا البدن مؤلّف من الطبائع الأربع و هي متنافرة متباغضة بالطبع متباعدة بالخاصيّة فإنّ الحرارة ضدّ البرودة و اليبوسة ضدّ الرطوبة، فاجتماعها مع مضادّتها لا بدّ و أن يكون بقسر قاسر.

ص: 187


1- محمد: 12.

و أخطأ من قال، إنّ ذلك القاسر هو النفس الانسانيّ و هو الّذي ذكره ابن سينا في الإشارات لأنّ تعلق النفس بالبدن إنّما يكون بعد حصول المزاج و القاهر لهذه الطبائع المتضادّة على الاجتماع سابق على هذا الاجتماع و السابق على حصول الاجتماع مغاير للمتأخّر عن حصول الاجتماع؛ فثبت أنّ القاهر لهذه الطبائع على الاجتماع ليس إلّا اللّه فإنّ الجسد كثيف ظلمانيّ فاسد عفن و الروح لطيف علويّ نورانيّ مشرق باق نظيف و بينهما أشدّ المنافرة و المباعدة و هو سبحانه الجامع بينهما على سبيل القهر و القدرة و مع هذه المنافرة جعل سبحانه كلّ واحد منهما مستكملا لصاحبه منتفعا بالآخر فالروح تصون البدن عن العفونة و الفساد و التفرّق و البدن يصير آلة للروح في استكمال تحصيل السعادات الأبديّة؛ فهذا الاجتماع و هذا الانتفاع ليس إلّا بقهره تعالى لهذه الطباع، انتهى كلامه).

فالقاهر للعباد يحاسب عباده بسرعة؛ روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سئل كيف يحاسب اللّه الخلق و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه. و روي أنّه تعالى يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة! فاستعدّ لحسابك. قال عليّ بن الحسين عليه السلام: يا ابن آدم إنّك لا تزال بخير مادام لك واعظا من نفسك، و ما كان الخوف شعارك، و الحزن دثارك إنّك ميّت و محاسب فأعدّ الجواب. و أوحى اللّه إلى موسى: يا موسى خفني في سرائرك أحفظك في عوراتك و اذكرني في سرائرك و خلواتك و عند سرور لذّاتك أذكرك عند غفلاتك. و املك غضبك عمّن ملّكتك أمره أكفّ غضبي عنك، و اكتم مكنون سرّي و أظهر في علانيتك المداراة عنّي لعدوّك و عدوّي. أقول: لا المداهنة.

قال الصادق عليه السلام: ما الدنيا عندي إلّا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها يا حفص إنّ اللّه علم ما العباد عاملون و إلى ما هم سائرون، فحلم عنهم عند أعمالهم السيّئة بعلمه السابق فيهم و إنّما يعجل من يخاف الفوت فلا يغرّنّك تأخير العقوبة، ثمّ تلا قوله «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (1) و جعل يبكي و يقول: ذهبت الأمانيّ عند هذه الآية؛ الحديث.

ص: 188


1- القصص: 83.

[سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 64]

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)

قوله تعالى:

قرء «خفية» بكسر الخاء و بضمّ الخاء و قرء «خيفة» و الآية احتجاج على الكفّار.

[قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار: [مَنْ يُنَجِّيكُمْ و يخلّصكم [مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ] و شدائد أهوالهما. أراد ظلمة اللّيل و ظلمة الغيم و ظلمة النسيئة و الحيرة في البرّ و البحر [تَدْعُونَهُ أي تدعون اللّه عند معاينة هذه الشدائد [تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً] أي علانية و سرّا، أو متضرّعين بألسنتكم و خفية في أنفسكم، قال الطبرسيّ: و المعنى الثاني أظهر [لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ أي في أيّ شدّة وقعتم قلتم هذا القول [لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لإنعامك علينا و هذا يدلّ على أنّ السنّة من الدعاء التضرّع و الإخفاء؛ و قد روي عن النبيّ أنّه قال. خير الدعاء الخفيّ و خير الرزق ما يكفي. و مرّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء قال: إنّكم لا تدعون أصمّا و لا غائبا و إنّما تدعون سميعا قريبا.

[قُلِ يا محمّد: [اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ أي ينعم عليكم بالفرج و من هذه الظلمات [وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ و غمّ [ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ باللّه بعد قيام الحجّة عليكم بأن لا يقدر على الإنجاء غيره.

[سورة الأنعام (6): آية 65]

قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

في الآية بيان من دلائل التوحيد ممزوج بنوع من التهديد و التخويف [قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار: [هُوَ] تعالى [الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ بسبب المخالفة [عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ و معنى الفوقيّة و التحتيّة قيل محمول على الحقيقة؛ فالعذاب النازل عليهم من فوق مثل المطر النازل من فوق كما في قصّة نوح و الصاعقة و كذا الصيحة و الريح و حصبة قوم لوط و كما رمي أصحاب الفيل. و أمّا العذاب الّذي ظهر

ص: 189

من تحت أرجلهم فمثل الرجفة و مثل خسف قارون، فهذه الآية تتناول جميع أنواع العذاب الّتي يمكن نزولها من فوق و ظهورها من أسفل. و قال ابن عبّاس في رواية:

المراد من عذاب الفوق: الظلم من الأمراء، و من تحت أرجلكم من العبيد و الأراذل و السفلة.

و أمّا قوله: [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً] الشيعة الّذين يتّبع بعضهم بعضا. المراد: يلبسكم و يخلطكم خلط اضطراب لا خلط اتّفاق فيجعلكم فرقا فرقا فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضا و هذا معنى «وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» و عن ابن عبّاس: لمّا نزل جبرئيل بهذه الآية شقّ ذلك على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: ما بقاء امّتي إن عوملوا بذلك؟ فقال له جبرئيل: إنّما أنا عبد مثلك فادع ربّك لأمّتك فسأل ربّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يفعل بهم ذلك فقال جبرئيل: إنّ اللّه قد أمّتهم من اثنتين: أن لا يبعث عليهم عذابا من فوقهم كما بعث على قوم نوح و لوط، و لا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون- و المراد جميع الأمّة لا بعضها- لكن لم يجرهم من أن يلبسهم شيعا بالأهواء المختلفة و يذيق بعضهم بأس بعض بالسيف.

قال الكلبيّ: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: يا جبرئيل ما يبقى امّتي مع قتلهم بعضهم بعضا، فقام صلى اللّه عليه و آله و سلّم و عاد إلى الدعاء فنزل قوله: «الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ» (1) و في حديث أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال إذا وضع السيف في امّتي لم يرفع عنها إلى يوم الساعة. و قال ابيّ بن كعب: سيكون في هذه الأمّة بين يدي الساعة خسف و قذف و مسخ.

[انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ كيف نردد الآيات و نظهرها مرّة بعد اخرى بوجوه أدلّتها حتّى تزول الشبهة [لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ لكي يعلموا الحقّ فيتّبعوه و الباطل فيجتنبوه.

قوله تعالى: [سورة الأنعام (6): الآيات 66 الى 67]

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

ص: 190


1- العنكبوت: 1- 2.

لمّا ذكر سبحانه تصريف الآيات فقال: [وَ كَذَّبَ بما نصرّف من الآيات. أو الضمير في [بِهِ راجع إلى القرآن و كلا المعنيين متقاربان [قَوْمُكَ يعني قريشا و العرب [وَ هُوَ الْحَقُ أي القرآن و تصريف الآيات، أي يدلّ على الحقّ و ما فيه حقّ. ثمّ بيّن أنّ عاقبة تكذيبهم يعود عليهم فقال: [قُلْ يا محمّد: [لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي لم اومر أن أحول بينكم و بين اختياركم و لست بحافظ لأعمالكم لأجازيكم بها، إنّما أنا منذر و اللّه هو المجازي.

[لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ] أي لكلّ خبر من أخبار اللّه قرار على غاية ينتهي إليها و يظهر عندها. قال ابن عبّاس: المعنى لكلّ خبر حقيقة كائنة إمّا في الدّنيا و إمّا في الآخرة و سمّي الوقت مستقرّا لأنّه ظرف للفعل الواقع فيه. و قيل: المعنى: لكلّ عمل مستقرّ عند اللّه حتّى يجازي به يوم القيامة، عن الحسن.

[وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه وعيد و تهديد لهم إمّا بعذاب الآخرة و إمّا بالحرب قال السدّيّ: استقرّ الوعيد يوم بدر و تقديره: و سوف تعلمون ما يحلّ بكم من العذاب، و حذف لدلالة الكلام عليه. و المستقرّ يجوز أن يكون موضع الاستقرار و يجوز أن يكون نفس الاستقرار؛ لأنّ ما زاد على الثلاثيّ كان المصدر على زنة اسم مفعول نحو المدخل و المخرج بمعنى الإدخال و الإخراج فيكون المعنى: لكلّ خبر وقت أو مكان يحصل فيه؛ و إن جعلت المستقرّ بمعنى الاستقرار يكون المعنى: لكلّ وعيد و وعد استقرار.

[سورة الأنعام (6): آية 68]

وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

قوله تعالى:

بيّن سبحانه أنّ أولئك المكذّبين بالقرآن و الآيات إن ضمّوا إلى كفرهم و تكذيبهم الاستهزاء بالدين و الطعن بالرسول فإنّه يجب الاحتراز عن مقارنتهم و ترك مجالستهم فقال: [وَ إِذا رَأَيْتَ قيل: إنّه خطاب للرسول و المراد به غيره و قيل: الخطاب لغيره أي إذا رأيت أيّها السامع [الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا] قال الواحديّ: إنّ المشركين

ص: 191

كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن و قالوا مالا ينبغي و استهزءوا، فأمرهم أن لا يقعد معهم حتّى يخوضوا في حديث غيره، و لفظ الخوض في اللّغة عبارة عن المفاوضة على وجه العبث و اللعب [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ بترك مجالستهم عند خوضهم في الآيات [حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي استمرّ على الإعراض إلى أن يشرعوا في كلام غير ذلك الكلام.

[وَ إِمَّا] أصله إن ما فأدغمت نون إن الشرطيّة في ما المزيدة [يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ ما أمرت به من ترك مجالستهم [فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى أي بعد أن تذكره. و الذكرى مصدر بمعنى الذكر و لم يجي ء مصدر على «فعلى» إلّا القليل [مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الّذين وضعوا التكذيب موضع التصديق و هذا الإنساء لو كان هو المخاطب فمجرّد الاحتمال و الفرض و لا يلزم وقوعه، يدلّ عليه كلمة إن الشرطيّة، و المراد بالشيطان إبليس لأنّ الشيطان الّذي هو قرينه (1) ليس إلّا ملكا فلا يأمره إلّا بخير بخلاف قرين كلّ واحد من الامّة و هو دلالة على أنّ المخاطب في الآية غيره صلى اللّه عليه و آله و سلّم مثل إيّاك أعني.

[وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ] الضمير في «حسابهم» راجع إلى الخائضين، أي و ما على المؤمنين الّذين يجتنبون عن قبائح أعمال الخائضين شي ء من الجرائم الّتي ارتكبوا بخوضهم، و ذلك لأنّ المسلمين قالوا: لئن كنّا نقوم كلّما استهزءوا هؤلاء بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام و نطوف بالبيت، لأنّهم يخوضون أبدا فرخّص اللّه لهم في مجالستهم على سبيل الوعظ و التذكير [وَ لكِنْ ذِكْرى أي عليهم أن يذكروا الخائضين ذكرى، و يمنعوهم عن الخوض بما أمكن من العظة و يظهروا لهم الكراهة و الإنكار [لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و يجتنبون الخوض و قيل: المعنى:

ليس على المتّقين من الحساب يوم القيامة مكروه و لا تبعة و لكنّه سبحانه أعلمهم أنّهم محاسبون بخوضهم و حكم بذلك عليهم لكي يعلموا أنّ اللّه يحاسبهم فيتّقوا، عن البلخيّ. و على هذا فالهاء و الميم على الوجه الأوّل يعود إلى الكفّار و في الثاني إلى المؤمنين.

قوله تعالى:

ص: 192


1- اى قرين النبي صلى اللّه عليه و آله. و في التعبير تسامح.

[سورة الأنعام (6): آية 70]

وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

بيّن سبحانه عاقبة الكفّار فقال: [وَ ذَرِ الَّذِينَ أي دعهم و أعرض عنهم و المراد من الإعراض الإنكار لأنّه قال: بعد ذلك و «ذكّر» يريد: دع ملاطفتهم و لا تدع مذاكرتهم نظير قوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ» و المراد بالموصول الخائضون في الآيات. و [دِينَهُمْ أي دين الّذي أمروا بإقامته و هو دين الإسلام الّذي هم مكلّفون به و قد أخذوه لعبا و لهوا، و اللعب عمل يشغل النفس و ينفرها عمّا تنتفع به، و اللهو صرف النفس عن الجدّ إلى الهزل [وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها].

[وَ ذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن وعظ، و قيل: باليوم القيامة ذكّرهم و قيل: بالحساب [أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ و المبتسل الّذي يعلم أنّه لا يقدر على التخلّص من أمر وقع فيه، و المعنى: لكي لا تسلّم نفس للهلكة [بِما كَسَبَتْ و عملت و قيل: معنى تبسل تهلك. و قيل: تؤخذ و قيل: تسلم إلى خزنة جهنّم. و قيل؟ يجازى و المعاني متقاربة [لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌ أي ناصر ينجّيها من العذاب [وَ لا شَفِيعٌ يشفع لها [وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أي لا خلاص لها و إن تفد كلّ فداء [لا يُؤْخَذْ مِنْها] و قيل: و إن تقسط كلّ قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها؛ لأنّ التوبة هناك غير مقبولة و إنّما تقبل في الدنيا.

[أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا] أي اهلكوا فلا مخلص لهم و جوزوا [بِما كَسَبُوا] أي بعملهم و كسبهم [لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ أي ماء مغيور شديد الحرارة [وَ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم [بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي جزاء على كفرهم و اختلف في الآية فقيل: إنّها منسوخة بآية السيف، عن قتادة. و قيل: ليست بمنسوخة و إنّما هي تهديد، و في الآية دلالة على الوعيد العظيم بالاستهزاء في الدين و بآيات اللّه قال الفرّاء: عن ابن عبّاس: ما من امّة إلّا و لهم عيد يلعبون فيه و يلهون إلّا امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّ أعيادهم صلاة و دعاء و عبادة.

قوله تعالى:

ص: 193

[سورة الأنعام (6): آية 71]

قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)

أمر سبحانه نبيّه و المؤمنين بخطاب الكفّار فقال: [قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار الّذين يدعون إلى عبادة الأصنام، أو المعنى قل: أيّها الإنسان أو أيّها السامع [أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا] إن عبدناه [وَ لا يَضُرُّنا] إن تركنا عبادته [وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا] هذا مثل يقال؛ لكلّ خائب لم يظفر بحاجته: ردّ على عقبيه. و كلّ من أعرض عن الحقّ إلى الباطل رجع على عقبيه رجع القهقرى [بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ أي أنّ نرجع عن ديننا الّذي هو خير الأديان و أنقذنا من الشرك.

[كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ صفة لمصدر محذوف و تقديره: أ ندعو من دون اللّه دعاء مثل دعاء الّذي استهوته الشياطين، و ذهبت به مردة الجنّ، و أوقعته إلى المهانة و و أضلّته؟ و مثل من هوي من حالق (1) و استغوته الغيلان في الغياض [حَيْرانَ لا يهتدي سبيلا؟

و قيل: من الهوى أي دعته الشياطين إلى اتّباع الهوى. و «حَيْرانَ» حال من «هاء» استهوته، صفة مشبّهة مؤنثه حيرى.

[لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي لذلك الحيران أصحاب يقولون له: [ائْتِنا] و هو لا يقبل منهم طريق الهداية لأنّه قد تحيّر لاستيلاء الشيطان عليه يهوي و لا يهتدي و قيل: و المراد أنّ لذلك الكافر الضالّ أصحابا يدعونه إلى ذلك الضلال و يسمّونه بأنّه هو الهدى قال الرازيّ: و الصحيح هو الأوّل.

ثمّ قال سبحانه: [قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى الكامل النافع و هو الإسلام و ما عداه ضلال محض و غيّ بحت و قل أيضا: [أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ و اللّام بمعنى الباء و العرب يقول: أمرتك لتفعل أي بأن تفعل أي نوحّده و لا نشرك به شيئا و نؤمن بكتابه و قيل: نسلم أمورنا و نفوسنا إلى اللّه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 72 الى 73]

وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

قوله تعالى:

ص: 194


1- الحالق من الجبال: المرتفع المنيف.

أي أمرنا لأن نسلم و لأن نقيم الصلاة أو أمرنا بالإسلام و بإقامة الصلاة [وَ اتَّقُوهُ و قيل لنا: تجنّبوا معاصي اللّه و اتّقوا عذابه [وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ و تجمعون يوم القيامة، يجازى كلّ عامل منكم بعمله.

فإن قيل: كيف حسن عطف قوله: «وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» على قوله: «وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ»؟ ذكر الزجّاج أنّ التقدير: و أمرنا فقيل لنا: أسلموا لربّ العالمين و أقيموا الصلاة.

فإن قيل: هب إنّ المراد كذلك لكن ما الحكمة في العدول عن هذا اللفظ الظاهر إلى التقدير و التأويل؟ قال الرازيّ: لأنّ الكافر مادام باق على كفره كان كالغائب الأجنبيّ فلا جرم يخاطب بخطاب الغائبين فيقال: «وَ أُمِرْنا» و إذا أسلم و دخل في الإيمان صار كالقريب الحاضر فلا جرم يخاطب بخطاب الحاضرين و يقال له: «وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ» و المقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب التنبيه على الفرق بين حالتي الكفر و الإيمان فإنّ الكافر بعيد غائب و المؤمن قريب حاضر.

[وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ أي خلقهما للحقّ لا للباطل و خلقهما حقّا و صوابا لا خطأ و عبثا و قيل: معناه: خلق السماوات و الأرض بكلامه الحقّ فالحقّ صفة كلامه قال الطبرسيّ: و الصحيح المعنى الأوّل [وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ و يوم منصوب و معطوف على الهاء في قوله «وَ اتَّقُوهُ» و المعنى: و اتّقوه يوم يقول: كن فيكون و قيل: التقدير: و اذكروا يوم يقول: كن فيكون. أو عطف على السماوات و المعنى: و هو الّذي خلق السماوات و الأرض، و خلق يوم يقول: كن فيكون.

فإن قيل: إنّ يوم القيامة لم يأت بعد؛ فالجواب أنّ ما أنبأ اللّه بكونه حقيقة كائنة لا محالة. و الخطاب في «كن» قيل: للصور فيكون المعنى: يقول اللّه للصور: كن فيكون.

فالمراد أنّه لا يتأخّر الأمر عن إرادته تعالى و سرعة وقوعه.

[قَوْلُهُ الْحَقُ أي يأمر فيقع أمره و الحقّ صفة «قوله». و «قوله» فاعل «يكون»

ص: 195

أي ما وعد به من الثواب و العقاب حقّ [وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ] و التخصيص بهذا اليوم لأنّ هذا اليوم هو اليوم الّذي لا يظهر من أحد نفع و لا ضرّ و الأمر يومئذ للّه فلهذا السبب حسن التخصيص، و المراد من الصور ذلك القرن الّذي ينفخ فيه إسرافيل على ما ذكره اللّه هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم و قيل: إنّ الصور في هذه الآية جمع الصورة مثل صوف و صوفة و ثوم و ثومة.

قال الفرّاء: كلّ جمع على لفظ الواحد المذكّر فواحده بزيادة هاء فيه إذا سبق جمعه واحده، و ذلك مثل الصوف و الشعر و الوبر و القطن و العشب، فكلّ واحد من هذه الأسماء اسم لجميع جنسه و إذا أفردت واحدته زيدت فيها هاء؛ لأنّ جمع هذا الباب سبق واحده، و لو أنّ الصوفة كانت سابقة للصوف لقالوا: صوفة و صوف و وبرة و وبر كما قالوا: غرفة و غرف و زلفة و زلف.

و أمّا الصور بمعنى القرن فهو واحد لا يجوز أن يقال: واحدته صورة، و إنّما يجمع صورة الإنسان صورا لأنّ واحدته سبقت جمعه، و أخطأ أبو الهيثم قول من قال: إنّ المراد في الآية معنى الجمعيّة في الصور فقالوا: إنّ هذا القول تبديل في كلام اللّه لأنّ اللّه تعالى قال: «وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ»* (1) بل المراد و هو الفرق، و يؤيّد القول الأوّل ما رواه أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: كيف أنعم و قد التقم صاحب القرن القرن و جناحيه، و أصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ؟

[عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ] أي يعلم مالا يشاهده الخلق و ما يشاهدونه، و مالا يعلمه الخلق و ما يعلمون [وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أفعاله [الْخَبِيرُ] بعباده.

[سورة الأنعام (6): الآيات 74 الى 75]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

قوله تعالى:

احتجّ سبحانه على المشركين بأحوال إبراهيم عليه السلام حيث إنّ الكلّ معترفون

ص: 196


1- غافر: 66.

بفضله و يدّعون بأنّهم من أولاده، و اليهود و النصارى يعظّمون له و هذه المرتبة المسلّمة عند أهل العالم لم يتّفق لأحد لأنّه عليه السلام سلّم قلبه للعرفان، و ماله للضيفان، و بدنه للنيران، و ولده للقربان، و لسانه للبرهان، و سأل ربّه و قال: «وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» (1) فاستجاب اللّه دعاءه و حقّق مطلوبه و جعل جميع الطوائف و الملل يعظّمونه معترفين بفضله حتّى المشركين يفتخرون بأنّهم أولاده فقال:

[وَ] اذكر [إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ] فيه أقوال: أحدها أنّه اسم أب إبراهيم، عن الحسن و السدّيّ و الضحّاك. و ثانيها أنّ اسم أب إبراهيم تارخ قال الزجّاج: ليس بين النسّابين اختلاف في أنّ اسم أب إبراهيم تارخ، و الّذي في القرآن يدلّ على أنّ اسمه آزر و قيل: آزر عندهم ذمّ في لغتهم كأنّه قال: و إذ قال إبراهيم لأبيه: يا المخطئ فإذا كان كذلك فالاختيار الرفع، و جائز أن يكون وصفا له كأنّه قال لأبيه: المخطئ و قيل: آزر اسم صنم، عن سعيد بن المسيّب و مجاهد. و قال الزجّاج: فإذا كان كذلك فآزر موضعه النصب على إضمار الفعل و التقدير: و إذ قال إبراهيم لأبيه: أ تتّخذ آزر؟

و «أصناما» بدل من آزر و أشباهه فقال بعد أن قال: أ تتّخذ آزر إلها؟: أ تتّخذ أصناما آلهة؟

قال الطبرسيّ: و هذا الّذي قاله الزجّاج من أنّه لا خلاف بين النسّابين في أنّ اسم أب إبراهيم تارخ يقوّي ما قاله أصحابنا: إنّ آزر كان جدّ إبراهيم لأمّه أو كان عمّه من حيث صحّ عندهم أنّ آباء النبيّ إلى آدم كلّهن كانوا موحّدين. و اجتمعت الطائفة على ذلك، و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: لم يزل ينقلني اللّه من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتّى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهليّة. و لو كان في آبائه كافر لم يضف جميعهم بالطهارة مع قوله: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (2) و لنا أدلّة أيضا في ذلك ليس هنا موضع ذكره (3).

ص: 197


1- الشعراء: 84.
2- التوبة: 28.
3- و استدل له ايضا بآية الشريفة: و تقلبك في الساجدين فان الجمع المحلى باللام يدل على ساجدية عموم من تحول الرسول صم في أصلابهم و أرحامهم.

[أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً] الاستفهام إنكاريّ أي لا تفعل ذلك [إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ عن الحقّ و الصواب [مُبِينٍ ظاهر و في الآية حثّ للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم على محاجّة قومه الّذين دعوه إلى عبادة الأصنام و الاقتداء بأبيه إبراهيم لقوله تعالى «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» (1) و تسلية له بذلك.

قال الرازيّ: و هاهنا يقتضي مزيد بيان و هو أنّه لا دين أقدم من دين عبدة الأصنام و الدليل عليه أنّ أقدم الأنبياء و هو نوح إنّما جاء بالردّ على عبدة الأصنام كما قال سبحانه حكاية عن قومه أنّهم قالوا: «لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً» (2). و ذلك يدلّ على أنّ دين عبدة الأصنام قد كان موجودا زمن نوح أو قبله، و قد بقي ذلك الدين إلى هذا الزمان، و المذهب الّذي هذا شأنه مع العلم بأنّ هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني و خلق السماوات، و العلم الضروريّ يحكم ببداهة العقل بطلانه، كيف يكون بينهما التوفيق؟ لأنّه يمتنع إطباق الخلق الكثير في المدّة المتطاولة في أمر ضروريّ البطلان.

و العلماء ذكروا في كشف هذا المعنى وجوها كثيرة:

الأوّل أنّ الناس رأوا تغيّرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيّرات أحوال الكواكب فإنّه بحسب قرب الشمس و بعدها من سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة، و بسبب حدوث الفصول الأربعة تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم، ثمّ إنّ الناس ترصّدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادات و النحوسات بكيفيّة وقوعها في طالع الناس على أحوال مختلفة، فلمّا اعتقدوا ذلك غلب على ظنون أكثر الخلق أنّ مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتّصالات الفلكيّة و المناسبات الكوكبيّة، فلمّا اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ثمّ منهم اعتقدوا أنّها واجبة الوجود لذواتها، و منهم من اعتقد حدوثها و كونها مخلوفة للإله الأكبر إلّا أنّهم قالوا: إنّها و إن كانت مخلوقة للإله الأكبر إلّا أنّها هي المدبّرة لأحوال هذا العالم و هؤلاء هم

ص: 198


1- الانعام: 90.
2- نوح: 23.

الّذين أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر و بين أحوال هذا العالم و على كلا التقديرين فالقوم اشتغلوا بعبادتها و تعظيمها.

ثمّ إنّهم لمّا رأوا أن هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتّخذوا لكلّ كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه؛ فاتّخذوا صنم الشمس من الذهب و زيّنوه بالأحجار المنسوبة إلى الشمس مثل الياقوت و الألماس، و اتّخذوا صنم القمر من الفضّة و على هذا القياس، ثمّ أقبلوا على عبادة هذه الأصنام، و غرضهم من عبادة هذه الأصنام هو عبادة تلك الكواكب و التقرّب إليها، و المقصود الأصليّ من عبادة هذه الأصنام كان عبادة الكواكب، و سبب عبادة الأصنام كان هذا البيان الّذي ذكرناه.

الوجه الثاني في سبب عبادة الأصنام ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمّد المنجّم البلخيّ أنّ كثيرا من أهل الصين و الهند كانوا يثبتون الإله و الملائكة إلّا أنّهم يعتقدون أنّه تعالى جسم و صورة كأحسن ما يكون من الصور، و للملائكة أيضا صور حسنة إلّا أنّهم كلّهم محتجبون عنّا بالسماوات فلا جرم اتّخذوا صورا و تماثيل أنيقة حسنة الرؤيا و الهيكل، فيتّخذون صورة في غاية الحسن و يقولون: إنّها صورة الإله و صورة اخرى دون الصورة الاولى و يجعلونها على صورة الملائكة، ثمّ يواظبون على عبادتها، قاصدين بتلك العبادة طلب الزلفى من اللّه و من الملائكة.

الوجه الثالث أنّ القوم يعتقدون أنّ اللّه فوّض تدبير كلّ واحد من الأقاليم إلى ملك بعينه و فوّض تدبير كلّ قسم من أقسام العالم إلى روح سماويّ بعينه مثل أنّ مدبّر البحار ملك و مدبّر الجبال ملك آخر فلمّا اعتقدوا ذلك اتّخذوا لكلّ واحد من أولئك الملائكة صنما مخصوصا و هيكلا مخصوصا و يطلبون من كلّ صنم ما يليق بذلك الروح الفلكيّ من الآثار و التدبيرات و ذكروا أيضا وجوها آخر لا حاجة إلى الإطالة انتهى.

و الأنبياء بيّنوا في إقامة الدلائل على أنّ هذه الكواكب لا تأثير لها في أحوال

ص: 199

هذا العالم كما قال اللّه: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» (1) بعد أن بيّن في الكواكب أنّها مسخّرة و بتقدير أنّها يصدر عنها تأثيرات في هذا العالم إلّا أنّ دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة و الاشتغال بعبادة الأصل أولى بعبادة الفرع، سيّما إذا ورد المنع كما أفتى إبراهيم لمّا قال لأبيه: «أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» بأنّ عبادة الأصنام جهل و ضلالة.

قوله: [وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ الكاف للتشبيه و ذلك إشارة إلى غائب جرى ذكره و المذكور هاهنا هو أنّه استقبح عبادة الأصنام و هو قوله: «إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» و المعنى: و مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام نريه [مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و مثل ذلك التبصير نبصّره مالكيّته تعالى لهما. و «الملكوت» مصدر على وزن صيغة المبالغة كالرهبوت و الجبروت. و معنى الملكوت السلطنة القاهرة أو آثارها مثل الشمس و القمر و ما في الأرض من البحار و المياه و الرياح ليستدلّ بها على معرفة اللّه فاجري الملكوت على المملوك الّذي هو فيها مجازا قال أبو جعفر: كشف اللّه له عن الأرضين حتّى رآهنّ و ما تحتهنّ، و عن السماوات حتّى رآهنّ و ما فيهنّ من الملائكة و حملة العرش.

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لمّا رئي إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثمّ رأى آخر فدعا عليه فمات، ثمّ رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا، فأوحى اللّه إليه يا إبراهيم: إنّ دعوتك مستجابة فلا تدع على عبادي فإنّي لو شئت أن أميتهم بدعائك ما خلقتهم، إنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه، و صنف يعبد غيري لا يفوتني، و صنف يعبد غيري فاخرج من صلبه من يعبدني. (2) و اعلم أنّ دلالة ملك اللّه و ملكوته على نعوت جلاله تعالى و سمات عظمته غير متناهية، و حصول المعلومات الّتي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال،

ص: 200


1- الأعراف: 52.
2- رواه على بن ابراهيم في تفسيره ص 194 و أورد فيه ايضا قصة نشوئه في الغار و رواه البحراني في البرهان عن تفسير الامام و غيره ج 1 532- 533.

فإذن لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلّا بأن يحصل بعضها عقيب بعض لا إلى نهاية و لا إلى آخر؛ فلهذا السبب لم يقل: و كذلك أريناه ملكوت السماوات و الأرض كما قال المحقّقون: السفر إلى اللّه له نهاية و أمّا السفر في اللّه لا نهاية له.

[وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي من المتّقين بأنّه سبحانه هو المالك و الخالق لها.

«و اللام» متعلّقة بمحذوف مؤخّر مقرّر لما قبلها، تقديره: ليكون من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين فعلنا ما فعلنا من التبصّر البديع.

[فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أي ستره بظلامه [رَأى كَوْكَباً] جواب «لمّا» بأنّ رؤيته إنّما تحقّق بزوال نور الشمس، عن الحسن. قيل: كان الكوكب هو الزهرة، و قيل:

هو المشتري [قالَ كأنّه قيل: ماذا صنع عليه السلام حين رأى الكوكب؟ فقيل: قال على سبيل الموافقة مع الخصم لإبطال حجّة الخصم و إثبات حجّته: [هذا رَبِّي .

فإن قيل: إنّه عليه السلام بعد أن رأى الشمس بازغة قال. «هذا رَبِّي» و أتى بلفظ التذكير، فالمراد أنّ هذا النور الطالع، أو أنّ تأنيث الشمس على لغة العرب و أمّا في كلام غير العرب فيجوز أن لا يكون مؤنّثة و إبراهيم لم يكن عربيّا فحكى اللّه كلامه على ما كان في لغته.

فإن قيل: لم انّثت الشمس و ذكّر القمر؟ قيل: إنّ تأنيثها تفخيم لها لكثرة ضيائها، على حدّ قولهم «نسّابة و علّامة» و ليس القمر كذلك لأنّه دونها في الضياء.

[فَلَمَّا أَفَلَ أي غرب [قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ و اختلف في تفسيره قيل: إنّ إبراهيم إنّما قال ذلك عند كمال عقله عند النظر لأنّه أكمل اللّه عقله و حرّك دواعيه على التأمّل.

و أصل القضيّة أنّ ملك ذلك الزمان رأى رؤيا، و عبّرها المعبّرون بأنّه غلام ينازعه في الملك؛ فأمر ذلك الملك بذبح كلّ غلام يولد فحملت امّ إبراهيم اسمها أو في بنت نمر، و ما أظهرت حبلها للناس فلمّا جاءها الطلق ذهبت إلى كهف من جبل، و وضعت إبراهيم و سدّت الباب بحجر جاء جبرئيل و وضع إصبعه في فيه فمصّه فخرج منه رزقه و كان يتعهّده جبرئيل عليه السلام، و كانت امّه تأتيه أحيانا و ترضعه و تميّزه و بقي على هذه

ص: 201

الصفة حتّى كبر و عقل و عرف أنّ له ربّا، و كانت امّ إبراهيم بعد ما وضعته أخبرت زوجها أنّي وضعت ما في بطني فمات و دفنته في الغار فصدّقها تارخ و بقي إبراهيم في الغار سبعة سنين أو ثلاثة عشر سنة أو سبعة عشر.

فلمّا شبّ إبراهيم أخبرت أو في زوجها أنّ ابنك قد كبر و أنّي كتمت أمره خوفا من نمرود فأرت إبراهيم لأبيها فأسرّ تارخ بذلك غاية، فقال تارخ لأوفى: لا بدّ أن نخرجه من الغار إلى البلدة فأخرجوه من الغار وقت المساء فرأى إبراهيم لمّا اخرج من الغار غنما و خيلا تحت هضبة الغار، فسأل امّه إنّ لهذه الخيل و الأغنام ربّا يرزقها و يخلقها و لا بدّ لي من ربّ فمن ربّي؟ فقالت أنا. فقال: و من ربّك؟ قالت:

أبوك. فقال: من ربّ أبي؟ فقالت: ملك البلد فعرف إبراهيم جهلها.

فنظر من باب الغار ليرى شيئا يستدلّ به على وجود الربّ، فرأى النجم الّذي هو أضوأ النجوم إمّا الزهرة أو المشتري- حسب ما ذكرنا و كان ذلك وقت اضمحلال نور الشمس قريبا من الغروب فقال: «هذا رَبِّي».

و قيل: كان هذا الأمر بعد بلوغ إبراهيم، و جريان قلم التكليف عليه. و منهم من قال: قبل البلوغ و اتّفق أكثر المحقّقين على فساد قول الأوّل بوجوه: الأوّل أنّ القول بربوبيّة النجم كفر بالإجماع، و الكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء. الثاني أنّه عليه السلام دعا لآزر إلى التوحيد و ترك عبادة الأصنام حيث قال: «يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً» (1) و من دعا غيره إلى اللّه و لا شكّ أنّه إنّما اشتغل بدعوة أبيه يعني عمّه بعد فراغه من مهمّ نفسه ثبت أنّ هذه الوقعة إنّما وقعت بعد أن عرف اللّه.

ثمّ إنّ دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من خمسة عشر وجها كما شرحوها، كيف يليق بأعقل العقلاء أن يقول بربوبيّة الكواكب و من كان منصبه في الدين كذلك بعد أن أراه اللّه ملكوت السماوات و الأرض حتّى رأى من فوق العرش و الكرسيّ و ما تحتها إلى ما تحت الثرى، و قد شهد اللّه له حيث قال: «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (2)

ص: 202


1- مريم: 43.
2- الصافات: 82.

و أقلّ سلامة القلب سلامته عن الكفر و قال: «وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ» (1) أي آتيناه رشده من قبل من أوّل زمان الكفرة و كنّا به عالمين أي بطهارته و كما له.

و قوله: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» أي و ليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين.

ثمّ قال بعده: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» و الفاء تقضي الترتيب، فثبت أنّ هذه الواقعة إنّما حصلت بعد أن صار إبراهيم من الموقنين العارفين بربّه، فعلم أنّ هذه المباحثة إنّما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان، لا لأجل أنّ إبراهيم كان يطلب الدين و المعرفة لنفسه.

قال الرازيّ: إنّ الّذين يقولون: إنّ إبراهيم إنّما اشتغل بالنظر إلى الكواكب و الشمس و القمر حال ما كان في الغار غلط لأنّه لو كان الأمر كذلك فكيف يقول:

«يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» لأنّه ما كان معه في الغار لا قوم و لا صنم و أنّ اللّه لمّا ذكر هذه القصّة قال: «وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ» و لم يقل: على نفسه، و قال سبحانه: «وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ» و كيف يحاجّونه و هم بعد و ما رأوه و هو ما رآهم فثبت أنّه عليه السلام إنّما اشتغل بالنظر إلى الكواكب و القمر و الشمس بعد أن خالط قومه و رآهم يعبدون الأصنام و دعوه إلى عبادة الأصنام و هو ينكرهم بقوله: «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ردّا عليهم، و لا يجوز أن يكون النظر إلى الكواكب لأجل معرفة نفسه؛ لأنّ تلك اللّيلة كانت مسبوقة بالنهار و لا شكّ أنّ الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدّم ثمّ غربت فكان ينبغي أن يستدلّ بغروبها السابق على أنّها لا تصلح للإلهيّة، و إذا بطل بهذا الدليل صلاحيّة الشمس للإلهيّة بطل ذلك أيضا في القمر و الكواكب بطريق أولى فتبيّن أنّ هذا الأمر و الاحتجاج لإبطال الخصم و إلزامه الحجّة، و لمّا كانت المكالمة و المناظرة مع القوم حال طلوع النجم و امتدّت المناظرة إلى أن طلع القمر و طلعت الشمس بعده صحّ نظم الكلام فثبت بهذا البيان و الدلائل أنّه لا يجوز

ص: 203


1- الأنبياء: 52.

أن يقال: إنّ إبراهيم قال على سبيل الجزم: «هذا رَبِّي» بل قال لإبطال كلام الخصم، و لمّا أبطل حجّتهم بالأفول و الحدوث و التغيّر و استحال إلهيّتها قال في آخر كلامه:

[سورة الأنعام (6): الآيات 78 الى 79]

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

أي وجّهت نفسي و توجّهت مخلصا مائلا عن الشرك إلى الإخلاص لمن خلق السماوات و الأرض و الكواكب.

[سورة الأنعام (6): الآيات 80 الى 81]

وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)

قوله:

ثمّ ذكر سبحانه محاجّة إبراهيم مع قومه أي خاصموه و جادلوه قومه و خوّفوه من ترك عبادة آلهتهم؛ فقال: إبراهيم، أ تحاجّونّي في اللّه و قد هداني و وفّقني لمعرفته [وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ من الأصنام لأنّ الخوف إنّما يحصل ممّن يقدر على النفع و الضرّ و هي جمادات لا تقدر.

فإن قيل: إنّه للطلسمات باعتبار ارتباطها بالكواكب قد شوهد منها آثار مخصوصة فلم لا يجوز أن يحصل الخوف منها من هذه الجهة؟ فالجواب أنّ قوى الكواكب غير مستقلّة و إنّما هي من خلق اللّه؛ فالخوف يكون من اللّه لا منها [إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي أي إلّا أن أذنب فيشاء إنزال العقوبة بي، أو إلّا أن يشاء أن يبتليني بمحن الدنيا فيقطع عنّي عادات نعمته، أو أن يحييها و يمكّنها من خيري و نفعي، و اللّفظ يحتمل كلّ هذه الوجوه، و الاستثناء متّصل و المستثنى منه محذوف، و التقدير: لا أخاف معبوداتكم في وقت من الأوقات إلّا وقت مشيئته شيئا من أصابه مكروه بي من غير دخل لآلهتكم فيه أصلا.

[وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً] أي أحاط بكلّ شي ء علما، كأنّه تعليل للاستثناء

ص: 204

فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه بسبب من الأسباب لا بالطعن فيها [أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ و لا تتأمّلون في أنّ آلهتكم جمادات غير قادرة على إضراري.

[وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ باللّه من الأصنام و المراد إنكار الوقوع و نفي الضرر منها بالكلّية [وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ أي كيف أخاف أنا ما ليس في حيّز الخوف أصلا، و أنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات و هو إشراككم باللّه، و اجترأتم عليه و جعلتم له شركاء [ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً] و حجّة على صحّته، و المراد امتناع وجود الحجّة في مثل هذه القصّة و هذا المعنى نظير قوله «وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» (1).

[فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أ نحن أم أنتم؟ و حاصل المعنى: ما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن و لا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ من أحقّ به فأخبروني.

[سورة الأنعام (6): آية 82]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82)

في الآية مزيد بيان في من هو أحقّ بالأمن فقال: هم الّذين آمنوا و عرفوا اللّه و صدّقوا به و بما أوجبه عليهم و لم يخلطوا ذلك بظلم، و المراد «بظلم» في هذه الآية هو الشرك، عن أكثر المفسّرين و هو المرويّ عن سلمان الفارسيّ و حذيفة بن اليمان. و روى عبد اللّه بن مسعود قال: لمّا نزلت هذه الآية شقّ على النّاس و قالوا: يا رسول اللّه و أيّنا لم يظلم نفسه فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه ليس الّذي تعنون، ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح: «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (2) و قال الجبّائيّ و البلخيّ:

تدخل في الظلم كلّ كبيرة تحبط ثواب الطاعة قال البلخيّ: و لو اختصّ الشرك على ما قالوه لوجب أن يكون مرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا كان آمنا [أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ فقط من العذاب [وَ هُمْ مُهْتَدُونَ إلى الحقّ و من عداهم في ضلال و قيل: مهتدون إلى

ص: 205


1- المؤمنون: 117.
2- لقمان: 13.

الجنّة، و اختلف في هذه الآية فقيل: إنّها من تمام قول إبراهيم، و روى ذلك عن عليّ عليه السلام، و قيل: إنّ هذا القول من اللّه على جهة فصل القضاء بذلك بين إبراهيم و قومه، عن محمّد بن إسحاق و أبي زيد و الجبّائيّ.

[سورة الأنعام (6): الآيات 83 الى 87]

وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)

قوله تعالى:

[وَ تِلْكَ إشارة إلى ما احتجّ به إبراهيم على قومه من قوله: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى قوله- وَ هُمْ مُهْتَدُونَ» [حُجَّتُنا] الحجّة عبارة عن الكلام المؤلّف للاستدلال على المطلوب [آتَيْناها إِبْراهِيمَ أي أرشدناه إلى تلك الحجج و علّمناه إيّاها و أخطرناها بباله حتّى تمكّن من إيرادها على قومه عند المحاجّة [نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ] من المؤمنين و نفضّل بعضهم على بعض بحسب أحوالهم في الإيمان و اليقين [إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ يجعل التفاوت بينهم على ما توجب حكمته، و قيل: معناه نرفع درجات من نشاء على الخلق بالاصطفاء للرّسالة [وَ وَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم [إِسْحاقَ و هو ابنه من سارة [وَ يَعْقُوبَ من إسحاق [كُلًّا هَدَيْنا] أي كلّ واحد منهما أرشدنا إلى الفضائل الدينيّة.

[وَ نُوحاً] منصوب بمقدّر يفسّره [هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إبراهيم. و عدّ هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنّه أبوه و شرف الوالد يتعدّى إلى الولد [وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أي و من ذرّيّة نوح لأنّه أقرب المذكورين إليه، و لأنّ فيمن عدّدهم من ليس من ذرّيّة إبراهيم و هو لوط و إلياس و يونس و قيل: الضمير راجع إلى إبراهيم لكن قيل:

إنّ يونس عن ذرّيّة إبراهيم لأنّه كان من الأسباط في زمن شعيب [داوُدَ] ابن إيشا

ص: 206

[وَ سُلَيْمانَ ابنه و سلسلتهما تنتهي إلى يهود ابن يعقوب [وَ أَيُّوبَ ابن أموص بن رازح بن روم بن عصيا بن إسحاق بن إبراهيم [وَ يُوسُفَ بن يعقوب [وَ مُوسى ابن عمران بن يصهر بن ماهت بن لاوي بن يعقوب [وَ هارُونَ هو أخو موسى أكبر منه بسنة، و ليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم.

[وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما جزينا المذكورين برفع الدرجات نجزي من أحسن على قدر استحقاقهم أو كما تفضّلنا على هؤلاء الأنبياء بالنبوّة؛ فكذلك نتفضّل على المحسنين بنيل الثواب.

[وَ زَكَرِيَّا] ابن أدن بن بركيا [وَ يَحْيى و هو ابنه [وَ عِيسى ابن مريم بنت عمران من بني ماثان الّذين هم ملوك بني إسرائيل. قال الحقّيّ في تفسيره: و في ذكر عيسى دليل على أنّ الأولاد و الذرّيّة تتناول أولاد البنت، فيكون الحسن و الحسين عليهما السلام ذرّيّة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ إِلْياسَ ابن أخ هارون أخي موسى [كُلٌ منهم [مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح و هو الإيمان بما ينبغي و التحرّز عمّا لا ينبغي [وَ إِسْماعِيلَ عطف على «نوحا» أي و هدينا إسماعيل بن إبراهيم كما هدينا نوحا، و لعلّ الحكمة في إفراد إسماعيل عن باقي ذرّيّة إبراهيم أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان من ذرّيّة إسماعيل و الكائنات كانت تبعا لوجوده صلى اللّه عليه و آله و سلّم فما جعل اللّه إسماعيل تبعا لوجود إبراهيم فلذا أفرده بالذكر عنهم و أخّره في الذكر [وَ الْيَسَعَ بن أخطوب بن العجوز، قيل: اللّام زائدة لأنّه علم أعجميّ [وَ يُونُسَ بن متى و لوط بن حاذان بن أخي إبراهيم [وَ كلًّا] منهم [فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي عصرهم، و المقصود من هذه الآية تعديد أنواع النّعم على إبراهيم جزاء على قيامه عن دلائل التوحيد؛ فرزقه أولادا أنبياء مثل إسحاق و يعقوب و جعل أنبياء بني إسرائيل من نسلها و أخرجه من أصلاب طاهرين مثل نوح و إدريس و شيث. و كرامته عليه السلام بحسب الآباء و الأبناء.

قال الرازيّ: إنّ حرف الواو و لا يوجب الترتيب بدليل هذه الآية فإنّ حرف

ص: 207

الواو حاصل هاهنا مع أنّه لا يفيد الترتيب لا بحسب الشرف و لا بحسب الزمان، و هؤلاء المذكورون نالوا من الأمور العظيمة ما لم ينل أحد فإنّه تعالى أعطى من الملك و القدرة و السلطان و النبوّة بعضهم مثل داود و سليمان نصيبا عظيما و كذلك المحنة الشديدة و البلاء العظيم خصّ اللّه بها أيّوب و منهم من جمع له الخصلتين البلاء الشديد و الملك مثل يوسف، و منهم أعطاه المعجزات العظيمة و الصولة الشديدة مثل موسى و هارون، و منهم أعطاه الزهد الشديد بالإعراض عن الدّنيا مثل زكريّا و يحيى و عيسى و إلياس بتخصيصهم بالذكر لكمال هذه المراتب فيهم.

قوله تعالى: [وَ مِنْ آبائِهِمْ من تبعيضيّة أي و فضّلنا بعض آباء المذكورين كآدم و شيث [وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ أي و بعض ذرّياتهم من بعدهم كأولاد يعقوب [وَ إِخْوانِهِمْ و المراد منهم كلّ من آمن معهم فإنّهم كلّهم دخلوا في هداية الإسلام [وَ اجْتَبَيْناهُمْ عطف على فضّلنا أي اصطفيناهم [وَ هَدَيْناهُمْ و أرشدناهم [إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو دين اللّه [ذلِكَ الهدى [هُدَى اللَّهِ الإضافة للتشريف [يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إذا كانوا مستعدّين لقبول الهداية و الإرشاد [وَ لَوْ أَشْرَكُوا] أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء مع علوّ شأنهم «لَحَبِطَ عَنْهُمْ» و ذهب [ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الأعمال المرضيّة فكيف من عداهم، و هم هم و أعمالهم أعمالهم، و ليس في ذلك دلالة على أنّ الثواب الّذي استحقّوه على طاعتهم المتقدّمة يتحبّط، إذ ليس في ظاهر الآية ما يقتضي ذلك على أنّا قد علمنا بالدليل أنّ المشرك لا يكون له ثواب أصلا.

[سورة الأنعام (6): آية 89]

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)

[أُولئِكَ المذكورون من الأنبياء الثمانية عشر [الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي جنس الكتاب المتحقّق في ضمن أيّ فرد من الكتب السماويّة، و المراد بإيتائه التفهيم التامّ بما فيه من الحقائق و التمكين من الإحاطة بالدقائق منها أعمّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء؛ فإنّ المذكورين لم ينزل على واحد منهم كتاب معيّن [وَ الْحُكْمَ أي الحكمة أو فصل الخطاب على ما يقتضيه الصواب [وَ النُّبُوَّةَ] أي الرسالة، فأعطاهم

ص: 208

اللّه من العلوم و المعارف و الوحي ما لأجله بها يقدرون على التصرّف في بواطن الأمور و ظواهرها، ثمّ قال [فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ] يعني كفّار قريش أو الكفّار الّذين جحدوا نبوّة النبيّ في ذلك الوقت [فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً] أي غير إعادة أمر النبوّة و تعظيمها و الأخذ بالهدى [قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ في وقت من الأوقات بل مستمرّون على الإيمان بها.

و اختلف في المقصودين بذلك فقيل: عنى به الأنبياء الّذين جرى ذكرهم هم آمنوا بما أتى به محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم قبل مبعثه، عن الطبريّ و الجبّائيّ و الحسن و الزجّاج، و قيل:

عنى به الملائكة عن الفرّاء و الضحّاك، و قيل: هم الأنصار و المهاجرون، و قيل: هم الفرس، و قيل من لم يكفر فهو من القوم. قال الرازيّ: إنّ المراد الملائكة بعيد لأنّ اسم «القوم» قلّما يقع على غير بني آدم.

[أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هداهم اللّه إلى الصبروا لحقّ [فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فأمر نبيّه بطريقتهم في توحيده و اصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ؛ فإنّها بعد النسخ لا تبقى هدى بل متروكة.

و احتجّ العلماء على أنّه أفضل جميع الأنبياء لأنّ هؤلاء المذكورين كلّ منهم قد غلب عليه خصلة معيّنة كما شرحنا قبل هذا فجمع اللّه كلّ هذه الخصال في محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه إذا كان مأمورا بالاقتداء لم يقصّر في التحصيل فكان مستجمعا لها أجمع [قُلْ لكفّار قريش [لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على القرآن [أَجْراً] و جعلا من جهتكم كما لم يسأله من قبلي من الأنبياء، و هذا من جملة ما امر به من الاقتداء بهم فيه [إِنْ هُوَ] أي القرآن [إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ أي إلّا عظة و تذكيرا لهم من جهة تعالى فلا يختصّ بقوم دون قوم آخرين، و في الآية دلالة على أن نبيّنا صلى اللّه عليه و آله و سلّم مبعوث إلى كافّة العالمين و أنّ النبوّة مختومة لأنّه تعالى قال: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ».

[سورة الأنعام (6): آية 91]

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

قوله تعالى:

ص: 209

لمّا تقدّم ذكر الأنبياء و النبوّة عقّبه بمن أنكر النبوّة فقال: [وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ أي ما عرفوا اللّه حقّ معرفته و ما عظّموه حقّ عظمته [إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ] أي ما أرسل اللّه رسولا و لم ينزّل على بشر شيئا و ذلك أنّه جاء رجل من اليهود يقال له:

مالك بن الصيف فخاصم النبيّ فقال له النبيّ: أنشدك بالّذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أنّ اللّه يبغض الحبر السمين؟ و كان سمينا فغضب فقال: و اللّه ما أنزل اللّه على بشر من شي ء، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: و يحك و لا موسى؟ فنزلت الآية عن سعيد بن جبير و قيل:

إنّ الرجل كان فنحاص بن عازورا و هو قائل هذه المقالة عن السدّيّ.

و قيل: إنّ اليهود قالت: يا محمّد أنزل اللّه عليك كتابا؟ قال: نعم، قالوا: و اللّه ما أنزل اللّه من السماء كتابا، فنزلت الآية و في رواية اخرى أنّها في الكفّار أنكروا قدرة اللّه عليهم و من أقرّ أنّ اللّه على كلّ شي ء قدير فقد قدر اللّه حقّ قدره. و قيل:

نزلت في مشركي قريش.

و اعلم أنّ منكر البعثة و الرّسالة ما عرف اللّه حقّ قدره، و ذلك لأنّه إمّا أن يقول: ما كلّف اللّه أحدا من الخلق تكليفا أصلا أو يقول: إنّه كلّفهم التكاليف، و الأوّل باطل لأنّ ذلك يقتضي أنّه تعالى أباح لهم جميع المنكرات و القبائح نحو وصفه تعالى بما لا يليق به و شتمه و الاستخفاف بالأنبياء و الرسل و أهل الدّين، و ظلم بعضهم بعضا، و معلوم أنّ ذلك كلّه باطل و أمّا أن يسلّم أنّه تعالى كلّف الخلق بالأوامر و النواهي فههنا لا بدّ من مبلّغ و مبيّن و شارع، و ما ذاك إلّا الرسول.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنّ العقل كاف في إيجاب الواجبات، و اجتناب المقبّحات؟ قلنا: هب إنّ الأمر كما قلتم إلّا أنّه لا يمتنع تأكيد التعريف العقليّ بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء فثبت أنّ كلّ من منع البعثة و الرسالة فقد طعن في حكمة اللّه، و ما عرف اللّه، و كان جاهلا بصفة الإلهيّه فما قدر اللّه حق قدره

ص: 210

و بعضهم أنكروا في الإمكان خرق العادات و إيجاد شي ء على خلاف ما جرت به العادة و هؤلاء أيضا ما قدروا اللّه حقّ قدره.

ثمّ إنّه لمّا ثبت حدوث العالم بحدوثه يدلّ على أنّ الإله قديم قادر و أنّ الخلق كلّهم عبيده و هو مالك لهم على الإطلاق، و ملك لهم على الإطلاق، و الملك المطاع يجب أن يكون له أمر و نهي و تكليف على عباده، و أن يكون له وعد على الطاعة و وعيد على المعصية، و ذلك لا يتمّ و لا يكمل إلّا بإرسال الرّسل و إنزال الكتب فكلّ من أنكر ذلك فقد طعن في كونه ملكا مطاعا فهو ما قدر اللّه حقّ قدره.

فلو قيل: إنّ هؤلاء الّذين حكى اللّه عنهم أنّهم قالوا: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ» إمّا أنّهم كفّار قريش أو يقال: إنّهم أهل الكتاب من اليهود و النصارى فإن كان الأوّل فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى و ذلك لأنّ المشركين و كفّار قريش و البراهمة كما ينكرون رسالة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء، فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم؟ و إن كان الثاني و هو أنّ قائل هذا القول قوم من اليهود و النصارى فهذا أيضا مشكل لأنّهم لا يقولون هذا القول و كيف يقولونه مع أنّ مذهبهم أنّ التوراة كتاب أنزله اللّه على موسى و الإنجيل كتاب أنزله اللّه على عيسى عليه السلام؟ و أيضا فهذه السورة مكّيّة، و المناظرات الّتي وقعت بين رسول اللّه و بين اليهود و النصارى كلّها مدنيّة فكيف هذا الإشكال؟

أمّا الجواب عن الأوّل أنّه لمّا قال رسول اللّه لمالك بن الصيف- و كان من أحبار اليهود-: هل وجدت في التوراة مذكورا بأنّ اللّه يبغض الحبر السّمين؟ و أنت الحبر السّمين و قد سمنت من الأشياء الّتي قطعك اليهود و ضحك القوم، فغضب من هذا الكلام مالك و التفت إلى عمر، فقال: ما أنزل اللّه على بشر من شي ء فقالوا له قوم: ويلك ما هذا الّذي بلغنا عنك؟ فقال: إنّه أغضبني.

ثمّ إنّ اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه عن رئاستهم و جعلوا مكانه كعب بن الأشرف.

ص: 211

قال الرازيّ: هذا هو الرواية المشهورة و لعلّ الغضب المدهش للعقل حمله على طغيان اللّسان، مع أنّه كان مفتخرا باليهوديّة.

و أمّا الجواب عن أنّ هذه السورة مكّيّة و نزلت دفعة واحدة؛ فلا يمنع أن يقال:

بأنّ سبب نزول الآية مناظرة اليهوديّ، و قال الرازيّ: القائلون بهذا القول قالوا:

السورة كلّها مكّيّة و نزلت دفعة واحدة إلّا هذه الآية، فإنّها نزلت في المدينة.

[قُلْ لهم على سبيل التبكيت و الإلزام: [مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى يعنى التوراة، حال كون ذلك الكتاب [نُوراً] بيّنا بنفسه و مبيّنا لغيره كما يستضاء بالضياء [وَ هُدىً بيانا [لِلنَّاسِ و [تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي و حال كونه تضعونه في قراطيس مقطّعة و ورقات متفرّقة، بحذف الجارّ، على تشبيه القراطيس بالظرف، جمع قرطاس بمعنى الصحيفة [تُبْدُونَها] صفة قراطيس، أي تظهرون منها ما تحبّون إبداءه [وَ تُخْفُونَ كَثِيراً] ممّا فيها ممّا كتموه من أحكام التوراة.

[وَ عُلِّمْتُمْ أيّها اليهود على لسان محمّد بالقرآن [ما لَمْ تَعْلَمُوا] و قيل: إنّه خطاب للمسلمين يذكّرهم ما أنعم به عليهم. قال أبو عليّ الفارسيّ: «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ» أي تجعلونه ذا قراطيس و تودعونه إيّاها [ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أي دعهم و ما يختارونه من العناد و ما خاضوا فيه من الباطل و اللّعب، و ليس هذا البيان لترك الإنذار و الدعاء بل ضرب من التوعيد و التهديد، كأنّه سبحانه قال: دعهم فسيعلمون عاقبة أمرهم.

[سورة الأنعام (6): آية 92]

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)

قوله تعالى:

لمّا احتجّ سبحانه بإنزال التوراة على موسى بيّن أنّ سبيل القرآن سبيلها، فقال: [وَ هذا كِتابٌ أي القرآن [أَنْزَلْناهُ من السماء إلى الأرض لأنّ جبرئيل أتى به [مُبارَكٌ ممدوح مستسعد به فكلّ من تمسّك به نال الفوز، و ثابت خيره لم يزل لأنّ قراءته خير و العمل به خير و فيه علم الأوّلين و الآخرين و فيه بشارة المغفرة و الحلال و الحرام، و زيادة البيان على ما في الكتب المتقدّمة و باق حكمه إلى آخر الدهر

ص: 212

و لا ينسخ إلى آخر التكليف، و قد جرت سنّة اللّه بأنّ الباحث عن علم القرآن و المتمسّك به يحصل له خير الدنيا و سعادة الآخرة؛ قال أمير المؤمنين: كونوا من خاصّة اللّه و خاصّة قرّاء كتابه العاملون به. قال رسول اللّه: إنّ هذه القلوب لتصدي كما يصدى الحديد و إنّ جلاءها قراءة القرآن. أي مع التدبّر.

و قال ابن عبّاس: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، و بنهاره إذا النّاس غافلون و ببكائه إذا النّاس ضاحكون، و بورعه إذا النّاس يطمعون و بصمته إذا النّاس يخوضون. قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: القرآن على خمسة: حلال و حرام و محكم و متشابه و أمثال؛ فاعملوا بالحلال و اجتنبوا الحرام، و اتّبعوا المحكم و آمنوا بالمتشابه و اعتبروا بالقصص، و ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه، قال الصادق عليه السلام: ما هو و اللّه حفظ آياته و تلاوة سورة؛ حفظوا حروفه و أضاعوا حدوده، و إنّما هو تدبّر آياته، و العمل بأحكامه؛ قال اللّه تعالى «وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ» و اعلموا أنّ سبيل اللّه سبيل واحد مصير العامل بها الجنّة و المخالف لها النّار، و الإيمان ليس بالتمنّي و لكن ما ثبت في القلب و عملت به الجوارح و صدّقته الأعمال الصالحة، و قد ظهر الجفاء و قلّ الوفاء و تركت السنّة و ظهرت البدعة (اه).

[مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ و تصديقه للكتب على وجهين: أحدهما أنّه يشهد بأنّها حقّ و الثاني أنّه ورد بالصفة الّتي نطق بها الكتب المتقدّمة [وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها] و المضاف محذوف أي لتنذر أهل امّ القرى. و من حولها: أهل الأرض جميعا عن ابن عبّاس. و انّما سمّيت امّ القرى لأنّ الأرض دحيت من تحتها؛ فكأنّ الأرض نشأت منها. أو لأنّ أوّل بيت وضع في الدنيا وضع بمكّة، فكأنّ القرى تنشّأت منها عن السدّيّ؛ أو لأنّ على جميع الناس أن يستقبلوها و يعظّموها لأنّها قبلتهم كما يجب تعظيم الأمّ، عن الزجّاج و الجبّائيّ.

و زعمت طائفة من اليهود أنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان رسولا إلى العرب فقط، و احتجّوا على صحّة قولهم بهذه الآية و قال: إنّه تعالى بيّن أنّه انزل عليه هذا القرآن ليبلّغه إلى أهل مكّة و إلى القرى المحيطة بها و المراد منها جزيرة العرب و لو كان مبعوثا إلى الكلّ من العالمين لكان التقييد بقوله «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها» باطلا؛ و الجواب

ص: 213

أنّ تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدلّ على انتفاء الحكم فيما سواها إلّا بدلالة المفهوم و دلالة المفهوم ضعيفة لا سيّما و قد ثبت بالتواتر الظاهر المقطوع به من دين محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يدّعي كونه رسولا إلى كلّ العالمين. و قوله «وَ مَنْ حَوْلَها» يتناول أهل الشرق و الغرب و جميع البلاد على الّذي ذكره ابن عبّاس و غيره في معنى امّ القرى.

و لقوله تعالى: «وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا» (1) و كذلك: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً» (2) و لقوله: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» (3) [وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن لأنّهم يخافون العاقبة، و يحتمل أن يكون كناية عن محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم لدلالة الكلام عليه [وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أي على أوقات صلاتهم مراعون فيؤدّوها فيها و يقوموا بإتمام ركعاتها و أركانها.

و في الآية دلالة على أنّ المؤمن لا يجوز أن يكون مؤمنا ببعض ما أوجبه اللّه دون بعض و فيها أيضا دلالة على عظيم منزلة الصلاة لأنّه سبحانه خصّها بالذكر من بين سائر الفرائض و نبّه على أنّ من كان مصدّقا بالقيامة و بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم لا يخلّ بها.

[سورة الأنعام (6): آية 93]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

قوله تعالى:

النزول: قيل: نزلت في مسيلمة حيث ادّعى النبوّة إلى قوله و لم يوح إليه شي ء و قوله: «سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح فإنّه كان يكتب الوحي للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم فكان إذا قال له: اكتب «عَلِيماً حَكِيماً»* كتب «غَفُوراً رَحِيماً»* و إذا قال له: اكتب «غَفُوراً رَحِيماً»* كتب «عَلِيماً حَكِيماً»* و ارتدّ و لحق بمكّة، و قال إنّي سأنزل مثل ما أنزل اللّه عن عكرمة و ابن عبّاس و مجاهد و السدّيّ، و إليه ذهب الفرّاء و الزجّاج و الجبّائيّ، و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام. و قال قوم: نزلت الآية في ابن أبي سرح

ص: 214


1- النساء: 81.
2- سبأ: 27.
3- الفرقان: 1.

خاصّة. و قال قوم: نزلت في مسيلمة خاصّة.

المعنى: لمّا تقدّم ذكر نبوّة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و إنزال القرآن عليه عقّبه بذكر الّذين كذّبوه و ادّعوا أنّهم يأتون بمثل ما اوتي به فقال: [وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] استفهام في معنى الإنكار أي لا أحد أظلم ممّن كذّب على اللّه فادّعى أنّه نبيّ و ليس بنبيّ [أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ] أي يدّعي الوحي و لا يأتيه و لا يجوز في حكمة اللّه أن يبعث كذّابا، و هذا و إن كان داخلا في الافتراء و إنّما أفرد بالذكر تعظيما.

[وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ هذا جواب لقولهم «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا» (1) فادّعوا و لم يتمكّنوا و بذلوا الأموال و استعملوا سائر الحيل و لم يقدروا، قيل: إنّ عبد اللّه بن أبي سرح كان يكتب لرسول اللّه فلمّا نزلت قوله: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» فلمّا بلغ «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» (2) قال عبد اللّه- تعجّبا من تفضيل خلق الإنسان-: تبارك اللّه أحسن الخالقين فقال: اكتبها؛ فكذلك نزلت فشكّ عبد اللّه و قال: إن كان محمّد صادقا في قوله فكذلك نزلت لقد اوحي إليّ كما اوحي إليه فأنا مثله، و لئن كان كاذبا لقد قلت كما قال، فعليّ أن أدّعي نزول الوحي مثله، فارتدّ عن الإسلام و لحق بالمشركين.

قال قتادة: كان مسيلمة الكذّاب يسجّمع و يتكهّن، و قال في معارضة سورة الكوثر: إنّا أعطيناك الجماهر، فصلّ لربّك و هاجر، إنّا كفيناك المكابر و المجاهر انظر أيّها المتأمّل في الألفاظ الّتي ألحقها بالقرآن كيف كان سافل البناء فاسد المعاني مخلول الأسلوب.

و الأسود العنسيّ ادّعى النبوّة في زمانه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كان يختلق أحكاما فاسدة، خرج بصنعاء، و قتل في مرض موت النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، قتله فيروز الديلميّ فلمّا قتل اللعين بلغ خبر قتله النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: فاز فيروز، و أيضا قتل صاحب اليمامة مسيلمة الكذّاب في

ص: 215


1- الأنفال: 31.
2- المؤمنون: 12- 14.

عهد أبي بكر، قتله الوحشيّ قاتل حمزة عليه السلام، فلمّا قتله قال: قتلت خير النّاس في الجاهليّة و شرّ الناس في إسلامي.

و لمّا ارتدّ عبد اللّه بن أبي سرح و لحق مكّة هدر رسول اللّه دمه، فلمّا كان يوم الفتح جاء به عثمان و قد أخذ بيده و رسول اللّه في المسجد فقال عثمان: يا رسول اللّه اعف عنه، فسكت رسول اللّه، ثمّ أعاد فسكت صلى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ أعاد فقال: هو لك فلمّا مرّ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لأصحابه ألم أقل: من رآه فليقتله؟ فقال عباد بشر: كانت عيني إليك يا رسول اللّه أن تشير إليّ فأقتله فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الأنبياء لا يقتلون بالإشارة.

قال القاضي عبد الجبّار: جميع من يفتري على اللّه الكذب يدخل في هذه الآية و لا يقتصر الحكم على من يدّعي الرسالة كذبا لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب فكلّ من نسب إلى اللّه تعالى ما هو بري ء منه إمّا في الذّات أو في الصفات و إمّا في الأفعال كان داخلا تحت هذا الوعيد، فالافتراء على اللّه في صفاته كالمجسّمة، و في عدله كالمجبّرة.

[وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ فقوله «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ» يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال، و قوله «وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ» تفصيل لذلك المجمل و «غمرات» جمع غمرة و غمرة كلّ شي ء معظمه و منه غمرة الماء و غمرة الدّين إذا كثر عليه هذا هو الأصل، ثمّ يقال للشّدائد و المكاره: الغمرات، و جواب «لو» محذوف و تقديره: لرأيت أمرا عظيما.

[وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ قال ابن عبّاس: ملائكة العذاب باسطوا أيديهم يضربونهم و يعذّبونهم [أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي يضربونهم و يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم و المراد من هذا الكلام العنف و التشديد في إزهاق الرّوح من غير تنفيس و إمهال و أنّهم يفعلون بهم فعل الغريم الملح الملازم يبسط يده إلى من عليه الدين و يعنف عليه في المطالبة و لا يمهله، و يقول له: أخرج إليّ مالي عليك الساعة، و لا أبرح من مكاني حتّى أنزعه من أحداقك فيكون قولهم «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» من هذا القبيل من الكلام، أو المراد أنّ الملائكة حين ينزعون أرواح الكفّار بالشدّة، يقولون: أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد إن كنتم

ص: 216

قادرين على الدفع و إلّا فإنّهم لا يقدرون على إخراج أنفسهم.

[الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ فيقول الملائكة لهم: اليوم تعذّبون عذابا تلقون فيه الهوان، إمّا يوم النّزع أو يوم القيامة [بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ في الدنيا كنسبة الشريك أو اتّخاذ الولد و ادّعاء النّبوّة و الوحي كذبا [وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي ناقعون عن قبول أوامره.

قال الواحديّ في تفسيره: المراد من قوله «وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» أي لا تصلّون له قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: من سجد للّه بنيّة صادقة فقد برى ء من الكبر. و في الحديث أنّ المؤمن إذا احتضر آتته الملائكة بحريرة فيها مسك و ضبائر الرّيحان، و تسلّ روحه كما تسلّ الشعرة من العجين، و يقال لها: أيّتها النفس الطيّبة اخرجي راضية مرضيّة إلى روح اللّه و كرامته، فإذا خرجت وضعت على ذلك المسك و الريحان و طويت عليها الحريرة و بعث بها إلى علّيّين، و إنّ الكافر إذا احتضر آتته الملائكة بمسح (1) فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعا شديدا و يقال لها: أيّتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة و مسخوطا عليك إلى هوان اللّه و عذابه فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة و إنّ لها نشيجا أي صوتا و يطوى عليها المسح و يذهب بها إلى سجّين.

[سورة الأنعام (6): آية 94]

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

قوله تعالى:

يمكن أن يكون العطف على قول الملائكة: «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» فيقولون حكاية عن اللّه، و هم الملائكة الموكّلون بعقاب الكفّار، أو القائل هو اللّه.

و منشؤ الاختلاف أنّ اللّه هل يتكلّم مع الكفّار أولا؟ فقوله «وَ لا يُكَلِّمُهُمُ»* يوجب أن لا يتكلّم معهم، و قوله: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (2) يقتضي أن يكون

ص: 217


1- المسح- بالكسر-: نسيج من شعر يلبس قهرا للجسد.
2- الحجر: 92.

يتكلّم معهم فلهذا السّبب وقع هذا الاختلاف، قال الرازيّ: و القول الأوّل أقوى؛ لأنّ هذه الآية معطوفة على ما قبلها و العطف يوجب التشريك.

[وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى للحساب و الجزاء و هو بمعنى المستقبل أي يجيؤوننا، و إنّما ابرز في صورة الماضي لتحقّقه؛ كقوله «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» (1) قيل: الخطاب لكفّار قريش لأنّهم كانوا يفتخرون بأموالهم و أولادهم و يستخفّون بفقراء المؤمنين، و يقولون:

نحن أكثر أموالا و أولادا في الدنيا و ما نحن بمعذّبين في الآخرة، فقال: و لقد جئتمونا منفردين.

[كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ] على الهيئة الّتي ولدتم عليها مشتبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة و في الخبر: «إنّهم يحشرون يوم القيامة عراة حفاة عزلا» أي ليس لهم شي ء ممّا كان في الدّنيا نحو البرص و العرج و أمثاله (2) قالت عائشة: وا سوأتاه! الرجل و المرأة كذلك؟ فقال عليه السلام: لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرّجال إلى النساء و لا النساء إلى الرّجال شغل بعضهم عن بعض.

[وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ و تفضّلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة، و و التخويل تمليك الخول أي الخدم و الأتباع أو الإعطاء على غير جزاء [وَراءَ ظُهُورِكُمْ أي ما قدّمتم منه شيئا بخلاف المؤمنين؛ فإنّهم صرفوها في الأعمال الصالحة فبقيت معهم في قبورهم و حضرت معهم يوم القيامة فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى.

[وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أي الأصنام [الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ] أي شركاء للّه في ربوبيّتكم [لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أي وقع الانقطاع بينكم و بينهم [وَ ضَلَّ عَنْكُمْ وضاع و بطل [ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنّهم شفعاؤكم، فلم يقدروا على دفع العذاب عنكم.

قيل: إنّ للإنسان أعداء أربعة: المال، و الأهل، و الأولاد، و الأصدقاء، و هي لا تدخل في القبر فيبقى فريدا منهم و أيضا له أصدقاء أربعة: هي كلمة الشهادة، و الصلاة

ص: 218


1- النحل: 1.
2- هذا بناء على قراءة عزل- بالعين و الزاى- كما أورده في الوافي. و في الأصول من الكافي جاء بالغين و الراء و هو جمع اغرل بمعنى الأغلف و هكذا نقله العلامة المجلسي في البحار.

و الصوم، و ذكر اللّه، و هي تدخل في القبر و تشفع عند اللّه فتصحب الميّت فلا يبقى وحيدا قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ عمل الإنسان يدفن معه في قبره؛ فإن كان العمل كريما أكرم صاحبه و إن كان لئيما أهانه فإن كان العمل صالحا أنس صاحبه و بشّره و وسع عليه في قبره و نوّره و حماه من الشدائد و الأهوال، و إن كان عملا سيّئا فزّع صاحبه و روّعه و أظلم عليه قبره و ضيّقه و خلّى بينه و بين الشدائد و الأهوال.

قال اليافعيّ: و قد سمعت عن بعض الصالحين في بلاد اليمن أنّه لمّا دفن بعض الموتى و انصرف النّاس سمع في القبر صوتا و دقّا عنيفا، ثمّ خرج من القبر كلب أسود فقال له الشيخ الصالح: و يحك أبشر أنت؟ فقال: أنا عمل الميّت، فقال: فهذا الضرب فيك أم فيه؟ قال: بل فيّ، وجدت عنده سورة يس و أخواتها فحالت بيني و بينه فضربت و طردت.

أقول: و لا يبعد وقوع هذه القضيّة لصفاء خاطر الشيخ الصالح؛ فإنّ أمثاله يرون أمورا لم يرها غيرهم، و بالجملة ففي قوله تعالى: «وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ» حثّ من اللّه على اقتناء الطاعات الّتي بها ينال الفوز دون اقتناء المال الّذي لا شكّ في تركه و عدم الانتفاع به بعد الموت.

[سورة الأنعام (6): الآيات 95 الى 96]

إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)

قوله تعالى:

قرّر سبحانه بعض أفاعيله الدالّة على قدرته و علمه، إذا المقصود الأصليّ من جميع المباحث العقليّة و النقليّة هو معرفة اللّه بالوحدانيّة و القدرة، و بيان صفاته تعالى و أفعاله فقال:

[إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى الفلق و الفطر متقاربان في المعنى أو مترادفان، و الحبّ مثل الحنطة و الشعير و أمثالهما، و النوى هو الشي ء الموجود في داخل التمرة:

مثل نوى التمر و الخوخ و غيرهما، و الحبّة أو النواة إذا وقعت في الأرض الرطبة ثمّ مرّ به زمان من المدّة أظهر اللّه تعالى في تلك الحبّة و النواة من أعلاها شقّا و من أسفلها شقّا آخر، فأمّا الشقّ الّذي يظهر من أعلى الحبّة و النواة يخرج منه الشجرة

ص: 219

الصاعدة إلى الهواء، و الشقّ السافل يخرج منه الشجرة الهابطة الراسخة في الأرض المسمّى بعروق الشجرة و تصير تلك الحبّة و النواة سببا لاتّصال الصاعدة و الراسخة.

ثمّ إنّ هاهنا عجائب و دلائل على إثبات الصانع الفرد تعالى شانه: فإحداها أنّ طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في عمق الأرض فكيف تولّدت فيها الصاعدة في الهواء؟ و إن كانت يقتضي الصعود في الهواء فكيف تولّدت منها الهابطة؟

فلمّا تولّد منها هاتان الشجرتان الموصوفتان باقتضائين متناقضين في الصعود و الهويّ مع أنّ الحسّ و العقل يشهد باختلاف الطبيعتين مع أنّ الحبّة طبيعة مقتضاها أحد الأمرين فثبت أنّ ذلك ليس بمجرّد الطبع و الاقتضاء بل لا بدّ من مقتض و مبدع آخر.

و ثانيتها أنّ باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلّة (1) القويّة فيه و لا يغوص السكّين الحادّ القويّ فيه و نحن نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقّة و اللّطافة بحيث لو دلكها الإنسان بإصبعه بأدنى فرك لصارت كالماء، و هي مع هذه اللّطافة و الرّخوة يقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة على خلاف الطبيعة و لا بدّ أن يكون بتدبير مدبّر ماهر و تقدير العزيز العليم.

و ثالثتها أنّه يتولّد من تلك النواة شجرة، و يحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة فإنّ قشر الشجرة له طبيعة مخصوصة و في داخل ذلك القشر جرم الخشبة و في وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش. (2) ثمّ إنّه يتولّد من ساق الشجرة أغصانها و من الأغصان الأوراق أوّلا و هي مخضرّة اللّون، ثمّ الأزهار و هي محمرّة و مصفرّة بألوان مختلفة من شجرة واحدة ثمّ الفاكهة و في الفاكهة قشور و غشاء و جرم و لبّ، و كلّ منها له طبيعة مختلفة و طعوم متغايرة مع تساوي تأثيرات الطبائع و الفصول الأربعة و تساوي تأثيراتها يقتضي طبيعة واحدة، فهذه المختلفات و لو يكون من تدبير الطبيعة لكان طبيعة الشجرة يظهر منها أثر واحد أو آثار متساوية الصورة و المعنى، فإنّك تجد الطبائع المتضادّة في

ص: 220


1- المسلة- بكسر الميم و فتح السين- الابرة الكبيرة.
2- الصوف المصبوغ المتفرق اجزاؤه.

فاكهة واحدة: مثل الأترج؛ فقشره حارّ يابس و لحمه بارد رطب و خماضه بارد يابس و بزره حارّ يابس فتولّد هذه الخواصّ المتنافرة عن الحبّة الواحدة لا يكون إلّا بإبداع متصرّف قاهر.

ثمّ إنّا نرى أنّ نباتا واحدا غذاء لحيوان و سمّ لآخر، فاختلاف هذه الصفات و الآثار المتضادّة مع اتّحاد الطبائع لا يكون إلّا بتخليق الفاعل المدبّر، ثمّ إنّك إذا أخذت ورقة واحدة وجدت خطّا واحدا مستقيما في وسطها كأنّه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنّخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان، و كما أنّه ينفصل من النّخاع أعصاب كثيرة يمنة و يسرة في بدن الإنسان ثمّ لا يزال ينفصل عن كلّ شعبة شعب أخر و لا تزال تستدقّ حتّى تخرج عن الحسّ من فرط الدقّة، فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخطّ الكبير الوسط في خطوط منفصلة، و عن كلّ واحد منها خطوط مختلفة اخرى أدقّ من الاولى حتّى تخرج تلك الخطوط عن الحسّ.

فلمّا وقفت على عناية الخالق في اتّحاد الورقة علمت أنّ عنايته في تخليق تلك الشّجرة أكمل، ثمّ إذا عرفت أن عناية الخالق في تخليق الحيوان أكمل و في الإنسان الّذي هو ذو المقدّمة لهذه المقدّمات أتمّ و أكمل؛ لأنّه القابل للمعارف الإلهيّة و هو المقصود كما قال: «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (1) فاعرف أيّها الإنسان قدر نعم اللّه عليك «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و كلّ ذلك يظهر لك من تأمّل تلك الورقة.

و في كلّ شي ء له آيةتدلّ على أنّه واحد

[يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي يخرج ما ينمو من الحيوان و النّبات من النّطفة و الحبّ [وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ كالنّطفة و الحبّ فهو سبحانه بقدرته ساق الجنّة اليابسة الميّتة فيخرج منها النّبات و ساق النّواة اليابسة فيخرج منها النّخل، و يخرج النبات الغضّ الطريّ، و يخرج الحبّ اليابس من النبات الحيّ النامي، و العرب يسمّي الشّجر مادام غضّا قائما بأنّه حيّ، فإذا يبس أو قطع نموّه ميّتا، عن الزجّاج. أو المعنى

ص: 221


1- الذاريات: 56.

يخلق الحيّ من النطفة و هي موات، و يخلق النّطفة و هي موات من الحيّ أو يخرج الطير الحيّ من البيض و البيض من الطّير عن الجبّائيّ: أو يخرج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن.

[ذلِكُمُ اللَّهُ أي فاعل ذلك كلّه اللّه سبحانه [فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي كيف يذهب بكم عن هذه الأدلّة الظاهرة إلى الباطل و تصرفون من الحقّ؟ فإن قيل: إنّ عطف الاسم على الفعل بعيد بل لا يجوز فما السّبب؟ فالجواب أنّ قوله «وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» معطوف على قوله «فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى و قوله «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» كالبيان و التفسير لقوله «فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى لأنّ فلق الحبّ و النوى و النبات و الشجر النامي من جنس إخراج الحيّ من الميّت؛ لأنّ النامي في حكم الحيوان، ألا ترى إلى قوله «وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها». (1) و وجه آخر مذكور في البلاغة: و هو أنّ لفظ الاسم لا يفيد التجدّد و لفظ الفعل يدلّ على التجدّد ساعة بعد ساعة، و ضرب الشيخ عبد القاهر الجرجانيّ بهذا مثلا في كتاب دلائل الإعجاز، فقال: قوله: «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ» (2) إنّما ذكره بلفظ الفعل لأنّ صيغة الفعل تفيد أنّه تعالى يرزقهم حالا فحالا و ساعة بعد ساعة، و أمّا الاسم فمثاله قوله تعالى: «وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» (3) فقوله باسط يفيد البقاء على تلك الحالة الواحدة.

[فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً] نوع آخر من دلائل التّوحيد من الأوضاع الفلكيّة لأنّ فلق ظلمة اللّيل بنور الصبح أعظم من فلق الحبّ و النوى بالنبات و الشّجر، و فالق الإصباح خبر آخر لإنّ و الإصباح بكسر الألف مصدر بمعنى الدخول في ضوء النهار، سمّي به الصبح، أي فالق عمود الفجر عن بياض النهار و إسفاره، و الصبح صبحان فالصبح الأوّل هو الصبح المستطيل كذنب السرحان ثمّ تعقّبه ظلمة خاصّة ثم يطلع بعده الصّبح المستطير من جميع الأفق.

ص: 222


1- الروم: 18.
2- فاطر: 3.
3- الكهف: 17.

فالصبح الأوّل أقوى دليلا على القدرة من الصبح الثاني لأنه لعل أن يقال: أنّ الصّبح الثّاني من أثر قرص الشمس لكن الصّبح الأوّل لا يقال فيه هذا لأنّه لو كان الصّبح الأوّل من أثر قرص الشّمس لامتنع كونه خطّا مستطيلا بل يجب أن يكون مستطيرا في الأفق منتشرا و أن يكون متزائدا متكاملا بحسب كلّ حين و آن و لحظة، و لمّا لم يكن الأمر كذلك بل يحصل عقيبه ظلمة خالصة، ثمّ يحصل الصّبح المستطير بعد ذلك، فعلمنا أنّ ذلك الصّبح المستطيل ليس من تأثير الشمس و لا من جنس نوره و حاصل بتخليق اللّه ابتداء تنبيها على أنّ الأنوار ليس لها وجود إلّا بتخليقه على أنّ المراد من الصّبح هو النّور المنبسط و الضّوء الحاصل من الشمس الواقع على الجرم المقابل. و المنوّر لذلك المبدء تخليق اللّه ذلك النور فيه فإنّه متغيّرا طوره و هو دليل حدوثه و لا بدّ له من محدث قادر مختار فهو تعالى فالق ظلمة العدم بصباح التكوين و الإيجاد و فالق ظلمة العالم الجسمانيّ بتخليص النّفس عن العلائق و الشّهوات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبّر المحدثات.

قوله: [وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً] تسكنون فيه للرّاحة [وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ] أي و جعلهما [حُسْباناً] و الحسبان بالضمّ مصدر بمعنى الحساب و العدد بابه نصر. و أمّا الحسبان بكسر الحاء فهو من باب علم و معناه التخمين و الظنّ فالمعنى جعلها سبحانه على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات، و الشّمس معدن الأنوار الفلكيّة من البدور و النّجوم، و أنوارها مقتبسة من نور الشّمس على قدر تقابلهم و صفوة أجرامهم.

[ذلِكَ إشارة إلى جعلهما حسبانا أي ذلك السير البديع بالحساب المعلوم تقدير العزيز العليم الّذي قهرهما على السير المخصوص و العالم بما فيهما من المنافع و المصالح المتعلّقة بمعاشهم و أوقات عباداتهم و معاملاتهم و مقتضيات فصولهم لأثمارهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 97 الى 98]

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)

قوله تعالى:

هذا هو النّوع الثّالث من الدّلائل على القدرة و الحكمة: و هو خلق هذه

ص: 223

النجوم لمنافع العباد و هي من وجوه: الأوّل خلقها ليهتدي بهما الخلق إلى المسالك في ظلمات البرّ و البحر حيث لا يرون شمسا و لا قمرا. الثاني أنّ النّاس يستدلّون بأحوال حركة الشمس على معرفة أوقات الصلاة و العبادات الوقتيّة و القبلة. و زينة للسّماء و كونها رجوما للشّياطين، و فيها مصالح أخر لا يستدرك كنهها عقولنا فبعضها سيّارة و بعضها ثابتة، و الثوابت بعضها في المنطقة و بعضها في القطبين و بعضها كبيرة درّيّة عظيمة الضوء و بعضها صغيرة خفيّة قليلة الضّوء، و الثوابت لامعة و السيّارة غير لامعة، و لمّا ثبت أنّ الأجسام متماثلة؛ فاختصاص كلّ واحد بصفة معيّنة دليل على تقدير الفاعل المختار.

و لمّا ذكر سبحانه الاستدلال بأحوال هذه النجوم قال: [قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و اختلاف أوضاع الكواكب يدلّ على أنّه لها منافع عظيمة لا ندركها بعقولنا، و لو كان خلقها فقط للاهتداء لما كان يخلقها صغارا و كبارا أو اختلافها في المسير معنى. و في تفسير عليّ بن إبراهيم بن هاشم: النجوم آل محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ و أبدعكم [مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] أي من آدم و منّ علينا بهذا لأنّ النّاس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التعاطف و التألّف، و حوّاء مخلوقة من ضلع من أضلاعه فصار كلّهم من نفس واحدة، فإن قيل: فما القول في عيسى فهو أيضا مخلوق من مريم الّتي مخلوقة من أبويها. (1) فإن قيل: إنّ القرآن دلّ على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المنفوخ فيها؛ فالجواب أنّ كلمة «من» تفيد ابتداء الغاية و لا نزاع أنّ ابتداء تكوّن عيسى كان من مريم و هذا القدر كاف في صحّة هذا اللفظ [فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ و قرء بكسر القاف، قال ابن عبّاس: إنّ المستقرّ هو الأرحام، و المستودع الأصلاب، كما قال سبحانه «وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ» (2) و يدلّ على قوّة هذا القول أنّ النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا، و الجنين يبقى في الرّحم زمانا طويلا، فحمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى. و قيل: بالعكس و المستقرّ صلب الأب و المستودع رحم

ص: 224


1- كذا في الأصل.
2- الحج: 5.

الأمّ قالوا: محصول تلك النّطفة في رحم الأمّ من قبل الرجل مشبه بالوديعة.

و قوله: «فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ» يقتضي كون المستقرّ متقدّما على المستودع و حصول النطفة في طلب الأب مقدّم على حصولها في رحم الأمّ موجب على هذا التقرير كون المستقرّ متقدّما على المستودع و هو ما في أصلاب الآباء و المستودع ما في الأرحام. و قيل في معنى المستقرّ و المستودع: إنّ المستقرّ حالة بعد الموت لأنّه إن كان سعيدا فقد استقرّت تلك السعادة، و إن كان شقيّا فقد استقرّت تلك الشقاوة، و لا تبديل للإنسان بعد الموت، و أمّا قبل الموت فالأحوال متبدّلة؛ فالكافر قد ينقلب مؤمنا، و الزنديق قد ينقلب صدّيقا فهذه الأحوال لكونها قابلة للتغيّر و التبدّل لا يبعد تشبيهها بالوديعة الّتي تكون مشرفة على الانتقال و الزوال، عن الحسن.

و القول الرابع و هو قول الأصمّ: أنّ المستقرّ من خلق في النفس الاولى و دخل الدنيا و استقرّ فيها، و المستودع الّذي لم يخلق بعد و سيخلق، قال لبيد:

و ما المال و الأهلون إلّا ودائع و لا بدّ يوما أن نردّ الودائع

أو المستقرّ من استقرّ في قرار الدنيا و المستودع من في القبور حتّى يبعث و هذا أيضا قول الأصمّ. و قال قتادة على العكس منه فقال: مستقرّ في القبر و مستودع في الدنيا.

و قال أبو مسلم الإصبهانيّ: إنّ المعنى هو الّذي أنشأكم من نفس واحدة فمنكم مستقرّ ذكر و منكم مستودع أنثى، إلّا أنّه سبحانه عبّر عن الذكر بالمستقرّ لأنّ النطفة تتولّد في صلبه و يستقرّ هناك، و عبّر عن الأنثى بالمستودع لأنّ رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة و الاستدلال في الآية بأنّ الناس إنّما تولّدوا من شخص واحد، و مختلفة في الصّفات الّتي باعتبارها حصل التفاوت و الاختلاف في تلك الصّفات لا بدّ له من مؤثّر و سبب و ليس السبب هو الجسميّة و لوازمها فإنّ الأجسام متماثلة و إلّا لامتنع حصول التفاوت في الصفات فوجب أن يكون المؤثّر هو الفاعل المختار الحكيم.

ص: 225

[قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ و في الكلام تحثيث على الفهم و مواضع التأمّل و النظر في الأدلّة.

[سورة الأنعام (6): آية 99]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

قوله تعالى:

النوع الخامس من الدلائل على قدرته و وجوه إحسانه تعالى، و الكلام إذا كان دليلا من بعض الوجوه، و نعمة من بعض الوجوه كان تأثيره في القلب عظيما و عند هذا يظهر أنّ المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحقّ ينبغي أن يسلك هذا المسلك.

قوله: [وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً] يقتضي نزول المطر من السماء و عند هذا اختلف الناس: فقال أبو عليّ الجبّائيّ في تفسيره: إنّه تعالى ينزل الماء من السماء إلى السحاب و من السّحاب إلى الأرض قال: لأنّ ظاهر النصّ يقتضي نزول المطر من السماء و العدول عن الظاهر إلى التأويل إنّما يحتاج إليه عند قيام الدليل على أنّ إجراء اللّفظ على ظاهره غير ممكن، و في هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السماء فوجب إجراء اللّفظ على ظاهره.

و أمّا قول من قال: إنّ البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثمّ تصعد و ترتفع إلى الهواء فينعقد الغيم منها و يتقاطر، فذلك هو المطر فقد احتجّ الجبّائيّ و غيره على فساده من وجوه: الأوّل أنّ البرد قد يوجد في وقت الحرّ بل في صميم الصيف، و نجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد و ذلك يبطل قولهم.

فلو قال قائل: إنّ البخار أجزاء مائيّة و طبيعتها البرد ففي وقت الصيف يستولي الحرّ على ظاهر السّحاب فيهرب البرد إلى باطنه فيقوى البرد هناك بسبب الاجتماع فيحدث البرد، و أمّا في وقت برد الهواء يستولي البرد على ظاهر السحّاب فلا يقوى البرد في باطنه فلا جرم لا ينعقد جمدا بل ينزل ماء.

و أجبت عن هذا الكلام بأنّ الطبقة العالية من الهواء باردة جدّا عندكم فإذا كان اليوم يوما باردا شديد البرد في صميم الشتاء فتلك الطبقة باردة جدّا و الهواء

ص: 226

المحيط بالأرض أيضا بارد جدّا؛ فوجب أن يشتدّ البرد و أن لا يحدث المطر في الشتاء البتّة و نحن نشاهد حدوث المطر في الغالب ففسد القول.

و الحجّة الثانية على فساد قولهم ما ذكره الجبّائيّ و هو أنّ البخارات إذا ارتفعت و تصاعدت تفرّقت و إذا تفرّقت لم يتولّد منها قطرات الماء؛ بل البخار إنّما يجتمع إذا اتّصل بسقف متّصل أملس كسقوف الحمّامات المزجّجة أمّا إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء فإذا تصاعدت الأبخرة في الهواء و ليس فوقها سطح أملس متّصل به تلك البخارات وجب أن لا يحصل منها شي ء من الماء. و الدليل الأقوى في بطلان قول من قال: إنّ الأمطار بسبب صعود الأبخرة أنّه لو كان تولّد المطر من صعود البخارات فالبخارات دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر و نحن نشاهد خلافه.

قال الجبّائيّ: إنّ القوم إنّما احتاجوا إلى هذا القول لأنّهم اعتقدوا أنّ الأجسام قديمة و إذا كانت قديمة امتنع دخول الزّيادة و النقصان فيها و حينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلّا اتّصاف تلك الذرّات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات اخرى، فلهذا السبب احتالوا في تكوين كلّ شي ء عن مادّة معيّنة، و أمّا المسلمون فلمّا اعتقدوا أنّ الأجسام محدثة، و أنّ خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء و أراد فعند هذا لا حاجة إلى هذه التكلّفات، و الآيات ناطقة بنزول المطر من السماء قال: «وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» (1) «وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ» (2) فيخلق هذه الأجسام في السماء ثمّ ينزّلها إلى السحاب ثمّ من السحاب إلى الأرض.

و قيل: المعنى أنزل من السحاب ماء و سمّى اللّه السحاب سماء لأنّ العرب يسمّي كل ما فوقك سماء، و لكن هذا المعنى فيه تكلّف أيضا لأنّه خروج عن الظاهر في الجملة، و نقل الواحديّ في البسيط عن ابن عبّاس: يريد بالماء المطر هنا و لا ينزل قطرة من المطر إلّا و معها ملك، و الفلاسفة يحملون ذلك الملك على الطبيعة الحالّة في تلك الجسميّة الموجبة لذلك النزول و أنكروا كون الملك معها.

ص: 227


1- الفرقان: 50.
2- الأنفال: 11.

قوله تعالى: [فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي فأخرجنا بالماء الّذي أنزلناه من السماء ما ينبت من غذاء الأنعام و الوحش و الطير و أرزاق بني آدم ما يأكلونه و ينمون به و يتعيّشون منه، و إنّما قال سبحانه به لأنّه سبحانه جعل الماء سببا مؤدّيا إلى النبات و كان يمكنه الإنبات بغيره، و قد جعل اللّه لكلّ شي ء سببا.

[فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً] و الضمير في «منه» راجع إلى الماء أو إلى النبات «خضرا» أي زرعا رطبا مثل ساق السّنبلة و أمثالها [نُخْرِجُ مِنْهُ أي من ذلك الزّرع الخضر [حَبًّا مُتَراكِباً] قد تركّب بعضه على بعض مثل سنبل الحنطة و الدخن و السمسم على تركيب مخصوص و هيئة خاصّة.

[وَ مِنَ النَّخْلِ خبر مقدّم [مِنْ طَلْعِها] بدل منه بإعادة العامل و الطلع شي ء يخرج من النخل كأنّه نعلان مطبقان و الثمر بينهما منضود [قِنْوانٌ مبتدأ أي و حاصلة من طلع النخل قنوان جمع قنوة، و هو للتمر بمنزلة العنقود للعنب [دانِيَةٌ] سهلة المجتنى قريبة من القاطف.

و المعنى: من النخل ما قنواتها دانية، و منها ما هي بعيدة فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة؛ لأنّ العمّة في القربيّة أكمل، و في الحديث: أكرموا عمّاتكم النخل فإنّها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام و ليس من الشجرة شجرة أكرم عند اللّه من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران فأطعموا نساءكم الولّد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر (1).

و أوّل ما أكلت مريم حين وضعت عيسى عليه السلام هو الرطب كما قال تعالى: «وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا» (2) و في الحديث أنّه شكا بعض الأنبياء إلى اللّه من قبح أولاد امّته فأوحى اللّه إليه أن مرهم أن يطعموا نساءهم الحبالى بأكل السفر جل في الشهر الثالث و الرابع لأنّ فيه تصوّر الجنين فإنّه يحسن الولد.

ص: 228


1- أورد اخبارا كثيرة في منافع اكثر الأثمار في فروع الكافي «ج 2: 178- 181» كتاب الأطعمة و الأشربة.
2- مريم: 25.

[وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ أي و أخرجنا به بساتين كائنة من أعناب و كلّ نبت متكاثف يستر بعضه بعضا فهو جنّة من جنّ إذا أستتر [وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ و أخرجنا شجر الزّيتون و شجر الرّمان [مُشْتَبِهاً] أوراقهما. و و رقهما يشتمل على العود كلّه من أوّل الغصن إلى آخره في كلّ الشجرتين [وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ في الطعم فيكون المعنى: مشتبها ورقه مختلفا ثمره فمشتبه في الخلق و مختلف في الطعم، و قيل: المعنى مشتبها ما كان من جنس واحد و غير متشابه إذا اختلف جنسه، قال الطبرسيّ: و الأولى في المعنى أن يقال: إنّ جميع ذلك المذكور مشتبه من وجوه مختلف من وجوه.

قال الرازيّ في تفسير «مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ» وجوها: الأوّل أنّها متشابهة قد تكون في اللون و الشكل مع أنّها مختلفة في الطعم و اللذة فإنّ الأعناب و الرمّان قد تكون متشابهة في الصورة و اللّون و الشكل ثمّ إنّها مختلفة في الحلاوة و الحموضة و بالعكس.

قال قتادة: أوراق الأشجار متقاربة في التشابه أمّا ثمارها فتكون مختلفة أو الأشجار متشابهة و الثّمار مختلفة أو أنّ العنقود العنب مثلا ترى جميع حبّاته مدركة نضجة حلوة طيّبة إلّا حبّات مخصوصة منها بقيت على أوّل حالها من الخضرة و الحموضة و العفوصة و كذلك التمر مثلا، و على هذا فبعض حبّات ذلك العنقود متشابهة و بعضها غير متشابهة. و قد ذكر سبحانه من الأشجار هذه الأربعة، لشرافتها و كثرة نفعها، و قدّم النّخل؛ لكرامتها كما ذكر في الحديث سابقا.

و العنب ألذّ الفواكه، و يؤخذ منه الزبيب و الدبس و الخلّ حتّى أنّ الأطبّاء يأخذون من عجمها جوارشنات عظيمته النّفع للمعدة الضعيفة الرّطبة، و قيل: هو سلطان الفواكه، و أمّا الزيتون فهو أيضا كثير النّفع فيمكن تناوله كما هو و يتّخذ منه دهن كثير النّفع في الأكل و في سائر وجوه الاستعمال، و أمّا الرمّان فحاله عجيب جدّا و ذلك أنّ قشره و شحمه و عجمه باردة يابسة قابضة عفصة قويّة في هذه الصّفات، و أمّا ماؤه فبالضدّ فانّه ألذّ الأشربة و ألطفها و أقربها إلى الاعتدال و أشدّها مناسبة للطباع المعتدلة و فيه معونة للمزاج الضعيف فهو غذاء من وجه و دواء من وجه

ص: 229

فإذا تأمّلت في الرمّان وجدت الأقسام الثلاثة منه موصوفة بالكثافة التامّة الأرضيّة و وجدت القسم الرّابع و هو ماء الرمّان موصوفا باللطافة فجمع سبحانه فيه بين المتضادّين المتغايرين، فكانت دلائل القدرة و الرّحمة فيه أتمّ.

قوله: [انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ] تأمّلوا يا مخاطبين إلى ثمر كلّ شجر من المذكورة إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به [وَ يَنْعِهِ و إلى حال نضجه و أكله كيف ينتقل عليه الأحوال في الطعم و اللّون و الرّائحة و الصغر و الكبر لتستدلّوا بذلك على القادر المدبّر.

[إِنَّ فِي ذلِكُمْ أي في خلق هذه الثّمار و الزروع [لَآياتٍ و شواهد أنّها تكوّنت لخلقه و قدرته «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» لأنّهم بها يستدلّون و بمعرفة مدلولاتها ينتفعون قال الرّازيّ: إنّ جمع ثمرة: ثمار، ثمّ جمع ثمار ثمر فيكون ثمر جمع الجمع أو جمع ثمرة مثل بقر و بقرة و شجر و شجرة.

قوله تعالى: [سورة الأنعام (6): الآيات 100 الى 101]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (101)

و تقرير نظم الآية أنّ الّذين أثبتوا الشريك للّه فرق و طوائف كلهم يؤولون إلى ثلاث فرق: فالطائفة الاولى عبدة الأصنام، فهم يقولون: الأصنام شركاء للّه في العبادة و لكنّهم معترفون بأنّ هذه الأصنام لا قدرة لها على الإيجاد و التكوين. و الطائفة الثّانية من المشركين الّذين يقولون: مدبّر هذا العالم هو الكواكب و هؤلاء فريقان منهم من يقول: إنّها واجبة الوجود لذواتها؛ و منهم من يقول: إنّها ممكنة الوجود لذواتها محدثة و خالقها هو اللّه، إلّا أنّه سبحانه فوّض تدبير هذا العالم الأسفل إليها و هؤلاء هم الّذين حكى اللّه عنهم أنّ الخليل عليه السلام ناظرهم بقوله: لا احبّ الآفلين. و الطّائفة الثالثة من المشركين: الّذين قالوا: لجملة هذا العالم بما فيه من السماوات و الأرض إلهان أحدهما فاعل الخير و الثاني فاعل الشرّ و المقصود في بيان هذه الآية مذهب هؤلاء فهذا تقرير نظم الآية.

ص: 230

نزلت في الّذين قالوا: إنّ اللّه و إبليس أخوان، فاللّه تعالى خالق الناس و الخيرات و الأنعام و الحيوانات النافعة، و إبليس خالق الشرور و الحيوانات الضارّة كالسباع و الحيّات و العقارب و هذا مذهب المجوس، و يطلق عليهم الزنادقة لأنّ الكتاب الّذي زعم زرادشت أنّه كتاب مذهبه مسمّى بالزند و المنسوب إليه يسمّى «زنديّ» ثمّ عرّب فقيل: زنديق، و جمعه الزنادقة، فقالوا: كلّ ما في هذا العالم من الخيرات فهو من «يزدان» و جميع ما فيه من الشرور و فهو من «أهرمن» و هو المسمّى في شرعنا بإبليس ثمّ هؤلاء الزّنادقة اختلفوا، فالأكثرون منهم على أنّ أهرمن محدث و الأقلّون منهم قالوا: إنّه قديم أزلىّ، و على القولين اتّفقوا على أنّه شريك للّه في تدبير العالم فخيراته من اللّه و شروره من إبليس.

فإن قيل: إنّه على هذا البيان فالقوم أثبتوا للّه شريكا واحدا و هو إبليس فكيف قال سبحانه حكاية عنهم: و أثبتوا للّه شركاء؟ لأنّهم كانوا يقولون: عسكر اللّه هم الملائكة و عسكر الإبليس هم الشّياطين، و الملائكة يلهمون الخلق بالخيرات و الشياطين يلقي الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشريّة أو اللّه مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين و هذا معنى قوله تعالى:

[وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ و شركاء الجنّ الملائكة و الأبالسة لاستتارهم عن الأعين، و قيل: إنّ قريشا كانوا يقولون أي بعضهم كان يقول: إنّ اللّه صاهر الجنّ فحدث بينهما الملائكة، فيكون على هذا القول المراد به الجنّ المعروف لا الملائكة كما قال سبحانه: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» (1) أو المراد من قوله: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» الملائكة لا الجنّ حيث قالوا: الملائكة بنات اللّه.

[وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ أي و جعلوا مخلوقه شريكا و المخلوق كيف يكون شريك الخالق؟ و خرقوا له أي و موّهوا و افتروا الكذب على اللّه و نسبوا البنين و البنات إلى اللّه تعالى فإنّ المشركين قالوا: الملائكة بنات اللّه، و النصارى قالوا:

المسيح ابن اللّه، و اليهود قالوا: عزير ابن اللّه [بِغَيْرِ عِلْمٍ و حجّة قاطعة و لكن جهلا منهم باللّه و بعظمته.

ص: 231


1- الصافات: 158.

[سُبْحانَهُ وَ تَعالى أي تنزيها له و هو متعال [عَمَّا يَصِفُونَ من انتسابهم له تعالى بهذه النسبة، و يجلّ من أن يوصف بما وصفوه به فإنّ الولد متولّد عن جزء من أجزاء الوالد و ذلك إنّما يعقل في حقّ من يكون مركّبا و يمكن انفصال جزء منه و ذلك في حقّ الواحد الفرد الواجب لذاته محال، يقال: فلان تخرّق الكذب أي اختلقه من عند نفسه و المراد من التعالي ليس علوّ المكان بل علوّ الشأن و المكانة. و الفرق بين «سُبْحانَهُ» و بين «تَعالى أنّ المراد من «سُبْحانَهُ» تنزيهه عمّا لا ينبغي، و المراد بقوله: «وَ تَعالى كونه في ذاته متعاليا سواء سبّحه مسبّح أو لم يسبّحه فالتسبيح يرجع إلى أقوال المسبّحين، و التّعالي يرجع إلى صفته الذاتيّة الّتي حصلت له لذاته لا لغيره.

(لا تصف اللّه بما لا يليق و اعبده مخلصا راجيا خائفا، فإنّ الرّجاء له ثلاث مراتب رجل يعمل الحسنة فيرجو قبولها، و رجل عمل السيّئة و هو نادم فيرجو غفرانها و رجل كذّاب مغرور يعمل المعاصي؛ يتهاون بالذنوب و يرجو المغفرة قيل للصادق عليه السلام:

إن قوما من شيعتكم يعلمون بالمعاصي و يقولون نرجو فقال: كذبوا ليسوا من شيعتنا كلّ من رجا شيئا عمل له، فو اللّه ما من شيعتنا منكم إلّا من اتّقى اللّه، و إنّ أحسن الناس باللّه ظنّا و أعظمهم رجاء أعملهم بطاعته؛ و لقد كان رسول اللّه و أمير المؤمنين أحسن الناس باللّه ظنّا و أبسطهم له رجاء و كانوا أعظم الناس منه خوفا و منه رهبة و كذلك سائر الأنبياء.

فدعوا الأمانيّ منكم و جدّوا و اجتهدوا و أدّوا إلى اللّه حقّه، و إلى الخلق حقّهم، فما ضرب اللّه مثل آدم من أنّه عصى بأكل حبّة إلّا تذكرة لكم و كان أمير المؤمنين يقول في تسبيحه: سبحان من جعل خطيئة آدم عبرة لأولاده مع أن أصلكم قد اصطفاه فأهبطه إلى الأرض من الجنّة لأجل أكل حبّة و أنتم تأكلون البيادر هذا هو الطّمع العظيم.

و ينبغي أن يكون الرّجاء و الخوف في قلب المؤمن كجناحي الطائر: إذا

ص: 232

استويا حصل الطيران و إذا حصل أحدهما دون الآخر فقد حصل النقص في القلب و العمل.

روي في سبب نزول قوله: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» (1) أنّ رسول اللّه مرّ بقوم يضحكون فقال: لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا فنزل جبرئيل بالآية. قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: قال جبرئيل: قال اللّه: عبدي إذا عرفتني و عبدتني و رجوتني و لم تشرك بي شيئا غفرت لك على ما كان منك، و لو استقبلتني بمل ء الأرض ذنوبا أستقبلك بملئها مغفرة و عفوا و أغفر لك و لا ابالي.

قالت امّ سلمة: سمعت رسول اللّه يقول: إنّ اللّه ليتعجّب من يأس العبد و قنوطه مع عظيم سعة رحمته.

روي أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام مرّ بالزهريّ و هو يضحك قد خولط؛ فقال:

ما باله فقالوا: هذا لحقه من قتل النفس، فقال: و اللّه لقنوطه من رحمة اللّه أشدّ عليه من قتله. فاعمل و خف و ارج (2)).

[بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الإبداع عبارة عن تكوين الشي ء من غير سبق مثال قال الرازيّ في بيان الآية: المراد ردّ قول من أثبت له ولدا بأنّه إنّكم إن تزعمون أنّ عيسى ابن اللّه لكونه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدّم نطفة و والد، فلو لزم من مجرّد كونه تعالى مبدعا لإحداث عيسى كونه والدا له لزم من كونه مبدعا للسّماوات و الأرض كونه والدا لهما، لأنّه تعالى خلقهما على سبيل الإبداع و معلوم أنّ ذلك باطل بالاتّفاق، ثمّ إنّ الولادة لا تصحّ إلّا ممّن كانت له صاحبة و شهوة و ينفصل عنه جزء و يحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة و هذه الأحوال إنّما تثبت في حقّ الجسم الّذي يصحّ عليه الاجتماع و الحركة و السكون و الحدّ و النهاية و المدّة و كلّ ذلك على اللّه محال و هو المراد بقوله:

ص: 233


1- الحجر: 49.
2- و روى: لو وزن خوف المؤمن و رجاؤه لاعتدلا. أورد اخبارا مناسبة في الأصول من الكافي «ج 2: 67- 71».

[أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ] و يحصل الولد بهذا الطريق لمن أراد الولد و عجز عن تكوينه دفعة واحدة عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد، و من كان مستغنيا عن هذه الأمور و خالقا لكلّ الممكنات إذا أراد إحداث شي ء قال له: كن فيكون و هو المراد من قوله: [وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ] و من كان قدرته بهذه المثابة امتنع منه إحداث شي ء بطريق الولادة.

ثمّ إنّ هذا الولد إمّا أن يكون قديما أو محدثا و لا يجوز أن يكون قديما لأنّ القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته و ما كان واجب الوجود لذاته كان غنيّا عن غيره فامتنع كونه ولدا لغيره فبقي أنّه لو كان ولدا لوجب كونه حادثا، ثمّ نقول: إنّه تعالى عالم بجميع المعلومات فإمّا أن يعلم أنّ له في تحصيل الولد كمالا و نفعا أو لا؛ فإن كان الأوّل فلا وقت يفرض أنّ اللّه خلق هذا الولد فيه إلّا و الداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلا قبل ذلك و متى كان الداعي إلى إيجاده حاصلا قبله وجب حصول الولد قبل ذلك و هذا يوجب كون ذلك الولد أزليّا و هو محال و إن كان الثاني فقد ثبت أنّه تعالى عالم بأنّه ليس له في تحصيل الولد كمال حال، و لا ازدياد مرتبة في الإلهيّة و إذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يحدثه في وقت من الأولاد، و هو المراد من قوله: [وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فكونه عالما بكلّ المعلومات و كونه أزليّا يمنع من صحّة الولد عليه انتهى كلام الرازيّ في المفاتيح.

قال الطبرسي: و من قال: إنّ في قوله «وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ» دلالة على خلق أفعال العباد فجوابه أنّ المفهوم منه أنّه أراد المخلوقات كما يفهم من قول من قال: أكلت كلّ شي ء و المخلوقات كلّها بما فيها من التقدير العجيب يضاف خلقها إليه على أنّه قد نزّه نفسه عن إفك العباد و ظلمهم و كذبهم فلو كان خلقا له لما تنزّه عنه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 102 الى 103]

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

قوله تعالى:

ص: 234

أي ذلك الّذي خلق هذه الأشياء لكم و دبّر هذه الصنعة هو [اللَّهُ ربّكم خالقكم و سيّدكم [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي كلّ مخلوق من الأجسام و الأعراض الّتي لا يقدر عليها غيره [فَاعْبُدُوهُ لأنّه المستحقّ للرّبوبيّة و العبادة [وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ حافظ و مدبّر فهو وكيل على الحقّ، و لا يقال وكيل لهم.

قال صاحب الكشّاف: «ذلِكُمُ» إشارة الموصوف بما تقدّم من الصفات و هو مبتدأ و ما بعده أخبار مترادفة و هي «اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ».

و نقل الرازيّ في إثبات التوحيد طرقا كثيرة؛ قال: قال المتكلّمون: الصّانع الواحد كاف لأنّ الإله القادر على كلّ المقدورات العالم بكلّ المعلومات كاف في كونه إلها للعالم و أمّا أنّ الزائد على الواحد لم يدلّ الدّليل على ثبوته و لم يكن إثبات عدد أولى من إثبات عدد آخر فيلزم إمّا إثبات آلهة لا نهاية لها و هو محال، أو إثبات عدد معيّن مع أنّه ليس ذلك العدد أولى من سائر الأعداد و هو أيضا محال و إذا كان القسمان باطلين لم يبق إلّا القول بالتوحيد.

و أيضا وجه أخر في تقرير هذه الطريقة: و هي أنّ الإله القادر على كلّ الممكنات كاف في تدبير العالم فلو قدّرنا إلها ثانيا لكان ذلك الثاني إمّا أنّ يكون فاعلا و و موجدا لشي ء من الحوادث أو لا يكون و الأوّل باطل لأنّه لمّا كان كلّ واحد منهما قادرا على جميع الممكنات فكلّ فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلا لذلك الفعل مانعا للآخر عن تحصيل مقدوره لأنّ فعله سبق و امتنع الثاني عن تحصيل مقدوره و ذلك يوجب كون كلّ واحد منها سببا لعجز الآخر، و إن كان الإله الثاني لا يفعل فعلا و لا يوجد شيئا فكان معطّلا و ناقصا فلا يصلح للإلهيّة.

و الوجه الثالث في تقرير هذه الطريقة أنّ هذا الإله الواحد لا بدّ و أن يكون كاملا في صفات الإلهيّة فلو فرضنا إلها ثانيا لكان ذلك الثّاني إمّا أن يكون مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال أولا يكون فإن كان مشاركا للأوّل في جميع الصفات فلا بدّ و أن يكون مميّزا عن الأوّل بأمرما، إذ لو لم يحصل الامتياز بأمر من الأمور لم يحصل التعدّد و الاثنينيّة و إذا حصل الامتياز بأمر مّا فذلك الأمر المميّز إمّا أن

ص: 235

يكون من صفة الكمال أولا يكون؛ فإن كان من صفات الكمال مع أنّه حصل ما به الامتياز لم يكن جميع صفات الكمال مشتركا فيه بينهما، و إن لم يكن ذلك المميّز من صفات الكمال؛ فالموصوف به يكون موصوفا بصفة ليست من صفات الكمال و ذلك نقصان و لا يصلح للإلهيّة، انتهى كلامه.

قالت الأشاعرة: إنّ قوله: «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» يدلّ على أنّه تعالى هو الخالق لأعمال العباد قالوا: أعمال العباد أشياء و اللّه خالق كلّ شي ء بحكم الآية. و أجاب الطبرسيّ عنه، و قد ذكرناه قبيل هذا.

و لا بأس بذكر الجواب الآخر: و هو أنّ هذا اللّفظ و إن كان عامّا إلّا أنّه حصل مع هذه الآية وجوه يدلّ على أنّ أعمال العباد خارجة عن هذا العموم؛ لأنّه قال سبحانه: «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ» فلو دخلت أعمال العباد تحت قوله: «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» لصار تقدير الآية: أنا خلقت أعمالكم فافعلوها بأعيانها أنتم مرّة اخرى، و معلوم أنّ ذلك فاسد قطعا.

و أيضا أنّه تعالى إنّما ذكر قوله: «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» في معرض القدرة و الثناء على نفسه فلو دخل تحته أعمال العباد لخرج عن كونه مدحا و ثناء بل ثبت قدحا لأنّه لا يليق بذاته سبحانه أن يتمدّح بخلق الزّنا و اللّواط و السرقة و الكفر.

و الجواب الثالث أنّه قال بعد هذه الآية: «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» و هذا تصريح بكون العبد مستقلّا بالفعل و التّرك، و لا مانع له من الفعل و التّرك؛ و ذلك يدلّ على أنّ فعل العبد غير مخلوق للّه؛ إذ لو كان مخلوقا للّه لما كان العبد مستقلّا به لأنّه إذا أو جده اللّه امتنع من العبد الدّفع و لا يصحّ أن يقال: فعل العبد مخلوق للّه، فقوله: «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» يوجب تخصيص ذلك العموم.

قوله [لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ] أي لا تراه العيون لأنّ الإدراك متى قرن بالبصر لم يفهم منه إلا الرّؤية كما لو قيل: أدركت باذني لم يفهم منه إلا السّماع [وَ هُوَ يُدْرِكُ

ص: 236

الْأَبْصارَ] أي لا يدركه ذووا الأبصار، أي يرى سبحانه و لا يرى كما قال: «وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ» و هذه الأبصار ليست هي الأعين إنّما هي الأبصار الّتي في القلوب أيّ لا يقع عليه الأوهام و لا يدرك كيف هو.

[وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] اللّاطف بعباده بسبوغ الأنعام. عدل عن فاعل إلى فعيل للمبالغة و قيل: معناه لطيف التدبير إلّا أنّه حذف لدلالة الكلام عليه، و قيل: إنّ معنى اللطيف هو الّذي يستقلّ الكثير من نعمه و يستكثر القليل من طاعة عباده، و قيل: اللّطيف من يكافي الوافي و يعفو عن الجاني. و قيل: اللطيف من يعزّ المفتخر به و يغني المفتقر إليه «الْخَبِيرُ» العالم بكلّ شي ء من مصالح عباده.

[سورة الأنعام (6): الآيات 104 الى 105]

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

قوله تعالى:

قرّر سبحانه أمر التبليغ و الرسالة فقال: [قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ و البصائر جمع البصيرة، و كما أنّ البصر اسم للإدراك التّام الكامل الحاصل بالعين الّتي هي في الرّأس فالبصيرة اسم للإدراك التامّ الكامل الحاصل في القلب، فالآيات المتقدّمة و هي في أنفسها ليست بصائر إلا أنّها لقوّتها توجب البصائر لمن عرفها و وقف على حقائقها، فلهذا سمّيت بالبصائر، و المعنى: من أبصر الحقّ و آمن بعد هذه الآيات فلنفسه أبصر و إيّاها نفع، و من عمي عن الحقّ و لم يهتد فعلى نفسه ضرّ بالعمى، قل لهم يا محمّد: إنّ هدايتكم و ضلالتكم نفعها و ضررها عائد إليكم [وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ] و إنّهما أنا منذر و اللّه هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم و يجازيكم عليها.

[وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ لمّا تمّم الكلام في الإلهيّات إلى هذه المواضع شرع في إثبات النبوّات فحكى شبهة المنكرين نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم بقولهم:

يا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ هذا القرآن الّذي جئتنا به كلام تستفيده من مدارسة العلماء و مباحثة الفضلاء ثمّ تنظمه من عند نفسك و تقرؤه علينا و تزعم أنه وحي ينزل عليك من اللّه، و هذا وجه النظم في الآية.

ص: 237

المعنى: [وَ كَذلِكَ أي و كما صرّفنا الآيات قبل نصرّف هذه الآيات.

و التصريف إجراء المعاني الدائرة المتعاقبة في الألفاظ لتجتمع فيه وجوه الفائدة [وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ اللام لام العاقبة و الصيرورة، و التقدير أنّ عاقبة أمرهم عند تصريفنا هذه الآيات أن يقولوا هذا القول الشنيع، و أمّا الأشاعرة فإنّهم لإثبات الجبر فسّروا الآية و أجروا الكلام على ظاهره فقالوا: المعنى في الآية: إنّا ذكرنا هذه الدلائل حالا بعد حال ليقول بعضهم: دارست و درست هذه الآيات من اليهود و غيرهم ليزدادوا كفرا على كفرهم، و هذا المعنى غير صحيح لوقوع القبيح و الظلم منه تعالى، و قال القاضي و الجبّائيّ: إنّ تقدير الآية: لئلّا يقولوا درست نظير قوله: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (1) فإنّ المعنى لئلّا تضلّوا.

[وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي و لنبيّن هذه الآيات لقوم يعقلون لأنّهم المنتفعون بها. و الدرس في اللّغة التذليل بكثرة القراءة، حتّى خفّ من قولهم: درست الثوب إذا أخلقته، فقيل للثّوب الخلق: الدريس؟ لأنّه قد لان.

[سورة الأنعام (6): الآيات 106 الى 107]

اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)

قوله تعالى:

أمر سبحانه باتّباع الوحي فقال: [اتَّبِعْ أيّها الرّسول [ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ و الإيحاء هو إلقاء المعنى إلى النفس على وجه يخفى، و يكون تارة بالملك و هو الحقيقة و تارة بالإلهام و الرّؤيا [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] أي ادعهم إلى هذا القول أو بيان ما أوحي إليك من أنّه لا اللّه إلّا هو [وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قال ابن عبّاس: نسخته آية القتال، أو المعنى: اهجرهم و لا تخالطهم و لا تلاطفهم و لم يرد به الإعراض عن دعائهم إلى اللّه و حكمه ثابت.

[وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا] أي لو شاء اللّه أن يتركوا الشرك قهرا و إجبارا لاضطرّهم إلى ذلك إلّا أنّه لم يضطرّهم إليه بما ينافي أمر التكليف بل أمرهم سبحانه بترك

ص: 238


1- النساء: 175.

الشرك اختيارا ليستحقّوا الثواب و المدح عليه فلم يتركوه فأتوا به من قبل نفوسهم.

و في تفسير أهل البيت: لو شاء اللّه أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتّى كان لا يعصيه أحد لما كان يحتاج إلى جنّة و لا إلى نار و لكنّه أمرهم و نهاهم و أعطاهم ماله تعالى به عليهم الحجّة من الآلة و الاستطاعة ليستحقّوا الثواب و العقاب.

[وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً] راقبا لأعمالهم [وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ و لست يا محمّد بموكّل عليهم و إنّما أنت رسول عليك البلاغ و علينا الحساب قال الحدّاديّ: و إنّما جمع بين «حفيظ و وكيل» لاختلاف معناهما فإنّ الحافظ للشي ء هو الّذي يصونه عمّا يضرّه و الوكيل بالشي ء هو الّذي يجلب الخير إليه.

و اعلم أنّ الجبريّة تمسّكوا بقوله تعالى: «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» على صحّة مذهبهم؛ و قالوا: إنّ المعنى و لو شاء اللّه أن لا يشركوا ما أشركوا و حيث لم يحصل الجزاء علمنا أنّه لم يحصل الشّرط فعلمنا أنّ مشيئة اللّه بعدم إشراكهم غير حاصلة، و أجابت المعتزلة بأنّه ثبت بالدّلائل أنّه تعالى أراد من الكلّ الإيمان و ما شاء من أحد الكفر و الشرك و هذه الآية تقتضي أنّه تعالى ما شاء من الكلّ الإيمان فوجب التّوفيق بين الدّليلين فيحمل مشيئة اللّه لإيمانهم على مشيئته الإيمان الاختياريّ الموجب للثواب و يحمل عدم مشيئته لإيمانهم على الإيمان الحاصل بالقهر و الإلجاء فالمعنى: ما شاء أنّ يحملهم على الإيمان على سبيل القهر و الإلجاء فإنّ ذلك يبطل التكليف و يخرج الإنسان عن استحقاق الثّواب.

[سورة الأنعام (6): آية 108]

وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)

قوله تعالى:

النزول: كان المسلمون يسبّون الأصنام فقال المشركون: يا محمّد لتنتهنّ عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ ربّك، فنهى اللّه تعالى أن يسبّوا الأصنام لما فيه من المفسدة فقال:

[وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المراد الأصنام يدعونها آلهة و يعبدونها [مِنْ دُونِ اللَّهِ أي متجاوزين عبادة اللّه [فَيَسُبُّوا اللَّهَ أي فيقولوا لكم مثل قولكم لهم و

ص: 239

[عَدْواً] منصوب على الحاليّة مصدر أو مفعول له أي لأجل العداوة و التّجاوز [بِغَيْرِ عِلْمٍ غير عالمين باللّه و بما يجب أن يذكر به جهلا لأنّهم لو قدروا اللّه حقّ قدره لما أقدموا على الشّرك.

و في الآية تنبيه على أنّ خصمك لو شافهك بجهل و سفاهة لم يجز لك أنّ تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإنّ ذلك يوجب فتح باب السّفاهة، و ذلك لا يليق بالعقلاء فلو قيل: إنّ الكفّار و المشركين كانوا مقرّين بالإله العالم و كانوا يقولون: إنّما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند اللّه و إذا كان كذلك فكيف يعقل إقدامهم على سبّ اللّه؟.

قال الرازيّ: هاهنا احتمالات: أحدهما أنّه ربّما كان بعضهم قائلا بالدهر و نفي الصّانع فما كان يبالي بهذا النّوع من السّفاهة و ثانيها أنّ الصّحابة متى شتموا الأصنام فهم كانوا يشتمون الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم، فاللّه تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم اللّه كما قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» (1) و كقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ». (2) و ثالثها أنّه ربّما كان في جهّالهم من كان يعتقد أنّ شيطانا يحمله على ادّعاء النبوّة و الرسالة ثمّ إنّه بجهله كان يسمّي ذلك الشيطان بأنّه إله محمّد، فكان يشتم إله محمّد بناء على هذا التأويل.

فلو قيل: إن شتم الأصنام و سبّها من اصول الطاعات فكيف يحقّ من اللّه أن ينهي عنها؟ فالجواب أنّ هذا الشتم و إن كان طاعة إلّا أنّه إذا وقع على وجه يستلزم منه منكر عظيم وجب الاحتراز منه، و الأمر هاهنا كذلك؛ لأنّ هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم اللّه و شتم رسوله و على فتح باب السفاهة و على تنفيرهم عن قبول الدّين و إدخال الغيظ في قلوبهم فلكونه مستلزما لهذه المنكرات وقع النّهي عنه.

و قرء «عدوا» بضمّ العين و تشديد الواو؛ قال الزجّاج: «عَدْواً» منصوب على المصدر أي فيعدوا عدوا.

قال الجبّائيّ: دلّت هذه الآية على أنّه لا يجوز أن يفعل بالكفّار ما يزدادون به بعدا عن الحقّ، إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به و كان لا ينهى عنه، و كان لا يأمر

ص: 240


1- الفتح: 10.
2- الأحزاب: 57.

بالرّفق بهم عند الدّعوة كقوله لموسى و هارون: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» (1) و ذلك يبيّن بطلان مذهب المجبّرة، انتهى.

قوله تعالى: [كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ قيل في معناه أقوال:

أحدها أنّ معناه: كذلك زيّنّا لكلّ امّة عملهم بميل الطباع إليه و لكن قد عرّفناهم الحقّ مع ذلك ليأتوا الحقّ و يجتنبوا الباطل، و ذلك لصحّة التكليف؛ لأنّه لا يقال للعنّين: لا تزن و للأعمى: لا تنظر.

و ثانيها أنّ المراد زيّنّا لكم أعمالكم زيّنّا لكلّ امّة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعوة إلى اللّه و ترك ما لا ينبغي و ترك السبّ للأصنام و نهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفّر الكفّار عن قبول الحقّ، عن الحسن و الجبّائيّ. و يسمّى ما يجب على الإنسان أن يعمله بأنّه عمله كما تقول لغلامك: اعمل عملك أي ما ينبغي لك أن تفعله.

و ثالث الأقوال أنّ المراد زيّنّا عملهم بذكر ثوابه فهو كقوله: «وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ» (2) يريد حبّب بذكر ثوابه و مدح فاعليه، و ما فسّرته الأشاعرة في معنى الآية لإثبات مدّعاهم فهو بمعزل عن القبول و لم يرد سبحانه أنّه زيّن عمل الكافرين لأنّ ذلك يقتضي الدّعوة إليه و اللّه تعالى ما دعا أحدا إلى معصيته و لكنّه نهاهم عنها و ذمّ فاعليها و نسب مثل هذه الزّينة إلى الشيطان فقال: «وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ»* (3) و لا خلاف أنّ المراد بذلك الكفر و المعاصي فثبت أنّ المراد به في الآية تزيين أعمال الطاعة.

[ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ أي مصيرهم [فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من أعمالهم الخير و الشرّ.

[سورة الأنعام (6): الآيات 109 الى 110]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

قوله تعالى:

ص: 241


1- طه: 46.
2- الحجرات: 7.
3- العنكبوت: 37.

النزول: قالت قريش: يا محمّد تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب به الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، و تخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى، و تخبرنا أنّ ثمود كان لهم ناقة فأتنا بآية من الآيات حتّى نصدّقك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّ شي ء تحبّون أن آتيكم به؟ قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا، و ابعث لنا بعض موتانا حتّى نسألهم عمّا تقول أحقّ أم لا، و أرنا الملائكة يشهدون لك، أو ائتنا باللّه و الملائكة قبيلا، فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: فإن فعلت بعض ما تقولون أ تصدّقونني؟ قالوا: نعم و اللّه لئن فعلت لنتّبعنّك أجمعين، و سأل المسلمون رسول اللّه أن ينزّلها عليهم حتّى يؤمنوا فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يدعو أن يجعل الصّفا ذهبا فجاءه جبرئيل، فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا و لكن إن لم يصدّقوا عذّبتهم و إن شئت تركتهم حتّى يتوب تائبهم، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم:

بل يتوب تائبهم، فأنزل اللّه هذه الآية، عن الكلبيّ و محمّد بن كعب القرطبيّ.

المعنى: [وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ قال الواحديّ إنّما سمّي اليمين بالقسم؛ لأنّ اليمين موضوعة لتوكيد الخبر الّذي يخبر به الإنسان إثباتا أو نفيا. و لمّا كان الخبر يدخله الصدق و الكذب احتاج المخبر إلى طريق به يتوسّل إلى ترجيح جانب الصدق على جانب الكذب و ذلك هو الحلف و القسم، و بنوا تلك الصّيغة على «افْعَلْ» و بالحلف يبيّن قسم الصدق الّذي ادّعاه عن قسم نقيضه الّذي هو الكذب؛ و بالجملة بيّن سبحانه حال الكفّار الّذين سألوا الآيات، فقال:

[وَ أَقْسَمُوا] أي حلفوا [بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مجدّين مجتهدين مظهرين الوفاء به [لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ] ممّا سألوها [لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ يا محمّد [إِنَّمَا الْآياتُ أي الأعلام و المعجزات [عِنْدَ اللَّهِ و هو مالكها فلو علم صلاحكم في إنزالها لأنزلها [وَ ما يُشْعِرُكُمْ الخطاب متوجّه إلى المشركين؛ و قيل الخطاب متوجّه إلى المؤمنين لأنّهم ظنّوا أنّهم لو أجيبوا إلى الآيات لآمنوا [أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ أي أيّ شي ء يعلّمكم أنّ الآية الّتي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بل يبقون على ما كانوا عليه من الكفر و العناد.

[وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عطف على «لا يُؤْمِنُونَ» أخبر سبحانه أنّه تعالى يقلّب أفئدة هؤلاء الكفّار [وَ أَبْصارَهُمْ عقوبة لهم و في كيفيّة تقليبهما قولان: أحدهما أنّه يقلّبها في

ص: 242

جهنّم على حرّ الجمر و لهب النار، و الثاني أنّ المعنى: نقلّب أفئدتهم و أبصارهم بالحيرة الّتي تغمّ و تزعج النفس [كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ] أي بما جاء من الآيات أوّل مرّة من المعجزات الّتي صدرت عنه صلى اللّه عليه و آله و سلّم مثل انشقاق القمر و نحوه.

و قيل: معناه: لو أعيدوا إلى الدّنيا ثانية لم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة في الدّنيا و هذا مثل قوله: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» (1) عن ابن عبّاس. و الهاء في «بِهِ» يحتمل أن يكون عائدة إلى القرآن و ما انزل من الآيات و يحتمل أن يكون عائدة إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي نخلّيهم و ما اختاروه من الطغيان و لا نحول بينه و بينهم «يَعْمَهُونَ» متردّدين في الحيرة هائمين.

قال بعض أهل التفسير: إنّ قوله: «وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ» معترضة و حشو بين الجملتين، و المعنى أنّا نحيط علما بذات الصدور و خائنة الأعين؛ نختبر قلوبهم فنجد باطنها بخلاف ظاهرها فلا نحول بينهم و بين اختيارهم و لا نمنعهم من ذلك و نمهلهم فإن أقاموا على الكفر و الطغيان نتركهم في ذلك الطغيان و العمه، و لا نلجئهم و نقهرهم على الإيمان فبسبب إقدامهم على الكفر استحقّوا الحرمان و تقليب أفئدتهم، و إضافة التقليب إلى اللّه بهذا المعنى و السّبب. فبطل ما استدلّوا من هذه الآية في الجبر.

[سورة الأنعام (6): آية 111]

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

قوله تعالى:

بيّن سبحانه حالهم في طغيانهم و عنادهم فقال: [وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ] حتّى يشهدون بنبوّته حتّى يرون الملائكة عيانا [وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى بعد أن أحييناهم حسب ما اقترحوه فيشهدوا لك بالنبوّة فإنّهم طلبوا منه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إحياء اثنين من موتاهم للشهادة أحدهما قصيّ بن كلاب و جذعان بن عمرو و قالوا: لئن أحييتهما فشهدا لك بالنبوّة لشهدنا نحن أيضا [وَ حَشَرْنا] أي جمعنا [عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا] جمع قبيل، و انتصابه على

ص: 243


1- الانعام: 28.

الحاليّة أي لو حشرنا كلّ شي ء نوعا نوعا و فوجا فوجا من سائر المخلوق، قال صاحب التيسير في كتاب التفسير: أي و بعثنا كلّ حيوان من الفيل إلى البعوض أي أقمنا القيامة [ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بأن يجبرهم على الإيمان، عن الحسن و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام، و حاصل المعنى أنّهم لا يؤمنون مختارين إلّا أن يكرهوا.

[وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أنّ اللّه قادر على ذلك أو أنّ المعنى: يجهلون أنّهم لو أوتوا بكلّ آية ما آمنوا طوعا أو يجهلون مواضع المصلحة فيطلبون مالا مصلحة و لا فائدة فيه.

و في الآية دلالة على أنّ اللّه سبحانه لو علم أنّه إذا فعل ما اقترحوه من الآيات آمنوا لفعل ذلك و لكان ذلك واجبا في حكمته لأنّه لو لم يجب ذلك لم يكن لتعليله- بأنّه لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنّه لو فعلها لم يؤمنوا- معنى.

و فيها أيضا دلالة على أنّ إرادته محدثة لأنّ الاستثناء يدلّ على ذلك، إذ لو كانت قديمة لم يجز هذا الاستثناء و لم يصحّ كما أنّه لا يصحّ لو قال: ما كانوا ليؤمنوا إلّا أن يعلم اللّه لحصول هذا الوصف فيما لم يزل، و يجوز أن يكون الضمير في قوله: «أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» راجعا إلى المؤمنين أي إنّهم يجهلون عدم إيمان المقترحين عند مجي ء الآيات لأنّ المؤمنين كانوا يتمنّون مجي ء الآيات طمعا في إيمان الكافرين.

[سورة الأنعام (6): الآيات 112 الى 113]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (112) وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

قوله تعالى:

سلّى في هذه الآية محمّدا صلى اللّه عليه و آله و سلّم و بيّن ما كان عليه حال الأنبياء مع أعدائهم فقال:

[وَ كَذلِكَ أي و كما جعلنا لك شياطين الإنس و الجنّ أعداء كذلك جعلنا لمن تقدّمك من الأنبياء.

و في معنى «جَعَلْنا» هنا وجوه؛ قال الطبرسيّ:

أحدها أنّ المراد: كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين فقد أمرنا من قبلك

ص: 244

بمعاداة أعدائهم من الجنّ و الإنس، و متى ما أمر اللّه رسوله بمعاداة قوم من المشركين فقد جعلهم أعداء له، و هذا المعنى شائع كما يقول الأمير للمبارز من جيشه: جعلت فلانا قرنك في المبارزة و هو يعني بذلك أنّه أمره بمبارزته؛ لأنّه إذا أمره بمبارزته فقد جعل من يبارزه قرنا له.

و ثانيها أنّ معناه: حكمنا بأنّهم أعداء و أخبرنا بذلك لتعاملوهم معاملة الأعداء في الاحتراز عنهم و الاستعداد لدفع شرّهم. و هذا كما يقال: جعل القاضي فلانا عدلا و فلانا فاسقا إذا حكم بعدالة هذا و فسق ذلك.

و ثالثها أنّ المراد خلّينا بينهم و بين اختيارهم العداوة لم نمنعهم عن ذلك كرها و لا جبرا لأنّ ذلك يزيل التكليف.

و رابعها أنّه سبحانه إنّما أضاف ذلك إلى نفسه لأنّه سبحانه لمّا أرسل إليهم الرّسل و أمرهم بدعائهم إلى الإسلام و الإيمان و خلع الأوثان نصبوا عند ذلك العداوة لأنبيائه، و مثله قوله تعالى مخبرا عن نوح: «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» (1).

و المراد من قوله: «شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ» مردة الكفّار من الفريقين أو أنّ المراد من شياطين الإنس الّذين يغوونهم و شياطين الجنّ الّذين هم من ولد إبليس.

قال الكلبيّ في تفسيره عن ابن عبّاس: إنّ إبليس جعل جنده فريقين؛ فبعث فريقا منهم إلى الإنس و فريقا إلى الجنّ فشياطين الجنّ و الإنس أعداء بعضهم الرّسل و المؤمنين، فيلتقي شياطين الإنس و شياطين الجنّ في كلّ حين، فيقول بعضهم لبعض:

أنا أضللت صاحبي بكذا فأنت أضلّ صاحبك بمثلها، فذلك المراد بقوله: [يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ .

و روي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: إنّ الشياطين يلقى بعضهم بعضا فيلقي إليه ما يغوي به الخلق حتّى يتعلّم بعضهم من بعض [زُخْرُفَ الْقَوْلِ أي القول المموّه الّذي يستحسن ظاهره و لا حقيقة له و لا أصل [غُرُوراً] أي يغرّونهم غرورا.

[وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ أخبر سبحانه أنّه لو شاء أن يمنعهم من ذلك جبرا أو يحول

ص: 245


1- نوح: 5.

بينهم و بينه لقدر على ذلك و لكنّه خلّى سبيلهم بينهم و بين أفعالهم إبقاء للتّكليف و امتحانا للمكلّفين، و قيل: المعنى: و لو شاء ربّك ما فعلوه بأن ينزّل عليهم عذابا أو آية فتضلّ أعناقهم لها خاضعين.

[فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ أي دعهم و افترائهم الكذب فإنّي اجازيهم و أعاقبهم، أمر سبحانه بأن يخلّي بينهم و بين ما اختاروه و أن لا يمنعهم منه بالقهر تهديدا لهم، و ذلك كقوله: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» دون أن يكون أمرا واجبا أو ندبا.

[وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ عطف على الغرور و اللّام بمعنى كي أي يوحي بعضهم إلى بعض الغرور و لأن تصغى إليه [أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا] و لام «كي» نائبة عن «أن» في أكثر الموارد و اللامات في الآية قرئت بالسكون و قرئت بالحركة، و الحركة أولى أي لتميل إلى هذا القول المزخرف قلوب الّذين لا يؤمنون، و يجوز أن تكون اللّام لام العاقبة [وَ لِيَرْضَوْهُ أي لتميل أفئدتهم إلى تلك المزخرف و يرضوه لأنفسهم بعد ميل أفئدتهم [وَ لِيَقْتَرِفُوا] و يكتسبوا بموجب ارتضائهم لذلك المزخرف [ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ و مكتسبون من القبائح الّتي لا يليق ذكرها من الكفر و متابعة الضّلالة.

و في الآية إشارة إلى أنّ البلايا للسائرين إلى اللّه، و الأولياء هي المطايا لهم، و أنّ أشدّ البلاء شماتة الأعداء فلمّا كانت رتبة الأنبياء أعلى كانت عداوة الكفّار لهم أوفى و في ذلك لهم ترقّيات.

قال أهل التأويل: إنّ شيطان الإنس النفس الأمّارة بالسوء و هي أقوى من شياطين الجنّ، و إنّما يتسلّط شيطان الجنّ على ابن آدم بفضول النّظر و الكلام و الطعام و بمخالطة الناس و من اختلط فقد استمع إلى الأكاذيب.

[سورة الأنعام (6): آية 114]

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)

قوله تعالى:

أمر سبحانه أن يقول لهؤلاء الكفّار الّذين مضى ذكرهم: [أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً] و أطلب سواه حاكما؟ و الحكم و الحاكم بمعنى واحد إلّا أنّ الحكم أبلغ: لأنّ

ص: 246

معناه من يستحقّ أن يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلّا بالحقّ، و قد يحكم الحاكم بغير حقّ و حاصل المعنى: هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم اللّه رغبة عنه؟ و هل يجوز أن يكون حكم سوى اللّه يساويه في حكمه؟ [وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا] و الحال أنّ القرآن فصّل فيه جميع ما يحتاج إليه أو فصّل فيه بين الحلال و الحرام أو بين الصادق و الكاذب في الدّين و الكفر و الإيمان، و معنى التّفصيل تبيين المعاني بما ينفي التّخليط الوارد في اللّفظ و المعنى و يرفع التّداخل الّذي هو يوجب النقصان في المراد.

[وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني بهم مؤمني أهل التوراة و أهل الإنجيل، و قيل: المراد كبراء الصّحابة و المراد هنا بالكتاب: القرآن عن عطاء الخراسانيّ [يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي القرآن نازل من عند اللّه حالكونه متلبّسا [بِالْحَقِ و الصدق.

[فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ و الشاكّين من أنّهم يعلمون بحقيقة القرآن، فالفاء لترتيب النّهي على نفي علمهم بحال القرآن و حقّيّته و علمهم بأنّه منزل من عند للّه، أو الخطاب للنبيّ و المراد به الأمّة، و قيل: الخطاب لغيره أي أيّها الإنسان و أيّها السامع، و قيل: الخطاب له و المراد زيادة شرح صدره و طمأنينة قلبه كقوله: «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ» (1) عن أبي مسلم.

[سورة الأنعام (6): آية 115]

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

قوله تعالى:

و قرء «كلمات ربّك» و من قرأ على المفرد قال: قد وقع المفرد على الكثرة فلذلك أغنى عن الجمع لأنّ العرب يستعمل الكلمة على الخطبة و القصيدة المشروحة.

شرّح سبحانه صفة الكتاب المنزل فقال: [وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ] أي و كملت على وجه لا يمكن أخذ الزيادة فيه و النقصان كلمة [رَبِّكَ أي القرآن و قيل: المعنى أنّه انزل شيئا بعد شي ء حتّى كملت على ما تقتضيه الحكمة. و قيل: المراد من الكلمة دين اللّه كما في قوله وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا» (2) و قيل المراد: كملت حجّة اللّه على الخلق [صِدْقاً وَ عَدْلًا] ما كان في القرآن؛ فما كان فيه من الأخبار فهو صدق و ما كان فيه من الأحكام فهو عدل.

ص: 247


1- الأعراف: 2.
2- التوبة: 40.

[لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا تبديل له و لا تغيير في ما جاء به من ثواب و عقاب، و ذلك كقوله: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» (1) و الحكم الّذي حصل في الأزل هو التمام، و الزيادة عليه ممتنعة كقوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «جفّ القلم بما كائن إلى يوم القيمة» و كلّ ما حصل في القرآن نوعان: الخبر و التّكليف أمّا الخبر فكلّما أخبر اللّه عن وجود أو عن عدم مثل الخبر عن وجود ذات اللّه و عن حصول صفاته أعني كونه تعالى عالما قادرا سميعا بصيرا، و الاخبار التقديسيّة كقوله «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ» و كقوله «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ» و أقسام أفعال اللّه مثل كيفيّة تدبيره السماوات و الأرض و الملكوت و عالم الأرواح و الأجسام، و يدخل الأحكام مثل الأمر و النهي المتوجّه على العبد ملكا كان أو بشرا جنّيّا كان أو شيطانا.

فكلّ هذه الأمور لا يتطرّق إليه التغيّر و الكذب، فالقرآن صدق من جهة الأخبار، و عدل من جهة الأحكام؛ فقوله: «وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا» ضبط في غاية الحسن في بيان جامعيّة القرآن. و معنى لا مبدّل لكلماته هذا المعنى أي إنّها تامّة لا يقبل التبديل موافقة للحكمة، دالّة على المعجزة، لا تزول بشبهات الجهّال.

[وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «السَّمِيعُ» لكلّ ما يتعلّق به السمع «الْعَلِيمُ» لكلّ ما يمكن أن يعلم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 116 الى 117]

وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)

قوله تعالى:

لمّا تقدّم ذكر الكتاب بيّن سبحانه في هذه الآية أنّ من تبع غير الكتاب ضلّ و أضلّ فقال:

[وَ إِنْ تُطِعْ يا محمّد، خاطبه و المراد غيره أو المراد هو و غيره. و الطاعة امتثال الأمر و موافقة المطيع المطاع فيما يريده منه. و الفرق بين الإطاعة و الإجابة أنّ

ص: 248


1- ق: 28.

الإجابة عامّة في موافقة الإرادة الواقعة موقع (1) و لا يراعى فيها الرتبة بخلاف الإطاعة فإنّ الرّتبة ملحوظة فيها [أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يعني الكفّار و أهل الضلالة، و إنّما ذكر الأكثر لأنّه سبحانه علم أنّ منهم من يؤمن و يدعو إلى الحقّ و لكن هم الأقلّ و الأكثر الضّلال [يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه. و في هذا دلالة على أنّه لا عبرة في دين اللّه و معرفة الحقّ بالقلّة و الكثرة لجواز أن يكون الحقّ مع الأقلّ و إنّما الاعتبار فيه بالحجّة.

[إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ أي ما يتّبع هؤلاء المشركون فيما يعتقدونه و يدعون إليه إلّا الظنّ، و ما هم إلّا يكذبون و لا يقولون عن علم و لكن عن خرص و تخمين، قال ابن عبّاس: و ذلك أنّهم كانوا يدعون النبيّ إلى أكل الميتة، و يقولون: أ تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتله اللّه؟ و من قبيل هذه التخمينات فهذا إضلالهم.

[إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ أي أنّ اللّه أعلم، يعلم من يضلّ عن سبيله، و أعلم بمن هو المهتدي فيجازي كلّا منهم بما يستحقّون، و هذا نظير قوله تعالى:

«لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى (2) و إنّما قال «أَعْلَمُ» لأنّ اللّه يعلم الشي ء من كلّ جهاته، و غيره يعلم الشي ء من بعض جهاته. و أمّا من هو غير عالم أصلا فلا يقال فيمن ليس بعالم أصلا: «أعلم منه» إلّا مجازا أي بموجب زعمهم العلم و ادّعائهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 118 الى 120]

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)

قوله تعالى:

و لمّا قالوا للمسلمين: أ تأكلون ما قتلتم أنتم و لا تأكلون ما قتله اللّه؟ نبّه سبحانه المسلمين بقوله: [فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ و الصيغة و إن كانت صيغة الأمر لكنّ المراد به الإباحة. أي ممّا ذكر اسم اللّه عند ذبحه دون الميتة و ما ذكر عليه اسم الأصنام؛ فإنّها

ص: 249


1- كذا في الأصل.
2- الكهف: 11.

محرّمة. و الذكر هو قوله «بِسْمِ اللَّهِ»* و قيل: هو كلّ اسم يختص اللّه به أو صفة تختصّه كقول:

«باسم الرحمن» أو «باسم القديم» أو «باسم القادر لذاته» و ما يجري مجراه قال الطبرسيّ:

و القول الأوّل مجمع عليه، و الظاهر يقتضي جواز غيره أيضا لقوله: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (1).

[إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ بأن عرفتم اللّه و رسوله و صحّة ما آتاكم الرسول به من عند اللّه فلو قيل: إنّ قوله: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» صيغة الأمر و هي للإباحة، و هذه الإباحة حاصلة في حقّ المؤمن و غير المؤمن و كلمة «إِنْ» في قوله «إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ» تفيد الاشتراط؛ فالجواب أنّ المعنى: اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم اللّه عليه فيكون المعنى تحريم أكل الميتة للمؤمن، و لو أنّ الكافر أيضا حرام عليه لكنّه لمّا لم يجعل الكافر الميتة حراما فقيّد الحكم بالمؤمن.

[وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ المعنى: و أيّ شي ء لكم في أن لا تأكلوا؟ فيكون ما استفهاميّة على قول البصريّين أي ما الّذي يمنعكم أن تأكلوا ممّا ذكر اسم اللّه عند ذبحه؟ و قيل: «ما» نافية يعني ليس لكم أن تأكلوا.

فإن قيل: إنّ المشركين كانوا يبيحون أكل ما ذبح على اسم اللّه و لا ينكرون أكله، و إنّما الاختلاف في أنّهم أيضا كانوا يبيحون أكل الميتة و المسلمون كانوا يحرّمونها و إذا كان كذلك كان ورود الأمر بإباحة ما ذكر اسم اللّه عليه عبثا لأنّه يقتضي إثبات الحكم في المتّفق عليه و ترك الحكم في المختلف فيه؛ فالجواب أنّ معنى الآية أن اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم اللّه فمعنى «أَلَّا تَأْكُلُوا» أن لا تجعلوا أكلكم مقصورا عليه فيقيد تحريم أكل الميتة فقط كما بيّنا قبل هذا المعنى.

[وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ أي و الحال أنّه تعالى قد بيّن لكم [ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ممّا لم يحرّمه و هو قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ» في سورة المائدة. (2) فإن قيل: إنّ سورة المائدة مدنيّة، و نزلت بعد الأنعام و الأنعام مكّيّة فلا يصحّ أن يقال: «وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ» فأجابوا أنّه يحمل على أنّه بيّن على لسان الرّسول ثمّ

ص: 250


1- الإسراء: 110.
2- الآية 5 منها.

بعد ذلك نزل به القرآن، لكنّ العلماء مثل الرازيّ و أشباهه لم يتقنّعوا بهذا الجواب و قالوا: المراد من قوله: «وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ» هذه الآية و هي قوله: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً»، الآية (1).

فإن قلت: إنّ الإيراد أيضا وارد؛ لأنّ صيغة «فَصَّلَ» يقتضي التقدّم و هذه الآية أيضا متأخّرة؛ فأجاب الرازيّ عن هذا الإشكال بحجّة ضعيفة و هي أنّ هذا القدر من التأخّر لا يمنع أن يكون هو المراد.

و الحقّ أنّ هذا الجواب عن هذا الفاضل تكلّف و الأولى ما ذكره الطبرسيّ بأن حمله على التفصيل من لسان الرّسول و الوحي الغير المتلوّ كما أشرنا إليه.

[إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي إلّا ما خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع إذا تركتم الأكل منه فحينئذ يجوز لكم تناوله و إن كان ممّا حرّمه اللّه، و اختلف في مقدار ما يسوغ أكله عند الاضطرار؛ فعندنا الإماميّة لا يجوز إلّا ما يمسك به الرمق و قال قوم:

يجوز أن يشبع المضطرّ منها و أن يحمل منها حتّى يجد ما يأكل.

قال الجبّائيّ: إنّ في هذه الآية دلالة على أنّ ما يكره على أكله من هذه الأجناس يجوز أكله لأنّ المكره يخاف على نفسه مثل المضطرّ، و الاستثناء في الآية متّصل و المستثنى منه ما حرّم و «ما» مصدريّة بمعنى المدّة لكن إن جعلت «ما» موصوله تعيّن أن يكون الاستثناء منقطعا لأنّ ما اضطرّ إليه حلال فلا يدخل تحت ما حرّم عليهم.

[وَ إِنَّ كَثِيراً] من الكفّار [لَيُضِلُّونَ النّاس [بِأَهْوائِهِمْ و بما تهوي أنفسهم من تحليل الميتة و غيرها [بِغَيْرِ عِلْمٍ مقتبس من الشريعة الشريفة مستندا إلى الوحي [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ المتجاوزين الحقّ إلى الباطل و الحلال إلى الحرام.

قال الطبرسيّ: إنّ في هذه الآية و هي «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ» دلالة على وجوب التسمية على الذبيحة، و على أنّ ذبائح الكفّار لا يجوز أكلها لأنّهم لا يسمّون اللّه تعالى عليها و أنّ من سمّى عليها منهم لا يعتقد وجوب ذلك حقيقة لأنّ الّذي يسمّي هو الّذي يؤيّد شرع موسى و عيسى و مخالف لشريعة يجب فيها التسمية فإذا لا يذكر اللّه حقيقة.

ص: 251


1- الانعام: 146.

قوله تعالى: [وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي اتركوا ايّها المؤمنون الإثم الظاهر و الإثم الباطن، من إضافة الصفة إلى الموصوف و المراد من الإثم المعاصي كلّها لأنّها لا تخلو من هذين الوجهين فيدخل فيه ما يعلن و يستسرّ سواء كان من أفعال القلوب أو الجوارح فأفعال الجوارح ظاهرة كالأقوال و الأفعال، و أعمال القلوب باطنة كالعقائد الفاسدة و العزائم الباطلة المورثة للفساد في العالم.

و قيل: المراد من «ظاهِرَ الْإِثْمِ» هو الزناء و من «باطِنَهُ» اتّخاذ الأخدان عن السدّيّ و الضحّاك. و قيل: المراد من «ظاهِرَ الْإِثْمِ» امرأة الأب «وَ باطِنَهُ» الزناء عن سعيد بن جبير. و قيل: إنّ أهل الجاهليّة كانت ترى أنّ الزناء إذا ظهر كان فيه الإثم و إذا استسرّ به صاحبه لم يكن إثما، عن الضحّاك. قال الطبرسيّ: و الأصحّ هو الأوّل؛ لأنّه يعمّ الجميع.

[إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ و يعملون المعاصي الّتي فيها الآثام و يرتكبون القبائح [سَيُجْزَوْنَ و يعاقبون [بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ و يكسبونه و الآية صريحة بأنّ كسب العبد من القبائح فعل أحدثه العبد، و لهذا يعاقب عليها فلو كان بتخليق اللّه و جعله سبحانه في العبد فالعقوبة من البري ء قبيحة فثبت بطلان مذهب الجبر.

[سورة الأنعام (6): آية 121]

وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

قوله تعالى:

أكّد سبحانه ما تقدّم بقوله: [وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ أي إنّ أكل ما لم يسمّ عليه خروج من حكم اللّه و هذا الحكم جار في ذبائح الكفّار أهل الكتاب و غيرهم قال الطبرسيّ: من سمّى منهم و من لم يسمّ لأنّهم لا يعرفون اللّه فلا يصحّ منهم التسمية إن وقعت و إن لم تقع فبطريق أولى كما أشرنا إليه سابقا.

و أمّا ذبيحة المسلم إذا لم يسمّ اللّه عليها فقد اختلف في ذلك؛ فقيل: لا يحل أكلها سواء ترك التسمية عمدا أو نسيانا، عن مالك و داود و الحسن و ابن سيرين و الجبّائيّ.

ص: 252

و قيل: يحلّ أكلها في الحالين و الدليل عليه ما روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

ذكر اللّه مع المسلم؛ سواء قال أو لم يقل، عن الشافعيّ.

و قيل: يحلّ أكلها إذا ترك التسمية ناسيا بعد أن يكون معتقدا بوجوبها، و محرّم أكلها إذا تركها متعمّدا، عن أبي حنيفة و أصحابه. قال الطّبرسيّ و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام.

قال الرّازيّ في المفاتيح: الأولى بالمسلم أن يحترز عنه؛ لأنّ ظاهر هذا النصّ قويّ.

[وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ أي إبليس و جنوده و قيل: يعني بهم علماء الكافرين و رؤساءهم المتمرّدين في كفرهم ليؤمنون و يشيرون إلى الّذين اتّبعوهم من الكفّار يوسوسون إلى المشركين، و الوحي إلقاء المعنى إلى النفس مع الخفية.

[لِيُجادِلُوكُمْ في استحلال الميتة بقولهم: قتيل اللّه أولى بالأكل من قتيلكم! فهذه مجادلتهم. و قال عكرمة: إنّ قوما من علماء مجوس فارس كتبوا إلى مشركي قريش- و كانوا أولياءهم في الجاهليّة-: إنّ محمّدا و أصحابه يزعمون أنّهم يتّبعون أمر اللّه ثمّ يزعمون أنّ ما ذبحوه حلال و ما قتله اللّه حرام، فوقع هذا الكلام في نفوس المشركين فذلك إيحاؤهم إليهم لكن قال ابن عبّاس: المراد في الآية شياطين الجنّ يوحون إلى أوليائهم من الإنس بإلقاء الوسوسة و المناقشات.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أيّها المؤمنون فيما يقولونه من استحلال الميتة و غيره [إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ضرورة أنّ من استحلّ حراما بيّنا فهو كافر بالإجماع لأنّه اختار طاعة غير اللّه و ترك طاعته عمدا و اتّبع دينا غير دين اللّه و آثر به تعالى بل آثره عليه تعالى.

لكن عطاء الخراسانيّ قال في الآية: إنّه مختصّ بذبائح العرب الّتي كانت تذبحها للأوثان و في الحديث: إنّ الشيطان يستقلّ الطعام إلّا بذكر اسم اللّه عليه فاللّعين يشارك الأكل إذا لم يسمّ و من ينسي التسمية في أوّل الطّعام فمتى ما ذكر فيقول:

بسم اللّه أوّله و آخره فإذا قال ذلك فقد تدارك تقصيرة.

ص: 253

في الحديث: كان رجل يأكل فلم يسمّ حتّى لم يبق من طعامه إلّا لقمة فلمّا رفعها إلى فيه قال بسم اللّه أوّله و آخره فضحك النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ قال: ما زال الشيطان يأكل معه فلمّا ذكر اسم اللّه استقاء ما في بطنه.

و هذا الحديث يدلّ على أنّ الشيطان يأكل بمضغ و بلع كما ذهب إليه قوم.

و قال آخرون: أكل الشيطان صحيح لكنّه تشمّم و استرواح و إنّما المضغ و البلع لذوي الجثث، و الشياطين أجسام رقاق. و في أكام المرجان قال: كلّما لم يسمّ عليه من طعام أو شراب أو لباس أو غير ذلك ممّا ينتفع به فللشيطان فيه تصرّف و استعمال إمّا بإتلاف عينه كالطعام و إمّا بقاء عينه. و في الحديث: إنّ الشيطان حسّاس لحّاس فاحذروه على أنفسكم؛ فمن بات و في يده شي ء فأصابه شي ء فلا يلومنّ إلّا نفسه.

و قال بعضهم: إنّما وجبت التسمية عند الذبح؛ لأنّ مرارة النّزع و الذّبح شديدة و ذكر اسم اللّه أحلى من كلّ شي ء فأمرنا بالتسمية عند الذّبح كي تسمع الشاة و المذبوح ذكر اللّه عند الموت فلا تشتدّ مرارة النّزع مع حلاوة ذكر اللّه، كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لقّنوا موتاكم بشهادة أن لا إله إلّا اللّه يسهّل عليكم سكرات الموت (1)، و لمّا كان الإحياء و الإماتة من اللّه لم بجز أن يذبح باسم غيره.

[سورة الأنعام (6): الآيات 122 الى 123]

أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (123)

قوله تعالى:

النزول: قيل: إنّ قوله تعالى «أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً» نزلت في حمزة بن عبد المطّلب و أبي جهل بن هشام المخزوميّ، و ذلك أنّ أبا جهل رمى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم بفرث، فأخبر حمزة بما فعل و هو راجع من الصيد و بيده قوس، و كان يومئذ لم يؤمن فلقي في طريقه أبا جهل فضرب رأسه بالقوس فقال أبو جهل: أما ترى ما جاء به؟ سفّه عقولنا و سبّ آلهتنا فقال حمزة: و أنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون اللّه تعالى، أشهد أن لا إله إلّا

ص: 254


1- و به ورد روايات كثيرة أورد عدة منها في فروع الكافي «ج 1 34- 35» باب تلقين الميت.

اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمّدا عبده و رسوله، فنزلت الآية.

و الهمزة للإنكار و النفي، و الواو لعطف الجملة الاسميّة على مثلها الّذي يدلّ عليه الكلام، و التقدير: أنتم أيّها المؤمنون مثل المشركين و من كان ميتا، فمثّل سبحانه الفريقين.

أي كان كافرا [فَأَحْيَيْناهُ بأن هديناه إلى الإيمان. شبّه الكفر بالموت و الإيمان بالحياة فبيّن أنّ المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميّتا فجعل حيّا بعد ذلك و جعل له نورا يهتدي به، و أنّ الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيّرا على الدّوام.

[وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ و ذلك مثل حال المؤمن، و ليس من كان أمره هكذا [كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها] فسمّى الإيمان و الحكمة و العلم نورا و الكفر و الجهل ظلمة، و قال: «كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ» و لم يقل: كمن هو في الظلمات و ذكره بلفظ المثل إشعارا بأنّه بلغ في الحيرة و الكفر غاية يضرب به المثل فيها.

[كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ شبّه سبحانه حال هؤلاء في التّزيين بحال أولئك فيه كقوله: «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»* و المعنى: زيّن لهؤلاء الكفر فعلموه، مثل ما زيّن لأولئك الإيمان فعملوه. قال الحسن: زيّنه و اللّه لهم الشيطان و أنفسهم. قال الطبرسيّ: و قوله: «زُيِّنَ» لا يقتضي مزيّنا غيرهم لأنّه بمنزلة قوله: «أَنَّى يُصْرَفُونَ» و «أَنَّى يُؤْفَكُونَ»* تقول العرب: أعجب فلان بنفسه و أولع كذا، و مثله كثير.

[وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ] أي مثل ذلك الّذى قصصنا عليك- من قوله زيّن للكافرين عملهم- صيّرنا في كلّ قرية أكابر [مُجْرِمِيها] أو كما صيّرنا في مكّة صناديدها [لِيَمْكُرُوا فِيها] كذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها، و الأكابر جمع الأكبر.

قال الرّازيّ: و الآية على التّقديم و التّأخير، تقديره جعلنا مجرميها أكابر، و لا يجوز أن يكون الأكابر مضافة فإنّه لا يتمّ المعنى. و لأنّك إذا أضفت الأكابر فقد

ص: 255

أضيفت الصفة إلى الموصوف و ذلك لا يجوز عنه البصريين.

قالت الأشاعرة: إنّما جعلهم بهذه الصّفة لأنّه أراد منهم أن يمكروا بالنّاس فهو دليل على أنّ الخير و الشرّ بإرادة اللّه، و ليس الأمر على ما قالوه لثبوت الظلم في حقّه تعالى، تعالى اللّه عن الظلم و عن إرادة القبيح بل اللّام لام العاقبة و لام الصيرورة كما في قوله: «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» (1) و كقول الشاعر: فللموت ما تلد الوالدة.

قال الجبّائيّ: لا شكّ أنّ اللّام في مثل هذه الموارد لام العاقبة. قالت المعتزلة:

لمّا لم يمنعهم عن المكر صار شبيها بما إذا أراد ذلك فجاء الكلام على سبيل التشبيه.

[وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ و الآية صريحة بأنّهم الماكرون و وقع الفعل بإرادتهم و اختيارهم فبطل الجبر، و ما يشعرون لأنّ عقاب ذلك المكر يحلّ بهم و قد مكروا بأنفسهم و لا شكّ أنّ قوله: «وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ» مذكور في معرض التهديد و الزّجر فلو كان ما قبل هذه يدلّ على أنّه أراد منهم أن يمكروا بالناس فكيف يليق بالرّحيم الكريم الحكيم العادل أن يريد منهم المكر و يخلق فيهم المكر ثمّ يهدّدهم عليه و يعاقبهم أشدّ العقاب؟

[سورة الأنعام (6): آية 124]

وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)

. قوله تعالى:

النزول: قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال: و اللّه لو كانت النبوّة حقّا لكنت أولى بها منك يا محمّد؛ لأنّي أكبر سنّا و أكثر مالا. و قيل: نزلت في أبي جهل قال:

زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبىّ يوحى إليه، و اللّه لا نؤمن به و لا نتّبعه أبدا إلّا أنّ يأتينا وحي كما يأتيه، عن مقاتل.

المعنى: حكى سبحانه عن الأكابر الّذين تقدم ذكرهم اقتراحاتهم الباطلة فقال سبحانه: [وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ] أي دلالة معجزة من عند اللّه يدلّ على توحيده و صدق محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم [قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ و لن نصدّق بها [حَتَّى نُؤْتى أي نعطى آية معجزة [مِثْلَ ما أُوتِيَ و اعطي [رُسُلُ اللَّهِ حسدا منهم للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

(أقول: و رأيت في بعض المجامع أنّ ما بين الجلالتين من هذه السورة من المواضع

ص: 256


1- القصص: 5.

الّتي يرجى فيها استجابة الدّعاء فليحافظ عليه انتهى (1)).

ثمّ أخبر سبحانه على وجه الإنكار عليهم بقوله: [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أنّه أعلم منهم و من جميع الخلق بمن يصلح للرسالة و يتعلّق مصالح الخلق ببعثه و من هو قابل بأن يقوم بأعباء الرسالة و من لا يقوم بها فيجعلها عند من يقوم بأدائها و يحتمل ما يلحقه من الأذى و المشقّة على تبليغها؛ فللرسالة موضع مخصوص لا يصلح وضعها إلّا فيه، و العالم بتلك الصّفات ليس إلّا اللّه تعالى.

و النفوس و الأرواح قيل: متساوية في تمام الماهيّة، و حصول النبوّة و الرسالة لبعضها دون البعض تشريف من اللّه و تفضيل لكنّ المحقّقون قالوا: إنّ النفوس البشريّة مختلفة بجواهرها و ماهيّاتها، فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيّات مشرقة بالأنوار الإلهيّة، منوّرة، و بعضها خسيسة كدرة محبّة للجسمانيّات، و النّفس ما لم تكن من القسم الأوّل لم تصلح لقبول الوحي و الرسالة ثمّ إنّ القسم الأوّل يقع الاختلاف فيه بالزّيادة و النقصان و القوّة و الضعف إلى مراتب لا نهاية لها؛ فلا جرم كانت مراتب الرسل مختلفة فمنهم من حصلت له المعجزات القويّة و التّبع القليل، و منهم من حصلت له معجزة واحدة أو اثنتان و حصل له تبع عظيم، و منهم من كان الرّفق غالبا عليه، و منهم من كان التشديد غالبا عليه بحسب مصالح العامّة.

ثمّ بيّن و هدّد سبحانه الماكرين و المنقطعين إلى الكفر الّذين سبق ذكرهم فقال: [سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ] و ينالهم من اللّه ذلّ و هوان و إن كانوا في الدنيا أكابر و هذا الذّل و الهوان معدّ لهم في الآخرة [وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ في الدنيا جزاء على كفرهم و مكرهم فإنّ الجزاء يقابل المعصية تقابل التضادّ؛ فإنّهم لمّا تمرّدوا عن طاعة محمّد استنكافا و طلبا للعزّ و الكرامة فاللّه قابلهم بضدّ مطلوبهم فأوّل ما يوصل إليهم الصّغار و الذلّ في القيامة.

[سورة الأنعام (6): آية 125]

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)

. قوله تعالى:

ص: 257


1- مراده: «اللّه» في: (رسل اللّه، اللّه اعلم).

لما تقدّم ذكر المؤمنين و الكافرين بيّن عقيبه ما يفعل بكلّ من القبيلتين ما يستحقّون من اختيارهم فقال:

[فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ و يثبّته على الهدى [يَشْرَحْ صَدْرَهُ جزاء له على إيمانه و اهتدائه. و قد يطلق لفظ الهدى و المراد به الاستدامة كما في قوله: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» أو المعنى: من يرد اللّه أن يهديه إلى الثواب و الجنّة يشرح صدره للإسلام في الدّنيا بأن يثبّت عزمه عليه و يقوّي دواعيه على التمسّك به و يزيل عن قلبه وساوس الشيطان و ما يعرض في القلوب من الخواطر الفاسدة، و إنّما يفعل ذلك منّا عليه و ثوابا على اهتدائه نظير قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» (1) «وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» (2) و هذا المعنى أيضا قريب من المعنى الأوّل.

و قد وردت الرّواية الصّحيحة أنّه لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عن شرح الصّدر ما هو؟ فقال: نور يقذفه اللّه في قلب المؤمن فيشرح له صدره و ينفسخ قالوا: فهل لذلك إمارة يعرف بها؟ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور، و الاستعداد للموت قبل نزول الموت.

[وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي يخذله بسبب اختياره الكفر و يخلّي بينه و بين ما يريده [يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً] بأن يمنعه ألطاف شرح الصّدر لخروجه عن قبول الإيمان جزاء على سوء اختياره من غير أن يمنعه عن الإيمان أو يريد منه الكفر أو يخلق فيه الكفر كما زعمت الأشاعرة، فإنّهم استدلّوا بظاهر الآية على ثبوت مدّعاهم الفاسد و اعتمادهم في إثبات العلم و الدّاعية، و قالوا: إنّهما يوجبان الفعل و ليس كذلك، نعم الداعي من معدّات الفعل لكن في الدّاعي لم لا يقولون من العبد؟ و داعيتهم ميلهم إلى هذا الأمر الشنيع، و ذلك الميل و اختيار السوء يوجب إتيان الفعل كميل السارق إلى السّرقة لميله إلى المسروق به طمعا في استدراكه، و كيف يكون أن يخلق فيهم داعية الكفر و يريد منهم وقوعه و يأمرهم بضدّه و هو الإيمان؟ فإنّه متى ما خلق فيهم أمرا و شاء و أراد وقوع ذلك الأمر لن يقع غيره البتّة؛ فحينئذ كيف يجوز عقاب فعل

ص: 258


1- محمّد: 19.
2- مريم: 78.

يقع من فاعل لا يتمكّن أن يفعل غير ذلك الفعل فحينئذ إمّا أن يقول: إنّ الكافر غير معاقب البتّة، و إمّا أن يقول: إنّ اللّه قد أمر بما لا يطاق و لا يتمكّن، و هو أقبح أقسام الظلم، تعالى عن ذلك.

و أمّا مسألة العلم فذلك أيضا ليس من موجبات الفعل لأنّ العلم بأنّ القاضي مثلا يضحك و يلاعب امرأته فهل ذلك العلم من موجبات ضحك القاضي؟ فكذلك علمه تعالى؛ فإنّه لمّا سبق علمه المعلوم و علم أنّ المعلوم سيكون كتب: كان، فمثل هذا العلم كيف يكون من موجبات الفعل؟.

قالت المعتزلة: إنّ ما تمسّكت به الأشاعرة في هذه الآية ليس بدليل لهم، و ليس معنى الآية أنّه تعالى أضلّ قوما أو يضلّهم؛ لأنّه ليس فيها من إنّه متى ما أراد أن يهدي إنسانا فعل به كيت و كيت، و إذا أراد إضلاله فعل به كيت و كيت، و ليس في الآية أنّه تعالى يريد ذلك أولا يريده، و الدّليل عليه أنّه تعالى قال: «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» (1) فبيّن أنّه يفعل اللّهو لو أراده؛ و لا خلاف أنّه تعالى لا يريد ذلك و لا يفعله.

ثمّ إنّه تعالى لم يقل: و من يرد أن يضلّه عن الإيمان، بل قال: «وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ» فلم قلتم: إنّ المراد: و من يرد أن يضلّه عن الإيمان؟ و قد بيّن سبحانه في آخر الآية أنّه إنّما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره و أنّه ليس ذلك على سبيل الابتداء؛ فإنّه قال: «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» فثبت بطلان الجبر.

و تفسير الآية و هو الّذي اختاره الجبّائيّ و القاضي عبد الجبّار و أبطال المعتزلة و جمهور الإماميّة أنّ من يرد اللّه أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنّة بسبب حسن قبوله يشرح صدره للإسلام حتّى يثبت عليه و لا يزول عنه؛ ثوابا على قبولهم الطّاعة.

و تفسير هذا الشرح في الصّدر هو أنّه يفعل به ألطافا يدعوه إلى البقاء على

ص: 259


1- الأنبياء: 17.

الإيمان و الثبات عليه، و هذه الألطاف إنّما تقع منه تعالى للمؤمن بعد أن صار مؤمنا كما قال سبحانه: «وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» (1) و كذلك قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» (2).

فأمّا إذا كفر و عاند و أراد اللّه أن يضلّه عن طريق الجنّة فعند ذلك يلقي في صدره الضّيق و الحرج فالعبد بسبب هذه الدرجة من قبول الإيمان وجد انشراح الصدر، و الكافر بسبب هذه الدركة من قبول الكفر و اختيار الكفر على الإيمان وجد هذا الضيق و الحرج و البأس من غير أن يكون سبحانه مانعا له عن الإيمان و سالبا إيّاه عن القدرة على الإيمان، و كيف يجوز ذلك و قد ذمّ اللّه تعالى فرعون و السامريّ على إضلالهما عن دين الهدى؟ فقال تعالى: «وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (3) و قال تعالى: «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» (4) فكيف ينسب إليه تعالى ما ذمّ عليه غيره؟ انتهى.

قوله: [كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ] أي إنّ هذا الكافر إذا دعي إلى الإسلام كأنّه مكلّف بصعود السماء. و قيل: المعنى: كأنّهما ينزع قلبه إلى السماء لشدّة المشقّة عليه من مفارقة مذهبه الباطل بسبب ذلك الضّيق و الحرج.

قال الزجّاج: «الحرج» في اللّغة أضيق الضيق، و قرء «حَرَجاً» بكسر الرّاء؛ فمن قال: «حرج» بفتح الراء معناه: ذو حرج و «الحرج» بكسر الراء نهاية الضيق و بالفتح جمع «حرجة» و هو الموضع الكثير الأشجار الّذي لا تناله الراعية، المشتبك الّذي لا طريق فيه لأحد. شبّه سبحانه قلب الكافر بهذا الموضع الّذي لا ينتفع أحد منه، و لا طريق فيه، كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شي ء من الخير بكفره.

و أمّا قوله: «يَصَّعَّدُ» فقرء «يصّاعد» بالألف و تشديد الصاد بمعنى يتصاعد، و المشهور «يَصَّعَّدُ» بتشديد الصاد و العين بغير ألف. و قرء «يصعد» قرأه ابن كثير فهي من الصعود، و بالجملة ففي كيفيّة هذا التشبيه وجهان:

ص: 260


1- المنافقون: 11.
2- العنكبوت: 69.
3- طه: 51 و 87.
4- طه: 51 و 87.

الأوّل: كما أنّ الإنسان إذا كلّف الصعود إلى السماء ثقل ذلك التكليف عليه كذلك الكافر يثقل عليه الإيمان.

و الوجه الثاني أن يكون التقدير أنّ قلب الكافر ينبوعن الإيمان و يتباعد عنه فشبّه ذلك البعد ببعد من يصعد من الأرض إلى السماء.

[كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ و «الرِّجْسَ» العذاب و قيل: «الرِّجْسَ» مالا خير فيه، عن مجاهد. و وجه التشبيه في قوله: «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ» أنّه يجعل الرجس على هؤلاء كما يجعل ضيق الصدر في قلوب أولئك؛ فإنّ كلّ ذلك على وجه العقوبة و الاستحقاق [عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بسبب عدم إيمانهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 126 الى 127]

وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)

قوله تعالى:

أشار سبحانه إلى ما تقدّم من البيان؛ و هذا طريق ربّك و هو القرآن، عن ابن مسعود، و الإسلام عن ابن عبّاس، و أضافه إلى نفسه، لأنّه تعالى أرشد إليه [مُسْتَقِيماً] لا اعوجاج فيه، و إنّما وصف الصراط الّذي هو أدلّة بالحقّ بالاستقامة مع اختلاف وجود الأدلّة و تعدّدها؟ لأنّها مع كثرتها و اختلافها تؤدّي إلى الحقّ، فكأنّها طريق واحد مع أنّها متعدّدة، لسلامة جميع الأدلّة من التناقض و الفساد، و إنّما سمّاه صراطا لأنّ العلم به يؤدّي إلى التوحيد و السعادة و قيل: الإشارة في الآية بقوله: «وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ» يريد هذا الّذي أنت عليه يا محمّد دين ربّك مستقيما، و تفضيل الآيات معناه ذكرها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر مشروحا [لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ و أصله يتذكّرون، خصّ المتذكّرين لأنّهم المنتفعون بالحجج دون غيرهم.

[لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي للمتذكّرين و الّذين عرفوا الحقّ دار السلامة الدائمة الخالصة من كلّ آفة و بليّة يلقاه أهل النار. و قيل: إنّ السلام هو اللّه، و داره الجنّة [عِنْدَ رَبِّهِمْ و المراد من العنديّة القرب في المكانة لا المكان.

[وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ يعني أنّ اللّه سبحانه يتولّى إيصال المنافع إليهم و دفع المضارّ عنهم و ناصرهم. و قيل: يتولّاهم في الدنيا بالتوفيق و في الآخرة بالجزاء [بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعات فحذف لظهور المعنى، فإنّ من المعلوم أنّ ما لا يكون طاعة من الأعمال

ص: 261

فلا ثواب عليه و معلوم أنّ الإطاعة للعبد كالإكسير الأعظم و بها يبلغ العبد إلى المقام العالي، و المخالفة سمّ نقيع و بها يقع إلى الدرك السافل.

كما حكي عن بعض الصالحين من شيوخ اليمن أنه خرج يوما من زبيد إلى نحو الساحل المعروف بالأهواز و معه تلميذه، فمرّ في طريقه على قصب ذرّة كبّار جبار، فقال الشيخ لتلميذه: خذ معك من هذا القصب ففعل التلميذ و تعجّب في نفسه و قال:

ما مراد الشيخ بهذا؟ و لم يقل الشيخ شيئا حتّى إذا بلغ إلى محلّة للعبيد يقال لهم «السناكم» يأكلون الميتات و يشربون الخمور و لا يعرفون الصلاة و إذا بهم يشربون و يلعبون و يلهون و يغنّون و يضربون بالدفوف فقال الشيخ للتلميذ: ايتني بهذا الشيخ الطويل الّذي يضرب الطبل، فأتاه التلميذ، و قال: أجب هذا الشيخ، فرمى الطبل من رقبته و مشى معه إلى الشيخ، فلمّا وقف بين يديه قال الشيخ للتلميذ: اضرب هذا الرجل فضربه حتّى استوفى منه الحدّ و لم ينكر و ما تأوّه، ثمّ قال له الشيخ: امش قدّ أمنا فمشى حتّى بلغوا البحر فأمره الشيخ أن يغتسل و يغسل ثيابه و علّمه كيفيّة الصلاة و التطهير، و تقدّم الشيخ فصلّى بهما الظهر، و ظهر من حالات الشيخ الأسود الطبّال في ساعة واحدة كيفيّة و معرفة لم يظهر من التلميذ و لا من شيخه هذه السنين المتطاولة؛ فعلى الغافل التسليم لأوامره تعالى و ترك المخالفة يصل إلى مقام العنديّة.

[سورة الأنعام (6): الآيات 128 الى 129]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)

قوله تعالى:

و اذكر يا محمّد لأهل مكّة و غيرهم يوم يحشر اللّه الثقلين جميعا و يجمعهم في الموقف.

و قرء بالنون، و قيل: يريد الكفّار يقول: [يا مَعْشَرَ الْجِنِ أي يا جماعة الجن [قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي أضللتم خلقا كثيرا من الإنس، و سمّيت الجماعة بالمعشر لبلوغها غاية الكثرة فإنّ العشر هو العدد الكامل الكثير الّذي لا عدد بعده إلّا بتركيبه بما فيه من الآحاد فتقول: أحد عشر و هكذا فالعدد كلّما كثر فهو يتركّب من العشر:

ص: 262

فإذا قيل: معشر فالمراد هو الكثرة الكاملة.

[قالَ أَوْلِياؤُهُمْ أي أولياء الشياطين الّذين أطاعوهم [مِنَ الْإِنْسِ فهو حال من «أَوْلِياؤُهُمْ»: [رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع الإنس بالجنّ و الجنّ بالإنس، أمّا انتفاع الإنس بالجنّ فمن حيث إنّ الجنّ كانوا يدلّونهم بالوسوسة على أنواع الشهوات و ما يستلذّون به من إغوائهم، و أمّا انتفاع الجنّ بالإنس فمن حيث لم يضيّعوا سعيهم، و الرئيس المطاع ينتفع بانقياد أتباعه له و حصول مراده.

[وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا] أي أدركنا الوقت الّذي وقّتّ لنا و هو يوم القيامة، قالوه اعترافا بما فعلوا من اتّباع الشيطان و الهوى و تكذيب البعث و إظهارا للنّدامة و استسلاما لربّهم، و لعلّ الاقتصار على حكاية كلام الضالّين للإيذان بأنّ المضلّين قد أفحموا بالمرّة فلم يقدروا على التكلّم أصلا.

[قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ كأنّه قيل: فماذا قال اللّه تعالى حينئذ؟ فقيل: قال: النار منزلكم و محلّ إقامتكم [خالِدِينَ فِيها] قال ابن عبّاس: الخلق أربعة فخلق في الجنّة كلّهم و هم الملائكة، و خلق في النّار كلّهم فهم الشياطين و خلقان في الجنّة و النار و هما الإنس و الجنّ لهم الثواب و عليهم العقاب.

[إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل: في معنى هذا الاستثناء أقوال:

أحدها ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: كان وعيد الكفّار مبهما غير مقطوعا به ثمّ قطع به لقومه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»* (1).

و ثانيها أن الاستثناء إنّما هو من يوم القيامة لأنّ قوله: «وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» هو يوم القيامة فقال: خالدين فيها مذ يوم يبعثون إلّا ما شاء من مقدار حشرهم من قبورهم و مقدار مدّتهم في محاسبتهم، و مكثهم في الموقف و كما ينتقص من الآخر كذلك ينتقص من الأوّل، عن الزجّاج.

و ثالثها أنّ الاستثناء راجع إلى غير الكفّار من عصاة المسلمين الّذين هم في مشيئة اللّه تعالى؛ إن شاء اللّه عذّبهم بذنوبهم بقدر استحقاقهم عدلا و إن شاء عفا عنهم فضلا.

ص: 263


1- النساء: 116.

و رابعها أنّ معناه إلّا ما شاء اللّه ممّن آمن منهم، عن عطاء، و قيل: المراد من الاستثناء أوقات مشيئة اللّه أن ينقلوا من النار إلى الزمهرير، فقد روي أنّهم ينقلون من عذاب النار و يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميّز أوصالهم بعضا من بعض فيعاوون و يطلبون الردّ إلى الجحيم، ففي الاستثناء تهكّم بهم. و في تفسير الجلالين: إلّا ما شاء اللّه من الأوقات الّتى يخرجون فيها لشرب من حميم فإنّه خارجها كما قال اللّه: «ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» (1).

و قيل: يفتح لهم و هم في النار باب إلى الجنّة فيسرعون نحوه حتّى إذا قربوا إليه سدّ عليهم الباب.

و أمّا ما قاله بعض الحكماء من أنّ أهل النار بعد عذاب أحقاب من الزمان و بعد إحراقهم النار خمسين ألف من سنة من سني الآخرة لشرك يوم واحد من أيّام الدّنيا إلى أن ينتهي حساب عمره الّذي عاش في الدّنيا، ثمّ بعد ذلك يعتادون بالعذاب و لم يتألّموا و يؤول أمرهم إلى أن يستلذّوا به حتّى لو صبّ عليهم نسيم الجنّة استكرهوه و تعذّبوا به كالجعل يستطيب الروث؛ فهذا القول بمعرض عن القبول، و تكذيب للقرآن و السنّة، و كفر و إلحاد أجارنا اللّه منه.

[إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ محكم لأفعاله عليم بكلّ شي ء و بمن يستحقّ الثواب و بمن يستحقّ العذاب و بمقدار ما يستحقّه، فكأنّ المعنى: إنّما حكمت لهؤلاء الكفّار بعذاب الأبد لعلمي أنّهم يستحقّون ذلك.

قوله تعالى: [وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي كما خذلنا عصاة الجنّ و الإنس حتّى استمتع بعضهم ببعض بسبب سوء اختيارهم و شركهم جزاء لهم نولّي بعض الظالمين بعضا؛ نخلّي بعضهم مع بعض للامتحان الّذي معه يصحّ الجزاء، و تولينا بأن لا نمنعهم عمّا يفعلون من الظّلم و الأفعال القبيحة بطريق القهر.

قال علي بن عيسى: نجعل بعضهم يتولّى أمر بعض للعقاب الّذي يجري على الاستحقاق. و قيل: معنى الآية أنّا كما وكلّنا أمر هؤلاء الظّالمين من الجنّ و الإنس

ص: 264


1- الصافات: 66.

بعضهم إلى بعض يوم القيامة فكذلك نكل الظالمين بعضهم إلى بعض و نكل الأتباع إلى المتبوعين و نقول للأتباع: قولوا للمتبوعين حتّى يخلصوكم من العذاب.

و لمّا حكى اللّه ما يجري بين الجنّ و الإنس من الخصام و الجدال يوم القيامة فقال في هذه الآية: و كما فعلنا بأولئك من الجمع بينهم في النّار و تولية بعضهم بعضا نفعل أيضا مثله بالظالمين في تولية بعضهم بعضا جزاء على كفرهم و أعمالهم القبيحة.

قال ابن عبّاس: إذا أراد اللّه بقوم خيرا ولّى أمرهم خيارهم و إذا أراد بقوم عذابا و شرّا لاستحقاقهم ولّى أمرهم شرارهم.

و جاء في بعض الكتب الإلهيّة: إنّي أنا اللّه ملك الملوك؛ قلوب الملوك بيدي فمن عصاني جعلتهم عليهم نقمة و من أطاعني جعلتهم عليهم رحمة؛ فلا تشتغلوا بسبّ الملوك و لكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم.

و في روح البيان: و في الحديث: الظّالم عدل اللّه في الأرض ينتقم به ثمّ ينتقم منه. و في المرفوع: يقول اللّه: أنتقم ممّن أبغض بمن أبغض، ثمّ اصيّر كلّا إلى النّار، و في الزّبور: إنّي لأنتقم من المنافق بالمنافق، ثمّ أنتقم من المنافقين جميعا.

فإن قيل: كيف يجوز وصفه بالظلم و ينسب إلى أنّه عدل من اللّه؟ فالجواب أنّ المراد بالعدل هنا ما يقابل بالفضل، فالعدل أن يعامل كلّ أحد بفعله: إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ، هذا على طريق أهل السنّة، و أمّا على طريق المعتزلة فإنّهم يوجبون عقوبة المسي ء و هو عين العدل.

و قيل: معنى قوله: «نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ» نتابع بعضهم بعضا في النار من الموالات الّتي هي المتابعة، أي يدخل بعضهم النّار عقيب بعض، عن قتادة.

[بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسبب ما كسبوا من الظّلم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 130 الى 132]

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ (131) وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

قوله تعالى:

ص: 265

هذه الآية من بقيّة ما يذكره اللّه في توبيخ الكفّار يوم القيامة و بيّن أنّه لا يكون إلى الجحود سبيل فيشهدون على أنفسهم بأنّهم كانوا كافرين.

يقول اللّه يوم القيامة للثقلين الجنّ و الإنس جميعا: [أَ لَمْ يَأْتِكُمْ في الدنيا [رُسُلٌ معيّن من اللّه [مِنْكُمْ و من جنسكم، و ذلك لأنّ الجنس إلى الجنس أميل كما أنّ جبرئيل و نحوه رسل الملائكة من جنسهم، و الاستيناس و الاستفادة في الجنسيّة أظهر.

فإن قيل: قد قام الإجماع على أنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان رسولا إلى الجنّ و الإنس و لم يكن صلى اللّه عليه و آله و سلّم من الجنّ؟ إنّما بعث الرّسول ثمّ كان يرسل هو إلى الجنّ رسولا منهم و يستفيد خواصّهم من الرسل فيكونوا رسل الرّسول إلى قومهم، و سليمان أيضا لم يبعث إلى الجنّ بالرّسالة العامّة بل بالملك و السياسة على بعضهم، و يؤيّد ما قاله ابن عبّاس أنّه ثبت أنّ نفرا من الجن قد استعملوا القرآن و أنذروا به قومهم، كما قال سبحانه:

«وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ» (1) فأولئك الجنّ كانوا رسل الرّسول فكانوا رسلا للّه تعالى، و الدّليل على صحّة هذا القول أنّه تعالى سمّى رسل عيسى رسل نفسه تعالى فقال: «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ» (2) و هما أرسلهما عيسى.

قال الواحديّ: قوله «رُسُلٌ مِنْكُمْ» أراد من أحدكم و هو الإنس، و هو كقوله:

«يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ» (3) أي من أحدهما و هو الملح الّذي ليس بعذب فإنّ اللّؤلؤ يخرج من الملح لا من العذب قوله: [يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي و يقرءونها لكم [وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا] يعني يوم القيامة يخوّفونكم منها و يخبرونكم عنها.

[قالُوا] جوابا عند ذلك التوبيخ الشديد: [شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا] و هو اعتراف منهم بالكفر و استحقاق العذاب و «شَهِدْنا» إنشاء الشهادة مثل بعت و اشتريت، و لفظ الماضي في الإنشاء لا يقتضي تقدّم الشهادة.

ص: 266


1- الأحقاف: 28.
2- يس: 13.
3- الرحمن: 22.

فإن قيل: كيف أقرّوا في هنا و هذه الآية، و جحدوه في قوله: «وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» (1) فالجواب أنّ مواقف القيامة كثيرة، و الأحوال فيها مختلفة فتارة يقرّون من شدّة خوفهم و تارة يجحدون فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه.

[وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا] كأنّه تعالى يبيّن سبب كفرهم بقوله: و غرّتهم الحياة الدّنيا [وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في الآخرة بالكفر أو يشهد جوارحهم بالشّرك و الكفر [أَنَّهُمْ كانُوا] في الدّنيا [كافِرِينَ بالآيات و النّذر، و هذا البيان تحذير للسّامعين من مثل حالهم حتّى لا يصيرون مثلهم.

[ذلِكَ أي إرسال الرّسل [أَنْ اللّام مقدّرة و هي مخفّفة أي لأنّ الشان [لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ أي بسبب ظلم أقدموا عليه حتّى يبعث إليهم رسلا ينبّهونهم و يزجرونهم و لا يؤاخذهم بغته، و هذا إنّما يكون منه تعالى على وجه الاستظهار في الحجّة دون أن يكون ذلك واجبا لأنّ ما فعلوه من الظلم قد استحقّوا به العقاب. و قيل: معناه أنّه تعالى لا يهلكهم بظلم منه على غفلة منهم من غير تنبيه و تذكير، عن الجبّائيّ و الفرّاء. مثل قوله: «وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ» (2) و في هذا دلالة على أنّه منزّه عن خلق الظلم و لو كان الظّلم من خلقه لما صحّ تنزّهه عنه، تعالى اللّه عن الظلم علوّا كبيرا. و ما قالته الأشاعرة: أنّه تعالى يحكم ما يشاء و يفعل ما يريد و لا اعتراض عليه لأحد في شي ء من أفعاله كلام تامّ صحيح لكن لا يصدر منه تعالى غير الحسن و هو منزّه عن القبيح و الظّلم، و إرادته و خلقه قبيح عقلا و نصّا مثل هذه الآية، و كيف يجوز أن ينسب إلى الحكيم الغنيّ القبيح مع أنّه غير مضطرّ إلى القبيح؟ النهاية أنّهم يقولون: لمّا صدر منه تعالى لا يكون قبيحا و هذه سفسطة. فمن موادّ الخلف بين الأشاعرة و المعتزلة هذا الكلام.

[وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا] أي و لكلّ من المكلّفين من الثقلين مؤمنين كانوا أو كافرين مراتب كائنة من أعمالهم صالحة كانت أو سيّئة؛ فلأهل الخير درجات في الجنّة

ص: 267


1- الانعام: 23.
2- هود: 119.

بعضها فوق بعض، و لأهل الشّرك و السيّئات دركات في النّار بعضها أشدّ عذابا من بعض. و فسّر الدرجات بالمراتب لأنّ الدرجات غلب استعمالها في الخير، و الكفّار لا درجة و لا ثواب خير لهم. قال الطبرسيّ: عبّر بالدرجات تغليبا لصفة أهل الجنّة.

[وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيخفى عليه عمل عامل طاعة أو معصية.

[سورة الأنعام (6): الآيات 133 الى 135]

وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

قوله تعالى:

لمّا أمر سبحانه بطاعته عليها بيّن أنّه لم يأمر بها لحاجة لأنّه يتعالى عن النّفع و الضرر فقال: [وَ رَبُّكَ أي خالقك و سيّدك [الْغَنِيُ عن أعمال عباده و لا يحتاج إلى شي ء [ذُو الرَّحْمَةِ] مترحّم عليهم بالتّكليف تكميلا لهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم.

[إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيّها العصاة و يهلككم [وَ يَسْتَخْلِفْ و يجعل [مِنْ بَعْدِكُمْ أحياء من بعد إذهابكم [ما يَشاءُ] أي خلقا آخر أطوع للّه منكم و إيثار «ما» على كلمة «مِنْ» لإظهار الكبرياء و إسقاطهم بسبب المعاصي عن رتبة العقلاء.

[كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي كما خلقكم في الأوّل من قوم تقدّموكم و هم أهل سفينة نوح لكنّه أبقاكم ترحّما عليكم، و هذا خطاب لمن سبق ذكرهم من الجنّ و الإنس و يجوز أن يكون المعنى: و يستخلف جنسا آخر أي كما قدر على إخراج الجنّ من الجنّ و الإنس من الإنس فهو قادر على أن يخرج قوما آخر لا من الجنّ و لا من الإنس، و نبّه سبحانه على أنّ قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس من الخلق و استدلّ على ذلك بقوله: «كَما أَنْشَأَكُمْ».

ثمّ قال: [إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ أي مجي ء الساعة لأنّهم كانوا ينكرون القيامة، أو المراد أنّ جميع ما وعدوا به من الثواب و العقاب و الحساب و الجنّة و النّار و تفاوت أهل الدّركات لآت لا محالة [وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين ذلك و إن ركبتم في الهرب متن كلّ صعب و ذلول.

ص: 268

و في قوله: «وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ» يفيد الحصر بالبرهان فإنّه تعالى غنيّ في ذاته و صفاته و أفعاله و أحكامه من كلّ ما سواه؛ لأنّه لو كان محتاجا لكان مستكملا بذلك الفعل و المستكمل بغيره ناقص بذاته لأنّ كلّ إيجاب أو سلب يفرض فإن كانت ذاته كافية في تحقّقه وجب دوام ذلك الإيجاب أو ذلك السلب بدوام ذاته، و إن لم يكن كافية فحينئذ يتوقّف حصول تلك الحالة و عدمها على وجود سبب منفصل و عدمه، فذاته لا تنفكّ عن ذلك الثبوت و العدم، و هما موقوفان على وجود ذلك السّبب المنفصل فليزم كون ذاته موقوفة على الغير ممكن لذاته؛ فيكون حينئذ الواجب لذاته ممكنا لذاته و هو محال.

فثبت أنّه غنيّ على الإطلاق، فلا غنيّ إلّا هو، لأنّ واجب الوجود لذاته واحد و ما سواه ممكن لذاته، و الممكن لذاته محتاج فثبت الحصر بهذا البرهان.

و أمّا إثبات الحصر في كونه تعالى ذا و الرّحمة فالدّليل عليه أنّه لا شكّ أنّ ما يدخل في الوجود بإيجاده و تكوينه و تخليقه من الراحات و الكرامات و السعادات و غيرها فهو منه، و دلّ الاستقراء على أنّ الخير غالب على الشرّ؛ فإنّ المريض و إن كان كثيرا فالصّحيح أكثر منه، و الجائع و إن كان كثيرا فالشبعان أكثر منه، و الأعمى و إن كان كثيرا إلّا أنّ البصير أكثر منه؛ فالخير أكثر من الشرّ، و مبدأ تلك الخيرات هو اللّه و الواجب لذاته واحد و ما سواه ممكن و الرّحمة داخلة فيما سواه فإيجادها منه، فثبت صحّة الحصر.

فإن قيل: كيف يمكننا إنكار رحمة الوالدين على الوالد و المولى على العبد و كذلك سائر أنواع الرحمة؟ فالجواب أنّ كلّها من اللّه و هؤلاء وسائط جعلها اللّه لنظام العالم لأنّه تعالى ألقى الرّحمة و داعيتها في قلب الوالد و المولى، و بتسخير منه تعالى، ألا ترى أنّ الإنسان قد يكون شديد الغضب قاسي القلب على إنسان، ثمّ بسبب ينقلب رؤوفا عطوفا؟

فانقلابه من الحالة الاولى إلى الثانية بتسبيبه تعالى.

فمقلّب القلوب هو اللّه في جميع الخيرات فانحصرت الرّحمة به تعالى، على أنّه

ص: 269

ذلك الّذي تصوّرت أنّه شرّ مثل المرض و الفقر و الجوع مثلا إذا تأمّلت فهو خير أيضا، إمّا للمبتلى به أو بالنسبة إلى صلاح العامّة، و يعوّض المبتلى به سعادة و كرامة إن كان غير مستحقّ للابتلاء، و إن كان مستحقّا فهو مجازاة و المجازاة أيضا عدل و تفضّل.

و من المعلوم أنّ كلّ من أعطى غيره شيئا أو رحمة الوالدة لولدها إنّما يعطي و يرحم لطلب عوض، و هو إمّا الثناء في الدّنيا أو الثواب في الآخرة أو دفع الرقّة الجنسيّة عن القلب لكنّه تعالى يعطي لا لغرض من هذه الأغراض فثبت أنّ الرّحمة و تقليب القلوب منه بالبرهان قطعا للتسلسل.

[قُلْ يا محمّد لأهل مكّة و من خالف أمرك: [يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ المكانة مصدر بمعنى التمكّن و هو القوّة و الاقتدار، أي اعملوا على قدر تمكّنكم و نهاية استطاعتكم، و اثبتوا على كفركم و عداوتكم، و الأمر للتهديد من قبيل الاستعارة للشرّ المهدّد عليه بالمأمور به الواجب الّذي لا بدّ أن يكون، و يحتمل أن يكون المراد من المكانة الحالة الّتي هم ثابتين عليها، و ذلك مثل قوله: أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.

[إِنِّي عامِلٌ ما كتب عليّ من المصابرة و الثبات على الإسلام و الاستمرار على الأعمال الصّالحة [فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ] «من» استفهاميّة أو موصولة أي أيّنا تكون له العاقبة المحمودة الّتي خلق اللّه تعالى هذه الدار لها؟ [إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الضمير للشأن، لا يسعد و لا ينجو [الظَّالِمُونَ .

«و العاقبة» مصدر كالعافية، و تأنيثه غير حقيقيّ فمن أنّث فكقوله: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ»* (1) و من ذكّر فكقوله: وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ (2) و قال: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» (3) و في آية اخرى: «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ». (4) قوله تعالى:

ص: 270


1- الحجر: 73- 83.
2- هود: 70.
3- يونس: 58.
4- البقرة: 276.

[سورة الأنعام (6): آية 136]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)

ثمّ عاد الكلام إلى حجاج المشركين و بيان اعتقاداتهم الفاسدة، فقال سبحانه، أي جعلوا كفّار مكّة و من تقدّمهم من المشركين، و الجعل هنا بمعنى الحكم [مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ و خلق من الزرع [وَ الْأَنْعامِ أي المواشي من الإبل و البقر و الغنم [نَصِيباً] و حظّا، و في الكلام حذف يدلّ عليه الكلام، و التقدير: و جعلوا الأوثان ممّا خلق من الحرث و الأنعام نصيبا.

[فَقالُوا هذا] النصيب [لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أي بادّعائهم الباطل من غير أن يكون ذلك بأمر اللّه [وَ هذا] النصيب [لِشُرَكائِنا] أي آلهتنا الّتي شاركونا في أموالنا من المتاجر و الزروع و الأنعام؛ و هو من الشركة لا من الشرك.

روي أنّهم كانوا يعيّنون شيئا من الحرث و النتاج للّه و يصرفونه إلى الضيفان و المساكين، و شيئا منها لآلهتهم و ينفقونه على سدنتها و يذبحونه عند الآلهة، ثمّ إن رأوا ما عيّنوا للّه أزكى رجعوا و جعلوا الأزكى لآلهتهم، و إن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لآلهتهم معتذرين بأنّ اللّه غنيّ. و كانوا يزرعون اللّه زرعا و للأوثان فما كان أزكى جعلوه لآلهتهم، و إذا كان زكا الزرع الّذي زرعوه للّه، و لم يزك الزرع الّذي زرعوه للأوثان و فسد جعلوا بعض زرع اللّه للأصنام و إن زكا الزرع الّذي زرعوه للأصنام و لم يزك الزرع الّذي زرعوه للّه لم يجعلوا منه شيئا للّه أصلا.

و قيل: كانوا إذا تخرّق الماء من الّذي للّه في الّذي للأصنام لم يسدّوه، و إذا تخرّق من الّذي للأصنام في الّذي للّه سدّوه، و قالوا: اللّه أغنى، عن ابن عبّاس و قتادة، و هو المرويّ عن أئمّتنا. و قيل: إذا هلك ما جعل للأصنام بدّلوه بما جعل للّه، و إذا هلك ما جعل للّه لم يبدّلوه بما جعل للأصنام.

[ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي ساء الحكم حكمهم من إيثار آلهتهم على اللّه و عملهم بما لم يشرع لهم و في كيفيّة الإساءة بسبب أنّهم رجّحوا جانب الأصنام في الحفظ و الأكثريّة على جانب اللّه، و جعلوا نصيبا للّه و نصيبا لغيره مع أنّه الخالق و المعطي للجميع، و هذا سفه فلو قرز نصب الأصنام، و كان هذا التقرير حسن لحسن إقراز النصب لكلّ حجر

ص: 271

و مدر (؟) و المقصود من بيان الآية أن يعرف الناس قلّة عقول القائلين بهذه المذاهب حتّى لا يلتفت إلى كلامهم أحد.

[سورة الأنعام (6): آية 137]

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (137)

. قوله تعالى:

قوله «وَ كَذلِكَ» عطف على قوله «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ» أي كما فعلوا ذلك زيّن لكثير شركاؤهم قتل الأولاد، و المعنى: ذلك التّزبين و هو تزيين الشرك في قسمة الحرث و الأنعام للتقريب إلى اللّه و إلى آلهتهم زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم أولياؤهم من الشياطين أو من السدنة؛ فقوله «قَتْلَ» مفعول «زَيَّنَ» و «شُرَكاءَهُمْ» فاعله فذكر سبحانه قبائح عادات بعضهم من وأد البنات أحياء خوفا من الفقر أو من التزويج بغير كفو أو من السّبى و المزيّن لهم الحميّة الجاهليّة أو الشّياطين و السّدنة كما ذكرنا.

قيل: إنّ السّبب الاولى في هذه السنّة الملعونة أنّ النعمان بن المنذر أغار على قوم فسبى نساءهم و كانت فيهنّ بنت قيس بن عاصم ثمّ اصطلحوا فأرادت كلّ امرأة منهنّ عشيرتها غير ابنة قيس فاختار سابئها على قيس فحلف قيس أن لا يولد له بنت إلّا و أدها فصار ذلك عادة فيهم [لِيُرْدُوهُمْ أي ليهلكوهم و اللّام لام العاقبة أو الصّيرورة، أي ليهلكوهم بالإغواء.

[وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي يخلطوا عليهم دينهم بإلقاء البدع و الشّبهات فيه [وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ أي لو شاء اللّه أن يمنعهم من ذلك بأن يضطرّهم إلى ترك هذه الأمور لفعل؛ و لكن كان ذلك مناف للتكليف [فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ أي دعهم و افترائهم فإنه يجازيهم، و في الآية دلالة على أنّ تزيين القتل و القتل فعلهم بصريح الآية و أنّ من أضاف ذلك إلى اللّه كاذب؛ فاللّام للتعليل إن كان التزيين من الشّياطين و للعاقبة إن كان من السّدنة إذا لم يكن قصد السدنة الإرداء و اللّبس، و إذا كان قصدهم الإرداء فالتّزيين من الشياطين و من السّدنة كليهما.

[سورة الأنعام (6): آية 138]

وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)

قوله تعالى:

ص: 272

ثمّ حكى سبحانه عن المشركين عقيدة من عقائدهم الفاسدة فقال: [وَ قالُوا هذِهِ إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم [أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ] أي حرام، و فلان في حجر القاضي أي في منع القاضي [لا يَطْعَمُها] و لا يذوقها [إِلَّا مَنْ نَشاءُ] يعنون خدم الأوثان و الرجال دون النساء بزعمهم الباطل، أي قالوه بزعمهم الفاسد من غير حجّة.

[وَ أَنْعامٌ خبر مبتدأ محذوف عطف على قوله «هذِهِ أَنْعامٌ» أي قالوا مشيرين إلى طائفة اخرى من أنعامهم، أي و هذه أنعام [حُرِّمَتْ ظُهُورُها] يعنون بها البحائر و السوائب و الحوامي.

و أنعام أي و هذه أنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها، كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم اللّه عليها و لا في شي ء من شأنها بل كانوا لا يحجّون عليها، و هي الّتي إذا زكوها و ذبحوها أهلّوا عليها بأصنامهم فلا يذكرون اسم اللّه عليها.

[افْتِراءً عَلَيْهِ منصوب بقوله «لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ» و كانوا يقولون: إنّ اللّه أمرهم بذلك و كانوا كاذبين و مفترين على اللّه بهذا القول [سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ بسبب افترائهم.

[سورة الأنعام (6): آية 139]

وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)

. قوله تعالى:

ثمّ ذكر سبحانه عن المشركين مقالة اخرى فقال: [وَ قالُوا] يعني هؤلاء الّذين تقدّم ذكرهم ما في بطون هذه الأنعام يعنون به أجنّة البحائر و السوائب خالصة لذكورنا قيل: المراد ألبانها أيضا و السّبب ما ولد منها حيّا فهو خالص للذّكور دون الإناث، و ما ولد ميّتا أكله الرّجال و النّساء قيل: المراد: كلاهما خالصة لذكورنا لا يشركهم فيها أحد من الإناث و سمّي الذّكور من الذكر الّذي هو الشّرف لأنّ

ص: 273

الذّكر أنبه و أعلى و أذكر منه الأنثى [وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا] أي نسائنا و هذا الحكم منهم إن ولد ذلك حيّا.

[وَ إِنْ يَكُنْ المولود [مَيْتَةً] يعني ولدت و هي ميتة [فَهُمْ فِيهِ يعني ما في البطون من الأنعام شركاء يأكلون منه جميع ذكورهم و إناثهم.

[سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي جزاء وصفهم الكذب على اللّه في أمر التّحليل و التحريم [إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تعليل للوعد بالجزاء فإنّ الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يترك جزاءهم الّذي من مقتضيات الحكمة.

[سورة الأنعام (6): آية 140]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

جواب قسم مقدّر [خَسِرَ] و هم ربيعة و مضر و أضرابهم من العرب الّذين جمعوا بين الأمرين من وأد البنات خوف الفقر و العار، و تحريم ما رزقهم اللّه فخسروا دينهم و دنياهم على طريق السّفاهة و عدم العلم و الافتراء على اللّه بقولهم: أمرنا اللّه بذلك التحريم.

و كلّ هذه الأمور من موجبات الخسران دنيا و دينا لأنّهم يستحقّون الذمّ و العصم في الدّنيا؛ فلأنّ النّاس يقولون: قتل ولده خوفا من أن يأكل طعامه و ليس ذمّ أشدّ منه و أمّا العقاب في الآخرة فلأنّه لا ظلم أشدّ منه و تخريب بنيان اللّه فكان موجبا لأعظم أنواع العقاب.

و لا شكّ أنّ قتل الولد إذا كان موجبه خوف الفقر، و الفقر و إن كان ضررا إلّا أنّ قتل الولد أعظم ضررا منه، و القتل ناجز، و ذلك الفقر محتمل موهوم فالتزام أعظم المضارّ على سبيل القطع حذرا من ضرر قليل موهوم لا شكّ أنّه سفاهة و السّفاهة الخفّة المذمومة النّاشئة من الجهل و الحماقة.

[سورة الأنعام (6): آية 141]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)

قوله تعالى:

ص: 274

لمّا حكى سبحانه عن المشركين أنّهم جعلوا بعض الأشياء للأوثان عقّب ذلك لبيان بأنّه الخالق لجميع الأشياء فلا يجوز إضافة شي ء منها إلى الأوثان من التحليل و التحريم إلّا بإذنه؛ فقال: [وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ] لإقامة الدّلائل على تقرير التّوحيد أي إنّه سبحانه خلق و أبدع لا على مثال [جَنَّاتٍ فيها الأشجار المختلفة.

[مَعْرُوشاتٍ أي مرفوعات بالدعائم و هو ما عرشه الناس من الكروم و نحوها عن ابن عبّاس و السدّيّ: و قيل: عرشها أن تجعل لها حظائر كالحيطان، و أصله الرفع و منه قوله: «خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها»* (1) أي ما ارتفع منها [وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ يعني ما خرج من قبل نفسه من الجبال و البراري، أو المراد من غير «مَعْرُوشاتٍ» ما كانت قائمة على أصولها مستغنية عن التعريش. عن أبي مسلم.

[وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ قال ابن عبّاس: الزرع هاهنا جميع الحبوب الّتي يقتات بها [مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي طعمه و قيل: ثمره، فأنشأ سبحانه هذه الأشياء مختلفة الطّعوم و الألوان و الصورة، فبعضها مختلفا في الصورة و متّفقا في الطعم و بعضها مختلفا في الطعم و متّفقا في الصورة، و كلّ ذلك يدلّ على توحيده و قدرته على ما يشاء.

و قوله «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ» نصب على الحال من أنشأ، و المعنى مقدّرا اختلاف اكله إذ ليس كذلك وقت الإنشاء أي أنشأ كلّ واحد منهما في حال اختلاف ثمره الّذي يؤكل بعد في الطعم و الهيئة و اللّون، و ذلك مثل قولهم: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدّرا الصّيد به غدا.

[وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ أي أنشأهما حالكونهما بعض أفرادهما يتشابه بالبعض و بعضها لا يتشابه مثل الرمّانين لونهما واحد و طعمهما مختلف؛ فأحدهما حلو و الآخر حامض.

[كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ] و الأمر للإباحة، و فائدة التقييد بقوله: «إِذا أَثْمَرَ» إباحة الأكل منه قبل إدراكه و ينعه، قال الجبّائيّ و جماعة: هذا يدلّ على جواز الأكل من الثمر و إن كان فيه حقّ الفقراء.

ص: 275


1- الحج: 44.

[وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ أمر بإيتاء الحقّ يوم الحصاد على الجملة، و الحقّ الّذي يجب إخراجه يوم الحصاد فيه قولان: أحدهما أنّه الزّكاة، عن ابن عبّاس و جماعة مثل محمّد بن الحنفيّة و زيد بن أسلم و الحسن و سعيد بن المسيّب و قتادة و الضحّاك و طاوس، و القول الثاني أنّه ما تيسّر ممّا يعطى المساكين، عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام و عطاء و مجاهد و ابن عمر و سعيد بن جبير و الرّبيع بن أنس.

قال الطبرسيّ: و روى أصحابنا أنّه الضغث بعد الضغث و الحفنة بعد الحفنة، و قال إبراهيم و السّديّ: الآية منسوخة بفرض العشر و نصف العشر؛ لأن هذه الآية مكيّة و فرض الزكاة مدنيّة، و لمّا روي أنّ الزّكاة نسخ كلّ صدقة، قالوا: و لأنّ الزكاة لا يخرج يوم الحصاد، لكن قال عليّ بن عيسى: و هذا غلط لأنّ «يَوْمَ حَصادِهِ» ظرف ل «حَقَّهُ» و ليس بظرف لإيتاء المأمور به.

[وَ لا تُسْرِفُوا] أي في التّصدّق بأن لا تبقوا لأنفسكم و للعيال شيئا كما فعل ثابت بن قيس بن شماس (1) فإنّه صرم خمسين نخلة و تصدّق بالجميع و لم يدخل منه شيئا في داره لأهله.

و قيل: المعنى: و لا تقصّروا بأن تمنعوا الواجب من الحقّ، قالوا: و التقصير أيضا سرف، عن سعيد بن المسيّب.

و ثالث الأقوال أن لا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كي لا يؤدّي إلى بخس حقّ الفقراء، عن أبي مسلم.

و رابع الأقوال أنّه لا تنفقوه في المعصية و لا تضعوه في غير موضعه، و في جميع هذه الأقوال الخطاب لأرباب الأموال.

و خامس الأقوال أنّ الخطاب للأئمّة، و المعنى: لا تأخذوا ما يجف بأرباب الأموال و لا تأخذوا فوق الحقّ، عن ابن زيد.

و سادس الأقوال أنّ الخطاب للجميع بأن لا يسرف ربّ المال في الإعطاء و لا الإمام في الأخذ و صرف ذلك إلى غير مصارفه.

ص: 276


1- خزرجى، خطيب الأنصار؛ خطب مقدم رسول اللّه صم المدينة فقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا و أولادنا. شهد أحد و ما بعدها من المشاهد قتل يوم اليمامة. راجع الإصابة «ج 1: 197» الاستيعاب «ج 1: 195.»

[إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ المعنى ظاهر لأنّه تعالى لا يرضى فعلهم، قال الزهريّ المراد من قوله: «وَ لا تُسْرِفُوا» هو المعنى الرابع الّذي ذكر بأنّه لا تنفقوا في معصية اللّه. قال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة اللّه لم يكن مسرفا و لو أنفق درهما في معصية اللّه كان مسرفا، و هذا المعنى أراده حاتم الطائيّ حين قيل له: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.

[سورة الأنعام (6): الآيات 142 الى 144]

وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

قوله تعالى:

لما ذكر سبحانه كيفيّة إنعامه على عباده بالمنافع النباتيّة أتبعها بذكر إنعامه عليهم بالمنافع الحيوانيّة فقال: [وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً] عطف على قوله: «وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ» أي و أنشأ من الأنعام حمولة و فرشا، الحمولة ما تحمل الأثقال.

الحمولة بفتح الحاء الإبل و لا واحد لها من لفظها كالرّكوبة و الحرورة، و الحمولة بضمّ الحاء هي الأحمال، و المراد من الفرش ما يفرش للذبح أو المراد ما ينسج من صوفه و وبره و شعره للفرش.

و قيل: المراد من الحمولة الكبار الّتي تصلح للحمل و الفرش الصغار كالفصلان و العجاجيل و الغنم لأنّها دانية من الأرض بسبب صغر أجرامها.

ثمّ قال: [كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يريد ما أحلّها لكم، قالت المعتزلة: إنّه تعالى أمر بأكل الرزق و منع من أكل الحرام ينتج أنّ الرزق ليس بحرام، و تخصيص الأكل بالذكر في الآية من غير تعرّض للانتفاع بالحمل و الركوب و غير ذلك لكونه معظم الانتفاع و إشعار بمنع ما حرّموه في السائبة و أخواتها.

[وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تسلكوا الطريق الّذي سوّلها الشيطان لكم

ص: 277

في أمر التحليل و التحريم؛ فإنّه لا يدعوكم إلّا إلى المعصية [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة و قد أبان عداوته لأبيكم آدم عليه السلام.

ثمّ فسّر سبحانه الحمولة و الفرش فقال: [ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي و أنشأ ثمانية أزواج إنشاء و «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» بدل من «حَمُولَةً وَ فَرْشاً» و الزّوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه و معناه ثمانية أفراد لأنّ كلّ واحد من ذلك يسمّى زوجا لأنّه الآخر؛ فالذكر زوج الأنثى و الأنثى زوج الذكر، كما قال سبحانه: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» (1) و قيل: معناه: ثمانية أصناف.

[مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يعنى الذكر و الأنثى. و الضأن ذوات الصوف من الغنم، و واحد الضأن ضائن و الأنثى ضائنة.

[وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ الذكر و الأنثى و المعز ذوات الشعر من الغنم و واحد المعز ما عز. و قيل المراد بالاثنين: الأهليّ و الوحشيّ خصّ هذه الثمانية لأنّها جميع الأنعام الّتي كانوا يحرّمون منها يحرّمونه و يجعلون منها نصيبا لآلهتهم على ما تقدّم شرحه.

[قُلْ يا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم لهؤلاء المشركين الّذين يحرّمون ما أحلّ اللّه: [آلذَّكَرَيْنِ من الضأن و المعز و من دينك النوعين و هما الكبش و التيس [حَرَّمَ اللّه كما تزعمون أنّه هو المحرّم [أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منهما و هما النعجة و العنز؟ [أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أي أم ما حملت إناث النوعين ذكرا كان أو أنثى حرّم؟.

[نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ و أخبروني بأمر معلوم من جهة اللّه؛ من أيّ كتاب و سنّة جعلتم هذه البدعة القبيحة [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التّحريم؟.

[وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ عطف على قوله تعالى: «مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ» أي و أنشأ من الإبل اثنين هما الجمل و الناقة [وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ذكرا و أنثى.

[قُلْ يا محمّد إفحاما لهم أيضا: [آلذَّكَرَيْنِ منهما [حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من ذينك النّوعين؟.

ص: 278


1- الأحزاب: 37.

و حاصل المعنى إنكار أنّ اللّه حرّم عليهم شيئا من الأنواع الأربعة ذكرا و أنثى أو ما يحمل إناثها ردّا عليهم فإنّهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام كالحام فإنّه إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرّموه و لم يمنعوه ماء و لا مرعى، و قالوا: قد حمى ظهره، و كالوصيلة فإنّ الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم و إن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم و إن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها و يحرّمون إناثها تارة، و كالبحيرة و السائبة فإنّه إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا اذنها و خلّوا سبيلها؛ فلا تركب و لا تحلب.

و كان الرّجل منهم يقول: إن شفيت فناقتي سائبة و يجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، و كانوا إذا ولدت النوق البحائر و السوائب فصيلا حيّا حرّموا لحم الفصيل على النساء دون الرّجال و إن ولدت فصيلا ميّتا اشترك الرّجال و النساء في لحم الفصيل و لا يفرّقون بين الذكور و الإناث في حقّ الأولاد، و قد أشرنا إلى هذا البيان سابقا.

[أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ] أي أ كنتم حضورا إذ وصّاكم اللّه بهذا و أمركم به؟ و المراد أنّكم أعلتموه بالسمع و الكتب المنزلة و أنتم لا تقرّون بذلك أم شافهكم اللّه به؟ و إذا لم يكن واحدا من الأمرين سقط المذهب و علم بطلانه.

[فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] أي من أظلم لنفسه ممّن كذب على اللّه أضاف إليه تعالى ما لم يكن في أمره و حكمه. و حاصل الآية أنّ المشركين من أهل الجاهليّة لمّا حرّموا بعض الأنعام من عند أنفسهم فاحتجّ اللّه عليهم على إبطال قولهم بأنّه تعالى إن كان حرّم من هذه الأنعام الذّكر منها وجب أن يكون كلّ ذكورها حراما و إن كان حرّم الأنثى وجب أن يكون كلّ إناثها حراما، و كذلك قوله: «أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ» أي إن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلّها لأنّ الأرحام تشتمل على الذكور و الإناث فلمّا لم يكن كذلك فثبت أنّها بدع اخترعوها من عند أنفسهم.

و قال الرازيّ: الأقرب في تفسير الآية عندي غير ما فسّره المفسّرون، و هو أنّه المراد من الآية أنّكم لا تقرّون بنبوة نبيّ، و لا تعرفون شريعة شارع فكيف تحكمون

ص: 279

بأنّ هذا يحلّ و أنّ ذلك يحرّم، و تثبتون هذه الأحكام المختلفة.

[لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال ابن عبّاس: يريد عمرو بن لحيّ لأنّه هو الّذي غيّر شريعة إسماعيل، قال الرازيّ: و الأقرب أن يكون هذا محمولا على كلّ من فعل ذلك و افترى على اللّه لأنّ اللفظ عامّ و العلّة الموجبة لهذا الحكم عامّة، فالتخصيص تكلّف و تحكّم. و قال المحقّقون: إذا ثبت أنّ من افترى على اللّه الكذب في تحريم مباح استحقّ هذا الوعيد الشديد فمن افترى على اللّه الكذب في مسائل التوحيد و معرفة الصفات و النبوّات و مباحث المعاد كان وعيده أشدّ و أشقّ.

قال القاضي: و دلّ ذلك على أنّ الإضلال عن الدين مذموم لا يليق باللّه لأنّه تعالى إذا ذمّ الإضلال الّذي ليس فيه إلّا تحريم المباح فالّذي هو أعظم منه أولى بالذمّ.

و أجاب الرازيّ عن كلام القاضي أنّه ليس كلّ ما كان مذموما منّا كان مذموما من اللّه؛ ألا ترى أنّ الجمع بين العبيد و الا ماء و تسليط الشهوة عليهم و تمكينهم من أسباب الفجور مذموم منّا و غير مذموم من اللّه؟ فكذا هاهنا.

أقول: و بئس ما قاس الرازيّ؛ ففرّق بين المقيس و المقيس عليه، فما أجابه الرازيّ ما أقربه إلى الشعوذة! لأنّه من المعلوم عند العقول أنّ الضلالة ضدّ الهداية فكذلك الإضلال و هو منكر عند كل ذي لبّ كما أنّ الهداية معروف و حسن عند كلّ عاقل، فكيف ينسب إليه القبيح مع أنّه أولى بالمعروف؟ و القول بأنّه متى ما نسب إليه تعالى خرج الموضوع عن حدّ القباحة سفسطة و شعوذة.

[سورة الأنعام (6): الآيات 145 الى 147]

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)

قوله تعالى:

لمّا بيّن في الآية السابقة فساد طريقة المشركين فيما يحلّ و يحرّم أتبعه بالبيان الصحيح في هذه الآية فقال:

ص: 280

[قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار [لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ أي ما أوحاه اللّه إليّ شيئا [مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي على آكل يأكله [إِلَّا أَنْ يَكُونَ المأكول [مَيْتَةً] و قرء بالتاء أي أن تكون العين أو الجثّة أو النفس ميتة، و قرء ميتة بالرفع على معنى إلّا أن تقع و تحدث ميتة [أَوْ دَماً مَسْفُوحاً] أي مصبوبا و إنّما خصّ المصبوب بالذكر لأنّ ما يختلط باللّحم من الدم لا يمكن تخليصه منه معفوّ عنه مباح [أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي الخنزير قذر، أو الضمير إلى اللحم، و تخصيصه مع أنّ لحمه و شحمه و شعره و عظمه و جميعه نجس و حرام لكونه أهمّ ما فيه، و لأنّه يؤكل فالحلّ و الحرمة أضيف إليه أصالة و إلى غيره تبعا [أَوْ فِسْقاً] عطف على قوله أو لحم خنزير و لذلك نصب [أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذكر وقت ذبحه اسم الأصنام و الأوثان و سمّي ما ذكر عليه اسم الصنم فسقا لخروجه عن أمر اللّه، و أصل الإهلال رفع الصوت بالشي ء.

و إنّما خصّ الأشياء المذكورة بذكر التحريم مع أنّ غيرها محرّم؟ فإنّه سبحانه ذكر في المائدة تحريم المنخنقة و الموقوذة و المتردّية و غيرها لأنّ جميع ذلك تقع عليه اسم الميتة فيكون في حكمها.

و أجود من هذا أن يقال: إنّه سبحانه خصّ هذه الأشياء بالتحريم تعظيما لحرمتها، و بيّن تحريم ما عداها في مواضع اخرى، إمّا بنصّ القرآن و إمّا بوحي غير القرآن، و أيضا أنّ هذه السورة مكّيّة و المائدة مدنيّة و يجوز أن يكون غير ما في الآية من المحرّمات إنّما حرّم فيما بعد، و الميتة في الآية عبارة عمّا كان فيه حياة فقدت من تذكية شرعيّة.

ثمّ إنّه تعالى قال: «أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» فإنّه رجس و معناه: أنّه تعالى حرّم لحم الخنزير لكونه نجسا؛ فهذا يقتضي أنّ النجاسة علّة لتحريم الأكل فوجب أن يكون كلّ نجس أكله حراما فيشمل الحكم في كلّ ما هو نجس مثل الخمر، و قال أيضا:

«وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» (1) و ذلك يقتضي تحريم كلّ الخبائث؛ و النجاسات خبائث.

ص: 281


1- الأعراف: 156.

[فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ] أي فمن أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شي ء في ذلك غير باغ على مضطرّ مثله و لا عاد و متعدّ حدّ الضرورة [فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة و الرحمة لا يؤاخذه بذلك.

قوله [وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا] أي على اليهود خاصّة لا على غيرهم من الأوّلين و الآخرين [حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ] اختلف في معناه؛ فقيل: هو ما يكون ليس بمنفرج الأصابع كالإبل و النعام و الإوز (1) و البطّ، عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير و قتادة و السديّ و مجاهد.

و قيل: هو الإبل، عن ابن زيد.

و قيل: يدخل فيه كلّ ما يصطاد بظفره، عن الجبّائيّ؛ فقال: كلّ ذي مخلب من الطير و كلّ ذي حافر من الدوابّ.

و قيل: ماله إصبع سواء كان ما بين أصابعه منفرجا كأنواع السباع أو لم يكن منفرجا كالإبل و النعام. و كان بعض ذوات الظفر حلالا لهم فلمّا ظلموا عمّ التحريم.

[وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا] متعلّق بقوله حرّمنا [عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما] لا لحومهما فإنّها باقية على الحلّ و الشحوم الثروب (2) و شحوم الكلية [إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما] استثناء من الشحوم، ما حملت ظهورهما من الشحم و هو اللحم السمين من شحم الكتفين إلى الوركين من داخل و خارج فإنّه لم يحرّم عليهم [أَوِ الْحَوايا] أي ما حملته الحوايا من الشحم و الحوايا جمع حاوية و هي ما يحوي في البطون فاجتمع و استدار و تسمّى المباعر و المصارين فإنّ شحومها كانت محلّلة لهم و مستثناة.

[أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ عطف على ما حملت ظهورهما قيل: هو شحم الألية، و اختلاطه بالعظم اتّصاله بالعصعص و هو عجب الذنب و أصله، و يقال: إنّه أوّل ما يخلق و آخر ما يبلى، و بالجملة فهو مستثنى من جملة ما حرّم، و قيل: الألية لم تدخل في الاستثناء عن الجبّائيّ. فكأنّه لم يعتدّ بعظم العصعص و لم يحسبه من العظم، و على هذا فالمراد

ص: 282


1- بكسر ثم فتح الاوزة: طائر مائي.
2- الثروب جمع الثرب و هو الشحم الرقيق الذي على الكرش و الأمعاء.

شحم الجنب فقط دون الألية.

قال الزجّاج: إنّما دخلت «أو» هاهنا على طريق الإباحة مثل قوله تعالى: «وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» (1) و المراد الجمع أي لا تطع الآثم و لا تطع الكفور فكذلك في الآية.

[ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ أي ذلك التحريم بسبب ظلمهم من أكل أموال الناس بالباطل و أخذهم الربا و غيرها من المعاصي، و كانوا كلّما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شي ء ممّا أحلّ اللّه لهم، و قد أنكروا ذلك و ادّعوا أنّها لم تزل محرّمة على الأمم الماضية فردّ اللّه عليهم ذلك.

و قيل: إنّ ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطّير و الشحوم فحرّم اللّه ذلك ببغيهم على فقرائهم، ذكره علىّ بن إبراهيم في تفسيره.

[وَ إِنَّا لَصادِقُونَ في الإخبار عن بغيهم و التحريم و في كلّ شي ء. فصار حاصل الآية أنّ شحوم الغنم و البقر حرّم على اليهود ثمّ استثني عن هذا التحريم ثلاثة أنواع:

الأوّل: ما حملت ظهورهما؛ أي إلّا ما علّق بالظهر من الشحم فإنّي لم احرّمه أو الجنب أيضا من داخل بطونهما على قول قتادة. و الاستثناء الثاني: الشحم الملتصق بالمصارين. و الاستثناء الثالث: كلّ شحم مختلط بالعظم قال ابن جرع: و هو كلّ شحم في القائم و الجنب و الرأس و في العينين و الأذنين؛ فقال: إنّه اختلط بعظم حتّى الألية فهو حلال لهم، و على هذا التقدير فالحشم الّذي حرّمه اللّه عليهم هو الثروب و شحم الكلية.

[فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي إن نسبوا إليك الكذب فيما تقول فقل لهم: إنّ اللّه ذو رحمة واسعة كذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة بل يمهلكم؛ و لا يدفع عذابه إذا جاء وقته عن المكذّبين لك.

[سورة الأنعام (6): الآيات 148 الى 149]

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)

قوله تعالى:

ص: 283


1- الدهر: 24.

لمّا حكى سبحانه عن أهل الجاهليّة في إقدامهم على الحكم في دين اللّه بغير حجّة و لا دليل حكى عنهم عذرهم في كلّ ما يقدمون عليه من الكفر فيقولون: [لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا] و لمنعنا عن الكفر، و حيث لم يمنعنا عنه ثبت أنّه يريد ذلك؛ فكنّا معذورين فيه، و كذلك ما أشرك آباؤنا و لا كنّا نحرّم شيئا من ذلك، أرادوا أنّ ما فعلوه حقّ مرضيّ عند اللّه.

[كَذلِكَ أي كهذا التّكذيب و هو قولهم: إنّا إنّما أشركنا و حرّمنا لكون ذلك مرضيّا عند اللّه و إنّك يا محمّد كاذب فيما قلت من أنّ اللّه منع الشرك و لم يحرّم ما حرّمتموه [كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كذّبوا متقدّميهم الرسل [حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا] الّذي أنزلنا عليهم. و العذاب الّذي ورد بهم بتكذيبهم.

[قُلْ يا محمّد لهم [هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ من أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به على ما زعمتم [فَتُخْرِجُوهُ لَنا] و تظهروه [إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ أي ما تتّبعون فيما أنتم عليه من الشرك و التّحريم إلّا الظنّ الباطل من غير علم و يقين [وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ و تكذبون على اللّه بالتخمين.

[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ] الفاء جواب شرط محذوف أي و إذا قد ظهر أن لا حجّة لكم فللّه الحجّة البالغة و البيّنة الواضحة، و المراد بالحجّة البالغة الكتاب و الرسول و البيان [فَلَوْ شاءَ] هدايتكم جميعا قهرا [لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بالحمل على الهداية إجبارا و لكن لم يشأ بطريق الجبر، و لكن شاء هداية قوم بصرف اختيارهم إلى سلوك طريق الحقّ حتّى يصحّ التكليف، و المشيئة الاولى مشيئة الاختيار، و الثانية مشيئة الإلجاء.

و قيل: المراد أنّه لو شاء لهداكم إلى نيل الثواب و دخول الجنّة ابتداء من غير تكليف، و لكنّه لم يفعل ذلك بل كلّفكم و عرّضكم للثواب، و لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر من أن شاء اللّه منهم الكفر لكانت الحجّة للكافر على اللّه من حيث

ص: 284

فعلوا ما شاء اللّه، و لكانوا بذلك مطيعين له لأنّ الطاعة هي امتثال الأمر المراد، و لا يكون الحجّة للّه تعالى عليهم على قولهم من حيث إنّه خلق الكفر فيهم و أراده منهم فأي حجّة له تعالى عليهم مع ذلك؟

ثمّ بيّن سبحانه تعالى أنّ الطريق الموصل إلى صحّة مذاهبهم منسدّ غير ثابت من حجّة عقليّة و لا سمعيّة و ما هذه صفته فهو فاسد لا محالة؛ فقال: [قُلْ يا محمّد [هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أي هاتوا شهداءكم الّذين يشهدون بصحّة ما تدّعونه من [أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا] و هم قدوتهم الّذين ينصرون قولهم و كبراؤهم المقبولين عندهم و ليس المراد كلّ من يشهد بصحّة دعواهم كائنا من كان، و لذلك قيّد الشهداء بالإضافة إليهم، فيشهدون أنّ ما جعلناه حراما من قول اللّه و كتابه.

[فَإِنْ شَهِدُوا] بعد ما حضروا بأنّ حرّم هذا [فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي فلا تصدّقهم فإنّه كذب محض، و بيّن لهم فساده، و حاصل المعنى: إن لم يجدوا شاهدا يشهد لم على تحريمها غيرهم و شهدوا بأنفسهم فلا تشهد أنت معهم و إنّما نهاه عن الشهادة معهم لأنّ شهادتهم باطلة.

فإن قيل: كيف دعاهم إلى الشهادة ثمّ منع نبيّه فقال: «و لا تشهد معهم»؟

لأنّه تعالى أمرهم أن يأتوا بالعدل و الّذين يشهدون بالحقّ، و ذلك لا يكون؛ فإذا لم يجدوا ذلك و شهد جهّالهم لأنفسهم فلا ينبغي أن تقبل شهادتهم و تشهد معهم لأنّها ترجع إلى دعوى الباطل. و قيل: معنى الآية من قوله: «هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ» أراد سبحانه هاتوا شهداءكم من غيركم و لم يكن أحد غير العرب يشهد على ذلك، لأنّ العرب شرّعوا هذه البدع من عند أنفسهم.

[وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] الخطاب للنبيّ، و المراد الامّة أي لا تتبّع أهواء المكذّبين كعبدة الأوثان، و الموصول الثاني في قوله [وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] عطف على الموصول الأوّل بطريق عطف الصّفة على الصّفة مع اتّحاد الموصوف فإنّ الّذي يكذّب بآياته لا يؤمن بالآخرة و بالعكس [وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يجعلون له عديلا عطف على لا يؤمنون.

ص: 285

فالمعنى: لا تتبّع أهواء الّذين يجمعون بين تكذيب اللّه و بين الإشراك به سبحانه و هم جامعون لهذه الأمور متّصفون بكلّها و اعلم أنّ اللّه تعالى أحل الطيّبات لعلمه بصلاحها و حرّم الخبائث كالخمر و الميتة و الدم و الخنزير لعلمه تعالى بفسادها، و ما حرّمه اللّه إمّا أن يكون بلاء و نقمة بلاء و نقمة كما فعل سبحانه باليهود جزاء على معصيتهم، و إمّا أن يكون التحريم رحمة و منّة مثل أنّ فيه ضررا نفسانيّا كضرر السمّ و أمثاله أو ضررا روحانيّا كضرر لحوم السباع و المؤذيات و أمثالها؛ فإنّه يتعدّى أخلاقها بإحداث الأخلاق الفاسدة كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الرّضاع يغيّر الطباع. (1) قيل: لمّا دخل الشيخ أبو محمّد الجوينيّ بيته و وجد ابنه أبا المعالي يرتضع ثدي غير أمّة اختطفه منها ثمّ نكس رأسه و مسح بطنه و أدخل إصبعه في فيه و لم يزل يفعل ذلك حتّى قاء و خرج اللّبن من بطنه قائلا: يسهل عليّ موته و لا يفسد طبعه لشرب لبن غير امّه ثمّ إنّ أبا المعالي لمّا كبر كان له كبوة بعض الأوقات في المناظرة يقول الشيخ: هذه من بقايا تلك الرضعة و في الحديث: عليكم بألبان البقر و سمنانها و إيّاكم و لحومها فإنّ ألبانها و سمنانها دواء و شفاء و لحومها داء انتهى.

[سورة الأنعام (6): آية 151]

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

قوله تعالى:

[قُلْ يا محمّد لكفّار مكّة: [تَعالَوْا] أمر من تعالى، و الأصل فيه أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو في مكان أسفل منه ثمّ اتسع فيه بالتعميم يتكلّم به كلّ من طلب أن يتقدّم و يقبل إليه سواء كان الطالب في علو أو سفل أو غيرهما.

[أَتْلُ جواب الأمر أي أقرؤ [ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أي أقرؤ الآيات المشتملة بالتحريم «عَلَيْكُمْ» متعلّق بحرّم [أَلَّا تُشْرِكُوا] «أن» مفسّرة و «لا» ناهية [بِهِ تعالى [شَيْئاً] من الأشياء. بدأ سبحانه بالتوحيد و نهى الشرك، و قدّم الشرك لأنّه رأس المحرّمات، و لا يقبل اللّه معه شيئا من الطّاعات.

ص: 286


1- راجع فيه فروع الكافي «ج 1: 3 و 93.»

[وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً] أي و أحسنوا بالوالدين إحسانا، و أوصينا بهما إحسانا و قد جعل اللّه بحكمه الشرعيّ نعم الوالدين تالية نعمه؛ فأمر تعالى بالإحسان إليهما بعد الأمر بعبادته.

[وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ أي لا تدفنوا بناتكم حيّة [مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر، و و الإملاق نفاذ الزاد و النفقة، من الملق و هو بذل المجهود في طلب المراد [نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ لا أنتم، فلا نخافوا الفقر بناء لعجزكم عن تحصيل الرزق، و هذا هو الحكم الثالث من الأحكام التسعة.

و إنّما حرّم اللّه قتل الأولاد للظلم، و لما فيه من هدم بنيان اللّه، و ملعون من هدم بنيانه، و فيه إبطال ثمرة شجرته و قطع نسله و ترك التوكّل في أمر الرزق يؤدّي إلى تكذيب اللّه لأنّه قال: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» (1).

[وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ أي الزنا و جي ء بصيغة الجمع قصدا إلى النهي عن أنواعها و لذلك أبدل منها بدل اشتمال قوله: [ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أرذالهم، و ما يفعل سرّا باتّخاذ الأخذان كما هو عادة أشرافهم و هذا هو الحكم الرابع منها.

و توجيه النهي إلى قربها للمبالغة في النهي عنها و يدخل في الفواحش ما يبعّده من الجنّة و يدنيه من النار، و أيضا ما ظهر منها بالفعل و ما بطن بالقصد. و من الزنا زنا النظر، النهاية زنا العين.

[وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج منها الحربيّ [إِلَّا بِالْحَقِ استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلّا بالحقّ الّذي أمر الشرع، أو رخّص بقتلها و ذلك بالكفر بعد الإيمان و الزنا بعد الإحصان، و قتل النفس المعصومة و غيرها ممّا فيه الرخصة و هذا هو الحكم الخامس و في القتل بغير الحقّ ترك تعظيم أمر اللّه و ترك الشفقة على الخلق و هما من نواميس الدين.

ص: 287


1- هود: 7.

[ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الأحكام الخمسة [وَصَّاكُمْ بِهِ و أمركم ربّكم بحفظه أمرا مؤكّدا [لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تستعملون عقولكم فيما أمركم اللّه و تحبسون نفوسكم عن مباشرة القبائح المذكورة.

[سورة الأنعام (6): الآيات 152 الى 153]

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

قوله تعالى:

ثمّ ذكر بقيّة ما يتلو عليهم فقال: [وَ لا تَقْرَبُوا] أي و لا تتعرّضوا لمال اليتيم و اليتيم من الإنسان من لا أب له و من الحيوان مالا أمّ له، و إنّما خصّ مال اليتيم بالذكر لأنّه لا يستطيع الدفاع عن نفسه و لا عن ماله فيكون الطمع في ماله أشدّ و يد الرّغبة إليه أمدّ، فأكّد سبحانه النّهي عن التّصرف في ماله و الخطاب للأولياء و الأوصياء أشمل.

[إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلّا بالخصلة الحسنة كحفظه و تثميره [حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنّهي، كأنّه قيل: احفظوه حتّى يصير بالغا رشيدا؛ فحينئذ سلّموه إليه.

و الأشدّ واحدها «شد» مثل الأشرّ في جمع شرّ و الأضرّ في جمع ضرّ و الشدّ القوّة و هو استحكام قوّة الشباب و قيل: هو جمع شدّة مثل نعمة و أنعم، و قال بعض البصريّين:

الأشدّ واحد جاء على بناء الجمع، قال الجوهريّ: أشدّه أي قوّته و هذا هو الحكم السادس.

[وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ أتّموه و لا تنقصوه في المكيلات و في الموزونات [بِالْقِسْطِ] و هو العدل فإن قيل: إيفاء الكيل و الميزان هو عين القسط فما فائدة التّكرار؟

لأنّ اللّه أمر المعطي بإيفاء الكيل و الميزان لذي الحقّ و أمر صاحب الحقّ بأخذ حقّه من غير طلب زيادة.

ص: 288

و لمّا كان يجوز أن يتوهّم الإنسان أنّه يجب هذا الأمر على الحقيقة بحيث لا مختلف ذرّة واحدة في المكيل و الموزون و ذلك صعب شديد بحيث لا يقدر الإنسان من إتيانه أتبعه سبحانه بما يزيل هذا التشديد فقال: [لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها] أي الإيجاب بهذا الأمر القدر الممكن في إيفاء الكيل و الوزن.

قال القاضي: إذا كان اللّه قد حفّف على المكلّف هذا التخفيف مع أنّ هذا التضييق مقدور له مع العسر فكيف يتوهّم أنّه سبحانه يكلّف الكافر الإيمان؟ مع أنّه لا قدرة له عليه بل قالوا: يخلق الكفر فيه و يريد منه و يحكم به عليه و يخلق القدرة الموجبة لذلك الكفر و الدّاعية الموجبة له ثمّ ينهاه عنه؛ فهو تعالى لمّا لم يجوّز ذلك القدر من التشديد و التضييق في إيفاء الكيل و الوزن فكيف يجوز أن يضيّق على العبد مثل هذا التضييق و التشديد؟.

و عارضه الرازيّ و شيوخ الأشاعرة بمسألة الداعي و العلم، و هذه المعاوضة و الجواب منهم أوهن من نسج العنكبوت، كما شرّح في مواضع عديدة في الكتاب و لا حاجة إلى الإعادة.

أقول: هذه المندوحة و القدر اليسير من التفاوت لا يوجب عدم الاجتهاد و السعي في إيفاء الكيل و الوزن و المراعاة فيهما واجبة؛ لكنّ التقصير القصديّ فليس بمعفوّ قطعا، و ينبغي الاحتياط بقدر الإمكان.

[وَ إِذا قُلْتُمْ قولا في شهادة أو حكم أو نحوهما [فَاعْدِلُوا] فيه [وَ لَوْ كانَ المقول له أو عليه [ذا قُرْبى أي قرابتكم؛ لأنّ مدار الأمر العدل و طلب رضى اللّه؛ فلا فرق بين ذي قرابة و أو أجنبيّ و هذا هو الحكم الثامن.

[وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا] أي ما عهد إليكم من تأدية أو امره تعالى، و يدخل فيه ما عاهدتم اللّه عليه من الإيمان و النّذور، و يحتمل أن يراد به العهد بين الإنسانين؛ فيكون إضافته إلى اللّه من حيث إنّه أمر بحفظه و الوفاء و هذا هو الحكم التّاسع.

[ذلِكُمْ الإشارة إلى ما فصّل من التكاليف [وَصَّاكُمْ بِهِ أمركم بامتثاله [لَعَلَّكُمْ

ص: 289

تَذَكَّرُونَ تتذكّرون أي لكي تأخذوا به و لا تفعلوا عنه فتتركوا العمل به و القيامة بما يلزمكم منه.

[وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً] بتقدير اللّام علّة للفعل المؤخّر أي و لأنّ ما ذكر في هذه السّورة من آيات التوحيد و النبوّة و بيان الأحكام المذكورة مسلكي و صراطي، لأنّه يؤدّي إلى رضاي و الجنّة «مُسْتَقِيماً» حال مؤكّدة أي مستويا قويما غير معوج [فَاتَّبِعُوهُ .

[وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ أي الطرق المختلفة عدا هذا الطريق مثل اليهوديّة و النصرانيّة و الملل الباطلة [فَتَفَرَّقَ بِكُمْ منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النّهي، أصله «فَتَفَرَّقَ» و الباء للتّعدية أي فتفرّقكم و تزيلكم [عَنْ سَبِيلِهِ عن دين اللّه الّذي ارتضاه لكم و به أوصى و هو الإسلام، و هذا هو التأكيد في الأحكام التسعة، و هو المتابعة للقرآن.

[ذلِكُمْ أى اتّباع سبيل القرآن و ترك اتّباع سائر السبل [وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ سبيل الكفر و الشرك. و لمّا تلا رسول اللّه هذه الآية خطّ خطّا؛ فقال: هذا سبيل اللّه، ثمّ خطّ خطوطا عن يمينه و شماله و قال: هذه سبل على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه فشرع النّبي المصطفى هو الصّراط المستقيم، و هو أحدّ من السيف و أدقّ من الشعر كما أنّ صراط الآخرة كذلك. و لذا لا تزال في كلّ ركعة من الصلاة تقول اهدنا الصراط المستقيم. و من زلّ عن هذا الصراط في الدنيا زلّ عن صراط الآخرة أيضا قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الزالّون عن الصراط كثير و أكثر من يزلّ عنه النساء.

أقول: و أكثر الرجال في هذا الزمان في حكم النساء لاتّباع الشهوات و الأخذ بالعادات، و الدّين بدأ غريبا و عاد غريبا فلا يوجد من يستأنس به و يستأهل له إلّا نادرا قال ابن عبّاس في هذه الآيات: إنّها محكمات لم ينسخهنّ شي ء، و هي محرّمات قديما و حديثا على بني آدم كلّهم و هنّ امّ الكتاب، من عمل بهنّ دخل الجنّة و من تركهنّ دخل النار. و قال كعب الأخبار: و الّذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأوّل شي ء في التوراة، و أوّلها: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ»، الآيات.

ص: 290

[سورة الأنعام (6): الآيات 154 الى 155]

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)

قوله تعالى:

عطف على مقدّر أي فعلنا تلك التوصية باتّباع صراط اللّه قديما [ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ و ذكرت ثلمة ثمّ لتأخّر الخبر عن الخبر لا لتأخير الواقعة مثل قولك: بلغني ما صنعت اليوم ثمّ ما صنعت أمس أعجب.

[تَماماً] مصدر من أتمّ بحذف الزوائد أي إتماما للكرامة و النعمة [عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي على من أحسن القيام بالكتاب كائنا من كان من الأنبياء و المؤمنين.

[وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ] أي بيانا مفصّلا لكلّ ما يحتاج إليه في الدين، و يؤيّد هذا المعنى قراءة عبد اللّه بن مسعود: هي على الّذين أحسنوا.

و قيل: المعنى المراد إتماما للنّعمة و الكرامة على العبد الّذي أحسن الطاعة بالتبليغ و في كلّ ما امر به.

و القول الثالث: تماما على الّذي هو أحسن دينا و أرضاه.

و قيل: المراد: آتينا موسى الكتاب تماما على أحسن ما يكون حيث ذكر فيه نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ هُدىً من الضلالة [وَ رَحْمَةً] و نجاة من العذاب لمن آمن به و عمل بما فيه [لَعَلَّهُمْ أي بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى [بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ الباء متعلّقة بيؤمنون أي كي يؤمنوا بالبعث و الثّواب و العقاب.

[وَ هذا كِتابٌ الإشارة إلى القرآن [أَنْزَلْناهُ دفع لإنكار المنكرين حيث قالوا:

ليس من عند اللّه و إنّما هو من عند نفسه صلى اللّه عليه و آله و سلّم [مُبارَكٌ كثير النفع ثابت دنيا و دينا و مبارك عليك و على امّتك حيث جعله اللّه جعلا بينهم و بينه تعالى ليوصلهم إلى مقام السعادة [فَاتَّبِعُوهُ و اعملوا بما فيه [وَ اتَّقُوا] مخالفته لكي [تُرْحَمُونَ بواسطة العمل الصحيح بموجباته.

[سورة الأنعام (6): الآيات 156 الى 157]

أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)

قوله تعالى:

ص: 291

ثمّ بيّن سبحانه أنّه إنّما أنزل قطعا للمعذرة و إزاحة للعلّة فقال: [أَنْ تَقُولُوا] و سوق الكلام ينبؤ عن حذف المضاف أي كراهة أن تقولوا، و حذف المضاف يطّرد جوازه مع غير «أَنْ» فلأن يجوز مع أن أجدر، كراهة أن تقولوا: يا أهل مكّة، أو لئلا تقولوا:

[إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا] و هما اليهود و النصارى، و خصّهما بالذكر لشهرتهما و ظهور أمرهما أكثر من غيرهما فأنزلنا عليكم القرآن لنقطع حجّتكم [وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ من بقيّة قول المشركين «أَنْ» مخفّفة أي و إنّه كنّا عن دراستهم و قراءتهم، و لم يقل: عن دراستهما لأنّ كلّ طائفة جماعة [لَغافِلِينَ أي تقولون: لا ندري ما في كتابهم إذا لم يكن على لغتنا فلم نفهم و لم نقدر على قراءته.

[أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما انزل عليهم [لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ إلى الحقّ الّذي هو المقصد الأقصى من جلائل الأحكام و الشرائع و دقائقها لثقابة أفهامنا و حدّة أوهامنا لأنّا تلفّقنا فنونا من العلم كالقصص و الأشعار و الخطب مع أنّا امّيّون.

[فَقَدْ جاءَكُمْ متعلّق بمحذوف معلّل به أي لا تعتذروا بذلك القول فقد جاءكم [بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ و حجّة واضحة بلسانكم [وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ] عبّر عن القرآن بالبيّنة إيذانا بكمال تمكّنهم من قراءته لأنّه على لغتهم و هو هداية و رحمة [فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم [مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ أي القرآن [وَ صَدَفَ عَنْها] أي صرف الناس عنها فجمع بين الضلال و الإضلال.

[سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ الناس [عَنْ آياتِنا] وعيد لهم ببيان جزاء إضلالهم بحيث يفهم منه جزاء ضلالهم أيضا [سُوءَ الْعَذابِ أي شدّته [بِما كانُوا يَصْدِفُونَ بسبب

ص: 292

ما كانوا يفعلون الصدف و يمنعون الناس عن الإيمان به و العمل بموجباته، و يصدفون الناس عمّن اوتي به و هو محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال الطبرسيّ: و في الآية دلالة على أنّ إنزال القرآن لطف للمكلّفين و أنّه لو لم ينزله لكان لهم الحجّة. و إذا كان في منع اللّطف عذر و حجّة للمكلّف فمنع القدرة و خلق الكفر فيهم أولى بذلك؛ فعلى العاقل أن يعمل بالقرآن و يرغّب غيره به بقدر الإمكان لأنّه مكلّف به و يكون شريكه في الثواب الفائض من اللّه الوهّاب.

و في الحديث: انزل القرآن على سبعة أحرف أي سبع لغات: و هي لغات العرب المشهورين بالفصاحة من قريش و هذيل و هوازن و اليمن و طي ء و ثقيف و الفصحاء من مطلق طوائفهم، أو المراد من قوله «على سبعة أحرف» سبع قراءات و هي الّتي استفاضت عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و ضبطتها الامّة، و أضيف كلّ حرف منها إلى من كان أكثر قراءة به من الصحابة، ثمّ أضيف كلّ قراءة منها إلى من اختارها من القرّاء السبعة: و هم نافع و ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائيّ.

حكي من بعض الأخيار من أهل التلاوة للقرآن: أنّه لمّا حضرته الوفاة كان كلّما قالوا له: قل لا إله إلّا اللّه قال: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إلى قوله-: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فلم يزل يعيدها كلّما أعادوا عليه حتّى مات على هذه الآية الكريمة؛ فظهر أنّ الموت على ما عاش عليه الشخص و كان حرفة رجل يبيع الحشيش و هو غافل عن اللّه فلمّا حضرته الوفاة كان كلّما قيل له:

قل: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»* قال: حزمة بفلس.

[سورة الأنعام (6): آية 158]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

قوله تعالى:

قرأ حمزة و الكسائيّ «يأتيهم» بالياء و الباقون بالتاء.

و لمّا بيّن سبحانه أنّه إنّما أنزل القرآن إزاحة للعلّة و أنّهم لا يؤمنون؛ فقال:

[هَلْ يَنْظُرُونَ و معني «يَنْظُرُونَ» ينتظرون و هل استفهام معناه النفي؛ فالمعنى أنّهم

ص: 293

لا يؤمنون بك و بكتابك إلّا إذا جاءهم أحد امور ثلاثة: و هي مجي ء الملائكة أو مجي ء الربّ أو مجي ء الآيات القاهرة الّتي تضطرّهم إلى الإيمان، و المراد من مجي ء الملائكة قيل: لقبض أرواحهم يعني ملائكة الموت، عن مجاهد و السدّيّ و قتادة. و قيل: لإنزال العذاب و الخسف بهم. و قيل: لعذاب القبر.

[أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ فيه أقوال:

أحدها: أو يأتي أمر ربّك بانتقام فحذف المضاف، و مثله «و جاء ربّك» و جاز هذا الخذف كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ» (1) أي يؤذون أولياء اللّه، لكن قال ابن عبّاس:

معناه: يأتي أمر ربّك فيهم بالقتل.

و ثانيها: أو يأتي ربّك بجلائل آياته؛ فيكون حذف الجارّ و المجرور لدلالة الكلام عليه، و هو قيام الدليل في العقل على أنّ اللّه لا يجوز عليه الانتقال، و لا يختلف عليه الحال.

و ثالثها أنّ المعنى أو ياتي إهلاك ربّك إيّاهم بعذاب عاجل أو آجل أو بالقيامة [أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فذلك نحو خروج الدابّة أو طلوع الشمس من مغربها، عن مجاهد و قتادة و السدّيّ و روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: بادروا بالأعمال ستّا طلوع الشمس من مغربها و الدابّة و الدّجال و الدخان و خويصة أحدكم يعني الموت و أمر العامّة.

و هاهنا بحث: و هو أنّ في قوله: «أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ» إذا حملنا على أثر من أثار قدرته فهذا التقرير يصير عين قوله: «أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» و إذا حملنا على مجي ء الربّ حقيقة فذاك معنى غير معقول. فالجواب أنّ هذا حكاية مذهب الكفّار بزعمهم الفاسد فلا يكون حجّة و لا يلزم التكرار لكن يمكن أن يكون المراد من قوله: «يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» علامات القيامة أو نفس القيامة؛ فحينئذ لا يكون تكرارا.

و أجمعوا على أنّ المراد بقوله «يَأْتِيَ» بعض آيات ربّك علامات القيامة؛ فعن البراء بن عازب قال: كنّا نتذاكر أمر الساعة إذ أشرف علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ما

ص: 294


1- الأحزاب: 57.

تتذاكرون؟ قلنا: نتذاكر أمر الساعة قال: إنّها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات:

الدّخان و دابّة الأرض و خسفا بالمشرق و خسفا بالمغرب و خسفا بجزيرة العرب و الدجّال و طلوع الشمس من مغربها و يأجوج و مأجوج و نزول عيسى و نارا تخرج من أرض عدن.

قوله [لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صفة لنفسا و قوله [أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً] صفة ثانية معطوفة على الصفة الاولى، و المعنى: أنّ أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أو ان التكليف فلم ينفع الإيمان نفسا ما آمنت قبل ذلك و ما كسبت في إيمانها خيرا قبل ذلك.

ثمّ قال سبحانه: [قُلِ يا محمّد [انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد و تهديد و ذلك لأنّ تلك الحال يكون الإيمان ضروريّا و أنّها حال زوال التكليف.

قال الحاكم أبو سعيد في تفسيره: و في الآية دلالة على أنّ الإيمان لا بدّ و أن يكون منضمّا إليه أفعال الخير و الصالحات بخلاف ما يقوله المرجئة.

قال: الآية تدلّ على أنّ الإيمان بمجرّدة لا ينفع حتّى يكون معه اكتساب الخير و الصالحات.

قال الطبرسيّ: و ليت شعري كيف يدلّ الآية على ما قاله الحاكم؟ و كيف حكم لنفسه على خصمه في ما الحكم فيه لخصمه عليه؟ و هذا القول عدول عن الإنصاف فإنّه سبحانه قد صرّح فيها بأنّ اكتساب الخيرات غير الإيمان المجرّد لعطفه سبحانه كسب الخيرات في الإيمان على فعل الإيمان، فكأنّه قال: لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمانها، و كذا لا ينفع نفسا لم تكن كاسبة خيرا في إيمانها قبل ذلك كسبها الخيرات في ذلك اليوم.

[سورة الأنعام (6): آية 159]

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)

قوله تعالى:

اختلفوا في المقصودين بهذه الآية على أقوال:

أحدها أنّهم الكفّار و أصناف المشركين، عن السدّيّ و الحسن. و قال

ص: 295

[لَسْتَ مِنْهُمْ يا محمّد [فِي شَيْ ءٍ] و إنّما هو نهي عن مخالطتهم و مقاربتهم، و أمر له صلى اللّه عليه و آله و سلّم بمباعدتهم، و نسختها آية السيف.

و ثانيها أنّهم اليهود و النصارى لأنّهم يكفّر بعضهم بعضا و هو التفرّق، عن قتادة.

و ثالثها أنّ المراد بهم أهل الضلالة و أصحاب الشبهات و البدع من هذه الامّة و هو المرويّ، عن الباقر عليه السلام، جعلوا دين اللّه أديانا و صاروا أحزابا و فرقا لست يا محمّد- صلى اللّه عليه و آله و سلّم- منهم في شي ء، فأخبر سبحانه عن حال نبيّه بالمباعدة التّامّة من أن يجتمع معهم في أمر من مذاهبهم الفاسدة و أنّه بري ء من جميعه.

و قيل: معناه: لست من قتالهم في شي ء، ثمّ نسختها آية السيف و القتال، عن الكلبيّ.

[إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ في مجازاتهم على سوء أفعالهم و في إنظارهم و استيصالهم إلى اللّه. و قيل: الحكم بينهم في اختلافهم إلى اللّه، ثمّ ينبّؤهم و يخبرهم و يجازيهم بأفعالهم يوم القيامة فيظهر المحقّ من المبطل.

[سورة الأنعام (6): آية 160]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)

قوله تعالى:

قرء «عشر» بالرفع و التنوين، قال الواحديّ: حذفت الهاء من عشرة. و الأمثال جمع مثل، و المثل مذكّر و أريد عشر حسنات أمثالها ثمّ حذف الحسنات و أقيمت الأمثال الّتي هي صفتها مقامها، و حذف الموصوف كثير في الكلام فالأمثال ليس مميّزا للعشر بل مميّزها هو الحسنات، قالوا: إنّ الأمثال صفة لمميّزها؛ و لذا لم يذكر التاء للعشر.

قال الطبرسيّ: و حذف الموصوف و إقامة الصفة مقامه في الشعر و في غير الشعر ضعيف عند المحقّقين، و الأولى أن يكون أمثالها غير صفة بل يكون محمولا على المعنى فأنّث الأمثال لما كان في معنى الحسنات.

حكي عن أبي عمرو أنّه سمع أعرابيّا يقول: فلا جاءته كتابي فاحتقرها، قال:

ص: 296

فقلت له: أتقول: جاءته كتابي؟ قال الأعرابيّ: نعم أليس الكتاب بصحيفة؟

المعنى: لمّا ذكر سبحانه الوعيد على المعاصي عقّبه بذكر الموعد فقال: [مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها].

قال بعضهم: الحسنة قول «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»* و السيّئة الشرك، قال الرازيّ: و هذا ضعيف بل يجب أن يكون محمولا على العموم إمّا تمسّكا باللفظ و إمّا لأجل أنّه حكم مرتّب على وصف مناسب له؛ فيقتضي كون الحكم معلّلا بذلك الوصف فوجب أن يعمّ لعموم العلّة، و على هذا فالمعنى من جاء بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة من المؤمنين فله عشر أمثالها من الثواب.

[وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ] أي بالخصلة الواحدة من خصال الشرّ [فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها] و ذلك من عظيم فضل اللّه و جزيل إنعامه حيث لا يقضي في الثواب على قدر الاستحقاق بل يزيد عليه، و ربّما يعفو عن ذنوب المذنبين من المؤمنين منّة عليهم و تفضّلا، و إن عاقب عاقب على قدر الاستحقاق عدلا.

ثمّ اختلف النّاس في أنّ هذه الحسنات العشر الّتي وعدها اللّه هل يكون كلّها ثوابا أم لا؟ فقال بعضهم: لا يكون كلّها ثوابا و إنّما يكون الثواب منها الواحدة، و التسع الزائدة تكون تفضّلا، و يؤيّده قوله: «فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» (1) لكن عند الأشاعرة الثواب مطلقا تفضّل من اللّه، و المعتزلة فرّقوا بين الثواب و التفضّل بأنّ الثواب هو المنفعة المستحقّة و التفضّل هو المنفعة الّتي لا تكون مستحقّة.

ثمّ إنّهم اختلفوا فقال بعضهم: هذه العشرة تفضّل، و الثواب غيرها و هو مذهب الجبّائيّ، و قال: لأنّه لو كان الواحد ثوابا، و كانت التسعة تفضّلا لزم أن يكون الثواب دون التفضّل؛ لأنّه لو جاز أن يكون التفضّل مساويا للثواب في الكثرة و الشرف لم يبق في التكليف فائدة أصلا؛ فيصير عبثا، و لمّا بطل ذلك علمنا أنّ الثواب يجب أن يكون أعظم في القدر و في التعظيم من التفضّل.

و قال آخرون: لا يبعد أن يكون الواحد من هذه التسعة ثوابا، و يكون التسعة الباقية تفضّلا إلّا أنّ ذلك الواحد يكون أو فرو أعظم شأنا من التسعة الباقية.

ص: 297


1- النساء: 172.

و قيل: التقدير بالعشرة ليس المراد منه التحديد بل أراد الّا ضعاف مطلقا، و ذلك كقول القائل: لئن أسديت إليّ معروفا لأكافأنّك بعشر أمثالها و في الوعيد يقال: لئن كلّمتني واحدة لأكلّمنّك عشرا و لا يريد التحديد فكذا هاهنا، و الدليل على أنّه لا يحمل على التحديد قوله تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ» (1) لكنّ السيّئة واحدة عدلا. روى أبو ذرّ الغفاريّ أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ اللّه تعالى قال: الحسنة عشر و أزيد و السيّئة واحدة و أعفو و أغفر؛ فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره.

[وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب و زيادة العقاب. و اعلم أنّ الحسنات العشر أقلّ ما وعد من الأضعاف للمؤمن و قد جاء الوعد بسبعين و سبعمائة: و بغير حساب على تفاوت مراتب الخلوص و الأشخاص.

فإن قيل: إذا كانت السيّئة الواحدة بالواحدة كيف كفر ساعة يوجب عقاب الأبد؟

فما وجه المماثلة؟ فالجواب أنّ الكافر على عزم أنّه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد فلمّا كان العزم مؤبّدا عوقب بما عليه من الكفر بخلاف المسلم المذنب؛ فإنّه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب؛ فلا جرم كانت عقوبته منقطعة، و الكافر هو الّذي تسبّب على خلوده في النار و قد أوعد على الخلود و تمّت له الحجّة بتبليغ الأنبياء و كتبهم، و مع ذلك لم يتقبّل الإيمان و أعرض عنه و أقبل على الكفر و العناد؛ فاستحقّ ذلك لقبوله الكفر و بقائه عليه و عزمه التأبيد عليه. قيل: الأعمال ستّة موجبتان كلّيتان و مثل بمثل و حسنة بحسنة و حسنة بعشر و حسنة بسبعمائة و أكثر؛ فأمّا الموجبتان فهو من مات و لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنّة، و من مات و هو مشرك باللّه دخل النار. و أمّا مثل بمثل؛ فمن عمل سيّئة فجزاء سيّئة مثلها و أمّا حسنة بحسنة فمن همّ بحسنة حتّى تشعر بها نفسه و يعلمها اللّه من قلبه كتب له حسنة بعشر فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها، و أمّا حسنة بسبعمائة فبالنفقة في سبيل اللّه.

و في بعض المجامع أنّ الشارع قد يرتّب الثواب للعمل لئلّا يترك بل يرغب فيه فلا يكون ذلك العمل النفل أفضل من العمل المؤكد عليه الّذي لم يترتّب عليه

ص: 298


1- البقرة: 263.

ذلك الثواب مثل أنّه من صلّى ركعتين بالليل أو إحدى عشرة ركعة بنى اللّه له بيتا في الجنّة من ذهب مع أنّ السّنة الراتبة لفرض الظهر أفضل و لا يبلغ مرتبة الراتبة من الأحكام و إن لم يتعيّن قدر أجرها فإنّ السنن شرّعت لتتميم نقائص الفرائض و النوافل الغير الراتبة لتتميم نقائص السنن الراتبة.

و إذا تأمّلت عرفت أنّ اللّه تعالى قبل أن يجي ء العبد بالحسنة أحسن إليه بعشر حسنات حتّى قدر أن يجي ء بالحسنة و هي: حسنة الإيجاد من العدم، و حسنة الاستعداد بأن خلقه في أحسن تقويم مستعدّا للإحسان، و حسنة التربية، و حسنة الرزق، و حسنة بعثة الرسل، و حسنة إنزال الكتب للإرشاد، و حسنة تحديد الحسنات و السيّئات و حسنة التوفيق، و حسنة الإخلاص في الإحسان، و حسنة قبول الحسنات، و السرّ فيه أنّ السيّئة بذر يزرع في أرض النفس و النفس خبيثة لأنّها أمّارة بالسوء، و الحسنة بذر يزرع في أرض القلب و القلب طيّب لأنّ بذكر اللّه تطمئنّ القلوب، و قد قال سبحانه:

«وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» (1).

[وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا يبخس من حسناتهم و لا يزيد على عقابهم مثقال ذرّة كما قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» (2).

[سورة الأنعام (6): الآيات 161 الى 163]

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)

المعنى: ثمّ أمر اللّه نبيّه فقال: [قُلْ يا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم للخلق جميعا و لكفّار مكّة الّذين يدّعون أنّهم على الدين الحقّ و قد فارقوه بالكلّيّة [إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي أي أرشدني بالوحي و بما نصب في الآفاق و الأنفس من الآيات التكوينيّة [إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى الحقّ [دِيناً قِيَماً] و نصب «دِيناً» على ثلاثة أوجه أحدها أنّه لمّا قال: هداني إلى صراط مستقيم استغنى بذكر الفعل عن ذكره ثانيا؛ فقال: دينا قيّما كما في قوله: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ» و إن شئت نصبت على تقدير

ص: 299


1- الأعراف: 56.
2- النساء: 44.

«ألزموا و أعرفوا» لأنّ هدايتهم إليه إلزامهم له و تعريف لهم، و إن شئت حملته على الاتّباع أي اتّبعوا دينا قيّما.

و [مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً] بدل من «دِيناً قِيَماً» و «حَنِيفاً» منصوب على الحاليّة أي مائلا عن الأديان الباطلة ميلا لا رجوع فيه. و الملّة من أمللت الكتاب أي أمليته، و ما شرّعه اللّه لعباده يسمّى ملّة من حيث إنّه يدوّن و يملى و يكتب و يتدارس.

و إنّما وصف دين النبيّ بأنّه ملّة إبراهيم ترغيبا فيه للعرب لجلالة إبراهيم في نفوسها و نفوس أهل الأديان، و لانتساب العرب إليه و اتّفاقهم على أنّه كان على الحقّ و موافقة أغلب الفروع مع سنّته كالختان و المناسك في الحجّ و غيرها.

[وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي ما كان إبراهيم منهم في أمر من امور دينهم أصلا و فرعا فردّ اللّه عليهم بأنّه عليه السلام ليس من أهل دينهم لأنّهم مشركون، فأمّا العرب فكانوا أهل الأصنام، و اليهود بقولهم «عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ» و النصارى بقولهم «الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» و المشرك في الحقيقة هو الّذي يطلب مع اللّه شيئا و يجعل غيره معه شريكا في العبادة.

[قُلْ إِنَّ صَلاتِي و أعيد الأمر لما أنّ المأمور به يتعلّق في هذه الآية بفروع الشرائع و ما سبق بأصولها و المراد بالصلاة الصلوات الخمس المفروضة [وَ نُسُكِي أي عباداتي و أصل النسك ما يتقرّب به إلى اللّه و لذا يقال للعابد: ناسك. و قيل: المراد بالصلاة صلاة العيد، و بالنسك الاضحيّة.

و عن أنس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: قرّب كبشا أملح أقرن فقال: «لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي إلى قوله تعالى-: وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» ثمّ ذبح فقال: شعره و صوفه فداء لشعري من النار، و جلده فداء لجلدي من النار، و دمه فداء لدمي من النار، و عظمه فداء لعظمى من النار، و عروقه فداء لعروقي من النار فقالوا: يا رسول اللّه هنيئا مريئا، هذا لك خاصّة؟ قال: بل لأمّتي عامّة إلى أن يقوم القيامة، أخبرني به جبرئيل عن ربّي عزّ و جلّ. و قيل: نسكي أي ديني، عن الحسن.

[وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي أي حياتي و موتي، و جمع بين صلاته و حياته و أحدهما من فعله و الآخر من فعل اللّه لأنّهما جميعا بتدبير اللّه، و قيل: معناه: إنّ صلاتي و نسكي له

ص: 300

عبادة، و حياتي و مماتي له ملكا و قدرة، عن القاضي. و حاصل المعنى أنّ ما أنا عليه في حياتي من فنون الطاعات و أكون عليه عند موتي من الإيمان للّه لا لغيره خالصة له تعالي.

[لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ لا أشرك فيها غيره [وَ بِذلِكَ الإخلاص [أُمِرْتُ لا بشي ء غيره [وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأنّ إسلام كلّ نبيّ متقدّم على إسلام أمّته، و فيه بيان مسارعته صلى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الامتثال بما امر به و أنّ ما امر به من الشريعة ليس من خصائصه بل الكلّ مأمورون به، يقتدي به من أسلم منهم، و تنبيه على أنّه لا ينبغي أن يجعل العبد حياته لشهوته و مماته لورثته.

قال أهل المعاني: إنّ قوله: «وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» يعنى أوّل من استسلم عند الإيجاد لأمركن، و عند قبول فيض الألطاف و أوّل ما خلق اللّه نوري، و جئت على التوحيد و الإخلاص و التبرّي عن كلّ شي ء سواه تعالى ظاهرا و باطنا و التحقيق بحقائق العبوديّة.

عن مالك بن دينار قال: خرجت حاجّا إلى بيت اللّه الحرام و إذا بشابّ في الطريق بلا زاد و لا راحلة؛ فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام فقلت: أيّها الشابّ من أين أقبلت؟

قال: من عنده، قلت: و إلى أين؟ قال: إليه، قلت: و أين الزاد؟ قال: عليه، قلت:

إنّ الطريق لا يقطع إلّا بالماء و الزاد و هل معك شي ء؟ قال: قد تزوّدت عند خروجي بخمسة أحرف، قلت: و ما هذه الحروف؟ قال: قوله تعالى: «كهيعص» قلت: و ما معناها؟ قال: أمّا قوله كاف فهو الكافي، و أمّا الهاء فهو الهادي، و أمّا الياء فهو المؤدّي و أمّا العين فهو العالم، و أمّا الصاد فهو الصادق، و من كان صاحبه كافيا و هاديا و مؤدّيا و عالما و صادقا لا يضيّع.

قال مالك: فلمّا سمعت هذا الكلام نزعت قميصي الّذي عليّ فأردت أن البسه إيّاه فأبى أن يقبله، و قال: أيّها الشيخ العرى خير من قميص دار الفناء؛ حلالها حساب و حرامها عقاب؟.

قال مالك: و كان الشابّ إذا جنّ عليه اللّيل يرفع وجهه نحو السماء و يقول:

ص: 301

يا من تسرّه الطاعات و لا تضرّه المعاصي هب لي ما يسرّك و اغفر لي مالا يضرّك، فلمّا أحرم الناس و لبّوا قلت له: يا شابّ لم لا تلبّي؟ فقال: يا شيخ البّي سرّا أخشى أن أقول: لبّيك فيقول: لا لبّيك و لا سعديك، و لا أسمع كلامك و لا أنظر إليك، ثمّ مضى فما رأيته إلّا يمضي و هو يقول: اللّهم إنّ الناس ذبحوا و تقرّبوا إليك بضحاياهم و هداياهم و ليس لي شي ء أتقرّب به إليك سوى نفسي فتقبّلها منّي، ثمّ شهق شهقة فخرّ ميّتا.

[سورة الأنعام (6): آية 164]

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)

قوله تعالى:

[قُلْ يا محمّد لمن يقول لك من الكفّار: توجّه إلى ديننا: [أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي أطلب حال كونه [رَبًّا] آخر فأشركه في عبادته [وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ] و الحال أنّ ما سواه مربوب له مثلي فكيف يتصوّر أن يكون شريكا له في العبادة و العبوديّة؟

[وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها] و ذلك أنّهم كانوا يقولون للمسلمين: اتّبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم، إمّا بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم، و إمّا بمعنى نحمل يوم القيامة عذاب ما حمّل عليكم من الخطايا؛ فهذا ردّ بالمعنى الأوّل أي لا يكون جناية نفس من النفوس إلّا عليها، و محال أن يكون صدورها عن شخص و قرارها على شخص آخر حتّى يتأتّى ما ذكرتم.

و قوله تعالى: [وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ردّ لهم بالمعنى الثاني أي لا تحمل يومئذ نفس حاملة حمل نفس اخرى حتّى يصحّ قولكم: و لنحمل خطاياكم. و الوزر في اللغة الثقل.

[ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي إلى مالك أمركم رجوعكم يوم القيامة [فَيُنَبِّئُكُمْ يومئذ [بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي يتبيّن الرشد من الغيّ و المحقّ من المبطل، و إذا كان هو الربّ و غيره المربوب من الفلك و الملك فعبادة غيره جهل محض؛ لأنّ العبد لا بدّ و أن يخدم مولاه و لا يخدم غير مولاه فالمولى غاية المبتغى و نهاية المرام، فمن وجده فقد وجد الكلّ، و من فقده فقد الكلّ و عاد خائبا خاسرا، و كلّ ما تكسب النفس

ص: 302

من خير أو شرّ فهو عليها و مأخوذة به و أمّا الخير فلا بدّ فيه من صحّة القصد له تعالى و الخلوص من المنافيات.

فإن قيل: إنّ قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شي ء فليستحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار و لا درهم إلّا أن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، و إن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه» يدلّ على خلاف قوله: «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى .

فالجواب أنّ هذا الحمل هو الّذي باختياره تحمله و حمل على نفسه يرضاه بعد تبليغه الحكم فباع حظّه بالأرذل الأدنى و بسوء اختياره رضي بهذه المعاملة بإقدامه على ظلم غيره فحمل سيّئات المظلوم حمل سيّئات نفسه؛ فالآية و الحديث متّحدان.

[سورة الأنعام (6): آية 165]

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

قوله تعالى:

أخبر سبحانه و شهد لنفسه بالربوبيّة؛ فقال: [وَ هُوَ] أي اللّه تعالى [الَّذِي جَعَلَكُمْ أيّها الناس خلائف الأرض و الأمم السابقة البشريّة، و كلّ من جاء بعد من مضى فهو خليفة لأنّه يخلفه و يعقّبه و الخلائف جمع الخليفة كالوصائف جمع الوصيفة، و قيل:

المعنى: خلفاء اللّه في أرضه و على هذا المعنى تكون تتّصفون بصفاته و آدم وقته و خليفة ربّه و لو على نفسه.

[وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ في الشرف و الغنى [فَوْقَ بَعْضٍ إلى [دَرَجاتٍ كثيرة متفاوته [لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من المال و الجاه أي ليعاملكم معاملة من يختبر بكم لترتّب الجزاء لأنّ الجزاء لا يقع بالعلم بالوقوع حتّى لا يمتحن بل قرّر سبحانه الجزاء بعد الوقوع.

[إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد [سَرِيعُ الْعِقابِ لمن لا يراعي حقوق ما آتاه اللّه و لم يشكره، و إنّما قال: «سَرِيعُ الْعِقابِ» مع أنّه سبحانه موصوف بالإمهال و الحلم لأنّ ما هو آت قريب، و حقيقة الشكر أن تعرف المنعم حقّ معرفته و لا تستعين بنعمه على معاصيه.

[وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن راعاها. و افتتح السورة بالحمد على نعمه تعليما و ختمها بالمغفرة و الرحمة ليحمد على ذلك.

تمّت السورة بحمد اللّه الملك المتفضّل بالانعام

ص: 303

سورة الأعراف

اشارة

هذه السورة مكيّة غير قوله تعالى: «وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ- إلى قوله-: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» فإنّها نزلت بالمدينة.

قال ابيّ بن كعب: من قرأها جعل اللّه بينه و بين إبليس سترا و كان آدم شفيعه يوم القيامة و من قرأها يوم الجمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة. قال الصّادق عليه السلام: لا تدعوا قراءتها فانّها تشهد لقاريها يوم القيامة (1).

ص: 304


1- رواها و غيرها في ثواب الأعمال: 102.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)

قال ابن عبّاس: معناه: أنا اللّه أعلم و أفصل فعلى هذا مبتدأ و خبر و أعلم خبر بعد خبر. قال القاضي: إن كانت العبرة بحرف الميم فهو أيضا موجود في الملك و الامتحان و إن كانت بالصاد فيمكن على قوله: أنا اللّه أصلح؛ فكان الحمل على المعنى الأوّل محض التحكّم.

ثمّ إذا أردنا تفسير الحروف من غير أن تكون تلك اللّفظة موضوعة في اللّغة لذلك المعنى انفتحت طريقة الباطنيّة في تفسير سائر الألفاظ ممّا يشاكل هذا الطّريق، و أمّا قول بعضهم أنّه من أسماء اللّه، و الاسم إنّما يختصّ بالمسمّى بالوضع و الاصطلاح، و لا يبعد أنّ الشارع وضعه.

و الأولى أنّ قوله: «المص» اسم لهذه السورة لقبا، و أسماء الألقاب لا تفيد فائدة في المسميّات بل هي قائمة مقام الإشارات، و للّه تعالى أن يسمّي هذه السورة بألف لام ميم صاد، كما أنّ الواحد منّا إذا حدث له ولد فإنّه يسمّيه محمّدا، و على هذا فيكون «المص» مبتدءا و كتاب خبره و جملة البعد صفة له.

فإن قيل: الدّليل الّذي دلّ على صحّة نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم هذا القرآن فما لم يفد هذا المعنى لم نعرف نبوّته و إذا لم نعرف نبوّته لا يمكننا أن نحتجّ بقوله؛ فلو أثبتنا كون هذا القرآن نازلا عليه من عند اللّه بقوله لزم الدّور.

قلنا: إنّ دلائل حقّيّة القرآن و أنّ إنزاله من اللّه غير منحصر بقوله، لكن قوله و تصديقه أحد الدّلائل و كذلك تصديق نبوّته غير منحصر بالقرآن بل القرآن أحد دلائل نبوّته.

ص: 305

و للقرآن و لنبوّته دلائل كثيرة، أمّا القرآن لأنّه مع قطع النّظر عن دلائل السّمع بداهة العقل تحكم بأنّ هذا الكتاب العزيز المشتمل على علوم الأوّلين و الآخرين بجامعيّته من حيث المعنى مع بسط أحكامه الّتي يحتاج إليه الخلق في أمور عامّتهم و رفع الخلف بسبب العلم و اختيار طريق الأصلح من الأديان، و رفع التنافس و الخصومات من نوع البشر لملازمة العدل في العمل بأحكامه لم يتّفق لكتاب قطّ، لأنّك إذا وازنت العمل به و بغيره من كلّ حكم احتجت به في دينك و دنياك رأيت أنّ العمل به أوفق للعدل و الصّلاح و أحسن ترتيبا لنظام العالم و جمع الكلمة و رفع الخصومات و الخلاف، و ما أريد من الكتاب و إنزال الكتب إلّا هذا الأمر، و هذا التّرتيب و التركيب لا يمكن صدوره إلّا من قادر عالم و حكيم خالق، و هو العالم بحقائق الأشياء دون غيره؛ فثبت أنّ صدوره لا يمكن إلّا منه.

هذا كلّه من حيث المعنى و أمّا من حيث اللّفظ و المعنى فعجز المعارضين مع شدّة عداوتهم عن الإتيان بمثله أو ببعضه يشهد بأنّه وحي من اللّه أوحى به إلى من هو أهل لوحيه.

فلمّا ثبت أنّه من عند اللّه ثبت نبوّة الموحى إليه لأنّ القرآن مشحون بالآيات المصرّحة بنبوّته، فحينئذ، ما ثبت عن قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه نازل من عند اللّه بل ثبت ببراهين أخر فمن أين لزم الدّور؟

على أنّ من تدبّر في أخلاقه الشريفة و في حالاته أنّه منذ صباه إلى أن بلغ ثلاث و ستّين سنة من عمره عجز جميع الخلق عن أن يوازوه بمكارم الأخلاق و لا ساوى عذاره من البشر بعذار و مضماره بمضمار حيث شهد اللّه له بقوله «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (1).

ثمّ تأمّل أيّها العاقل بمجامع قلبك، و انظر في أحواله في هذه المدّة من عمره أنّه لم ينقل عنه كريهة و لا خائنة، و لا أخطأ في ساعة من عمره حتّى أنّه لم يثبت الخصماء خصلة سوء له في دقيقة من عمره الشريف، حتّى أنّ أعداءه، لعجزهم عمّا اوتي من المعجزات

ص: 306


1- القلم: 4.

نسبوه إلى السّحر، و البشر و إن كان عالما و حكيما لا ينقضي من عمره يوم إلّا و يقع منه ما يكره زوجه و ولده فضلا عن الناس حتّى أنّ نفسه تنفر من نفسه، حيث وقع منه الخطاء و يلوم هو نفسه، فضلا عن الناس فلو لم يكن تأييد النبوّة من اللّه كيف تتّفق هذه الملكة الرّاسخة الإلهيّة لمن يأكل و ينام و يمشي في الأسواق.

فأنت أيّها المعترض! دع المعجزات كلّها و تأمّل في هذه الدّقيقة و لا تحتاج إلى إثبات أمر آخر، على أنّ البحر لو كان مدادا لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات اللّه و هو صلى اللّه عليه و آله و سلّم كلمة اللّه العليا؛ «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (1).

و بالجملة رجعنا إلى التفسير:

[كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي هذا الّذي أوحيته إليك كتاب أنزله الملائكة إليك بأمري [فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ و ضيق من تكذيب قومك و إجابتهم إيّاك بعدم القبول فأنذر به النّاس، و ليتذكّر به المؤمنون؛ لأنّهم المنتفعون به.

ثمّ خاطب اللّه المكلّفين:

[سورة الأعراف (7): آية 3]

اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)

اعلم أنّ الرّسالة إنّما يتمّ بالمرسل و هو اللّه و المرسل و هو النبيّ و المرسل إليه و هم الامّة بمتابعة الرّسول و أنّ النّفوس البشريّة على قسمين: بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب، غريقة في اللّذات الجسمانيّة و الشهوات الجسدانيّة، و نفوس شريفة مشرقة بالأنوار الروحانيّة الإلهيّة، مستعدّة لكسب الفضائل؛ فبعثه الأنبياء في حقّ القسم الأوّل إنذار و تخويف كما قال سبحانه: «لِتُنْذِرَ بِهِ».

و في القسم الثّاني تنبيه و تذكير عن غفلة البشريّة: لأنّه ربّما غشيها غواش من عالم الجسم فيعرض لها ذهول و غفلة فأمر بالذّكرى للقسم الثاني.

ثمّ أمر الامّة باتّباع هذا الكتاب و منع عن اتّباع من دون الكتاب من أولياء

ص: 307


1- الانعام: 124.

الشياطين من الجنّ و الإنس فيحملوكم على مخالفته و عبادة الأهواء و الأصنام و البدع فيضلّوكم عن سبيله.

ثمّ هاهنا معترضة مفيدة و هي أنّه أمر اللّه باتّباعه، و نهى اللّه عن دون القرآن و السنّة؛ فكان المعنى أنّ كلّ ما يغاير الحكم الّذي أنزله اللّه لا يجوز اتّباعه.

فنفاة القياس قالوا: العمل بالقياس متابعة لغير ما أنزل اللّه فوجب أن لا يجوز.

و أجاب مثبتوا القياس و أنّ القياس يكون حجّة بأنّ قوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (1) لمّا دلّ على العمل بالقياس كان العمل بالقياس عملا بما أنزل اللّه.

أقول: إنّ هذه الدّلالة غير معلومة و لعلّ المراد بالعبرة اصول الدين لا في اصول الفقه.

ثمّ أجاب مثبتوا القياس بأنّ كون القياس حجّة بإجماع الصّحابة قد ثبت بعموم قوله تعالى: «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى» (2) و عموم قوله: «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (3) و عموم قوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (4) و بعموم قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تجتمع امّتي على الخطاء» و الجواب عن هذا الكلام: أنّه أليس الأخباريّون من الامّة؟ و مطلق القياس كيف يحكم عليه بأنّه حجّة؟ نعم إذا دلّ دليل على أنّ في ذلك القياس و الإجماع نصّا من المعصوم أو رضاء منه على سبيل التحقيق فذلك حجّة و لا تصحّ حجيّة القياس إلّا بعد العلم بعمل المعصوم به فإذن ثبت حجّيته بعمل المعصوم و هو النصّ لا بمثل هذا الإجماع، و كلّ قياس وافق النصّ حجّة و غيره فاسد.

رجعنا إلى التفسير:

قل لهم يا محمّد: اتّبعوا القرآن و لا تتّبعوا غيره أولياء تطيعونهم في الأمور الدينيّة يا معشر المشركين ما أقلّ تذكّركم و اتّعاظكم؟ و المراد: تذكّروا كثيرا ما يلزمكم من أمر دينكم.

ص: 308


1- الحشر: 2.
2- النساء: 115.
3- البقرة: 137.
4- آل عمران: 106.

[سورة الأعراف (7): الآيات 4 الى 5]

وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)

لمّا أمر الرسول بالإنذار و أمر القوم بالقبول ذكر في هذه الآية الوعيد في ترك المتابعة.

«كَمْ» رفع بالابتداء و خبره «أَهْلَكْناها» و هو أحسن من أن يكون في موضع نصب؛ لأنّ قولك: «زيد ضربته» أجود من قولك: «زيدا ضربته» و لو أنّ النّصب صحيح. (1) و المعنى: و كم من أهل قرية أهلكناها، و يمكن المراد نفس القرية بخسف و هدم لكنّ التقدير أحسن أي حكمنا بالهلاك و إلّا لا يحصل الهلاك قبل البأس، بل الهلاك بعد مجي ء البأس و يمكن أن يكون البأس و الهلاك دفعة واحدة كما تقول: أعطيت فأحسنت و ما كان الإحسان بعد الإعطاء و لا قبله و إنّما وقعا معا فإذن «الفاء» فاء المفسّر لا للتعقيب و «كَمْ» كلمة موضوعة للتكثير كما أنّ «رب» موضوعة للتّقليل لأنّ «كَمْ» اسم و «رب» حرف.

[فَجاءَها] أي جاء العذاب أهل القرية [بَياتاً] باللّيل، [أَوْ هُمْ قائِلُونَ و مستريحون في نصف النّهار و من هذه المادّة الإقالة في البيع لأنّهما يستريحان عن الخصومة بالإقالة؛ فكأنّه قيل للكفّار: لا تعزّوا بالأمن و الرّاحة فإنّ عذاب اللّه إذا وقع وقع دفعة واحدة من غير أمارة، فإذن ما كان قولهم بعد نزول العذاب إلّا: [إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ و ما ينفع القول و النّدم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 6 الى 7]

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنَّا غائِبِينَ (7)

لمّا بيّن أنّ قولهم لمّا أتاهم العذاب اعترافهم بقولهم: «إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» بيّن في هذه الآية أنّه لا يقتصر منهم بمجرد الاعتراف بل يسأل الكلّ عن كيفيّة أعمالهم، و بيّن

ص: 309


1- لان ترك التقدير اولى من التقدير و لعدم وجود موجب النصب و مرجحه. و هذا هو الصورة الخامسة من صور اشتغال العامل، و التفصيل في محله.

أنّ السّؤال لا يختص بأهل العقاب بل هو عامّ في أهل الثواب و العقاب من الامّة و من الرّسل.

فإن قيل: ما الفائدة في السؤال بعد اعترافهم؟

الجواب أنّهم بعد الاعتراف بالظّلم يسأل عنهم عن سبب الظلم لأجل التوبيخ كأنّ السؤال من الرّسل بيان أنّهم إذا أثبتوا الإطاعة و التبليغ التحق التقصير بالكلّيّة إلى الامّة فيضاعف الإكرام للرّسل و الخزي للكفّار.

[فَلَنَقُصَّنَ ما أسرّوه و ما أعلنوه من أعمالهم، و فيها دلالة على أنّ اللّه عالم بالجزئيّات [وَ ما كُنَّا غائِبِينَ عنهم و عن أفعالهم. و لعل أن يكون السؤال عن الدّواعي و إلّا كتبهم مشتملة على أعمالهم.

و في الآية دلالة على أنّه يحاسب كلّ عباده لأنّهم لا يخرجون من أن يكونوا رسلا أو مرسلا إليهم، و يبطل قول من زعم أنّه لا حساب على الأنبياء و الكفّار.

فإن قيل: إنّ آيات تدلّ على السؤال كهذه و آيات تدلّ على عدم السؤال كقوله: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ» (1) و قوله: «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» (2) الجواب أنّ مواقف القيامة كثيرة فموقف لا يسأل و يعطّل لصدور الحكم و موقف يسأل.

[سورة الأعراف (7): الآيات 8 الى 9]

وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)

لمّا ذكر أحوال القيامة من السؤال و الحساب ذكر في هذه الآية بعض كيفيّات القيامة؛ منها الميزان لوزن الأعمال.

الوزن مبتدأ و الحق خبره، و يجوز أن يكون يومئذ خبره و الحقّ صفة له.

و في وزن الأعمال قولان:

الأوّل أنّه ينصب ميزان له لسان و كفّتان يوزن به أعمال العباد من الخير و

ص: 310


1- الصافات: 24.
2- الرحمن: 39.

الشرّ. قال ابن عبّاس: أمّا المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فتوزن فتثقل حسناته على سيّئاته فذلك، قوله: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» و أمّا أعمال الكافر فتؤتى بصورة قبيحة فتوزن تلك الصورة.

و القول الثاني أنّ صحائف الخلق توزن و الميزان تنصب بين الجنّ و الأنس فيستقبل به العرش، إحدى كفتي الميزان على الجنّة و الاخرى على جهنّم و لو وضعت السماوات و الأرض في إحداهما لوسعتهن، و جبرئيل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه. و عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه: يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان و يؤتي له بتسعة و تسعين سجلّا. كلّ سجلّ منها مدّ البصر فيها خطاياه ثمّ يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه يوضع في الاخرى فترجّح.

و قال بعض المفسّرين: المراد بالوزن العدل و القضاء، يقال: هذا الكلام في وزن ذلك الكلام أي معادل ذلك الكلام، و في الاحتجاج عن الصادق عليه السلام: أنّه سئل أو ليس توزن الأعمال؟ قال: لا لأنّ الأعمال ليست أجساما و إنّما هي صفة ما عملوا أو إنّما يحتاج إلى وزن الشي ء من جهل عدد الأشياء و وزنها و لا يعرف ثقلها و خفّتها، و أنّ اللّه لا يخفى عليه خافية فقيل له: فما معنى الميزان؟ قال: العدل، قيل: فما معنى: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ»؟ قال: فمن رجّح عمله. و إذا حملنا الآية على ظاهرها فلا يبعد أن يكون موازين كما قال: «وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» (1).

و قوله: [وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فيها مسائل:

الاولى أنّها تدلّ على أنّ أهل القيامة فريقان و أمّا القسم الثالث و هو الّذي تكون حسناته و سيّئاته متساوية؛ فإنّه غير مذكور في الآية.

و المرجئة تمسّكوا بهذه الآية و قالوا: الّذين خسروا أنفسهم و خفّت موازينهم الظالمون بآيات اللّه و هم الكافرون لأنّه حصر أهل الموقف في قسمين: أحدهما الّذين رجّحت حسناتهم و حكم عليهم بالفلاح، و الثاني الّذين رجّحت سيّئاتهم و حكم عليهم بأنّهم

ص: 311


1- الأنبياء: 48.

أهل الكفر الّذين كانوا يظلمون بآيات اللّه، و ذلك يدلّ على أنّ المؤمن لا يضرّه المعصية.

و الجواب أنّه أقصى ما في الباب أنّه تعالى لم يذكر هذا القسم الثالث في هذه الآية إلّا أنّه ذكره في سائر الآيات فقال: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* و المنطوق راجح على المفهوم؛ فوجب المصير إلى إثباته.

على أنّ كتب الأخبار مشحونة بعذاب العاصي إن لم يتب؛ حتّى في بعض الروايات قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: و إنّ من امّتي لا تناله شفاعتي إلّا بعد سبعين ألف سنة. و ليس بمعلوم أنّها من سني الدّنيا أم من سني الآخرة. و المقطوع أنّ هذا الخبر لغير الكافر و إلّا فالكافر مؤبّد بالنصّ و الإجماع.

المسألة الثانية: قال أكثر المفسّرين: المراد من قوله: «وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ» الكافر، و الدّليل عليه القرآن و الخبر؛ أمّا القرآن فقوله: [فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ و لا معنى لكون الإنسان ظالما بآيات اللّه إلّا كونه كافرا بها، فدلّ هذا على أنّ المراد من هذه الآية أهل الكفر.

و أمّا الخبر فقد ذكر قيل هذا، حيث إنّه يخرج له قرطاس إلى آخر الحديث و حديث آخر رواه الواحديّ في البسيط أنّه إذا خفّت حسنات المؤمن أخرج رسول اللّه من حجرته نطاقة كالأنملة فيلقاها في كفّة الميزان الّتي فيها حسناته فترجّح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: بأبي أنت و امّي ما أحسن وجهك و أحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا نبيّك محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم و هذه صلاتك الّتي كنت تصلّي عليّ قد وفّيتك حين أحوج ما يكون إليها. أقول: و لكن بشرطها، و الشرط الأعظم أن لا تخالف في شريعته و دينه حتّى تقبل الصلاة و لا يكون لقلقة اللسان.

[سورة الأعراف (7): آية 10]

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)

لمّا بيّن في آيات الوعيد و بيان السؤال عن الأعمال شرع و أمر بشكره بتعداد

ص: 312

نعمه لأنّ بيان النعمة يوجب الشكر للمنعم؛ فقال:

[وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ أي جعلنا لكم في الأرض مكانا و قرارا، و أقدرناكم على التصرّف فيها و جعلنا لكم فيها وجوه المنافع، و هي على قسمين: منها ما يحصل بخلق اللّه ابتداء مثل خلق الكلاء و الثمار، و منها ما يحصل بالاكتساب، و كلاهما في الحقيقة يرجع بفضله و إقداره على المقدور، و هذا الخلق و التسبيب يكون موجبا للشّكر.

و مع ذلك [قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ و «ما» زائدة أو مصدريّة أي يشكرون قليلا و «الياء» في «مَعايِشَ» لا تقلب همزة، لأنّ الياء أصليّة و غير الأصليّ تبدّل همزة نحو صحائف.

[سورة الأعراف (7): آية 11]

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

النظم: لمّا بيّن بعض نعمه في الآية السابقة بيّن بعضا آخر: و هي أنّه خلق أبانا آدم و جعله مسجودا للملائكة، و الإنعام على الأب يجري مجرى الإنعام على الابن؛ [وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي خلقنا و صوّرنا أصلكم و أباكم؛ لأنّه من المعلوم أنّ الأمر بالسجود وقع قبل خلقنا، و كلمة «ثُمَّ» للتراخي؛ فالمراد من الخلق تقديره لإحداث هذه الصورة، و التصوير إثباتها في اللوح المحفوظ أو المراد خلق عالم الذرّ، و بالجملة فبعد الخلق و التصوير أمر الملائكة بالسجود له.

و في هذه السجدة ثلاثة أقوال: أحدها أنّ المراد بالسجدة مجرّد التعظيم لا نفس السجدة. و ثانيها أنّ المراد هو السجدة إلّا أنّ المسجود له هو اللّه فآدم عليه السلام كالقبلة. و ثالثها أنّ المسجود له هو آدم.

ثمّ إنّهم اختلفوا في أنّ الملائكة الّذين أمروا بالسجود جميع الملائكة أم ملائكة الأرض فقط؟

و بالجملة [فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ و اختلفوا في أنّ إبليس هل كان من الملائكة أم من

ص: 313

الجنّ؟ و ظاهر الاستثناء يدلّ على أنّه من الملائكة، قال الحسن البصريّ: إنّه من الجنّ لأنّه خلق من نار و الملائكة خلقوا من نور، و الملائكة لا يستكبرون عن عبادته و لا يعصون اللّه و ليس إبليس كذلك و قد عصى فاستكبر، ثمّ إنّ الملائكة رسل اللّه و الرسول لا يخون و لا يخالف و إبليس خان، و هو أوّل خليفة الجنّ و أصلهم و أبوهم (1) كما أنّ أبا البشر آدم أوّل خليفة الإنس، و أمّا الاستثناء فلأنّه لمّا كان إبليس داخلا في الملائكة و مأمورا بالسجود مع الملائكة لخطته مع الملائكة استثناه اللّه. و كان اسم إبليس عزازيل؛ فلمّا عصى اللّه سمّاه بذلك فاهبط إلى الأرض.

[سورة الأعراف (7): الآيات 12 الى 13]

قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)

ظاهر الآية يقتضي أنّه تعالى طلب منه ما منعه من ترك السجود و ليس الأمر كذلك، و إنّما المقصود السؤال عمّا منعه عن السجود، و لهذا الإشكال حصل في الآية قولان:

الأوّل و هو المشهور أنّ كلمة «لا» صلة زائدة و التقدير: ما منعك أن تسجد و له نظائر كثيرة في القرآن كقوله: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» و كقوله: «وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» (2) أي يرجعون، و كقوله: «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» أي ليعلم أهل الكتاب.

و القول الثاني أنّ كلمة «لا» مفيدة و ليست لغوا، قال القاضي عبد الجبّار: ذكر المنع و أراد الداعي؛ فكأنّه قال: ما دعاك إلى أن لا تسجد؟ لأنّ مخالفة اللّه حالة عظيمة يتعجّب منها و يسأل عن الداعي إليها.

و احتجّ العلماء بهذه الآية على أنّ الأمر يفيد الوجوب؛ فقالوا: إنّه ذمّ

ص: 314


1- و هذا ينافي ما مر عن ابن عباس في ص 261 من ان الملائكة كلهم في الجنة و الشياطين في النار و الجن و الانس بعضهم في الجنة و بعضهم في النار.
2- الأنبياء: 95.

إبليس على ترك ما أمر به و لو لم يفد الوجوب لما كان مجرّد ترك المأمور به موجبا للذّم.

فإن قيل: هب إنّ هذه الآية يدلّ على أنّ ذلك الأمر يفيد الوجوب، فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت يفيد الوجوب فمن أين يجب أن يكون جميع الصيغ كذلك؟ قلنا: قوله تعالى: [ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يدلّ على تعليل ذلك الذّم بمجرّد ترك الأمر: لأنّ قوله: «إِذْ أَمَرْتُكَ» مذكور في معرض التعليل، و المذكور في قوله: «إِذْ أَمَرْتُكَ» هو الأمر من حيث إنّه أمر لا كونه أمرا مخصوصا في صورة مخصوصة، و إذا كان كذلك وجب أن يكون ترك الأمر من حيث هو أمر موجبا للذّم، و ذلك يفيد أنّ كلّ أمر فإنّه يقتضي الوجوب فالموارد المحمولة على الإباحة و الاستحباب بدليل منفصل، و هو المطلوب.

و كذلك احتجّ من قال: إنّ الأمر يفيد الفور بهذه الآية، و قال: إنّه تعالى ذمّ إبليس على ترك السجود في الحال و لو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب هذا الذّم ترك السجود في الحال.

قال: [أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي أجاب اللعين إنّما لم أسجد لآدم لأنّه خلق من طين و خلقت من نار و النار أفضل من الطين و المخلوق من الأفضل أفضل و من الأدون أدون، و النار مشرق علويّ لطيف خفيف يابس مجاور لجواهر السماوات ملاصق لها، و الطين مظلم سفليّ كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السماوات، ثمّ النار قويّة التأثير و الفعل، و الأرض ليس لها إلّا الانفعال و القبول؛ و الفعل أشرف من الانفعال، و أيضا فالنار مناسبة للحرارة الغريزيّة، و هي مادّة الحياة، و أمّا الأرضيّة فالبرد و اليبس فهما مناسبان للموت، و الحياة أشرف من الموت، و نضج الثمار و نماء الثمار متعلّق بوقت كمال الحرارة، و وقت الذّبول و الفناء و الشيخوخيّة وقت البرد و انتفاء الحرارة الغريزيّة باليبس المناسب للأرضيّة، و شرف الأصول يوجب شرف الفروع.

و قد قاس اللعين بهذه الأقيسة الفاسدة، لأنّه لا ملازمة بين فضيلة المادّة و فضيلة الصورة، و قد يكون المادّة فاضلة و الصورة قبيحة و إنّ أصل البول الماء، و الفضيلة عطيّة من اللّه يخرج الكافر من المؤمن، و النور من الظلمة و الظلمة من النور، و الفضل إنّما يكون بالأعمال لا بسبب الموادّ ألا ترى أنّ الحبشيّ المطيع أفضل من القرشيّ العاصي؟.

ص: 315

ثمّ احتجّ من قال: إنّه لا يجوز تخصيص عموم النصّ بالقياس بهذه الآية؛ لأنّ إبليس أخرج نفسه من هذا الحكم العامّ للسجود بالقياس و لا معنى للقياس إلّا ذلك، فلو كان تخصيص النصّ بالقياس جائزا لما استحقّ الذمّ حيث قال له: [فَاهْبِطْ مِنْها] و وقد نقل الواحديّ في البسيط عن ابن عبّاس أنّه قال: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربّه و هو أوّل من قاس فكفر بقياسه؛ فمن قاس الدّين برأيه قرنه اللّه بإبليس، انتهى كلام ابن عبّاس.

و هذا الخطاب مع إبليس إمّا بواسطة الملائكة أو بلا واسطة على سبيل الإهانه فأهبط منها.

قال ابن عبّاس: من جنّة عدن و فيها خلق آدم لا جنّة الخلد و قيل: من السماء؛ لأنّ أهل السماء ملائكة يتواضعون لأمر اللّه و هو تكبّر و خالف فأهانه اللّه بالذلّة و الصغار.

[سورة الأعراف (7): الآيات 14 الى 17]

قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)

المعنى: فطلب اللعين الإنظار من اللّه إلى وقت البعث و هو النفحة الثانية، و مقصود اللعين أن لا يذوق الموت فلم يعطه اللّه ذلك بل [قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فههنا قولان:

الأوّل أنظره إلى النفحة الاولى، لأنّه سبحانه قال في آية اخرى: «فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»* (1) و المراد منه اليوم الّذي يموت فيه الأحياء كلّهم.

و قال آخرون: لم يوقّت اللّه له أجلا بل قال له: «إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ» و قوله:

«إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»* أي المعلوم في علم اللّه، و الدليل على ذلك أنّ إبليس كان مكلّفا، و المكلّف لا يجوز أن يعلم وقت أجله لأنّه يعلم ذلك المكلّف أنّه متى تاب قبلت توبته، فإذا علم وقت موته هو الوقت الفلانيّ أقدم على المعاصي بقلب فارغ فإذا قرب

ص: 316


1- الحجر: 37- 38، ص: 81- 82.

موته تاب فينحلّ النظام؛ فتعيّن الوقت يجري مجرى الإغراء بالقبيح و ذلك غير جائز على اللّه.

ثمّ نسب اللعين الإغواء إلى اللّه فقال: [فَبِما أَغْوَيْتَنِي مع أنّ اللعين هو تسبّب الغواية حيث تكبّر عن السجود فصار إمام الجبريّة و رئيسهم. و قيل: الغواية معناه الإهلاك.

ثمّ قال اللعين: بسبب أنّك لعنتي و طردتني و خيّبتني من جنّتك لأقعدنّ لهم و أمنعهم عن السلوك إلى الجنّة، و اعوجهم عن الاستقامة في الدّين بأن ازيّن لهم الباطل و اسعي في إغوائهم و أواظب على الإفساد، و لا أفتر عن إفسادي إيّاهم، و لهذا المعنى عبّر اللعين بالقعود لأنّ القاعد في أمر أفرغ باله و جهده في إتيان أمره و قصده، و هذه الآية تدلّ على أنّه كان عالما بدين الحقّ و الصراط المستقيم؛ فكفره كفر عناد و جحود و هو أعظم أنواع الكفر.

فلو قيل: إنّ إنظار إبليس هذه المدّة الطويلة اقتضى حصول المفاسد العظيمة ثمّ بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق و علم من حال إبليس أنّه لا يدعوا إلّا إلى الكفر و الضلال فأمات الأنبياء و أبقى إبليس.

فالجواب أنّ إبقاء إبليس و أثره في الإضلال ليس بطريق الإجبار و لا يقول عاقل: إنّ إبليس أجبر أحدا على الكفر بحيث لا يتمكّن عن قبول الإيمان، فلو كان الأمر كذلك لكان للقائل بهذا القول حجّة و ليس إنظاره بأكثر من خلق الشهوة في النفس فهو كهي فكما أنّ الشهوة لا تحملكم بالإجبار على الزنا فكذلك إمهال الشيطان، كما يقول اللعين لكم يوم القيامة: «إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» (1) فثبت أنّ إطاعتك إيّاه موجب لكفرك لا إمهاله، و لو نقلت الكلام إلى الشهوة فأنت إذا تقول: لم كلّفنا اللّه بالتكليف؟ لأنّ التكليف لا بدّ و أن يقع بين أمرين: من قبول و ردّ، و لو كان من طرف و أمر واحد لكان إجبارا و ليس بتكليف؛ لأنّ التكليف لا يتحقّق ماهيّته إلّا إذا كان المكلّف متمكّنا من الردّ و القبول.

ص: 317


1- ابراهيم: 27.

ثمّ إنّه إذا أمات الأنبياء الّذين كانوا أسباب الهداية ما نقص من أسباب الهداية لكم شيئا بسبب إبقاء كتابه فيكم و أنّ نبيّه بيّن لكم الحقّ بقوله، و قوله في كتابه باق لكم؛ فأيّ عذر لكم في ترك قول النبيّ و إطاعة الشيطان؟ و جعل قوّة القبول و الردّ فيكم متساوية لأنّه مهما ترصّد لكم الشيطان بغوايته و إضلاله فقد ترصّد لكم العقل بهدايته فتساوت القوّتان فلم تركت هذه و أدركت هذه؟ و للّه الحجّة البالغة و الحمد له.

رجع إلى التفسير:

[ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي الدنيا [وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أي الآخرة أي أوسوس لهم بالتكذيب للبعث و القيامة [وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ في الصرف عن الحقّ [وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ في الترغيب إلى الباطل و أفترهم عن فعل الحسنات، أي احيط بهم من الجهات في إغوائهم.

روي أنّه لمّا قال الشيطان هذا الكلام وقت قلوب الملائكة للبشر فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلّص الإنسان من هذه العدوّ المستولي عليه من هذه الجهات الأربع؟

فأوحى اللّه إليهم: أنّه قد بقي للإنسان جهتان: الفوق و التحت؛ فإذا رفع يديه إلى السماء في الدعاء أو وضع جبينه على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة.

ثمّ هنا نكتة: و هي أنّه تعالى ذكر الجهتين الأوليين بمن و الأخريين بعن و لا بدّ من الفرق بينهما و هو أنّه إذا قال: جلس عن يمينه معناه أنّه جلس متجافيا عن صاحب اليمين غير ملتصق به؛ قال اللّه: «عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ» (1) فبيّن سبحانه أنّه حضر على هاتين الجهتين ملكان و لم يحضر في القدّام و الخلف ملكان و الشيطان يتباعد من الملك فلهذا خصّ اليمين و الشمال بكلمة «عَنْ» لأجل أفادته البعد عن الملك، أو المراد أنّ اللعين يأتي من الجهات الأربع كما هو شأن العدوّ.

ص: 318


1- ق: 16.

[سورة الأعراف (7): آية 18]

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

«الذءم» أشدّ العيب. و «الدحر» أشدّ الهوان. و «اللام» في قوله: «لَمَنْ تَبِعَكَ» لام الابتداء. و اللّام في قوله «لَأَمْلَأَنَّ» لام القسم.

لمّا وعد إبليس بالإفساد خاطبه اللّه على طريق الزجر: اخرج من الجنّة أو من السماء محقورا مطرودا، و قيل: «اللام» في قوله «لَمَنْ تَبِعَكَ» لام القسم، و الجواب لأملأنّ و قرء «لَمَنْ تَبِعَكَ» بكسر اللّام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد أملؤ جهنّم من التابع و المتبوع.

ثمّ إنّ الكافر تبعه فكذلك الفاسق تبعه فيجب القطع بدخول الفاسق النار، و هذا قول المعتزلة.

و أجاب بعض أنّ المذكور في الآية أنّه تعالى يملؤ جهنّم ممّن تبعه، و ليس في الآية أنّ كلّ من تبعه فإنّه يدخل جهنّم.

[سورة الأعراف (7): آية 19]

وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

قوله: [وَ يا آدَمُ عطف على قوله «قالَ» أي قال اللّه لآدم: [اسْكُنْ - من السكنى لا من السكون- أنت و حوّاء أي اسكني أنت و كلا من أين شئتما و ما شئتما [وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ] و تفصيل الشجرة ذكر في سورة البقرة. و إن أكلتما منها فتكونا من الباخسين و المتضرّرين بهذا الأكل.

و في هذه الآية عشر مسائل ليس هنا موضع ذكره، و قد مضى في سورة البقرة شرحها، و مجملها أنّ «اسْكُنْ» أمر تعبّد أو إباحة من حيث إنّه لا مشقّة فيه فلا يتعلّق به لتكليف.

الثاني: كيفيّة خلق حوّاء.

الثالث أنّ تلك الجنّة هل جنّة الخلد أو من جنان الدنيا أو من جنان السماء؟

و الرابع: أمر «فَكُلا» أمر إباحة لا أمر تكليف.

ص: 319

الخامس: «لا تَقْرَبا» نهي تحريم أو نهي تنزيه؟

السادس: هذه الشجرة شخصيّة أو نوعيّة؟

السابع: أيّ شجرة كانت؟

الثامن أنّ ذلك الذنب صغير أم كبير أو ترك أولى؟.

التاسع: ما المراد من قوله: «فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» و هل يلزم من هذا التقريب إلى الشجرة الدخول تحت قوله: «أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» (1) و حاشا أن يكونا كذلك؟

العاشر أنّ هذه الواقعة قبل النبوّة أو بعد النبوّة؟ و تفصيل المسائل من أراده فليراجع في سورة البقرة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 20 الى 22]

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

المعنى: وسوس إذا تكلّم بكلام خفيّ يكرّره و به سمّي صوت الحلي وسواسا و الفرق بين «وسوس له» و «وسوس إليه» أنّ «إليه» معناه ألقى إلى قلبه المعنى بصوت خفيّ و «اه» معناه أوهم النصيحة في ذلك الكلام الخفيّ فوسوس لآدم و حوّاء ليظهر لهما ما ستر عنهما ممّا يكون أن يستتر أي العورة، علما منه اللعين أنّ من أكل من هذه الشجرة لا بدّ أن تبدي عورته، و من بدت عورته لا يترك في الجنّة فاحتال لهما بهذا الطريق في إخراجهم عن الجنّة.

و في كيفيّة الوصول إليها أقوال لأنّ آدم كان في الجنّة و إبليس قد اخرج منها.

قيل: كان يوسوس من الأرض إلى الجنّة بالفوقيّة المجعولة في تلك الطبيعة الناريّة.

ص: 320


1- هود: 21.

و قال أبو مسلم: بل كان آدم و إبليس في الجنّة و إنّها كانت بعض جنّات الأرض و الّذي يقوله الناس من أنّ إبليس دخل في جوف الحيّة هذه قصّة ركيكة مشهورة.

و قال آخرون: إنّ آدم و حوّاء ربّما قربا باب الجنّة و يأتي إبليس من خارج الجنّة على بابها و حصلت الوسوسة هناك.

و «اللّام» في قوله «لِيُبْدِيَ» لام العاقبة و لا يبعد أنّ اللّام لام الغرض لسقوط الحرمة و زوال نعمتهما عبادة لهما، أو لعلّه رأى اللعين في اللوح أو سمع من الملائكة أنّ لازم الأكل خروج عن الجنّة قال لهما: إنّما نهاكما اللّه عن أكل هذه الشجرة كراهة أن تكونا ملكين و كراهة الخلود، فإن أكلتما صرتما من الملائكة و مخلّدين في الجنّة و قرء «ملكين» بكسر اللام و المراد جهة الملك لا الملكوت.

و يدلّ على هذا المعنى قوله: «هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (1) و حلف لهما أنّي لكما من الناصحين و إنّما قاسمهما لأنّهما قبلا قسمه ظنّا منهما أنّه لا يقسم باللّه أحد بالكذب.

ثمّ إنّ اللعين قال لهما: إنّي خلقت قبلكما و أعلم أمورا كثيرة لا تعرفونها [فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ] و أطمعهما و أصله أنّ الرجل العطشان تدلّى الدلو أو رجليه في البئر ليأخذ منها الماء فاستعملت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه فقال: «دلا» أي أطعمه فلمّا قبلا يمينه و ذاقا ظهرت عوراتهما و نزع عنهما لباسهما و كان من النور فشرعا يجعلان ورقة على ورقة كالمرقع للنّعل و يقال للمرقع خصاف.

و ناداهما اللّه ألم أنهكما عن تلك الشجرة؟

[سورة الأعراف (7): آية 23]

قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)

قال بعض علماء العامّة: إنّ الآية إذا دلّت على صدور الذنب منه فذلك قبل النبوّة فالإيراد مدفوع، لكنّ القول الصحيح أنّه من قبيل «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» و محمول على ترك الأولى.

[سورة الأعراف (7): الآيات 24 الى 25]

قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ (25)

ص: 321


1- طه: 118.

قيل: الخطاب للثلاثة، و قيل: لهما [اهْبِطُوا] من محلّكم الرفيع و حصلت العداوة بينكما و بين إبليس و الأصحّ أن خطاب الهبوط لآدم و حوّاء و ذريّتهما؛ لأنّ إبليس قبل ذلك كان مخرجا عن الجنّة. و جملة «اهْبِطُوا» حاليّة. و لكم في الأرض استقرار و تمتّع إلى حين انقطاع آجالكم و إعادة قول «قالَ» للاستيناف إيذانا بعدم اتّصال ما بعده بما قبله، و التوجّه بما بعده.

قال: [فِيها] أي في الأرض تعيشون [وَ فِيها تَمُوتُونَ و من الأرض [تُخْرَجُونَ للجزاء.

[سورة الأعراف (7): آية 26]

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

النظم: قيل: إنّ المشركين كانوا يطوفون بالبيت بعضهم عراة و يقولون: لا نطوف بثياب عصينا اللّه فيها، قيل: مرادهم أبوهم آدم أيضا فأنزل اللّه الآية، و لمّا أهبط اللّه آدم، و جعل لهم الأرض مستقرا بيّن لهم أنّه أنزلنا ما يحتاجون إليه و الأحوج يواري العورة أوّلا، و معنى الإنزال ما يحصل به اللباس من السماء و هو الماء الّذي مادّة كلّ شي ء، كقوله: «وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» (1) و كقوله: «وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» (2).

و منّ على بني آدم بثلاثة أقسام من اللباس؛ قسم ليستروا به عورتهم، و قسم للزينة و القسم الثالث لباس التقوى، أمّا الأوّل فقال: [يُوارِي سَوْآتِكُمْ و أمّا الزينة فقال: [وَ رِيشاً] استعير من ريش الطير لأنّ الريش للطير زينة و لولاه لكان مستقبحا، و قرء «و رياشا» و القسم الثالث خير منهما لأنّ به يستفدك كلّ حسن و جميل و المؤمن غير بادي العورة و إن كان عاريا، و الفاجر بادي العورة و إن كان كاسيا و أضيف اللباس إلى التقوى لأنّ به يتجمّل عند اللّه و كما أضيف إلى الجوع في قوله: فأذاقها لباس الجوع و الخوف. (3)

ص: 322


1- الحديد: 25.
2- الزمر: 8.
3- النحل: 113.

[سورة الأعراف (7): آية 27]

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)

اعلم أنّ المقصود من ذكر قصص الأنبياء حصول العبرة، و لمّا ذكر قصّة آدم و عداوة إبليس إيّاه أتبعها لتحذير أولاده من قبول وسوسته؛ فقال: [لا يَفْتِنَنَّكُمُ كما افتنّ أبويكم فإذا افتنّكم يدخلكم النار [يَنْزِعُ عَنْهُما] جملة حاليّة و «اللام» في [لِيُرِيَهُما] لام العاقبة. و في «للباس» قيل: المراد لباس التقوى و قيل: لباس الجنّة و لباس النور.

ثمّ حذّر سبحانه أنّ الشيطان يراكم هو و قبيله، و تكرير الضمير بقوله «هُوَ» ليحسن العطف كما في قوله: «اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ»* «القبيل» الجماعة أي أصحابه و نسله و قوله: «يَراكُمْ» يتناول أوقات المستقبل. و قدرتهم على البشر بطريق الوسوسة لا غير.

قال بعض العلماء: و لو قدر الجنّ على تغيير صورهم بأيّ صورة شاءوا لوجب أن يرتفع الثقة عن معرفة الناس؛ فلعلّ هذا الّذي أشاهده و أحكم عليه بأنّه ولدي أو زوجتي شيطان صوّر نفسه بصورة ولدي، كذلك لو كانوا قادرين على تخبيط الناس، و إزالة العقل عنهم و التصرّف فيهم كيف شاؤوا مع عداوتهم على نوع البشر خصوصا في حقّ بعض الطبقات من الزهّاد و العلماء، و لمّا لم يوجد شي ء من ذلك علمنا أنّه لا قدرة لهم على البشر إلّا بطريق الوسوسة لا غير، و قد قابلها العقل، و هذا الطريق ليس بشي ء من القدرة.

[سورة الأعراف (7): آية 28]

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)

قيل في بيان الآية: إنّ الحمس (1) و هم طائفة من المشركين يطوفون البيت و هم

ص: 323


1- بضم الحاء قبائل من العرب قد تشددت في دينها فكانت لا تستظل ايام منى، و لا تدخل البيوت من ابوابها، و هي قريش و كنانة و من دان بدينهم من بنى عامر بن صعصعة. و قيل: هم قوم آخرون.

عراة يعبدون الأصنام و يقولون: نعبد إلهنا و نطوف عراة كما ولدتنا امّنا، و لا نطوف بثياب قارفنا فيها الذنوب.

قال الفرّاء: كانوا يعملون شيئا من السيور (1) يشدّونها على حقويهم و إن عمل من صوف يسمّى رهطا و كانت المرأة تضع على قبلها النسعة مع عدم كونه صوفا فيقول:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه و ما بدا منه فلا احلّه

يعني الفرج لأنّ ذلك لا يستر سترا تامّا فنهاهم اللّه عن هذا الفعل و هذه الفاحشة، و حجّتهم بإتيان هذه العادة الملعونة أنّه إنّا وجدنا آباءنا يفعلون هذا العمل زعما أنّ هذا دليلهم.

ثمّ أتوا بدليل آخر بزعمهم حيث قالوا: [وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها] فردّ اللّه عليهم بأنّ اللّه لا يأمر بالسوء و الفحشاء، فهل سمعتم منه تعالى بلا واسطة أو عرفتم ذلك بطريق الوحي إلى الأنبياء؟ أمّا الأوّل فبديهيّ البطلان و أمّا الثاني فباطل أيضا؛ لأنّكم تنكرون نبوّة الأنبياء على الإطلاق، فإذن لا طريق لكم على العلم بهذا الأمر؛ فكيف تقولون على اللّه ما لا تعلمون؟

و احتجّ نفاة القياس بهذه الآية، و قالوا: الحكم المثبت بالقياس مظنون و غير معلوم و ما لا يكون معلوما لم يجز القول به لأنّه تعالى قال في معرض الذمّ: «أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»؟

[سورة الأعراف (7): الآيات 29 الى 30]

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

لمّا بيّن اللّه أنّه لم يأمر بالفحشاء أمر في هذه الآية بالعدل و القسط، قال ابن عبّاس: هو قول «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»* هذا أمر بثلاثة أشياء: شهادة للّه بالفرديّة و هو حقيقة القسط، و الثاني معرفة اللّه في أفعاله و صفاته و أحكامه، ثمّ أمر بأهمّ العبادات و هو

ص: 324


1- السيور جمع السير و هو قطعة من جلد مستطيلة. و يقرب منه النسعة- بالكسر- فإنها حبل يشد به الرجال.

قوله: [وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي و قل لهم: بأن تقيموا الصلاة، و قدّر: قل لهم أقيموا لأنّ عطف الإنشاء على الخبر لا يجوز، (1) و المراد من «أَقِيمُوا» استقبال القبلة.

ثمّ قال: [عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] و المراد زمان الصلاة أو مكان الصلاة، و الأوّل أولى، قال ابن عبّاس: المراد إذا حضرت أوقات الصلاة و أنتم عند مسجد فصلّوا فيه و لا يقولنّ أحدكم لا أصلّي إلّا في مسجد قومي كما كانوا يقولون، ثمّ أمر بالدعاء على سبيل الخلوص و التقرّب، و المراد بالدعاء الصلاة؛ لأنّ الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء و لأنّ أشرف أجزاء الصلاة الدعاء و الذكر.

ثمّ قال: [كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي كما كنتم تبعثون مؤمنا أو كافرا تعودون، و قيل: معناه: كما بدأكم و لم تكونوا شيئا كذلك تعودون أحياء.

و يؤيّد هذا المعنى أنّه ذكر عقيبه: [فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ] و المراد من الفريقين: فريقا هدى إلى الجنّة بسبب قبوله الإيمان و فريقا حقّ عليهم العذاب بقبولهم الكفر؛ فيحكم على الفريقين ما يستحقّون، و انتصاب «فَرِيقاً» بفعل محذوف يفسّره ما بعده كأنّه قال: «هدى فريقا و خذل فريقا».

ثمّ بيّن الّذي لأجله حقّت على هذه الفرقة الضلالة و هو [إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقبلوا دعواهم و لم يقبلوا الحقّ من اللّه و مع ذلك يزعمون أنّهم باتّخاذ الشياطين أولياء مهتدون.

[سورة الأعراف (7): الآيات 31 الى 32]

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

النظم: كانت القريش إذا وصلوا إلى معبدهم طرحوا ثيابهم و لا يأكلون من الطعام إلّا قوتا و لا يأكلون دسما، فقال المسلمون: يا رسول اللّه نحن أحقّ بذلك

ص: 325


1- احتمل الطبرسي كونه عطفا علي جملة «لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ» و عليه يكون من عطف الإنشاء لفظا على الإنشاء معنى؛ فان تقديرها: احذروا الشيطان. و هذا جائز.

أن نفعل، فنزلت الآية أي البسوا ثيابكم و كلوا اللحم و الدسم و اشربوا و لا تسرفوا، و المراد من الزينة اللباس الفاخرة لأنّ الزينة لا يحصل إلّا بستر التامّ للعورات، و لذلك صار تجويد اللّباس و التزيين بأحسن الثياب في الجمع و الأعياد سنّة.

ثمّ إنّ المفسّرين أجمعوا على أنّ المراد بالزينة هاهنا الثوب الكامل الّذي يستر به العورة فيدلّ على وجوب ستر العورة عند إقامة كلّ صلاة و قوله: «خُذُوا زِينَتَكُمْ» أمر و الأمر للوجوب.

فإن قيل: عطف سبحانه على أخذ الزينة الأكل و الشرب و لا شكّ أنّ أمر الأكل و الشرب أمر إباحة فيقتضي أنّ أمر الأخذ بالزينة و اللباس إباحة.

و جوابه أنّه لا يلزم من ترك الظاهر من حقيقة الأمر في المعطوف تركه في المعطوف عليه و قد بيّن ترك الظاهر في المعطوف من دليل منفصل، ثمّ قد يكونان واجبين أيضا في مورد مخصوص عند الحاجة.

فلو قيل: إنّ هذه الآية نزلت في المنع عن المعطوف حال العرى.

فالجواب أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإذا ثبت أنّ ستر العورة واجب في الصلاة فوجب أن تفسد الصلاة عند تركه.

ثمّ إنّ قوله: «كُلُوا وَ اشْرَبُوا» مطلق يتناول الأوقات و الأحوال و الأصل في المنافع الحل و الإباحة إلّا ما خصّه الدليل المنفصل، فقوله: «وَ لا تُسْرِفُوا» تحديد للاستعمال بأن لا يتجاوز الحدّ في الأكل و الشرب.

ثمّ قال سبحانه: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ استفهام إنكاريّ، و قد بيّنّا معنى الزينة، فإن كان معناها ما يستر العورة فالآية اعتراض على العراة في الطواف و العرب الّذين كانوا يمسكون في الأكل و الشرب و اللحوم أيّام الموسم و على القول بأنّ المراد مطلق اللباس و التجمّل فيتناول جميع أقسام الزينة، و يدخل فيه تنظيف البدن، و يدخل تحتها أنواع الحليّ و المركوب الحسن و الغذاء المستلذّ.

روي عن عثمان بن مظعون أنّه أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و قال: غلبني حديث النفس عزمت أن أختصي. فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: مهلا يا عثمان إنّ خصاء امّتي الصيام.

ص: 326

قال: فإنّ نفسي تحدّثنى بالترهّب، قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ترهّب امّتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة.

فقال: تحدّثني نفسي بالسياحة، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: سياحة امّتي الغزو في سبيل اللّه و الحجّ و العمرة.

فقال: إنّ نفسي تحدّثني أن اطلّق خولة زوجتي و أهجر، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الهجرة في امّتي مهاجرة ما حرّم اللّه.

قال: فإن نفسي تحدّثني أن لا أغشاها قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ المسلم إذا غشي أهله أو ما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولدا كان له و سيف في الجنّة، و إذا كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرّة عين و فرح يوم القيامة، و ان كان مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعا و رحمة يوم القيامة.

قال: فإنّ نفسي تحدّثني أن لا آكل اللحم، قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: مهلا إنّي آكل اللحم إذا وجدته و لو سألت اللّه أن يطعمنيه كلّ يوم فعله.

قال: فإنّ نفسي تحدثني أن لا أمسّ الطيب قال: مهلا فإنّ جبرئيل أمرني بالطيب غبّا، و قال: لا تتركه يوم الجمعة.

ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عثمان لا ترغب عن سنّتي فإنّ من رغب عن سنّتي و مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي.

و هذا الحديث يدلّ على أنّ في هذه الشريعة كلّ أنواع الزينة و الأطعمة مباح إلّا ما خصّه الدليل، لكن أيّها المكلّف تدبّر في ما يقع بيدك و لا تجعل أصل الإباحة مناطا لحلّيّة ما حلّ في كفّك فتكون من القائلين بأنّ الحلال ما حلّ في الكفّ، نعم إذا خلص الأشياء من الحذر فالأصل فيها الإباحة، و لا بدّ من التفقّه في المكاسب.

[قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا] المعنى أنّ النعم في الحياة الدنيا غير خالصة للمؤمنين لأنّ المشركين شركاؤهم في التمتّع منها و أمّا في الآخرة فهي خالصة للمؤمنين و أنّ هذه النعم مشوبة بالكدورات، و في الآخرة صافية.

فإن قيل: هلّا قيل في الآية: للّذين آمنوا و لغيرهم للتّنبيه على أنّها خلقت

ص: 327

للمؤمنين بالأصالة و الكفرة تبع لهم.

و حاصل المعنى أنّ النعم شائبة في الحياة الدنيا للمؤمنين و خالصة لهم في الآخرة.

[كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي مثل هذا التفصيل نفصّل سائر الأحكام للمتدبّرين.

[سورة الأعراف (7): آية 33]

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)

قيل: «الْفَواحِشَ» الكبائر و «الْإِثْمَ» الصغائر و قيل: «الْإِثْمَ» مطلق الذنب و «الْفَواحِشَ» الكبائر، و قيل «الفاحشة» اسم لما يجب عليه الحدّ و «الْإِثْمَ» اسم لما لا يجب عليه الحدّ، و قيل: «الفاحشة» اسم لما تفاحش و تزايد في الأمور إلّا أنّه في العرف مخصوص بالزنا قال اللّه في الزنا «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً»* (1) و إذا قيل: فلان فحّاش فهم منه أنّه يشتم الناس بألفاظ الوقاع و على هذا المعنى «ما بَطَنَ» منها يريد الزناء سرّا و هو الّذي يقع على سبيل العشق و المخادنة، و «ما ظَهَرَ» بأن تقع علانية، و قيل: «الْإِثْمَ» مختصّ بالخمر لأنّه تعالى قال في صفة الخمر: «وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» (2).

الثالث من المحرّمات البغي بغير حقّ و البغي لا تستعمل إلّا على الاستطالة على الناس للترؤس ظلما نفسا أو مالا أو عرضا.

فإن قيل: البغي لا يكون إلّا بغير حقّ فما الفائدة في الذكر؟ و المعنى: لا تقدموا على إيذاء الناس بالقهر إلّا أن يكون لكم فيه حقّ فحينئذ يخرج عن كونه بغيا.

الرابع: الشرك [وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ أي امتنعوا عن الشرك لأنّه ليس لكم بارتكاب الشرك سلطان و حجّة، لأنّ الإقرار بالشي ء الّذى ليس على ثبوته حجّة؛ فالثبات عليه قبيح.

ص: 328


1- الإسراء: 34.
2- البقرة: 216.

و الخامس [وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي بغير علم تحكمون في الدين تحرّمون حلاله و تحلّلون حرامه.

فإن قيل: كلمة «إِنَّما» تفيد الحصر و المحرّمات غير محصورة في هذه الخمسة؟

قلنا: إن قلنا: إنّ الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر و الإثم على مطلق الذنب دخل كلّ الذنوب و إن حملنا الفاحشة على الزنا و الإثم على الخمر فقلنا: الجنايات محصورة في خمسة أنواع:

أحدها: الجنايات على الأنساب و هي تحصل بالزنا و هي المراد بقوله «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ».

و ثانيها: الجنايات على العقول و هي شرب الخمر و إليه الإشارة بقوله تعالى:

«وَ الْإِثْمَ».

و ثالثها: الجنايات على النفوس و الأعراض و الأموال، و إليه الإشارة بقوله:

«وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ».

و رابعها: الجنايات على الأديان و الطعن في توحيد اللّه و إليه الإشارة بقوله:

«وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ».

و خامسها: الجنايات في الأحكام العمليّة كالحرام و الحلال و إليه الإشارة بقوله:

«وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ».

فهذه اصول الجنايات و البواقي مندرجة تحت هذه الخمسة، لا جرم جعل سبحانه ذكرها جاريا مجرى ذكر الكلّ؛ فصحّ كلمة «إِنَّما» و إنّما يعرف القرآن من خوطب به.

[سورة الأعراف (7): آية 34]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

أي و لكلّ جماعة و أهل عصر مدّة من الحياة، فإذا جاء أجلهم و انقضت المدّة لا يتأخّرون عن الموت و لا يتقدّمون في وقوعه، و أتى بلفظ الساعة لأنّ هذا اللفظ أقلّ أسماء الأوقات و يعبّر عنها بالآن.

[سورة الأعراف (7): الآيات 35 الى 36]

يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)

ص: 329

لمّا ذكر في الآية السابقة ما يضرّهم من الأمور من المعاصي عقّبه بذكر ما ينفعهم من الأمور الدينيّة و خاطب جميع المكلّفين فقال: إن يأتكم رسل من جنسكم و يبيّنون رسالاتهم لكم، فمن لازم اقتفاءهم و اتّقى نواهيهم و أصلح عمله بقبول قولهم فليس عليهم خوف في الدّنيا و لا هم يحزنون في الآخرة، و الّذين استكبروا بحججنا و كذّبوا بآياتنا و خالفوهم فهم ملازمون النار و مخلّدون إلى الأبد.

و إنّما قال: «رُسُلٌ» و الخطاب إلى الرسول لأنّه أجرى الكلام على ما تقتضيه سنّته في الأمم.

و اختلف الكلاميّون في أنّ المؤمنين من أهل الطاعات هل يلحقهم خوف و حزن عند أهوال القيامة؟ فذهب بعضهم إلى أنّه لا يلحقهم ذلك، و الدليل عليه قوله: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» (1).

و ذهب بعضهم بأنّه يلحقهم الفزع لقوله: «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ الآية» (2) و أجابوا عن آية «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» بأنّ معناه أنّ أمرهم يؤول إلى العافية و السرور، كقول الطبيب للمريض: لا بأس عليك أي أمرك يؤول إلى العافية و إن كان في الوقت في بأس من علّته.

ثمّ تمسّكوا أصحاب السنّة بهذه الآية على أنّ الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلّدا في النار لأنّه تعالى قال في الجاحدين و المستكبرين: «هُمْ فِيها خالِدُونَ» و كلمة هم يفيد الحصر فذلك يقتضي أنّ من لا يكون موصوفا بهذه الصفة لا يبقى مخلدا في النار.

[سورة الأعراف (7): آية 37]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)

ص: 330


1- الأنبياء: 103.
2- الحج: 2.

المعنى: فمن أعظم ذنبا ممّن يقول على اللّه ما لم يقله أو كذّب ما قاله لأنّ الأوّل افتراء و هو الحكم بوجود ما لم يوجد، و الثاني التكذيب و هو الحكم بإنكار ما وجد، ثمّ إنّ الأوّل دخل فيه قول من أثبت للّه شريكا، و الثاني يدخل فيه من أنكر كون القرآن كتابا نازلا من عند اللّه.

ثمّ أوعد بقوله: [أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي العذاب المعيّن في اللّوح، و الأقرب أنّ المراد ما كتب لهم من الأعمار و الأرزاق.

فإذا فنيت و انقرضت جاءتهم رسلهم يتوفّونهم و هم ملك الموت و أعوانه، قال الرسل لهم: أين الآلهة الّتي كنتم تعبدونها من دون اللّه؟ قالوا: ضلّوا و غابوا عنّا لا ندري أين مكانهم و «ما» في «أَيْنَ ما» موصولة.

[وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ في الدنيا و عابدين لما لا يستحقّ العبادة أصلا.

[سورة الأعراف (7): الآيات 38 الى 39]

قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

هذه الآية شرح أحوال الكفّار بعد الموت قيل: القائل هو اللّه، و قيل: هو من كلام خازن النار: ادخلوا في النار مع امم و جماعة فحرف «فِي» بمعنى مع الّذين تقدّم زمانهم زمانكم و هذا المعنى يشعر بأنّ اللّه لا يدخل الكفّار بأجمعهم في النار دفعة واحدة بل يدخل الفوج بعد الفوج؛ فيكون فيهم سابق و مسبوق و يشاهد الداخل من الأمّة في النار من سبقها.

[كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها] أي مثلها في الدين و العقيدة فيلعن و يتبرّأ بعضهم من بعض مثل أنّ المشركين يلعنون المشركين و اليهود اليهود و النصارى النصارى و سائر فرق الكفر.

ص: 331

[حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا] و تلاحقوا و اجتمعوا في النار [قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا فيها [لِأُولاهُمْ دخولا أو التابعين للمتبوعين و السفلة للرؤساء «و اللام» في قوله «لِأُخْراهُمْ» لام أجل أي لأجل إضلالهم إيّاهم: [رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا] لأنّهم غرّونا بالدّعوة إلى لباطل متأسّيا بهم فيستدعون من اللّه أن يزيد العذاب على المتقدّمين لهم.

[فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ] و في «الضِّعْفِ» اختلاف أقلها مثليه. قال اللّه: لكلّ من التابع و المتبوع عذاب مضاعف أي كثير؛ لأنّهم قد دخلوا الكفر جميعا [وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ و قرء بالياء أي لا يعلم كلّ فريق مقدار عذاب الآخر، أو المعنى: أنتم يا أهل الدنيا لا تعلمون مقدار عذابهم.

فإن قيل: إن كان المراد من قوله لكلّ أحد ضعف ما استحقّوه فذلك غير جائز لأنّه ظلم و إن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفا؟ فالجواب أنّ المراد من البيان أنّ عذاب الكفّار يزيد و لا يبقي على نهج واحد فكلّ ألم يحصل فإنّه يحصل عقبه ألم آخر إلى غير النهاية فكانت الآلام متضاعفة متزايدة لا إلى آخر، و لا ينافي هذا من أن يكون عذاب المضلّ ضعف عذاب الضالّ.

[وَ قالَتْ أُولاهُمْ أي الرؤساء في الضلال و الإضلال للتابعين: [فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي في ترك الكفر و أنّا مشاركون في الكفر و استحقاق العذاب و لو أنّ هذا الكلام منهم كذب [فَذُوقُوا الْعَذابَ يمكن أن يكون من قول اللّه، و يمكن أن يكون قول المتبوعين.

[سورة الأعراف (7): الآيات 40 الى 41]

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

بيّن سبحانه مقته و وعيده المكذّبين و المستكبرين بأوامره و شرح كيفيّة خلودهم، و المراد جميع أصناف الكفّار من منكري التوحيد و النبوّات؛ لأنّ التكذيب يتناول الكلّ و الاستكبار الترفّع بالباطل.

[لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ] قرء تفتّح مخفّفة و مشدّدة، قال ابن عبّاس: لا تفتح

ص: 332

لأعمالهم و لا يقبل منهم طاعة و هذا معنى قوله: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» (1).

و قيل: المراد: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء و تفتح لأرواح المؤمنين، و يؤيّد هذا المعنى هذا الحديث من أنّ روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال لها: مرحبا بالنفس المطمئنّة الّتي كانت في الجسد الطيّب، و يقال لها ذلك حتّى تنتهي إلى السماء السابعة.

و يستفتح لروح الكافر فيقال لها: ارجعي ذميمة فإنّه لا يفتح لك أبواب السماء لأنّ الجنّة في السماء و السماء موضع بهجة الأرواح و أماكن سعاداتها و منها ينزل الخيرات.

[وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ] و هذا وعيد شديد. «و السمّ» بالفتح و الضمّ ثقب الإبرة، و قرء بالحركات الثلاث في السين و كلّ ثقب لطيف في كلّ شي ء فهو سمّ و جمعه سموم و منه السمّ القاتل «و الجمل» قرء على أقسام، أمّا المعروف فالجمل و هو كالمثل السائر في عظم الجثّة و «ثقب الإبرة» أضيق المنافذ فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة محالا، فبيّن سبحانه أنّ هذا الأمر مشروط بوقوع هذا الشرط و أنّه محال فذلك محال.

قال ابن عبّاس «الجمل» على وزن «قمل» و قرء بوزن «القفل» و قرء بوزن «النصب» و معناه القلس الغليظ للسّفينة. و الحبل الغليظ أنسب إلى الإبرة.

و بالجملة [وَ كَذلِكَ أي و مثل هذا الّذي وصفناه [نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين بآيات اللّه، ثمّ وصف المكان الّذي يدخلون فيه و هو جهنّم، و لهم بعد دخولهم غطاء و وطاء من النار محيطة بهم من تحتهم و من فوقهم و «جَهَنَّمَ» غير منصرف للعلميّة و التأنيث و هي من الجهامة و هي الغلظ لشدّة أمرها أو من الجهائم؛ و هي بئر بعيدة القعر و «غَواشٍ» أصله «غواشي» حذف الياء للتخفيف و عوّضوا النّون.

[سورة الأعراف (7): الآيات 42 الى 43]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

ص: 333


1- فاطر: 11.

في الآية ذكر الوعد بالخلود بالجنان.

المعنى: و الّذين صدّقوا و عملوا بأوامره أولئك أصحاب الجنّة مخلّدون فيها.

و قوله: [لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها] قيل: معترضة للتأكيد لبيان أنّ الإيمان و العمل الصالح أمر دون الوسع و الطاقة و أنّ من استحقّ النار فمن نفسه و ليس الإيمان أمر صعب لا يتمكّنون منه، و الكفّار كانوا يتمكّنون أن لا يدخلوا النار، ثمّ بعد دخول المؤمنين الجنّة أخرجنا ما في قلوبهم من الحسد فلا يتحاسدون بعضهم بعضا بسبب ارتفاع درجة بعضهم من بعض فإنّ هذا أمر يوجب التباغض لكي يكونوا في غاية اللّذة.

و قال المؤمنون: الحمد للّه الّذي أعطانا هذه النعمة و هدانا إلى الجنّة و ما كنّا نرد هذا المكان المنيع لو لا هدايته و قبولنا الإيمان بنبوّة أنبيائنا، و جاءت رسل ربّنا بالحقّ بما بيّنوا لنا من كتابهم و شرعهم، و يناديهم مناد من قبل اللّه: هذه تلكم الّتي وعدتهم بها.

و يجوز أن يكون الخطاب منه سبحانه بأن يخلق كلاما، و إنّما قال: «تِلْكُمُ» لأنّهم وعدوا في الدنيا بهذه اللذائذ، أورثتموها كما أنّ الميراث اختصاص لأهله من دون معارض كذلك لكم، أو المعنى: جعلها اللّه لكم بدلا عمّا كان أعدّ للكفّار لو آمنوا.

روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من أحد إلّا و له منزل في الجنّة و منزل في النار أمّا الكافر فيرث المؤمن منزلة في النار و المؤمن يرث الكافر منزله في الجنّة و ذلك قوله:

أورثتموها بتوحيدكم و أعمالكم الصالحة.

ص: 334

[سورة الأعراف (7): الآيات 44 الى 45]

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)

«نَعَمْ» كلمة عدة و تصديق و «العوج» في الخلقة بفتح العين و في الطريقة والدين بكسرها.

المعنى: و بعد استقرار أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار. قوله: «وَ نادى أتي بلفظ الماضي و سينادي لتحقّق الوقوع ينادي أهل الجنّة أهل النار أن قد وجدنا ما وعد ربّنا في الكتب على لسان الرسل حقّا و حقيقة ثابتة فهل وجدتم ما قيل لكم من العذاب؟ قالوا: نعم فينادي مناد بينهم يسمع الفريقين. و «أَنْ» قرء مخفّفة و مشدّدة غضبه و لعنته على القوم الموصوفين بالكفر.

و قيل: إنّ المؤذّن خازن النار. و روي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه قال:

المؤذّن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام و في تفسير عليّ بن إبراهيم القميّ عن محمّد بن الحنفيّة عن عليّ عليه السلام أنّه قال: أنا المؤذّن قال ابن عبّاس: إنّ لعليّ عليه السلام في كتاب اللّه أسماء لا يعرفها الناس منها المؤذّن فهو يقول في ذلك: ألا لعنة اللّه على الظالمين الّذين كذّبوا بولايتي و استخفّوا بحقّي.

قوله تعالى: [سورة الأعراف (7): الآيات 46 الى 47]

وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)

المعنى: و بين أهل الجنّة و النار أو بين الفريقين حجاب هو المذكور في قوله:

«فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ» (1) له باب و هو الأعراف و اختلف في الرّجال قيل: إنّهم الّذين ساوى حسناتهم و سيّئاتهم فحالت حسناتهم بينهم و بين النار و حالت سيّئاتهم بينهم و بين الجنّة فجعلوا هناك حتّى يقضي اللّه فيهم ما شاء، ثمّ يدخلهم الجنّة برحمته، عن ابن عبّاس و ابن مسعود.

ص: 335


1- الحديد: 13.

و روى الثعلبيّ في تفسيره أنّ الأعراف موضع عال على الصراط عليه حمزة و العبّاس و عليّ و جعفر يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه. و قيل: إنّهم الملائكة في صورة الرجال يعرفون أهل الجنّة و أهل النار و يكونون خزنة الجنّة و النار أو يكونون حفظة الأعمال الشاهدين بها في الآخرة و قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: هم آل محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم و عرفوه. و لا يدخل النار إلّا من أنكرهم و أنكروه، و عن الحسن و مجاهد أنّ أهل الأعراف فضلاء المؤمنين. و قيل: إنّهم الشهداء و هم عدول الآخرة.

و عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليه السلام: أنّ الأعراف كثبان بين الجنّة و النار يتوقّف عليها كلّ نبيّ و خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده، و قد سبق المحسنون إلى الجنّة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الوافقين معه:

انظروا إلى الإخوان المحسنين و قد سبقوا إلى الجنّة، فيسلّم المذنبون عليهم و ذلك و قوله: «وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ».

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم [لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ أي يطمعون أن يدخلهم اللّه بشفاعة النبيّ و الإمام و ينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون: [رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .

[سورة الأعراف (7): الآيات 48 الى 49]

وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

المعنى: ثمّ ينادي أصحاب الأعراف و هم الأنبياء و الخلفاء أهل النار موبّخين و مقرّعين لهم:

[ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أي هؤلاء المستضعفين و الفقراء الّذين كنتم تستطيلون عليهم بدنياكم و تحقّرونهم؟

ثمّ يقولون لهؤلاء الفقراء عن أمر من اللّه لهم بذلك: [ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ و يؤيّده ما رواه عمر بن شيبة و غيره: أنّ عليّا قسيم الجنّة

ص: 336

و النار (1) و رواه أيضا بأسناده عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم إنّه قال: يا عليّ كأنّي بك يوم القيامة و بيدك عصا عوسج تسوق قوما إلى الجنّة و اخرى إلى النار. و روى أبو القاسم الحسكانيّ بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال: كنت جالسا عند عليّ عليه السلام فأتاه ابن الكوّاء فسأله عن هذه الآية؛ فقال: ويحك يا ابن الكوّاء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة و النار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة، و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار.

قوله: [يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ يعني هؤلاء الرجال الّذين هم على الأعراف يعرفون جميع الخلق بسيماهم. و قوله: [وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ] يعني الّذين على الأعراف ينادون أصحاب الجنّة [أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ و هذا التسليم تهنئة بما وهب اللّه لهم [لَمْ يَدْخُلُوها] أي لم يدخلوا الجنّة بعد [وَ هُمْ يَطْمَعُونَ طمع يقين؛ مثل قول إبراهيم: «وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي» و هو قول الحسن و أبو عليّ.

[سورة الأعراف (7): الآيات 50 الى 51]

وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)

ذكر سبحانه كلام أهل النار أي و سينادي أصحاب جهنّم أصحاب الجنّة- و أتى بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه-: أن صبّوا علينا من الماء يسكّن به العطش و يدفع به حرّ النار أو من الطّعام الّذي رزقكم اللّه قال أهل الجنّة جوابا: إنّ اللّه حرّم الماء و الطعام من الجنّة عليكم و «أَوْ» هنا للإباحة مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، و يزيل اللّه عنهم ما يمنع الاستماع مع بعد المسافة، أو يقوّي اللّه أسماعهم و أصواتهم و هم الّذين اتّخذوا في الدنيا دينهم مشتهياتهم و ما بالوا بأمر الدّين فحلّلوا ما شاؤوا في دنياهم فاليوم ننساهم أي كما نسوا هذا اليوم فننساهم مجازاة على عملهم و جحودهم بآياتنا.

ص: 337


1- القسيم لغة المقاسم و هو من يأخذ قسمه من شريكه و عليه فكون امير المؤمنين فسيما للنار له معنى محصل و أما انه عليه السلام قسيم الجنّة ففيه خفاء. و أورد في البصائر ص 122 روايات في هذا الباب فجاء في بعضها: قسيم النار و في بعضها: قسيم اللّه بين الجنّة و النار و في بعضها: صاحب النار و في بعضها: قسيم الجنّة و النار.

[سورة الأعراف (7): الآيات 52 الى 53]

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

و لمّا بيّن سبحانه حال هؤلاء الثلاثة من أهل الجنّة و النار و الأعراف كأنّه يقول لم فعلوا بأنفسهم هكذا؟ و نحن أتممنا عليهم الحجّة و جئناهم بكتاب على تفصيل يهدي إلى الرّشد و الصلاح و يؤمّن عن الغلط و الخبط، و هو هداية و رحمة لمن عمل به،؟ و ذلك التفضيل وقع على طريق العلم و الحكمة، و لمّا بيّن إزاحة العلة بتفضيل الكتاب بيّن حال المكذّبين به، فقال:

هل ينظرون أن يرون ما يؤول و ينتهي أمرهم و يتوقّعون عاقبة ما وعدوا به؟ يوم يأتي عاقبته أي يوم القيامة يقول الّذين تركوا العمل به و نبذوه وراء ظهورهم في الدّنيا و يعترفون بأنّه قد جاءت رسل ربّنا بالحقّ من ثبوت الحشر و المعاد و الثواب و العقاب يقولون: فهل لنا من شفعاء ليشفعوا لنا؟ أو هل لنا رجعة في الدنيا فنعمل غير الّذي كنّا نعمل من الكفر و المعاصي؟ فيخبر اللّه عن حالهم بأنّ الّذي طلبوه لا يمكن، و قد أهلكوا أنفسهم و غاب و بطل عنهم مفترياتهم بزعمهم أنّ أصنامهم شفعاؤهم: أولا جنّة و لا نار.

[سورة الأعراف (7): آية 54]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)

لمّا ذكر اللّه الكفّار و ضلالتهم بيّن لهم و لغيرهم مصنوعاته و دلّهم بمقدوراته و حتّى يتبصّرون بالدلائل و و يخرجون عن حالة العمى و الضلالة فخاطب جميع الخلق بقوله:

[إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أنشأ إبداعهما و أعيانهما في الست و أصله «سدس» أبدل السين الثانية تاء و لمّا كان مخرج الدّال و التاء قريبا ادغم الدال.

ص: 338

في التّاء فصار ستّ و ستّة، و الدليل عليه أنّك تقول في تصغير ستّة: سديسة.

فأبدعهما سبحانه لا من شي ء و لا على مثال.

ثمّ أمسك السماء بلا عماد يدعمها و كذلك الأرض في ستّة أيّام أي في مقدار ستّة أيّام؛ لأنّ ذلك الوقت ما كان ليل و لا نهار؛ فلمّا بيّن إبداعهما و خلقهما، و الخلق معناه: تقدير الشي ء على نحو معيّن، و العقل بالبداهة يحكم و يقضي بأنّ تقدير الشي ء بمقدار معيّن لا بدّ من مقدّر و إلّا يجوز الأزيد و الأنقص كما جاز هو، فكونه بمقدار معيّن لا يكون إلّا بتقدير المقدّر الفاعل المختار.

ثمّ إنّ كون هذه الأجسام أي الأجرام الفلكيّة و السماويّة متحرّكة في الأزل محال؛ لأنّ الحركة انتقال من حال إلى حال فالحركة يجب وجودها أن يكون مسبوقة بحركة اخرى، و الأزليّة ينافي المسبوقيّة، فكان الجمع بين الحركة و الأزل محالا قطعا؛ فإذا ثبت هذا الأصل فنقول:

الأفلاك و الكواكب و السماوات إمّا أن يقال: إنّ ذواتها كانت معدومة في الأزل ثمّ وجدت، أو يقال: إنّها كانت موجودة ذلك الوقت أو بعد ذلك الوقت، فإذا لم يكن كذلك- يعني لم تكن أزليّة لأنّ الأزليّة منافية مع الحركة و الحركة مسلّمة- فاختصاص ابتداء تلك الحركة بتلك الأوقات المعنيّة تقديرا و خلقا يدلّ و يلزم أن يكون بتقدير مخصّص قادر مختار و هو اللّه.

و دليل آخر: أنّ أجرام السماوات و الكواكب و العناصر مركّبة من أجزاء صغيرة، و لا بدّ أن يقال: إنّ بعض تلك الأجزاء حصلت في داخل تلك الأجرام و بعضها حصلت على سطوحها حتّى يتحقّق السطحيّة فاختصاص حصول كلّ واحد من تلك الأجزاء بحيّزه المعيّن و وضعه و شكله المخصوص لا بدّ و أن يكون بتخصيص مخصّص قادر مختار.

و دليل آخر أنّ كلّ واحد من الأفلاك أعلى من بعض و كلّا من الكواكب متحرّك أو الأفلاك متحرّكة إلى جهة مخصوصة و حركة مختصّة من البطي ء و السرعة، و ذلك خلق و تقدير و لا يكون التقدير إلّا من القادر المختار.

ص: 339

و كذلك أنّ كلّ واحد من الكواكب مختصّ بلون مختصّ مثل كمودة زحل و درّيّة المشتري و حمرة المرّيخ و إشراق الزهرة و صفرة عطارد، و الأجسام متماثلة في تمام الماهيّة؛ فاختصاص كلّ واحد منها بلونه المعيّن دليل على افتقارها إلى فاعل متصرّف واضع.

و لا يتوهّم من قوله تعالى «فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» و قوله: «وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» (1) تناقض لأنّه تعالى و إن كان قادرا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنّه بحكمته جعل لكلّ شي ء حدّا محدودا و لا يدخله في الوجود إلّا على ذلك الحدّ. و ذلك أقوى دليل على كونها واقعة بإحداث محدث لأنّه إذا وقع دفعة واحدة ثمّ انقطع طريق الإحداث يخطر بالبال أنّه إنّما وقع على سبيل الاتّفاق أمّا إذا أحدث على التدريج و التعاقب يكون الدليل أكمل و أتمّ.

و قوله «كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» بيان مقام القدرة، و قوله «فِي سِتَّةِ» مقام الفعل، ثمّ قد يكون بحسب المصلحة مقام الفعل أيضا يقع «كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ».

و قوله: [ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي تمّ و استقرّ ملكه بعد خلق السماوات و الأرض و ظهر ذلك للملائكة، و اخرج الكلام على المتعارف من كلام العرب كقولهم:

استوى الملك على عرشه أي انتظمت امور مملكته كما إذا اختلّ أمر سلطنته يقال:

شلّ عرشه قال الشاعر الجاهليّ:

إن يقتلوك فقد شلّت عروشهم بعتيبة بن الحارث بن شهاب

قال الفرّاء: معنى الآية: ثمّ بعد خلق السماوات و الأرض قصد إلى خلق العرش. و يدلّ هذا المعنى حيث إنّ خلق العرش وقع بعد خلق السماوات. و أولى معاني الاستواء في الآية أن يفسّر القرآن. قال اللّه: «وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى (2) أي استتمّ شبابه و قال: «كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ» (3) أي استتمّ ذلك الزرع و المراد إتمام خلقة العرش العظيم فإنّه أعظم المخلوقات و جميع ما خلق و يخلق دنيا و اخرى لا يخرج عن دائرة العرش، لأنّه حاو لجميع

ص: 340


1- القمر: 50.
2- القصص: 13.
3- الفتح: 29.

الممكنات حتّى الحجب و السرادقات، و الحقّ سبحانه أعظم رتبة من كلّ عظيم.

و في الآية تقديم و تأخير فيكون تقدير الآية: الّذي خلق السماوات و الأرض هو الرّحمن ثمّ استوى على العرش «فالرحمن» مبتدأ و خبره مقدّم عليه و ذلك الخبر هو قوله «الَّذِي خَلَقَ» كما تقول: الّذي جاءك زيد، ثمّ استوى على العرش اعتراض.

قال الرازيّ: لا يمكن أن يكون المراد منه أن يكون مستقرّا على العرش؛ لأنّ التحيّز و التناهي من بعض الجهات لازم للزّيادة و النقصان، و الحدوث و التغيّر و الخلأ و الملأ كلّها محال على اللّه، فإنّه تعالى إذا تحيّز في جهة فالجهة الاخرى خالية عنه و هو إلى الجهة المتحيّز بها مفتقر إليها، و المحتاج ممكن لذاته و واجب الوجود غيره.

ثمّ لو كان الباري في حيّز وجهة لكان مشارا إليه بحسب الحسّ و ما يشار إليه إمّا يقبل القسمة أولا؛ فإن كان لا يقبل القسمة كان نقطة و جوهر فرد و في وجود جوهر الفرد و عدمه اختلاف، و أنّ إلها يكون في العالم يدبّر الكلّ و يخلق السماوات و الأرض و العرش و هو في الصغر و الحقارة مثلا جزء من ألف جزء من رأس إبرة أو ذرّة؛ فكلّ قول يفضي إلى مثل هذه الترّهات صراحة العقل يحكم بقبحه و يكون مثل هذا الإله كمثل ما هو أصغر من النملة بآلاف درجة.

و إمّا أن يقبل القسمة فيكون ذاته حينئذ مركّبا من أجزاء يقوّم بعضها بوجود بعض؛ فذاك المقوّم يحتاج وجوده و كونه إلى هذا المقوّم و كلّ جزء من هذا المركّب يحتاج إلى جزء غيره حتّى يتحقّق الوجود بالتركيب و هو من لوازم الحدوث و الإمكان و الاحتياج و الكلّ باطل؛ فإنّ لوازم التركيب التجسّم و التجزّء و التفرّق و النموّ و الذبول و الكون و الفساد، تعالى اللّه عن هذه الأمور.

و أمّا الدلائل السمعيّة فكثيرة أوّلها: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» و الأحد مبالغة في كونه واحدا.

و قوله تعالى: «وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» (1) فلو كان اللّه في العرش

ص: 341


1- الحاقة: 17.

لكان حامل العرش حاملا للإله لزم أن يكون حافظا و محفوظا و حاملا و محمولا، و أنّ اللّه يمسك السموات.

و قوله تعالى: «وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ» (1) و حكم لنفسه أنّه غنيّ على الإطلاق فوجب أن يكون غنيّا عن الجهة و المكان، و إذا كان المراد من الاستواء الاستقرار و التحيّز لزم أن يكون قبل الاستقرار مضطربا معوجا، و يكون متّصفا بصفة الأجسام من الانتقال و الحركة و السكون و يكون قابلا للأبعاد الثلاثة و كلّها مناف مع الجلالة الإلهيّة.

رجعنا إلى التفسير:

[يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ] فجعل ظلمة اللّيل على النهار بمنزلة الغشاوة و اللباس للنهار [يَطْلُبُهُ حَثِيثاً] و يدركه سريعا يأتي من أثره و عقبه.

[وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ مذلّلات جاريات مطيعات بتدبيره فخلقهنّ بهذه الكيفيّة لمنافع الخلق، و قرئ مسخّرات بالنصب على الحاليّة.

[أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ] و له الاختراع و يفعل بها ما يشاء [تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي تعالى بالوحدانيّة ثابتا، و هو من بروك الإبل و ثباته على الإناخة، و هو ربّ العوالم بأسرها.

[سورة الأعراف (7): الآيات 55 الى 56]

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

لمّا ذكر الدّلائل الدالّة على الوجود و القدرة أتبعه بذكر الأعمال اللائقة بتلك المعارف ليقوم العبد بوظائف العبوديّة و هي الاشتغال بالدّعاء و التضرّع فإنّ الدعاء مخّ العبادة؛ فقال:

[ادْعُوا] قال بعض: المراد: اعبدوا ربّكم. و قال آخرون: هو الدعاء، و الأظهر أنّ المراد الدعاء.

و بعض القاصرين في النظر أنكروا الدعاء و احتجّوا بحجج ضعيفة، قالوا: إنّ المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع و إن كان معلوم اللاوقوع

ص: 342


1- فاطر: 16.

فلا فائدة في طلبه؛ فإنّه إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك المطلوب فهو حاصل سواء حصل هذا الدعاء أم لم يحصل، و إن كان قد أراد في الأزل المنع فهو ممتنع الوقوع فلا فائدة في الدعاء.

و هيهات من القائلين بهذا القول عن العلم! «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» (1) و لو كان الأمر كما زعموا فهذا الحكم جار في جميع أنواع التكليف و العبادات؛ فإنّه يقال: إن كان هذا الإنسان سعيدا في علم اللّه فلا حاجة إلى الطاعات و إن كان شقيّا في علمه فلا فائدة في تلك العبادات، و يلزم فيه أن يترك و يبطل التكليف بل يجب أن لا يقدم الإنسان على أمر من امور دنياه حتّى أكل الخبز؛ لأنّه إن كان هذا الإنسان شبعان في علم اللّه لا حاجة له في أكل الخبز و إن كان جائعا في علم اللّه فلا فائدة في أكل الخبز، فكما أنّ هذا الكلام باطل فذلك أيضا باطل ببداهة العقل و أنّ هذا القول لا يجوّزه ذو دين من أهل الأديان.

و الدعاء له فوائد كثيرة يفيد المعرفة في ذلّة السؤال و العبوديّة و هذا هو المقصد الأعلى من جميع العباد؛ فإنّ الداعي لا يقدم على الدعاء إلّا إذا عرف نفسه محتاجا إلى ذلك المطلوب الّذي يطلبه، و كونه عاجزا عن تحصيله، و يعرف غنى ربّه و يسمع دعوته و هو قادر على دفع تلك الحاجة لو اقتضت المصلحة و هو رحيم، و يعرف عجز نفسه و قدرة ربّه فإذا كان الدعاء مستجمعا لهذه الأمور لا جرم كان من أعظم أنواع العبادات.

و لا مقصود من جميع التكاليف إلّا معرفة عزّ الربوبيّة و ذلّ العبوديّة، فإنّ التضرّع لا يحصل إلّا من الناقص في حضرة الكامل كما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ما من شي ء أكرم على اللّه من الدعاء ثمّ قرأ صلى اللّه عليه و آله و سلم: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» (2).

و «الضراعة» ضدّ الاستكبار و معناه إظهار الذلّ الّذي في النفس، و مثله التخشّع يقال: «ضرع الرجل» إذا مال بإصبعه يمينا و شمالا خوفا و ذلّا.

ص: 343


1- الرعد: 39.
2- المؤمن: 62.

و «الخفية» ضدّ العلانية و «الهمزة» في «الإخفاء» منقلبة من التاء و «الخفية» الرهبة و الخوف و الطمع؛ فقوله «تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً» حال من الداعي، متضرّعين خائفين طامعين، و لا بدّ للدّاعي من صونها عن الزناء المبطل لحقيقة العمل و الخلوص.

و قرء «وَ خُفْيَةً» بكسر الخاء. قال بعض: إنّ الإخفاء معتبر في الدعاء لهذه الآية و ظاهر الأمر للوجوب فإن لم يكن فلا أقلّ من الندب.

و قيل: إنّ التضرّع رفع الصوت و «الخفية» سرّا و همسا فيكون المعنى: ادعوا علانية و سرّا، عن أبي مسلم و رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره. و روي عنه صلى اللّه عليه و آله و سلم:

خير الذكر الخفيّ و خير الرزق ما يكفي.

و بالجملة لعلّ الحكم على أن يكون إذا كان الداعي واثقا بنفسه عن الرياء كان الأولى في نفسه الإظهار لتحصيل فائدة الاقتداء و ظهور الذلّة، و إن كان غير واثق من نفسه بوقوع الريا فالأولى إخفاؤه بل عليه إخفاؤه.

[إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قيل: معناه هو الصياح في الدعاء خارجا عن المعتاد، و قيل: معناه يعرف الداعي طلبه و مقامه و لا يطلب منازل الأنبياء و مقامهم في الدعاء.

[وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ و لا تعلموا شيئا من المفاسد من القتل للنفوس و الغضب في الأموال و السرقة و وجوه الحيل، و في الأديان بالبدعة، في الأنساب بالزناء و إفساد العقول بالمسكرات؛ فإنّ عمدة مصالح المعتبرة في الدنيا هذه الخمسة، و مراعاتها و هي النفوس و الأموال و الأنساب و الأديان و العقول فقوله «وَ لا تُفْسِدُوا» منع إدخال ماهيّة الفساد و الإفساد في الوجود و المنع من إدخال الماهيّة في الوجود يقتضي المنع من جميع أبوابه.

«من بَعْدَ إِصْلاحِها» أي بعد أن هيّأنا أسباب صلاحها بسبب إرسال الرسل و إنزال الكتب، أو بعد أن صلح خلقتها على الوجه المطابق لمنافع الخلق و مصالح المكلّفين فكونوا منقادين.

و هاهنا مسألة: و هي أنّ المتكلّمين اتّفقوا على أنّ من عبد و دعا لأجل الخوف من العقاب و الطمع في الثواب لم يصحّ عبادته و ظاهر الآية في قوله: «وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً»

ص: 344

يقتضي أنّه أمر المكلّف بأن يأتي بالدعاء لهذا الغرض؛ فكيف طريق التكليف؟.

و ذلك لأنّ المتكلّمين فريقان: الأشاعرة و منهم أهل السنّة يقولون: التكاليف إنّما نزلت لأجل الإلهيّة و العبوديّة فكوننا عبيدا أو كونه إلها لنا يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء فلا يعتبر منه كونه في أنفسها حسنا و صلاحا.

و الفريق الثاني: المعتزلة و هم يقولون: التكاليف إنّما وردت لكونها في أنفسها مصالح. إذا عرفت هذا فعلى القول الأوّل توجّه وجوب بعض الأعمال و حرمة بعضها بمجرّد أمر اللّه و نهيه ممّا أوجبه و نهاه فمن أتى بهذه العبادات حيث إنّه أمر بها صحّت، أمّا من أتى بها خوفا من العقاب أو طمعا في الثواب وجب أن لا يصحّ لأنّه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها.

و أمّا على قول المعتزلة فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح، فمن أتى بها للخوف من العقاب أو للطّمع في الثواب فلم يأت لأجل وجه وجوبها فوجب أن لا تصحّ.

و التوفيق بين الآية و القول أنّ المراد من قوله «وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً» الخوف من وقوع التقصير في الشرائط المعتبرة في الامتثال الذي وقع الطمع في حصول الشرائط و قبولها بكرمه و فضله؛ فحينئذ حصل التوفيق، و يؤيّد هذا المعني قوله تعالى: «يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» (1).

و الاختلاف بين الأشاعرة و المعتزلة ليس في مسألة و عشرة، و إنّما هي في مسائل كثيرة.

منها في الحسن و القبح هل هو شرعيّ أم عقليّ.

منها في الكلام هل هو قديم أو حادث، و الأشاعرة يقولون بقدم الكلام لأنّه تعالى يقول: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» و ميّز بين الخلق و الأمر مخلوقا لما صحّ هذا التميّز و العطف.

و ردّ أبو عليّ الجبّائيّ بأنّه لا يلزم من إفراد الأمر في الذكر عقيب الخلق أن

ص: 345


1- المؤمنون: 62.

لا يكون الأمر داخلا في الخلق بل هو داخل في الخلق قال اللّه: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ» (1) مع أنّ آيات الكتاب داخلة في القرآن و قال: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ» (2) مع أنّ الإحسان داخل في العدل و كذلك قال: «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ» (3) و هما داخلان في الملائكة.

و منهم قول الكعبيّ: إنّ مدار حجّتهم على أنّ المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه و أنّه تعالى قال: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ» (3) و عطف الكلمات على اللّه فوجب أن يكون الكلمات غير اللّه، و كلّ ما كان غير فهو محدث مخلوق فوجب أن يكون الكلام محدثا مخلوقا.

و قال القاضي عبد الجبّار: أطبق المفسّرون على أنّه ليس المراد بالأمر في الآية كلام التنزيل بل المراد نفاذ إرادة اللّه فإذا سقطت الحجّة و انقطع الدليل.

قوله: [إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ تذكير القريب باعتبار المعنى من الرحمة و هو الغفران و العفو أو باكتساب التذكير من المضاف إليه كقوله: «إنارة العقل مكسوف بطوع هوى» أو صفة لمحذوف أي أمر قريب أو بمعنى الذات كما قالوا: امرأة طالق و حائض، و ذكر القريب لتحقّق وقوعه و لو في الآخرة؛ فإنّ ما هو آت قريب.

[سورة الأعراف (7): الآيات 57 الى 58]

وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

النظم: لمّا ذكر دلائل التوحيد من بيان العالم العلويّ من السماوات و العرش و الشمس و القمر و النجوم أتبعه في هذه الآية بذكر بعض أحوال العالم السفليّ و من آثار العلويّة كالرياح و السحاب و الأمطار يترتّب وجود النبات و الثمار، و يحصل للإنسان معرفة المبدء و المعاد و النشر و البعث و القيامة و تجديد الأوضاع.

ص: 346


1- الحجر: 1.
2- النحل: 92 . (3) البقرة: 92.
3- الأعراف: 158.

قرء «الريح» على لفظ الواحد، و قرء بلفظ الجمع «رياح» و في الواحد أيضا معنى الجمع الجنسيّة.

و قرء «نشر» بالنّون مضمومة و الشين مضمومة و هو جمع نشور مثل رسل و رسول، فيكون المعنى: رياح منشّرة أي مفرّقة، و القراءة المعروفة بالباء الموحّدة جمع بشير من قوله: «يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ» (1) تبشّر بالرّحمة أي المطر، و مرسلها و ناشرها هو اللّه و قد وصفوا الريح بأنّه هواء متحرّك، و لو كان كما يقولون فكون هذا الهواء متحرّكا ليس لذاته و لا للوازم ذاته و إلّا لدامت حركته بدوام ذاته؛ فلا بدّ بتحريك الفاعل جلّ جلاله.

قالت الفلاسفة: هاهنا سبب آخر: و هو أنّه يرتفع من الأرض أجزاء أرضيّة كالهباء تسخّنه الشمس تسخينا قويّا شديدا فسبب تلك السخونة ترفع و تتصاعد فإذا وصلت إلى القرب عن الفلك كان الهواء الملتصق بمقعّر الفلك متحرّكا على استدارة الفلك بالحركة المستديرة التي حصلت لفلك الطبقة من الهواء و يمنع هذه الأدخنة و الأجزاء من الصعود بل يردّها عن سمت حركتها؛ فحينئذ ترجع تلك الأدخنة و الأجزاء فتتفرّق في الجوانب و بسبب ذلك التفرّق تحصل الرياح ثمّ كلّما كانت الأدخنة أكثر و كان صعودها أقوى كان رجوعها أيضا أشدّ فكانت الرياح أقوى.

و هو باطل لوجوه؛ و ذلك لأنّ صعود الأجزاء الأرضيّة إنّما يكون لأجل شدّة تسخينها، و لا شكّ أنّ ذلك التسخين عرض لأنّ الأرض باردة يابسة بالطبع فإذا كانت الأجزاء الأرضيّة متصعّدة جدّا كانت سريعة الانفعال فإذا تصاعدت و وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء امتنع بقاء الحرارة فيها بل تبرد جدّا، و إذا بردت امتنع بلوغها في الصعود إلى الطبقة الهوائيّة المتحرّكة بحركة الفلك؛ فبطل ما ذكروه من السبب.

الثاني من الوجوه أنّ حركة تلك الأجزاء الأرضيّة النازلة لا تكون حركة قاهرة فإنّا نشاهد أنّ الرياح إذا هبّت حركت الغبار الكثير، ثمّ عاد ذلك الغبار و

ص: 347


1- الروم: 45.

نزل على السطوح لم يحسّ أحد نزولها، و نرى هذه الرياح تارة تقلع الأشجار و تهدم الجبال و تموّج البحار؛ فلو كان هبوب الرياح من طبيعة الصعود و النزول من الأجزاء فهذه الطبيعة مستقرّة دائمة فيكون الأثر على نهج واحد إمّا على رخاء دائما و إمّا على عصف دائما و ليس كذلك لأنّا نرى أنّ الشمعة في فصل مخصوص لا تطفؤ بالرّيح و نرى بذلك الفصل المخصوص أنّ الشجرة انقلعت من الرياح.

الوجه الثالث أنّه لو كان الأمر على ما قالوه لكانت الرياح كلّما كانت أشدّ وجب أن يكون حصول الأجزاء الغباريّة أكثر، و ليس الأمر كذلك لأنّ الرياح قد يشتدّ عصوفها في وجه البحر، و الحسّ يدرك أنّه ليس في ذلك الهواء المتحرّك العاصف شي ء من الغبار و الكدرة أصلا. و كذلك نرى في الأرض بعض الأوقات مع هبوب العواصف لا يكون غبار أصلا فبطل بهذا الوجه العلّة الّتي ذكروها في حركة الرياح.

ثمّ إنّ المنجّمين قالوا: إنّ قوى الكواكب هي الّتي تحرّك هذه الرياح و توجب هبوبها، و هذا أيضا ليس بشي ء لأنّ الموجب لهبوب الرياح إن كان طبيعة الكواكب وجب دوام الهبوب، و إن كان هو طبيعة الكوكب بشرط حصوله في البرج المعيّن و الدرجة المعيّنة وجب أن تتحرّك حينئذ هواء كلّ العالم لأنّا نرى أنّ في شيراز رياح عاصفة و في خارجها بمقدار فرسخ لم يكن نسيم فضلا عن رياح؛ فلا يكون إلّا بأمر الفاعل القيّوم يأمر الملك و الملكوت، انتهى.

رجعنا إلى التفسير: [بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي بين يدي المطر، و العرب يستعمل «اليد» في معنى التقدمة و القرب على سبيل المجاز و استعمل لفظ «اليد» لأنّها مقدّمة للمطر.

قوله: [حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا] أقل فلأن الشي ء إذا حمله أي إلى أن حملت الرياح سحابا ثقالا بالماء فإنّ السحاب الكثيف متضمّن للمياه الكثيرة و هو يبقي معلّقا في الهواء، و دبّر بحكمته أن يحرّك الرياح تحريكا شديدا فلأجل الحركات الشديدة ينضمّ أجزاء السحاب بعضها إلى بعض و يتراكم، و ينعقد السحاب الكثيف الماطر، و بسبب تلك الحركات يمتنع الأجزاء المائيّة من النزول دفعة واحدة و لا جرم يبقى السحاب معلّقا في الهواء و يسوقه الرياح في موضع إلى موضع علم اللّه صلاحه

ص: 348

و للمطر استحقاقه و حرمانه.

ثمّ إنّ الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب و انضمامها و تارة لتفريقها و مبطلة لها، و تارة مقوّية للزّرع مكمّلة للنشوء و النماء و هي اللواقح و تارة مبطلة لها كرياح الخريف، و تارة مهلكة كالسموم أو من البرد الشديد، و تارة شرقيّة، و تارة غربيّة و شماليّة و جنوبيّة و من جانب دون جانب؛ فلو كان المنشأ و السبب كسب هواء المجاور لمقعّر الفلك، و سرعة حركة المقعّر فوجب حدوث الرياح فمن أين يحصل هذه الكيفيّات المتبائنة من الرياح؟ مع أنّ مدار حركة الفلك على نهج واحد فإذن لا بدّ و أن يكون الرياح على نهج واحد.

قيل: إنّ الرياح ثمان:

أربع منها عذاب: و هو العاصف و القاصف و الصرصر و العقيم.

و أربعة منها رحمة: الباشرات و المبشّرات و المرسلات و الذاريات.

قال السدّيّ: إنّه يقال: يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم يبسطه في السماء و يفتّح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثمّ يمطر السحاب و يكون السحاب للماء كالغربال فيمطر، و لو ينزل الماء بغير هذا الترتيب لأفسد الزرع.

[سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ نسوق السحاب إلى مواضع من الفلاة و الأرض [فَأَنْزَلْنا بِهِ الضمير يرجع إلى البلد أو بالسحاب لأنّ السحاب آلة لإنزال الماء [فَأَخْرَجْنا بِهِ بهذا الماء أو بهذا البلد المسقيّ من كلّ أنواع الثمر.

[كَذلِكَ أي كما أخرجنا الثمرات و نحييها [نُحْيِ الْمَوْتى لكي تتذكّرون حالة البعث و النشور.

[وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أرض الطيّب ترابه يخرج زروعه حسنا ناميا زاكيا بأمر اللّه [وَ الَّذِي خَبُثَ كأرض السبخة لا يخرج منها إلّا شيئا قليلا لا يفيد.

و هذا مثل ضربه اللّه للمؤمن و الكافر؛ فالمؤمن شبّهه اللّه بالأرض الطيّبة و الكافر بالأرض الخبيثة فإنّ الروح الطاهرة إذا اتّصل بها نور القرآن ظهرت فيها

ص: 349

أنواع الخير و الطاعة، و الروح الخبيثة الكدرة و إن اتّصل بها نور القرآن لم يظهر فيها المعارف الإلهيّة و الأخلاق الحميدة إلّا اليسير.

[كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فمثل هذا المثل بيّنّا الشواهد و الدلائل [لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ اللّه و يعرفون قدر نعمه.

[سورة الأعراف (7): الآيات 59 الى 62]

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)

قال الصادق عليه السلام عاش نوح ألفي و خمسمائة سنة، ثمان مائة سنة قبل أن يبعث و ألف سنة إلّا خمسين عام و هو يدعوهم، و مأتي سنة يعمل السفينة و خمسمائة بعد الطوفان.

لمّا ذكر سبحانه دلائل توحيده ذكر في هذه الآية أحوال من أنكر و عاند تسلية لنبيّه محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم و تثبيتا له على الأذى من قومه.

و «اللّام» للقسم و هذه اللّام غالبا تتّصل «بقد» و «قد» تأكيد و تحقيق للكلام و تقديره: و باللّه حقّا أقول إنّا بعثنا نوحا إلى قومه و امّته.

و هو أوّل نبيّ بعد إدريس جدّه قيل: إنّه كان نجّارا ولد في عام الّذي مات فيه آدم، و بعد أن بعث للنبوّة كان يدعوهم ليلا و نهارا فلم يزدهم دعاؤه إلّا فرارا و كان يضربه قومه حتّى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: «اللّهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون».

[فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ قيل كان عمره ألفا و أربعمائة و خمسين سنة، و بعث بالنبوّة حين كان عمره مائتين و خمسين، و يدعو قومه تسعمائة و خمسين، و عاش بعد الطوفان مائتين و خمسين سنة، و أمر قومه بعبادة اللّه وحده.

[ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و لم يقل على سبيل القطع لأنّه احتمل و جوّز أن يؤمنوا، و المراد بالعذاب العظيم عذاب يوم القيامة و يحتمل أن يكون مراده عذاب الطوفان.

[قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ و هم الأشراف الّذين يملؤون المجلس بتجمّعهم و حواشيهم

ص: 350

و تمتلئ العيون و القلوب من جلالتهم و هيبتهم [إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ و هذه الآية بمعنى الاعتقاد لا المشاهدة.

فأجاب عليه السلام [لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ] أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة، و هذه العبارة أبلغ في عموم السلب. و وصف نفسه بأشرف الأوصاف و هو النبوّة فقال:

[وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ و أعلم أمورا لا تعلمون كالعذاب و الطوفان و احبّ لكم ما احبّ لنفسي و أنصح لكم في امور دينكم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 63 الى 64]

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)

الهمزة للاستفهام دخلت على واو العطف فبقيت مفتوحة كما كانت، أي و هل تعجّبتم على بشر مثلكم أن جاء بكم و أتى بكتاب أو معجز أو أمر يأمركم و ينهاكم. و منشؤ عجبهم و نسبتهم الضلال إلى نوح أنّ التكليف لا منفعة له للمعبود و كلّ ما يرجى فيه من الثواب و دفع العقاب فاللّه قادر أن يعطيه بدون واسطة تكليف؛ فالتكليف عبث.

و قال بعضهم من الملأ: ما علم حسنه بالعقل فعلناه و ما علمنا قبحه تركناه، و مالا نعلم حسنه و لا نعلم قبحه فإن كنّا مضطرّين إليه فعلناه لعلمنا أنّه متعال عن أن يكلّف عبده مالا يطاق و إن لم نكن مضطرّين تركناه فأيّ حاجة إلى الرسول و بتقدير أن يكون الرسول لازما فيكون من جنس الملائكة لأولويتهم و أكمليّتهم و استغنائهم عن المأكول و المشروب و بعدهم عن الكذب.

و ظنّ آخرون منهم أنّ ما يدّعي نوح فهو من جنس التخيّلات و الجنون فلهذه العقائد الفاسدة نسبوا نوحا إلى الضلالة و كذّبوا نوحا فيما دعاهم إليه؛ فخلّصناه و من كان معه في السفينة من المؤمنين و أغرقنا الّذين كذّبوا بآياتنا في الماء.

[إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عن الحقّ يقال: «رجل عميّ» إذا كان أعمى القلب و رجل أعمى أي بلا بصر.

قال الصادق عليه السلام: آمن مع نوح ثمانية، و كان الرجل يأتي بابنه و هو صغير فيقيمه

ص: 351

على رأس نوح فيقول: يا بنيّ إن بقيت بعدي فلا تطيعنّ هذا المجنون و كانوا يحملون إلى نوح و يضربونه حتّى تسيل مسامعه دما، و حتّى لا يعقل شيئا ممّا يصنع به فيثور و يرمى به إلى بيته و على باب داره مغشيّا عليه، و كذلك يفعل به، فأوحى اللّه إليه أنّه لن يؤمن قومك إلّا من آمن فعندها أقبل في الدعاء عليهم و لم يكن دعا عليهم قبل ذلك؛ فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (1) فأعقم اللّه أصلاب الرجال و أرحام النساء و لبثوا أربعين سنة لا يولّد لهم ولد و قحطوا في تلك الأربعين سنة حتّى هلكت أموالهم و أصابهم الجهد و البلاء، ثمّ قال لهم نوح: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» (2) فجاوبوه و قالوا «لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً» (3) يعنون أصنامهم و آلهتهم.

و سيأتي إن شاء اللّه قضيّة السفينة في سورة هود على التفصيل.

[سورة الأعراف (7): آية 65]

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (65)

قوله:

عطف على قصّة نوح أي و أرسلنا إلى قوم عاد و هو عاد بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح [أَخاهُمْ في النسب لا في الدين [هُوداً] فقال لهم هود: يا قوم لا تعبدوا الأصنام و اعبدا اللّه ليس إله موجود غير اللّه أفلا تتّقون الشرك و العذاب؟

و كان قوم هود بالأحقاف و هو الرمل الّذي بين حضرموت إلى عمّان، و دعوة هود كدعوة نوح إلّا أنّ نوح هدّدهم بعذاب عظيم و لكنّ هود حذّرهم بقوله: «أَ فَلا تَتَّقُونَ» أن يرد عليكم مثل ما ورد على قوم نوح.

[سورة الأعراف (7): الآيات 66 الى 68]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68)

في قصّة نوح كانت هي «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ» و في هذه الآية قال الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لأنّ في أشراف قوم نوح ما كان مؤمن و لكن كان في أشراف قوم هود مؤمن مثل مرثد بن سعد الحميريّ كان مؤمنا لكن يكتم إيمانه فاريدت التفرقة بالبيان.

ص: 352


1- نوح: 26.
2- نوح: 9.
3- نوح: 23.

ثمّ فرق آخر في الآية أنّ قوم نوح نسبوه إلى الضلال حيث إنّه يأمرهم بأمر النبوّة و يتعب نفسه غاية في القول و العمل بتعب اشتغال السفينة فنسبوه إلى الضلال، و هود ما اشتغل بتعب البدن بل تعبه مشقّة القول الغير المسموع؛ فنسبوه إلى قلّة العقل و السفاهة و «و الظنّ» هنا بمعنى اليقين كقوله تعالى: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» (1).

ثمّ فرق آخر بين قول نوح و هود فنوح أدّى عبارة أنصح بصيغة الفعل فقال:

«وَ أَنْصَحُ لَكُمْ» للدلالة على التجدّد و الحدوث ساعة فساعة و هود عليه السلام أتى الكلام بصيغة الاسم فقال: «وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ» لأنّها دالّة على الثبات و الاستمرار؛ هكذا قال الشيخ عبد القاهر النحويّ في كتاب دلائل الإعجاز في القرآن.

ثمّ وصف نوح نفسه بالعلم حيث قال: «إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» لأنّه كان عالما بوقوع العذاب، و هود وصف نفسه بالأمانة في النصح لأنّ نوح كان أعظم منصبا في النبوّة من هود.

[سورة الأعراف (7): آية 69]

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

قوله [أَ وَ عَجِبْتُمْ مرّ تفسيره: قبيل هذا. قوله: «وَ اذْكُرُوا» بيّن نعمه عليهم لوجوب الشكر بأن جعلهم خلفاء للسابقين بأن أورثهم أرضهم و ديارهم و ما يتّصل لهم من المنافع الّتي كان قوم نوح ينتفعون بها.

[وَ زادَكُمْ عنهم البسطة في الجسم و القوّة قال الكلبيّ: كان أطولهم مائة ذراع، و أقصرهم ستّين ذراعا. و قال آخرون فضّلوا من غيرهم مقدار مما تبلغه يد إنسان إذا رفعها، ففضّلوا أهل زمانهم هذا المقدار فاذكروا نعم اللّه و آلاءه و اعملوا عملا يليق بالإنعامات لكي تفلحوا.

قال الواحديّ. مفرد الآلاء ألي و ألو و إلي قال الأعشى:

أبيض لا يرهب الهزال و لا يقطع و لا يخون إلي

و نظير الآلاء في المفرد و الجمع الآناء.

ص: 353


1- البقرة: 43.

[سورة الأعراف (7): الآيات 70 الى 72]

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

لمّا بيّن لهم هود عليه السلام أنّ عبادة الأصنام لا تفيد و لا بدّ أن يعبدوا اللّه و ذكر لهم نعماء اللّه عليهم و لم يكن للقوم حجّة تمسّكوا بالتقليد فقالوا: [أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا] الحمقاء [فَأْتِنا بِما تَعِدُنا] و تخوفنا به لأنّ هودا قد هدّدهم بالوعيد قال هود قد وقع عليكم من ربّكم و قد جعل هود المتوقّع الّذي لا بدّ منه بمنزلة الواقع نظير قوله «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» (1) و المراد من الرجس: العذاب. أ تناظرونني في أسماء و أصنام صنعتموها بأيديكم و اخترعتم أنتم و آباؤكم؟ و نسبتم لبعضها أنّه يشفى المريض، و للآخر يسقي المطر، و للآخر يأتي بالرزق و للآخر يصحبهم في السفر، و أمثال هذه الخرافات و الحالة أنّ اللّه ما نزّل لها قدرة و حجّة.

ثمّ ذكر لهم هود وعيدا مجدّدا فقال: [فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ .

ثمّ أخبر سبحانه عن خاتمة هذه الواقعة بأن أهلكناهم بعذاب الاستيصال، و قطع الدابر الّذي هو الريح العقيم، و أنجى هودا و المؤمنين معه برحمته و فضله و ما كانوا مؤمنين لعلمه تعالى بأنّهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضا.

و قصّة هود على ما ذكرها السدّيّ و محمّد بن إسحاق أنّ عادا كانوا ينزلون اليمن و الأحقاف و هي رمال يقال لها رمال عالج معروفة و الدهناء و يبرين ما بين عمّان و حضرموت، و كان لهم زرع و نخيل و لهم أعمار طويلة و أجساد عظيمة و كانوا أصحاب أصنام.

فبعث اللّه هودا إليهم نبيّا و كان من أوسطهم نسبا و أفضلهم حسبا فدعاهم إلى التوحيد فكذّبوه و آذوه فأمسك اللّه عنهم المطر سبع سنين أو ثلاث سنين حتّى قحطوا و كان الناس في ذلك الزمان إذا نزل عليهم البلاء التجأوا إلى بيت اللّه الحرام بمكّة مسلمهم و كافرهم.

ص: 354


1- النحل: 1.

و أهل مكّة يومئذ العماليق من ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح. و كان سيّد العمالقة إذ ذاك بمكّة رجلا يقال له: معاوية بن بكر، و كانت امّة من عاد فبعث عاد و فدا إلى مكّة خارجا من الحرم فأكرمهم و أنزلهم و أقاموا عنده شهرا يشربون الخمور فلمّا رأى معاوية طول مقامهم و قد بعثهم قومهم يتغوّثون من البلاء الّذي نزل عليهم شقّ ذلك عليه، و قال: هلك أحوالي، و هؤلاء ضيفي أستحيي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه فشكى إلى امرأتين و هما الجرادتان كانتا تغنّيانهم، فقالت الجرادتان له: قل شعرا نغنّيهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية:

ألا يا قيل و يحك قم لأمرلعلّ اللّه يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إنّ عاداقد أمسوا ما يبينون الكلاما

و أنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركم و ليلكم التماما

قبيح وفدكم من وفد قوم و لا لقّوا التحيّة و السلاما

فلمّا غنّتهم الجرادتان بالأبيات قال بعضهم لبعض: إنّما بعثكم قومكم يتغوّثون بكم من البلاء فادخلوا هذا الحرم فاستقوا لهم؛ فقال لهم رجل منهم قد كان آمن بهود سرّا: و اللّه لا تسقون بدعائكم و لكن إنّ أطعتم نبيّكم سقيتم فزجروه و خرجوا إلى مكّة يستسقون لها بعاد.

و كان رئيس وفد عاد رجل اسمه قيل بن عمز؛ فقال: يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا فإنّا قد هلكنا فأنشأ اللّه سحابا ثلاثا بيضاء و حمراء و سوداء.

ثمّ ناداه مناد من السماء: يا قيل اختر لقومك و لنفسك فاختار السحابة السوداء الّتي فيها العذاب فساق اللّه تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد، فلمّا رأوها استبشروا بها و قالوا هذا عارض ممطرنا، فقال اللّه: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم فسخّرها اللّه سبع ليال و ثمانية أيّام حسوما أي دائمة؛ فلم تدع من عاد أحدا إلّا أهلك. و اعتزل هود و من معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه و من معه إلّا ما يليّن عليه الجلود و تلتذّ النفوس و إنّها لتمرّ على عاد بالطعن ما بين السماء و الأرض و تدمغهم بالحجارة.

ص: 355

و روي أبو حمزة الثماليّ عن سالم عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ للّه بيت ريح مقفّل عليه لو فتح لأذرّت ما بين السّماء و الأرض، ما أرسل على قوم عاد إلّا قدر خاتم.

و كان هود و شعيب و إسماعيل و نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم يتكلّمون بالعربيّة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 73 الى 74]

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)

المعنى: و إلى ثمود عطف على هود و نوح أي كما أرسلنا نوحا و هودا أرسلنا صالحا. و الأخ يأتي بمعنى الصاحب و قرابة القبيلة و من العشيرة يطلق عليه الأخ.

و ثمود هو ثمود بن عاشر بن إرم بن سام بن نوح. و صالح عليه السلام كان من ولد ثمود، و ثمود سمّيت لقلّة مائها أو لا سم أبيهم الأكبر، و ثمود استعملت منصرفة و غير منصرفة بتأويل القبيلة و الحيّ. قال اللّه «أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ» (1) قال لهم صالح: يا قوم اعبدوا اللّه و لا تشركوا به شيئا ثمّ ذكر البيّنة [هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ دلالة، لأنّ ثمود طالبوه بالمعجزة على صحّة نبوّته فقال: ما تريدون؟ قالوا: تخرج معنا في عيدنا و نخرج أصنامنا و تسأل إلهك و نسأل أصنامنا فإذا ظهر أثر دعائك اتّبعناك، و إن ظهر أثر دعائنا تتّبعنا.

فخرج صالح معهم فسألوه أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معيّنة بين الجبلين فأخذ منهم المواثيق أنّه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا بأجمعهم؛ فصلّى ركعتين و دعا اللّه فتمخّضت تلك الصخرة كما تتمخّض الحامل، ثمّ انفرجت و خرجت الناقة من وسطها و كانت عظيمة الجثّة، و كان الماء عندهم قليلا و جعلوا ذلك الماء بالكلّيّة شربا لها في يوم و في اليوم الثاني شربا لكلّ القوم حسب ما اشترط معهم صالح.

قال السدّيّ: و كانت الناقة في اليوم الّذي تشرب فيه الماء تمرّ بين الجبلين فتعلوهما، ثمّ تأتي فتشرب فتحلب ما يكفي الكلّ، و كأنّها تصبّ اللّبن صبّا و في اليوم الّذي لا تشرب لا تأتيهم و كان لها فصيل.

ص: 356


1- هود: 71.

فقال لهم صالح: يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يده فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم، ثمّ ولد العاشر فأبى أنّ يذبحه أبوه فنبت سريعا.

و لمّا كبر الغلام جلس مع قوم يصبّون من الخمر، فأرادوا ماء يمزجونه به و كان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء و اشتدّ ذلك عليهم، فقال الغلام: هل لكم أن أعقر الناقة؟ فرضوا فشدّ عليها؛ فلمّا بصرت الناقة به هربت إلى خلف صخرة فأحاشوها عليه فلمّا مرّت به تناولها فعقرها فسقطت، و ذلك قوله تعالى: «فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ» (1) و أظهروا حينئذ كفرهم و بغيهم و عتوا عن أمر ربّهم.

فقال لهم صالح: إنّ آية العذاب أن تصبحوا غدا حمرا و اليوم الثاني صفرا و اليوم الثالث سودا فلمّا صبّحهم العذاب تحنّطوا و استعدّوا.

ثمّ إنّ كون الناقة معجزة و آية لا من جهة بل من جهات:

الأولى أنّ يوم مجيئها للشرب لا تأتي الحيوانات للشرب و يوم لا تأتي فتأتي الحيوانات للشرب.

و الثانية أنّ يوم شربها تحلب من اللّبن مقدار يكفيهم جميعا.

و الثالثة: خروجها من الصخرة بكمالها مرّة واحدة لا من ذكر و أنثى بل من صخرة صمّاء.

و إنّما قال: «لَكُمْ» لأنّهم اقترحوا هذا النوع من المعجزة و لو أنّها معجزة لكلّ أحد، و نسبة الناقة إلى اللّه نسبة التشريف مثل بيت اللّه.

ثمّ قال لهم صالح: [فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ] أي لا تطردوها و لا تؤذوها.

[وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ] لأنّه لمّا أهلك اللّه عادا عمّر ثمود بلادها و خلّفوهم في الأرض بين الحجاز و الشام.

[وَ بَوَّأَكُمْ أنزلكم منزلهم تتّخذون من سهولة الأرض قصورا و منازلا لأنّ القصور تبنى من الطين و الآجر و اللبن [وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ و الصخر أبنية مسقّفة [بُيُوتاً] النّصب على الحال كقولك: أبر هذا القصب قلما، و كانوا يسكنون السهول في

ص: 357


1- القمر: 29.

الصيف و الجبال في الشتاء و هذا يدلّ على أنّهم كانوا متنعّمين. و اذكروا نعماء اللّه عليكم و لا تجاوزوا عن حدود الصلاح إلى الفساد في الأرض.

[سورة الأعراف (7): الآيات 75 الى 79]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

قال الأشراف و الأغنياء من قوم صالح للمساكين منهم الّذين آمنوا بصالح، و سألوا عن الفقراء عن حال صالح في نبوّته، فقال الفقراء: نحن موقنون أنّ صالحا نبيّ و أنّ ما جاء به حقّ، فقال المستكبرون: بل نحن كافرون بما جاء به.

[فَعَقَرُوا] العقر ضرب عرقوب (1) البعير و لمّا كان العقر سببا للنحر اطلق على النّحر لاسم السبب على المسبّب و أسند العقر إلى جميعهم لأنّه كان يرضاهم مع أنّه ما باشره إلّا العاقر و هو قدار بن سالف فأخذتهم الزلزلة العظيمة.

فأصبحوا في منازلهم جاثمين كبروك الإبل، و هذه الحالة للإبل تسمّى البروك، و للنّاس و الطير تسمّى جثوما أي موتى لا يتحرّكون، و منه المجثّمة الّتي جاء النهي عنها و هي البهيمة الّتي ترتبط لترمى، فالجثوم عبارة عن الخمود و السكون.

قيل: لمّا سمعوا الصيحة العظيمة تقطّعت قلوبهم و ماتوا جاثمين على الركب.

و قيل: بل سقطوا على وجوههم.

و قيل: وصلت الصاعقة إليهم فاحترقوا.

و قيل: وقت نزول العذاب عليهم سقط بعضهم على بعض.

فلو قيل: كيف يمكن أنّ القوم لمّا عقروا الناقة و شاهدوا تلك المعجزة العظيمة من الناقة في أوّل الأمر و شاهدوا آثار العذاب في آخر الأمر بأنّهم احمرّوا و اصفرّوا

ص: 358


1- العرقوب: عصب غليظ فوق العقب.

كيف يحتمل أن يكونوا مصرّين على كفرهم و لم يتوبوا؟

فالجواب أنّهم قبل أن يشاهدوا كانوا يكذّبون صالحا فلمّا شاهدوا العذاب خرجوا عن حدّ التكليف و عن أن تكون توبتهم مقبولة، لأنّهم وصلوا إلى حدّ الإلجاء فحينئذ لا تقبل التوبة.

[فَتَوَلَّى عَنْهُمْ و الفاء تدلّ على التعقيب فدلّ على أنّ حصول التولّي بعد جثومهم.

و قيل: إنّ التولّي قبل موتهم لأنّه خاطبهم بقوله: «يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ» و الأموات لا يوصفون و لا يخاطبون و كيف يقال للميّت: إنّك لا تحبّ الناصح؟

لكن ليس بمستبعد أن يخاطبهم و هم جاثمين كما أنّ نبيّنا صلى اللّه عليه و آله و سلّم خاطب قتلى بدر، فقيل له: لم تتكلّم هذه الجيف؟ فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ما أنتم بأسمع منهم و لكنّهم لا يقدرون على الجواب.

قال كعب: كان سبب عقر الناقة أنّ امرأة كانت قد ملكت ثمود يقال لها: ملكا؛ فلمّا أقبلت الناس على صالح و صارت إليه الرياسة حسدته، و كانت امرأة جميلة يقال لها:

قطام، و كان معشوقة قدار، و امرأة اخرى يقال لها: إقبال كانت عشيقة مصدع.

و كان قدار و مصدع متصادقان يجتمعان معهما كلّ ليلة و يشربون الخمر؛ فقالت ملكا للامرأتين: إذ آتاكما اللّيلة قدار و مصدع يجتمعان معكما فلا تطيعاهما و قولا لهما: إنّ ملكا حزنت لأجل الناقة و لأجل الصالح و نحن لا نطيعكما حتّى تعقرا الناقة فلمّا صار الليل و اجتمعا قالا لهما ما قالت ملكا فقالا: نحن من وراء الناقة نعقرها.

فانطلق قدار و مصدع و أصحابها فرصّدوا الناقة حين صدرت عن الماء و قد كمن لهما قدار في أصل صخرة على طريقها، و كمن مصدع في أصل صخرة اخرى؛ فمرّت على مصدع فرمى بسهم فأصاب به عطلة ساقها و خرجت امرأة اسمها عنيزة، و أمرت ابنتها و كانت من أحسن الناس وجها و أسفرت لقدار فشدّ قدار على الناقة بالسّيف فكشف عرقوبها فخرّت الناقة و رغت رغاة واحدة و تحذر سقبها ثمّ طعن في لبتها فنحرها

ص: 359

فخرج أهل البلدة و اقتسموا لحمها و طبخوه.

فلمّا رأى الفصيل ما فعل بامّه ولى هاربا حتّى صعد الجبل فرغا رغاء يقطع منه قلوب القوم، و أقبلوا نحو صالح يعتذرون إليه: إنّما عقرها فلان، فقال صالح: انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبوه فلم يجدوه، و كان العقر يوم الأربعاء. فقال لهم صالح: تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام فإنّ العذاب نازل بكم، انتهى.

و روى أبو الزبير عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: لمّا مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: لا يدخلنّ أحد منكم القرية، و لا تشربوا من مائها و لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلّا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ثمّ قال:

أمّا بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم فبعث اللّه لهم الناقة و كانت ترد من هذه الفجّ؛ (1) فعقروا الناقة فأهلكهم اللّه من مشارق الأرض منهم و مغاربها إلّا رجلا واحدا يقال له: أبو رغال و هو أبو ثقيف كان في حرم اللّه فمنعه حرم اللّه من العذاب فلمّا خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه فدفن و دفن معه غصن من الذهب، و أراهم قبر أبي رغال فنزل القوم فاستخرجوا ذلك الغصن.

ثمّ قنع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم رأسه و أسرع السير حتّى جاز الوادي.

[سورة الأعراف (7): الآيات 80 الى 84]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

هذه هي القصّة الرابعة؛ نوح و هود و صالح و لوط، أي و أرسلنا لوطا، صرف لخفّته و سكون وسطه.

ص: 360


1- هو الطريق الواسع الواضح بين جبلين.

قال: أ تاتون السيّئة المتمادية في القبح بحيث ما سبقكم في هذه القبيحة أحد من العالمين؟ و يمكن أن انقضى كثير من القرون و الأعصار ما أقدم على هذا الأمر القبيح أحد. أو أنّ قوم لوط بأجمعهم أقدموا على هذا المنكر، و لم يتّفق في الأعصار الماضية أنّهم بكلّيّتهم يقدمون بهذا الأمر، و كانوا لا ينكحون إلّا الغرباء و الضيف أوّلا، ثمّ استحكم عندهم حتّى فعل بعضهم ببعض.

[أَ تَأْتُونَ و تشتهون [الرِّجالَ شَهْوَةً] و قبح هذا العمل من وجوه شتّى؛ لأنّه على عكس حكمة الإلهيّة و خلاف مقتضى الطبيعة لأنّ الذكورة مظنّة الفعل و الأنوثة مظنّة الانفعال، فإذا صار الذكر منفعلا صار الأمر بعكس الطبيعة، ثمّ يوجب عدم بقاء نوع الإنسان الّذي هو أشرف الأنواع و أدّى إلى انقطاع النسل و ذلك خلاف أمر اللّه و حكمته.

ثمّ إنّ الفاعل بهذه الفعلة القبيحة بسبب لذّة ساعة يسبّب للمفعول إيجاب العار العظيم و العيب الكامل على المفعول على وجه لا يزول ذلك عند طول عمره، و كيف يرضى العاقل المسلم لأجل لذّة ساعة خسيسة منقضية إيراد العيب الدائم على غيره؟ فيوجب استحكام العداوة الدائمة بين الفاعل و المفعول و لعلّ ينجرّ إلى القتل كما أنّ هذا العمل بالنسبة إلى المرأة ينتج بالعكس، و موجب لازدياد المحبّة.

تأمّل في الحكمة الإلهيّة حتّى يحصل لك اليقين بأنّه تعالى ما حرّم حراما إلّا لمفاسد عظيمة، و ما حلّل حلالا إلّا لمنافع عظيمة جليلة.

ثمّ إنّ من مضارّ هذا العمل أنّ اللّه أودع في الرحم قوّة جاذبة شديدة للمنيّ فإذا واقع الرجل المرأة قوى الجذب فلم يبق شي ء من المنيّ في المجاري و ينفصل، أمّا إذا واقع بالرّجل لم يحصل ذلك الجذب من المفعول فيبقى شي ء من أجزاء المنيّ في المجرى فيعفن و يفسد غالبا، و يتولّد منه الأسقام العظيمة، و الأورام الشديدة.

و بالجملة لمّا منعهم لوط عن هذا الأمر ما امتنعوا نسبهم إلى السرف و تجاوز الحدّ؛ فجاوبوه قومه أن أخرجوا لوطا و أتباعه من البلدة فإنّهم يمنعونا عن هذا العمل، و قالوا على سبيل السخريّة:

ص: 361

[إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ و المراد من الأهل أنصاره و أهل دينه أو المتّصلين به بالنسب قال ابن عبّاس: المراد ابنتاه إلّا زوجته كانت من الباقين في العذاب «عبر» بمعنى مكث و إنّما لم يقل: من الغابرات لأنّه أراد المعنى أنّها عمّن بقيت مع الرجال في العذاب و أمطر عليهم الحجارة.

و لوط بن هاران بن تارخ قيل: إنّه كان ابن خالة إبراهيم، و كان سارة امرأة إبراهيم اخت لوط.

روي عن أبي حمزة الثماليّ و أبي بصير عن الباقر عليه السلام أنّ لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة، و كان نازلا فيهم، و لم يكن منهم يدعوهم إلى اللّه و ينهاهم عن الفواحش فلم يجيبوه، و كانوا لا يتطهّرون من الجنابة، بخلاء، أشحّاء على الطعام، و كانوا على طريق السيّارة إلى الشام و مصر، و كان ينزل بهم الضيفان فيفضحوه و إنّما كانوا يفعلون ذلك بالضيف لتنكل النازلة عليهم من غير شهوة بهم إلى ذلك فأوردهم البخل هذا الدّاء. و كانوا يقولون للوط: لا تقرينّ ضيفا فإنّك إن فعلت فضحنا ضيفك و كان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه.

و لمّا استطالوا على هذا الأمر و أراد اللّه عذابهم بعث إليهم رسلا مبشّرين و منذرين جبريل في نفر من الملائكة؛ فأقبلوا إلى إبراهيم قبل لوط فلمّا رآهم إبراهيم ذبح عجلا سمينا فلمّا رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة، قالوا: يا إبراهيم إنّا رسل ربّك، و نحن لا نأكل الطعام إنّا أرسلنا إلى قوم لوط.

و خرجوا من عند إبراهيم فوقفوا على لوط و هو يسقي الزرع؛ فقال: من أنتم؟ قالوا نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة؛ فقال لوط: إنّ أهل هذه القرية قوم سوء ينكحون الرجال في أدبارهم و يأخذون أموالهم، قالوا: أبطأنا فأضفنا.

فجاء لوط إلى أهله و كانت أهله كافرة، و قال: قد آتاني أضياف في هذه الليلة فاكمتي أمرهم قالت: أفعل؛ و كانت العلامة بينها و بين قومها أنّه إذا كان عند لوط أضياف بالنهار تدخن فوق السطح، و إذا كان بالليل توقد النار.

فلمّا دخل جبرئيل و الملائكة معه بيت لوط وثبت امرأته على السطح فأوقدت

ص: 362

النار فأقبل القوم من كلّ ناحية يهرعون إليه و دار بينهم ما قصّة اللّه في كتابه في مواضع؛ فضرب جبرئيل بجناحه عيونهم فطمسها فلمّا رأوا ذلك علموا أنّه قد أتاهم العذاب.

فقال جبرئيل: يا لوط اخرج من بينهم أنت و من معك إلّا امر أنك فقال لوط: كيف أخرج و قد اجتمعوا حولي و حول داري؟ فوضع بين يديه عمودا و قال اتّبع هذا العمود و لا يلتفت منكم أحد فخرجوا من القرية.

فلمّا طلع الفجر ضرب جبرئيل بجناحه طرف القرية فقلعها من تخوم الأرضين السابعة، ثمّ رفعها إلى الهواء حتّى سمع أهل السماء نباح كلابهم و صراخ ديوكهم، ثمّ قلّبها عليهم و هو قول اللّه: «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها» و ذلك بعد أن أمطر اللّه عليهم حجارة من سجّيل و هلكت امرأته بأن أرسل اللّه عليها صخرة فقتلتها.

و قيل: قلّبت المدينة على الحاضرين منهم و أمطرت الحجارة على الغائبين فاهلكوا بها.

[فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ظاهر الخطاب و إن كان للرّسول لكنّ المراد الأمّة ليتحرّزوا عن عذاب الآخرة.

[سورة الأعراف (7): آية 85]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

قوله تعالى:

هذه هي القصّة الخامسة. التقدير: و أرسلنا إلى مدين أخاهم في النسب لا في الدين.

و اختلفوا في مدين قيل: اسم البلد و قيل: اسم القبيلة بسبب أنّهم أولاد مدين ابن إبراهيم الخليل.

و شعيب ابن نويب بن مدين بن إبراهيم، فأمر شعيب قومه أوّلا بعبادة اللّه و ادّعى النبوّة.

ص: 363

و المراد بالبيّنة المعجزة و أمّا أنّ المعجزة من أيّ الأنواع كانت معجزته فليس في القرآن بيان كيفيّة معجزته.

و يقال لشعيب: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه و قومه أصحاب الأيكة و أرسل إلى مدين مرّتين و إلى أصحاب الأيكة مرّة، و كان عادة الأنبياء أنّهم إذ رأوا قوما مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالا أكثر من إقبالهم على سائر المفاسد بدءوا بمنعهم عن تلك المفسدة.

قال صاحب الكشّاف: إنّ من معجزات شعيب أنّه دفع إلى موسى عصاه و هي الّتي صارت التنّين، و قال لموسى: إنّ هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد و بياض و قد وهبتها لك فكان الأمر كذلك.

ثمّ قال الزمخشريّ: و هذه الأحوال كانت معجزات شعيب لأنّ موسى في ذلك الوقت ما ادّعى الرسالة.

و هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين الأشاعرة و المعتزلة لأنّه عند الأشاعرة يجوز أن يظهر اللّه على من يصير بعد نبيّا أنواع المعجزات، و يسمّى ذلك إرهاصا؛ فعند الأشاعرة على هذا الأصل إرهاصات لموسى، و عند المعتزلة معجزات لشعيب لأنّ الإرهاص لا يجوز عند المعتزلة.

و بالجملة أمر شعيب قومه بإيفاء الكيل لأنّهم كانوا مشغوفين بالتّطفيف، و المراد بالكيل المكيال أي ما يكال به.

ثمّ قال: [وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ و المراد المنع من التنقيص و يشمل في كلّ الأمور، فيدخل فيه السرقة و الغصب و أخذ الرشوة و انتزاع الأموال من أيدي الناس بطريق الحيل؛ لأنّ كلّ ذلك تنقيص المال، و هذه الأمور من موجبات الخصومة و الغضب و المنازعة بين الناس.

قال: [وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها] بعد أن صلحت الأرض بشرائع الأنبياء و كيفيّة الأحكام [ذلِكُمْ أي هذه الأمور [خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي كونوا مؤمنين.

ص: 364

[سورة الأعراف (7): الآيات 86 الى 87]

وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)

روي أنّهم كانوا يجلسون على الطرقات و يخوّفون من آمن بشعيب و يحرّفون الناس عن منهج الدّين، و قيل: كانوا يقطعون الطرق إلّا أنّ ما بعد الآية يدلّ على أنّهم يصدّون الناس عن الدين بإلقاء الشبهات و الشكوك بطريق الاعوجاج و الإضلال و بأنّه لو آمنتم بشعيب كذا تصيرون مثلا، و أنّه كذّاب.

[وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا] يمكن المراد تكثير المال أو تكثير النفوس، و عن ابن عبّاس، قال: إنّ مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط فولدت حتّى كثر أولادها.

[وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي تأمّلوا في عواقب من كان منكم من المفسدين كقوم عاد و ثمود و لوط و إنزال العذاب بهم.

قوله: [وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ] أي و إن كان جماعة منكم [آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ و صدّقوني [وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا] بي و المراد بيان إعلاء درجة المؤمنين و إظهار هوان الكافرين.

[فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا] في حقّ المؤمن و الكافر [وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فإن لم تظهر في الدنيا فلا بدّ من ظهورها في الآخرة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 88 الى 89]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)

لمّا قرّر شعيب تلك الكلمات [قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا] و أنفوا [مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ و من آمن معك من بلدتنا [أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا].

ص: 365

و في هذا الكلام إشكال في الجملة و هو قولهم: «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» و كذلك قوله: «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ» ظاهره يدلّ على أنّ شعيب كان على ملّتهم الّتي هي الكفر.

و الجواب أنّ أتباع شعيب الّذين آمنوا كانوا من قبل كفّارا فخاطبوا شعيبا بخطاب أتباعه للتّغليب، أو أنّ شعيبا ما كان يظهر دينه لهم فتوهّموا أنّه على دينهم.

قال لهم شعيب: [أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ «الهمزة» للاستفهام «و الواو» للحال أي أ تعيدوننا في ملّتكم في حال كراهتنا أي لا تقدرون على ردّنا على دينكم على كره منّا بعد إذ هدانا اللّه و نجّانا.

و نظم عليه السلام نفسه الشريفة في جملتهم و إن كان بريئا من الكفر إجراء الكلام على التغليب؛ فإن فعلنا ما تريدون منّا فحينئذ افترينا على اللّه الكذب، و هذا مع قطع النظر عن قبح الكفر مناف للنبوّة لأنّ أصل الباب في النبوّات صدق اللهجة و البراءة من الشرك و الكذب.

و بعض المفسّرين يرجعون الضمير في «فِيها» إلى القرية أي نخرج منها فإن شاء اللّه نعود فيها و حينئذ سهل المعنى، أمّا إذا رجع الضمير إلى الملّة فمعناه إلى أن يشاء اللّه، و هذه قضيّة شرطيّة، و إنّما ذكر هذا للتّبعيد كما يقال: لا أفعل هذا إلّا إذا شاب الغراب و ابيضّ القار و لا يشاء اللّه الكفر فلا نعود أبدا و هذا المعنى يبطل قول من قال: إنّ اللّه قد يشاء الكفر.

قال الجبّائيّ: المراد من الاستثناء الفروع و الأحكام و العبادات كأوقات الصلاة و الصيام من الفروع الّتي يجوز فيها طريان النسخ و التبديل لا في الأصول الّتي لا يقبل التغيّر.

و قوله [وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً] في تعلّق هذا الكلام بالكلام الأوّل قال القاضي عبد الجبّار: قد نقلنا عن أبي عليّ الجبّائيّ: إلّا أن يشاء اللّه معناه: إلّا أن يعرف المصلحة في تغيّر الفروع؛ فالعالم في المصالح و التغيّر ليس إلّا من وسع علمه على كلّ شي ء فلذلك أتبعه بهذا الكلام؛ فصحّ النظم في الآية.

ص: 366

و قالت الأشاعرة: وجه النظم أنّ القوم لمّا قالوا لشعيب: إمّا أن تخرج من قريتنا، و إمّا أن تعود إلى ملّتنا فقال شعيب: «وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً» فربّما كان في علمه حصول قسم ثالث: و هو أن نبقي في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملّتكم بل نجعلكم مقهورين تحت حكمنا، و يؤيّد هذا المعنى قوله: [عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا] فختم كلامه بالعزل عن الأسباب.

ثمّ اشتغل بالدّعاء فقال: [رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا] أي احكم و اقض بيننا [بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ قال ابن عبّاس: ما كنت أدري قوله تعالى «رَبَّنَا افْتَحْ» حتّى سمعت ابنة ذي يزن يقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك.

[سورة الأعراف (7): الآيات 90 الى 93]

وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

في الآية بيان عظمة ضلالتهم بتكذيب شعيب و بيّن في هذه الآية أنّهم لم يقتصروا بذلك حتّى أضلّوا غيرهم و لا موهم على متابعته فقالوا: [لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ فاستحقّوا العذاب فأخذتهم الرجفة و هي الزلزلة الشديدة المهلكة فأصبحوا في منازلهم خامدين ساكنين بلا حياة و بعد ما أصابهم العذاب كأن لم يكونوا ساكنين بها فقال غنى القوم في دارهم أي طال مكثهم.

قال الزجّاج أي كان لم يعيشوا فيها مستغنين و هذا التكرار في قوله الّذين كذّبوا شعيبا لبيان قباحة فعل المكذّبين كقولك أنت أنت، و هذه معجزة عظيمة لشعيب إنّ مثل هذا العذاب العظيم النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع أنّهم مجتمعين في بلدة واحدة.

ثمّ قال: [فَتَوَلَّى عَنْهُمْ و اختلفوا في أنّ شعيب تولّى بعد نزول العذاب بهم أو قبل ذلك؛ قال الكلبيّ: قبل ذلك قال: و لم يعذّب قوم نبيّ حتّى اخرج من بينهم.

ص: 367

ثمّ قال: [فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ قيل: اشتدّ حزنه على قومه من جهة القرابة و المجاورة؛ فإنّه كان يتوقّع منهم الإجابة للإيمان فلمّا لم تقلبوا و عذّبوا حزن بحرمانهم عن السعادة ثمّ عزّى نفسه و قال: فكيف آسى. و قيل: ما حزن و مراده فكيف آسى و قد أبلغتكم و لم تقلبوا نصحى. و أنتم غير مستحقّين أن يأسى الإنسان لمثلكم. و الصحيح القول الثاني.

قال البلخيّ: و في هذه الآية دلالة على أنّه لا يجوز للمسلم أن يطلب الخير للكافر و يحزن لشدّة أمورهم.

و في عذابهم قيل: أرسل اللّه عليهم و عدة شديدة و حرّا تأخذ بأنفاسهم فدخلوا في أجواف البيوت فدخل عليهم البيوت فلم ينفعهم ظلّ و لا ماء و أنضجهم الحرّ فبعث اللّه سحابة فيها ريح طيّبة فوجدوا برد الريح و ظلّ السحابة فتنادوا عليكم بها فخرجوا إلى البرّيّة فلمّا اجتمعوا تحت السحابة ألهبها اللّه عليهم نارا و رجفت بهم الأرض فاحترقوا كالجراد المغليّ و صاروا رمادا و هو عذاب يوم الظلّة و هذا القول عن ابن عبّاس و جماعة من المفسّرين.

و قيل: بعث اللّه عليهم صيحة واحدة فماتوا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

و قيل: إنّ لشعيب قومين قوم اهلكوا بالرجفة و قوم هم أصحاب الظلّة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 94 الى 95]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)

لمّا بيّن حال هؤلاء و ما جرى على أممهم بيّن في هذه الآية العلّة الّتي بها يفعل ذلك فقال:

[وَ ما أَرْسَلْنا] الآية، و إنّما ذكر القرية لأنّها مجتمع القوم و فيه حذف، أي فكذّبوا ذلك النبيّ المرسل إلّا أخذنا المكذّبين و العاصين بالبأساء أي الشدّة في أحوالهم، و النقصان في زروعهم و ثمارهم و ضروعهم. و الضرّاء ما ينالهم من المرض و الآلام، و قيل: بالعكس.

ص: 368

[لَعَلَّهُمْ و كلمة لعلّ في حقّ اللّه لا يمكن حمله على الشكّ بل على اليقين؛ فالمعنى:

إنّما يفعل بهم هذا لكي يتضرّعوا و يتوبوا.

[ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ] و معنى السيّئة الشدّة و ما يسوء، و معنى الحسنة الرخاء و النعمة، أي تدبيره تعالى ليس على نمط واحد، و المراد أنّه يأخذ أهل المعاصي تارة بالشدّة ليتنبّهوا و تارة بالنعمة ليطيعوا.

[حَتَّى عَفَوْا] أي كثروا و زادوا قال أهل اللغة: قد عفي الشعر أي كثر، و منه ما ورد في الحديث أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أمر أن تحفّ الشوارب و تعفى اللحى، أي توفر و تكثر.

[وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ] أي قال هؤلاء الكافرون و العاصون:

إنّ هذا الرخاء و الشدّة ليس بسبب ما نحن فيه من الدّين و العمل، و تلك عادة الدهر و ليس عقوبة من اللّه و إنّ آباءنا كذلك كانوا تارة تصيبهم الشدّة و تارة الرخاء و لا تلتفتوا إلى مثل هذه الأمور، و كونوا على ما أنتم عليه.

[فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً] أمر يأتيك من غير ترقّب و مقدّمة [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بأنّ العذاب نازل بهم.

قوله: [سورة الأعراف (7): الآيات 96 الى 99]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ (97) أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ الأمم عذّبوا بسبب كفرهم بيّن في هذه الآية أنّ الأمر بالعكس إذا آمنوا و اتّقوا، فتبدّل الشدّة بالرخاء و النعمة، و تفتح أبواب السماء و الأرض؛ بركات السماء بالخير و المطر، و بركات الأرض بكثرة الثمر و المواشي و حصول الأمن و السلامة؛ لأنّ السماء تجري مجرى الأب الرؤوف، و الأرض كالامّ العطوف.

ص: 369

ثمّ عاد الكلام بمجرى التهديد فقال على سبيل الاستفهام الإنكاري: أ فأمن أهل الأمصار أن يأتيهم عذابنا في الليل و هم نائمون؟ أو يأتيهم بالنهار وقت ظهور الشمس و هم مشغولون في الحياة الدنيا؟ لأنّ الدنيا لعب و لهذا قال: «وَ هُمْ يَلْعَبُونَ».

[أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ المراد عذاب اللّه و استعمل المكر في العذاب توسّعا لأنّ الواحد منّا إذا أراد المكر بصاحبه فإنّه يوقعه في البلاء من حيث لا يشعر بوقوعه فسمّي المكر بالعذاب لأنّه نزل بهم من حيث لا يشعرون و لا يأمن من عذاب اللّه إلّا القوم الخاسرون لأنّه أوقع نفسه في الدنيا بالضرر و في الآخرة بالعذاب الأكبر.

[سورة الأعراف (7): الآيات 100 الى 101]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101)

قرء: «أ و لم نهد» بالنون.

المعنى: أنكر بهذا الاستفهام ترك الاعتبار ممّن تقدّمهم من الأمم و استيصالهم بالعذاب، أي أو لم يبيّن اللّه و لم يهتدوا هؤلاء الّذين استقرّوا مكان المتقدّمين منهم الّذين عذّبناهم و خلفناهم مكان أولئك المعذّبين و ورثوهم أن لو نشاء لعذّبناهم كما عذّبنا قبلهم أو نطبع على قلوبهم؟ و معنى الطبع التخلية [فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ المواعظ.

[تِلْكَ الْقُرى المراد قرى الأقوام الخمسة الّذين مضى شرح حالهم و هم قوم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب [نَقُصُ أحوال إهلاكها [عَلَيْكَ يا محمّد للاحتراز لأمّتك عن مثل تلك الأعمال.

ثمّ قال إنّا أتممنا عليهم الحجّة بإرسال الرسل و المعجزات فما قبلوا و ما آمنوا و ما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات كما لم يؤمنوا قبل رؤية المعجزات. و قيل: معناه:

و لو أحييناهم بعد إهلاكهم و رددناهم إلى دار التكليف لن يؤمنوا كقوله: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» (1) و قيل: المعنى: قبل مجي ء الرسل كانوا مصرّين على الكفر

ص: 370


1- الحج: 2.

فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجي ء الرسل أيضا.

[كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ أي مثل ذلك الّذي طبع على قلوب الكفّار و الأمم الماضية نطبع على قلوب امّتك الكافرة.

[سورة الأعراف (7): آية 102]

وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)

اختلفوا في العهد: قال ابن عبّاس: يريد العهد الّذي عاهدهم اللّه و هم في الأصلاب حيث قال: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (1) ثمّ خالفوا ذلك العهد و لهذا قال: [وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ].

و قال ابن مسعود: المراد بالعهد الإيمان و الدليل عليه قوله: «إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» (2) يعني آمن و قال: لا إله إلّا اللّه.

و القول الثالث أنّ العهد عبارة عن وضع الأدلّة الدالّة على صحّة التوحيد و النبوّة.

ثمّ قال: و إنّ الشأن و القصّة: وجدنا أكثرهم خارجين عن الدين.

إلى هنا تمّ الجزء الرابع من الكتاب مشتملا على 94 آية من سورة المائدة، و تمام سورة الأنعام و 102 آية من سورة الأعراف و للّه الحمد.

ص: 371


1- السورة: 171.
2- مريم: 90.

المجلد 5

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

اشارة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تتمة تفسير سورة الأعراف

[سورة الأعراف (7): آية 103]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

ذكر سبحانه في هذه القصّة من الشرح ما لم يذكر بهذا التفصيل في سائر القصص لأنّ معجزات موسى أقوى و أبسط و جهل أمّته كان أعظم.

و ضمير «من بعدهم» يجوز أن يرجع إلى الأنبياء أو إلى أممهم الّذين تقدّم ذكرهم بإهلاكهم.

قال ابن عبّاس: أوّل آياته العصا ثمّ اليد؛ ضرب بالعصا باب فرعون فنزع منها فشاب رأسه فاستحيا فخضب بالسواد فورا؛ فهو أوّل من خضب، و كان للعصا مآرب قال اللّه: «اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» قال ابن عبّاس: إنّه كان يضرب بها الأرض فتنبت، ثمّ هي تحرب السباع الّتي تقصد غنمه، تشتعل بالليل كالشمعة و تصير كالحبل الطويل فينزح به الماء من البئر العميقة.

[فَظَلَمُوا بِها] بالآيات الّتي جاءتهم لأنّ الظلم وضع الشي ء في غير موضعه و هؤلاء بعد رؤية الآيات عوضا أن يقرّوا بنبوّته أنكروا و وضعوا الإنكار مكان الإقرار [فَانْظُرْ] بعين عقلك [كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ كيف فعلنا بهم؟

[سورة الأعراف (7): الآيات 104 الى 106]

وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)

ص: 2

و بعد أن بعث موسى أتى فرعون و قال له: [إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ و واجب عليّ أن لا أقول على اللّه إلّا الحقّ. و العرب تستعمل «على» بمعنى الباء كما تستعمل الباء بمعنى «على» كقوله: «بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ» أي على كلّ صراط.

و لمّا قرّر رسالته فرّع و شرع لفرعون تبليغ رسالته قال: [فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أطلق عنهم، و كان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقّة مثل نقل التراب و ضرب اللبن فعند هذا الكلام قال فرعون: [إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها] و أحضر عندي آيتك ليصحّ دعواك في الرسالة.

و كان فرعون استعبد بني إسرائيل بعد انقراض الأسباط، فأفقدهم اللّه بموسى، و كان بين اليوم الّذي دخل يوسف مصر و اليوم الّذي دخل موسى أربعمائة عام و ألفا.

[سورة الأعراف (7): الآيات 107 الى 110]

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110)

الفاء فاء الجواب أي فكان جواب موسى لفرعون إلقاء العصا. و «إذا» ظرف مكان و يسمّى ظرف المفاجاة، و هي بخلاف «إذا» الّتي ظرف زمان، و ظرف المكان في موضع نصب. و «العصا» عود كالقضيب يابس و أصله الامتناع بيبسه، و ليست المعصية مشتقّة من العصا لأنّ العصا من بنات الواو و المعصية من بنات الياء.

و الثعبان الحيّة العظيمة الضخمة الطويلة أعظم الحيّات و هو الذكر، و أمّا مقدارها فغير مذكور في القرآن لكن نقل عن المفسّرين في صفتها أشياء: فعن ابن عبّاس أنّها ملأت ثلاث و ثمانين ذراعا فشدّت على فرعون لتبتلعه فوثب فرعون عن سريره هاربا، و أحدث و انهزم الناس و مات منهم خمسة و عشرون ألفا. و قال غيره: كان بين لحييها أربعون ذراعا وضع لحيها الأسفل على الأرض و الأعلى على سور القصر فصاح فرعون- و كان اسمه الوليد ابن مصعب، و قيل: قابوس، و فرعون لقبه- و «ثعبان» مشتقّ من ثعبت الماء إذا فجرته و «المثعب» موضع انفجار الماء فسمّي الثعبان لأنّه تجري كعنق الماء عند الانفجار فصاح فرعون: يا موسي خذها فأنا او من بك، فلمّا أخذها موسى عادت عصا كما كانت.

ص: 3

و أمّا تفصيل العصا فقيل: إنّه أعطاه ملك حين توجّه إلى مدين. و قيل: إنّه عصا آدم من أسّ الجنّة حين اهبط، و كان تدور في أولاد آدم حتّى انتهت النبوّة إلى شعيب فكان ميراثا له مع أربعين عصا كانت لآبائه فلمّا استأجر شعيب موسى أمره بدخول بيت فيه العصيّ و قال له: خذ عصا من تلك العصيّ فوقع تلك العصا بيده فاستردّه شعيب و قال: خذ غيرها، حتّى فعل ذلك ثلاث مرّات في كلّ مرّة تقع يده عليها دون غيرها فتركها بيده في المرّة الرابعة.

فلمّا خرج من عنده متوجّها إلى مصر رأى في الطريق نارا نحو الشجرة فناداه اللّه أن يا موسى: إنّي أنا اللّه و أمره بإلقائها كما تقدّم بيانه في غير هذا الموضع.

و كان الأنبياء يتّخذون العصا تجنّبا من الخيلاء؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: تعصّوا فإنّها من سنن إخواني المسلمين، عن أمير المؤمنين قال: قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: من خرج في سفر و معه عصا من لوز و تلا هذه الآية: «وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ إلى قوله- وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» (1) آمنه اللّه من كلّ لصّ و ضارّ و من كلّ ذات حمة حتّى ترجع إلي أهله، و كان معه من المعقّبات يستغفرون له حتّى يرجع و يضعها. و قيل: أوّل من أخذ العصا في الخطبة قسّ بن ساعدة الأياديّ.

و بالجملة قال له فرعون: هل لك آية اخرى؟ قال موسى: نعم فأدخل موسى يده في جيبه ثمّ أظهرها- و «النزع» إزالة الشي ء عن مكانه المتمكّن فيه كنزع الرداء عن الإنسان- فلمّا أخرج يده من جيبه و من تحت إبطه فإذا هي بيضاء. قال ابن عبّاس: و كان لها نور ساطع يضي ء ما بين السماء و الأرض غلب شعاعه شعاع الشمس، ثمّ أعاد اليد إلى إبطه فعادت إلى لونها الأوّل.

فإن قيل: إنّ اللّه وصف أنّ العصا صارت حيّة عظيمة و قال في موضع آخر: «كأنّها جانّ» و الجانّ الحيّة الصغيرة و اختلف الوصفان؟

فالجواب أنّ الآيتين ليستا عن قصّة واحدة بل الحالتان مختلفتان، و الحالة الّتي

ص: 4


1- القصص: 21- 29.

يصفه الجانّ كانت في ابتداء النبوّة عند الشجرة، و هذه عند لقاء موسى فرعون و يمكن أنّ وجه التشبيه بالجانّ لسرعة حركتها و خفّتها مع أنّها في جسم الثعبان.

قال الأشراف من قوم فرعون: إنّ موسى كثير العلم بالسحر و يريد أن يستميل لقلوب بني إسرائيل إليه و يتقوّى بهم و يخرجكم من ملككم فماذا رأيكم تأمرون به؟

قيل: هذا الخطاب من الأشراف إلى فرعون و ضمير الجمع لتفخيم الملوك.

[سورة الأعراف (7): الآيات 111 الى 114]

قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)

قرأ نافع و الكسائيّ بغير همزة و كسر الهاء، و قرأ عاصم و حمزة بالهمزة و ضمّ الهاء قال الواحديّ: «أرجه» مهموز و غير مهموز لغتان أي أخّره و أخّر حكمه و حكم أخيه، و قال الكلبيّ: أي احبسه، و هذا قول ضعيف؛ لأنّ الإرجاء في اللّغة التأخير لا الحبس.

[وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ و البلدان الّتي حولك [حاشِرِينَ جامعين للسحرة فيجمعون من يعلمونه منهم، و «الياء» إذا كانت غير أصليّة همّزت في الجمع كقبائل و إذا كانت أصليّة لم تهمز في الجمع كمعايش و قيل: المراد من «حاشرين» أصحاب الشرط أرسلهم في جمع السحرة، و كان السحرة اثنين و سبعين رجلا، عن ابن عبّاس.

[يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ليعارضوا موسى فجاؤوا من مدائن الصعيد و كان رئيسهم رجلا مجوسيّا من أهل نينوا بلدة يونس عليه السّلام، و هي قريبة من الموصل، و هذا بعيد لأنّ المجوس أتباع زردشت، و زردشت إنّما جاء بعد موسى.

[وَ جاءَ السَّحَرَةُ] و قالوا للفرعون: هل لنا أجر إن غلبنا موسى عليه السّلام؟ قال فرعون:

لكم أجر و بعد الأجر أنّكم يصيرون عندي من المقرّبين.

و هذه الآية دليل على أنّ السحر ليس له حقيقة أصليّة و أنّ الساحر لا يقدر أن يقلّب الأعيان. و إلّا لما احتاجوا إلى الأجر و ما طلبوه، و لو أنّهم كانوا قادرين على قلب الأعيان فلم يجعلون السحر كسبهم؟ و لم يقلّبوا التراب ذهبا؟ و لم لم يقلّبوا ملك فرعون إلى أنفسهم و يصيرون ملوك العالم؟.

ص: 5

[سورة الأعراف (7): الآيات 115 الى 122]

قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)

وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)

قال علماء النحو في باب إمّا و أمّا: إذا كنت آمرا أو ناهيا أو مخبرا فهي مفتوحة، و إذا كنت مشترطا أو شاكّا أو مخيّرا فهي مكسورة؛ تقول في المفتوحة: أمّا اللّه فاعبدوه و أمّا الخمر فلا تشربوها، و في المكسورة فتقول إذا كنت مشترطا: فإمّا تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم، و تقول في الشكّ: لا أدري من قام إمّا زيد أو عمرو، و تقول في التخيّر: لي بالكوفة دار فإمّا أن أسكنها و إمّا أن أبيعها.

قال السحرة لموسى: اختر أن تلقي أو نلقي، فرزقهم الإيمان ببركة رعاية الأدب.

و يتبيّن من الكلام أنّ القوم كان رغبتهم في الإلقاء ابتداء لأنّهم ذكروا الضمير المتّصل و أكّدوه بالمنفصل.

فلمّا رأى موسى رغبتهم في الإلقاء قال: ألقوا ما أنتم ملقون؛ فلو قيل: إنّ أمر موسى إيّاهم بالإلقاء مع أنّ هذا الفعل معارضة للمعجزة و هو حرام؛ لأنّ موسى علم أنّهم يفعلون و إنّما التخيّر في التقديم و التأخير، و أنّه عليه السّلام يريد إبطالهم ما يكون بالسحر و ما كان يتحقّق هذا الإبطال إلّا بالإلقاء فأذن لهم بالتقديم ثقة بما وعده اللّه و هو كمن يريد سماع شبهة منهم ليجيب عنها فكذا هاهنا، و كان عملهم مجرّد التمويه و لو كان له حقيقة ثابته لما قيل: [فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ و لم يقل: سحروا قلوب الناس فقلّبوا الأعين عن صحّة إدراكها و قد أتوا بالحبال و العصيّ و لطخوها بالزيبق و جعلوا الزيبق في دواخل العصيّ فلمّا أثّر تسخين الشمس فيها كقمر ابن المقفّع تحرّكت و التوى بعضها ببعض و الناس تخيّلوا أنّها تتحرّك باختيارها و قدرتها.

[وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ قيل: السين زائدة، قال الزجّاج: ليست بزائدة بل إنّ السحرة بعثوا جماعة من الناس ينادون عند إلقاء ذلك: أيّها الناس احذروا و هذا هو الاسترهاب

ص: 6

[وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ قيل: إنّهم كانوا بضعة و ثلاثين ألفا، و اختلفت الروايات حتّى روي إلى سبعين ألفا.

و لمّا ألقوا أوحى اللّه إلى موسى أو ألهمه: [أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فيه حذف و إضمار و التقدير: فألقاها. و تلقف قرئ مشدّدة، و اللّقف الأخذ السريع إذا أخذته فأكلته أو ابتلعته. فصارت العصا ثعبانا و ابتلعت ما ألقوا، و «ما» موصولة أي الّذي أفكوه؛ لأنّ ما ألقوه و أفكوه كذب لا حقيقة، فلقفت الحيّة إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك قيل: المأفوك كان حمل ثلاثمائة بعير؛ فقال السحرة: لو كان ما صنع سحرا مثل ما صنعنا لبقيت حبالنا و عصيّنا و لم تفقد، و ذلك إنّما حصل بقدرة اللّه لا السحر.

[فَغُلِبُوا هُنالِكَ و رجعوا صاغرين و ذليلين؛ فاستدلّوا بهذا الأمر على أنّ موسى نبيّ صادق فلأجل علمهم و استدلالهم خرجوا عن عطلة الكفر و دخلوا في هداية الإيمان.

[وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ و لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين و آمنوا في حال السجود فسجدوا شكرا للّه على هدايتهم أوّلا لنعمة الإيمان، ثمّ [قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ قال فرعون: إيّاي يعنون لأنيّ ربّيت موسى! قالوا و هارون فزالت الشبهة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 123 الى 126]

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)

قرئ «ء أمنتم» بهمزتين على سبيل الاستفهام.

لمّا رأى فرعون أنّهم أقرّوا بنبوّة موسى عند اجتماع الخلق العظيم فألقى في الحال شبهتين إلى أسماع الناس:

الاولى أنّ هذا لمكر مكرتموه، و أنّكم تواطأتم مع موسى أنّه إذا كان كذا و كذا فنحن نؤمن بك.

و الثانية أنّهم تواطؤوا مع موسى لأجل إخراج القوم من المدينة و إبطال ملكهم فيصيرون ملوكا.

ص: 7

و عن محمّد بن جرير عن السدّيّ في حديث عن ابن عبّاس و ابن مسعود و غير هما أنّ موسى و أمير السحرة التقيا فقال موسى: أ رأيتك إن غلبتك أ تؤمن بي؟ قال الساحر: لآتينّ غدا بسحر لا يغلبه سحر، لئن غلبتني لأومننّ بك، و فرعون ينظر إليهما و يسمع قولهما، فهذا قول فرعون: [إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ .

فهدّدهم فرعون بالوعيد فقال: [فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ و ما اقتصر على هذا الوعيد المجمل فقال: [لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ و قطع اليد و الرجل من خلاف هو أن يقطعهما من جهتين مختلفتين إمّا من اليد اليمنى و الرجل اليسرى، أو من اليد اليسرى و الرجل اليمنى.

و هل هذا الوعيد حصل أم لا؟ قال ابن عبّاس: حصل لقوله تعالى حكاية عنهم:

«رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» يدلّ على أنّه قد نزل بهم بلاء شديد. و قال بعض: ما حصل. و قالوا لفرعون: [وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا] و قولهم: «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» أي صبّ علينا كلّ الصبر لأنّ الإفراغ صبّ جميع ما في الإناء و توفّنا على حالة الإسلام و التسليم لدينك.

[سورة الأعراف (7): الآيات 127 الى 129]

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

روي أنّه لمّا أسلم السحرة و آمنوا آمن من بني إسرائيل ستّمائة ألف نفس فقال الأمراء من أصحاب فرعون: أ تذر موسى و قومه ليظهروا مخالفتك بعبادة غيرك؟ و كان فرعون يستعبد الناس و هو بنفسه يعبد الأصنام. قال السدّيّ يعبد ما يستحسن من البقر و قيل: إنّه كان يأمر بعبادة البقر و لذلك أخرج السامريّ لهم عجلا جسدا له خوار لكن قال مجاهد:

فرعون يعبد و لا يعبد.

قال فرعون: [سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ الّذين فيهم النجدة و القوّة و نستبقي بناتهم و نساءهم إذ لا يكون فيهنّ النجدة و القوّة و قد انقطع طمعه عن موسى لما رأى من علوّ قدرته و قوّته فانتقل إلى عذاب المستضعفين [وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ .

ص: 8

فشرع ثانيا بقتل بني إسرائيل فشكى بنو إسرائيل إلى موسى فأمرهم بالاستعانة باللّه و الصبر على دينكم و على أذى فرعون [إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ .

[قالُوا] أي بني إسرائيل لموسى: قد أوذينا قبل مجيئك بالنبوّة بقتل أولادنا، و أوذينا بعد مجيئك هذا اليوم بهذا القتل الثاني فجدّد موسى لهم بالوعد قال: [عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ مكانهم [فِي الْأَرْضِ فيرى بوقوعه فيكم ليجازي عباده بالوقوع لا على ما يعلم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 130 الى 131]

وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)

اللّام للقسم أي و لقد عاقبنا قوم فرعون بالجدب و القحط و نقصان من ثمراتهم، و إنّما انزل عليهم هذه المضارّ ليتذكّروا و ينقادوا و مع ذلك أقدموا على ما يزيد في عصيانهم.

[فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ] أي النعمة و الثمار و الخصب قالوا: هذه النعم لاستحقاقنا [وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ] يريد القحط و المرض. و الشدّة يتشأّموا بموسى و قومه ألا إنّ طائرهم و شؤمهم لقضاء اللّه و حكمه و يقال للشؤم: طيرة و طائر، و العرب كانوا في عنافة الطير و زجرها رغبة و يزعمون التطيّر ببارحها و نعيق غربانها و الأخذ بذات اليسار إذا أثاروها من أوكارها فقالوا: بارح و ربّ الكعبة، و إذا أخذت ذات اليمين قالوا: سارح و ربّ الكعبة و تفأّلوا بها فأبطل اللّه بقوله: «إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ» أنّه بقضائه و أنّ طيرتهم باطلة.

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: لا طيرة و كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله يتفأّل و لا يتطيّر، و الفال الكلمة الحسنة كقول الرجل من غير قصد في كلامه: يا سالم فيتفأّل به للمريض أو المسافر بالسلامة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 132 الى 133]

وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)

حكى سبحانه من جهالاتهم بأنّهم لم يميّزوا المعجزة من السحر، و جعلوا انقلاب العصا ثعبانا من باب السحر فقالوا:

[مَهْما تَأْتِنا بِهِ و كلمة «مهما» أصلها ماما، و ما الاولى ما الجزاء و الثانية تأكيد للجزاء كما يراد في «كيفما» ثمّ أبدلوا من ألف ما الاولى هاء كراهة تكرار اللفظ فصار مهما، هذا قول

ص: 9

البصريّين، و قال الكوفيّون: ما الأولى أصلها «مه» بمعنى اكفف دخلت على ما الّتي للشرطيّة فصيّر المعنى اكفف فيكون المعنى أي شي ء تأتي به فهو سحر و نحن لا نؤمن بها البتّة.

و لمّا قالوا هذا الكلام لموسى قال ابن عبّاس: و كان موسى عليه السّلام رجلا حديدا فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب اللّه دعاءه فأرسل اللّه عليهم الطوفان عقوبة لجرائمهم أي الماء الّذي طاف بهم و غشي أماكنهم و حروثهم من مطر و سيل. و قيل: الجدري. و قيل: الطاعون.

قال الصادق عليه السّلام: الماء طاف بهم و الطاعون و أرسل الطوفان من سبت إلى سبت و من اسبوع إلى اسبوع ليلا و نهارا.

فاستغاثوا و صرخوا إلى فرعون، فأرسل فرعون إلى موسى و قال: اكشف عنّا العذاب فقد صارت المصر بحرا واحدا لئن كشفت عنّا العذاب آمنّا بك، فأزال اللّه عنهم العذاب و أرسل الرياح فجفّفت الأرض و خرج من النبات ما لم يروا مثله قطّ. فقالوا: هذا الّذي جزعنا منه خير لنا لكنّا لم نشعر به فلا و اللّه لا نؤمن بك و لا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد.

فأرسل اللّه عليهم الجراد، فأكل النبات و عظم الأمر عليهم حتّى صارت عند طيرانها تغطى الشمس و وقع بعضها على بعض في الأرض ذراعا فأكلت النبات فصرخ أهل مصر، فدعا موسى فأرسل اللّه ريحا فألقته في البحر فنظر أهل مصر إلى أنّ بقيّة من زروعهم تكفيهم، فقالوا: هذا الّذي بقي يكفينا و لا نؤمن بك يا موسى، و بين كلّ عذاب و عذاب سنة.

فأرسل اللّه عليهم القمّل من سبت إلى سبت و هي السوس و قيل: صغار الجراد فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلّا أكلته فصاحوا و استغاثوا لموسى و عاهدوا بالإيمان فأرسل اللّه عليها ريحا حارّة فأحرقتها، و أماتتها و احتملتها الريح فألقتها في البحر فلم يؤمنوا.

فأرسل اللّه عليهم الضفادع فصرخوا إلى موسى و حلفوا بإلهه لئن رفعت عنّا هذا العذاب لنؤمن بك فدعا موسى فأمات اللّه الضفادع و أرسل عليها المطر و السيل فأزالها إلى البحر ثمّ أظهروا الكفر و الفساد.

فأرسل اللّه عليهم الدم فجرت أنها رهم دما فكان للقبطيّ دما و للإسرائيليّ يراه ماء فإذا شربه الإسرائيليّ كان ماء و القبطيّ كان دما، و كان القبطيّ يقول للإسرائيليّ: خذ

ص: 10

الماء في فيك و صبّه في فمي فكان إذا صبّه في فم القبطيّ تحوّل دما، و إنّ فرعون اعتراه العطش حتّى أنّه اضطرّ إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها تصير في فمه دما، فمكثوا سبعة أيّام يشربون الدم و قيل: الدّم الّذي سلّط اللّه عليهم الرعاف.

فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربّك أن يكشف عنّا هذا الدم فنؤمن و نرسل بني إسرائيل معك، لأنّ فرعون كان قد حبس بني إسرائيل عنده، فلمّا رفع اللّه عنهم الدم لم يؤمنوا و لم يخلّوا عن بني إسرائيل.

و مكث موسى فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات بين برهة من الزمان «مفصّلات» فصّل بين بعضها و بعضها، فاستكبروا مع ذلك و صاروا قوما مجرمين أو كان بمعناه.

[سورة الأعراف (7): الآيات 134 الى 135]

وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)

اختلفوا في المراد من الرجز فقال بعضهم: المراد الأنواع الخمسة المذكورة. قال سعيد بن جبير: المراد الطّاعون الّذي أصابهم في يوم واحد فمات منهم سبعون ألف قبطيّ فتركوا بغير دفن فقالوا: [ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي المعاهدة الّتي بيننا بأن إذا آمنّا رفع العذاب عنّا.

و قيل: الباء للقسم و جوابه «لنؤمننّ» و قيل: معنى قوله: «بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» أي بما تقدّم لك أنّك إن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في تلك المرّات.

قال الصادق عليه السّلام: إنّه قد أصابهم فلج أحمر و لم يروه قبل ذلك فماتوا فيه.

قوله: [فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ] إلى وقت معيّن هم بالغوه لا مطلقا و بالكلّيّة فاجؤوا النكث و الخلف.

[سورة الأعراف (7): آية 136]

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)

لمّا كشفنا عنهم العذاب من قبل مرّات و كرّات و لم يمتنعوا عن كفرهم ثمّ بلغوا الأجل الموقّت انتقمنا، و الانتقام سلب النعمة بالعذاب. و «اليمّ» البحر و معظم مائه و اشتقاقه من التيمّم لأنّ المستقين به يقصدونه و كانوا عن هذه النقمة غافلين.

ص: 11

و الضمير عائدة و مرجعه إلى النقمة الّتي دلّ عليها قوله «انتقمنا» أو إلى الآيات، و المراد عن الغفلة عدم الاعتناء.

[سورة الأعراف (7): آية 137]

وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

المراد بالاستضعاف اتّخاذ فرعون بني إسرائيل عبيدا و قتل أبنائهم و أخذ الجزية منهم.

قوله: [مَشارِقَ الْأَرْضِ قيل: مشارق أرض الشام و مصر لأنّها هي الّتي كانت تحت تصرّف فرعون و هي الّتي بوركت بالخصب و النعمة. و قيل: المراد جملة الأرض و ذلك لأنّه خرج من جملة بني إسرائيل داود و سليمان و قد ملك الأرض.

و [الْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة، المراد إنجاز الوعد الّذي تقدّم بإهلاك عدوّهم و استخلافهم في الأرض، و ذلك بسبب صبرهم على البلاء. و من قابل البلاء بالجزع وكله اللّه إليه، و من قابله بالصبر ضمن اللّه له بالفرج.

قوله: [ما كانَ يَصْنَعُ يريد معروشات فرعون من الجنّات و بنائه المشيّد كصرح هامان.

[سورة الأعراف (7): الآيات 138 الى 139]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139)

و لمّا ضرب موسى عصاه على البحر و فلقه و جعله اللّه يبسا، و جاوز بنو إسرائيل البحر شاهدوا قوما ملازمين على أصنام يعبدونها. يقال: عكف أي لزم شيئا، و المعتكف ملازم المسجد.

قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم و كانوا نزولا بالرّيف و كانت الأصنام تماثيل بقر، و ذلك أوّل بيان قصّة العجل و منشؤه.

فلمّا رأوا تلك التماثيل قالت بنو إسرائيل لموسى: [اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ]

ص: 12

و طلبوا من موسى أن يعيّن لهم تمثالا يتقرّبون بعبادته إلى اللّه و هذا القول هو الّذي حكاه عن عبدة الأوثان حيث قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى و من المعلوم أنّ هذا القول ما صدر من جميع بني إسرائيل لأنّه كان مع موسى السبعون المختارون و كان فيهم من يرتفع شأنه عن مثل هذا السؤال الباطل، فأجابهم موسى أنّكم قوم جاهلون.

ثمّ بيّن لهم موسى أنّ هؤلاء العاكفين على عبادة الأصنام متبّرون و هالكون، من تفتّت التبر و الذّهب المتكسّر و أنّ عملهم باطل.

[سورة الأعراف (7): آية 140]

قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140)

قال موسى على سبيل التعجّب و الإنكار: أغير اللّه أطلب لكم إلها، و بعض جعلوا «إلها» حالا و «غيرا» مفعولا به، و بعض بالعكس. و هو فضّلكم على أهل زمانكم و أنتم اختصصتم بهذه الآيات على تمام أهل عالمكم.

[سورة الأعراف (7): آية 141]

وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

و تفسير هذه الآية مرّ في سورة البقرة لا حاجة إلى الإطالة. و الغرض في بيان نعم اللّه على بني إسرائيل فكيف يليق مع هذه النعم عبادة غيره؟

[سورة الأعراف (7): آية 142]

وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

قرئ «و وعدنا» روي أنّ موسى و هو بمصر وعد بني إسرائيل أن إذا أهلك اللّه عدوّهم أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون و ما يذرون، فلمّا هلك فرعون سأل موسى ربّه الكتاب، فهذه الآية بيان كيفيّة نزول التوراة.

فإن قيل: و ما الحكمة هاهنا في ذكر الثلاثين ثمّ إتمامها بعشر؟

و أيضا لو قيل: إنّ قوله: [فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً] يتبيّن أنّه كلام عار عن الفائدة؛ لأنّ كلّ أحد يعلم أنّ الثلاثين مع العشر يكون أربعين؟

فالجواب أنّه أمر تعالى موسى بصوم ثلاثين يوما و هو شهر ذي القعدة و أن يعمل فيها ما يقرّبه إلى اللّه فبعد أن أتمّ الثلاثين أنزلت التوراة في العشرة البواقي، و كلّمه و

ص: 13

ناجاه في العشرة الرابعة فتمّت النعمة بهذا الترتيب فهذه هي الفائدة في تفصيل الأربعين بهذا البيان.

و يمكن أن يكون موسى أتى الطور عند تمام الثلاثين فلمّا أعلمه اللّه خبر قومه مع السامريّ رجع فورا إلى قومه، ثمّ عاد إلى الميقات في عشرة أخرى، فتمّ أربعون ليلة.

و يمكن أن يكون الوعد الأوّل لموسى وحده و حضره، و الوعد الثاني حضر المختارون معه ليسمعوا كلام اللّه فصار الموعد اثنان لاختلاف حال الحاضرين.

قال الرازيّ في المفاتيح و العلّامة أبو السعود في تفسيره: إنّه تعالى أمر موسى بصوم ثلاثين يوما فلمّا أتمّ الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوّك فقالت الملائكة: كنّا نشمّ عن فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأوحى اللّه إليه أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ثمّ أمره أن يزيد عليها عشرة أيّام ذي الحجّة لهذا السبب.

و عن الجواب الثاني أجابوا أنّه تعالى: قال «أربعين» إزالة لتوهّم أنّ ذلك العشر من الثلاثين لأنّه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنّه كان عشرين ثمّ أتمّه بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإبهام.

و قوله: [أَرْبَعِينَ لَيْلَةً] نصب على الحال أي تمّ بالغا هذا العدد.

[اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي أي كن خليفتي فيهم [وَ أَصْلِحْ ما يجب أن يصلح لهم، و من دعاك إلى الفساد فلا تطعهم.

فإن قيل: إنّ هارون كان نبيّا و النبيّ لا يفعل إلّا الصلاح؛ فالمقصود التأكيد.

و «الميقات» يمكن أن يكون ظرف زمان، و يمكن أن يكون ظرف مكان كما استعمل في مواقيت الإحرام، فإنّها ظروف للأمكنة المخصوصة لأهل الآفاق.

[سورة الأعراف (7): آية 143]

وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

دلّت الآية على أنّه سبحانه كلّم موسى في الميقات و هاهنا بيانات عالية من العلوم الالهيّة، و من المعلوم أنّه سبحانه ما كلّمه بلسانه فإنّه منزّه من أن يكون له لسان و فم

ص: 14

يتكلّم به، بل إنّ اللّه أحدث الكلام في الشجرة و جعل الكلام منبعثا منها فسمع كلامه من جميع الأطراف من فوق و أسفل و يمين و شمال و وراء و أمام.

قوله: [وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ أي من غير واسطة سفير من الملائكة كما يكلّم الملائكة كما يكلّم الملائكة من غير سفير.

و اختلفوا في أنّه تعالى كلّم موسى وحده أو كلّمه مع أقوام آخرين؟ و ظاهر الآية يدلّ على الأوّل. و قال جماعة منهم القاضي عبد الجبّار: بل السبعون المختارون سمعوا أيضا؛ لأنّ الغرض من إحضارهم أن يخبروا قوم موسى و يشهدوا عمّا يجري هناك.

[قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ في العيون عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل كيف يجوز أن يكون موسى لا يعلم أنّ اللّه لا يجوز عليه الرؤية حتّى يسأله هذا السؤال؟ فقال عليه السّلام:

إنّ كليم اللّه علم أنّ اللّه سبحانه منزّه عن أن يرى بالأبصار و لكنّه لمّا كلّمه اللّه و قرّبه نجيّا رجع إلى قومه فأخبرهم بذلك، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما سمعته.

و كان القوم سبعمائة ألف فاختار منهم سبعين ألف ثمّ اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّه فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل، و صعد موسى إلى الطور و سأل اللّه أن يكلّمه و يسمعهم كلامه فكلّمه اللّه و سمعوا كلامه من جميع الجهات، فقالوا: لن نؤمن بأنّ الّذي سمعناه كلام اللّه حتّى نرى اللّه عيانا! فلمّا قالوا هذا القول العظيم و استكبروا و عتوا بعث اللّه عليهم صاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا. فقال موسى: يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم و قالوا:

إنّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنّك لم تك صادقا فيما ادّعيت؟

فأحياهم اللّه و بعثهم معه، فقالوا: إنّك لو سألت اللّه أن يراك تنظر إليه لأجابك كما أجابك في الكلام فقال موسى: يا قوم إنّ اللّه لا يرى بالأبصار و لا كيفيّة له و إنّما يعرف بآياته، فقالوا: لن نؤمن حتّى تسأله فقال موسى: يا ربّ إنّك سمعت ما قاله بنو إسرائيل، فأوحى اللّه إليه: يا موسى سل ما سألوك فلن اؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى: [رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ و هو لا يهوي- فَسَوْفَ تَرانِي . [فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ بآية من آياته [جَعَلَهُ دَكًّا] و قرئ دكّاء فمعنى دكّا أي رميما متفتّتا و دكّاء أي صار ربوة عالية أو معنى الدكّ: مدقوقا و صار ترابا مع

ص: 15

الأرض استوى و وقع موسى مغشيّا عليه، فلمّا أفاق من غشيته قال: منزّه عن الأبصار أنت يا ربّ و رجعت إلى معرفتك عن سؤال قومي و جهلهم.

و في تفسير العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام أنّ موسى بن عمران لمّا سأل ربّه النّظر إليه وعده اللّه أن يقعد في موضع ثمّ أمر الملائكة أن تمرّ عليه موكبا موكبا بالبرق و الرعد و الصواعق فكلّما مرّ به موكب من المواكب ارتعدت فرائصه فيرفع رأسه فيسأل أ فيكم إلخ؟

ثمّ قالت الملائكة: سألت أمرا عظيما يا ابن عمران.

و عنه و عن الباقر عليه السّلام: لمّا سأل موسى ربّه انظر قال: «لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» قال: فصعد موسى الجبل و فتحت له أبواب السماء و أقبلت الملائكة أفواجا في أيديهم العمد و في رأسها النور يمرّون به فوجا بعد فوج يقولون: يا ابن عمران أثبت فقد سألت أمرا عظيما، فلم يزل موسى واقفا حتّى تجلّى ربّنا جلّ جلاله فجعل الجبل دكّا و خرّ موسى صعقا، فلمّا أفاق قال: «سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ».

و في رواية أنّ النار أحاطت بموسى لئلّا يهرب هول ما رأى، فلمّا أن ردّ اللّه روحه أفاق فقال: سبحانك. القميّ في قوله: «وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ»، قال: فرفع اللّه الحجاب و نظر إلى الجبل فساخ الجبل فهو يهوي إلى الساعة، و نزلت الملائكة و فتحت أبواب السماء فأوحى اللّه إلى الملائكة أن أدركوا موسى لا يهرب، فأحاطت الملائكة بموسى و قالوا:

أثبت يا ابن عمران فقد سألت اللّه أمرا عظيما فلمّا نظر موسى أنّ الجبل قد ساخ و الملائكة قد نزلت وقع على وجهه من خشية اللّه و هول ما رأى فردّ اللّه إليه روحه و أفاق و قال:

«سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» أي أنا أوّل من آمن بأنّك لا ترى.

و في البصائر عن الصادق عليه السّلام إنّ الكرّوبين قوم من شيعتنا من الخلق الأوّل جعلهم خلف العرش لو قسّم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم ثمّ قال عليه السّلام: إنّ موسى لمّا سأل ربّه ما سأل أمر اللّه واحدا من الكرّوبين فتجلّى للجبل و جعله دكّا.

و قيل في الآية وجه آخر و هو أن يكون المراد بقوله: «رَبِّ أَرِنِي» أي عرّفني نفسك تعريفا جليّا واضحا بإظهار آية من بعض الآيات الّتي تضطرّ الخلق إلى معرفتك حتّى أعرفك معرفة ضروريّة كأنّي أنظر إليك، فقال سبحانه: لن تطيق معرفتي على هذه

ص: 16

الطريق و لن تحتمل قوّتك تلك الآية فإنّى أورد على الجبل آية من تلك الآيات فإن احتمل لتجلّيه و استقرّ فسوف تثبت أنت لها.

و تحقيق القول في الرؤية ما أفاده مولى العالمين أمير المؤمنين حيث قال: لم تر ما لعيون بمشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس و لا يدرك بالحواسّ و لا يشبه بالنّاس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، فقال: أنا لم أعبد ربّا لم أره؛ تعالى اللّه عمّا يصفه المشبّهون و الملحدون علوّا كبيرا.

و هذه الأخبار مرويّة عن أئمّتنا بطريق الخاصّة.

و أمّا ما رواه العامّة فالاختلاف في المسألة كثير فزعمت الحنابلة و الحشويّة أنّ الكلام المركّب من الحروف و الأصوات قديم، و هذا القول أخسّ من أن يلتفت إليه العاقل كما قال الرازيّ في المفاتيح قال: لأنّه تعالى إمّا أن يتكلّم بهذه الحروف على الجمع أو على التعاقب و التوالي.

و الأوّل باطل؛ لأنّ هذه الكلمات المسموعة المفهومة إنّما تكون مفهومة إذا كانت حروفها متوالية و أمّا إذا كانت توجد دفعة واحدة فذاك لا يكون مفيدا البتّة.

و الثاني يوجب كونها حادثة؛ لأنّ الحروف إذا كانت متوالية فعند مجي ء الثاني ينقضي الأوّل فالأوّل حادث؛ لأنّ كلّ ما ثبت عدمه امتنع قدمه، و الثاني أيضا حادث؛ لأنّ كلّ ما كان وجوده متأخّرا عن وجود غيره فهو حادث.

فإذا ثبت هذا البيان فللناس قولان: الأوّل أنّ محلّ تلك الحروف و الأصوات الحادثة هو ذات اللّه، و هو قول الكراميّة. الثاني أنّ محلّها جسم مبائن لذات اللّه كالشجرة و أمثالها، و هو قول المعتزلة.

و القول الثاني قول أكثر أهل السنّة و هو أنّ كلام اللّه صفة مغايرة لهذه الحروف و الأصوات و يقولون: إنّه قديم أزلي.

و القائلون بهذا القول اختلفوا في الشي ء الّذي سمعه موسى فقالت الأشاعرة: إنّ موسى سمع تلك الصفة الأزليّة و قالوا: و كما لا يتعذّر رؤية ذاته مع أنّ ذاته ليست جسما و لا عرضا فكذلك لا يبعد سماع كلامه، مع أنّ كلامه لا يكون حرفا، و لا صوتا.

ص: 17

و الحقّ أنّ هذا التفصيل و البيان ما أقر به إلى الشعوذة! لأنّ العقل لا يتصوّر أن يسمع الإنسان كلاما و يفهم منه معنى و لا يكون الكلام صوتا و لا حرفا. و قال أبو منصور الماتريديّ: إنّ الّذي سمعه موسى أصوات مقطّعة و حروف مؤلّفة قائمة بالشجرة فالصفة الأزليّة الّتي ليست بحرف و لا صوت ما سمعه موسى عليه السّلام البتّة و هذا القول يمكن أن يتصوّره الإنسان، و ليس خارجا عن قوّة التصوّر.

و قد قيل في سؤال موسى الرؤية قول آخر: و هو أنّ موسى ما عرف أنّ الرؤية غير جائزة على اللّه. قالوا: و مع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفا بربّه و بعد له و توحيده و لم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية و جوازها موقوفا على السمع و لم يسمع موسى بعد.

و قال أبو بكر الأصمّ: إنّ مقصود موسى من سؤال الرؤية أن يذكر تعالى من الدلائل السمعيّة ما يدلّ على امتناع رؤيته حتّى يتأكّد الدليل العقليّ بالدليل السمعيّ، و تعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء.

و أقول: إنّ من الدلائل على امتناع الرؤية مطلقا لا في الدنيا و لا في الآخرة لا لنبيّ مرسل و لا لمؤمن صالح هو أنّ النبيّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله و هو أعظم الأنبياء و أكرم الخلق أجمعين إذا لم يطق أن يرى جبرئيل بصورته الأصليّة حين نزول الوحي مع هذا الأمر المهمّ و هو يتصوّر بغير صورته كدحية الكلبيّ و غيره فكيف يتمكّن البشر أن يرى اللّه أو يرى موسى أو يرون الملائكة؟ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

على أنّ في القرآن ما يدلّ على امتناع الرؤية كقوله: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» (1) و قوله:

«لن تراني» يدلّ على أنّ موسى لا يرى اللّه لا في الدنيا و لا في الآخرة.

فإن قيل: من أين ثبت معنى التأبيد من كلمة لن؟

فالجواب أنّ قوله: «لن تراني» يتناول الأوقات كلّها بدليل صحّة الاستثناء و مقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ و نحن نرى أنّ كلمة «لن» متى استعملت أريد منها تأبيد النفي؛ فإنّ قولنا «لا أفعل» و «لن أفعل» بين معناهما فرق بعيد و

ص: 18


1- الانعام: 103.

ليس الفرق إلّا التأبيد كقوله: «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» (1).

ثمّ إن كانت الرؤية ممكنة و جائزة فلم خرّ عند سؤالها صعقا، و لمّا أفاق قال:

«سُبْحانَكَ» و المراد من هذه الكلمة تنزيه اللّه عمّا لا يليق؟ و الّذي تقدّم ذكره هو الرؤية و تنزيه اللّه إنّما يكون عن النقائص؛ فوجب كون الرؤية من النقائص و ذلك محال على اللّه في الدنيا و في الآخرة، و بهذه الدلائل القطعيّة وجب صرف بعض الآيات الدالّة على الرؤية إلى التأويل مثل قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» (2) و أمثالها.

[سورة الأعراف (7): آية 144]

قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)

هذه الآية تسلية لخاطر موسى أن منعه اللّه من الرؤية، كأنّه يقول: إذا طلبت لقومك الرؤية و منعتك فقد أعطيتك من النعم العظيمة الّتي خصصتك بها، فاشتغل بشكرها، و هي أنّي اتّخذتك صفوة على الناس و منتخبا برسالاتي، و قرئ «برسالتي» و يجوز إفراده لأنّه مصدر في موضع الجمع «و بكلامي» أي أنت كليمي.

فإن قيل: كيف اختصاصه مع أنّ كثيرا من الناس ساواه في الرسالة؟

الجواب أنّ الاختصاص وقع بمجموع الأمرين و هو الرسالة و الكلام بغير واسطة الملائكة، و هذان الأمران مجموعا لم يتّفق لغيره إلى زمانه. فخذها و اشتغل لشكرها و القيام بلوازمها علما و عملا.

[سورة الأعراف (7): آية 145]

وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)

قال الزمخشريّ عن المفسّرين: إنّ موسى خرّ صعقا يوم عرفة، و أعطاه اللّه التوراة يوم النحر.

و ذكروا في عدد الألواح و في جوهرها أنّها كانت عشرة ألواح. و قيل: سبعة و أنّها

ص: 19


1- الحج: 72.
2- القيامة: 22- 23.

من زمرّدة جاء بها جبرئيل: و قيل: من زبرجدة و ياقوتة حمراء. و قيل: من خشب. قال وهب: كانت من صخرة صمّاء.

و أمّا كيفيّة الكتابة فقال ابن جريح: كتبها جبرئيل بالقلم الّذي كتب به الذكر و استمدّ من نهر النور و لكن ليس في الآية ما يدلّ على كيفيّة الألواح و كيفيّة الكتابة، فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قويّ وجب القول به.

و المراد بقوله: [مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي من كلّ ما يحتاج به موسى و قومه في دينهم من الحلال و الحرام، و المحاسن و المقابح.

و قوله: [مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ] بيان للجملة السابقة.

قوله: [وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها] و هاهنا سؤال و هو أنّه تعالى لمّا تعبّد بكلّ ما في التوراة وجب كون الكلّ مأمورا به و قوله: «يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» يقتضي أنّ فيه ما ليس بأحسن و أنّه لا يجوز لهم الأخذ به، و ذلك متناقض؛ فذكروا وجوها:

الأوّل أنّ تلك التكاليف منها ما هو حسن و منها ما هو أحسن: كالقصاص و العفو، قال اللّه: فمرهم يأخذوا بأحسنها و هو العفو، و يحمل الأحسن على الندب و الحسن على الإباحة فيزول التناقض.

الوجه الثاني قال: يأخذوا بأحسنها أي لحسنها كقوله: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» (1) أي كبير؛ قال الفرزدق:

إنّ الّذي رفع السماك بنى له بيتا دعائمه أعزّ و أطول

قوله: [سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قال ابن عبّاس: المراد التهديد و الوعيد كي لا يخالفوا التوراة و يكونوا من الفسّاق و يستوجبوا بالمخالفة دارهم. قال قتادة: المراد: سأدخلكم الشام و أراكم منازل الكافرين الّذين كانوا متوطّنين بها من الجبابرة لتعتبروا بها و ما صاروا إليه من النكال. قال الكلبيّ: دار الفاسقين هي المساكن الّتي كانوا يمرّون عليها إذا سافروا مثل منازل عاد و ثمود و القرون الهالكة. و قيل: المراد الوعد و البشارة بأنّه تعالى سيورّثهم أرض أعدائهم و ديارهم كما أورثهم.

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَ

ص: 20


1- العنكبوت: 44.

[سورة الأعراف (7): آية 146]

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (146)

النظم: لمّا تقدّم ذكر المعجزات لموسى و ما طلب فرعون من إبطال معجزات موسى بالسحر بيّن في هذه الآية بأنّه يمتنع عن إيصال آياتي المكذّبون و المتكبّرون كفرعون و أمثاله و لا يظهر المعجزات إلّا على يد نبيّ.

و قيل: إنّها خطاب لموسى عن إتمام ما وعده في إهلاك أعدائه و صرفهم عن الاعتراض له أي خذ التوراة و اعمل أنت و قومك آمنا على قوّة و لا تخف من عدوّ لك، و قد صرفت المعارضة عن آياتي الّتي جعلتها حجّة لك و سوف أصرف.

و قيل: الآيتان اعتراض بين قصّة موسى، و الخطاب لمحمّد صلى اللّه عليه و آله أنّه يصرف المنكرين عن نبوّتك كما صرف فرعون عن موسى.

و الأشاعرة احتجّوا بهذه الآية على أنّه تعالى يمنع عن الإيمان بظاهر الآية و هذا قول فاسد؛ لأنّه من المعلوم أنّ العقوبة على الكفر بعد خلق الكفر فيهم لا يجوز و لو صرفهم عن الإيمان و صدّهم عنه كيف يمكن و يجوز أن يقول مع ذلك: «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (1) و في موضع آخر يقول: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» (2) و في موضع قال: «وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا* (3)»؟ فثبت أنّ حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن بل المراد و المعنيّ إعلام النبيّ بمنع أعدائه من إيذائه و أمره بالقيام بما يلزمه في تبليغ النبوّة و الرسالة، و ذلك مثل قوله تعالى: «بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (مِنْ رَبِّكَ) وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» (4).

و قال الجبّائيّ: معنى الآية: سأصرف هؤلاء المتكبّرين عن نيل ما في آياتي من العزّ و الكرامة المعدّة للأنبياء و المؤمنين عقوبة على كفرهم و كبرهم عليّ. ثمّ من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلّا بعد سبق الإيمان فإذا تكبّروا و كفروا فقد صيّروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بها فحينئذ يصرفهم عنها، و أنّ اللّه إذا علم من حال بعضهم أنّه لا يؤمن بتلك الآيات و يستخفّ بها صحّ من اللّه أن يصرفه عنها. انتهى.

ص: 21


1- الانشقاق: 20.
2- المدثر: 50.
3- الكهف: 53.
4- المائدة: 71.

قوله: [بِغَيْرِ الْحَقِ لأنّ إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحقّ لأنّ للمحقّ في أدلّة الدين أن تتكبّر على الكافر و المبطل.

قوله: [وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ] أي سبيل استقامة الدين و الصواب في العلم و العمل لا يقبلوه [وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ و الضلالة أعرضوا عن سبيل الهداية و تمرّنوا على سبيل الضلالة حتّى صاروا بمنزلة الغافل عنها.

[سورة الأعراف (7): آية 147]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)

و لأجل أن لا يتوهّم متوهّم أنّ بعض المكذّبين بسبب أعمال البرّ الّتي يصدر عنهم لا يعذّبون بيّن سبحانه في هذه الآية أنّ المكذّبين أجمع يجازون سواء تكبّروا أو تواضعوا أو كانوا قليلي الإحسان أو كثيريه لمّا كذّبوا نبيّهم و جحدوا المعاد فأعمالهم بسبب الجحود و التكذيب محبطة.

[هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ استفهام بالصورة و المراد التوبيخ و الإنكار.

[سورة الأعراف (7): آية 148]

وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (148)

بيان قصّة السامريّ. قرئ «حليّهم» بكسر الحاء و اللّام و بفتح الحاء و سكون اللام و بضمّ الحاء و كسر اللام. و الاتّخاذ اجتباء الشي ء لأمر من الأمور فهؤلاء اتّخذوا العجل المصوغ من الذهب و الفضّة لأن يعبدوه. و الخوار الصراخ و صوت غليظ.

و مختصر القصّة أنّ بني إسرائيل كان لهم عيد يتزيّنون فيه، فاستعاروا من قوم فرعون حليّهم- و الحليّ اسم لما يتزيّن به لذلك اليوم- فلمّا أغرق اللّه فرعون و القبط بقيت تلك الحليّ في أيدي بني إسرائيل فجمع السامريّ تلك الحليّ و كان رجلا مطاعا فيهم، ذا قدر و شرف و كانوا قد سألوا موسى قبل أن يجعل لهم إلها يعبدونه. فصاغ السامريّ عجلا من تلك الحليّ.

قيل: قد أخذ السامريّ كفّا من تراب حافر فرس جبرئيل فألقاه في جوف ذلك العجل المجسّد بلا روح فانقلب لحما و دما، و ظهرت منه الخوار مرّة واحدة (و قرئ جوار

ص: 22

بالجيم) فقال السامريّ: هذا إلهكم و إله موسى.

و قال أكثر المفسّرين من المعتزلة: إنّه لا يمكن هذا الأمر بل جعل السامريّ ذلك العجل مجوّفا و وضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص و كان قد وضع ذلك التمثال على مهبّ الريح فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب و يظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل. و قال آخرون: إنّه جعل ذلك التمثال أجوف و جعل تحت التمثال في الموضع الّذي ينصب فيه العجل رجلا ينفخ فيه من حيث لا يشعر الناس له فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار كما صنع بعده ابن المقفّع شبيه هذا التمويه في الخشب على ما قيل.

و بالجملة فأرجف أنّ موسى عليه السّلام قد مات لمّا لم يرجع بعد الثلاثين فأمرهم السامريّ بعبادة العجل فأطاعوه و لم يطيعوا هارون، و عبدوه كلّهم إلّا هارون، لأنّ موسى قال: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي» و ذلك يدلّ على أنّ من كان عابدا لها ما كان أهلا للدّعاء و قيل قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه و الدليل عليه قوله: «وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» (1).

و الحاصل أنّ سبحانه لمّا حكى عنهم هذا المذهب احتجّ على فساده بقوله: [أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ و لا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب فكيف يصلح للإلهيّة؟ و هم بسبب عبادة العجل كانوا لأنفسهم ظالمين.

[سورة الأعراف (7): آية 149]

وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)

و قرئ «سقط» على البناء للفاعل، هذه العبارة بطريق الاستعارة و التمثيل أي ندموا على ما فعلوا لأنّ النادم المتحسّر يسقط يده زلّة و حسرة فتصير يده مسقوطا فيها.

قال الواحديّ: إنّ هذه الاستعارة مأخوذ من السقيط و هو ما يغشى الأرض بالغدوات وقت الشتاء شبه الثلج أي وقع في يده السقيط و هو يذوب فورا بأدنى حرارة و لا يبقى، فمن وقع في يده السقيط لم يحصل له منه شي ء، فصار هذا مثلا لكلّ من عمل عملا و خسر في عاقبته و النادم يقال له: سقط في يده و يتحيّر في أمره و الآلة الأصليّة في الأعمال في أكثر الأمور

ص: 23


1- الآية ال 159.

هي فتسقط اليد عن العمل و رأوا أنّهم قد ضلّوا أي تبيّن ضلالهم كأنّهم أبصروه.

قال القاضي: تقدير الآية: لمّا رأوا قد ضلّوا سقط في أيديهم؛ لأنّ الندم إنّما يقع بعد المعرفة فلمّا تبيّن لهم ضلالتهم أظهروا الانقطاع إلى اللّه فقالوا: «لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا، إلخ» و هذا الندم و الاستغفار إنّما حصل بعد رجوع موسى من الميقات.

[سورة الأعراف (7): الآيات 150 الى 151]

وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)

أخبر سبحانه عمّا فعله بعد رجوعه من الميقات و رأى عكوف قومه على عبادة العجل.

قيل: لم يكن موسى عالما بعمل قومه من عبادة العجل، الصحيح أنّه كان عالما و قد أخبره اللّه بوقوع الواقعة في الميقات و قال له: «فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ» في سورة طه. يقال:

رجل أسيف أي حزين، و الأسف الغضب الّذي فيه تأسّف على فوت ما سلف. قال الواحديّ:

الغضب و الأسف معناهما متقاربان، و إذا جاءك ما تكره ممّن هو دونك أسفت و إذا جاءك ممّن هو فوقك حزنت، فسمّي إحدى الحالتين غضبا و الأخرى حزنا.

فرجع موسى من الميقات غضبانا على قومه لأجل عبادتهم العجل حزينا قال: [بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي و التقدير: بئس خلافة خلفتموني، و المخصوص بالذمّ هو الفاعل مضمر يفسّره «ما خلفتموني» و الخطاب قيل: لعبدة العجل، و قيل: لوجوه بني إسرائيل هارون و المؤمنين معه.

فلو قيل: أيّ معنى لقوله: [مِنْ بَعْدِي بعد قوله «خلفتموني»؟

فالجواب: من بعد ما رأيتم من الآيات و الشواهد.

قوله: [أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ و الفرق بين العجلة و السرعة أنّ العجلة التقدّم بالشي ء قبل وقته، و لذا صارت مذمومة، و السرعة عمل الشي ء في أوّل وقته، و لذا غير مذمومة و قد يستعمل العجلة بمعنى السرعة و هي غير مذمومة كقوله: «وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِ

ص: 24

لِتَرْضى (1).

روي أنّ التوراة كانت سبعة أسباع فلمّا ألقى الألواح تكسّرت فرفع منها ستّة أسباع و بقي سبع. و في البصائر عن أمير المؤمنين: تكسّر منها شي ء و تفرّق و رفع منها شي ء و بقي لهم شي ء. و عن الباقر عليه السّلام: إنّ صخرة باليمن التقمت ممّا ذهبت و تكسّرت من التوراة حين ألقاها موسى فلمّا بعث اللّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله حمله إليه و هي عندنا.

و الطاعنون في عصمة الأنبياء تشبّثوا بهذه الآية أنّه صلى اللّه عليه و آله ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه على سبيل الإهانة. و ليس الأمر كذلك، و إلقاء الألواح من شدّة غيرته على دين اللّه و بيان قبح عمل العبادة لغير اللّه و أمّا جرّ رأس أخيه ليسارّه و يستكشف منه كيفيّة الواقعة ليعالج الأمر.

و قرئ «ابن أمّ» بكسر الميم ليدلّ على الإضافة إلى تاء المتكلّم. و قرئ «ابن أمّ» بفتح الميم المبنيّ و جعلا اسما واحدا كخمسة عشر و حضر موت، أو على تقدير «أمّا» على تقدير حذف الألف المبدلة من تاء الإضافة.

و اعتذر هارون بأنّ القوم جعلوني ضعيفا، و ما قدرت عليهم فلا تشمت بي أعداءك و أعدائي و لا تجعلني شريكا مع القوم الظالمين الّذين عبدوا العجل فعند هذا قال موسى:

[رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي حين أظهر براءته و هذه حالة الانقطاع إلى اللّه و عادة الأنبياء هكذا، لا أنّه وقع منه أمر قبيح يحتاج إلى الاستغفار. و كان هارون أخاه من أبيه و امّه و إنّما نسب إلى الأمّ لأنّ حقّ الأمّ أولى بالمراعاة و في مثل هذه المقامات وقوع النسبة إلى الأمّ أكثر.

[سورة الأعراف (7): الآيات 152 الى 153]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)

شرح حال من عبد العجل و المفعول الثاني من «اتّخذ» محذوف أي اتّخذ العجل إلها و يدلّ على المحذوف قوله: «هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى و هم الّذين باشروا عبادة العجل قال

ص: 25


1- طه: 86.

فيهم: [سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ .

فإن قيل: إنّ أولئك الأقوام تاب اللّه عليهم بسبب أنّهم قتلوا أنفسهم في معرض التوبة و إذا تابوا كيف يمكن أن يقال في حقّهم: إنّه سينالهم غضب من ربّهم؟

الجواب أنّ ذلك الغضب إنّما حصل في الدنيا لا في الآخرة بأمرهم بقتل أنفسهم و بسبب الضلالة أصابتهم ذلّة في الحياة الدنيا.

فإن قيل: إنّ السين للاستقبال؛ فالجواب أنّ هذا الكلام صدر حين أخبر سبحانه موسى بافتتان قومه في الميقات، و الغضب وقع بعد ذلك فصحّ الكلام. و يمكن أنّ المراد أن سينال أبناءهم غضب و ذلّة الدين في زمن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و العرب يعيّر الأبناء بقبائح الآباء كما يفعل في المناقب.

[وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ و كلّ مفتر في دين اللّه فجزاؤه غضب و ذلّة. قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلّا و يجد ذلّة و قرأ هذه الآية.

و أمّا قوله: [وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها] يدلّ على أنّ التوبة من السيّئات بأسرها و حصول الإيمان بعد التوبة مقبولة فلو كان أمر لا يقبل التوبة فذلك بدليل منفصل.

[سورة الأعراف (7): آية 154]

وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

أي لمّا سكن، أو استعارة كأنّ الغضب قواه و أمره على فعل فلمّا سكت عن الأمر و زال الغضب أخذ موسى الألواح. قال عكرمة: إنّ المعنى سكت موسى عن الغضب و فيه قلب كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي [وَ فِي نُسْخَتِها] معنى النسخ النقل و التحويل فإذا كتبت كتابا عن كتاب حرفا بحرف قلت: نسخت ذلك الكتاب.

قال ابن عبّاس: لمّا ألقى موسى الألواح تكسّرت فصام أربعين يوما فأعاد اللّه الألواح و فيها عين ما في الاولى، و على هذا القول يكون المعنى: و فيها نسخ منها، و على قول من قال: لم تتكسّر و كانت بأعيانها موجودة بعد أن ألقاها لا شكّ أنّها كانت مكتوبة من اللوح المحفوظ، فهي أيضا منسوخة و مستنسخة من اللوح، و قوله: [هُدىً وَ رَحْمَةٌ] هدى

ص: 26

من الضلالة، و رحمة بدل العذاب [لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ و خائفون من ربّهم.

و وجوه فائدة اللام في «لربّهم» مع أنّ تقدير المعنى: للّذين يرهبون ربّهم لأنّ تأخّر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفا، فدخلت اللام للتقوية كما في قوله: «لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ» (1).

الثاني لام الأجل لأنّ المعنى: لأجل ربّهم يرهبون لا للرياء و السمعة.

الثالث أنّه قد يزاد حرف الجرّ في المفعول و إن كان الفعل متعدّيا: نحو ألقى يده و ألقى بيده و قوله: «أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (2) فعلى هذا اللام تأكيد: كقوله: ردف لكم و مثل قوله: «وَ لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» (3).

[سورة الأعراف (7): آية 155]

وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)

اختار الشي ء إذا أخذ خيره. المعنى: من قومه، حذفت «من» و اتّصل بالفعل فنصب يقال: اخترت من الرجال زيدا، و اخترت الرجال زيدا.

[وَ اخْتارَ مُوسى من [قَوْمَهُ المعمّرين [سَبْعِينَ رَجُلًا] من اثني عشر سبطا من كلّ سبط ستّة نفر؛ فقال موسى: ليتخلّف منكم رجلان فتشاجروا فقال موسى: إنّ لمن يقعد منكم مثلي أجر من يخرج فقعد كالب و يوشع. و قيل: إنّه لم يوجد إلّا ستّين شيخا فأوحى اللّه إليه أن يختار من الشبّان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا فأمرهم أن يصوموا و يتطهّروا ثيابهم، ثمّ خرج بهم إلى الميقات.

و هنا مسألة: و هي أنّه هل هذا الاختيار و الانتخاب هو للخروج إلى الميقات الّذي كلّم اللّه موسى فيه و سأل موسى الرؤية أو هو خروج إلى موضع آخر؟

للمفسّرين أقوال: الأوّل أنّه لميقات الكلام و الرؤية و أنّه عليه السّلام خرج بهؤلاء

ص: 27


1- يوسف: 43.
2- العلق: 14.
3- آل عمران: 66.

السبعين إلى طور سيناء، و لمّا دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتّى أحاط بالجبل كلّه، و دنا موسى و دخل فيه و قال للقوم: ادنوا فدنوا حتّى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجّدا فسمعوا صوتا خلفه، و هو يتكلّم موسى يأمره و ينهاه: افعل و لا تفعل، ثمّ انكشف الغمام فأقبلوا إليه و طلبوا الرؤية، فأخذتهم الصاعقة و هي المراد من الرجفة المذكورة في الآية.

و القول الثاني أنّ المراد من الميقات هذا غير ميقات الكلام و طلب الرؤية بل ميقات آخر، و ذلك لمّا وقع عبادة العجل اختار موسى قومه سبعين رجلا ليعتذروا عن عبادة العجل.

قال ابن عبّاس: إنّ السبعين الّذين قالوا: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» كانوا قبل السبعين الّذين أخذتهم الرجفة، و إنّما أمر اللّه موسى أن يختار من قومه سبعين فاختار و برز بهم ليدعوا ربّهم؛ فكان في ما دعوا أن قالوا: اللّهم أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا و لا تعطيه أحدا بعدنا؛ فكره اللّه ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة.

قال أمير المؤمنين: إنّما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل هارون و ذلك أنّ موسى و هارون و شبر و شبير ابناه انطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون، فتوفّاه اللّه فلمّا مات دفنه موسى فلمّا رجع إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفّاه اللّه.

فقالوا: بل أنت قتلته و حسدته على أخلاقه و لينه فقتلته، قال موسى: فاختاروا من شئتم؛ فاختاروا منهم سبعين رجلا و ذهب بهم إلى القبر؛ فقال موسى: يا هارون أقتلت أم ميّت؟

فقال هارون: ما قتلني أحد و لكنّي توفّاني اللّه؛ فأخذتهم الرجفة و صعقوا. و قيل: ماتوا فأحياهم اللّه و جعلهم أنبياء.

ثمّ في الآية دلالة اخرى على أنّ هذا الميقات غير ميقات طلب الرؤية و الكلام؛ لأنّ في ميقات الكلام و هو الأوّل لم يظهر منهم سوى طلب الرؤية، فلو كانت الرجفة المذكورة في هذه الآية إنّما حصلت بسبب قولهم: «أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» لوجب أن يقول موسى:

أ تهلكنا بما يقوله السفهاء منّا، بل قال: «أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ» علم أنّ هذه الرجفة إنّما حصلت بسبب الفعل و هو عبادة العجل لا طلب الرؤية.

ثمّ إنّ اللّه ذكر في ميقات الكلام و الرؤية أنّ موسى خرّ صعقا، و أنّ الجبل اندكّ،

ص: 28

و أمّا الميقات المذكور في هذه الآية أنّ القوم أخذتهم الرجفة، و لم يذكر أنّ موسى اعتراه أمر شديد، بل يدلّ على أنّه ما أصابه أمر، حيث قال: [لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ فاختصاص كلّ واحد من هذين الميقاتين بهذه الكيفيّة يفيد أنّ أحدهما غير الآخر. انتهى.

[أَ تُهْلِكُنا] قيل: استفهام بمعنى الجحد أي إنّك لا تفعل كذا و قيل: استفهام استعطاف أي لا تهلكنا.

و قوله: [إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ الضمير راجع إلى الفتنة كما تقول: إن هو إلّا زيد، و المعنى أنّ تلك الفتنة و الامتحان لم يكن إلّا امتحانك، و أظهرت الرجفة و كلّفتهم بالصبر عليها.

قوله: [تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ] فسّر الأشاعرة على مسلكهم الجبر أي أضللت بها قوما فافتتنوا، و عصمت قوما فثبتوا على الحقّ، و أيّدوا مذهبهم الباطل بظاهر الآية، تعالى اللّه عن ذلك؛ فإنّ العقل السليم يأبى بأنّ اللّه يجبر طائفة بالضلالة و طائفة بالإيمان؛ فيعاقبهم بالضلالة و يثيبهم بالإيمان، و كيف يعاقب على الكفر و هو جاعله؟

فهذا العبد المجبور المضطرّ المجعول فيه الكفر على سبيل القهر كيف يجوز عقابه؟ و أين العدل و هذا الأمر الشنيع؟

قالت المعتزلة: المراد بالإضلال الإهلاك أي تهلك من تشاء بهذه الرجفة و تصرفها عمّن تشاء، كما فسّر ابن عبّاس و جماعة؛ فقالوا: المراد أنّ هي عذابك و قد سمّى اللّه العذاب فتنة في قوله تعالى: «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» (1) أي يعذّبون؛ فيكون معنى الآية:

ليس هذا الإهلاك إلّا عذابك لهم بما فعلوه من المعصية و عبادة العجل و عدم منعهم الشديد عن المعصية.

قال سعيد بن جبير و جماعة: المراد من الفتنة التشديد في التعبّد و التكليف كقوله تعالى: «أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ» (2) و عنى بذلك الأمراض و الشدائد، قال: ما قال: تضلّ بها من تشاء من عبادك عن الدين، بل قال: تضلّ

ص: 29


1- الذاريات: 13.
2- التوبة: 127.

بها أي بالرجفة، و من المعلوم أنّ الرجفة لا يضلّ اللّه بها؛ فإنّ الرجفة عذاب و العذاب لا يصير سببا للإضلال بل الضلالة موجبة للعذاب و العذاب موجب للإهلاك.

قوله: [أَنْتَ وَلِيُّنا] فطلب موسى لهم و له الغفران [وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ فإنّ كلّ من سواه إذا تجاوز عن الذنب إمّا طلبا للثناء الجميل أو الأجر، و لكن غفرانك يا إلهي محض التفضّل و الكرم.

[سورة الأعراف (7): آية 156]

وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)

و قرئ من أساء بالسين المهملة. بقيّة دعاء موسى.

[وَ اكْتُبْ أي أوجب و إنّما لم يقل: و أوجب أو و اجعل؛ لأنّ الكتابة أثبت [فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً] أي النعمة و التوفيق للأعمال الصالحة [وَ فِي الْآخِرَةِ] حسنة أي المغفرة و الجنّة [إِنَّا هُدْنا] و رجعنا و تبنا [إِلَيْكَ و الهود الرجوع.

[قالَ اللّه مجيبا لموسى: [عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ] أو أساء ممّن عصاني و استحقّ عقوبتي، و إنّما علّقه بالمشيئة لجواز الغفران [وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ] و إنّ رحمته في الدنيا وسعت للبرّ و الفاجر، و في الآخرة للمتّقين خاصّة أي إنّ رحمتي تسع كلّ شي ء إن دخلوها، بحيث لو دخلوها لو سعتهم إلّا أنّ فيهم من لا يدخلها لضلاله.

في الحديث قيل: إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قام في الصلاة فقال أعرابيّ و هو في الصلاة: اللّهم ارحمني و محمّدا و لا ترحم أحدا معنا فلمّا سلّم النّبيّ صلى اللّه عليه و آله قال للأعرابيّ: لقد تحجّرت واسعا. يريد رحمة اللّه؛ أورده البخاريّ في الصحيح.

[فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك و المعاصي و يجتنبون الكبائر و يخرجون زكاة أموالهم، لأنّه أشقّ الفرائض، و بهذا خصّ بالذكر. و قيل: معناه: يزكّون أنفسهم عن لوث المعاصي و يصدّقون بآياتنا و حججنا، قال ابن عبّاس: لمّا نزلت: «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ» قال إبليس: و أنا من ذلك الشي ء فنزعها اللّه عن إبليس بقوله: «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلخ».

ص: 30

[سورة الأعراف (7): آية 157]

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

لمّا بيّن أنّ من يكتب له الرحمة لا بدّ أن يكون موصوفا بالتقوى و إيتاء الزكاة أتبعه بأنّ أعظم الآيات و أقوى الإيمان اتّباع محمّد، بل لا يحصل الإيمان إلّا باتّباعه و شرائعه، الّذي وجدوا صفته في التوراة، و بنو إسرائيل كانوا محكومون في التوراة بأن يواطئوا أنفسهم أنّ كذا إنسان متى ظهر و ظهرت شرائعه أن يؤمنوا به، إذا كانوا في زمانه.

و وصفه بصفات تسع كما في الآية:

الاولى: كونه رسولا و اختصّه اللّه برسالته إلى الخلق لتبليغ الأحكام.

الثانية: كونه نبيّا و رفيع القدر عند اللّه.

الثالثة: كونه امّيّا، قيل: معناه أنّه لا يكتب و لا يقرء و الصحيح: المراد نسبته إلى أمّ القرى و هي مكّة؛ لأنّها بالنسبة امّ الأرض.

في العلل: عن الجواد عليه السّلام أنّه سئل عن ذلك فقال: ما يقول النّاس؟ فقيل له:

يزعمون أنّه لم يحسن القراءة و الكتابة فقال عليه السّلام: كذبوا عليهم لعنة اللّه أنّى يكون كذلك؟ و اللّه يقول: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» (1) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن؟ و اللّه لقد كان رسول اللّه يقرء و يكتب باثنين و سبعين لغة.

الرابعة: «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ» و هذا يدلّ على أنّ وصفه و صحة نبوّته مكتوب في التوراة و الإنجيل، لأنّ ذلك لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفّرات لليهود و النصارى لأنّ الإصرار على الكذب و البهتان في مثل هذا الأمر العظيم ممّا تبيّن فساده، و العاقل لا يسعى في نقض غرضه.

ص: 31


1- الجمعة: 2.

و في المجالس عن أمير المؤمنين في حديث قال يهوديّ لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّي قرأت نعتك في التوراة محمّد بن عبد اللّه مولده بمكّة و مهاجرته بطيّبة ليس بفظّ و لا غليظ و لا ضخّاب (1) و لا مترنّن بالفحش و لا قول بذي ء، و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه، هذا مالي؛ فاحكم فيه بما أنزل.

و في الكافي عن الباقر: لمّا أنزلت التوراة على موسى بشّر بمحمّد؛ فلم تزل الأنبياء تبشّر به حتّى بعث اللّه المسيح فبشّر بمحمّد، فذلك قوله: «يَجِدُونَهُ (مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ) فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ» و هو قول اللّه تعالى مخبرا عن عيسى: «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (2) و في الكافي مرفوعا: إنّ موسى ناجاه ربّه فقال له في مناجاته: أوصيك يا موسى وصيّة الشّفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم و من بعده بصاحب الجمل الأحمر الطيّب الطاهر المطهّر فمثله في كتابك أنّه مهيمن على الكتب كلّها، و أنّه راكع ساجد راغب راهب، إخوانه المساكين و أنصاره قوم آخرون.

الخامسة: أمرهم بالمعروف، قوله: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» يجوز أن يكون استينافا و يجوز أن يكون المعنى: يجدونه أنّه يأمر بالمعروف إذ جاء بكلّ ما هو حسن في العالم و ينزل من عند اللّه.

السادسة: «وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» فيشمل ما هو قبيح، منها عبادة الأوثان.

السابعة: «وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ» المستلذّة إلّا ما خرج بالدليل؛ فهذا أصل في الإباحة.

الثامنة: «وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» كالميتة و الدم و الفسوق المستقذرات و ما يوجب الضرر على النفس.

التاسعة: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ» و قرئ «آصارهم» على الجمع و «الإصر» الثقل الّذي يمنع صاحبه و يحبسه عن الحراك لثقله، و المراد أنّ شريعته سمحة؛ فإنّ شريعة موسى كانت شديدة. و هذه صفات تسع، و قد وجدوا الصفات و صدّق بعضهم، و المنهمكون في الدنيا و الرياسة منهم أنكروا و غيّروا العلامات.

ص: 32


1- الشديد الصياح.
2- الصف: 6.

قال الطبرسيّ: مكتوب في التوراة في السفر الخامس: يا موسى إنّي ساقيم لهم نبيّا من إخوتهم مثلك و أجعل كلامي في فيه فيقول لهم كلّ ما أوصيه به. و في الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع منها: نعطيكم بالفارقليط آخر ما يكون معكم آخر الدهر كلّه.

و في الإنجيل أيضا قول المسيح للحواريّين: أنا أذهب و سيأتيكم الفارقليط روح الحقّ الّذي لا يتكلّم من قبل نفسه، إنّه نذيركم بجميع الخلق، يخبركم بالأمور المرجعة و يمدحني و يشهد بي. و فيه أيضا: إذا جاء خير أهل العالم يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر.

قوله: [فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ من اليهود و النصارى و غيرهم [وَ نَصَرُوهُ على أعدائه، و أصل التعزير معناه المنع، و منه التعزير، و هو الضرب دون الحدّ؛ لأنّه منع عن معاودة القبيح [وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي مع نبوّته لأنّ نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن، هؤلاء الجماعة [هُمُ الْمُفْلِحُونَ النّاجون.

روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال لأصحابه: أيّ الخلق أعجب إيمانا؟ قالوا: الملائكة، فقال: الملائكة عند ربّهم فما لهم لا يؤمنون؟ قالوا: فالنبيّون، قال: فالنبيّون يوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون؟ قالوا: فنحن يا رسول اللّه، قال: و أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون؟

إنّما هم قوم يكونون بعدكم يجدون كتابا في ورق فيؤمنون به فهذا معنى قوله: «وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ» و المراد من «مع» أي مع نبوّته و إلّا فالقرآن انزل مع جبرئيل.

[سورة الأعراف (7): آية 158]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

لمّا وعد اللّه في الآية السابقة لمّا قال: «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» بيّن في هذه الآية أنّ من شرط حصول الرحمة و التقوى اتّباع الرسول. قل يا محمّد لجميع الناس: إنّكم مأمورون باتّباعي، و أنا رسول اللّه إليكم جميعا للتأكيد و إزالة لشبهة طائفة من اليهود و هم أتباع عيسى الإصبهانيّ يقال لهم العيسويّة كان يقول: إنّ محمّدا صادق لكنّه مبعوث

ص: 33

على العرب لا إلى بني إسرائيل. و هذا الكلام منهم بديهيّ البطلان؛ لأنّ الّذي عندهم مقبول الرسالة على العرب بزعمهم لا يمكن أن يكذب و هو يقول في كتابه: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» فإمّا أن يكون لا يقبلون نبوّته مطلقا، و إمّا أن يكون يصدّقونه بما يقول.

و تمسّك جمع من العلماء من أنّ أحدا غيره من الأنبياء ما كان مبعوثا إلى جميع الخلق لقوله صلى اللّه عليه و آله: أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي: أرسلت إلى الأحمر و الأسود، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و نصرت بالرعب على عدوّي يرعب منّي مسيرة شهر، و أطعمت الغنيمة دون من قبلي، و قيل لي: سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمّتي.

و لو كان نبيّ رسالته عامّة على قول مثل نوح حين نزل من السّفينة فإنّ جميع الناس ذلك اليوم هم الّذين معه في السفينة، على أنّ رسالة محمّد على الخلق أجمعين من الملك و الجنّ، بل الجمادات مأمورة بتصديق نبوّته صلى اللّه عليه و آله في عالم الجماديّة، و ما كان موسى رسولا على الملائكة و الجنّ؛ فإذا لا يساويه أحد من الأنبياء في الاختصاص.

قوله: [الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ و من المعلوم أنّ دعوى النبوّة لا تظهر فائدتها و لا تتمّ إلّا بإثبات أنّ للعالم إلها حيّا قادرا عالما؛ فذلك قوله: «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ» لأنّ أجسام السماوات تدلّ على افتقارها إلى الصانع المختار، و هذا هو الأصل الأوّل.

و أصل ثان: هو أنّ إله العالم واحد منزّه عن الشريك؛ لأنّ بتقدير أن يكون للعالم إلهان و أرسل أحد الإلهين رسولا إلى الخلق فلعلّ هذا الإنسان الّذي يدعوه الرسالة إلى طاعته و اتّباعه ما كان مخلوقا للإله الّذي أرسل هذا الرسول بل هو مخلوق للإله الآخر، و على هذا التقدير هل يطيع هذا الإنسان لهذا الرسول أم يخالفه؟ أمّا إجابة الطاعة له ظلم لأنّه مخلوق الإله الثاني و هو يجب عليه إطاعة ربّه و خالقه؛ فلا بدّ أن يخالفه فهذا الرسول رسالته لغو و تصرّف في ملك الغير، ثمّ يتحقّق الفساد بين العالم؛ لأنّ الإله الأوّل مثلا يحكم و يأمر و الإله الثاني يحكم و يأمر؛ فإن كان حكم الثاني عين حكم الأوّل فحكم الثاني لغو، و إن كان حكم الثاني نقيض حكم الأوّل فيقع الخلف بين التكليفين و المكلّفين و ما نعني بالفساد إلّا هذا؛ فثبت أنّ الإله واحد.

ص: 34

و الأصل الثالث إثبات أنّه قادر على الحشر و البعث و أنّه لا بدّ من وقوعه؛ لأنّ بتقدير أن لا يثبت ذلك كان الاشتغال بالطاعة و الاحتراز عن المعصية عبثا و لغوا و إلى هذا الأصل إشارة بقوله: [يُحيِي وَ يُمِيتُ لأنّه لمّا أحيا أوّلا ثبت كونه قادرا على الإحياء ثانيا، و لمّا كان الإحياء الأوّل لغرض إيصال الخير إلى المخلوق و هو إنعام عظيم و يجب على المخلوق شكر النعمة فيطالبه بشكر النعمة و وظائف العبوديّة لحصول ذلك الغرض و قابليّة العبوديّة فحينئذ يحسن منه أن يرسل رسولا يبيّن لهم طريق أداء شكره و ما يصلح به أمورهم لئلّا يقع الهرج و المرج فعيّن الرسول بقوله: [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ و كلماته أي شواهد ربوبيّته و صدق رسالة رسوله من المعجزات و الكمالات الّتي ظهرت على يده.

فمن كمالاته و معجزاته أنّه صلى اللّه عليه و آله لم يتعلّم من استاد و لم يشتغل بمطالعة كتاب و لم يتّفق له مدارسة العلماء: لأنّ مكّة أهلها يومئذ امّيّين و ما غاب صلى اللّه عليه و آله عن مكّة غيبة طويلة يمكن أن يتحصّل فيها علما جزئيّا فضلا عن علوم كثيرة، ففتح اللّه عليه باب العلم بالقرآن المشتمل على علوم الأوّلين و الآخرين؛ فكان ظهور هذا الأمر من أعظم المعجزات لذاته الشريفة صلى اللّه عليه و آله. و أنّه يرى من خلفه كما يرى من قدّامه و تنام عينه و لا ينام قلبه و هذه من خواصّ ذاته الشريفة، و نوع آخر مثل انشقاق القمر و نبوع الماء من بين أصابعه.

و مثل هذه الأمور تسمّى بكلمات اللّه؛ ألا ترى أنّ عيسى عليه السّلام لمّا كان حدوثه أمرا غريبا مخالفا للمعتاد سمّاه اللّه كلمة؟ و هو المراد في الآية [يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ كما قالوا: نحن كلمات اللّه العليا.

ثمّ بيّن سبحانه طريق التكليف فقال: [اتَّبِعُوهُ و معنى المتابعة الإتيان بمثل ما ما أتى المتبوع به سواء كان في طريق الفعل أو في طريق الترك، و ظاهر الأمر للوجوب؛ فثبت وجوب متابعته في كلّ أمر و نهي إلّا ما خصّه الدليل مثل امور خاصّة فمتابعته أصل من اصول الإيمان و قانون كلّي في معرفة التكليف و الأحكام و بقوله: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (1). وَ اتَّبِعُوهُ [لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فاتّباعه متلازم بصريح الآية.

ص: 35


1- النجم: 3 و 4.

[سورة الأعراف (7): آية 159]

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (159)

لمّا ذكر في الآية أنّ المهتدين من اتّبع النبيّ الأمّيّ ذكر في هذه الآية أنّ من قوم موسى عليه السّلام أيضا من اتّبع الحقّ و هدى، و بيّن أنّهم جماعة؛ لأنّ لفظ الامّة ينبئ عن الكثرة.

قيل: هم اليهود الّذين كانوا في زمن محمّد صلى اللّه عليه و آله و أسلموا مثل ابن صوريا و عبد اللّه ابن سلام.

و اعترض على هذا القول بأنّهم كانوا قليلين في العداد، و لفظ الامّة تقتضي الكثرة.

و يمكن الجواب عنه بأنّه لمّا كانوا مختلفين في الدين جاز إطلاق لفظ الامّة عليهم كما في قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» (1).

و قيل: إنّهم قوم مشوا على الدين الحقّ الّذي جاء به موسى و ما حرّفوا في زمن تفرّق بني إسرائيل و التزموا بالعمل بالتوراة حتّى جاء عيسى.

و قال السدّيّ و جماعة من المفسّرين كابن عبّاس و الربيع و عطاء و الضحّاك و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام قالوا: إنّهم قوم من وراء الصين و بينهم و بين الصين واد جار من الرمل لم يغيّروا و لم يبدّلوا، و ذلك أنّه إنّ بني إسرائيل لمّا كفروا و قتلوا الأنبياء و الأسباط فبقي سبط من جملة الاثني عشر ما صنعوا مثل ما صنع بنو إسرائيل، و سألوا اللّه أن ينقذهم منهم ففتح اللّه لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتّى خرجوا من وراء الصين فهم حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا.

ثمّ اختلف المفسّرون فمنهم من قال: إنّهم متمسّكون بشريعة موسى إلى الآن، و منهم من قال: إنّهم على دين محمّد صلى اللّه عليه و آله الآن، و ذلك أنّ جبرئيل انطلق بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله ليلة المعراج إليهم فقرأ عليهم من القرآن عشر سور نزلت بمكّة فآمنوا به و صدّقوه و أمرهم أن يقيموا و يتركوا السبت، و أمرهم بالصلاة و الزكاة، و لم يكن فريضة نزلت غير هما ففعلوا و قبلوا. قال ابن عبّاس: و ذلك قوله تعالى: «وَ قُلْنا (مِنْ بَعْدِهِ) لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا

ص: 36


1- النحل: 121.

جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» (1) يعني عيسى بن مريم يخرجون معه و روى أصحابنا أنّهم يخرجون مع قائم آل محمّد صلى اللّه عليه و آله و روي أنّ ذا القرنين رآهم و قال لهم: لو أمرت بالمقام لتسرّني أن أقيم بين أظهركم.

و بالجملة، و من قوم موسى جماعة يدعون الناس إلى الحقّ و بالحقّ يحكمون و يعدلون في حكمهم.

في الحديث عن أبي حمزة الثماليّ و الحكم بن ظهير أنّ موسى لمّا أخذ الألواح قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هي خير امّة أخرجت للنّاس يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر فاجعلهم امّتي؛ قال اللّه: تلك امّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هي الآخرون في الخلق السابقون إلى الجنّة فاجعلهم امّتي؛ قال اللّه: تلك امّة أحمد.

قال: إنّي أجد في الألواح امّة كتبهم في صدورهم يقرءونها فاجعلهم امّتي؛ قال:

تلك امّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح امّة يؤمنون بالكتاب الأوّل و بالكتاب الآخر و يقاتلون الأعور الكذّاب فاجعلهم امّتي؛ قال: تلك أمّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة و إن عملها كتبت له عشرة، و إن همّ أحدهم بسيّئة و لم يعملها لم يكتب عليه و إن عملها كتبت عليه سيّئة فاجعلهم امّتي؛ قال: تلك امّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح امّة هم الشافعون المشفّعون فاجعلهم امّتي؛ قال اللّه: تلك امّة أحمد. قال موسى: اجعلني من أمّة محمّد صلى اللّه عليه و آله لأشكر هذه النعمة.

[سورة الأعراف (7): آية 160]

وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

شرح نوعين من أحوال بني إسرائيل:

ص: 37


1- الإسراء: 106.

أحدهما: جعلهم اثني عشر سبطا أي صيّرناهم اثنتي عشرة فرقة، لأنّهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب، فميّز سبحانه لئلّا يتحاسدوا فيقع فيهم الفساد. و جعلنا كلّ قبيلة سبطا، و وضع «أسباطا» موضع «قبيلة».

فلو قيل: إنّ مميّز ما بعد عشرة يكون مفردا فما وجه مجيئه جمعا؟

فالجواب أنّ «أسباطا» ليس تمييزا بل بدل من اثنتي عشرة أو صفة لموصوف محذوف و هو الفرقة. و إنّما قال: «اثنتي عشرة» بالتأنيث مع أنّ السبط مذكّر فباعتبار معنى الأمم.

و النوع الثاني من شرح بني إسرائيل قوله: [وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ إلخ هذه القصّة قد تقدّم ذكرها في سورة البقرة لا حاجة إلى الإطالة، و فعلنا لهم هذا التقطيع ليعلم كلّ سبط مشربهم و مسقاهم كي لا يتشاجروا بينهم. و «الانبجاس» خروج الماء بقلّة و الانفجار بكثرة.

[وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ عن حرّ الشمس في التيه، و كان ينزل عليهم بالليل عمود من نار يسرون و يعيشون بضوئه.

[وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَ و السماني و كان ينزل عليهم المنّ- و هو الترنجبين أو منّ السماء مثل ما ينزل الثلج من الفجر إلى الطلوع- لكلّ إنسان صاع و تبعث الجنوب عليهم السماني فيدع الرجل منه ما يكفيه ليومه و ليلته، و قلنا لهم: [كُلُوا] من مستلذّات الرزق فكفروا بتلك النعم الجليلة و ظلموا أنفسهم، و ما ظلمونا بكفرانهم. و عدم قبول الإطاعة إمّا لأنّهم ادّخروا من طعامهم مع أنّ اللّه كان منعهم من الادّخار، أو لأنّهم سألوا اللّه غير ذلك من الطعام كالبقل و القثّاء و غيره أو أقدموا على الأكل في وقت منعهم اللّه الأكل في ذلك الوقت.

[سورة الأعراف (7): الآيات 161 الى 162]

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)

و اذكر و بيّن على الجماعة يا محمّد وقت قولنا لهم: [اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ] و القرية

ص: 38

بيت المقدس، اتّخذوها موطنا على سبيل الإقامة. و قيل: المراد بالقرية قرية أريحا [وَ كُلُوا مِنْها] و من نواحيها من أين ما أردتم من غير أن يزاحمكم أحد [وَ قُولُوا حِطَّةٌ] أي يكون مسألتكم حطّة لذنوبنا أي يكون قولكم الاستغفار. و «حطّة» فعلة من الحطّ كالجلسة.

[وَ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية متطامنين متذلّلين ساجدين شكرا على إخراجكم من التيه، و قيل: المراد من الباب باب القبّة الّتي يصلّون إليها، و دخل ذراريهم و هم ما دخلوها في حياة موسى. فإذا فعلتم كذلك [نَغْفِرْ] و قرئ «تغفر» بالتاء على البناء للمجهول. و قرئ «خطيئتكم» على الإفراد و [سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بالمغفرة [فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا] منهم بما أمروا بالاستغفار و أعرضوا عن هذه الكلمة و وضعوا موضعها قولا آخر ممّا لا خير فيه. روي أنّهم دخلوها زاحفين على أستاههم و قالوا مكان «حطّة»: حنطة، و قيل:

قالوا بالنبطيّ: «حطّا شمقاثا» أي حنطة حمراء، استهزاء بكلام اللّه أو نبيّه.

[فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ أثر ما فعلوا أي غير متأخّر عذابا من السماء و هو الطاعون.

روي أنّه مات في ساعة واحدة منهم سبعون ألفا أو أربعة و عشرون ألفا بسبب كفرهم و ظلمهم.

[سورة الأعراف (7): آية 163]

وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)

و اسأل يا محمّد اليهود المعاصرين و هم ذراري السابقين سؤال تقريع و توبيخ لهم ببيان كفرهم. و فائدة هذا السؤال أنّ هذا الأمر من علومهم الّتي لا يقف عليها الّا من مارس في كتبهم، و هو صلى اللّه عليه و آله قد أحاط علمه بما تضمّن كتبهم، و هو صلى اللّه عليه و آله ما تلقّى من كتبهم و بمعزل عنهم و عن كتبهم بل يوحي اللّه إليه و «القرية» قيل: هي إيلة بين مدين و الطور، و قيل: هي طبرية [حاضِرَةَ الْبَحْرِ] أي على شاطئ البحر واقعة إذ يعدون و يتعدّون حدود اللّه بالصيد، و هم ممنوعون عن الصيد في يوم السبت و ينهون عن الاشتغال من الأمور بغير العبادة و «الحيتان» جمع حوت، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، كنون و نينان لفظا و معنى.

ص: 39

[إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً] أي دانية ظاهرة قريبة من الساحل و يوم الّذي ليس عليهم حكم لا يأتي الحيتان قريبة لهم حتّى يصيدون بالسهولة [كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ مثل هذا الامتحان نختبرهم بسبب فسقهم الدائم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 164 الى 165]

وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165)

و [إِذْ قالَتْ عطف على قوله إذ يعدون أي اذكر وقت قول جماعة من صلحائهم الّذين ركبوا الصعب في موعظة أولئك الصيّادين حتّى يئسوا من قبولهم لأقوام آخرين من الصلحاء الّذين ما تركوا الموعظة [لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي هؤلاء متمادين في الكفر و لا ينفع الوعظ، و اللّه سبحانه مطهّر الأرض ختما على كفرهم؛ لأنّهم علموا أنّ الوعظ لا يفيدهم.

قالوا في جوابهم: [مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ قرئ «معذرة» بالنصب أي لنعذر معذرة و أمّا من رفع أي هذه معذرة إلى اللّه أي إذا طولبنا بإقامة النهي عن المنكر قلنا: قد فعلنا فنكون بذلك مقبولين العذر؛ فعلى هذا التقرير صاروا ثلاث فرق: فرقة صائدة مذنبة، و فرقة واعظة و فرقة ناهية للواعظة.

و لفظ الآية يدلّ على أنّ الفرقة المذنبة هلكت، و الفرقة الناهية نجت و أمّا الفرقة الّتي قالوا: لم تعظون؟ فقد اختلف المفسّرون في أنّهم من أيّ الفريقين؟ فنقل عن ابن عبّاس أن هلكت الفرقتان و نجت الناهية. و قيل: نجت القرقتان و هلكت الثالثة. و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّهم ثلاثة أصناف نجى منهم صنف و هو الصنف الناهية، و هلك صنفان: الساكتة و الصائدة.

[فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فلمّا نسوا هؤلاء المذنبون وعظ الواعظين أنجينا المنكرين لعمل المذنبين و أخذنا الظالمين بعذاب شديد بسبب تماديهم و استمرارهم على المعصية و الخروج عن الطاعة و لعلّه سبحانه عذّبهم بعذاب شديد فلم يقلعوا عمّا كانوا عليه فمسخهم بعد ذلك لقوله تعالى:

ص: 40

[سورة الأعراف (7): آية 166]

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)

لمّا بغوا و أبوا أن يتركوا ما نهوا عنه [قُلْنا لَهُمْ قيل: المراد الأمر التكوينيّ لا القوليّ. و قيل: الأمر القوليّ؛ قال الزجّاج: أمروا بأن يكونوا قردة بقول سمع ليكون أبلغ في القدرة. و قيل: بترتيب المسخ على العنف للإيذان بأنّه ليس لخصوصيّة الحوت بل للاستمرار على المخالفة.

و ابتداء الصيد أنّ رجلا منهم أخذ حوتا يوم السبت و ربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل، ثمّ شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطلّع على تنوّره، فقال له: إنّي أراك ستعذّب، فلمّا لم يره عذّب أخذ في السبت القابل حوتين، فلمّا رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم استمرّوا على ذلك فصادوا و أكلوا و ملحوا و باعوا فصاروا نحوا من سبعين ألفا فلعنهم داود عليه السّلام فأصبح الناهون و قالوا: نحن لا نساكنكم و قسّموا القرية بجدار بينهم و بين المعتدين، فمسخهم اللّه قردة. أكلوا أوخم أكلة ما أثقلها ضربا في الدنيا و أطولها عذابا في الآخرة! أقول: و ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند اللّه من قتل مسلم و لكنّ اللّه جعل موعدا و الساعة أدهى و أمرّ.

[سورة الأعراف (7): آية 167]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

إذن نادى و صاح و أعلم و «تأذّن» بمعنى أذن أي حكم و أعلم و اللام في «ليبعثنّ» جواب للقسم؛ لأنّ قوله: [وَ إِذْ تَأَذَّنَ جار مجرى القسم في كونه جازما للوقوع، أي و اذكر يا محمّد إذ حكم: [لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ الضمير يقتضي بحسب الظاهر أن يرجع إلى جماعة العاتين لكن لمّا علم أنّهم هلكوا و مسخوا قيل: المراد ذرّيّتهم و نسلهم فألحق الذلّ بالبقيّة.

و الصحيح كما عليه الأكثرون: المراد اليهود الّذين أدركهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و دعاهم إلى شريعته و لم يقبلوا و بقوا على اليهوديّة و أداء الجزية و القتل في خيبر و قريظة و النضير؛ فإنّ العذاب و الذلّ لزمهم.

و حاصل المعنى أن اذكر لهم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله وقت إيجابه سبحانه على نفسه أن يسلّط

ص: 41

على اليهود البتّة [مَنْ يَسُومُهُمْ و يطلب لهم [سُوءَ الْعَذابِ و قد بعث اللّه عليهم بعد داود بختنصّر فخرّب ديارهم و قتل رجالهم و سبى ذراريهم، و ضرب الجزية على من بقي منهم و كانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس حتى بعث اللّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله ففعل معهم ما فعل، فلا تزال الذلّة فيهم و لا يكون لهم سلطان و سلطة إلى يوم القيامة [إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن يستوجب بكفر و إن كان العقاب مؤخّرا لأنّ ما هو آت قريب و سريع [وَ إِنَّهُ سبحانه [لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن رجع عن المعصية و دخل في الإيمان باللّه و برسله.

[سورة الأعراف (7): آية 168]

وَ قَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

أي فرّقناهم تفريقا شديدا في الأرض اليهود كما أنّه نشاهد لا أرض مسكونة إلّا و منهم فيها جماعة، ثمّ قال: [مِنْهُمُ أي من اليهود [الصَّالِحُونَ الّذين تبعوا موسى لأنّه كان فيهم جماعة يهدون بالحقّ، قال ابن عبّاس: المراد الّذين صدّقوا برسالة محمّد. و قوله: [وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ المراد من أقام على اليهوديّة.

فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد من قوله: «دُونَ ذلِكَ» من يكون صالحا إلّا أنّ صلاحه كان دون صلاح الأوّلين؟ قلنا: قوله: «لعلّهم يرجعون» يدلّ على أنّ المراد بذلك من ثبت على الكفر و التهوّد.

قوله: [وَ بَلَوْناهُمْ أي عاملناهم معاملة المختبر بالنعم و الخصب و العافية و بالجدب و القحط و الشدائد لكي يرجعوا و يتوبوا.

قوله:

[سورة الأعراف (7): الآيات 169 الى 170]

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (169) وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

قال بعض أهل العربيّة: إنّ «الخلف و الخلّف» يذكر في الصالح و الردي و بعض يقولون:

بفتح اللام يستعمل في الصالح، و بسكون اللام للردي ء. المعنى: فخلف من بعد المذكورين

ص: 42

من اليهود بدل سوء في عصر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ورثوا التوراة من أسلافهم يقرءونها و يقفون على ما فيها يأخذون حطام الأدنى من الدنيا الدني ء، و المراد به ما يأخذونه من الرشا في الحكومات و على تحريف الكتاب [وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا] و لا يؤاخذنا اللّه بذلك.

قوله: [وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ و المراد إصرارهم على هذا الأمر القبيح و عدم اكتفائهم بمرّة؛ متى ما أشرفوا على عرض و شي ء من مال الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما.

ثمّ وبّخهم اللّه بقوله: [أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي التوراة، و قد حكموا في التوراة [أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ و لا يغيّرونها لأجل أخذ الرشوة [وَ دَرَسُوا] و قرءوا و حفظوا ما في التوراة و ما هم بناسين و جاهلين به، ثمّ قال: [وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ المخالفة، و الشهوة الخبيثة المحقّرة أفلا تفتهمون؟ و ضمير الالتفات تشديد في التوبيخ.

[وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ و يعملون به و لا يتجاوزون حكمه و لم يحرّفوه و لم يكتموه [وَ أَقامُوا الصَّلاةَ] و إنّما أفردت الصلاة بالذكر لعلوّ مرتبتها. فإنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا.

[سورة الأعراف (7): آية 171]

وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

«النتق» قلع الشي ء من موضعه و الرمي به أي قلعناه من أصله و جعلناه فوقهم كأنّه ظلّة سقيفة و علموا و أيقنوا أنّه إن خالفوا يقع عليهم فرفع اللّه الطور على رؤوس مقدار عسكرهم، و كان فرسخا في فرسخ و قيل لهم: إن قبلتم أحكام التوراة فبها و إلّا ليقعنّ عليكم. فلمّا نظروا إلى الجبل خرّ كلّ واحد منهم على حاجبه الأيسر و هو ينظر بعينه اليمنى، و كانوا يقولون: هي السجدة الّتي رفعت منّا العذاب.

[خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ] أي قلنا لهم: خذوا و اعملوا ما آتيناكم من التوراة بقوّة و عزم و ثبات على احتمال مشاقّه و تكاليفه [وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ من الأوامر و النواهي [لَعَلَّكُمْ تحترزون المعصية، و قيل: المعنى محتمل أن يكون: خذوا ما آتيناكم من هذه الآية العظيمة بقوّة إن كنتم تطيقونه فادفعوا عن أنفسكم و ذلك كقوله: «إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا

ص: 43

مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا» (1)

[سورة الأعراف (7): الآيات 172 الى 174]

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

و اذكر لهم يا محمّد إذ أخرج ربّك من ظهور بني آدم ذرّيّتهم. و لفظ «الذرّيّة» كالبشر يقع على الواحد و الجمع.

و اختلف العلماء من العامّة و الخاصّة في معنى الإخراج و الإشهاد على وجوه:

أحدها أنّ اللّه أخرج ذرّيّة آدم من صلبه كهيئة الذرّ فعرضهم على آدم، و قال:

إنّي آخذ على ذرّيّتك ميثاقهم أن يعبدوني و لا يشركوا بي شيئا و عليّ أرزاقهم.

ثمّ قال لهم: [أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شهدنا أنّك ربّنا فقال للملائكة: اشهدوا فقالوا:

شهدناه.

و الوجه الثاني أنّ اللّه جعلهم عقلاء فهماء يسمعون خطابه و يفهمونه ثمّ ردّهم إلى صلب آدم و الناس محبوسون بأجمعهم حتّى يخرج كلّ من أخرجه في ذلك الوقت؛ فكلّ من ثبت على الإسلام و هو على الفطرة الاولى و من كفر فقد تغيّر عن الفطرة الاولى.

و روى المحقّقون هذا التأويل و قالوا: إنّه ممّا يشهد ظاهر القرآن بخلافه؛ لأنّه تعالى قال: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ» و لم يقل: من آدم و قال: «مِنْ ظُهُورِهِمْ» و لم يقل:

من ظهره و قال: «ذرّيّتهم» و لم يقل «ذريّته».

و القول الثاني أنّ المراد بالآية أنّ اللّه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام امّهاتهم، ثمّ رقاهم درجة درجة علقة، ثمّ مضغة ثمّ أنشأ كلّا منهم بشرا سويّا حيّا مكلّفا و أراهم آثار صنعه و مكّنهم من معرفة دلائل التوحيد حتّى كأنّه أشهدهم و قال لهم:

أ لست بربّكم؟ فقالوا: بلى؛ فعلى هذا يكون معنى «أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ» أي دلّهم بخلقه

ص: 44


1- الرحمن: 33.

على توحيده، و جعل في عقولهم ما يدلّ على وحدانيّته فكأنّه بمنزلة المشهد بهم على أنفسهم و إن لم يكن هناك شهادة صورة حقيقة.

نظير قوله: «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (1) و إن لم يكن منه سبحانه قول و لا منهما جواب و مثله قوله تعالى: «شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» (2) و معلوم أنّ الكفّار لم يعترفوا بألسنتهم لكنّه لمّا ظهر منهم ظهورا لا يتمكّنون من إنكاره و دفعه فكأنهم اعترفوا به، و مثله في الشعر كثير:

«و قالت له العينان سمعا و طاعة» و كقول القائل: جوارحي يشهد بنعمتك. و كما روي عن بعض الخطباء من قوله: سل الأرض من شقّ أنهارك و غرس أشجارك و أينع ثمارك إن لم يجبك خوارا أجابتك اعتبارا.

و القول الثالث أنّه تعالى إنّما عنى بذلك جماعة من ذرّيّة آدم خلقهم و أكمل عقولهم و قرّرهم على ألسن رسله بمعرفته فأقرّوا و أشهدهم على أنفسهم به لئلّا يقولوا يوم القيامة: إنّا كنّا عن هذا غافلين أو يقولوا: إنّما أشرك آباؤنا من قبل فقلّدناهم في ذلك و على هذا القول الثالث يكون هذا الأمر في قوم خاصّ من بني آدم و هذا اختيار الجبّائيّ و القاضي عبد الجبّار.

و قوله: [شَهِدْنا] قيل: حكاية عن قول الملائكة أنّهم يقولون: «شهدنا» و هذا القول في غاية الضعف و خلاف ما عليه المفسّرون؛ لأنّ سوق الآية من قوله «شهدنا» أنّ هذا القول من قول من قال: «بلى» على أنّ الملائكة لم يجر لهم ذكر في الآية.

و قوله: [أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أي لئلّا يقولوا: أ فتهلكنا بما فعل آباؤنا من الشرك و تقديره: إنّا لا نهلككم بما فعلوه و إنّما نهلككم بفعلكم أنتم [وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كما بيّنّا تلك الآيات كذلك نميّزها و نفصّلها للعباد ليتمكّنوا من الاستدلال بها ليرجعوا من الباطل إلى الحقّ.

قال الفيض في الصافي في معنى قوله: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ» يعني نشر حقائقهم بين يدي علمه فاستنطق الحقائق بألسنة قابليّات جواهرها و استعداد ألسن ذرّاتها فركّب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بالربوبيّة حتّى صار بمنزلة الإشهاد على طريق التمثيل نظير

ص: 45


1- فصلت: 10.
2- التوبة: 17.

«أَتَيْنا طائِعِينَ» فكانوا بتلك القوّة العقليّة يسمعون الخطاب كما يسمعون الخطاب في الدنيا بالقوّة البدنيّة، و لا يبعد أنّ ذلك النطق باللسان الملكوتيّ في العالم المثاليّ الّذي دون عالم العقل. و قول الفيض قريب من القول الثاني.

[سورة الأعراف (7): الآيات 175 الى 176]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)

أمر اللّه سبحانه بأن يقرأ على الناس خبرا آخر من قصّة بني إسرائيل. قال ابن عبّاس و مجاهد و ابن مسعود: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعورا؛ لأنّ موسى عليه السّلام قصد بلده الّذي هو فيه و غزا أهله و كانوا كفّارا فطلبوا منه أن يدعو على موسى و قومه و كان مجاب الدعوة و عنده اسم اللّه الأعظم فامتنع منه فما زالوا يطلبون منه حتّى دعا عليه فاستجيب له و وقع موسى و قومه في الشدّة بدعائه فقال موسى: يا ربّ بأيّ ذنب وقعنا في الشدائد؟

فقال: بدعاء بلعم بن باعورا فقال موسى: كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه. ثمّ دعا موسى أن ينزع اللّه منه اسمه الأعظم و الإيمان فسلخه اللّه ممّا كان عليه و نزع عنه المعرفة بسوء فعله فخرجت في صورة كحمامة بيضاء.

قال سعيد بن المسيّب و زيد بن أسلم و عبد اللّه بن عمر و أبو روق و أبو حمزة الثماليّ و جماعة من المفسّرين: إنّ هذه الآية نزلت في اميّة ابن أبي الصلت و كان قد قرأ الكتب و علم أنّ اللّه يرسل في ذلك الوقت رسولا و رجا أن يكون هو فلمّا أرسل اللّه محمّدا حسده، ثمّ مات كافرا و لم يؤمن باللّه، و هو الّذي قال فيه النبيّ: آمن شعره و كفر قلبه.

و قيل: نزلت في أبي عامر الراهب الّذي سمّاه النبيّ صلى اللّه عليه و آله بالفاسق كان يترهّب في الجاهليّة فلمّا جاء الإسلام خرج إلى الشام و أمر المنافقين باتّخاذ مسجد ضرار و أتى قيصر و استنجده على النبيّ صلى اللّه عليه و آله فمات هناك طريدا وحيدا و قيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قيل: هو عامّ فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه.

ص: 46

قوله: [فَانْسَلَخَ أي فارق بالكلّيّة عمّا كان عليه و عرى. و ذكر الآية لتحذير الناس عن مثل حالته. قوله: [وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بأن نحول بينه و بين الكفر قهرا و جبرا إلّا أنّ ذلك ينافي التكليف بينه و بين الكفر [وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ و مال إلى الدنيا و مستلذّاتها من الضياع و الأمتعة، لأنّ الدنيا تطلق على الأرض؛ لأنّ كلّ الأمتعة تحصل من الأرض في الدنيا، و اتّبع هوى نفسه [فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ شبّهه اللّه بالكلب [إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ و اللهث هو أنّ الكلب إذا ناله الإعياء عند شدّة العدو و شدّة الحرّ فإنّه يدلع لسانه من العطش و التعب إن تطرده يلهث و إن تتركه أيضا يلهث لأنّ هذه الطبيعة صارت له عادة، إن وعظته فهو ضالّ و إن تركته فهو ضالّ و هذا مثل المكذّبين بآيات اللّه لأنّهم كذّبوا محمّدا و لم يهتدوا لمّا جاءهم و نصحهم و هم مشركوا قريش. فاقصص و بيّن لهم لعلّ بعضهم يتّعظون.

[سورة الأعراف (7): آية 177]

ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)

بعد تمثيلهم الجماعة بالكلب تقدير الآية: ساء مثلا مثل القوم. انتصب «مثلا» على التمييز و «ساء» لازم متعدّ، تقول: ساء الشي ء و تقول: ساءه و «القوم» يمكن أن يكون مبتدءا و جملة «ساء مثلا» خبره و يمكن أن يكون «القوم» خبرا لمبتدأ محذوف لأنّك لمّا قلت: ساء مثلا قيل لك: من هو؟ قلت: القوم الموصوفون بالتكذيب و بظلم أنفسهم.

[سورة الأعراف (7): آية 178]

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)

أي من يهديه اللّه إلى الثواب و الجنّة فهو المهتدي طريق الرشد فيما كلّفه اللّه بيّن اللّه أنّه تعالى لا يهدي إلى الجنة في الآخرة إلّا من كان يأتي بما كلّف و من يضلله عن طريق الجنّة [فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ و حاصل المعنى: من يهده اللّه فقبل و تمسّك بهداه فهو المهتدي، و من يضلل بأن لم يقبل فهو الخاسر، و ذلك بسبب عدم قبوله و سوء اختياره فاخرج من الألطاف و الهداية بهذا السبب فأبقاه بينه و بين ما اختاره و لم يمنعه عن الكفر عن البلخيّ و جماعة من المفسّرين و هذا معنى الإضلال لا كما فسّر الأشاعرة.

[سورة الأعراف (7): آية 179]

وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)

ص: 47

لمّا بيّن أمر الكفّار. و ضرب لهم الأمثال عقّبه بمصير مآلهم فقال: [وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ فقال: و لقد خلقناهم فكان عاقبتهم المصير إلى النار بسبب اختيارهم الكفر على الإيمان و اللّام في قوله: «لجهنّم» لام العاقبة نحو قوله: «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» (1) و المراد من أهل الآية كلّ من علم اللّه أنّه لا يؤمن و يصير إلى النار. و من المعلوم أنّ كثيرا من الآيات دالّة على أنّه سبحانه أراد من الكلّ الطّاعة و الخير و الصلاح قال اللّه: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ» (2) و قال أيضا: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» (3) و قال أيضا: «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (4) و قال: «وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا» (5) و قال: «وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (6) و قال: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» (7) و قال سبحانه: «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (8) و أمثال هذه الآيات كثيرة.

قالت المعتزلة: و نحن نعلم بالضرورة أنّه لا يجوز التناقض في القرآن و هذا أحد الدلائل على أنّه لا يمكن حمل الآية في قوله: «وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ» على ظاهرها.

و الدليل الثاني: قال في هذه الآية: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها» و هو تعالى ذكر ذلك في معرض الذمّ لهم، و لو كانوا مخلوقين للنّار لما كانوا قادرين على الإيمان؛ فحينئذ يقبح ذمّهم على ترك الإيمان.

الوجه الثالث من الدليل و هو أنّه لو كان خلقهم للنّار لما كان له نعمة على أحد من الكفّار أصلا؛ لأنّ منافع الدنيا بالقياس إلى عذاب الآخرة كالقطرة في البحر و كان كمن دفع إلى إنسان حلوا مسموما فإنّه لا يكون منعما عليه فكذا هاهنا، مع أنّ القرآن مشحون من بيان كثرة نعم اللّه على كلّ الخلق علمنا أنّ الأمر ليس كما ذكروه الأشاعرة في تفسير الآية، و استدلّوا بها و أمثالها على صحّة مذهب الجبر، على أنّ المدح و الذمّ و الثواب

ص: 48


1- القصص: 7.
2- الفتح: 8 و 9.
3- النساء: 67.
4- الحديد: 9.
5- الفرقان: 62.
6- «: 25.
7- ابراهيم: 12.
8- الذاريات: 56.

و العقاب و الترغيب و الترهيب يبطل هذا المذهب الّذي ينصرونه ثمّ إنّه لو خلقهم للنّار لوجب أن يخلقهم ابتداء في النّار؛ لأنّه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم؛ فثبت بهذه الوجوه أنّه لا يمكن حمل الآية على ظاهرها بل إنّما اللّام في الآية لام العاقبة لا لام الأجل. و له نظائر كثيرة في القرآن كما ذكرنا قبيل ذلك، و قد جاء في الشعر أيضا نحو قولهم:

و للموت تغذو الوالدات سخالهاكما لخراب الدهر تبنى المساكن.

و قال الآخر:

أموالنا لذوي الميراث نجمعهاو دورنا لخراب الدهر نبنيها. (1)

قوله: [لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها] الحقّ؛ لأنّهم لا يتدبّرون بيّناته [وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها] رشدهم [وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها] و يعرضون عن استماعها، و المراد أنّه سلب عنهم إدراكاتهم بسبب غفلتهم عن حججي و آياتي، و بسبب شهوات أنفسهم.

قوله:

[سورة الأعراف (7): آية 180]

وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)

ودع الّذين يعدلون بأسماء اللّه غير الأسماء فيسمّون بها أصنامهم بالتحريف و الزيادة و النقصان؛ فاشتقّوا اللات من اللّه، و العزّى من العزيز، و مناة من المنّان، و يصفون اللّه بما لا يليق و ما لا يجوز. و يشمل هذا قول النصارى بتسمية المسيح ابن اللّه و اليهود بتسمية العزير ابن اللّه. سيجزون هؤلاء بعملهم.

و نظم الآية أنّه لمّا وصف الغافلين بورود جهنّم أمر و بيّن ما يوجب التخلّص عن عذاب اللّه فليدعون اللّه بأسمائه، فإنّ الجماد لا يخاطب بالألوهيّة؛ فانّ الإنسان إذا وجّه قلبه و لسانه إلى ذكر خالقه و إطاعة أوامره و دعاه كما هو سمّى نفسه تخلّص عن الدركات، و تباعد عن حضيض الشهوات و استشعر بمعرفة خالقه.

و المراد من الأسماء الحسنى نعوت الجلال و هي محصورة في نوعين: عدم افتقاره إلى غيره و ثبوت افتقار غيره إليه، و يشتقّ من هذين النوعين أسماء لا نهاية لها؛ لأنّ الاسم إمّا

ص: 49


1- و منه ايضا: لدوا للموت و ابنوا للخراب.

اسم الذات فهو المسمّى بالاسم الأعظم، و إمّا اسم لصفة خارجة عن الذات قائمة بها فكونه تعالى موصوفا بصفة فاعليّته لما ينبغي و غير فاعل لما لا ينبغي تحقّق الثوابت و السلوب فيحصل بسبب هذا النوعين من الاعتبارات أسماء لا نهاية لها؛ لأنّ مقدوراته غير متناهية. و هذا بحر لا ساحل له فلا نهاية لمعرفة أسماء اللّه الحسنى و هذا معنى قوله صلى اللّه عليه و آله: ما عرفناك حقّ معرفتك.

و بالجملة «الحسنى» تأنيث الأحسن أي ادعوا اللّه بأحسن الأسماء و أجلّها. و اللحد و الإلحاد الانحراف. و قرئ «يلحدون» من الثلاثي أي يميلون في شأن الأسماء عن الحقّ إلى الباطل إمّا بأن يسمّوه تعالى بما لا يليق و ما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا؛ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: نحن و اللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها.

و تقديم الخبر في قوله: «وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ» يدلّ على الحصر؛ في الكافي عن الرضا عليه السّلام إنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه، و أنّى يوصف الّذي يعجز الحواسّ أن تدركه و الأوهام و الخواطر أن تناله و تحدّه؟ جلّ عما يصفه الواصفون و تعالى عمّا ينعته الناعتون؛ الحديث. العيّاشيّ عن الرضا عليه السّلام قال: إذا نزلت بكم شدّة فاستعينوا بنا.

و بالجملة فالأسماء توقيفيّ فمتى ثبت أنّه ما ورد من الشارع لا يجوز أن يسمّى تعالى به و الأسماء الحسنى منها ما يرجع إلى صفات ذاته كالعالم و القادر و الإله و الحيّ و القديم، و منها ما هي صفات فعله كالخالق و الرازق و المحيي و المميت.

قوله:

[سورة الأعراف (7): آية 181]

وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (181)

لمّا قال: «وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كذلك يقول: [وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ] و عصبة يدعون الناس إلى دينه و هو الحقّ و بالحقّ يحكمون.

و اعلم أنّه لمّا ذكر سبحانه في قصّة موسى قوله: «وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» و أعاد اللّه سبحانه في هذه الآية حمله أكثر المفسّرين على أنّ المراد منه امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله، عن قتادة و ابن جريح. عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّها هذه الامّة. قال ابن عبّاس: يريد المهاجرين و الأنصار، و من المعلوم أنّ المراد بعضهم، قال الجبّائيّ هذه الآية تدلّ على أنّه لا يخلو زمان عمّن يقوم بالحقّ و يعمل به و يهدي إليه. روى العيّاشيّ بإسناده

ص: 50

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: و الّذي نفسي بيده ليفترقنّ هذه الامّة على ثلاث و سبعين فرقة كلّها في النار إلّا فرقة واحدة؛ و ممّن خلقنا امّة يهدون بالحقّ و به يعدلون فهذه الّتي تنجو. و روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه الصادق عليهما السّلام أنّهما قالا: نحن هم.

قوله:

[سورة الأعراف (7): الآيات 182 الى 186]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

و قرئ «و نذرهم» بالنون.

النظم: لمّا ذكر اللّه في الآية السابقة المؤمنين بمحمّد- صلى اللّه عليه و آله- ذكر حال المكذّبين به و بآياته فقال:

[وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] الّتي هي القرآن و المعجزات الدالّة على صدق النبيّ صلى اللّه عليه و آله و كفروا بها [سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي نقرّبهم إلى عذاب الآخرة درجة إلى أن يقعوا فيه و أصله من الدرجة. و قيل: معناه: سنطويهم في الهلاك و نرفعهم من وجه الأرض فيكون معناه مأخوذا من الدرج بمعنى الطيّ. و قيل معناه: كلّما جدّدوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة و جعل الاستدراج جزاء على كفرهم.

و ما فسّره المجبّرة غلط فاسد؛ فإنّه كيف يخلق فيهم الكفر و يخلق فيه كفرا آخر و يكون الكفر فعله و هو يعاقب بفعل نفسه؟! قوله: [وَ أُمْلِي لَهُمْ معناه: و ابقيهم في الدنيا مع إصرارهم على الكفر، و امهلهم و لا أعاجلهم بالعقوبة؛ لأنّهم لا يفوتونني [إِنَّ كَيْدِي و عذابي غليظ محكم. و سمّاه كيدا لنزوله من حيث لا يشعرون.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ] الجنّة حالة من الجنون كالجلسة.

و دخل كلمة «من» لإفادة أنّه ليس به نوع من أنواع الجنون، و ذلك بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قام ليلا على الصفا يدعو فخذا فخذا من قريش يقول: يا بني فلان يا بني فلان و كان يدعوهم إلى توحيد اللّه و يخوّفهم من عذاب اللّه و واظب طول ليلته إلى الصباح فقال بعضهم لبعض:

إنّ صاحبكم هذا لمجنون.

ص: 51

و قيل: إنّه صلى اللّه عليه و آله عند نزول الوحي تغشاه حالة عجيبة يتغيّر وجهه و يصفرّ لونه و يعرض له حالة شبيهة بالغشي فالجهّال كانوا يقولون: إنّ به جنونا فاللّه يقول: إنّهم لا يتأمّلون أنّ هذا النبيّ الحسن الخلق، مرضيّ الطريقة، طيّب العشرة، نقيّ السيرة، مواظبا على المكارم كيف يتصوّرون في حالة الجنون؟

و لمّا كان شأنه الدعوة إلى الدين كان نذيرا مبينا لهم أمرهم.

و لمّا كان أمر النبوّة متفرّعا على تقدير دلائل التوحيد عقّبه بذكر ما يدلّ على التوحيد؛ قوله: [أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ .

ثمّ قال: [وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ] المقصود أنّ دلائل التوحيد غير مقصورة على السماوات و الأرض، بل كلّ ذرّة من ذرّات الوجود من عالم الأجسام و الأرواح شاهد معرفته و برهان باهر و دليل قاهر.

و ذلك لأنّ وقوع كلّ ذرّة من الذرّات بحيّز معيّن مع أنّ الأحياز غير متناهية كما أنّ الأجسام غير متناهية يدلّ على وجود محيّز و مخصّص و هو اللّه.

و لمّا قرّر هذه الدقيقة أردفه بما يوجب الترغيب في الإتيان بالنظر و التفكّر فقال:

[وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ و تقديره: و إنّه عسى، و الضمير ضمير الشأن و المعنى:

لعلّ آجالهم قربت فهلكوا على الكفر و إذا كان هذا الاحتمال قائما فيوجب على العاقل المسارعة إلى هذه الفكرة و تخليص النفس من هذا الخوف الشديد.

ثمّ قال سبحانه: [فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بعد هذا القرآن و هذه الدلائل [يُؤْمِنُونَ ؟

و الآية تدلّ على حدوث القرآن، و لفظ الحديث يفيد من جهة اللّغة و من جهة الاصطلاح و العادة حدوثه عن قرب؛ يقال: إنّ هذا الشي ء حديث و ليس بعتيق؛ فيجعلون الحديث ضدّ العتيق الّذي طال زمانه و زمان وجوده.

قوله: [مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ عاد إلى ذكر المكذّبين الضالّين. المعنى: من اختار الضلالة على الهدى بسوء اختياره و أبقاه اللّه على ضلالته و خلّى بينه و بين اختياره فلا هادي له، و يدعهم في عمههم و تحيّرهم. و العمه في القلب كالعمى في البصر. و إذا قرئ بالنّون فجملة مستأنفة.

ص: 52

[سورة الأعراف (7): آية 187]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)

النظم: لمّا قال سبحانه «وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» ترغيبا في مسارعة التوبة قال بعده:

[يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ] ليتحقّق أنّ وقت الساعة مكتوم عن الخلق فيصير ذلك حاملا للمكلّفين على أداء الواجبات و قيل: إنّ قوما من اليهود جاءوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قالوا: يا محمّد أخبرنا عن الساعة متى هي إن كنت نبيّا؟ فنزلت الآية و قيل: إنّ قريشا سألوا هذا السؤال. قال صاحب الكشّاف: الساعة من الأسماء الغالبة للقيامة كالنجم للثريّا و سمّيت القيامة بالساعة لأنّ حساب الخلق يقضى في ساعة واحدة أو لوقوعها بغتة.

«أيّان» معناه الاستفهام عن زمان المستقبل بمعنى متى و أصله أيّ ان. و «أرسى» اى اثبت و لا يستعمل إلّا في الشي ء الثقيل و «أيّان» خبر مقدّم و «مرساها» مبتدأ مؤخّر.

[قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي و لا يعلمه غيره، و قوله: [لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها] بيان لاستمرار تلك الحالة إلى حين قيامها و إقناط كلّي للكلّ في عدم العلم بوقتها لاقتضاء الحكمة التشريعيّة كإخفاء الأجل قوله: [ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي ثقلت وقوع القيامة على السماوات و الأرض لأجل أنّ عند مجيئها شقّقت السماوات و تكوّرت الشمس و القمر و انتثرت النجوم و تبدّل الأرض غير الأرض و تندكّ الجبال و تفنى البحار، و ثقيل هذا اليوم على أهل السماوات فضلا على أهل الأرض، لأنّ فيه فناءهم، و ثقيل على القلوب من الخوف و قيل معنى ثقلت:

خفيت واقعتها.

ثمّ قال سبحانه: [لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً] على حين غفلة من الخلق قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله:

يفجأ الناس و الرجل يسقي ماشيته و يصلح موضعه و يقوم بسلعته في السوق و الرجل يطفئ نيرانه و يرفعه قال صلى اللّه عليه و آله و الّذي نفسي بيده لتقومنّ الساعة و الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه و بين ذلك.

[يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها] المراد يعني أنّك أكثرت في المسألة عنها و تتبّعت و

ص: 53

علمت وقتها. و هو من الإحفاء و هو الإلحاح في السؤال [قُلْ يا محمّد صلى اللّه عليه و آله: [إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ أمره سبحانه بإعادة الجواب الأوّل تأكيدا للحكم بعدم العلم و تمهيدا للتعريض بجهلهم بقوله: [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لعلّة اختصاص هذا العلم به تعالى.

[سورة الأعراف (7): آية 188]

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

النظم: روي أنّ أهل مكّة قالوا: يا محمّد أ لا يخبرك ربّك بالرخص و الغلاء حتى تشتري فتربح؟ و بالأرض الّتي تجدب لترتحل إلى الأرض الخصبة؟ فنزلت الآية و قيل: إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا رجع من غزوة بني المصطلق و جاءت ريح في الطريق نفرت الإبل و الدوابّ منها فأخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله بموت رفاعة بالمدينة و كان فيه غيظ المنافقين و قال: انظروا أين ناقتي؟ فقال عبد اللّه بن ابيّ: ألا تعجبون من حال هذا الرجل يخبر بموت رجل بالمدينة و لا يعرف أين ناقته؟ فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّ ناسا من المنافقين قالوا كيت و كيت و ناقتي في هذا الشعب قد تعلّق زمامها بشجرة فوجدوها على ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فانزل الآية.

أي ما بيدي و اختياري من أمر إلّا بإذن اللّه و لا أعلم إلّا بتعليمه إيّاي و ما أنا إلّا نذير لكم من عذاب اللّه و بشير لكم برضوان اللّه لقوم آمن باللّه و صدّق بنبوّتي و ما أقدر على شي ء إلّا ما أقدرني اللّه عليه.

[سورة الأعراف (7): الآيات 189 الى 190]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

لمّا تقدّم ذكر اللّه ذكر عقبيه التوحيد و إبطال الشرك فقال: [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ الخطاب لبني آدم [مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] أي آدم [وَ جَعَلَ من جنسها أو من جسدها على قول:

و «جعل» بمعنى خبر أو إنشاء [زَوْجَها] أي حوّاء ليستأنس بها فلمّا أصابها و جامعها- و الغشيان إتيان الرجل المرأة و قد غشاها إذا علاها، و ذلك لأنّه إذا علاها فقد صار كالغاشية لها و يجلّلها و هو يشبه التغطّي- [حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً] يريد حمل النطفة لأنّها في أوّل الأمر خفيفة

ص: 54

[فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرّت بالماء و الحمل على سبيل الخفّة أي تقوم و تقعد و تمشي من غير ثقل و قرئ «فمرت به» بالتخفيف و قرئ «فمارت به» أي ارتابت بالحمل.

[فَلَمَّا أَثْقَلَتْ و دنت ولادتها [دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما] أي آدم و حوّاء: [لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً] سويّا مثلنا [لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمائك.

[فَلَمَّا آتاهُما] اللّه [صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما] و اختلف في ضمير «جعلا» في تفسير عليّ بن إبراهيم القميّ و العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام: الضمير راجع إلى آدم و حوّاء:

أي كان شركهما شرك طاعة لا شرك عبادة.

قيل: لمّا آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفا على طاعة اللّه و عبوديّته ثمّ بدا لهما في ذلك فتارة ينتفعون به في مصالح الدنيا و منافعها و تارة بخدمة اللّه و عبادته و هذا العمل و إن كان منّا قربة و طاعة إلّا أنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين فلهذا قال: [فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ هذا أحد الأقوال.

و قيل: إنّه يرجع الضمير إلى أولاد هذا الصالح الّذي آتاهما و المراد بعض ذرّيّة هذا النسل الصالح، و إنّما ثنّى لأنّ حوّاء كانت تلد في كلّ بطن ذكرا و أنثى فحاصل المعنى أنّ هذا النسل الّذين هم ذكروا أنثى جعلا للّه شركاء فالمراد من الجاعلين الّذين اتّخذ الآلهة من الأوثان من أولاد آدم، و لذلك أتى بضمير الجمع في قوله «يشركون» و باعتبار الذكوريّة و الإناثيّة أو باعتبار أنّهم من أصلين عبر بالتثنية.

و قد روى بعض العامّة في تفسير هذه الآية ما لا يليق بالأنبياء و هو أن حوّاء لمّا ثقلت بالحمل أتاها إبليس في صورة و قال: ما هذا يا حوّاء إنّي أظنّ أن يكون كلبا أو بهيمة و ما يدريك أن يخرج من دبرك فيقتلك أو من بطنك فخافت حوّاء و ذكر ذلك لآدم فلم يزالا في همّ من ذلك ثمّ أتاها إبليس و قال: إن سألت اللّه أن يجعله صالحا سويّا مثلك و يسهل خروجه من بطنك فسمّيه بعبد الحارث و كان اسم إبليس الحارث عند الملائكة فلمّا آتاهما اللّه ولدا سويّا جعلا له شركاء أي جعل آدم و حوّاء شريكا له و المراد بالشريك الحارث.

قال الرازيّ: و هذا القول فاسد لوجوه:

ص: 55

الأوّل أنّه تعالى قال بعده: «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» و ذلك يدلّ على أنّ الّذين أتوا بالشرك جماعة.

الثاني أنّه تعالى قال بعده: «أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ» و هذا يدلّ على أنّ المقصود من هذه الآية الردّ على من جعل الأصنام شركاء للّه و ما جرى لإبليس ذكر في الآية.

الثالث: لو كان المراد من الشركاء إبليس لقال: يشركون من لا يخلق فإنّ الغالب أن يذكر العاقل بصيغة «من» لا بصيغة «ما».

الرابع أنّ آدم كان أشدّ عداوة لإبليس و أعرف بعداوة إبليس له و كان عالما بجميع الأسماء، فلا بدّ و أن يعلم أن اسم إبليس الحارث فمع تلك العداوة الشديدة و العلم الكامل كيف سمّى ولده بعبد الحارث؟ و أنّ آدم بسبب الزلّة الّتي وقعت منه و حصول التجربة كيف لم يتنبّه لهذا مع أنّه كان نبيّا؟ و مع علمه بالأسماء حيث يقول: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» (1).

ثمّ بتقدير أنّ آدم سمّاه بعبد الحارث فلا يخلو أنّه إمّا أن جعل هذا اللّفظ علما له أو جعله صفة له فإن كان الأوّل لم يكن هذا شركا باللّه لأنّ أسماء الأعلام لا يفيد في المسميّات فائدة فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الشرك و إن كان الثاني كان هذا قولا بأن آدم اعتقد أنّ للّه شريكا في الإيجاد و التكوين و ذلك موجب للقول بتكفير آدم فثبت فساد هذا القول.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام: ثمّ إنّ حوّاء ولدت لآدم خمسمائة بطن في كلّ بطن ذكرا و أنثى و أنّ آدم و حوّاء دعواه و عاهداه «لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» فلمّا آتاهما صالحا من النسل خلقا سويّا بريئا من العيب و الزمانة كان ما آتاهما صنفان ذكرا و أنثى فالصنفان جعلا شركاء للّه فيما آتاهما و لم يشكر اللّه كشكر أبويهما، قال اللّه «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» فقال المأمون: أشهد انّك ابن رسول اللّه انتهى.

و في قوله: «خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» قال بعض: يقتضي ظاهر الآية كون حوّاء مخلوقة

ص: 56


1- البقرة: 29.

من نفس آدم و يقولون: خلقها من ضلع من أضلاع آدم، و يقولون: الحكمة فيه أنّ الجنس إلى الجنس أميل و الجنسيّة علّة الضمّ.

قال الرازيّ: هذا الكلام مشكل؛ لأنّه تعالى لمّا كان قادرا على أن يخلق آدم ابتداء فما الّذي حملنا على أن نقول أنّه خلق حوّاء من جزء من أجزاء آدم؟ و لم لا يقولوا: إنّه تعالى خلق حوّاء أيضا ابتداء؟ لأنّ الّذي يقدر على خلق إنسان من عظم واحدة يقدر على خلقه ابتداء بقي أنّ إذا لم نقل بذلك فما المراد من كلمة «من» في قوله: «وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» نقول:

الإشارة إلى الشي ء تارة يكون بحسب شخصه و اخرى بحسب نوعه قال عليه السّلام هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة الّا به و ليس المراد ذلك الفرد المعيّن بل المراد ذلك النوع و المراد: خلق من نوع الإنسان زوجته.

[سورة الأعراف (7): الآيات 191 الى 195]

أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)

هذه الآية من أقوى الدلائل على أنّه ليس المراد بقوله: «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» ما ذكروه من قصة إبليس؛ إذ لو كانت قصّة إبليس صحيحة لكانت هذه الآية أجنبيّة عنها بالكلّيّة بل المراد من الآية السابقة الردّ على عبدة الأوثان قوله [يُشْرِكُونَ المراد أنّ الأصنام لا يصلح للالهيّة أي أ يعبدون ما لا يقدر على أن يخلق و هو مخلوق؟ و أفرد في قوله «يخلق» لأنّ لفظة «ما» يقع على الواحد و الجمع و جمع سبحانه بقوله: «يخلقون» مراعاة لجانب المعنى و هي الأصنام.

فلو قيل: إنّ الجمع بالواو و النون للعاقل و الأصنام لا تعقل؟ فالجواب أنّ المشركين بزعمهم أنّها تعقل فحكى الآية زعمهم السخيفة؛ نظيره «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ» (1) و حاصل الكلام أنّ المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع و دفع الضرر و هذه الأصنام ليست كذلك.

ص: 57


1- النمل: 18.

ثمّ أكّد هذا المعنى بقوله تعالى: [سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ و عطف الجملة الاسميّة على الفعليّة لثبوت الاستمرار في الجملة الاسميّة و حصول التجدّد و الحدوث في الجملة الفعليّة أي إذا تتضرّعون للأصنام لرفع المعضلات عنكم ساعة فساعة أو تكفون لا فرق في الأثر لأنّ المشركين كانوا ذا وقعوا في شديدة تضرّعوا إلى أصنامهم، و إذا لم تحدث حادثة سكتوا فقال سبحانه:

[إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فلو قيل: إنّ الجماد كيف يحسن وصفها بالعباد فهذا المعنى ورد على وفق معتقدهم بأنّها عاقلة فاهمة فقال اللّه لهم على سبيل التهكّم: إن كان الأمر كذلك فهم أيضا عباد أمثالكم و أنتم عبيد فلم جعلتم أنفسكم عبيدا لهم بل أنتم و هم فرضكم سواء فلم جعلتموهم آلهة و أربابا ثمّ قال: [فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ بزعمكم [صادِقِينَ .

ثمّ شرح عجز الأصنام بقوله تعالى: [أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ بيان نوع آخر من تقرير قباحة عبدة الأصنام فذكر قوى أربعة تنبئ عن القوّة و الحياة و الإدراك و كلّها مسلوبة، و حاصل الآية أنّ المعبود أعجز من العابد فكيف يليق ذلك بالأشرف أن يعبد الأخسّ؟ و كانوا يخوّفون الرسول بآلهتهم بأنّها تفعل كيت فقال سبحانه تعالى: [قُلِ لهم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله لا تمهلوني و أعجلوا في كيدي مع آلهتكم [ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ و كيدون بحذف الياء بسب أنّ الفواصل تشبه القوافي فيحذفوها و يبقوها على الأصل.

[سورة الأعراف (7): الآيات 196 الى 198]

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)

و المعنى ان ناصري اللّه الّذي نزل القرآن و يؤيّدني بنصره كما انزل القرآن عليّ و هو ينصر المطيعين له المجتنبين معاصيه تارة بالدفع عنهم و اخرى بالحجّة و الّذين تدعونه من غير اللّه لا يستطيعون نصرتكم و لا نصرة أنفسهم [وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى قيل: المعنى: و إن

ص: 58

دعوتهم هؤلاء الّذين تعبدونهم من الأصنام إلى المنافع و الرشد [لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ فضلا عن المساعدة و هذا القول أبلغ في نفي الاتّباع.

قوله: [وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع ترى الأصنام يشبهون الناظرين إليك و يخيّل إليك أنّهم يبصرون لمّا أنّهم صنعوا لها أعينا مركّبة من الجواهر المضيئة المتلألئة و صوّروها بصورة من يقلّب و الحال أنّها لا تبصر و حينئذ الرؤية بمعنى الحسبان واردة.

و قيل: المعنى و إن دعوتم المشركين إلى الدين لا يسمعوا دعاءكم ينظرون إليك.

ضمير الجمع راجع إلى المشركين الّذين هم عمى القلب و لفظ «وليّي» بثلث ياءات ياء فعيل و هي ساكنة و الثانية لام الفعل و هي مكسورة قد أدغمت الاولى منها فصارت مشدّدة و الثالثة باء الإضافة و قرئ وليّ اللّه بياء مشدّدة و حذف ياء الّتي هي لام الفعل ثمّ أدغمت ياء فعيل في ياء الإضافة فقيل وليّ اللّه و هذه الفتحة فتحة ياء الإضافة و الباقون جازوا اجتماع ثلث ياءات.

قيل: إنّ رجلا من الصالحين ما كان يدّخر لأولاده شيئا مع أنّه كان من الأغنياء فقيل له في ذلك فقال: ولدي إن كان من الصالحين فوليّه اللّه بموجب هذه الآية و من كان وليّه اللّه فلا حاجة له في مالي و إن كان من المجرمين فقد قال اللّه «فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» (1) و من ردّ اللّه لم أشتغل بإصلاح مهمّاته.

[سورة الأعراف (7): آية 199]

خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)

لمّا بين أنّه يتولّى الصالحين بيّن في هذه الآية الصلاح و حقيقته فقال: [خُذِ الْعَفْوَ] قال أهل اللغة: «العفو» الفضل و ما أتى من غير كلفة إذا عرفت هذا فالحقوق مطلقا إمّا أن يجوز فيها المسامحة و المساهلة و إمّا لا يجوز: أمّا الفرد الأوّل فهو المراد بقوله: «خذ العفو» و يدخل فيه ترك التشدّد في كلّ ما يتعلّق بالحقوق الماليّة، و يدخل فيه التخلّق مع الناس بترك الغلظة و المعاشرة بالخلق الطيّب، و من هذا الباب أن يدعو الخلق إلى دين الحقّ باللطف و الرفق.

ص: 59


1- القصص: 16.

و القسم الثاني و هو الّذي لا يجوز فيه المساهلة فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف و هو كلّ خصلة حميدة بيّنها الشارع و تعرف صوابها العقول السليمة فعلّم رسوله في هذه الآية بمحاسن الأفعال و مكارم الخصال.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية سأل رسول اللّه جبرئيل عن ذلك فقال جبرئيل: لا أدرى حتّى أسأل العالم ثمّ أتاه فقال: يا محمّد صلى اللّه عليه و آله إنّ اللّه يأمرك أن تعفو عمّن ظلمك و تعطى من حرمك و تصل من قطعك [وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ و هو كلّ ما حسن في الشرع و العقل و لم يكن منكرا [وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ بعد قيام الحجّة عليهم إذا قابلوك بالسفه صيانة على قدرك و لمّا نزلت هذه الآية قال: يا ربّ كيف و الغضب فنزل قوله:

[سورة الأعراف (7): آية 200]

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

نزغ الشيطان عبارة من وساوسه و نخشه (1) في القلب بما يسوّل للإنسان من المعاصي و نزغت بين القوم إذا أفسدت ما بينهم و قيل: «النزغ» الإزعاج و هو الحركة إلى الشرّ و أكثر ما يكون عند الغضب.

و لمّا كان من المعلوم أنّ عند إقدام السفيه على السفاهة يهيّج الغضب فعند ذلك يجد الشيطان مجالا فينزغ و يحرّك الإنسان على ما لا ينبغي؛ فقال سبحانه دواء هذا الداء بقوله:

[فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ و هو أن يتفكّر الإنسان عظم نعمته و شديد عقابه و هو التذكّر يدعوه إلى الإعراض عن مقتضى الطبع و الغضب و بهذا النصّ ثبت أنّ لهذه الاستعاذة أثرا في دفع نزغ الشيطان فالمواظبة على هذا الأمر لازمة في أكثر الأحوال [إِنَّهُ سَمِيعٌ بدعائك [عَلِيمٌ بحالك.

[سورة الأعراف (7): الآيات 201 الى 202]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)

وصف سبحانه حال المتّقين من نزغ الشيطان فقال: إنّه [إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ من طاف به الخيال و ألمّ به و أحاط كأنّها تطوف و تدور حولهم لتوقعهم بالمهلكة [تَذَكَّرُوا] بالاستعاذة و استعاذوا به تعالى و توكّلوا عليه [فَإِذا هُمْ بسبب ذلك التذكّر و الاستعاذة [مُبْصِرُونَ واقع الخطاء و مكائد اللعين و معنى «إذا» هاهنا للمفاجاة.

ص: 60


1- نخشه: حثه على امر.

و قوله: [وَ إِخْوانُهُمْ الضمير إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأوّل أي إخوان الشياطين من الإنس يعينون شياطين الجنّ في إغواء الناس في الإضلال ثمّ لا يكفّون و لا يقصرون عن الضلال و الإضلال. و القول الثاني أنّ الضمير راجع إلى الكفرة و شياطينهم يكونون مددا لهم في الإغواء فإن لكلّ كافر أخا من الشيطان و لأنّ للمؤمن ايضا شيطانا لكنّه ليس بأخ له.

[سورة الأعراف (7): آية 203]

وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

بيان نوع آخر من ضلالات الكافرين و هو أنّهم كانوا يطلبون آيات و معجزات على سبيل الاقتراح و التعنت مثل قولهم: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» (1) و أمثاله فقال: و إذا لم تأت بآية الّتي هم اقترحوها قالوا: هذا اقترحت على إلهك إن كنت صادقا في أنّ اللّه يقبل دعاءك فعند هذا أمر نبيّه أن يذكر لهم الجواب الشافي بقوله:

[قُلْ لهم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله: [إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَ و ليس لي أن اقترح على ربي في الأمور بل إنّما أنتظر الوحي فكلّ شي ء أمرني و أكرمني به قلته و إلّا فالواجب السكوت ثمّ بيّن أنّ عدم الإتيان بما يقترحون لا يقدح في الغرض لأنّ هذا القرآن معجزة بالغة في تصحيح أمر النبوّة فكان طلب الزيادة من باب التعنّت لأنّ القرآن سبب لبصائر العقول في دلائل التوحيد و النبوّة و المعاد تسمية للسبب باسم المسبّب و به الكفاية لأنّه سبب الهدى و البصيرة لمن آمن به و القرآن في حقّ الّذين بلغوا في معارفه غاية إلى حيث صاروا كالمشاهدين فهم أصحاب عين اليقين، و الّذين ما بلغوا إلى ذلك الحدّ و لكنّهم و صلوا إلى درجات المستدلّين بدلائل التوحيد و النبوّة؛ فهم أصحاب علم اليقين. فالقرآن في حقّ الطائفة الاولى بصائر و في حقّ القسم الثاني هدى و هداية، و في حقّ عامة من أمن به رحمة و لمّا كانت الفرق الثلاثة من المؤمنين لا جرم خصّهم بذكر الإيمان لأنّهم المنتفعون به دون الكفّار.

و في هذه الآية دلالة على أنّ أفعال النبيّ و أحواله تابع للوحي و القرآن و أنّه لا يجوز العمل بالرأي و القياس.

ص: 61


1- الإسراء: 92.

[سورة الأعراف (7): آية 204]

وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

لمّا بيّن شأن القرآن بقوله: «بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ» أردفه بقوله: [وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ و الإنصات السكوت و الكفّ عن الكلام، و فيه أقوال و اختلاف في وجوب الأمر بالاستماع و ندبه و كذا في وقت القراءة فقيل: حكم الإنصات و الاستماع في وقت الصلاة خاصّة خلف الإمام الّذي يؤتمّ به إذا سمعت قراءته، و هذا القول عن ابن عبّاس و ابن مسعود و سعيد بن جبير و سعيد بن المسيّب و مجاهد و الزهريّ، و روي ذلك عن الباقر عليه السّلام.

قالوا: و كان المسلمون يتكلّمون في صلاتهم و يسلّم بعضهم على بعض، و إذا دخل داخل فقال لهم: كم صلّيتم؟ أجابوه فنهوا عن ذلك و أمروا بالاستماع، و قيل: إنّه في الخطبة أمروا بالإنصات و الاستماع إلى الإمام يوم الجمعة و قيل: إنّه في الخطبة و في الصلاة أيضا.

و قال الشيخ أبو جعفر الطوسيّ: أقوى الأقوال القول الأوّل. و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: يجب الإنصات للقرآن في الصلاة و غيرها، قال الشيخ: و ذلك على وجه الاستحباب. و في الآية قول آخر و هو أنّ قوله: «وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا» خطاب للكفّار يمكن أن يكون أمر اللّه الكفّار بالاستماع و الإنصات إذا قرأ النبيّ القرآن في حالة الصلاة أو غيرها حتّى يقفوا على ما فيه من البيان و المعنى و الفصاحة و يحيطوا بما فيه من العلوم فيظهر لهم حينئذ كونه معجزا دالّا على صدق نبوّته و أمّا ما روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ هذا الأمر محمول على الاستحباب.

قوله:

[سورة الأعراف (7): الآيات 205 الى 206]

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ (206)

الخطاب للنبيّ صلى اللّه عليه و آله، و المراد به عامّ، و قيل: الخطاب لمستمع القرآن أي اذكر ربّك في نفسك بالكلام من التسبيح و التهليل و التحميد. روى زرارة عن أحدهما عليهما السّلام قال:

معناه إذا كنت خلف الإمام تأتمّ به فأنصت و سبّح في نفسك و قيل: اذكره في نفسك بصفاته العليا و أسمائه الحسنى تضرّعا بالذلّة و الخوف و أظهر ذلّتك له بالخوف لأنّه أقرب إلى الإجابة و إنّما خصّ الذكر في النفس لأنّه أبعد من الرياء [وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي ارفعوا أصواتكم قليلا و لا تجهروا بها جهارا بليغا ليكون عدلا بين ذلك كما قال: «وَ لا تَجْهَرْ

ص: 62

بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها» (1) و قيل أمر للإمام أن يرفع صوته في الصلاة بالقراءة مقدار ما يسمعه من خلفه [بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ أي بالغدوات و العشيّات. خصّ هذين الوقتين لأنّهما حال الفراغ من طلب المعاش ليكون القلب أفرغ و البال أجمع [وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن هذا الأمر.

ثمّ ذكر سبحانه ما يبعث إلى الذكر فقال: [إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ و هم الملائكة مع علوّ أمرهم يعبدون اللّه أي إنّكم إذا استكبرتم عن العبادة فمن هو أعظم حالا منكم لا يستكبرون و قال: «عند ربّك» تعريفا و شأنا للملائكة بإضافتهم الى نفسه و لم يرد قرب المكان و قيل: معناه أنّهم في المكان الّذي شرّفه اللّه أو لقربهم من رحمته يسبّحونه و ينزّهونه عمّا لا يليق و له يخضعون و يسجدون و يصلّون و ذكر اللّه جلية و خفية حسن. العيّاشيّ عن أحدهما: لا يكتب الملك إلّا ما يسمع قال اللّه: «وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً» فلا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس الرجل غير اللّه لعظمته، قال أمير المؤمنين: من ذكر اللّه في السرّ فقد ذكر اللّه كثيرا إنّ المنافقين كانوا يذكرون اللّه علانية و لا يذكرونه سرّا فقال اللّه:

«يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا» (2) العيّاشيّ عنه عليه السّلام في هذه الآية قال تقول عند المسائل: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و يميت و يحيي و هو حيّ لا يموت و هو على كلّ شي ء قدير قيل: بيده الخير؟ قال عليه السّلام: إنّ بيده الخير و لكن قل كما أقول لك عشر مرّات، و قل: أعوذ باللّه السميع العليم عشر مرّات حين تطلع الشمس، و حين تغرب. في الحديث إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي و يقول: يا ويله امر هذا بالسجود فسجد له الجنّه و أمرت بالسجود فعصيت فلي النار.

في ثواب الأعمال عن الصادق من قرأ سورة الأعراف في كلّ شهر كان يوم القيامة من الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون فإن قرأها في كلّ جمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة، و اعلم أنّ اللّه أمر بالذكر مقيّدا بقيود: القيد الأوّل في نفسك، و المراد كون الذاكر عارفا بمعاني الأذكار الّتي يقوله بلسانه مستحضرا و معتقدا بصفات الكمال و العزّ و العظمة

ص: 63


1- الإسراء: 110.
2- النساء: 141.

فإنّ الذكر باللسان إذا كان القلب عاريا عنه كان عديم الأثر أو قليل الفائدة، و اللسان يكون حاكيا عن القلب. أ ما ترى إذا قال الرجل: بعت و اشتريت مع أنّه لا يعرف معناه و لا يقصده فإنّه لا ينعقد البيع و الشرى؟ و كذا هاهنا، أما ترى أنّ أصحاب القلوب إذا أرادوا أن يأمروا واحدا بعمل و ذكر أمروه بالتصفية مدّة ثمّ بعد استكمال المدّة و حصول التصفية يقرء عليه الأسماء التسعة و يقول لذلك الطالب السالك: اعتبر حالك و حال قلبك عند سماع هذه الأسماء، فكلّ اسم وجدت قلبك عند سماعه قوي تأثيره فاعرف أنّه يفتح لك أبواب السعادات بالمواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه، و هذا القيد معتبر في الذكر لأنّه به يظهر عزّة الربوبيّة و ذلّة العبوديّة و هو الأصل في كلّ عبادة.

القيد الثاني: و يكون الدعاء في حال الضراعة و الخوف، المراد خوف التقصير في العمل و خوف الذنوب و خوف الخاتمة و خوف بعضهم من السابقة لقوله: «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» و أما قراءة بعضهم و «خفية» فالإخفاء للمبتدي لصون الطاعات عن الرياء و في حقّ المنتهي القصور قال: من عرف اللّه كلّ لسانه.

القيد الثالث: أن يكون الذكر متوسّطا بين الجهر و الإخفات. و القيد الرابع: الإصباح و الإمساء و المراد الدوام و المواظبة و يؤيّد هذا المعنى أنّه تعالى قال: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ» (1) قال ابن عبّاس: لو حصل لابن آدم حالة رابعة سوى هذه الأحوال أمر اللّه بالذكر عندها.

تمّت سورة الأعراف بحمد اللّه و تليها سورة الأنفال إن شاء اللّه.

ص: 64


1- آل عمران: 188.

سورة الأنفال

اشارة

هي خمس و سبعون آية و هي مدنية عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة الأنفال و براءة فأنا شفيع له و شاهد يوم القيامة أنّه بري ء من النفاق و اعطى من الأجر بعدد كلّ منافق و منافقة في الدنيا عشر حسنات و محي عنه عشر سيّئات و رفع له عشر درجات، و كان العرش و حملته تصلّون عليه أيّام حياته في الدنيا و عن أحدهما عليهما السّلام: من قرأ الأنفال و سورة براءة في كلّ شهر لم يدخله نفاق أبدا و كان من شيعة عليّ حقّا و يأكل يوم القيامة من موائد الجنّة معهم حتّى يفرغ الناس من الحساب و في قراءة الأنفال جدع الأنوف.

ص: 65

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأنفال (8): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

قوله: [يَسْئَلُونَكَ عمّن لم يسبق ذكرهم، و حسن ذلك هاهنا؛ لأنّ حال نزول الآية كان السائلون معيّنون حاضرون من الصحابة فانصرف إليهم.

و النفل و النافلة ما كان زيادة على الأصل و سمّيت الغنائم أنفالا لأنّها عطيّة و فضل عطيّة من اللّه لرسوله.

في التهذيب عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: الفي ء و الأنفال ما كان من أرض خربة أو بطون أودية أو أرض لم يكن فيها مهراقة دم أو قوم صولحوا و أعطوا بأيديهم و لم تفتح بالسيف فهو يكون من الفي ء و الأنفال، فهذه للّه رسوله فما كان للّه فهو لرسوله يضعه حيث يشاء و هو للإمام بعد الرسول، و في الكافي عن الصادق: الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب أو قوم صالحوا أو أعطوا بيدهم إلخ. و عنه في عدّة أخبار: من مات و ليس له وارث فماله من الأنفال، و عنه عليه السّلام: نحن قوم فرض اللّه طاعتنا لنا الأنفال و لنا صفو المال. و في الجوامع عن الصادق:

الأنفال كلّ ما أخذ من دار الحرب بغير قتال و كلّ أرض انجلى عنها أهلها بغير قتال و الأرضون الموات و الآجام و بطون الأودية و قطائع الملوك و ميراث من لا وارث له فهي للّه و رسوله و لمن قام بنصّه و من مات و ليس له مولى فما له من الأنفال.

و قال: نزلت الآية يوم بدر و كان أصحاب الرسول ثلاث فرق: فصنف كانوا عند خيمة الرسول و صنف أغاروا على النهب و فرقة طلبت العدوّ و أسروا و غنموا فلمّا جمعوا الغنائم و الأسارى تكلّمت الأنصار في الأسارى فأنزل اللّه: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» (1) فلمّا أباح اللّه لهم الأسارى و الغنائم تكلّم سعد بن معاذ و كان ممّن أقام بالخيمة عند النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه ما منعنا أن نطلب العدوّ زهادة في الجهاد و لا جبنا من العدوّ

ص: 66


1- السورة: 68.

و لكنّا خفنا أن يرى موضعك فيميل عليك خيل المشركين، و قد أقام بالخيمة وجوه المهاجرين و الأنصار و الناس كثير و الغنائم قليلة، و متى تعطي هؤلاء لم يبق لأصحابك شي ء و خاف أن يقسّم رسول اللّه الغنائم و أسلاب القتلى بين من قتل و لا يعطي على من تخلّف على الخيمة شيئا فاختلفوا فيما بينهم حتّى سألوا النبيّ فقالوا: لمن هذه الغنائم؟ فأنزل اللّه هذه الآية و خصّها اللّه لرسوله فرجع الناس، و ليس لهم في الغنيمة شي ء ثمّ أنزل اللّه بعد ذلك: «وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ الآية» (1) فقسّمه رسول اللّه بينهم فقال سعد بن وقّاص: يا رسول اللّه أ تعطى فارس ما تعطى الضعيف؟ فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ثكلتك أمّك و هل تنصرون إلّا بضعفائكم؟ قال: و لم يخمّس رسول اللّه ببدر و قسّم بين أصحابه ثمّ استقبل بأخذ الخمس بعد البدر.

و بالجملة يعلم من الآية أنّه قد وقعت مشاجرة في كيفيّة القسمة في الغنائم بين الأصحاب لأنّ قوله: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» و كذلك قوله: «وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (2) قال ابن عبّاس في بعض الروايات: المراد من الأنفال ما شذّ من المشركين إلى المسلمين من غير قتال من دابّة أو عبد أو متاع فهو إلى النبيّ يضعه حيث يشاء. و بالجملة فما صحّ من الاخبار المنقولة عن أئمتنا في معنى الأنفال فهو الصحيح و قضى به. قوله: [وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ و المراد المضمرات في الصدور و ما وقع من الأقوال المكدّرة بين الطرفين، و يسمّى ذات البين. عليكم بإصلاحها كي لا تبقى العداوة بينكم ثمّ أكّد سبحانه بقبول الأمر و طاعة الرسول و نهاهم عن مخالفته بقوله: [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

و احتجّ من قال: ترك الطاعة يوجب زوال الايمان بهذه الآية و تقريره أنّ المعلّق بكلمة «إن» على شي ء عدم عند عدم ذلك و موجود عند وجود ذلك الشي ء و هاهنا الإيمان معلّق على الطاعة بكلمة «إن» فيلزم عدم الإيمان عند عدم الطاعة.

[سورة الأنفال (8): الآيات 2 الى 4]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

ص: 67


1- السورة: 42.
2- كذا.

لمّا ذكر في الآية السابقة أنّ الإيمان مستلزم للطاعة شرح في هذه الآية علائم المؤمنين بقوله: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي إنّما يكون المؤمن مؤمنا إذا كان خائفا من اللّه و الخوف على قسمين: خوف العقاب و خوف العظمة و الجلال أمّا خوف العقاب للعصاة و أمّا خوف الجلال فينبغي أن لا يزول عن قلب أحد من المخلوقين سواء كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا لأنّ المحتاج إذا حضر عند الملك الغنيّ يهابه و يخافه [وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ و يفوّضون أمورهم إليه فيما يخافون و يرجون. فبعد أن تقرّر هذا امر بالتوطين على النفس في رعاية العمل من آثار العبوديّة و الإيمان و رأس الطاعات الصلاة و بذل المال في مرضات اللّه؛ فقال:

[الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في مرضات اللّه.

ثمّ أخبر سبحانه إخبار حقّ أنّ الموصوفين بهذه الصفات [لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنّة و قوله: لهم درجات يفيد أنّ سعادة أهل الإيمان في الجنّة متفاوتة كما أنّ درجات الإيمان متفاوتة و الموصوف بهذه الآية من الكاملين في الإيمان فحينئذ كلمة الحصر في قوله لحصر كمال الإيمان لا لحصر وجوده فلا تدلّ الآية على أنّ من كان دونهم في المنزلة خارج عن الإيمان و ايضا إثبات هذه الصفات لا يلزم منه أن لا يكون عليه تكليف آخر من سائر الواجبات كالحجّ و الجهاد.

قوله تعالى:

[سورة الأنفال (8): الآيات 5 الى 6]

كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (6)

أي حالهم هذه في كراهة ما حكم اللّه في الأنفال مثل حالهم في كراهة خروجك من بيتك للحرب و لمّا حكم اللّه في الأنفال في الآية بأنّها للرسول يصنع فيها ما يشاء امسك المسلمون عن الطلب و في أنفس بعضهم شي ء من الكراهة، و حين خرج صلى اللّه عليه و آله إلى قتال البدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة فشرح اللّه أنّ تلك الكراهة مثل خروجك من المدينة للقتال يوم بدر و هو قتال حقّ، أو كما أنّ حكم الأنفال حقّ كذلك حكم القتال و الخروج حقّ. روي أنّ عير قريش أقبلت من الشام و المراد بالعير القافلة الراجعة و فيها أموال التجارة للقريش و كان مع العير أربعون

ص: 68

راكبا منهم أبو سفيان و عمرو بن العاص و أقوام آخرون فأخبر جبرئيل رسول اللّه فأخبر الرسول المسلمين فأعجبهم تلقّي العير لكثرة المال و قلّة القوم فلمّا أزمعوا على الخروج و بلغ أهل مكّة خروجهم نادى ابو جهل فوق الكعبة يا أهل مكّة النجا النجا على كلّ صعب و ذلول إن أخذ محمّد صلى اللّه عليه و آله عيركم لن تفلحوا ابدا و قد رأت اخت العبّاس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها إنّي رأيت كانّ ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثمّ حلّق لها فلم يبق بيت من بيوت مكّة إلّا أصابه حجر من تلك الصخرة فقال أبو جهل ما يرضى رجالهم بالنبوّة حتّى ادّعا نساؤهم النبوّة فخرج أبو جهل بصناديد أهل مكّة هم النفير، و في المثل السائر لا في العير و لا في النفير فقيل له: العير أخذت طريق الساحل و نجت فارجع بالناس إلى مكّة فقال: لا و اللّه لا يكون ذلك أبدا ننحر الجزور و نشرب الخمور و تغني القينات ببدر فتتسامع العرب بخروجنا و أنّ محمّدا لم يصب العير إلى بدر بالقوم.

و بدر كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة فنزل جبرئيل، و قال: يا محمّد إنّ اللّه وعدكم إحدى الطائفتين إما العير و إما النفير من قريش و استشار النبيّ صلى اللّه عليه و آله أصحابه و قال: العير أحبّ إليكم أم النفير، قالوا: بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدوّ فتغيّر وجه رسول اللّه و قال:

إنّ العير مضت على ساحل البحر و هذا أبو جهل قد أقبل فقالوا: يا رسول اللّه عليك بالعير ودع النفير و العدوّ. فقام عند غضب النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعض الصحابة و قال سعد بن عبادة: امض يا رسول اللّه إلى ما أمرك اللّه فإنّا معك حيثما أردت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (1) و لكنّا نقول: اذهب أنت و ربك فقاتلا انا معكما مقاتلون ما دامت منا عين تطرف فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ثمّ قال: سيروا على بركة اللّه و كأني أنظر إلى مصارع القوم.

و بالجملة كانت كراهية القوم لبعضهم لا لكلّهم لقوله تعالى [وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ و المراد من قوله [يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ هو الّذي جادلوا فيه رسول اللّه، تلقّي النفير لإيثارهم و ميلهم إلى العير و قوله [بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ المراد إعلام رسول اللّه بأنّهم ينصرون و ما كانوا يقولون لرسول اللّه ما كان خروجنا إلّا للعير و هلّا قلت لنا: اخرجوا إلى الأعداء

ص: 69


1- المائدة: 27.

لنتأهّب للقتال؟ فهذا كان جدالهم ثمّ إنّه تعالى شبّه حالهم من فرط الفزع بحال من يجرّ إلى القتل و يساق إلى الموت و هو شاهد لأسبابه ناظرا إلى موجباته.

قوله: [وَ هُمْ يَنْظُرُونَ كناية عن الجزم و القطع لأنّه من نظر إلى شي ء يعلم به و كان سبب خوفهم أمورا: منها قلّة العدد و أنّهم كانوا رجّالة روي أنّه ما كان فيهم إلّا فارسان و قلّة السلاح.

[سورة الأنفال (8): آية 7]

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7)

و اذكر وقت الّذي يعدكم اللّه و المراد بالطائفتين العير و النفير، و المراد بغير ذات الشوكة العير و بذات الشوكة الحدّة و القوّة، مستعارة من الشوك لحدّته و شوك القنا سنانه و منه قولهم: شاكي السلاح أي تودّون الطائفة الّتي لا قوّة لها و لا تريدون الطائفة القويّة و لكنّ اللّه أراد التوجّه إلى الطائفة القويّة.

[يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ فإن قيل: الحقّ حقّ لذاته و الباطل باطل لذاته، فامتنع تحصيله لأنّه حاصل فالمراد إبانة الحقّ و إظهار كون الحقّ حقّا و الباطل باطلا. و المعتزلة تمسّكوا بهذه الآية بأنّ اللّه لا يريد تحقيق الباطل و إبطال الحقّ بصريح الآية.

و ذلك يبطل قول من يقول: إنّه لا باطل و لا كفر إلّا و اللّه مريد له. قوله بكلماته أي بتقويته للرّسول في الغزوة و قيل: بالأئمّة و حاصل المعنى أنتم تريدون المال و تريدون أن لا تصلون إلى مكروه و اللّه يريد إعلاء دينه و ما يحصل لكم الفوز في الآخرة.

قوله:

[سورة الأنفال (8): آية 8]

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

يفعل ما يفعل و ليس بتكرار لأنّ الأوّل بيان مراد اللّه و تفاوت ما بين مراده و مرادهم، و الثاني لبيان حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة لنصرة الحقّ و لذا قال بعده [وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ و هو الشرك [وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.

[سورة الأنفال (8): الآيات 9 الى 10]

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

ص: 70

العامل في «إذ» قيل: «وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ» و قيل: بفعل محذوف تقديره: و اذكر.

النزول: قيل: إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا نظر إلى كثرة المشركين و قلّة عدد المسلمين استقبل القبلة و قال: اللّهم أنجز لي ما وعدتني اللّهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف ربّه مادّا يديه حتّى سقط رداؤه عن منكبيه فأنزل اللّه الآية. المعنى: و اذكروا إذ تستجيرون بربّكم يوم بدر من أعدائكم لقلّتكم و الفرق بين المستنصر و المستغيث أنّ المستنصر طالب الظفر و المستغيث طالب الخلاص.

[فَاسْتَجابَ لَكُمْ فأغاثكم و أجابكم بانّي مرسل إليكم مددا [بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ] متتابعين بعضهم في اثر بعض و ما جعل اللّه الإمداد بالملائكة إلّا بشارة للمسلمين بالنصر و تشجيعا لقلوبهم بكثرة السواد لهم لأن في مقاتلة الملائكة مع الكفّار خلاف، قيل: ما قاتلت و لكن كثر السواد و زيد الرعب في قلوب الكفّار و إلّا ملك واحد كاف في هلاكهم كما فعل جبرئيل بقوم لوط فأهلكهم بريشة من جناحه. و قيل: قاتلت. و أمّا ما قاله سبحانه في آل عمران بثلاثة آلاف و بخمسة آلاف فإنّها للبشارة و [مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ليست بالقلّة و الكثرة بل هي من عند اللّه الغالب الحكيم في أفعاله يجريها على ما يقتضيه الحكمة.

[سورة الأنفال (8): الآيات 11 الى 13]

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)

النعاس أوّل النوم، و هذه إظهار نعمة اخرى من قوله: إذ يعدكم اللّه إحدى الطائفتين [إِذْ يُغَشِّيكُمُ بالتشديد و يغشيكم بالتخفيف بالبابين أي أذكروا إذ جعل اللّه النوم غاشيا لكم و محيطا بكم لأجل الأمن من الخوف من العدوّ فإنّ الخوف مسهر و الأمن منيم و الامنة الدعة الّتي تنافي المخافة.

[وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ و ذلك لان المسلمين قد سبقهم الكفّار إلى الماء، و أنتم تصلّون مع الجنابة و الحدث و تسوخ أقدامكم في الرمل فمطرهم اللّه حتّى اغتسلوا به من الجنابة و تطهّروا من الحدث و تبلّدت به أرضهم و أوحلت أرض عدوّهم و ذهب

ص: 71

عنكم رجز الشيطان من الاحتلام و الوسوسة و لتقوى قلوبكم و بثبت أقدامكم في الحرب بتبلّد أرضكم.

و بيان وسوسة الشيطان أنّه وسوس إليهم أنّكم أصحاب محمّد تزعمون أنّكم على الحقّ و أنّكم تصلّون على غير الوضوء بالجنابة و قد عطشتم و لو كنتم على الحقّ ما غلبكم هؤلاء على الماء و ما ينتظرون بكم إلّا أن يجهدكم العطش فقتلوا من أرادوا قتله و ساقوا بقيّتكم إلى مكّة فحزنوا حزنا شديدا و خافوا خوفا شديدا؛ فأنزل اللّه المطر فمطروا حتّى جرى الوادي فطابت نفوسهم فاغتسلوا و شربوا و صلّوا و تبلّدت أرضهم.

قوله: [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ] و في التعرض لعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه و آله من التعظيم و التشريف ما لا يخفى. المعنى: اذكر يا محمّد صلى اللّه عليه و آله وقت إيحائه إلى الملائكة أى مع الملائكة حال ما أرسلهم ردءا للمسلمين أو المراد أنّه تعالى أوحى إلى الملائكة أنّي مع المؤمنين فانصروهم و ثبّتوهم. و اختلفوا في كيفيّة هذا التثبيت؛ قيل:

إنّ الملائكة عرّفوا الرسول أنّ اللّه ناصر المؤمنين و الرسول عرّفهم فذلك هو التثبيت في هذا الباب.

و قيل: إنّ الشيطان كما يمكنه الوسوسة إلى الإنسان فكذلك الملك يمكنه الإلهام إليه فهذا هو التثبيت في هذا الباب. و قيل: إنّ الملائكة كانوا يشتبهون بصور رجال من معارف المؤمنين و كانوا يمدّونهم بالنصر و الفتح.

قوله: [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ و هذا نوع من النعم الّتي أنعم اللّه البدريّين لأنّ أمير النفس هو القلب فلمّا بيّن اللّه أنّه ربط قلوب المؤمنين بإزالة الخوف ذكر أنّه تعالى ألقى الخوف في قلوب الكافرين [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ و لمّا وقع للمسلمين موجبات النصر فعند هذا أمرهم بمحاربة الكفّار. و ما فوق العنق الرأس فكان أمر بإزالة الرأس من الجسد يريد الهام و الجمجمة قيل: هذا الأمر للمؤمنين و قيل: للملائكة على قول من قال:

إنّ الملائكة قاتلت.

قوله: [وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أي الأطراف و اليدين و الرجلين و الحاصل أن اضربوا كل عضو تمكّنتم منه بسبب أنهم جانبوا و صاروا في شقّ غير شقّ المسلمين [وَ مَنْ

ص: 72

يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي هذا الّذي نزل بهم في ذلك اليوم شي ء قليل بالنسبة إلى ما أعدّه اللّه لهم من عذاب الآخرة.

[سورة الأنفال (8): آية 14]

ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)

التقدير: الأمر ذلكم و «لكم» خبر مبتدأ محذوف و تقدير المعنى: أنّ العذاب على قسمين، معجّل و مؤجّل فذلك القتل و الأسر و النهب عذاب معجّل كذوق طعم الشي ء للاختبار، و هذا العذاب بالنسبة إلى عذاب النار في الآخرة و ما أعدّ اللّه للكافرين من شدائد العذاب كذوق القليل بالنسبة.

و مجمل قصّة بدر أنّه لمّا أصبح النبيّ صلى اللّه عليه و آله يوم بدر عبّأ أصحابه فكان في عسكره فرسان فرس لزبير بن العوّام و فرس لمقداد بن أسود الكنديّ و كان في عسكر قريش أربعمائة فرس و قيل: مائتا فرس فلمّا نظرت قريش إلى قلّة أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال أبو جهل: ما هم إلّا اكلة لو بعثنا عليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا بابد فقال عتبة: أ ترون لهم كمينا أو مددا؟

فبعثوا عمر بن وهب و كان فارسا بطلا، فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول اللّه ثمّ رجع فقال: ليس لهم مدد ثم صعد الوادي و صوّت و قال لأبي جهل: ما لهم كمين و لا مدد و لكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون تلمّظ الأفاعى ما لهم ملجأ غير سيوفهم و ما أراهم يولّون حتّى يقتلوا و لا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتؤوا برأيكم فقال له أبو جهل: كذبت و جبنت.

ثمّ بعث النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى قريش و قال: يا معشر قريش إنّي أكره أن ابدأ بكم فخلّوني و العرب فان أك صادقا فأنتم أعلى بي عينا و إن أك كاذبا كفاكم ذئبان العرب أمري فارجعوا. فقال عتبة: ما أفلح قوم قط ردّوا هذا. ثمّ ركب جملا له أحمر فنظر إليه النبيّ يجول في العسكر و ينهى عن القتال فقال صلى اللّه عليه و آله: ان يك عند أحد خير فعند صاحب هذا الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا و اقبل عتبة يقول:

يا معشر قريش اجتمعوا و اسمعوا ثمّ خطبهم فقال: يمن مع رحب و رحب مع يمن يا معشر قريش أطيعوني اليوم و ارجعوا إلى مكّة و اشربوا الخمور فإنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله له إلّ و ذمّة و هو ابن عمّكم فارجعوا و لا تردّوا رأيي.

ص: 73

فلمّا سمعه أبو جهل ذلك قال: إنّ عتبة أطول الناس لسانا و أبلغهم في الكلام، و لئن رجعت قريش بقوله ليكوننّ سيّد القريش إلى آخر الدهر، ثمّ قال: يا عتبة نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب و جبنت و تأمر الناس بالرجوع و قد رأينا ثارنا بأعيننا- لأنّهم كانوا يطالبون بدم ابن الحضرميّ و قد عقله عتبة- فنزل عن جمله بعد هذا الكلام و حمل على أبي جهل على فرس و أخذ بشعره و عرقب فرسه و قال: أ مثلي يجبن؟ و سيعلم قريش اليوم أينا الألأم و الأجبن و أيّنا المفسد لقومه ثمّ قال:

هذا جناي و خياري فيه و كلّ جان يده في فيه

ثمّ أخذ بشعره و يجرّه فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا أبا الوليد تنهى عن شي ء تكون أوّله فخلّصو أبا جهل من يده.

فنظر عتبة إلى أخيه شيبة و نظر إلى ابنه الوليد فقال: قم يا بنيّ فقام و لبس درعه و طلبوا له بيضة تسع رأسه فلم يجدوا لعظم هامة فاعتمّ بعمامتين ثمّ أخذ سيفه و تقدم هو و أخوه و ابنه و نادى يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش.

فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار عوذ و معوذ و عوف بني عفراء فقال عتبة من أنتم انتسبتموا لنعرفكم؟ فقالوا: نحن بنو عفراء أنصار اللّه و أنصار رسوله فقال: ارجعوا فإنّا لسنا إيّاكم نريد و إنّما نريد الأكفاء من قريش فبعث إليهم رسول اللّه أن ارجعوا فرجعوا و كره أن يكون أوّل الكره بالأنصار.

ثمّ نظر رسول اللّه إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب و كان له سبعون سنة فقال له:

يا عبيدة قم فقام بين يديه بالسيف ثمّ نظر إلى حمزة بن عبد المطّلب فقال له: قم يا عمّ ثم نظر إلى عليّ عليه السّلام أمير المؤمنين فقال له: قم يا عليّ و كان أصغر القوم فاطلبوا بحقّكم الّذي جعله اللّه لكم فقد جاءت قريش بخيلائها و فخرها و تريد أن تطفئ نور اللّه و يأبى اللّه إلّا أن يتمّ نوره.

ثمّ قال رسول اللّه: يا عبيدة عليك بعتبة و قال لحمزة: عليك بشيبة و قال لعليّ عليه السّلام عليك بالوليد بن عتبة فمرّوا حتّى انتهوا إلى القوم فقال عتبة: من أنتم انتسبوا لنعرفكم؟

فقال: أنا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب فقال كفو كريم ثمّ قال: من هذان؟ فقال حمزة

ص: 74

ابن عبد المطلب و عليّ بن أبي طالب فقال: كفوان كريمان لعن اللّه من أوقفنا و إيّاكم هذا الموقف فقال شيبة لحمزة من أنت؟ فقال: أنا حمزة أسد اللّه و أسد رسوله فقال له شيبة: لقد لقيت أسد الحلفاء فانظر كيف يكون صولتك يا أسد اللّه؟

فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلق هامته و ضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها و سقطا جميعا و حمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيف حتّى انثلم سيفهما و كل واحد منهما يتّقى بدرقته و حمل عليّ عليه السّلام على الوليد بن عتبة خال معاوية فضربه على عاتقه فاخرج السيف عن إبطه قال عليّ عليه السّلام: فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي فظننت أنّ السماء وقعت على الأرض ثمّ اعتنق حمزة و شيبة فقال المسلمون: يا عليّ أما ترى الكلب قد قهر عمّك فحمل عليّ عليه ثم قال: يا عمّ طأطأ رأسك و كان حمزة عليه السّلام أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه عليّ على رأسه فطار نصف رأسه.

و حمل عبيدة بين حمزة و عليّ حتّى أتيا رسول اللّه فنظر النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى عبيدة فاستعبر صلى اللّه عليه و آله فقال عبيدة: يا رسول اللّه أ لست شهيدا؟ بلى أنت أوّل شهيد من أهل بيتي فقال عبيدة: أما لو انّ عمّك كان حيّا لعلم أنّى أولى بما قال منه قال صلى اللّه عليه و آله و أيّ أعمامي تعني؟ قال:

أبا طالب حيث يقول:

و نسلمه حتّى نصرّع حوله و نذهل عن أبنائنا و الحلائل

فقال رسول اللّه: أما ترى ابنه كالليث الضاري بين يدي اللّه و رسوله و ابنه الآخر في جهاد اللّه بأرض الحبشة فقال عبيدة: أسخطت عليّ في هذه الحالة؟ فقال: ما سخطت عليك و لكن ذكرت عمّي فانقبضت لذلك.

ثمّ قال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا و لا تبطروا كما عجل و بطر أبناء ربيعة، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا و عليكم بقريش فخذوهم أخذا حتّى ندخلهم مكّة نعرّفهم ضلالتهم الّتي كانوا عليها و كان فئة من قريش أسلموا بمكّة فاجلاهم آباؤهم فخرجوا مع قريش إلى بدر و هم على الشكّ و النفاق منهم أبو قبيس بن الفاكهة و قيس بن وليد بن المغيرة و الحارث بن ربيعة و ابن اميّة بن خلف و العاص بن منبه فلما نظروا إلى قلّة أصحاب محمّد صلى اللّه عليه و آله قالوا: مساكين هؤلاء غرّهم محمّد صلى اللّه عليه و آله دينهم فيقتلون الساعة فأنزل اللّه على رسوله:

ص: 75

«إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (1).

و جاء إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم فدفعوها إليه و جاء بشياطينه يهول بهم على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فأقبلت قريش يقدمها إبليس معه الراية فنظر رسول اللّه إليه فقال رسول اللّه لأصحابه: غضّوا أبصاركم و عضّوا على النواجذ و لا تسلّوا سيفا حتّى آذن لكم ثمّ رفع يده إلى السماء فقال: يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ثمّ أصابه الغشي ثمّ برى ء عنه و هو يسلت العرق عن وجهه و يقول: هذا جبرائيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين قال: فنظرنا إلى سحابة سوداء فيها برق لائح قد وقعت على عسكر رسول اللّه و قائل يقول: أقدم حيزوم أقدم حيزوم و سمعنا قعقعة السلاح من الجوّ.

و نظر إبليس إلى جبرئيل فتراجع و رمى باللواء فأخذ منبّه بن الحجّاج و قال: ويلك يا سراقه فركله إبليس ركلة في صدره و قال: إنّي بري ء منكم إنّي أرى ما لا ترون و حمل جبرئيل على إبليس فطلبه حتى غاص في البحر و قال: ربّ أنجز لي ما وعدتني من البقاء إلى الوقت المعلوم و في رواية أنّ إبليس التفت الى جبرئيل و هو في الهزيمة فقال: يا هذا بدا لكم فيما أعطيتمونا؟ فقيل لأبي عبد اللّه أ ترى كان يخاف أن يقتله؟ فقال لا و لكنّه كان يضربه ضربة يشينه إلى يوم القيامة و انزل اللّه «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ، إلخ».

بالجملة خرج أبو جهل من بين صفّين و قال: إن محمّدا- صلى اللّه عليه و آله- قطعنا الرحم و أتانا بما لا نعرفه.

ثمّ أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كفّا من حصى فرمى به في وجوه قريش و قال: شاهت الوجوه فبعث اللّه رياحا فضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة. ثمّ قال رسول اللّه: اللّهم لا يفلتن فرعون هذه الامّة أبو جهل بن هشام فقتل منهم سبعون و أسر منهم سبعون و التقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل فضرب عمرو أبا جهل على فخذه و ضرب أبو جهل عمروا على يده فأبانها من العضد فتعلّقت بجلده فاتّكى عمرو على يده برجله حتّى انقطعت الجلدة.

ص: 76


1- الأنفال: 51.

قال عبد اللّه بن مسعود انتهيت إلى أبي جهل و هو يتشخّظ بدمه فقلت: الحمد للّه الّذي أخزاك فرفع رأسه فقال: إنّما أخزى اللّه عبد ابن امّ معبد لمن الدين ويلك؟ قلت: للّه و لرسوله و إنّي قاتلك و وضعت رجلي على عنقه و صدره فقال: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم أما إنّه ليس شي ء أشدّ من قتلك إيّاي في هذا اليوم هلّا يولّي قتلي رجل من المطّلبيّين أو رجل من الأحلاف فانقلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته و أخذت رأسه و جئت به إلى رسول اللّه فقلت: يا رسول اللّه البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام فسجد صلى اللّه عليه و آله شكرا للّه.

و أسر أبو بشر الأنصارى العبّاس بن عبد المطّلب و عقيل بن أبي طالب و جاء بهما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: لأبي بشر هل أعانك عليهما أحد قال نعم رجل عليه ثياب مضي ء فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله ذلك من الملائكة فقال النبيّ للعباس افد بنفسك و ابن أخيك فقال يا رسول اللّه قد كنت أسلمت و لكنّ القوم استكرهوني فقال النبيّ: اللّه أعلم بإسلامك إن يكن كما تقول فاللّه يجزيك عليه فأمّا ظاهر أمرك فقد كنت علينا.

ثمّ قال: يا عبّاس إنّكم خاصمتم اللّه فخصمكم اللّه افد بنفسك و ابن أخيك و كان العبّاس أخذ معه أربعين أوقية من ذهب و أخذها رسول اللّه فلمّا قال رسول اللّه: افد بنفسك قال العبّاس للنبيّ: أحسبها في فدائي فقال صلى اللّه عليه و آله: لا ذاك شي ء أعطانا اللّه عنك افد نفسك و ابن أخيك فقال العبّاس: ليس لي مال غير الّذي ذهب منّي قال: بلى المال الّذي خلفته عند أمّ الفضل بمكّة و قلت لها: إن حدث عليّ حدث فاقسموه بينكم فقال العباس تتركني و أنا أسأل الناس بكفّي فأنزل اللّه على رسوله في ذلك «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (1) ثمّ قال اللّه: «وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فيك» (2).

ثمّ قال رسول اللّه لعقيل: قد قتل اللّه أبا جهل بن هشام و عتبة بن ربيعه و شيبة بن ربيعة و منبّه و بنيه ابني الحجّاج و نوفل بن خويلد و أسر سهيل بن عمرو و النضر بن الحارث بن كلدة

ص: 77


1- الأنفال: 71.
2- «: 72.

و عقبة بن أبي معيط و فلان و فلان فقال عقيل: إذا لا تنازعوا في تهامة فإن كنت قد أثخنت القوم و إلّا فاركب أكتافهم فتبسّم رسول اللّه.

و كان القتلى ببدر سبعين و الأسرى سبعين، قتل عليّ عليه السّلام سبعة و عشرين و لم يأسر أحدا فجمعوا الأسرى و قرنوهم في الحبال و جمعوا الغنائم و قتل من اصحاب رسول اللّه تسعة رجال فيهم سعد بن خيثمة و كان من النقباء ثمّ رحل رسول اللّه و نزل الأثيل عند غروب الشمس و هو من بدر على ستّة أميال.

فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إلى عقبة بن أبي معيط و إلى النضر بن الحارث في قران واحد فقال النضر لعقبة: يا عقبة أنا و أنت مقتولان. قال عقبة: نعم، لأنّ محمّدا- صلى اللّه عليه و آله- نظر إلينا نظرة رأيت فيها القتل فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: يا عليّ- عليه السّلام- علي بالنضر و عقبة و كان النضر رجلا جميلا عليه شعر فجاء عليّ- عليه السّلام- فأخذه بشعره فجرّه إلى رسول اللّه فقال النضر: يا محمّد أسألك بالرحم الّذي بيني و بينك إلّا أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني و إن فاديتهم فاديتني و إن أطلقتهم اطلقتني فقال رسول اللّه: لا رحم بيني و بينك قطع اللّه الرحم بالإسلام قدّمه يا عليّ فاضرب عنقه فقال عقبة يا محمّد الم تقل لا تصبر قريش أي لا يقتلون صبرا قال: و أنت من قريش؟ إنّما أنت علج من أهل صفورية و لأنت في الميلاد اكبر من أبيك الّذي تدعى له قدّمه يا عليّ و اضرب عنقه فضرب عنقه.

فلمّا قتل رسول اللّه النضر و عقبة خافت ان يقتل الأسارى كلهم فقاموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قالوا: لقد قتلتا سبعين و أسرنا سبعين و هم قومك و أساراك هبهم لنا يا رسول اللّه و خذ منهم الفداء و أطلقهم فأنزل اللّه عليهم: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ».

قوله:

[سورة الأنفال (8): الآيات 15 الى 16]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

«الزحف» للصبيّ أن يزحف على استه قبل أن يقوم، شبّه سبحانه الطائفتين اللّتين تذهب كلّ واحدة منهما إلى صاحبها للقتال قبل التداني للضراب بزحف الصبيّ قال ثعلب: الزحف المشي قليلا قليلا إلى الشي ء و منه الزحاف في العروض و الشعر فيسقط

ص: 78

ممّا بين حرفين حرف واحد فيزحف أحدهما إلى الآخر.

قوله: [إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا] متزاحفين خطاب لأهل بدر أو هو عامّ أي إذا لقيتم الكفّار معدّين لقتالكم و تواقفتم للقتال مع الكفّار فلا تنهزموا و تجعلوا ظهوركم إليهم بالفرار و من يجعل ظهره إليهم و وجهه إلى جهة الانهزام ...

و المراد بقوله: «يومئذ» لم يرد النهار و اللّيل بل المراد الوقت إلّا أن يكون تولّيكم لحركة من موقف إلى موقف أحسن و أسلط منه أو تكونون تضمّون إلى جماعة من المسلمين يريدون العود إلى القتال فتتحيّزون بهم للاستعانة على القتال فالمتولّي و المتدبّر عن القتال غير هاتين الصورتين المستثنيتين فقد وقع في محلّ غضب اللّه و مرجعه إلى جهنّم و بئس المحلّ جهنّم.

قال بعض المفسّرين: هذا الحكم خاصّ لأهل بدر و بعض قال: عامّ في جميع الأوقات؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. و الحاصل أنّ الانهزام محرّم إلّا في حالتين:

إحداهما أن يكون يخيّل إلى عدوّه أنّه منهزم ثمّ ينعطف عليه و هو أحد أبواب الحرب، و الثانية أنّ المتحيّز إذا كان كالمنفرد و في الكفّار كثرة و غلب على ظنّه أنّه لو ثبت قتل من غير فائدة و إن يحيّز إلى جمع كان راجيا للخلاص و الغلبة. «و التحيّز» أصله من الحوز و هو الجمع.

قوله:

[سورة الأنفال (8): آية 17]

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)

النظم: اختلف بعض أهل بدر فقال: هذا أنا قتلت، و قال الآخر: أنا قتلت فأنزل اللّه أنّ هذه الكسرة ما حصلت منكم و إنّما حصلت بنصرتي لكم.

روي أنّه لمّا طلعت قريش بخيلائها قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: اللّهم إنّي أسألك ما وعدتني فنزل جبرئيل و قال: خذ قبضة من التراب فارمهم بها فقال لعليّ عليه السّلام: أعطني قبضة من التراب من حصاة الوادي فأعطاه عليّ فرمى النبيّ صلى اللّه عليه و آله في وجوههم و قال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلّا شغل بعينه فانهزموا. قال صاحب الكشّاف: «الفاء» في «فلم تقتلوهم» جواب لشرط محذوف تقديره: إن زعمتم و افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم و لكنّ اللّه قتلهم.

ص: 79

ثمّ قال: [وَ ما رَمَيْتَ القبضة الّتي رميتها و لكنّ اللّه في الحقيقة رمى؛ لأنّ رميك لا يبلغ أثره إلى هذا المبلغ الّذي لا يبقى عين من عيون المشركين إلّا وقذت؛ فصورة صدرت منك و أثرها من اللّه فلهذا المعنى صحّ الإبقاء و الإثبات.

قوله: [وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ أى و ليمنّ اللّه النعمة على المؤمنين ليشكروا و البلاء هاهنا اطلق للنعمة، و يقال للنعمة: بلاء كما يقال للمضرّة: بلاء؛ لأنّ أصل البلاء الاختبار و ذلك يكون من النعمة ليحصل الشكر و يكون من النقمة ليحصل الصبر. و البلاء الحسن في هذه الآية النّصر و الظفر و ضمير «منه» راجع إلى النصر أو إلى اللّه إنّ اللّه سميع بأقوالكم عليم بأحوال قلوبكم.

و قيل: إنّ هذه الآية نزلت يوم خيبر، روي أنّه صلى اللّه عليه و آله أخذ قوسا و هو على باب خيبر فرمى سهما فأقبل السهم حتّى قتل ابن أبي الحقيق و هو على فرسه فنزلت الآية:

«وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ» و قيل نزلت يوم احد في قتل ابيّ بن خلف، و ذلك أنّه أتى النبيّ بعظم رميم و قال: يا محمّد من يحيي هذا و هو رميم؟ فقال صلى اللّه عليه و آله: يحييه اللّه ثمّ يميتك ثم يحييك و يدخلك النار؛ فاسر يوم بدر فلمّا افتدى قال لرسول اللّه: إنّ عندي فرسا أعتلفها كلّ يوم فرقا من ذرّة كي أقتلك عليها فقال صلى اللّه عليه و آله: بل أنا أقتلك إن شاء اللّه، فلمّا كان يوم احد أقبل الملعون يركض على ذلك الفرس حتّى دنا من النبيّ صلى اللّه عليه و آله فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه فقال صلى اللّه عليه و آله: استأخروا و رماه بحربة فكسّر ضلعا من أضلاعه فحمل فمات ببعض الطريق ففي ذلك نزلت الآية.

و الأصحّ أنّها نزلت في يوم بدر و إلّا لدخل في أثناء القصّة كلام أجنبيّ بلى لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

[سورة الأنفال (8): الآيات 18 الى 19]

ذلِكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

و «لكم» إشارة إلى البلاء الحسن، خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الأمر ذلك و أنّ اللّه أوهن كيد الكافرين بغلبة المؤمنين على الكافرين و تفريق كلمتهم. ينبئ اللّه رسوله و يقول:

ص: 80

إنّي قد أوهنت كيد عدوّك حتّى قتلت أبطالهم و أسرت أشرافهم.

قوله: [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا] قيل: خطاب للمشركين، روي أنّ أبا جهل قال يوم بدر لمّا أراد الخروج من مكّة، و المشركون أخذوا أستار الكعبة و قالوا: اللّهم انصر أعلى الجندين و أهدى الفئتين و أكرم الحزبين و أفضل الدينين. المعنى: إن تستفتحوا لإحدى الفئتين فقد جاء النصر لهم و قيل: إنّ الخطاب للمؤمنين.

روي أنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا رأى المشركين كثروا استغاث باللّه و كذلك الصحابة فقال اللّه:

«إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» و حصل لكم ما أردتم و وعدتم به.

قوله: [وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي إن تمتنعوا من الكفر و قتال الرسول فهو خير لكم [وَ إِنْ تَعُودُوا] بالقتال و الكفر [نَعُدْ] أي ننصرهم أيّها الكفّار و لن تفيدكم جماعتكم شيئا و إن كثرت [وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر و الغلبة و على قول من قال: إنّ الخطاب للمؤمنين فمعناه: إن تنتهوا أيّها المسلمون عمّا كان منكم في الغنائم و في الأسارى من مخالفة الرسول فهو خير لكم، و إن تعيدوا إلى ذلك الصنع نعود إلى ترك نصرتكم فحينئذ [لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ .

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 20 الى 23]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

لمّا ذكر في الآية السابقة بقوله: «إن تنتهوا» أكّد في هذه الآية و أمرهم بإطاعته و إطاعة رسوله فخاطب الّذين من شأنهم الإيمان بإطاعته و بإطاعة رسوله في الأمور، و في الجهاد بقرينة قوله: [وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ بأن تعرضوا عن قبول أمره و معاونته في الجهاد. قوله: [وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ دعوته.

[وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا] كالمنافقين و هم ما قبلوا؛ لأنّ السماع قد يكون السامع قابلا و قد يكون منكرا. و «سمع» بمعنى قبل كقوله: «سمع اللّه لمن حمده» أي قبل اللّه من حامده قوله: [إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الشرّ نقيض الخير أي إنّ شرّ من دبّ و تحرّك على وجه الأرض هؤلاء المشركون الّذين لم ينتفعوا بما يسمعون من الحقّ و لا يقرّون و لا يتكلّمون به و لا يتعقّلون فصاروا بمنزلة الدوابّ؛

ص: 81

فهم صمّ و بكم بجهلهم، شبّههم اللّه بجهلهم و عدم تدبّر هم بالدابّة و قيل: إنّه تعالى لم يذكرهم في معرض التشبيه بل وصفهم بالوصف الّذي يليق بهم على جهة الذمّ.

ثمّ قال: [وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا] أي إنّ كلّ ما كان حاصلا فإنّه يجب أن يعلمه اللّه فعدم علم اللّه بوجوده من لوازم عدمه بمعنى أنّ القبول لا يوجد فيهم، فالإسماع لا يحصل لهم، و ذلك لأنّهم سألوا الرسول أن يحيي لهم قصّي بن كلاب و غيره من أمواتهم ليخبروهم بصحّة نبوّته فبيّن سبحانه أنّه إذا أحياهم حتّى يسمعوا كلامه لتولّوا عن قبول الحقّ و لأعرضوا عنه.

[سورة الأنفال (8): آية 24]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

الاستجابة هاهنا بمعنى الإجابة؛ قال الشاعر:

«فلم يستجبه عند ذاك مجيب» . كرّر في هذه الآية الأمر بإجابة الرسول و إطاعته فيما يأمركم به إذا دعاكم إلى أمر يوجب حياتكم «و لما». هاهنا بمعنى «إلى» و ما يوجب الحياة هو الإيمان. و قيل: المراد الجهاد و الشهادة لأنّكم إمّا تقتلون أو تقتلون؛ فإن قتلتم فإنّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون و إن قتلتم فيقوى و يعظم أمر الدين و القرآن و هو حياة القلوب، و القرآن سبب العلم و العلم حياة فجاز أن يسمّى سبب الحياة بالحياة. و يوصل القرآن إلى الحياة الباقية الطيّبة، قال اللّه: «وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» (1).

قوله: [وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ و فسّروا الأشاعرة هذه الآية بظاهرها و هو غلط محض؛ قالوا: إنّ اللّه يحول بين المرء الكافر و طاعته و بين المرء المؤمن و معصيته؛ فالسعيد من أسعده اللّه و الشقيّ من أضلّه اللّه، تعالى عن ذلك، قالوا: فإذا أراد الكافر أن يؤمن و اللّه لا يريد إيمانه حال بينه و بين قلبه، و إذا أراد المؤمن أن يكفر و اللّه لا يريد كفره حال بينه و بين كفره، و هذا المعنى و التفسير باطل بالبداهة و بيانه: قال الجبّائيّ: إنّ من حال اللّه بينه و بين الإيمان فهو عاجز عن الإتيان و القبول بالإيمان، و أمر العاجز لغو و سفه و لو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا اللّه بالصعود إلى السماء

ص: 82


1- العنكبوت: 64.

و قد أجمعوا على أنّ المؤمن لا يؤمر بالصلاة نائما، و قد قال: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (1) و الّذي يأمر في المظاهر بقوله: «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» (2) و أسقط فرض الصوم عمّن لا يستطيعه، فكيف يحول و يمنع الكافر عن الإيمان و يأمر به؟ فما أقرب هذا القول من الشعوذة! بل المعنى أنّه إذا أمركم اللّه و رسوله بأمر فأطيعوه و لا تؤخّروه لأنّ اللّه قد يكون يحول بينه و بين الطاعة و الانتفاع بسبب الموت فيدرككم فتمتنعون عن الإيمان أو التوبة أو الامتثال؛ فبادروا الإجابة قبل أن يأتيكم الحائل؛ فلا تغترّوا بالبقاء فإنّ ذلك غير موثوق به. و إطلاق لفظ القلب على الأمانيّ تسمية المظروف باسم الظرف و هذا شائع:

كقولك: سال الوادي. و إنّ الشأن و القصّة الحشر و الجمع إليه.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 25]

وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)

كما حذّر سبحانه الناس بحيلولة امور بينه و بين ما يتمنّاه كذلك حذّره من بعض الفتن فقال: و احذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصّة بل تتعدّى إليكم و تصل إلى الصالح و الطالح أي يعمّكم كالمداهنة في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و افتراق الكلمة و ظهور البدع.

العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: أصابت الناس فتنة بعد ما قبض رسول اللّه حتّى تركوا عليّا و بايعوا غيره و هي الفتنة الّتي فتنوا بها، و قد أمرهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله باتّباع عليّ و الأوصياء بعده. و قرئ «لتصيبنّ».

قال ابن عبّاس: لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: من ظلم عليّا بعد وفاتي فكأنّما جحد نبوّتي و نبوّة الأنبياء قبلي. القميّ في تفسيره و الرّازيّ في المفاتيح عن الحسن: نزلت في عليّ و طلحة و الزّبير لمّا حاربا عليّا يوم الجمل خاصّة.

فإن قيل: كيف يليق برحمة الرحيم أن يوصل العذاب إلى من لا يذنب؟ قلنا:

ص: 83


1- البقرة: 286.
2- المجادلة: 4.

اللّه تعالى قد ينزل الفقر و الموت و العمى و البلاء بعبده و إن لم يكن عاصيا، إلّا أنّه يشتمل على نوع من أنواع الصلاح، إمّا لتخفيف العذاب أو لرفع الدرجة أو مصالح اخرى لا يعلمها إلّا هو و إذا جاز ذلك جاز هنا.

[سورة الأنفال (8): آية 26]

وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

الخطاب للمهاجرين، شرح لهم نعمه لأنّهم بعد ظهور أمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله صاروا في غاية الرفعة و القوّة و كانوا قبل في غاية القلّة و الذلّة، بسبب هذه النعمة يوجب عليهم الشكر و كثرة الطاعة و ترك المخالفة؛ لأنّهم في أوّل الأمر كانوا إذا خرجوا من بلدهم خافوا أن يتخطّفهم العرب، ثمّ قلبت تلك الأحوال بالقوّة و السعادات، أوّلها أنّه آواهم و نقلهم من مكّة إلى المدينة فصاروا آمنين من مشركي العرب، ثمّ نصرهم ببدر، و الثالث رزقهم من الطيّبات و هو أنّه احلّ لهم الغنائم بعد أن كانت محرّمة على من كان قبل هذه الامّة؛ فهذه النعم الجليلة يقتضي الشكر و لا يليق بكم أن تشتغلوا بالخصومات بسبب الأنفال.

[سورة الأنفال (8): الآيات 27 الى 28]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

اختلفوا في المراد بتلك الخيانة، و سبب النزول في الآية: قال عطاء: سمعت جابر بن عبد اللّه يقول: إنّ أبا سفيان خرج من مكّة فأتى جبرئيل و أخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّ أبا سفيان في مكان كذا و كذا؛ فاخرجوا إليه و اكتموا، قال: فكتب إلى أبي سفيان رجل من المنافقين: إنّ محمّدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل اللّه هذه الآية.

و قيل: إنّ المنافقين يسمعون النبيّ من الشي ء فيفشونه، حتّى يبلغ المشركين.

و قال الزهريّ و الكلبيّ: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاريّ و ذلك أنّ رسول اللّه حاصر بني قريظة إحدى و عشرين ليلة فسألوا الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات و أريحا من بلاد الشّام، فأبى رسول اللّه أن يعطيهم

ص: 84

ذلك إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة و كان مناصحا لهم؛ لأنّ عياله و ماله كانت عندهم، فبعثه رسول اللّه فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة؟ أ ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: إنّه الذّبح فلا تفعلوا؛ فأتاه جبرئيل و أخبره بذلك، قال أبو لبابة: فو اللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي خنت اللّه و رسوله، فنزلت الآية؛ فشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد فمكث سبعة أيّام لا يذوق طعاما حتّى خرّ مغشيّا عليه، ثمّ تاب اللّه عليه و تصدّق بثلث ماله بحكم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و بالجملة منع الناس مطلق الخيانة في الدين و الدنيا.

قال القاضي: الأقرب أنّ خيانة اللّه غير خيانة الرسول، و خيانة الرسول غير خيانة الأمانة؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة، أمرهم اللّه أن لا يخونوا الغنائم، و جعل ذلك خيانته و خيانة لرسوله؛ لأنّه القيّم بقسمها و تصرّفها؛ فمن خانها خان الرسول. و يشمل كلّ أمانة؛ لأنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب. و «الخون» معناه النّقص كما أنّ الوفاء معناه التمام.

[وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي يحصل الخيانة منكم عن تعمّد لا عن سهو. و المعنى: أنتم تعلمون بعقولكم قبح الخيانة من الذّم و العقاب و اعلموا أنّ أولادكم و أموالكم بليّة عليكم ابتلاكم اللّه بها فإنّ حبّ أبي لبابة و أمواله حمله على ما فعله لأنّها كانت في أيدي اليهود، و إلى هذا أشار أمير المؤمنين في قوله: «لا يقولنّ أحدكم: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة لأنّه ليس أحد إلّا و هو مشتمل على فتنة و لكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن».

[سورة الأنفال (8): آية 29]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

لمّا حذّر عن الفتنة بالأولاد و الأموال رغّب في التقوى الّتي يوجب ترك الميل و الهوى في محبّة الدّنيا فقال: يا أيّها المؤمنون الّذين بصراط الإيمان [إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ باتّقاء معاصيه أي الكبائر و تؤدّوا فرائضه [يَجْعَلْ لَكُمْ نورا في قلوبكم تفرّقون به بين الباطل و الحقّ و مخرجا في الدّنيا و الآخرة [وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الّتي عملتموها و

ص: 85

صغائركم، أو عامّ من الصغائر و الكبائر.

[وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على خلقه بما أنعم عليهم فإذا ابتدأ بالفضل من غير استحقاق فإذا استحقّوا بطاعتهم فذلك بطريق أولى.

و المراد من التكفير سترها و من المغفرة إزالتها، و من المعلوم أنّ التقوى يوجب انشراح الصدر و زوال الظلمة عن القلب و ذلك يوجب معرفة الباطل عن الحقّ و هو الفرقان.

[سورة الأنفال (8): آية 30]

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)

نزلت في قصّة دار النّدوة و ذلك أنّ نفرا من قريش اجتمعوا فيها، و هي دار قصيّ بن كلاب، و تؤامروا في أمر النّبيّ؛ فقال عروة بن هشام: نتربّص به ريب المنون، و قال أبو البحتريّ: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه؛ فقال أبو جهل: ما هذا الرّأي، و لكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كلّ بطن غلام فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد؛ فيرضى بنو هاشم حينئذ بالدّية.

العيّاشيّ عن أحدهما عليهما السّلام: إنّ إبليس صوّب لهم هذا الرّأي، و تصوّر لهم بصورة شيخ نجديّ، لكنّ القاضي أنكر هذا القول، و قال: لا يتمكّن إبليس إلى هذا الحدّ من السّلطة. فاتّفقوا على هذا الرأي و أعدّوا الرّجال و السّلاح فنزل جبرئيل و أخبر رسول اللّه فخرج إلى الغار و أمر عليّا فبات على فراشه؛ فلمّا أصبحوا و فتّشوا عن الفراش وجدوا عليّا، و قد ردّ اللّه كيدهم و مكرهم؛ فأرسلوا في طلبه و اقتفوا أثره؛ فلمّا بلغوا الجبل و مرّوا بالغار رأوا على باب الغار نسج العنكبوت؛ فقالوا: لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.

المعنى: و اذكر يا محمّد صلى اللّه عليه و آله إذ أراد و إهلاكك و هم مشركو المعرب، منهم عتبة و شيبة أبناء ربيعة و النّضر بن الحارث و أبو جهل بن هشام و ربيعة الأسود و حكيم بن حزام و اميّة بن خلف و غيرهم [لِيُثْبِتُوكَ في الوثاق و الحبس في بيت، و قرئ «ليبيتوك» أو المعنى: ليثخنوك من الجرح بحيث لا تقدر على الحركة بحيث تثبت في مكان؛ قال الشّاعر:

ص: 86

فقلت ويحك ماذا في صحفيتكم قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا

[أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكّة أو يخرجوك على بعير، و يطردونه حتّى يذهب في وجهه و يدبّرون في إهلاكك و يدبّر اللّه في أمرهم [وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ و هذا من باب المقابلة في الكلام مثل: و جزاء سيّئة سيّئة؛ لأنّه لا يمكر إلّا ما هو حقّ و صواب، و هو إنزال المكروه بمن يستحقّه، أو المعنى: خير المجازين على المكر.

النظم: اتّصلت الآية بقوله: «وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ».

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 31 الى 34]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَ ما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)

بقيّة شرح هؤلاء المشركين المكذّبين بأنّهم ما قنعوا بالمكر من نفس محمّد صلى اللّه عليه و آله بل مكروا في كتاب محمّد صلى اللّه عليه و آله. روي أنّ النّضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجرا، و اشترى حكايات كليلة و دمنة، و كان يقعد مع المستهزئين- و هو منهم- فيقرأ عليهم قصص كليلة و دمنة، و كان يقول ما تقوّل محمّد مثل هذه المقالات.

و بالجملة [إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا] الّتي من حقّها أن تخرّ لها الجبال الصمّ [قالُوا قَدْ سَمِعْنا] و أدركنا بآذاننا [لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا] مثلها قاله اللّعين النضر بن الحارث، و إسناده إلى الكلّ لأنّه كان رائسهم و يأخذ بالراية، و لو استطاعوا شيئا من ذلك فما الّذي كان يمنعهم أن يأتوا بمثله، و قد تحدّوا عشر سنين؟ و قورعوا بالسّيف مع فرط استنكافهم و ميلهم بالغلبة و قد عجزوا، و هذا الملعون أسر يوم بدر، فقال النّبيّ لعليّ عليه السّلام: عليّ بالنّضر؛ فأمر عليّا بقتله فقتله. و قد سبق شرح قتله هذا.

قوله: [وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ إلخ. المعنى: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لقريش: إنّ اللّه بعثني أن أقاتل من يعبد غيره، و أجرّ الملك إلى أهل الإسلام فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكوا العرب و تدين لكم به العجم و تكونوا ملوكا في الجنّة. فقال أبو جهل: إن

ص: 87

كان هذا هو الحقّ و هذا الّذي يقوله محمّد هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، حسدا لرسول اللّه، ثمّ قال اللّعين: كنّا و بنو هاشم كفرسي رهان فنحمل إذ حملوا و نظعن إذا ظعنوا و نوقد إذا أوقدوا؛ فلمّا استوى بنا و بهم الركب، قال قائل منهم: منّا نبيّ، و لا نرضى بذلك أن يكون في بني هاشم و لا يكون في بني مخزوم، ثمّ قال: غفرانك اللّهم فأنزل اللّه في ذلك:

[وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ حين قال:

غفرانك اللّهمّ فلمّا همّوا بقتل رسول اللّه و أخرجوه من مكّة قال اللّه: [وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا] يعني قريشا [أَوْلِياءَهُ أولياء البيت [إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أنت يا محمّد صلى اللّه عليه و آله و أصحابك الصّادقون فعذّبهم اللّه يوم بدر فقتلوا.

في الكافي عن أبي بصير قال: بينما رسول اللّه جالس إذا أقبل أمير المؤمنين؛ فقال له رسول اللّه: إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم و لو لا أن يقول النّاس من امّتي ما قالت النّصارى في عيسى لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ من النّاس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك يلتمسون البركة، قال: فغضب الأعرابيّان و المغيرة بن شعبة و عدّة من قريش معهم؛ فقالوا: ما رضي لابن عمّه مثلا إلّا عيسى بن مريم فأنزل اللّه على نبيّه: «وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ* وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ* إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ* وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي من بني هاشم- مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» (1) فغضب الحارث بن عمرو الفهريّ؛ فقال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك من أنّ بني هاشم يتوارثون هرقلا بعد هرقل فأرسل علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم؛ فنزلت الآية: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ» (الآية) فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله يا ابن عمرو أما تبت و أما رحلت فدعا براحلته فركبها؛ فلمّا كان بظهر المدينة أتته جندلة فرضّت هامته. فقال رسول اللّه لمن حوله من المنافقين: انطلقوا إلى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به قال اللّه: «وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» (2).

ص: 88


1- الزخرف: 57- 60.
2- ابراهيم: 18.

و في المجمع عن الصّادق عن آبائه: لمّا نصب النّبيّ عليّا يوم الغدير شاع ذلك في البلاد؛ فقدم النّعمان بن الحارث الفهريّ فقال: أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أنّك رسول اللّه، و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصّوم و الصّلاة و الزّكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتّى نصبت لنا هذا الغلام و قلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه؛ فهذا أمر منك أم من اللّه، فقال عليه السّلام: و اللّه الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من اللّه فولّى نعمان و هو يقول: اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء: فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله، و أنزل اللّه: «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» (1) و في نهج البلاغة: «كان في الأرض أمانان من عذاب اللّه فرفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الّذي رفع فهو رسول اللّه، و أمّا الأمان الباقي فهو الاستغفار ثمّ تلا الآية.

العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام: كان رسول اللّه و الاستغفار حصنين لكم من عذاب اللّه فمضى أكبر الحصنين و بقي الاستغفار، فأكثروا منه فإنّه ممحاة الذّنوب.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 35]

وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

لمّا ذكر سبحانه أنّهم ليسوا أولياء البيت بل أولياء البيت المتّقون بيّن في هذه الآية أنّهم ليسوا من أهل الإيمان و الصّلاة، لأنّ صلاتهم و عبادتهم مكاء يقال «مكأ بفيه» أي صفر كانوا يصفرون و يصفقون و يعارضون النّبيّ و يستهزئون به و يخلطون عليه طوافه، و إذا صلّى يقومون عن يمينه و يساره بالتّصفير و التّصفيق للإيذاء.

فلو قيل: إنّ التصفير و التّصفيق ليس من جنس الصّلاة فكيف الاستثناء؟ قيل:

على معتقدهم شباهة، أو المراد أنّ من كان المكاء صلاته فلا صلاة له كقولك: ما لفلان عيب إلّا السّخاء و معلوم أنّ من كان السّخاء عيبه فلا عيب له. ثمّ قال: [فَذُوقُوا الْعَذابَ بكفركم، إمّا عذاب السّيف أو عذاب النّار أو كليهما.

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 36 الى 37]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)

ص: 89


1- المعارج: 1.

أي كما أنّ الكفّار يخالفون الرّسول في الصّلاة و الطّاعات البدنيّة كذلك يصرفون أموالهم في المخالفة معه لانحلال أمره. قال سعيد بن جبير و مجاهد: نزلت في أبي سفيان و إنفاقه المال في حرب محمّد صلى اللّه عليه و آله؛ فإنّ اللّعين كان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، و أنفق عليهم أربعين أوقية ذهبا- و الأوقية اثنان و أربعون مثقالا- بيّن سبحانه أنّ غرضهم من هذا الإنفاق صدّ النّاس من دين اللّه و سبيله، و سبيل اللّه اتّباع محمّد صلى اللّه عليه و آله.

قال سبحانه: [فَسَيُنْفِقُونَها] و يكون عليهم حسرة و لا يفيد لغرضهم، و عاقبتهم أنّهم مغلوبون و الّذين بقوا منهم على الكفر إلى جهنّم يجمعون. و تقديم الخبر للحصر. قوله [لِيَمِيزَ اللَّهُ ليتميّز نفقة الكافرين من نفقة المؤمنين. و المعنى: ليتميّز المؤمن عن الكافر، و الفريق الخبيث عن الفريق الطّيب [وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فيضمّه و يجعله حتّى تراكموا كالسحاب المتراكم فيلقيها في جهنّم و يعذّبهم و هم الخاسرون.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 38]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)

[قُلْ لهم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله هذا القول: [إِنْ يَنْتَهُوا] عن الكفر و عداوة الرّسول و دخلوا الإسلام غفر اللّه لهم ما سلف من كفرهم، و إن عادوا و بقوا على كفرهم و أصرّوا، و يمكن أن يكون من العود القتال و المعارضة مع النّبيّ [فَقَدْ مَضَتْ أحوال أمثالهم من الّذين تحزّبوا على الأنبياء و حاربوهم من الخذلان و الهلاك كما جرى على قوم موسى و غيره و الوعيد الّذي أوعدهم من العذاب الدّائم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 39 الى 40]

وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (40)

الخطاب للنّبيّ صلى اللّه عليه و آله و المؤمنين و هو أنّ الأنصار لمّا بايعوا الرّسول في العقبة تؤامرت قريش أن يفتّنوا المؤمنين عن دينهم فابتلي بعض المؤمنين و أصاب بعضهم جهد شديد

ص: 90

من قريش، و أمر النّبيّ أن يخرجوا إلى الحبشة فأمر اللّه بقتالهم حتّى يزول هذه الفتنة و يكون الدّين كلّه للّه.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال لم يجي ء تأويل هذه الآية، و لو قام قائمنا يأتي تأويلها، و ليبلغنّ دين محمّد صلى اللّه عليه و آله ما بلغ اللّيل حتّى لا يكون مشرك على ظهر الأرض، كما قال سبحانه «يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» (1) و المقصود من أمر القتال رفع الفتنة من إيذاء الكفّار المؤمنين، و هذا الغرض قد حصل بالقتال قوله: فإن انتهوا عن الكفر بالإيمان و الرجوع باللّه لا يخفى عليه شي ء و يعلم و يرى.

[وَ إِنْ تَوَلَّوْا] و أعرضوا [فَاعْلَمُوا] أيّها المؤمنون [أَنَّ اللَّهَ صاحبكم و ناصركم؛ فثقوا به و لا تخافوا من معاداتهم و هو نعم الصّاحب و النّاصر.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 41]

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (41)

الغنيمة عند أهل السّنّة ما دخلت في أيدى المسلمين من أموال الكفّار على سبيل القهر بالخيل و الركاب، و الفي ء ما أخذ من غير قتال، و عندهم يجب في الغنيمة الموصوفة بهذا الوصف الخمس، و عندنا الخمس واجب في كلّ فائدة يحصّل الإنسان من المكاسب و أرباح التجارات و في الكنوز و المعادن و الغوص و غير ذلك ممّا هو مذكور في الكتب الفقهيّة.

و يقسّم الخمس ستّة أسهم: سهم للّه و هو للرسول، و سهم للرسول و سهم الرسول يرثه الإمام المنصوب بنصّه، و سهم للإمام المنصوب فيكون للإمام ثلاثة أسهم من ستّة، و الثّلاثة الأخيرة لأيتام آل الرّسول و مساكينهم و أبناء سبيلهم، و إنّما صارت للإمام وحده ثلاثة أسهم لأنّ اللّه ألزمه بما ألزم الرّسول من تربية الضّعفاء و الفقراء و مؤونتهم و قضاء ديونهم و عملهم في الجهاد و الحجّ و مصالح الإسلام، و ذلك من قول اللّه لمّا أنزل عليه: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (2) و هو أب لهم؛ فلمّا جعله أبا للمؤمنين لزمه ما يلزم الوالد للولد فقال عند

ص: 91


1- النور: 54.
2- الأحزاب: 6.

ذلك: من ترك مالا و لم يكن له وارث يورّثه و من ترك دينا أو ضياعا فعلى وليّ. و كلمة «ما» في «ما غنمتم» موصولة. و إنّما جعل الثّلاثة الأسهم الأخيرة للأيتام و المساكين و أبناء السّبيل من بني هاشم خاصّة؛ لأنّ اللّه حرّم عليهم الصّدقات لكونها أوساخ النّاس و هم أجلّ خطرا.

هذا عند الإماميّة: و أمّا عند الجماعة: ففيه أقوال:

قيل- و القائل أبو العالية و الرّبيع-: إنّه يقسّم على ستّة إلّا أنّ سهم اللّه للكعبة و الباقي لمن ذكره اللّه عملا بظاهر الآية.

و القول الثاني: يقسّم على خمسة أسهم و سهم اللّه و الرّسول واحد و يصرف هذا السّهم إلى الكراع (1) و السّلاح و هو المرويّ عن ابن عبّاس و إبراهيم و قتادة و عطاء.

و القول الثّالث: قال الرّازيّ في المفاتيح: و أمّا بعد وفاة الرّسول فعند الشّافعيّ أنّه يقسّم على خمسة أسهم: سهم لرسول اللّه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين لعدّة الغزاة من الكراع و السّلاح. و سهم لذوي القربى من أغنيائهم و فقرائهم يقسّم بينهم للذّكر مثل حظّ الأنثيين، و الباقي للفرق الثلاثة و هم اليتامى و المساكين و ابن السّبيل.

و قال أبو حنيفة: إنّ بعد وفاة الرّسول سهمه ساقط بسبب موته و كذلك سهم ذوي القربى و إنّما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء، و لا يعطى أغنياؤهم فيقسّم على اليتامى و المساكين و ابن السبيل.

و قال مالك: الأمر في المجلس مفوّض إلى رأي الإمام: إن رأى قسمه على هؤلاء يعمل و إن رأى أعطاه بعضهم دون بعضهم.

و اعلم أنّ القائلين بأنّ سهم اللّه و رسوله واحد يقولون: إنّ قوله: «لِلَّهِ» ليس المقصود إثبات نصيب للّه؛ فإنّ الأشياء كلّها ملك للّه و إنّما المقصود افتتاح الكلام بذكر اللّه على سبيل التعظيم كما في قوله «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ» (2) و احتجّ القفال على صحّة قوله بقوله صلى اللّه عليه و آله لهم في غنائم خيبر: مالي ممّا أفاء اللّه عليكم إلّا الخمس. و روى الحسن و قتادة أنّ

ص: 92


1- يطلق على الخيل و البغال و الحمير.
2- السورة: 1.

سهم اللّه و سهم الرّسول و سهم ذي القربى للإمام من بعد الرّسول ينفقه على نفسه و عياله و مصالح المسلمين و هو مذهبنا.

[وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ قالوا: إنّ هذه الأسهم الثلاثة لجميع النّاس و إنّه يقسّم على كلّ فريق منهم بقدر حاجتهم، و لكن عندنا الإماميّة يختصّ باليتامى و المساكين و ابن السّبيل من بني هاشم انتهى. قوله: [إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ إنّ هذه وجوه أقسام الغنيمة و طريق قسمتها إن كنتم مؤمنين آمنتم باللّه، و عرفتم أنّ اللّه ناصركم.

و أنزلنا نصرنا على محمّد صل اللّه عليه و آله يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين و هم ثلاثمائة و تسعة عشر رجلا، و جمع الكافرين و هم قدر المتّفق عليه تسع مائة إلى ألف من شجعان قريش فهزموهم و علمتم أنّ ظفركم كان بنا يوم الفرقان و المراد يوم بدر؛ لأنّ اللّه فرّق بين المسلمين و المشركين بإعزاز المؤمنين و قمع المشركين و ذلّلهم، و كان يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة [وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ].

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 42 الى 43]

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43)

«العدوة» شفير الوادي و للوادي عدوتان و هما جانباه و «الدنيا» تأنيث الأدنى من دنوت و «القصوى» تأنيث الأقصى جانب مكّة، و ما كان من النعوت على فعلى من بنات الواو فإنّ العرب تحوّله إلى الياء نحو الدّنيا و العليا استثقالا للواو مع ضمّ الأوّل.

المعنى: إذا أنتم أقلّة أذلّة نازلين بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة [وَ هُمْ أي المشركون نازلين بالشفير الأبعد من المدينة [وَ الرَّكْبُ و العير أي أبو سفيان و أصحابه، في موضع [أَسْفَلَ مِنْكُمْ قريب ساحل البحر على ثلاثة أميال، و أنتم أيّها المسلمون في قلّة الماء و الرمل فيها رؤوس أموالهم مع هذا كلّه كان الفتح لكم.

ص: 93

[وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم و أهل مكّة على القتال لخالف بعضكم بعضا لكثرتهم و قلّتكم [وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا] أي ينصركم و يخرج و يحصل هذا الأمر إلى الفعل، و صار الدمار على المشركين؛ فهذا من عظيم المعجزات على صدق نبوّته صلى اللّه عليه و آله من وعده بالنصر و قد وقع. «و اللّام» في «ليهلك» لام الغرض و الأجل أي لأنّ الّذي يهلك يهلك عن بيّنة و تتمّ عليه الحجّة و كذلك من يحيى يحيى بالبيّنة و المعرفة و هو [لَسَمِيعٌ دعوتكم و [عَلِيمٌ بحاجتكم.

قوله: [إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ هذا هو النّوع الثاني من النعم الّتي أنعم اللّه بها على أهل بدر. و العامل في قوله «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ» قيل: «أتاكم النصر» و قيل بفعل محذوف تقديره:

و اذكر يا محمّد إذ يريكهم اللّه في نومك بأنّ المشركين قليلون فأخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله رؤياه للأصحاب فأجرأ المسلمون على قتال الكفّار.

فإن قيل: رؤية الكثير قليلا خلاف الواقع فكيف يجوز من اللّه؟ فالجواب أنّه أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الّذين رآهم بأنّهم قليلون، ثمّ إنّ الرؤيا تصوّر يتوهّم معه الرؤية، و لا يكون إدراكا و لا علما كما يتخيّل السراب ماء من غير قطع أنّه ماء، و هذا يجوز في الرؤيا. و الرؤيا على أربعة أقسام: رؤيا من اللّه، و لها تأويل و رؤيا من وساوس الشيطان، و رؤيا من غلبة الأخلاط، و رؤيا من الأفكار، و كلّ هذه الثلاثة أضغاث أحلام.

هذا قول بعض المفسّرين و قال قليل من المفسّرين: معنى «فِي مَنامِكَ» أى عينك تسمية للظرف باسم المظروف لأنّ العين موضع النّوم و قالوا: ليس المراد من الرّؤيا في النوم، و هذا قول الحسن و البلخيّ.

قوله: [وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً] على ما كانوا عليه [لَفَشِلْتُمْ و جبنتم على قتالهم و ضعفتم [وَ لَتَنازَعْتُمْ في أمر القتال؛ فبعض منكم كان يقول نقاتلهم، و بعض أخر يخالفونهم [وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ المسلمين عن اختلاف الكلمة بلطفه [إِنَّهُ عَلِيمٌ بما في قلوبكم.

[سورة الأنفال (8): آية 44]

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

ص: 94

و لمّا رأى النبيّ قلّة عدد المشركين و أخبر المسلمين أكّد هذا المعنى في اليقظة بأن رأى المسلمون عدد المشركين قليلين حتّى يجترئوا على القتال معهم، و كذلك رأى المشركون عدد المسلمين قليلين حتّى لا يتأهّبوا في الحرب من السلاح و الكراع؛ لأنّهم لمّا استقلّوا المسلمين لم يبالغوا في التأهّب و هذه معجزة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و ذلك قوله «و يقلّلكم» و قد روي أنّ أبا جهل كان يقول: خذوهم بالأيدي أخذا و لا تقاتلوهم، و ذلك الأمر حصل ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا بجهادكم و غلبتكم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 45 الى 46]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

علّم اللّه البدريّين بعد فتحهم أنّه إذا التقوا جماعة من المحاربين الثبات بأن يوطّنوا أنفسهم على اللّقاء و لا يتولّون، و يذكرون اللّه كثيرا.

و في تفسير هذا الذكر قولان: أحدهما أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين اللّه و بألسنتهم قال ابن عبّاس: أمر اللّه أولياءه بذكره في أشدّ الأحوال تنبيها على أنّ الإنسان ينبغي أن لا يخلّي قلبه و لسانه عن ذكر اللّه، و لو أنّ رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء و الآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل اللّه كان الذاكر أعظم أجرا.

و القول الثاني أنّ المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر و الظفر.

ثمّ قال: [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فالفلاح حاصل إذا كانت المقاتلة لسبيل دين اللّه؛ لأنّه إن غلب العدوّ فاز بالثواب و الغنيمة، و إن صار مغلوبا فاز بالشهادة و الدّرجات العالية ثمّ قال مؤكّدا لذلك بقوله: [أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر الأمور؛ لأنّ الجهاد ينفع مع التمسّك بسائر الطاعات. ثمّ قال [وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا] لأنّ الاختلاف و النزاع يوجب الوهن و الضعف [وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ و المراد بالرّيح الدّولة و الشوكة، و هذه كناية مستعارة يقال: هبّت رياح بني فلان إذا دانت لهم الدولة، أو المراد بالرّيح حقيقة كما في الحديث، قال صلى اللّه عليه و آله: نصرت بالصّبا و أهلكت عاد بالدبور و القول الأوّل أقوى [وَ اصْبِرُوا] و تثبّتوا في

ص: 95

الأمور إنّه يحبّ من صبر على الشدائد.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 47]

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)

قال المفسّرون: إنّ قريشا لمّا خرجوا من مكّة لحفظ العير و وردوا الجحفة بعث الحفاف الكنانيّ- و كان صديقا لأبي جهل- بهدايا إليه مع ابن له؛ فلمّا أتاه قال: إنّ أبي ينعمك صباحا و يقول: إن شئت أن أمدّك بالرّجال أمددتك، و إن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت؛ فقال أبو جهل: قل لأبيك: جزاك اللّه و الرّحم خيرا إن كنّا نقاتل اللّه كما يزعم محمّد فو اللّه لا طاقة لنا به، و إن كنّا نقاتل الناس فو اللّه إنّ بنا على الناس لقوّة، و اللّه ما نرجع عن قتال محمّد حتّى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور بالمضارب و القيان، فإنّ بدرا موسم من مواسم العرب و سوقا من أسواقهم حتّى تسمع العرب بهذه الواقعة. قال المفسّرون: فوردوا بدرا و شربوا كؤوس المنايا دون الخمور، و ناحت عليهم النوائح عوض القيان! و اللّه وصفهم بثلاثة أشياء: البطر و هو الطغيان في النعمة. و الثاني قوله:

[وَ رِئاءَ النَّاسِ و الرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أنّ باطنه قبيح، و معناه قريب من النفاق لأنّ النّفاق إظهار صورة معناها غيرها و باطنها غير ظاهرها. و الثالث:

[وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .

فلو قيل: عطف الفعل على الاسم غير حسن؟ فجوابه إمّا الاسم بمعنى الفعل أي يبطرون و يراءون، و إمّا الفعل بمعني الاسم أي صادّين ليكون العطف من جنس الكلمة و كانوا يمنعون الناس عن الإيمان باللّه و الجهاد في سبيله، و اللّه بعملهم محيط من الرياء و سوء القصد.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 48]

وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)

[و اذكر إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ عطف على حال المشركين الّذين خرجوا من ديارهم

ص: 96

بطرا، و في كيفيّة هذا التزيين وجهان. و قد أشرنا به قبل. قيل: إنّ الشيطان زيّن بالوسوسة، و قيل: تحوّل في صورة الإنسان بصورة سراقة بن مالك و كان سراقة الكنانيّ من أشرافهم فجاء و أخذا لراية [وَ قالَ لقريش: [لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ و إنّي مجير لكم من بني كنانة و ذلك لأنّهم كانوا قبل ذلك قتلوا من بني كنانة واحدا فلم يأمنوا قريش أن يأتوهم من ورائهم فلمّا رأى إبليس نزول الملائكة، عرفهم و عرفوه ولّى اللّعين بطريق القهقرى [و نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ فقال له الحارث: أتخذ لنا في هذه الحالة؟ فقال: [إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ و وقع في صدر الحارث و انهزم و لمّا رجعوا إلى مكّة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: و اللّه ما علمت بمسيركم، حتّى بلغتني هزيمتكم.

و أنكر بعض أنّ الشيطان ليس له القدرة إلى هذا الحدّ بأن يتصوّر بصورة الإنسان. و لم يقدره اللّه بهذه القدرة. قال الشيخ المفيد أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان قدس سرّه: يجوز أن يقدر اللّه الجنّ و من جرى مجراهم على أن يتجمّلوا ببعض جواهرهم حتّى يتمكّن الناس من رؤيتهم، و يتشبّهوا بغيرهم من أنواع الحيوان، و قد استفاض هذا الخبر أنّ اللّعين تراءى لأهل البدر في صورة سراقة و لأهل الندوة في صورة شيخ نجديّ و جبرئيل ظهر لأصحاب الرّسول في صورة دحية الكلبيّ.

أقول: و قد يكون يقع بمثل هذه الموارد اتّفاقا بتغيير اللّه صورهم للامتحان لكن لا على سبيل الكلّيّة بأن يقدر إبليس في كلّ حين من الأحيان هذا الأمر. و قيل: لمّا رأى اللّعين نزول الملائكة خاف أن يكون الوقت المعلوم قد حضر فخاف، و خوفه لأجل هذا الاحتمال.

قوله: [وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يمكن أن يكون من بقيّة قول إبليس، و يحتمل أن ينقطع كلامه عند قوله: أخاف اللّه، ثمّ قال تعالى: وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ

قوله تعالى: [سورة الأنفال (8): آية 49]

إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

إنّما لم يدخل الواو في «إذ يقول» و دخلت في قوله: «و إذ زيّن» لأنّ قوله: «و إذ زيّن» عطف على ما قبله و هذه الآية كلام مبتدأ منقطع عن ما قبله، و العامل في «إذ»: «وَ اللَّهُ شَدِيدُ

ص: 97

الْعِقابِ» بيان الآية: أمّا المنافقون فهم قوم من الأوس و الخزرج، و أمّا الّذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا و ما قوي إسلامهم في قلوبهم و لم يهاجروا.

ثمّ إنّ قريشا لمّا خرجوا لحرب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال أولئك: نخرج مع قومنا فإن كان محمّد صلى اللّه عليه و آله في كثرة خرجنا إليه و إن كان في قلّة أقمنا في قومنا قال محمّد بن إسحاق: قتل هؤلاء مع المشركين و هم جماعة منهم قيس بن الوليد بن المغيرة، و عليّ بن اميّة بن خلف و العاص بن منبّه بن الحجّاج، و الحارث بن زمعة، و أبو قبيس بن فاكهة؛ فلمّا رأوا قلّة المسلمين قالوا: «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» أي غرّ المسلمين دينهم حتّى خرجوا مع قلّتهم لأجل دينهم و اغترّوا بقول محمّد صلى اللّه عليه و آله، و لم يحسنوا التدبير و النظر لأنفسهم؛ فبيّن اللّه سوء عقيدتهم، فإنّ من سلّم أمره إلى اللّه فإنّ اللّه غالب على أمره و حكيم في أفعاله.

[سورة الأنفال (8): الآيات 50 الى 51]

وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)

لمّا شرح اللّه حال هؤلاء الكفّار في الدنيا شرح أحوال موتهم، و العذاب الّذي يصل إليهم. و قرئ «إذ تتوفّى» بالتاء على تأنيث الجماعة، و جواب «لو» محذوف، و التقدير:

لرأيت أمرا هائلا. قوله [وَ لَوْ تَرى أي و لو عاينت و شاهدت فإنّ «لو» تردّ المضارع إلى الماضي كما تردّ كلمة «إن» الماضي إلى المضارع، و يجوز أن يكون الفاعل في «يتوفّى»:

«اللّه». «و الملائكة» مرفوعة بالابتداء «و يضربون» خبره أي يقبضون أرواحهم أي الذّوات الكافرة تستوفي من بدنه و جسده، قوله [يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ قال ابن عبّاس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف و إذا ولّوا ضربوا أدبار المسلمين؛ فلا جرم قابلهم اللّه بمثله وقت النّزع.

قوله: [ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي يبشّرهم و يقول لهم: «ذوقوا» و نظيره في القرآن كثير كقوله: «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» (1) أي و يقولان: ربّنا تقبّل منّا. قال ابن عبّاس: و يقول الملائكة لهم: «ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ»

ص: 98


1- البقرة: 121.

لأنّه كان مع الملائكة مقامع، و كلّما ضربوا بها التهبت النار في الأجزاء و الأبعاض؛ فذلك قوله: «ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ».

ثمّ قال: [ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من أعمالكم و عقائدكم، يقال لهم هذا القول، و القائل إمّا اللّه أو الملائكة، أي فعلنا ذلك بسبب تقديمكم الكفر على الإيمان، و إنّما عبّر باليد مع أنّ الإيمان و الكفر أمر متعلّق بالقلب، لأنّ اليد مظهر القدرة و آلة كلّ أمر؛ فحسن هذا المجاز؛ فإنّ الإنسان جوهر واحد و هو الفعّال و الدرّاك و هو المؤمن و هو الكافر و هو المطيع و هو العاصي، و هذه الأعضاء آلات له و أدوات له في الفعل؛ فأضيف الفعل في الظاهر إليها لكنّ الجسم أي الأدوات و الجوهر أي الإنسان مشتركان في النعيم و الجحيم؛ لأنّ ذلك الجوهر لا يتحقّق وجوده الخارجيّ إلّا بتحقّق وجود الآلات، و الآلات لا تتمكّن من الورود في أمر من الأمور إلّا بإشارة ذلك الجوهر؛ فهما مشتركان في العمل فحينئذ لا يجوز أن يعذّب أو يتنعّم أحدهما دون الآخر [وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لعبيده و أنّهم أقدموا على أنفسهم فاستوجبوا العذاب.

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 52 الى 54]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)

«كدأب» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: دأبهم كدأب و عادة أتباع فرعون في الكفر و كدأب الكافرين من قبلهم بالرسل و بما انزل إليهم، أو المعنى أنّ عقوبة هؤلاء المشركين في زمانك كعقوبة تلك؛ فأخذهم اللّه بسبب كفرهم فجوزي هؤلاء في بدر بالقتل و السّبي كما جوزي أولئك بالإغراق. و معنى الدّأب العادة و إدامة العمل و المواظبة على أمر، و السّبب في ذلك بأنّ اللّه لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم؛ لأنّه سبحانه أنعم عليهم بالعقل و القدرة و إزالة الموانع لأن يشتغلوا بما أريد منهم؛ فإذا عكسوا الأمر و صرفوا هذه الأحوال إلى المعصية و الكفر، فقد غيّروا نعمة اللّه على أنفسهم؛ فلا جرم استحقّوا تبديل النعم بالنقم و المنح بالمحن.

ص: 99

و ذكروا في تكرار قوله: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» وجوها كثيرة: أحدها أنّ الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأوّل؛ و الكلام الأوّل ذكر أخذهم و في الثاني ذكر كيفيّة أخذهم بالإغراق، أو أنّه أريد بالأوّل ذكر ما نزل بهم من العقوبة حال الموت و بالثاني ما ينزل بهم في القبر و الآخرة.

و بالجملة شبّه اللّه حال المنكرين لنبوّة محمّد من المشركين بقوم فرعون؛ فإنّهم عذّبوا بجحودهم نبوّة موسى كذلك قومك عذّبوا يوم بدر و ذلّوا فحال هؤلاء كحال أولئك في التكذيب و التبديل و ورود العذاب في الدنيا و الآخرة فانظر أيّها العاقل في اشتراكات وجه الشبه من الفريقين الخبيثين [وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ و تشابه الفريقان في الظلم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 55 الى 56]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ (56)

النظم: لمّا وصف كلّ الكفّار بالظلم فردّ بمزيّة بعضهم في الشرّ و الفساد على البعض فقال: [إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ في حكمه و علمه من حصلت له صفتان: الّذي يستمرّ على كفره مصرّا عليه و الّذين ينقضون عهد اللّه مرّة بعد مرّة. و أتى بصيغة الاستقبال لبيان أنّهم دائما ناقضون العهد، و المراد بهم بنو قريظة؛ فإنّهم نقضوا عهد الرسول، و أعانوا عليه المشركين بالسلاح يوم بدر، ثمّ قالوا: أخطأنا فعاهدهم رسول اللّه مرّة اخرى فنقضوه أيضا يوم الخندق و هم لا يتّقون نقض العهد.

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 57 الى 58]

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)

لمّا ذكر سبحانه الّذين ينقضون عهدهم في كل مرّة بيّن في هذه الآية حكمهم و ما يجب أن يعاملوا بهم. ثقفنا به أي ظفرنا به أي إنّك إن ظفرت في الحرب بهولاء الناقضين فافعل بهم فعلا يتفرّقون من مناصبتك تفرّقا عنيفا موجبا للاضطرار من النكاية و التعذيب ما يوجب أن تنكل [مَنْ خَلْفَهُمْ أي من وراءهم من الكفرة قال عطا: المعنى: ثخّن فيهم القتل حتّى يخافك غيرهم الّذين من وراء هؤلاء لأن يعتبروا بهم و لا يفعلون فعلهم و يتذكّرون.

قوله: [وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين معك [خِيانَةً] منهم و نكثا بأمارات ظاهرة

ص: 100

فانبذ إليهم عهدهم على طريق مستو ظاهر أي أظهر لهم نبذ العهد و تخبرهم خبرا ظاهرا مكشوفا بيّنا أنّك قطعت ما بينك و بينهم و لا تبادرهم الحرب، و هم على توهّم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ في العهود. و حاصل الآية المنع عن الخيانة و نقض العهد.

[سورة الأنفال (8): الآيات 59 الى 60]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)

لمّا اتّفق لأصحاب النبيّ في قصّة بدر بأن قصد الكفار بلا آلة و لا عدّة أمرهم اللّه أن يعدّوا للكفّار ما يمكنهم من الآلات و السلاح و القوّة، و قيل: المراد من القوّة الحصون.

لكنّ الظاهر أنّ ما هو آلة للغزو فهو من جملة القوّة و قوله صلى اللّه عليه و آله: القوّة هي الرمي لا ينافي كون غير الرمي قوّة مثل قوله: الحجّ عرفة و الندم توبة لا ينفي اعتبار غيره، و لا شكّ أنّ ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد. و «رباط» جمع «ربيط» كفصال جمع فصيل، و المراد الخيل المربوطة في سبيل اللّه و فسّر الخيل هنا بالإناث لتناسلها و نمائها؛ قالت العرب: «إنّ الحصون الخيل لا مدر القرى» و لمّا علم العدوّ أنّ طرفه متأهّب للقتال و مستكمل الآلات فذلك يفيد خوفا للعدوّ فقال: [تُرْهِبُونَ بِهِ الكفّار [عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ و ربما يكون ذلك الخوف داعيا إلى الإيمان.

ثمّ قال: [وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أي ترهبون بالرباط و القوّة كفّار العرب و مشركيهم غير هؤلاء. و اختلفوا في الآخرين، قيل: أهل فارس، و قيل: هم المنافقون لا يعلم المسلمون أنّهم أعداء اللّه و أعداؤهم و اللّه يعلم بواطنهم و أنتم لا تعرفونهم لأنّهم يصلّون و يصومون و يختلطون بالمسلمين.

[وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و طاعته [يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ثوابه في الآخرة [وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ و لا ينقص منه شي ء و يصلكم وافيا.

[سورة الأنفال (8): آية 61]

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)

ص: 101

لمّا بيّن ما يرهب به العدوّ بيّن أنّه من بعد الإرهاب إذا مالوا للصلح و السلم فالحكم قبول الصلح. و تأنيث المضمر باعتبار الفعلة و الجنحة كقوله: «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»* (1) أي من بعد فعلتهم. قال الزمخشري: «السلم» تؤنّث تأنيث نقيضها و هي الحرب قيل: هذه الآية منسوخة بقوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» (2) و قوله:

«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (3) و قال بعض المفسّرين: الآية غير منسوخة و الآية متضمّنة بالصلح إذا كان الصلاح فيه و المهادنة تكون بنظر الرسول و الإمام. قوله: [وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوّض الأمر في المعاقدة معهم إلى اللّه ليكون عونا لك، إنّه سميع و عليم بما يضمره العباد.

[سورة الأنفال (8): الآيات 62 الى 63]

وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)

لمّا أمر في الآية السابقة بقبول الصلح إن صالحوا بيّن في هذه الآية أنّهم إذا أرادوا الصلح و قصدهم أن يخدعوك في الصلح و هم يتأهّبون للقتال فيتقوّون و يبدؤون بالقتال معكم من غير استعداد منكم فإنّ الّذي يتولّى كفايتك اللّه هو الّذي قوّاك بالنصر و أيّدك بالمؤمنين على أعدائك. و المراد بالمؤمنين الأنصار و هم الأوس و الخزرج و أراد بتأليف القلوب ما كان بين الأوس و الخزرج من المعاداة و القتال سنين متطاولة فإنّه لم يكن حيّان من العرب بينهما من العداوة مثل ما كان بين هذين الحيّين فألّف اللّه بينهم حتّى صاروا متوارثين متحابّين ببركة محمّد صلى اللّه عليه و آله. و لو أنفقت يا محمّد ما في الأرض جميعا لم يمكنك جمع قلوبهم على الالفة و إزالة ضغائن الجاهليّة إنّه غالب في أمره حكيم في أفعاله.

[سورة الأنفال (8): الآيات 64 الى 66]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

ص: 102


1- الأعراف: 152.
2- التوبة: 5.
3- التوبة: 29.

و لمّا وعده النصر في الآية السابقة على تقدير خدعة الكفّار وعده بالنصر في هذه مطلقا في كلّ ما يحتاج إليه في الدين و الدنيا بقوله: حسبك اللّه و حسب من اتّبعك من المؤمنين فهو كافئكم و مؤيّدكم [يا أَيُّهَا النَّبِيُ رغّب المؤمنين و شوّقهم على القتال بذكر مثوبات الجهاد و وعد النصر و اغتنام الأموال [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ على القتال [يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من العدوّ و كذلك إن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الكفّار. و اللفظ لفظ الخبر و المراد به الأمر و يدلّ على الأمر به ما بعد الآية بقوله: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ» لأنّ التخفيف لا يحصل إلّا بعد التكليف.

قوله: [بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ معناه أنّ ذلك النصر لكم بسبب أنّ الكفار لا يفقهون امر اللّه و لا يصدّقونه، و أنتم تصدّقونه و تفهمون و لمّا علم اللّه أنّ ذلك يشقّ عليهم بأنّ واحدا منهم يثبت في القتال على العشرة و كان قد أمرهم للامتحان فتغيّرت المصلحة في ذلك فقال [الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ الحكم في الجهاد بوجوب قتال العشرة على الواحد، و ثبات الواحد للعشرة، و علم أنّ فيكم ضعف البصيرة و العزيمة لا ضعف البدن فإنّ الّذين أسلموا في الابتداء لم يكونوا كلّهم أقوياء البدن بل كان فيهم القويّ و الضعيف، و لكن كانوا أقوياء في العزيمة و اليقين.

ثمّ لمّا كثر المسلمون و اختلط بهم من كان ضعيف اليقين و البصيرة نزل قوله: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ» روي أنّه صلى اللّه عليه و آله كان يبعث العشرة إلى وجه المائة، بعث حمزة عليه السّلام في ثلاثين راكبا قبل بدر إلى قوم فلقيهم أبو جهل في ثلاثمائة راكبا و أرادوا قتالهم؛ فمنعهم حمزة، و بعث رسول اللّه عبد اللّه بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذليّ و كان في جماعة فابتدر عبد اللّه و قال: يا رسول صفه لي فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّك إذا رأيته ذكرت الشيطان و وجدت لذلك قشعريرة، و قد بلغني أنّه جمع لي فاخرج إليه و اقتله قال عبد اللّه: فخرجت نحوه فلمّا دنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي: ممّن الرجل؟ قلت له: من العرب سمعت بك و تجمّعك

ص: 103

و مشيت معه حتّى إذا تمكّنت منه قتلته بالسيف و أسرعت إلى الرسول و ذكرت أنّي قتلته، فأعطاني صلى اللّه عليه و آله عصا و قال: أمسكها فإنّها آية بيني و بينك يوم القيامة.

ثمّ هذا التكليف شقّ على المسلمين فأزاله اللّه بهذه الآية، قال عطا: عن ابن عبّاس لمّا نزل التكليف الأوّل ضجّ المهاجرون، و قالوا: يا ربّ نحن جياع و أعداؤنا شباع، و نحن في غربة و عدوّنا في أهليهم و قال الأنصار: شغلنا بعدوّنا و واسينا إخواننا فنزل التخفيف.

و احتجّ هشام بهذه الآية بأنّ اللّه لا يعلم الجزئيّات إلّا عند وقوعها، تعالى اللّه عن ذلك، بل معنى الآية أنّه تعالى قبل حدوث الشي ء لا يعلمه حاصلا واقعا بل يعلم أنّه سيحدث و عند حدوثه و وقوعه فإنّه يعلمه حادثا؛ فيكون معنى الآية أنّ الآن حصل العلم بوقوعه و حصوله و كان قبل الحصول العلم بأنّه سيقع و «ضعف» بالضمّ و الفتح لغتان صحيحتان.

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 67 الى 69]

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

المقصود من هذه الآية تعليم حكم آخر من أحكام الغزو و الجهاد. قرئ «تكون» بالتاء و الياء لأنّ الأسرى مذكّر في المعنى و مؤنّث في اللفظ.

النزول: روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله اتي بسبعين أسيرا فيهم العبّاس عمّه و عقيل بن أبي طالب و لم يؤسر من أصحاب النبيّ؛ فجمعوا الأسارى و قرنوهم في الحبال، و لمّا أمسى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و الناس محبوسون أي الأسارى محبوسون بالوثاق بات صلى اللّه عليه و آله ساهرا أوّل الليلة؛ فقال له: أصحابه مالك لا تنام فقال صلى اللّه عليه و آله: سمعت أنين العبّاس عمّي فأطلقوه فسكت فنام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله.

و في كتاب عليّ ابن إبراهيم: لمّا قتل رسول اللّه النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسارى؛ فقالوا: يا رسول اللّه قتلنا سبعين و هم قومك و أسرتك

ص: 104

فخذ يا رسول اللّه من هؤلاء الفداء و قد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش، فنزلت الآية.

[ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ و كان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، و أقلّه ألف، فبعث قريش بالفداء أوّلا فاوّلا و قيل: كان الفداء عشرين أوقية من الفضّة، و الأوقية أربعون درهما أو ستّة دنانير و فداء العباس أربعون أوقية قال محمّد بن سيرين: كان فداؤهم مائة أوقية. قال الباقر عليه السّلام: كان الفداء يوم بدر كلّ رجل من المشركين بأربعين أوقية و الأوقية أربعون مثقالا إلّا العبّاس فإنّ فداءه كان مائة أوقية، و كان قد أخذ منه حين أسر عشرون أوقية ذهبا، و قال النبيّ: ذاك غنيمة، فاد نفسك و ابني أخيك عقيلا و نوفلا فقال العبّاس: ليس معي شي ء؛ فقال صلى اللّه عليه و آله: أين الذهب الّذي سلّمته إلى امّ الفضل و قلت: إن حدث حدث بي فهو لك و للفضل و قثم و عبد اللّه؟ فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: اللّه تعالى. قال: أشهد أنّك رسول اللّه ما اطّلع على هذا إلّا اللّه.

و كان النبيّ يكره أخذ الفداء و لا يرضى إلّا القتل و الأنصار لأجل الطمع كانوا يلحفون و يصرّون بأخذ الفداء طمعا فنزلت: «وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ» أي ما ينبغي لنبيّ [أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ليفديهم و يأخذ منهم الفداء، أو يمنّ عليهم إلّا بعد أن بالغ في القتل و الغلبة ليرتدع من يسمع [تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا] هذا خطاب للمؤمنين دون النبيّ لأنّهم كانوا راغبين في أخذ الفداء من الأسرى و عرض الدنيا مال الدنيا [وَ اللَّهُ يُرِيدُ] لكم [الْآخِرَةَ] و اللّه غالب على أمره بما تقتضيه الحكمة.

قوله: [لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي لو لا ما مضى من حكم اللّه ان لا يعذّب قوما حتّى يتبيّن لهم ما يحترزون و أنّه لم يتبيّن لكم أن لا تأخذوا الفدية، لعذّبكم بأخذ الفداء. هذا قول في معنى الآية، و قيل: لو لا أن حكم اللّه لكم بإباحة الغنائم و الفداء في امّ الكتاب و هو اللوح المحفوظ [لَمَسَّكُمْ فِيما] استحللتم قبل الإباحة [عَذابٌ عَظِيمٌ فإنّ الغنائم لم تحلّ قبلكم لأحد و هذا قول ابن عبّاس، و ثالث الأقوال أنّ المعنى: لو لا ما كتب اللّه في القرآن أو في اللوح أنّه لا يعذّبكم و النبيّ بين أظهركم لمسّكم العذاب بأخذ الفدية، و عدم إقدامكم على قتل المشركين و [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] لكم [رَحِيمٌ بكم.

ص: 105

[سورة الأنفال (8): الآيات 70 الى 71]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

لمّا أخذ الرسول الفداء من الأسارى و شقّ عليهم أخذ أموالهم منهم ذكر اللّه هذه الآية تسلية لبعضهم الّذين أسلموا، قال عبّاس بن عبد المطّلب: فأبدلني اللّه خيرا ممّا أفديت لي الآن عشرون عبدا و إنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألف و أعطاني زمزم و ما أحبّ أنّ لي بها جميع أموال مكّة و أنا أنتظر المغفرة من ربّي.

و اختلف المفسّرون في أنّ هذه الآية نازلة في العبّاس خاصّة أو في جميع الأسارى و ظاهر الآية عامّة في الأسارى لقوله: «في قلوبكم» بلفظ الجمع و يغفر لكم و يؤتكم خيرا فما الموجب للتخصيص؟

و بالجملة حاصل المعنى أنّه قل يا محمّد للأسرى الّذين في وثاقكم: إن يعلم اللّه أنّكم آمنتم و كسبتم الإيمان يعطيكم اللّه أحسن ممّا أخذ منكم في الدنيا و في الآخرة. و قرئ بصيغة المعلوم و الفاعل النبيّ و يغفر اللّه لكم و هو غفور لمعاصيكم رحيم بكم.

قوله: [وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ و نقض العهد [فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ روي أنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته و إلى معاهدة المشركين فقال: و إن يريدوا خيانتك و نقض العهد فقد خانوا اللّه من قبل و أمكن اللّه رسوله منهم فإن عادوا كذلك يمكن اللّه رسوله من الناقضين و هو عليم بضمائرهم و حكيم في أفعاله.

[سورة الأنفال (8): الآيات 72 الى 75]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (75)

ص: 106

المعنى أنّه تعالى قسّم المؤمنين في زمان الرسول إلى أربعة أقسام و ذكر حكم كلّ واحد منهم و التقرير أنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا ظهرت نبوّته بمكّة و دعا الناس إلى التوحيد؛ ثمّ انتقل من مكّة إلى مدينة فحين هاجر صار المؤمنون على قسمين، منهم من وافقه في الهجرة و منهم من لم يوافقه بل بقي هناك.

أمّا القسم الأوّل؛ فهم المهاجرون الأوّلون و كانوا يتوارثون بالهجرة و جعل اللّه الميراث للمهاجرين و الأنصار دون ذوي الأرحام و كان الّذي آمن و لم يهاجر لم يرث من أجل عدم المهاجرة و عدم النصرة و كانوا يعملون بذلك حتّى أنزل اللّه تعالى: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» فنسخت هذه الآية بقوله: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ» فصار الميراث لذوي الأرحام المؤمنين و لا يتوارث أهل ملّتين.

و بالجملة وصف القسم الأوّل بقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

و أمّا القسم الثاني فهم الأنصار لأنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا هاجر إليهم فلو لا أنّهم آووا و نصروا و بذلوا المال في خدمة الرسول لما تمّ المقصود لكن حال المهاجرين أعلى من حال الأنصار في الفضيلة لأنّهم تحمّلوا العناء أكثر من الأنصار من مفارقة الأهل و الوطن و لسبقهم كما أنّ في الذكر قدّم المهاجرين على الأنصار، و لمّا ذكر هذين القسمين في هذه الآية قال:

[أولئك بعضهم أولى ببعض .

و اختلفوا في المراد من الولاية في الآية فنقل الواحديّ عن ابن عبّاس و أغلب المفسّرين أنّ المراد هو الولاية في الميراث و قالوا: جعل اللّه سبب الإرث الهجرة و النصرة دون القرابة و كان القريب الّذي آمن و لم يهاجر لم يرث و قيل: المراد من الولاية التناصر و التعاون لا الميراث.

قوله: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا] إلى المدينة [ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا] أي مالكم من ميراثهم من شي ء حتّى يهاجروا فحينئذ بعد الهجرة يحصل بينكم التوارث قوله: [وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ] أي فإن طلبوا منكم الّذين لم يهاجروا النصرة لهم على الكفّار فيجب عليكم معاونتهم و ليس عليكم النصر لهم

ص: 107

في غير أمر الدين [إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي إلّا أن يطلبوا منكم القتال و النصرة على قوم من الكفّار و المشركين الّذين تعاهدتم معهم و أعطيتهم الأمان و العهد إلى مدّة فحينئذ لا يجوز أن تنصروا المؤمنين عليهم لما فيه من نقض العهد.

و بالجملة إنّ الّذين حملوا الآية في معنى الولاية على الإرث قالوا: نسخت بقوله:

«وَ أُولُوا الْأَرْحامِ» و قالوا: الدليل على أنّ معنى الولاية الإرث؛ و لا يجوز أن يكون بمعنى النصرة لأنّه تعالى عطف عليه قوله: «وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» و لا شكّ أنّ ذلك عبارة عن الموالات في الدين و المعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمرا مغايرا لمعنى النصرة و اللّه عليم بأفعالكم «و الولاية» قرئ بكسر الواو و فتحها فمن قرءها بالفتح جعلها من النصرة و النسب و من قرءها بالكسر بمعنى السلطان.

قوله: [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي بعضهم أنصار بعض إذا كان الولاية بمعنى الايتراث أي بعضهم يرثون بعضا و الآية تدلّ على أنّ الكافر يرث الكافر مع اختلاف مللهم لأنّهم مع الاختلاف يصدق عليهم الكفر؛ فالمجوسيّ يرث النصرانيّ و النصرانيّ يرث اليهوديّ.

و لمّا بيّن هذه الأحكام قال: [إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ] و وقوع هذه الفتنة من وجوه: الأوّل أنّ المسلمين إذا اختلطوا بالكفّار و يتناصر و يتوارث بعض الكافرين بعض المؤمنين و بالعكس فهذه المخالطة موجبة لالتحاق المسلمين بالكافرين لكثرة الكافرين. الثاني أنّ المسلمين إذا لم يتّفقوا و يتناصر و الا يتبيّن جمعهم في العدّة و العدد فيصير ذلك سببا لجرأة الكفّار عليهم.

و بالجملة، ثمّ عاد سبحانه إلى بيان تعظيم شأن القسم الأوّل و الثاني و هذا التكرار لبيان علوّ درجتهم و شرفهم بقوله: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا] و هم القسم الثاني، فأثنى على القسمين بقوله: [أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا] فعند الحصر بقوله «هم» و المبالغة بقوله: حقّا [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ] و تنكير المغفرة يدلّ على الكمال أي لهم مغفرة كاملة عن الذنوب [وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ قيل: المراد طعام الجنّة لأنّه لا يستحيل

ص: 108

طعام الجنّة بسوء و اختلفوا في أنّ الهجرة هل حكمها باقية أم لا؟ قيل: لا لأنّه صلى اللّه عليه و آله قال:

لا هجرة بعد الفتح و قيل: إنّ هجرة الأعراب إلى الأمصار ليحصل الدين باقية إلى يوم القيامة و الأقوى البقاء لأنّ من أسلم في دار الحرب أو دار الكفر، ثمّ هاجر إلى بلاد الإسلام كان مهاجرا أو أنّ البلدة كانت جماعتها مسلمة ثمّ ارتدّت بسبب فالمؤمن الّذي لم يرتدّ فيها إذا هجر عنها إلى بلد آخر مسلمة فقد كان مهاجرا.

قوله: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ] إيمانكم [وَ هاجَرُوا] بعد هجرتكم [وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ أيّها المؤمنون [فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي مؤمنين من جملتكم في وجوب موارثتهم و موالاتهم و إن تأخّر إيمانهم و هجرتهم و ذو أرحامهم و قرابتهم أحقّ بميراثهم من غيرهم، قيل: إنّ هذه الآية أبطلت التوارث بالمؤاخاة و كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله آخى بين المهاجرين و الأنصار قوله:

[فِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح أو حكم اللّه و قيل: في القرآن. [إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و يعلم مصالحكم.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 109

سورة البراءة

اشارة

مدنيّة كلّها و قيل: سوى آيتين: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» و آية بعدها.

هذه السورة لها أسامي: الاولى براءة، سمّيت بذلك لأنّ هذه الكلمة مفتحها التوبة لكثرة لفظ التوبة فيها. «الفاضحة» لأنّها فضحت المنافقين. «المبعثرة» لأنّها تبحث عن أسرار المنافقين. «المقشقشة» و أيضا يقال لسورتي قل يا أيّها الكافرون و قل هو اللّه: المقشقشتان لأنّهما تبرء من آمن بها من الشرك و النفاق يقال: تقشقش المريض إذا برى ء من علّته «البحوث» تبحث عن عقائدهم. «المدمدمة» أي المهللة الحافرة لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ما كانوا يسرّونه. «المثيرة» لأنّها أثارت قبائحهم «العذاب» لأنّها نزلت بعذاب الكفّار. «المخزية» تخزي الكفار. «المنكّله» بورود النكال عليهم.

و في سبب ترك التسمية في أوّلها قراءة و كتابة أقوال: أحدها أنّها ضمّت إلى الأنفال بالمقاربة فصارتا كسورة واحدة إذ الاولى في ذكر العهود و الثانية في رفع العهود.

و الثاني أنّه لم ينزّل باسم اللّه في أوّلها؛ لأنّ بسم اللّه للأمان و الرحمة و نزلت براءة لرفع الأمان بالسيف، عن عليّ عليه السّلام و غيره و ذكروا وجوها أخر لا حاجة إلى الإطالة.

ص: 110

[سورة التوبة (9): الآيات 1 الى 2]

بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)

[بَراءَةٌ] واصلة [مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ براءة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه الآيات براءة. أو مبتدأ و خبره الظرف و جاء المبتدأ نكرة لأنّها موصوفة.

«إلى الّذين» أي انقطاع للعصمة. و رفع للأمان و خروج من العهود إلى الّذين عاهدتم من المشركين و الخطاب للنبيّ و المسلمين و حاصل المعنى: تبرّؤوا ممّن كان بينكم و بين المشركين عهد و لمّا ختم اللّه الأنفال بإيجاب البراءة لكلّ من آمن افتتح بهذه السورة بأنّه و رسوله بريئان منهم.

فإن قيل: كيف يجوز نقض العهد؟ بلى يجوز بثلاث أوجه: إمّا أن يكون العهد مشروطا بالبقاء إلى أن يرفعه اللّه بوحي و قد حصل، و إمّا أن يكون قد ظهر من المشركين خيانة و نقض، و إمّا أن يكون العهد مؤجّلا إلى مدّة فتنقضي و قد شرط النبيّ عليهم هذا الأمر و المشركون نقضوا العهد و قصدوا التطاول و قيل: إنّ المشركين نقضوا العهد إلّا أناسا منهم و هم بنو ضمرة و بنو كنانة فأمر اللّه نبيّه أن ينبذ إليهم عهدهم.

و المقصود من إظهار هذه البراءة للمشركين أن يعرفوا أنّه صلى اللّه عليه و آله معهم على عزم القتال و الحرب حتّى لا يجرى مجرى الغدر و خلف القول، كما أنّه وقع منهم الخلف في العهد؛ و لهذا المعنى قال سبحانه: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ».

قوله تعالى: [فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي سيروا على وجه المهل و تصرّفوا في أموركم آمنين من السيف [أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ] فإذا انقضت المدة و لم تسلموا انقطعت العصمة عن دمائكم و أموالكم [وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ و غير فائتين عن قدرة اللّه و أنتم في سلطانه و ملكه [وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ و مذلّهم و مخزيهم.

قيل: ابتداء هذه الاربعة يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و قيل: من شوّال إلى آخر المحرّم، و أجمع المفسرون أنّه لما نزلت دفعها النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى أبي بكر ثمّ استردّها و دفعها إلى عليّ بأمر من اللّه و سبب تفضيل عليّ قيل: إنّه صلى اللّه عليه و آله بعث أبا بكر و أمره أن يقرأ عشر آيات من أوّل السورة و أن ينبذ إلى كل ذي عهد عهده ثم بعث خلفه عليّا ليأخذها و يقرأها على الناس، و ذلك لأنّ جبرئيل نزل عليه

ص: 111

و قال: لا يحملها إلّا أنت أو رجل من أهل بيتك فخرج عليّ على ناقة رسول اللّه العضباء حتّى أدرك أبا بكر بذي الحليفة؛ فأخذها عنه فرجع أبو بكر، و قال: هل نزل فيّ شي ء فقال صلى اللّه عليه و آله: لا و لكن لا يؤدّي إلّا أنا أو رجل منّي، عن عروة بن الزبير و أبي سعيد الخدريّ و أبي هريرة.

و روى الشعبيّ عن محرز بن أبي هريرة قال: كنت انادي مع عليّ عليه السّلام حين أذن المشركين فكان إذا صحل صوته فيما ينادي دعوت مكانه و كان عليّ عليه السّلام يقول: لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك و لا يدخل البيت إلّا مؤمن و من كانت بينه و بين رسول اللّه مدّة فإنّ أجله إلى أربعة أشهر.

و روى عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: خطب عليّ عليه السّلام للناس و اخترط سيفه فقال: لا يطوفنّ بالبيت عريان و لا يحجّنّ البيت مشرك و من كانت له مدّة فهو إلى مدّته و من لم يكن له مدّة فمدّته أربعة أشهر.

و روي أنّه عليه السّلام لما نادى فيهم «أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ» قال المشركون:

نحن نتبرّأ من عهدك و عهد ابن عمّك.

[سورة التوبة (9): الآيات 3 الى 4]

وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

«الأذان» الإعلام و أصله النداء الّذي أوقعه المنادي في الإذن فحينئذ الأذان اسم يقوم مقام الإيذان و هو المصدر و منه أذان الصلاة أي إعلام من اللّه و رسوله صادر إلى الناس المؤمن و المشرك، و فيه معنى الأمر أي يجب إعلام المشركين في يوم الحجّ الأكبر، و فيه اختلاف قيل: عرفة. و قيل: الحجّ الأكبر الّذي فيه الوقوف و الحجّ الأصغر الّذي ليس فيه وقوف و هو العمرة. و قيل: الحجّ الأكبر يوم النحر و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه، و قيل:

جميع أيّام الحجّ، أو لأنّ في ذلك اليوم حجّ المشرك و المسلم و لم يحجّ بعدها مشرك،

ص: 112

و الإعلام بانّ اللّه بري ء من عهد المشركين و حذف المضاف و رسوله بري ء منه.

فلو قيل: لا فرق بين قوله: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» و بين قوله: «أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ» فما الفائدة في هذا التكرار؟

فالجواب أنّ المقصود من الكلام الأوّل إخبار ثبوت البراءة، و من الثاني الأمر بإعلام الناس هذا المعنى. أو البراءة الاولى براءة العهد و البراءة الثانية براءة الّتي هي نقيض الموالات لأنّ في الاولى بدل براءة العهد و في الثانية بدل البراءة من نوعهم أعمّ من أن يكونوا بصفة العهد بل مطلقا يجب ترك الموالات.

قوله: [فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في هذه المدّة و رجعتم عن الشرك إلى توحيد اللّه فاستدركم الخير من اللّه و تنجون عن عذاب اللّه. و إن بقيتم على الشرك فاعلموا أنّكم لا تعجزونه عن تعذيبكم، و هذا الإمهال ليس من العجز بل هو لإتمام الحجّة. و أوعدهم بعذاب الآخره بقوله: [بشرهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ و لفظ البشارة للتهكّم و ورد على سبيل الاستهزاء كما يقال:

إكرامهم الشتم و تحيّتهم الضرب [إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ و هم قوم من بني كنانة و بني ضمرة كما ذكرنا سابقا؛ فإنّهم لم ينقصوا و كان بقي من أجلهم تسعة أشهر أمر اللّه بإتمامها لهم و أوفى لهم الرسول، فإنّهم لم يضرّوكم شيئا، و لم يعاونوا عليكم أيّها المؤمنون أحدا من أعدائكم [فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى انقضاء مدّتهم الّتي وقعت المعاهدة [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ لنقض العهود.

[سورة التوبة (9): آية 5]

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

يقال: سلخت الشهر إذا خرجت منه و أهللت الشهر إذا دخلت فيه قال الشاعر:

إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قائلا سلخي الشهور و إهلالي

و السلخ اسم لانفصال الشي ء عن مكانه المعيّن فلذلك إذا تمّ الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به و دخل في شهر آخر.

و بالجملة فإذا تمّت الأشهر المحرّمة الأربعة أذن في أربعة أشياء: أوّلها فاقتلوهم

ص: 113

على الإطلاق في أيّ زمان و أيّ مكان و في الأشهر الحرم اختلاف قيل: ذو القعدة و ذو الحجّة و محرّم و رجب و قيل: هي الأشهر الأربعة الّتي جعل اللّه للمشركين مهلة بقوله: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ» و هي من يوم العاشر من ذي الحجّة إلى يوم العاشر من ربيع الآخر.

و بالجملة أوّلها القتل في أيّ زمان و مكان في الحلّ و الحرم. الثاني و خذوهم بالأسر. و الثالث: و احصروهم أي امنعوهم و احبسوهم و أحيطوا بهم أن تحصنوا. و الرابع [وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ] و طريق لهم إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة.

ثمّ قال سبحانه: [فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ و دعوهم يتصرّفون في بلاد المسلمين لهم ما للمسلمين و عليهم ما على المسلمين و قيل: معناه دعوهم يحجّوا إلى البيت معكم [ف إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و استدلّوا بهذه الآية على أنّ من ترك الصلاة متعمّدا يجب قتله لأنّ اللّه أوجب الامتناع من قتل المشركين بشرط أن يتوبوا و يقيموا الصلاة فإذا لم يقيموها وجب قتلهم فلو قيل: فالحكم في الزكاة كذلك و لا يحكم لتبارك الزكاة بالقتل فأجابوا أنّ تارك الزكاة دخله التخصيص و في الصلاة ليس كذلك.

و بالجملة وسّع اللّه عليهم بهذه الأمور الثلاثة، و التوبة إحدى امور الثلاثة و التوبة عبارة عن تطهير القوّة النظريّة عن الضلالة و الجهل، و الصلاة و الزكاة عبارة عن تطهير القوّة العمليّة و اشغالها بهاتين العملين.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 6]

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)

المعنى: و إن طلب أحد من المشركين الّذين أمرتك بقتلهم الأمان من القتل بعد الأشهر الأربعة ليسمع دعوتك و احتجاجك عليه بالقرآن فأمنه و أجره و بيّن له ما تريد حتّى يسمع كلام اللّه. و إنّما خصّ كلام اللّه لأنّ معظم الدلالة فيه، ثمّ أبلغه مأمنه و بلده الّذي خرج منه فإن دخل في الإسلام فنعم و إن لم يدخل في الإسلام فلا تقتله فتكون قد غدرت به و لكن واصله إلى ديار قومه. و ذلك الأمان لأجل أنّهم لا يعلمون الإيمان و الدلائل فآمنهم لعلّ يتدبّروا و يعلموا. و كلمة «أحد» مرفوع بفعل مقدّر تقديره: و إن استجارك أحد و لا يجوز الرفع بالابتداء؛ لأنّ «إن» من عوامل الفعل و لا يدخل على الاسم

ص: 114

قال الزجّاج: معنى الآية: إن طلب منك أحد من المشركين إن تجيره من القتل أن يسمع كلام اللّه و بيّناته فأجره.

[سورة التوبة (9): الآيات 7 الى 8]

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)

لمّا أمر اللّه نبذ العهد إلى المشركين بيّن أنّ العلّة ما ظهر منهم من الغدر و النكث فقال في هذه الآية على سبيل التعجّب أو الجحد: [كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ] صحيح من اللّه و رسوله و الحالة أنّهم نكثوا فحينئذ كيف يجوز أن يأمر اللّه نبيّه عن كفّ القتال عنهم؟ [إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم [عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فإنّ لهم عهدا عند اللّه فإنّهم لم يضمروا الغدر بك قيل: هم بنو كنانة و بنو ضمرة، و قيل: هم أهل مكّة الّذين عاهدهم رسول اللّه يوم الحديبية فلم يستقيموا و نقضوا العهد بأن أعانوا بني بكر على خزاعة فضرب لهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعد الفتح أربعة أشهر يختارون أمرهم إمّا أن يسلموا، و إمّا أن يلحقوا بأيّ بلاد شاؤوا فأسلموا قبل الأربعة و قيل: هم من قبائل بكر بنو خزيمة و بنو مدلج و بنو ضمرة و بنو الدئل و هم الّذين دخلوا عهد قريش يوم الحديبية إلى المدّة الّتي كانت بين رسول اللّه و بين قريش، فلم يكن نقضها إلّا قريش فأمر النبيّ بإتمام العهد لمن لم يكن له نقض عهد و هذا القول أقرب للصواب؛ لأنّ هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد و بعد فتح مكّة.

قوله: [فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ أي ماداموا باقين على العهد فكونوا معهم مستقيمين [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ للنكث و الغدر.

قوله: [كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً] هاهنا حذف أي كيف يكون لهم عهد؟ و كيف لا تقتلونهم و هم إن يظفروا بكم لا يراعون فيكم عهدا و لا قرابة؟

«الإلّ» قيل: اليمين، و قيل: العهد، و قيل: القرابة، و قيل: «الإلّ» من أسماء اللّه و «الذمّة» كلّ أمر لزمك بحيث لو ضيّعته لزمتك مذمّة و منقصة.

قوله: [يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ و بألسنتهم كلاما حلوا طيّبا و الّذي في قلوبهم بالعكس و لا يضمرون إلّا الشرّ و الإيذاء إن قدروا عليه [وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فلو قيل: إنّ الكفّار

ص: 115

كلّهم فاسقون فما معنى أكثرهم؟ لأنّ الكافر قد يكون عدلا في دينه و قد يكون خبيث النفس في دينه؛ فالمراد أنّ هؤلاء فاسقون في كفرهم و دينهم.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 9]

اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9)

أصل الاشتراء استبدال المتاع بالثمن، و نقيضه بيع الثمن بالمتاع.

المعنى: أعرضوا عن دين اللّه و منعوا الناس عن دين الحقّ بشي ء يسير نالوه، و هذه الآية نزلت في قوم من العرب، جمعهم أبو سفيان على طعامه ليستميلهم على عداوة النبيّ صلى اللّه عليه و آله، و لمّا أكلوا الاكلة تركوا الحلف و العهد و نقضوا عهد النبيّ صلى اللّه عليه و آله بسبب تلك الاكلة و ربّ اكلة أفسدت الدين و الدنيا فبئس العمل عملهم.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 10]

لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)

تأكيد لقباحة نقض عهدهم بانّهم لا يحفظون عهود المؤمنين و أولئك المتعدّون عن حدود اللّه. و التكرار للتأكيد و التعجّب من قباحة فعلهم، و قيل: المراد اليهود و لو كان المراد اليهود لم يكن تكرار لكنّ الكلام أجنبيّ لأنّه لم يكن ذكر اليهود في الآيتين، و اللّه أعلم.

[سورة التوبة (9): الآيات 11 الى 12]

فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

المعنى: فإن تابوا و ندموا من الشرك و عزموا على ترك العود إليه و قبلوا الإسلام و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أدّ و هما فعاملوهم معاملة إخوانكم من المؤمنين. و نبيّن الآيات و الأحكام للّذين يتطلّبون بيانه دون الجهّال الّذين لا يتفكّرون. و إن نقضوا عهودهم من بعد إن عقدوا العهد و عابوا و طعنوا في دينكم و ما قبلوه فقاتلوا رؤساء الضلال و الكفر. و خصّهم بالذكر لأنّهم يضلّون اتباعهم لا أنّهم مخصوصون بالقتل دون المرؤوسين بل الرئيس و المرؤوس في حكم واحد.

و قرأ عليّ عليه السّلام هذه الآية يوم البصرة ثمّ قال: أما و اللّه لقد عهد إليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قال: يا عليّ لتقاتلنّ الفئة الناكثة و الفئة الباغية و الفئة المارقة.

[إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ و قرئ بكسر الهمزة [لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ عن الكفر قيل: معناه

ص: 116

قاتلوهم و ليكن قصدكم بالقتال انتهاؤهم عن الكفر و الشرك.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 13]

أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)

لمّا أمر اللّه بقتال أئمّة الضلال أتبعه بذكر السبب. «الهمزة» للاستفهام و المراد التحضيض و الإيجاب أي هلّا تقاتلونهم؟ فذكر ثلاثة أسباب كلّ واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بالجمع؟ أحدها: نكث العهد؟ قيل: هم اليهود الّذين نقضوا العهد و خرجوا مع الأحزاب. الثاني: همّوا بإخراج الرسول من المدينة، و قيل: المراد مشركو قريش، و قيل: المراد من الإخراج إخراجه من مكّة حين هاجر، و ثالثها: و هم بدءوكم أوّل مرّة بالقتال يوم بدر و البادي أظلم، و قيل: بدءوكم بقتال حلفاء النبيّ من بني خزاعة و تخافون أن ينالكم من قتالكم مكروه [فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و هذا الكلام جمع بين التقريع و التشجيع.

[سورة التوبة (9): الآيات 14 الى 15]

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

أكّد الأمر بالقتال و بشّرهم بالنصر و الظفر عليهم. يعذّبهم اللّه قتلا و أسرا و يعينكم أيّها المؤمنون عليهم [وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ الّذين هم حلفاء رسول اللّه كبني خزاعة فإنّ بني خزاعة أسلموا فأعانت قريش بني بكر عليهم فشفى اللّه صدورهم من بني بكر [وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ بتشفّي درك الثار لأنّه من المعلوم أنّ من طال تأذّيه من خصمه ثمّ مكّنه اللّه منه فإنّه يعظم سروره [وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ] أي يقبل توبة من تاب منهم.

و وجه النظم في اتّصال قوله: «وَ يَتُوبُ اللَّهُ» بما قبله بشارة بأنّه ليس في قتالهم اقتطاع لأحد منهم عن التوبة [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأفعالهم و [حَكِيمٌ في تدبيره.

[سورة التوبة (9): آية 16]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)

أ ظننتم أن تتركوا أن تكلّفوا الجهاد دون الإخلاص ليس الأمر كذلك بل لا بدّ أن تجاهدوا و يكون غرضكم الإخلاص؛ و ليس المراد القتال فقط بل القتال و الانقياد و الخلوص لأمر اللّه و لا يتخلّص من هذا التكليف إلّا أن يعلم اللّه الّذين جاهدوا حقيقة و خالصا.

ص: 117

و ذكر العلم و أراد وقوع المعلوم.

قوله: [وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً] و وسيلة و المقصود من هذا الشرط أنّ المجاهد قد يجاهد و لا يكون جهاده خالصا بل باطنه غير ظاهره و هو الّذي يتّخذ الوليجة من دون اللّه. و «الوليجة» الدخيلة في القوم و ليس منهم. و ينافقون مع المؤمنين و يفشون إلى الكفّار أسرار المؤمنين و اللّه خبير بأعمالكم فيجازيكم عليها.

[سورة التوبة (9): الآيات 17 الى 18]

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

و لمّا أمر اللّه بقتال المشركين و قطع الموالات عنهم أمر بمنعهم عن المساجد، فقال:

لا ينبغي للمشركين أن يكونوا قوّاما على عمارة مساجد اللّه و متولّين لأمر اللّه، و ينبغي أن يكون يتولّاها المسلمون قيل: هي عامّة، و قيل: المسجد الحرام خاصّة. في حال شهادتهم على أنفسهم بالكفر بمعنى أنّه يسأل النصرانيّ من أنت: فيقول: أنا نصرانيّ، و اليهوديّ يقول: أنا يهوديّ إذا سئل عنه و كذا المجوسيّ؛ فهذه شهادتهم على أنفسهم بالكفر، و ليس المعنى بأن يقول: أنا كافر؛ فإنّ الكافر لا يعترف بكونه كافرا.

و اختلف في عمارة المسجد قيل: دخوله و خروجه و يتردّد إليه؛ لأنّ المسجد عمارته بطاعة اللّه فيه و قيل: باستصلاحه و رمّ ما استرمّ منه بالبناء و مثله. و قيل: في قوله:

[شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ] معناه قولهم في التلبية: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك، و قيل: شهادتهم سجودهم لأصنامهم مع إقرارهم بأنّها مخلوقة [أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الّتي من جنس الطاعة و مقيمون و مؤبّدون في النار، و المراد من الحبط أنّه إن كان قد صدر منهم عمل من الأعمال البرّ مثل إكرام الوالدين و بناء الرباطات و إطعام الجائع فذلك باطل لأنّ عقاب كفرهم لا يدفعه مثل هذه الأمور.

[إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ أي المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون يعرف مسجوده و يقرّ بوحدانيّته و اليوم الآخر و يكون موقنا بالمعاد، و يقوم بالصلاة و آدابها و يعطي الزكاة إن وجبت عليه و لم يخف سوى اللّه [فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي من جمع هذه الأمور قريب من الهداية و الجنّة لأنّها اصول الدين.

ص: 118

فان قيل: كيف قال: [وَ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ و المؤمن قد يخاف من المفسد و الظالم؟

المراد من هذه الخشية الخوف و التقوى في الدين و أن لا يختار على رضى اللّه رضا غيره و إلّا فالإنسان قد يخاف من المؤذيات كالحيّة.

و في الآية إشعار على أنّ المسجد يجب صونه عن غير العبادة؛ فيدخل فيه فضول الدنيا و فضول الكلام؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: يأتي في آخر الزمان أناس من امّتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا و حبّها، لا تجالسوهم فليس للّه بهم حاجة. و في الحديث: الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش. و في حديث آخر قال اللّه: إنّ بيوتي في الأرض المساجد و إنّ زوّاري فيها عمّارها؛ طوبى لعبد تطهّر في بيته، ثمّ زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره. و عنه صلى اللّه عليه و آله: من ألف المسجد ألفه اللّه و عنه صلى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان. و عنه صلى اللّه عليه و آله: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة و حملة العرش يستغفرون له مادام في المسجد ضوؤه، و هذه الحديث نقلها الزمخشريّ في الكشّاف.

[سورة التوبة (9): آية 19]

أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)

في النزول قال ابن عبّاس في بعض الروايات: إنّ عليّا لمّا أغلظ الكلام على عبّاس قال العبّاس: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام و الهجرة و الجهاد فلقد كنّا نعمر مسجد الحرام و نسقي الحاجّ فنزلت الآية. و قيل: إنّ المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحاجّ و عمّار البيت فنحن أفضل أم محمّد و أصحابه؟ فقالت اليهود: أنتم أفضل. و قيل: افتخر طلحة بن شيبة و العبّاس و عليّ قال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه و لو أردت بتّ فيه. قال العبّاس:

أنا صاحب السقاية و القائم عليها. قال عليّ: أنا صاحب الجهاد.

و عن أبي بريدة قال: بينا شيبة و العبّاس يتفاخران إذ مرّ عليّ عليه السّلام فقال: بما ذا تفتخران؟ قال العبّاس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد: سقاية الحاجّ. قال شيبة: أوتيت عمارة المسجد؛ فقال عليّ: أوتيت على صغري ما لم تؤتيا فقالا: و ما أوتيت؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتّى آمنتما. فقام العبّاس مغضبا يجرّ ذيله حتّى دخل على النبيّ

ص: 119

صلى اللّه عليه و آله، و قال: أما ترى ما يستقبلني عليّ- عليه السّلام-؟ فقال صلى اللّه عليه و آله: ادعو الي عليّا، و قال له: ما حملك على ما استقبلت عمّك؟ قال: على صدمته بالحقّ؛ فنزلت الآية.

«و السقاية «و» العمارة» مصدران من سقي و عمر كالصيانة و الوقاية، و معلوم أنّ السقاية و العمارة فعل، و قوله: «من آمن» إشارة إلى الفاعل و تشبيه الصفة بالذات و الفعل بالفاعل غير صحيح، و لا بدّ من محذوف في الكلام، و تقديره: أ جعلتم أهل سقاية الحاجّ، التقدير:

أ جعلتم سقاية الحاجّ كإيمان من آمن باللّه. و كانت السقاية نبيذ الزبيب و كانوا يسقون الحاجّ الشراب و الماء!

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 20 الى 22]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

لمّا ذكر في الآية السابقة ترجيح الإيمان و الجهاد على السقاية و العمارة بالتلويح بيّن في هذه الآية بالتصريح أنّ من كان موصوفا بهذه الصفات أعظم درجة عند اللّه لأنّ الإنسان ليس له إلّا مجموع امور ثلاثة: الروح و البدن و المال: أمّا الروح لمّا زال عنه الكفر و حصل له الإيمان فقد حصل له غاية السعادة و أمّا المال و البدن فبسبب الجهاد و الهجرة وقعا في النقصان و لمّا رضي بإهدار النفس و المال لطلب مرضاة اللّه فمثل هذا الإنسان وصل إلى آخر درجة الإنسانيّة و أوّل درجة الملائكة؛ فأين السقاية مع هذه الدرجة؟ أين الثرى و الثريّا؟

قوله [عِنْدَ اللَّهِ المراد الاستغراق في المكانة و العبوديّة لا العنديّة بحسب الجهة.

و حصر الفوز لهم بقوله: [أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ لأنّ من آمن باللّه و عرفه قلّ أن يبقى ملتفتا إلى الدنيا الفانية و يسعى بالتفريق بين النفس و بين لذّات الدنيا؛ فإنّها شواغل و يستحقر الدنيا فيوجب على نفسه تركها فيعرف ما يضرّه و ما ينفعه، و يتمّ عرفانه كما قيل:

المعرفة مبتدأ من تفريق و نقص و ترك و رفض؛ فلمّا بذل النفس و المال بجزئيّته أقبل اللّه عليه بكلّيّته، و ذلك قوله: [يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ* خالِدِينَ فِيها أَبَداً] مؤبّدا و يستحق الأجر العظيم من عنده تعالى.

[سورة التوبة (9): آية 23]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)

ص: 120

لمّا أمر اللّه المؤمنين بالهجرة و أرادوا الهجرة، فمنهم من تعلّق به أبواه و أولاده و إخوانه و زوجته فكانوا يمنعونه عن الهجرة فيتركون الهجرة لأجلهم، فبيّن سبحانه أنّ أمر الدين مقدّم على النسب إذا قطع قرابة الأبوين فالأجنبيّ أولى إن استحبّوا الكفر و آثروه على الإيمان. قال الحسن البصريّ: من تولّى المشرك فهو مشرك و هذا إذا كان راضيا بشركه.

[وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي من يتولّى من المؤمنين المشركين [فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ على نفوسهم و وضعوا الموالات في غير موضعها.

[سورة التوبة (9): آية 24]

قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)

بيان الآية أنّ جماعة من المسلمين قالوا: يا رسول اللّه كيف يمكن البراءة منهم بالكلّيّة و هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا و إخواننا و عشيرتنا و ذهاب تجارتنا و هلاك أموالنا؟ فأجابهم اللّه أنّه يجب تحمّل هذه المضارّ الدنيويّة للدين فإن كانت رعاية هذه الأمور عندكم أولى من طاعة اللّه و رسوله و من المجاهدة في سبيله فانتظروا حتّى يأتي اللّه بأمره أي بعقوبة عاجلة أو آجلة أو فتح مكّة و اللّه لا يهدي القوم الخارجين عن الدين.

و هذه الآية تدلّ على أنّه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين و بين جميع مهمّات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 25 الى 26]

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26)

لمّا فتح النبيّ صلى اللّه عليه و آله مكّة و قد بقيت من شهر رمضان خرج متوجّها إلى قتال هوازن و ثقيف لحنين، و هو اسم واد بين مكّة و طائف و اختلفوا في عسكر النبيّ قال ابن عبّاس:

كانوا ستّة عشر ألفا، و قال قتادة: اثني عشر ألفا، و قال الكلبيّ: عشرة آلاف و عدد عسكر

ص: 121

المخالف أربعة آلاف، فلمّا التقوا، قال رجل من المسلمين اسمه سلمة: لن نغلب القوم عن قلّة؛ فهذه الكلمة ساءت رسول اللّه. و قيل: قالها أبو بكر.

قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة، و في المثل: قد أنصف القارة من راماها قال البراء: لمّا حملنا انكشفوا و أكببنا على الغنائم فرجعوا و استقبلونا بالسهام و انكشف المسلمون عن رسول اللّه و لم يبق معه صلى اللّه عليه و آله إلّا العبّاس بن عبد المطّلب و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، و العبّاس أخذ بلجام بغلته و أبو سفيان بركابه، قال البراء: ما ولّى رسول اللّه دبره قطّ و هو يقول: أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب، و طفق يركض بغلته الشهباء نحو الكفّار لا يبالي و عليّ عليه السّلام في المعركة مع نفر قليل يحارب ثمّ قال النبيّ للعبّاس:

ناد المهاجرين و الأنصار و كان العبّاس رجلا صيّتا فجعل ينادي: يا عباد اللّه يا أصحاب بيعة الشجرة يا أهل سورة البقرة؛ فجاء المسلمون حتّى سمعوا صوته عنقا واحدا و أخذ رسول اللّه كفّا من حصى فرماهم بها، و قال: شاهت الوجوه؛ فما زال أمر الكفار مدبرا و حدّهم كليلا حتّى هزمهم اللّه و لم يبق منهم أحد إلّا امتلأت عيناه من ذلك التراب قيل:

فذلك قوله: [ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ و السكينة ما يسكن به القلب و النفس، و يوجب الطمأنينة، و وجه الاستعارة أنّ الإنسان إذا خاف اضطرب قلبه. و إذا أمن الإنسان سكن قلبه فجعل لفظ السكينة كناية عن السكون و الأمن. و من النعمة الّتي أنعم اللّه عليهم:

قوله: [وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها] و المراد: أنزل الملائكة، قال سعيد بن جبير: أمدّ اللّه نبيّه بخمسة آلاف من الملائكة و اختلفوا في أنّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ منهم من قال: قاتلوا، و منهم من قال: ما قاتلوا بل يوم بدر قاتلوا، قال سعيد بن المسيّب: حدّثني رجل من المشركين يوم حنين قال: لمّا غلبنا على المسلمين جعلنا نسوقهم فلمّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقّانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا.

قوله: [وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و هذا الأمر الثالث من نعم اللّه لهم في ذلك اليوم و المراد من هذا التعذيب قتلهم و أسرهم و أخذ أموالهم و سبي ذراريهم. قوله: [ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) عَلى

ص: 122

مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عطف علي «أنزل» أي ثمّ يقبل اللّه توبة من تاب عن الشرك و المحاربة و رجع إلى طاعة الرسول و الإسلام، و يجوز أن يكون المراد من قبول توبة الّذين انهزموا من عسكر الرسول أو إعجابهم بالكثرة و إنّما علّق بالمشيئة؛ لأنّ القبول تفضّل منه و هذا ردّ لقول الوعيديّة حيث يقولون: قبول التوبة واجب و لو كان واجبا لما علّقه بالمشيئة.

و روي عن الصادقين عليهم السّلام أنّهم قالوا: كانت مواطن النصرة لرسول اللّه ثمانين موطنا. روي أنّ المتوكّل اشتكى شديدة فنذر أن يتصدّق بمال كثير إن شفاه اللّه فلمّا عوفي سأل العلماء عن حدّ المال الكثير فاختلف أقوالهم فأشير إليه أن يسأل أبي الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى الرضا و قد كان الإمام في حبسه في داره فأمر أن يكتب إليه فكتب عليه السّلام يتصدّق بثمانين دينارا فسألوه عن العلّة فقرأ هذه الآية و قال: عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين موطنا.

و مختصر قصّة حنين أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا فتح مكّة خرج معنا إلى حنين عن سنة ثمان من الهجرة، و قد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النضريّ، و ساقوا معهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم، و نزلوا بأرطاس و كان دريد بن صمة في القوم، و كان شيخا كبيرا مطاعا قد ذهب بصره من الكبر فقال: بأيّ واد أنتم؟ قالوا: بأرطاس قال: نعم مجال الخيل لا حزن (1) ضرس و لا سهل وهن، ما لي أسمع رغاء البعير و خوار البقر و نهيق الحمير و شقاء الشاة و بكاء الصبيان؟ فقالوا: إنّ مالك بن عوف ساق مع الناس أموالهم و أبناءهم و نساءهم ليقاتل كلّ منهم عن أهله و ماله فقال دريد: راعي ضأن و ربّ الكعبة. ثمّ قال: ائتوني بمالك فلمّا جاءه قال: يا أبا ملك إنّك أصبحت رائس قومك ردّ قومك إلى عليا بلادهم و ألق الرجال على متون الخيل فإنّه لا ينفعك إلّا رجل بسيفه و فرسه فإن كانت لك لحق بك ما وراءك و إن كانت عليك لا تكون فضحت في أهلك و عيالك فقال: له مالك إنّك قد كبرت و ذهب علمك و عقلك.

ثمّ عقد رسول اللّه اللواء الأكبر و دفعه إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و خرج بعد أن أقام بمكّة خمسة عشر يوما، و بعث إلى صفوان بن اميّة فاستعار منه مائة درع فقال:

ص: 123


1- الحزن بالفتح فالسكون: الأرض الغليظة.

صفوان: عارية أم غصب؟ فقال صلى اللّه عليه و آله: عارية مضمونة مؤدّاة؛ فأعاره و خرج صلى اللّه عليه و آله من مكّة في اثني عشر ألفا.

فبعث صلى اللّه عليه و آله رجلا من أصحابه فانتهى إلى مالك بن عوف فسمعه و هو يقول لقومه:

ليصيّر كلّ رجل منكم أهله و ماله خلف ظهره و اكسروا جفون سيوفكم و اكمنوا في شعاب هذا الوادي و في الشجر فإذا كان في الطليعة من الصبح فاحملوا حملة رجل واحد فهذّوا القوم فإنّ محمّدا لم يلق أحدا ممّن يحسن الحرب.

و لمّا صلّى النبيّ صلى اللّه عليه و آله أصحابه الغداة انحدر في وادي حنين فخرجت عليهم كتائب هوازن من كلّ ناحية فانهزمت بنو سليم و هم كانوا في المقدّمة من عسكر رسول اللّه، و كذلك انهزم ما وراءهم و خلّى اللّه بينهم و بين عدوّهم لإعجابهم بكثرتهم و بقي عليّ عليه السّلام و معه الراية يقاتلهم في نفر قليل، و مرّ المنهزمون برسول اللّه لا يلوون على شي ء، و كان العبّاس عن يمينه و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب عن يساره و نوفل بن الحارث و ربيعة بن الحارث في تسعة من بني هاشم و عاشرهم أيمن بن امّ أيمن و قتل يومئذ و في ذلك يقول العبّاس:

نصرنا رسول اللّه في الحرب تسعةو قد فرّ من قد فرّ عنه و أقشفوا

و لما رأى النّبيّ هزيمة قومه أمر العبّاس أن يصوّت كما ذكرنا سابقا؛ فلمّا سمع المسلمون صوت العبّاس قالوا: لبّيك و تبادر الأنصار خاصّة و قاتلوا المشركين حتّى قال رسول اللّه: الآن قد حمى الوطيس و نزل النصر و انهزمت هوازن هزيمة قبيحة و مزّقوا في كلّ وجه، و لم يزل المسلمون في آثارهم؛ و فرّ مالك بن عوف فدخل حصن الطائف و أغنم المسلمون أموالهم و نساءهم و أمر رسول اللّه بالذراري و الأموال أن ينحدروا إلى الجعرّانة و ولّى على الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعيّ.

و مضى صلى اللّه عليه و آله في أثر القوم فوافى الطائف في طلب مالك فحاصر أهل الطائف بقيّة شوّال، فلمّا دخل ذو القعدة انصرف إلى الجعرّانة، و قسّم غنائم حنين و كان معه من بني هوازن ستّة آلاف من النساء و الذراري، و من الإبل و الشاة ما لا يدرى عدّته.

قال أبو سعيد الخدريّ: قسّم النبيّ صلى اللّه عليه و آله للمتألّفين من قريش و من سائر العرب ما قسّم و لم يكن في الأنصار منها شي ء لا قليل و لا كثير فمشى سعد بن عبادة إلى رسول اللّه

ص: 124

أنّ هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك و في سائر العرب و لم يكن فيهم من ذلك شي ء فقال صلى اللّه عليه و آله: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: ما أنا إلّا امرء من قومي، فقال صلى اللّه عليه و آله: اجمع لي قومك في هذه الحظيرة فجمعهم؛ فخرج رسول اللّه و قام فيهم خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال:

يا معاشر الأنصار أ و لم آتيكم ضلّالا فهداكم اللّه و عائلا فأغناكم اللّه و أعداء فألّف بين قلوبكم؟ قالوا: بلى.

ثمّ قال: ألا تجيبوني يا معاشر الأنصار؟ فقالوا: و بما ذا نجيبك المنّ للّه و لرسوله؟

فقال رسول اللّه: لو شئتم لقلتم و صدقتم جئتنا طريدا فآويناك و عائلا فأغنيناك و خائفا و آمنّاك، و مخذولا فنصرناك؟ فقالوا: المنّ للّه و لرسوله.

ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله: تألّفت بها قوما ليسلموا و وكلتكم إلى ما قسّم اللّه لكم من الإسلام أفلا ترضون يا معاشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة و البعير و تذهبون برسول اللّه إلى رحالكم؟ فو الّذي نفسي بيده لو أنّ الناس سلكوا شعبا لسلكت شعب الأنصار و لو لا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار. اللّهم ارحم الأنصار و أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتّى اخضلّت لحاهم و قالوا: قد رضينا باللّه قسما، ثمّ تفرّقوا و قد أمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله مناديا ينادي يوم أرطاس: ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن، و لا غير الحبالى حتّى يستبرئن بحيضة.

ثمّ أقبلت وفود هوازن و قدمت على رسول اللّه مسلمين، فقام خطيبهم و قال: يا رسول اللّه من السبايا خالاتك و حواضنك اللاتي كنّ يكفلنك؛ فلو أنّا ناكحنا ابن أبي السمراء أو النعمان بن المنذر ثمّ أصابنا مثل الّذي أصابنا منك رجونا عائدتهما، و أنت خير المكفولين ثمّ أنشد أبياتا فقال صلى اللّه عليه و آله: أيّ الأمرين أحبّ إليكم السبيّ أو الأموال؟ قالوا: خيّرتنا بين الحبّ و بين الأموال و الحبّ أحبّ إلينا و لا نتكلّم في الشاة و البعير؛ فقال النبيّ:

أمّا الّذي لبني هاشم فهو لكم و سوف أكلّم المسلمين و أتشفّع لكم فكلّموهم و أظهروا إسلامكم، فلمّا صلّى الرسول الهاجرة قام و تكلّم فقال: قد رددت الّذي لبني هاشم و الّذي بيدي عليهم فمن أحبّ منكم أن يعطي غير مكره فليفعل و من كره أن يعطي فليأخذ

ص: 125

الفداء و عليّ فداؤهم فأعطى الناس ما في يدهم إلّا قليلا من الناس سألوا الفداء.

و أرسل رسول اللّه إلى مالك بن عوف و قال: إن جئتني مسلما رددت إليك أهلك و مالك و لك عندي مائة من الإبل، فخرج إليه من الطائف فردّ صلى اللّه عليه و آله عليه أهله و ماله و أعطاه مائة من الإبل و استعلمه على من أسلم من قومه.

[سورة التوبة (9): آية 27]

ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

و «ثمّ» عطف على «أنزل سكينته» كما أنّ «ثمّ أنزل سكينته» عطف على «ثمّ ولّيتم مدبرين» كما أنّ «ثمّ ولّيتم» عطف على قوله: «ضاقت عليكم» أي يقبل اللّه توبة من تاب عن الشرك و رحيم بهم.

[سورة التوبة (9): آية 28]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

النظم: لمّا نبذ العهد عليّ عليه السّلام بأمر الرسول قال: أناس من أهل مكّة: يا أهل مكّة ستعلمون ما تلقونه من الشدّة لانقطاع السبيل و فقد الحمولات فنزلت الآية لإزالة الخوف.

المعنى: وصف «المشركون» بالمصدر بقوله «نجس» مبالغة في النجاسة أي عين النجاسة أو هم ذو نجس لخبث كفرهم و شركهم، قال الزّمخشريّ: عن ابن عبّاس: إنّ أعناقهم نجسة كالكلاب و الخنازير [فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا] أي العام المشار إليه و هو السنة التاسعة الّذي نادى عليّ عليه السّلام بالبراءة.

و اختلفوا في أنّ المراد من المسجد الحرام هو نفس المسجد أو جميع الحرم؟ و الأقوى جميع الحرم عند العامّة و أمّا عندنا الإماميّة فجميع المساجد، و الّذين قالوا: المراد جميع الحرم قالوا: لقوله: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» (1) مع أنّه قد أجمعوا على أنّه إنّما رفع من بيت امّ هاني.

قوله: [وَ إِنْ خِفْتُمْ فقرا و حاجة بسبب انقطاع المتاجر بمنع المشركين أو أمر آخر [فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ رحمة منه و فضلا، قال قتادة: أسلم أهل نجدة و صنعاء و جرثن في اليمن و حملوا الطعام إلى مكّة على ظهور الإبل و الدوابّ و كفاهم اللّه ما كانوا يتخوّفون أو

ص: 126


1- الإسراء: 1.

المراد: بغنيكم بإباحة الغنائم و أخذ الجزية من أهل الكتاب و بالمطر و النبات و إنّما علّقه بالمشيئة لأنّ اللّه قد علم أنّ منهم من يبقى إلى وقت فتح البلاد و اقتناء الأموال من الأكاسرة فيتغنّى، و منهم من لا يبقى إلى ذلك الوقت فلذا علّقه بالمشيئة. و هو [عَلِيمٌ بالمصالح و [حَكِيمٌ في أفعاله.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 29]

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (29)

لمّا ذكر حكم المشركين من إظهار البراءة عنهم و وجوب مقاتلتهم و تبعيدهم عن المسجد الحرام في الآيات السابقة شرع في بيان حكم الكافرين من أهل الكتاب و هو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية، فحينئذ يقرّون على ما هم عليه و ذلك إذا كانوا موصوفين بصفات:

الاولى: كونهم لا يؤمنون بتوحيد اللّه.

الصفة الثانية أنّهم لا يقرّون بالبعث و الحشر كما يقرّون المسلمون من القرآن قال الرّازيّ: المنقول عن اليهود و النصارى إنكار الحشر الجسمانيّ و يميلون إلى البعث الرّوحانيّ.

الصفة الثالثة: لا يحرّمون ما حرّم اللّه و رسوله في القرآن و سنّة الرسول بل لا يعملون بما في التوراة و الإنجيل بل حرّفو هما و أتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم. و تحريف نعت محمّد في كتابهم و كتمان أمر نبوّته صلى اللّه عليه و آله.

الصفة الرابعة أنّهم لا يدينون دين الحقّ أي دين اللّه و دين الحقّ عند اللّه الإسلام و المقصود تميز هؤلاء اليهود و النصارى حكمهم عن حكم المشركين لأنّ الواجب في المشركين الإسلام أو القتال و الواجب في الموصوفين القتال أو الإسلام أو الجزية، و هذا حكمهم دون المشركون «و الجزية» مشتقّ من جزى دينه أي قضاه أو لأنّهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل.

قوله: [عَنْ يَدٍ] أي حال الإعطاء يكون المعطي منقادا طائعا مستصغرا بيدهم لا بيد

ص: 127

غيرهم بأن يكونوا حال الإعطاء أذلّاء ماشيا غير راكب و يسلّمها و هو قائم و يتسلّمها الآخذ و هو قاعد و يؤخذ بتلبيبه و لحيته و يقال له: أدّ الجزية و إن كان يؤدّيها و يرجّ في قفاه.

و المجوس حكمهم حكم أهل الكتاب في إعطاء الجزية لقوله: صلى اللّه عليه و آله سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب. قال عليّ عليه السّلام: إنّه كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا و قد اسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم. لكن اتّفقوا على تحريم ذبائحهم و مناكحهم لقوله صلى اللّه عليه و آله: في آخر ما نقل من الحديث: غير ناكحي نسائهم و آكلي ذبائحهم.

و في الكافي عن الصادق أنّه سئل عن المجوس أ كان لهم نبيّ؟ فقال: نعم، أما بلغك كتاب رسول اللّه إلى أهل مكّة أن أسلموا و إلّا فأذنوا بحرب من اللّه. فكتبوا إلى رسول اللّه أن نعم خذ منّا الجزية و دعنا على عبادة الأصنام فكتب إليهم: أنّي لست آخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب فكتبوا إليه- يريدون بذلك تكذيبه-: زعمت أنّك لا تأخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب، ثمّ أخذت من مجوس هجر؟ فكتب إليهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّ المجوس كان لهم نبيّ فقتلوه و كتاب فاحترقوه أتاهم نبيّهم بكتابها في اثني عشر ألف جلد نور.

في الفقيه و التهذيب و العلل عنه عليه السّلام أنّه سئل عن النساء كيف سقطت الجزية عنهنّ؟ فقال: لأنّ رسول اللّه نهى عن قتال النساء و الولدان في دار الحرب إلّا أن تقاتل و إن قاتلت فأمسك عنها ما أمكنك فلمّا نهى عن قتلهنّ في دار الحرب كان ذلك في دار الإسلام أولى؛ إلى آخر الحديث.

و في الكافي و الفقيه عنه عليه السّلام: جرت السنّة أنّه لا يؤخذ الجزية من المعتوه و لا من المغلوب على عقله، و مقدار الجزية و حدّها سئل عنه عليه السّلام فقال: ذلك إلى الإمام يأخذ منهم ما شاء على قدر ماله ما يطيق و يؤخذ منهم على قدر ما يطيقون، و إنّما قيّد بالاستصغار ليتألّم بالاستصغار فيسلم.

و قال أنس بن مالك: قسّم رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- على كلّ بالغ دينارا و قسّم عمر على فقراء أهل الذمّة اثني عشر درهما و على الأوساط أربعة و عشرين درهما و على الأغنياء أربعة دنانير في السنة. و هذا الإمهال لأجل أن يقف على محاسن الإسلام و يرى ذلّة الاستصغار بالكفر

ص: 128

فينتقل منه إلى دار الإسلام.

[سورة التوبة (9): آية 30]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ اليهود و النصارى بأنّهم لا يؤمنون باللّه شرح في هذه الآية بيان كفرهم بأنّهم أثبتوا للّه ابنا و من جوّز ذلك في حقّ الإله فهو في الحقيقة أنكر الإله و هو داخل في الشرك مع المشركين، و لا فرق بين من يعبد الصنم و من يعبد المسيح و غيره لأنّه لا معنى للشرك إلّا أن يتّخذ الإنسان مع اللّه معبودا بل إنّ كفر عابد الوثن أخفّ من كفر النصارى؛ لأنّ عابد الوثن لا يقول: إن هذا الوثن خالق العالم و اله العالم بل يتوسّل به إلى طاعة اللّه.

و أمّا النصارى فإنّهم يثبتون الحلول و الاتّحاد و ذلك كفر قبيح جدّا. و إنّما خصّهم بقبول الجزية لأنّهم نسبوا أنفسهم إلى الكتابين و نسبوا أنفسهم بهذين الرسولين الجليلين فلأجل نسبتهم و رجاء رجوع البعض في مدّة الجزية حكم اللّه لهم هذا الأمر.

[وَ قالَتِ الْيَهُودُ] قال ابن عبّاس في رواية سعيد بن جبير و عكرمة: أتى جماعة من اليهود إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و هم سلام بن مشكم و النعمان بن أوفى و مالك بن الصيف و غيرهم قالوا: كيف نتّبعك و قد تركت قبلتنا، و لا تزعم أنّ عزيرا ابن اللّه؟ فنزلت هذه الآية.

و قيل: قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا و تبعه آخرون.

و الصحيح أنّه كان هذا المذهب فاشيا فيهم، ثمّ لعلّ انقطع فحكى اللّه عنهم و لا عبرة بإنكار اليهود ذلك لأنّ حكاية اللّه عنهم أصدق.

و السبب الّذي لأجله قالوا هذا القول ما رواه ابن عبّاس أنّ اليهود أضاعوا التوراة و عملوا بغير الحقّ فأنساهم اللّه التوراة و نسخها عن صدورهم أو أنّ بخت نصّر أحرق التوراة فتضرّع عزير إلى اللّه فنزله جبرئيل فعاد حفظ التوراة إلى قلبه، فأنذر قومه فلمّا وجدوه صادقا فيه قالوا: ما تيسّر لعزير إلّا أنّه ابن اللّه. قال السدّيّ: قتل العمالقة علماءهم فلم يبق أحد يعرف التوراة. و قيل: فقدت نسخ التوراة غير نسخة واحدة كانت مدفونة في البيت المقدّس أخرجها عزير.

ص: 129

قوله: [وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ السبب فيه أنّه وقع حرب بين أتباع عيسى و اليهود و كان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جمعا كثيرا من أصحاب عيسى ثمّ قال: إن كان الحقّ مع عيسى فقد كفرنا و النار مصيرنا و نحن مغبونون إن دخلوا الجنّة و دخلنا النار و إنّي أحتال فاضلّهم فعرقب فرسه و أظهر الندامة ممّا كان يصنع و وضع التراب على رأسه و قال: نوديت من السماء يا بولس ليس لك توبة إلّا أن تتنصّر و قد تبت و تنصّرت فأدخله النصارى في الكنيسة و مكث سنة لا يخرج و تعلّم الإنجيل فصدّقوه و أحبّوه غاية.

ثمّ مضى إلى بيت المقدس و استخلف عليهم في الكنيسة رجلا اسمه نسطور و علّمه أنّ عيسى و مريم و الإله كانوا ثلاثة، و توجّه إلى الروم و علّمهم اللاهوت و الناسوت و قال: ما كان عيسى إنسانا و لا جسما و لكنّه اللّه و علّم رجلا آخر يقال له يعقوب ذلك، ثمّ دعا رجلا آخر يقال له ملكا فقال له: إنّ الإله لم يزل و لا يزال عيسى، ثمّ دعا لهؤلاء الثلاثة و قال لكلّ واحد منهم: أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك و لقد رأيت عيسى في المنام و رضي عنّي و أنّي غدا أذبح نفسي فداء لعيسى، ثمّ دخل في الغد المذبح و ذبح نفسه.

ثمّ دعا كلّ واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله و مذهبه و صار هذا الأمر السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى، هذا ما حكاه الرازيّ عن الواحديّ.

و قال الرازيّ في المفاتيح: لعلّ ورود لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حقّ إبراهيم على سبيل التشريف، ثمّ إنّ النصارى لأجل عداوة اليهود و لأجل أن يقابلوا غلوّهم الفاسد في أحد الطرفين بغلوّ فاسد في الطرف الثاني فبالغوا و فسّروا لفظ الابن ببنوّة الحقيقيّة و الجهّال قبلوا ذلك، و فشى هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى و اللّه عالم.

قوله: [ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يقولون هؤلاء هذه الأقاويل الفاسدة بأفواههم فلو قيل كلّ قول يقال بالفم فما معناه؟ المراد أنّ هذا القول ما هو إلّا قول متفوّه به فارغ عن المعنى من غير تعقّل و تدبّر:

كلامك يا هذا كبندق فارغ خلّي من المعنى و لكن يقلقل

.

ص: 130

قوله: [يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قرئ بالهمزة و بغير الهمزة. «المضاهاة» المشابهة مشتقّ من قولهم: «امرأت ضيهاء و هي الّتي لا تنبت لها ثدي» أي يشابه هذا القول قول المشركين قبلهم حيث قالوا: الملائكة بنات اللّه، أو قول اليهود: عزير ابن اللّه.

[قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قال ابن عبّاس: أي لعنهم اللّه، لأنّ من لعنه اللّه فهو بمنزلة المقتول الهالك. كيف يصرفون عن الحقّ إلى الإفك و الكذب؟ أي أيّ داع لهذا القول الفاسد؟

[سورة التوبة (9): آية 31]

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

شرح سبحانه في هذه الآية بضرب آخر من شركهم قال ابن السكّيت: «حبر» و «حبر» يقال للعالم ذمّيّا كان أو مسلما بشرط أن يكون من أهل الكتاب، و لكن في عرف الاستعمال صار الأحبار مختصّا بعلماء اليهود من ولد هارون و الرهبان بعلماء النصارى من أصحاب الصومعة.

و الأكثرون من المفسّرين قالوا: ليس المراد من اتّخاذهم أربابا أنّهم اعتقدوا أنّهم آلهة العالم، بل المراد أنّهم أطاعوهم في أوامرهم و نواهيهم. نقل أنّ عديّ بن حاتم كان نصرانيّا فانتهى إلى رسول اللّه و هو يقرء سورة براءة فوصل إلى هذه الآية قال عديّ: لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ اللّه فيحرّمونه و يحلّلون ما حرّم اللّه فيستحلّونه؟ فقال: بلى قال: فتلك عبادتهم.

قال الربيع لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبيّة من الأحبار في بني إسرائيل؟

فقال: ربّما وجدوا في كتاب اللّه ما يخالف أقوال الأحبار و الرهبانيّة فكانوا يأخذون بأقوالهم و ما كانوا يقبلون كتاب اللّه.

أقول: و هذا الداء قد سرى في عروق بعض من الحمقاء من أهل الدنيا في زماننا فإنّهم يعظّمون شيخهم و قدوتهم، و قد يكون يميل طبع الشيخ إلى الاتّحاد و الحلول و يميل طباعهم إلى الشيخ و ذلك الشيخ الخبيث يلقي إليهم أنّ الأمر كذلك و لعلّ يأمر أتباعه بأن يسجدوا له و يقول لهم: أنتم عبيدي و قد يكون في الخلوة يدّعي الحلول و الإلهيّة مع أصحابه.

ص: 131

[سورة التوبة (9): آية 32]

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32)

بيان نوع آخر من قبائح اليهود و النصارى و هو سعيهم في إبطال أمر محمّد صلى اللّه عليه و آله المراد من النور القرآن و علائم خاتميّته مع أنّه صلى اللّه عليه و آله ليس له إلى غير اللّه حاجة و ما غيّر طريقته في استحقار الدنيا و عدم الالتفات إليها إلى آخر عمره فكانوا قد قصدوا إبطال نبوّته كمن يريد إبطال نور الشمس بسبب أن ينفخ فيها و هذا هو المراد من الآية.

ثمّ إنّه تعالى وعده بالنصر و إعلاء الكلمة فقال: [وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ و معنى «يأبى» في الآية جار مجرى: لم يرد.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 33]

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

أرسل محمّدا صلى اللّه عليه و آله و حمّله الرسالات الّتي يؤدّيها إلى الخلق بالحجج و البيّنات و القرآن و بدين الحقّ و هو الإسلام؛ لأنّ كلّ دين باطل و منسوخ بدينه و أرسله ليعلى الإسلام على الأديان بالحجّة أو الغلبة، أمّا الغلبة بالحجّة فمعلوم لأنّ كتابه أحكم كلّ كتاب و أحسن كلّ طريقة.

و أما ظهوره بالغلبة و القهر فإنّه ما حصل بعد و إن كان كلّ طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك و لحق أكثرهم قهر من جهة المسلمين إلّا أنّه لم يحصل كاملا و ما غلب لسائر الأديان مثل أرض الهند و الصين و الروم و سائر أراضي الكفر، لكن وعد اللّه من اللّه أن يجعل ذلك.

قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ ذلك يكون عند خروج المهديّ من آل محمّد صلى اللّه عليه و آله فلا يبقى أحد إلّا أقرّ بمحمّد و هو قول السدّيّ.

و قال الكلبيّ: لا يبقى دين إلّا ظهر عليه الإسلام و سيكون بعد ذلك و لا تقوم الساعة حتّى يكون.

قال المقداد: سمعت رسول اللّه يقول: لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر و لا وبر إلّا أدخله اللّه كلمة الإسلام إمّا بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل أي إمّا طوعا أو كرها يدينون له.

ص: 132

و قيل: إنّ ضمير الهاء في «ليظهره» راجع إلى الرسول أي ليوقفه و يعلّمه جميع الأديان و هذا بعيد.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 34 الى 35]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

لمّا وصف رؤساء اليهود و النصارى بالتكبّر و الربوبيّة و صفهم في هذه الآية بالطمع و الحرص و قيّد بقوله: «كثيرا» ليدلّ على أنّ هذه الطريقة طريقة بعضهم لا طريقة الكلّ و عبّر بالأكل لأنّ المقصود الأعظم من جمع المال هو الأكل، فسمّى الشي ء باسم ما هو أعظم المقصود، و من أكل الشي ء فقد ضمّه إلى نفسه و يمتنع الوصول لغيره إليه، فإذا طولب بردّه قال: أكلته فلا أقدر على ردّه؛ فلهذا السبب سمّي الأخذ بالأكل.

و قوله: [بِالْباطِلِ أي إنّهم كانوا يأخذون الرشا بالتحريفات و تخفيف الأحكام و كانوا يدّعون عند العوامّ أنّه لا سبيل إلى مرضاة اللّه إلّا بخدمتهم و إطاعتهم و بذل الأموال في مرضاتهم، و آيات كانت في التوراة و الإنجيل دالّة على مبعث محمّد صلى اللّه عليه و آله فكانوا هؤلاء يذكرون في تأويلها وجوها فاسدة، و كانوا يقرّرون عند عوامّهم أنّ الدين الحقّ هو الّذي هم عليه و بهذا الطريق يكتسبون أموالا خطيرة فهذا هو الباطل المراد في الآية.

ثمّ قال: [وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأنّهم بهذه الأمور منعوا الناس عن قبول الإسلام لأنّهم إذا أقرّوا بمحمّد بطل حكمهم و مقاصدهم.

ثمّ قال: [وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ] يحتمل أن يكون المراد بهم هو الأحبار و الرهبان و يحتمل أن يكون جملة مستأنفة أي الّذين يجمعون المال و لا يؤدّون زكاتها؛ فقد روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله كلّ مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز و إن كان المال ظاهرا و غير مدفون، و كلّ مال ادّيت زكاته فليس بكنز و إن كان مدفونا في الأرض، قال ابن عباس و الحسن و الشعبيّ و السدّيّ. قال الجبائيّ: و هو إجماع.

ص: 133

[فَبَشِّرْهُمْ و أخبرهم بعذاب أليم.

و روي عن أمير المؤمنين: ما زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أدّي زكاته أم لم يؤدّ و ما دونها فهو نفقة. و معنى الحديث أنّ هذا المقدار من المال يصدق عليه الكنز و ليس معناه أنّ هذا المقدار من المال يجب عليه الزكاة و ما دونه لا يجب، و بالجملة المراد مانعو الزكاة.

روى سالم بن أبي الجعد أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآية قال: تبّا للذهب تبّا للفضّة يكرّرها ثلاثا فشقّ ذلك على أصحابه فسأله عمر يا رسول اللّه أيّ المال نتّخذه؟

فقال صلى اللّه عليه و آله: لسانا ذاكرا و قلبا شاكرا و زوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه.

قوله: [يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي يوقد على الكنوز أو على الذهب و الفضّة حتّى تصير نارا فتكوى بتلك الكنوز المحماة و الأموال الّتي منعوا حقوق اللّه فيها بأعيانها جباههم و جنوبهم و ظهورهم و إنّما خصّ هذه الأعضاء لأنّها معظم البدن. و كان أبو ذرّ الغفاريّ يقول:

بشّر الكافرين أو قال: بشّر الكفّارين بكيّ في الجباه و كيّ في الجنوب و كيّ في الظهور حتّى يلتقى الجمر في أجوافهم و المراد الّذين لم يؤدّوا الزكاة.

و لعلّ السبب باختصاص المواضع للكيّ لأنّ صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته و زوي ما بين عينيه و طوى عنه كشحه و ولّاه ظهره، عن أبي الورّاق.

قوله: [هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي يقال له في حال الكيّ: هذا جزاء ما كنزتم و لم تؤدّوا حقوق اللّه فيها و جعلتموها ذخيرة لأنفسكم فذوقوا العذاب بسبب كنزكم.

قال النبيّ: ما من عبد له مال لا يؤدّي زكاته إلّا جمع يوم القيامة صفائح يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جبهته و جنباه و ظهره حتّى يقضي اللّه بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، ثمّ يرى سبيله إمّا في الجنّة و إمّا في النّار أورده مسلم بن الحجّاج في الصحيح.

و روى ثوبان عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: من ترك كنزا مثّل له شجاعا أقرع له زبنتان يتبعه فيقول له: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الّذي تركت بعدك فلا يزال يتبعه حتّى يلقمه يده فيقضمها، ثمّ يتبعه سائر جسده.

قال القاضي عبد الجبّار: تخصيص الآية بمنع الزكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال:

ص: 134

الكنز هو المال الّذي ما اخرج عنه ما وجب إخراجه عنه، و لا فرق بين الزكاة و بين ما وجب إخراجه من المال من الكفّارات و نفقة الحجّ و بين ما يجب إخراجه في الدين و الحقوق و الأنفال الواجب و ضمان المتلفات و اروش الجنايات، و يجب في كلّ هذه الأقسام أن يكون داخلا في الوعيد و الحكم.

و فصّل بعض بأنّ الرّجل إذا جمع مالا و لم يؤدّ زكاته فحكمه الكيّ و ما بقي فالمنع عن الجمع المال الكثير، و ما ورد في بعض الأخبار أنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا مات رجل و وجد في مأرزه دينار قال صلى اللّه عليه و آله: «كيّه» محمول على التقوى، و إنّ اللّه خلق الأموال ليتوسّل بها إلى دفع الحاجات فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثمّ جمع الأموال الزائدة عليه فهو لا ينتفع بها لأنّها زائدة عن قدر حاجته و منعها من الغير الّذي يمكن أن يدفع حاجته فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعا عن ظهور حكمته و مانعا عن وصول إحسان اللّه إلى عبيده، ثمّ إذا كثر ماله اشتدّ حرصه على الأكثر فيلتهي دائما إلى جمعه و حفظه و يكثر ميله و حبّه يوما فيوما؛ لأنّ المال اشتقاقه من الميل فلا جرم صار هذا الميل مانعا عن تحصيل امور الآخرة، و ليس المراد من حبّ الدنيا إلّا هذا و هو رأس كلّ خطيئة.

و يجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس فضلا عن الغير على أنّ كثرة المال يوجب كثرة الطغيان قال اللّه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (1) هذا كلّه في المال الّذي أدّي زكاته و إلّا «فالكيّ» قوله: «وَ لا يُنْفِقُونَها» فالتأنيث باعتبار الفضّة و ذكر واحد منهما مغن عن الآخر كقوله: «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها» (2).

قوله: [سورة التوبة (9): آية 36]

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

من قبائح أفعال اليهود و المشركين إقدامهم على السعي في تغيير بعض أحكام اللّه و

ص: 135


1- العلق: 6- 7.
2- الجمعة: 11.

هو زيادة في الكفر و بيانه أنّ السنة عند العرب عبارة عن اثني عشر شهرا من الشهور القمريّة و الدليل عليه هذه الآية و هي: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ» (1).

و ذلك إنّما يصحّ إذا كانت السنة معلّقة بسير القمر. و عند سائر الطوائف السنة عبارة عن المدّة الّتي تدور الشمس فيها دورة تامّة، و السنة القمريّة أقلّ من السنة الشمسيّة بمقدار معلوم، و بسبب ذلك النقصان ينتقل الشهور القمريّة من فصل إلى فصل فيكون الحجّ و الموسم واقعا في الشتا مرّة و في الصيف مرّة، و كان يشقّ عليهم ذلك بهذا السبب.

و أيضا إذا حضروا الحجّ حضروا للتجارة فربّما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الأطراف، و كان يخلّ أسباب تجاراتهم بهذا السبب فلهذا أقدموا على عمل الكبيسة و اعتبروا السنة الشمسيّة، و عند ذلك بقي وقت الحجّ مختصّا بوقت واحد موافقا لمصلحتهم التجاريّة فهذا التأخير و النسي ء و إن كان أصلح لتجارتهم و دنياهم إلّا أنّه لزم تغيّر حكم اللّه منه لأنّه تعالى خصّ الحجّ بأشهر معلومة، و كذلك يقع النسي ء في سائر الشهور بتغيير حكم اللّه.

ثمّ إنّ السنّة الشمسيّة لمّا كانت زائدة على السنة القمريّة جمعوا تلك الزيادة فإذا بلغ مقدارها إلى شهر جعلوا تلك السنة ثلاثة عشر شهرا فأنكر اللّه ذلك عليهم فقال: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ (عِنْدَ اللَّهِ) اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ» لا أزيد و لا أقلّ، و كان طريقة العرب من الزمان الأوّل أن يكون السنة قمريّة و توارثوه عن إبراهيم و إسماعيل. و أمّا عند النصارى و اليهود السنة شمسيّة، ثمّ إنّ العرب تعلّم منهم و ظهر في بلاد العرب.

قوله: [عِدَّةَ الشُّهُورِ] اسم «إنّ» مبتدأ «اثنا عشر» خبر. و «عند اللّه» و «فِي كِتابِ اللَّهِ» و «يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ» ظروف أي ذلك العدد واجب متقرّر في كتاب اللّه و علمه من أوّل ما خلق اللّه العالم. و المراد من كتاب اللّه قيل: «اللوح» أو المراد القرآن، أو المراد في حكم اللّه [مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ من هذه الاثني عشر. و معنى «حرم» أي يعظّم انتهاك المحارم فيها أكثر من بعض لانطفاء النائرة و انكسار الحميّة. و شهور السنة المحرّم سمّى بذلك لتحريم القتال فيه و

ص: 136


1- يونس: 5.

«صفر» لأنّ مكّة تصفرّ من الناس فيه أو وقع وباء عظيم فيه فصفرت وجوههم.

قال أبو عبيدة: لأنّه صفرت و طابهم عن اللبس و شهرا «ربيع» لإنبات الأرض فيهما أو ارتباع القوم و إقامتهم فيهما و «جماديتان» لجمود الماء فيهما.

أقول: ارتباع القوم أنسب في التسمية من إنبات الأرض فيهما بل لا مناسبة بين إنبات الأرض فيهما و جمود الماء في الجماديين لأنّ انجماد الماء لا يكون بعد الربيع بلا فاصلة بل بين الفصلين الخريف و هو ثلاثة أشهر لأنّ الماء لا ينجمد إلّا في الشتاء و بالجملة «فرجب» سمّي بذلك لأنّهم كانوا يعظّمونه أو لترك القتال فيه من قولهم: رجل أرجب أي أقطع لا يمكنه العمل.

روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّ في الجنّة نهرا يقال له رجب، ماؤه أشدّ بياضا من الثلج و أحلى من العسل من صام يوما من رجب شرب منه. و «شعبان» لتشعّب القبائل فيه.

و روى زياد بن ميمون أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: سمّي شعبان لأنّه يتشعّب فيه خير كثير. و «رمضان» لأنّه يرمض الذنوب أو لشدّة الحرّ أو رمضان من أسماء اللّه، و «شوّال» لأنّ القبائل تشول و تبرج عن أمكنتها، أو لشولان النوق أذنا بها فيه. و «ذو القعدة» لقعودهم عن القتال فيه. و «ذو الحجّة» لقضاء الحجّ فيه.

قوله: [ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي ذلك الحساب المستقيم الصحيح و الطريقة المشروعة لا ما كانت العرب تفعله من النسي ء، و سمّي الحساب دينا لوجوب الدوام عليه و لزومه كلزوم الدين و العبادة، و منه قوله: الكيّس من دان نفسه أي حاسبها. قال القاضي: حمل الدين على العبادة أولى من حمله على الحساب.

فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة فما السبب في التخصيص في هذه الأربعة؟ فالجواب أنّ هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع و أمثلته كثيرة كما ميّز البلد الحرام عن سائر البلاد، و الجمعة عن سائر الأيّام و ليلة القدر عن سائر الليالي.

ثمّ قال: [فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ و اختلفوا في الضمير في قوله: «فيهنّ» قال ابن عبّاس: يرجع إلى «الاثنا عشر» يقول في الآية: المنع من الإقدام على الفساد مطلقا في

ص: 137

جميع العمر. و قال أكثر المفسّرين: إنّ الضمير عائد إلى «الأربعة» و قد قرّرنا أنّ لبعض الأوقات أثرا خاصّا في الثواب و العقاب و الطاعة و المعصية، قال الفرّاء: العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة «فيهنّ» فإذا جاوز العدد تقول «فيها». و في تفسير هذا الظلم أقوال قيل: المراد منه النسي ء الّذي يعملونه فينقلون الحجّ من الشهر الّذي أمر اللّه بإقامته إلى الشهر الآخر و يغيّرون حكم اللّه. و قيل: إنّه تعالى نهى عن المقاتلة في هذه الأربعة و هم غيّروا الشهر.

قوله: [وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً] أي قاتلوهم جميعا مؤتلفين غير مختلفين [كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً] مجتمعين و لا تتمسّكوا منهم بعهد و لا ذمّة إلّا من كان من أهل الجزية و قيل:

معناه قاتلوهم خلفا بعد سلف كما أنّه يخلف بعضهم بعضا في قتالكم [وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصرة و الولاية.

[سورة التوبة (9): آية 37]

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)

قرئ «النسيّ» بالتشديد من غير همزة و قرئ «النسي ء» مخفّفا في وزن الهدى و «النسي ء» بالمدّ و الهمزة. اللغة: نسأت الإبل في ضمئها يوما أو يومين أخّرتها عنه؛ فالمعنى أنّ الإنساء و التأخير في شهر يجب حرمته إلى شهر ليست له حرمة سبب ازدياد في الكفر، و السبب فيه أنّ العرب كانت أصحاب غارات و حروب فشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها و قالوا: إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لنهلكنّ فلهذا كانوا يؤخّرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمون الصفر و يستحلّون المحرّم.

و هذا التأخير ما كان يختصّ بشهر و أحد بل كان حاصلا في كلّ الشهور قال الكلبيّ:

أوّل من فعل ذلك نعيم بن ثعلبة بن كنانة و كان إذا همّ الناس بالصدور من الموسم يقوم خطيبا و يقول: لا مردّ لما قضيت و أنا الّذي لا أعاب و لا أجاب؛ فيقول المشركون: لبّيك ثمّ يسألونه أن ينسئهم شهرا يغيرون فيه فيقول: إنّ صفر العامّ حرام فإذا قال ذلك حلّوا الأوتار

ص: 138

من القسيّ و نزعوا الأسنّة و الأزجّه، و إن قال: حلال عقدوا الأوتار و أغاروا.

و قيل: أوّل من وضع ذلك جنادة بن عوف الكنانيّ. و قيل: رجل من كنانة يقال له القلمسيّ.

و قال ابن عبّاس: أوّل من وضع و سنّ النسي ء عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف.

قوله: «يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» قرئ بفتح الياء و بضمّ الياء بناء على إسناد الإضلال إلى رؤسائهم الّذين اخترعوا هذا الأمر، أو هم ضالّين بسبب النسي ء و يضلّون لغيرهم.

قال مجاهد: كان يقول الرئيس: إنّي قد نسأت المحرّم العام و هما العام صفران فإذا كان العام القابل قضينا فجعلناهما محرّمين، و كانوا يحجّون في كلّ شهر عامين فحجّوا في ذي الحجّة عامين ثمّ حجّوا في المحرّم عامين ثمّ حجّوا في صفر عامين و كذلك في الشهور حتّى وافقت الحجّة الّتي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله في العام القابل حجّة الوداع فوافقت في ذي الحجّة فذلك حين قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و ذكر في خطبته: ألا و إنّ الزمان قد استدار كهيئة «يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» أراد صلى اللّه عليه و آله بذلك أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها و عاد الحجّ إلى ذي الحجّة و بطل النسي ء.

قوله: [لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي فعلوا هذا الأمر أحلّوا الحرام و حرّموا الحلال ليكون موافقا لمقصودهم زيّن لهم هذا العمل السوء و زيّنت لهم أنفسهم سوء هذا العمل بميلهم و هواهم [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ و لا يرشد الكفور العنود.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 38 الى 39]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39)

النزول: نزلت في غزوة تبوك، و ذلك لأنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا رجع من الطائف أقام بالمدينة و امر بجهاد الروم، و كان ذلك الوقت زمان شدّة الحرّ و طابت ثمار المدينة و أينعت و استعظموا غزو الروم و هابوه فنزلت الآية و عاتب اللّه المؤمنين على التثاقل عن الجهاد، فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ و أمركم النبيّ بأن اخرجوا إلى الجهاد تباطئتم

ص: 139

و تثاقلتم. و «النفر» في اللغة الخروج إلى الشي ء لأمر هيّج عليه [اثَّاقَلْتُمْ و ملتم إلى الإقامة في الأرض الّتي أنتم فيها.

قال الجبّائيّ: هذا التثاقل من بعض المؤمنين لا كلّهم [أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا] و آثرتم الفانية على الباقية؟ فما فوائد الدنيا بالنسبة إلى فوائد الآخرة إلّا قليل. ثمّ بيّن سبحانه مفاسد التثاقل بأن قال: إن لا تخرجوا إلى الجهاد الّذي أمركم الرسول يعذّبكم اللّه عذابا مولما في الآخرة، و قيل: في الدنيا. قال ابن عبّاس: لمّا تثاقلوا أمسك اللّه المطر عنهم.

[وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ و اختلف المفسّرون أنّ المراد من الغير منهم، قيل: هم أهل اليمن. و قال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس. و قيل: هم الّذين أسلموا بعد.

[سورة التوبة (9): آية 40]

إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

لمّا هدّدهم في الآية السابقة بسبب التثاقل بيّن في هذه الآية إن تركتم النصرة للرسول لم يضرّه ذلك شيئا كما لم يضرّه قلّة ناصريه حين كان بمكّة و همّ به الكفّار فتولّى اللّه نصرته [إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا] من مكّة فخرج منها يريد المدينة. «ثاني اثنين» نصب على الحال أي و هو أحد اثنين و صاحبه أيضا أحد اثنين، تعني به أبا بكر و ليس معهما ثالث و العرب يقول: هذا ثاني اثنين و هذا ثالث ثلاثة و رابع أربعة و خامس خمسة، يعني أحد اثنين و أحد ثلاثة و أحد أربعة و أحد خمسة، كما تقول العرب أيضا: هو ثالث اثنين و رابع ثلاثة و خامس أربعة. و المراد أنّه صلى اللّه عليه و آله كان و أبو بكر و ليس معها ثالث و الغار غار ثور و «ثور» اسم جبل بمكّة [إِذْ هُما فِي الْغارِ] بدل من قوله «إذ أخرجه» جعل أحد الزمانين في موضع الآخر لتقاربها.

و حاصل معنى الآية ترغيب الناس بالجهاد بأنّ إن لم تنفروا باستنفاره فإنّ اللّه نصره حال ما لم يكن معه إلّا رجل واحد فخرج صلى اللّه عليه و آله مضطرّا أوّل الليل إلى الغار و بعث اللّه حملتين فباضتا في أسفله، و العنكبوت نسجت عليه فلمّا جاء سراقة بن مالك في طلبهما

ص: 140

إلى الغار فرأى بيض الحمام و بيت العنكبوت، قال: لو دخله أحد لأنكر البيض و تفسّخ بيت العنكبوت فانصرف و قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: اللّهم أعم أبصارهم و جعلوا يضربون يمينا و شمالا حول الغار.

و روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: كان رجل من خزاعة فيهم يقال له أبو كرز فما زال يقفو أثر رسول اللّه حتّى وقف باب الحجر، فقال: هذه قدم محمّد صلى اللّه عليه و آله هي و اللّه و هذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه و ما جاوزوا هذا المكان إن صعدوا إلى السماء أو دخلوا في الأرض. و جاء فارس من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار و هو يقول: اطلبوا في هذا الشعاب.

و نزل رجل من قريش فبال على باب الغار فقال أبو بكر: قد أبصرونا يا رسول اللّه قال صلى اللّه عليه و آله:

لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم.

[فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي ألقى على قلب محمّد ما سكن به، و علم أنّهم غير واصلين إليه و قوّاه بملائكة يمنعون أبصارهم عن أن يروه.

و قيل: المراد في تأييد الملائكة يوم بدر، و المناسبة أنّ التأييد وقع في هذا المكان بصرف أعدائه عنه.

قوله: [وَ جَعَلَ كَلِمَةَ] الكفّار السفلى نازلة دنيئة و كلمة اللّه هي المرتفعة المنصورة. و كلمتهم الشرك و كلمة اللّه هي كلمة التوحيد و هي لا إله إلّا اللّه. و اللّه غالب على أمره و انتقامه من أهل الشرك [حَكِيمٌ في تدبيره.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 41 الى 43]

انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)

لمّا توعّد في الآية السابقة من لا ينفر أكّد في هذه الآية بهذا الأمر فقال: [انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا] و هذا الأمر يدخل فيه امور ذكروها أي خفافا في النفور و ثقالا يعني شبابا و شيوخا نشّاطا أو غير نشّاط مشاغيل أو غير مشاغيل أغنياء أو فقراء.

ص: 141

و قيل: الخفاف أهل العسرة و قلّة العيال و بالثقال أهل الميسرة و الحاشية و العيال.

و قيل: ركبانا و مشاة. و قيل: ذا ضيعة أو غير ذي ضيعة، عن ابن زيد. و قيل: عزّابا أو متأهّلين أو خفافا من السلاح أو ثقالا منه فعلى هذا ظاهر الأعمّ جميع الرجال. و عن ابن امّ مكتوم أنّه قال لرسول اللّه: أ عليّ أن أنفر قال صلى اللّه عليه و آله: ما أنت إلّا خفيف أو ثقيل. فرجع إلى أهله و لبس سلاحه و وقف بين يديه فنزل: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ»* (1).

و عن صفوان بن عمرو قال: كنت واليا على حمّص فلقيت شيخا قد سقط حاجباه على عينيه و هو على راحلته يريد الغزو فقلت: يا عمّ أنت معذور عند اللّه فرفع حاجبيه بيده عن عينه، و قال: استنفرنا اللّه خفافا و ثقالا ألا إنّ من أحبّه اللّه ابتلاه. و عن الزهريّ: خرج سعيد بن المسيّب إلى الغزو و قد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنّك عليل صاحب ضرر فقال: استنفر اللّه الخفيف و الثقيل فإن عجزت عن الجهاد كثّرت السواد و حفظت المتاع.

و قيل: هذه الآية منسوخة بقوله: «ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» (2) قال السدّيّ: لمّا نزلت: «انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا» اشتدّ شأنها على الناس فنسخها اللّه بقوله: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى الآية (3).

قوله: [وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ لمرضاة اللّه و هذا يدلّ على أنّ الجهاد بالنفس و المال على من استطاع بهما، و من لم يستطع على الوجهين فعليه بما استطاع [ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من التثاقل إن كنتم عالمين بأنّه تعالى صادق في وعده و تعرفون الخير.

[لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً] أي لو كان ما دعوتهم إليه غنيمة حاضرة [وَ سَفَراً] هيّنا سهلا غير شاقّ [لَاتَّبَعُوكَ طمعا في المال و الغنيمة [وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ] أي المسافة و «الشقّة» من الأرض الّتي يشقّ ركوبها على صاحبها لبعدها. و المراد غزوة تبوك أمروا فيها بالخروج إلى الشام.

[وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ أي هؤلاء سيعتذرون إليك في قعودهم

ص: 142


1- الفتح: 17.
2- السورة: 123.
3- السورة: 92.

عن الجهاد، و يحلفون لو قدرنا من الخروج لخرجنا معكم، ثمّ أخبر سبحانه أنّهم [يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بما أسرّوه من اليمين الكاذبة و العذر الباطلة.

[وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ في هذا الاعتذار و الحلف. ثمّ خاطب نبيّة بما فيه بعض العتاب في إذنه لمن استاذنه في التأخّر عن الخروج معه إلى تبوك، و كان الّذين استأذنوه منافقين و منهم جندب بن قيس و معتب بن قشير و هما من الأنصار فقال في عتابه: لم أذنت لهم في التخلّف عنك؟ و هذا من لطيف المعاتبة لأنّه تعالى بدأ بالعفو قبل العتاب.

و هل هذا الإذن كان قبيحا أم لا؟ قال الجبّائيّ: وقع صغيرا لأنّه لا يقال في المباح:

لم فعلته؟ قال الطبرسيّ: و هذا التعليل غير صحيح لأنّه بجوز أن يقال فيما غيره أفضل منه: لم فعلته؟ و معناه أنّه لو لم يأذنهم حتّى يتبيّن نفاقهم و تعرفهم كان أحسن و كيف يكون إذنه صلى اللّه عليه و آله قبيحا و قد قال سبحانه في موضع آخر: «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» (1).

و قيل: إنّه صلى اللّه عليه و آله خيّرهم بين الظعن و الإقامة متوعّدا فاغتنم القوم ذلك، و يجوز العتاب فيما غيره أولى منه لا سيّما للأنبياء و حاشا سيّد الأنبياء و خير بني آدم من أن ينسب إليه المعصية.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 44 الى 45]

لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)

ثمّ بيّن حال المؤمنين بأنّهم لا يستأذنوك في القعود عن الجهاد لأنّهم متى أمروا بالخروج تبادروا و لم يتوقّفوا، و المنافقون بالعكس و كان الأكابر من المهاجرين و الأنصار يقولون: لا نستأذن النبيّ في الجهاد فإنّ ربنا ندّبنا إليه مرّة بعد اخرى، فأيّ فائدة في الاستيذان؟ و كانوا بحيث لو أمرهم بالقعود لشقّ عليهم.

ص: 143


1- النور: 62.

قال الفخر الرازيّ: إنّ عليّا عليه السّلام لمّا أمره النبيّ صلى اللّه عليه و آله بأن يبقى في المدينة شقّ ذلك عليه و لم يرض فقال له الرسول: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى. فصار تقدير الآية في أن لا يجاهدوا و حذف حرف النفي كقوله «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (1) ثمّ قال: [إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي إنّ هذا الاستيذان لا يصدر إلّا عند عدم الإيمان باللّه و المعاد.

ثمّ بيّن أنّ عدم الإيمان منهم بسبب الشكّ و الريب، و هذا يدلّ على أن الشاكّ المرتاب غير مؤمن باللّه و المراد بالتردّد القبول و العذر مثل المتحيّر و لو كانوا مؤمنين لو ثقوا بثواب اللّه و بادروا في الجهاد.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 46]

وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)

أي لو أرادوا الخروج لكانوا يعدّون أهبتهم و استعدادهم للخروج من الكراع و السلاح و لكن كره اللّه خروجهم إلى الغزو لعلمه تعالى أنّهم لو خرجوا لكانوا يمشون بالفساد و النميمة للمسلمين، و كانوا عيونا للمشركين و كان الضرّ في خروجهم أكثر من النفع فوقفهم اللّه عن الخروج الّذي عزموا عليه لا من الخروج الّذي أمرهم اللّه به لأنّ الأوّل كفر و الثاني إيمان و طاعة.

[وَ قِيلَ لهم: [اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ أي الصبيان و النساء. يحتمل أن يكون القائلون لهم أصحابهم الّذين نهوهم عن الخروج مع النبيّ أو يكون القائل النبيّ صلى اللّه عليه و آله على وجه التهديد و التوبيخ.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 47]

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

ثمّ بيّن على وجه الحكمة في كراهية انبعاثهم فقال: لو خرجوا هؤلاء المنافقون معكم إلى الجهاد ما زادوا بخروجهم إلّا الفساد و الشرّ و «الخبل» فساد الإعطاء و الجنون.

و قيل: مكرا و غدرا أو عجزا و جبنا و سعوا بالتفريق بين المسلمين و أوضعوا إبلهم خلالكم [يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ] بعد و الإبل وسطكم [سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي يكونوا فيكم عيونا

ص: 144


1- النساء: 176.

للمشركين أو المعنى أنّ فيكم ضعفة المسلمين يقبلون قولهم.

[وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بهؤلاء المنافقين الّذين ظلموا أنفسهم و هم جماعة منهم عبد اللّه بن ابيّ و جندب بن قيس و أوس بن قبطيّ. ثمّ أقسم اللّه فقال:

[سورة التوبة (9): الآيات 48 الى 49]

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ (48) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)

بيّن حالهم بأنّهم طلبوا الفتنة و اختلاف الكلمة لكم من قبل غزوة تبوك أي يوم احد حين انصرف عبد اللّه بن ابيّ بأصحابه و خذل النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

و قيل: المراد بالفتنة الفتك بالنبيّ في ليلة العقبة و كانوا اثني عشر رجلا وقفوا على الثنيّة ليفتكوا بالنبيّ [وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ] و احتالوا في توهين أمرك و لم يقدروا و كانوا يدبّرون في كيدهم وجوها فإذا لم يتمّ ذلك قلّبوا كيدهم بوجه آخر. و هذا معنى التقليب و كانوا يعملون هذه الأعمال [حَتَّى جاءَ الْحَقُ أي النصر و الظفر و ظهر دين اللّه على الكفّار على رغمهم [وَ هُمْ كارِهُونَ و مرغومون.

قوله: [وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ النزول: قيل: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا استنفر الناس إلى تبوك قال: انفروا لعلّكم تغتنمون بنات الأصفر فقام جندب بن قيس أخو بني سلمة فقال:

يا رسول اللّه ائذن لي و لا تفتنّي ببنات الأصفر أي ائذن لي في القعود و لا تفتنّي بنساء الروم و لقد علمت الأنصار أنّي مغرم بالنساء، و أنا أعينك بالمال فاتركني.

و قيل في معنى «و لا تفتنّي»: أي لا توقعني في الإثم لمخالفة أمرك بالخروج إلى الجهاد و لا تكلّفني بالخروج في شدّة الحرّ؛ فأخبر اللّه أنّهم وقعوا في الفتنة و أنّ نار جهنّم لمحيطة بهم يوم القيامة.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 50 الى 51]

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

بيّن في هذه الآية خبث بواطن المنافقين بأنّه إن تصبك في بعض الغزوات ظفر و

ص: 145

غنيمة أو انقياد من بعض الرؤساء و الملوك يسؤهم ذلك و إن تصبك شدّة و مكروه يفرحوا بها [قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا] و هو التيقّظ و الحزم، و احترزنا بالقعود عن الجهاد [مِنْ قَبْلُ هذه المصيبة [وَ يَتَوَلَّوْا] راجعين إلى بيوتهم فرحين بما أصاب المسلمين [قُلْ لهم يا محمّد: [لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا] في اللوح أو في القرآن [وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ من هو مؤمن به.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 52]

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

[هَلْ تَرَبَّصُونَ و تنظرون لنا إلّا إحدى النعمتين إمّا الغلبة و الغنيمة في العاجل و إمّا الشهادة و الثواب الدائم في الآجل [وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ و نتوقّع [بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا] بأن ينصرنا عليكم [فَتَرَبَّصُوا] صورة الآية أمر و المراد التهديد [إِنَّا مَعَكُمْ كلانا منتظرون أمّا نحن منتظرون بالشهادة و الجنّة و إمّا الغنيمة و الفوز، و أمّا أنتم إمّا البقاء في الخزي و إمّا القتل و المصير إلى النار.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 53 الى 55]

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَ هُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (55)

[أَنْفِقُوا] لفظه أمر و معناه معنى الشرط و الجزاء أي إن أنفقتم طائعين أو مكروهين لا تنتفعون بإنفاقكم مع إقامتكم على الكفر قل لهم يا محمّد: إنّ هذا الأمر لن يتقبّل منكم لأنّ اللّه يتقبّل من المتّقين المخلصين و أنتم فاسقون و متمرّدون عن طاعة اللّه.

فإن قيل: كيف يكون الأمر في معنى الخبر؟

قيل: إذا كان في الكلام دليل عليه جاز كما تكون لفظ الخبر في معنى الأمر و الدعاء كقولك: غفر اللّه لزيد أي اللّهم اغفره.

قوله: [وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ أي و ما يمنع هؤلاء المنافقين أن يثابوا على نفقاتهم إلّا كفرهم باللّه و برسوله فذلك ممّا يحبط الأعمال و كذلك لا يأتون الصلاة إلّا و هم متثاقلين

ص: 146

و لا يؤدّوها على الوجه الّذي أمروا بها [وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ يصلّون و ينفقون للتستّر بالإسلام و للرياء.

و في الآية دلالة على أنّ الكفّار محكومون بالشرائع لأنّه سبحانه ذمّهم على ترك الصلاة و الزكاة، و لو لا وجوبهما عليهم لما ذمّوا بتركهما.

[فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ الخطاب للنبيّ و المراد الامّة أي لا يأخذ بقلبك ما تراه من كثرة أموال هؤلاء المنافقين و كذلك كثرة [أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] قد ذكر في معناه وجوها:

أحدها: أنّ فيه تقديما و تأخيرا أي لا يسرّك أموالهم و أولادهم في الحياة الدنيا إنّما يريد اللّه ليعذّبهم في الآخرة، عن ابن عبّاس و قتادة، فيكون على هذا الظرف متعلّقا بأموالهم و أولادهم و مثله قوله تعالى «فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ» (1) و التقدير:

فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم.

و ثانيها: أنّ معناه إنّما يريد اللّه ليعذّبهم في الدّنيا بحفظها و جمعها و يكائدون لتحصيلها و جمعها مع حرمان المنفعة بها.

و ثالثها: أنّ معناه إنّما يريد اللّه ليعذّبهم في الدنيا بسبي الأولاد و غنيمة الأموال عند تمكّن المسلمين من أخذها فيتحسّرون عليها جزاء على كفرهم.

و رابعها: يعذّبهم بجمعها و الحزن عليها و خروجهم عنها بالموت و كلّ هذا عذاب.

و اللام في قوله «لِيُعَذِّبَهُمْ» بمعنى أن أو لام العاقبة و التقدير إنّما يريد اللّه أن يملي بهم ليعذّبهم و تزهق و يهلك أنفسهم بالموت و هم كافرون. و الإرادة تعلّقت بالزهوق لا بالكفر و هذا كما تقول: أريد أن أضربه و هو عاص، فالإرادة تعلّقت بالضرب لا بالعصيان.

قالت الأشاعرة: إنّ اللّه أراد إزهاق أنفسهم مع الكفر و من أراد ذلك فقد أراد الكفر. و أجاب الجبّائي أنّ معنى الآية أنّه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين و هذا لا يقتضي كونه تعالى مريدا للكفر، ألا ترى أنّ المريض قد يقول للطبيب: أريد أن تدخل عليّ وقت مرضي؛ فهذه الإرادة لا توجب كونه مريدا للمرض. و قد يقول: السلطان

ص: 147


1- النمل: 28.

لعسكره: اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب. و هذا لا يدلّ على كون السلطان مريدا لذلك الحرب فكذا هاهنا.

و بالجملة منع اللّه المؤمنين الإعجاب بكثرة الأموال و الأولاد من المنافقين و المقصود الزجر عن الارتكان إلى الدنيا و التهالك في حبّها.

قال صلى اللّه عليه و آله: من كثر ماله اشتدّ حسابه، و من ازداد من السلطان قربا ازداد من اللّه بعدا.

و قال صلى اللّه عليه و آله: مالك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأمضيت.

و الموجودات بحسب القسمة العقليّة على أربعة أقسام:

الاول: أن يكون أزليّا أبديّا و هو اللّه جلّ جلاله.

و الثاني: الّذي لا يكون أزليّا و لا أبديّا و هو الدنيا.

و الثالث: الّذي يكون أزليّا و لا يكون أبديّا و هذا محال الوجود؛ لأنّه ثبت بالدليل أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

و الرابع: الّذي يكون أبديّا و لا يكون أزليّا و هو جميع المكلّفين و الآخرة؛ لأنّ الآخرة لها أوّل و ليس لها آخر و كذلك المكلّف سواء كان مطيعا أو عاصيا فلحياته أوّل و لا آخر له.

و إذا ثبت هذا ثبت أنّ المناسبة بين الإنسان المكلّف و بين الآخرة أشدّ من المناسبة بينه و بين الدنيا؛ و يظهر من هذا أنّه خلق للآخرة لا للدنيا فينبغي أن لا يشتدّ إعجابه و سروره بالدنيا و أن لا يميل قلبه إليها؛ فإنّ المسكن الدائميّ الأصليّ له الآخرة.

ثمّ إنّ الإنسان إذا عظم حبّه بالأموال و الأولاد فإمّا أن تبقى له هذه إلى آخر عمره أو لا تبقى و تهلك؛ فإن كان الأوّل فعند الموت يعظم حسرته لأنّ مفارقة المحبوب شديدة و إن كان الثاني و هو أن تهلك و تبطل حال الحياة عظم أسفه عليها و اشتدّ ألم قلبه؛ فثبت أنّ الإنسان إذا عظم حبّه بالأموال حصل له العذاب في الدنيا أيضا. على أنّ الدنيا حلوة خضرة و النفس مائلة إليها يستلذّ منها فكلّما كثرت استغرقت النفس فيها و اشتغلت بها؛ فهذا الاشتغال سبب لحرمانه عن ذكر اللّه و طاعته، و يحصل في قلبه قسوة و

ص: 148

غفلة فصار ذلك سببا قويّا في زوال حبّ اللّه و الميل إلى الآخرة عن القلب فهذا الإنسان المستغرق عند الموت ينتقل من البستان إلى السجن فيقوى حسرته ثمّ عند الحشر حلالها حساب و حرامها عقاب.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 56 الى 57]

وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ (57)

أي يقسم هؤلاء المنافقون أنهم لمن جملتكم [وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يخافون القتل و الأسر إن لم يظهروا الإسلام [لَوْ يَجِدُونَ حرزا أو حصنا أو غيرانا في الجبال.

و قيل: سراديب أو موضعا يأوون إليه أو نفقا يدخلونها على خلاف رسول اللّه [لَوَلَّوْا] و عدلوا [إِلَيْهِ و أعرضوا عنكم [وَ هُمْ يَجْمَحُونَ و يسرعون في الذهاب إليه فلا تظنّوا موافقتهم إيّاكم عن الحقيقة بل عن الاضطرار.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 58 الى 59]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)

بيان نوع آخر من قبائحهم و هو أنّه كانوا يقولون: يأخذ الرسول صلى اللّه عليه و آله الصدقات من الأغنياء و يؤثر بها من يشاء من أقاربه و أهل مودّته و لا يراعي العدل.

النزول: قال أبو سعيد الخدريّ: بينا يقسّم رسول اللّه مالا من هوازن إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التميميّ، و حرقوص بن زهير أصل الخوارج، فقالا: اعدل يا رسول اللّه. فقال: ويلك و من يعدل إذا لم أعدل؛ فنزلت الآية.

قال الكلبيّ: كان رجل من المنافقين يقال له أبو الجواض قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله:

تزعم أنّ اللّه أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء و المساكين و لم تضعها في رعاة الشاء؟

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لا أبا لك! أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا؟ فلمّا ذهب قال صلى اللّه عليه و آله: احذروا هذا و أصحابه فإنّهم منافقون و صار حرقوص رئيس الخوارج. و لمّا قال لرسول اللّه: اعدل يا رسول اللّه قال بعض الصحابة للنبيّ صلى اللّه عليه و آله: ائذن لي أن أضرب عنقه.

فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله: دعه فإنّ له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صومه مع

ص: 149

صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية آيتهم رجل أسود في إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة و يخرجون على فترة من الناس.

و بالجملة [وَ مِنْهُمْ من هؤلاء المنافقين من يعيبك يا محمّد و يطعن عليك في قسمة الصدقات [فَإِنْ أُعْطُوا] من تلك الصدقات أقرّوا بالعدل و [رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها] يغضبون.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أهل هذه الآية ثلثا الناس.

[وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ لكان خيرا لهم. و جواب «لو» محذوف، و حذف الجواب في مثل هذه المواضع أبلغ. و الهمّاز و اللمّاز أوعده اللّه الويل.

فتأمّل في حسن ترتيب الآية من بيان مراتب العبوديّة و درجاتها: أوّلها الرضا بما قسم لهم لأنّه حكيم في مصالحه. و ثانيها إظهار باللسان بقولهم حسبنا اللّه. و ثالثها الاعتماد و الوثوق و اليقين بمواعيد اللّه في الآخرة و هي أولى و أفضل. و رابعها أن يقول:

«إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ» أي نحن لا نطلب من الإيمان و الطاعة أخذ الأموال و إنّما نطلب الاستغراق في العبوديّة لأنّه قال: «إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ» و لم يقل: إنّا إلى ثواب اللّه راغبون.

روي أنّ عيسى عليه السّلام مرّ بقوم يذكرون اللّه فقال عيسى عليه السّلام ما الّذي يحملكم على الذكر؟ قالوا: الخوف من عقاب اللّه، فقال: أصبتم. ثمّ مرّ على قوم آخرين يذكرون اللّه فقال: ما الّذي حملكم عليه؟ فقالوا: الرغبة في ثواب اللّه فقال: أصبتم. ثمّ مرّ على قوم آخرين فسألهم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب و لا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلّة العبوديّة و عزّة الربوبيّة و تشريف القلب بمعرفته، فقال: عيسى عليه السّلام أنتم المحقّون المحقّقون.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 60]

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

لمّا لمزوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في الصدقات شرح اللّه لهم مصارف الصدقات و المراد من الصدقات في الآية الزكاة المفروضة أي ليست إلّا لهؤلاء القوم.

قيل: الفرق بين «الفقير» و «المسكين» أنّ الفقير هو المتعفّف الّذي لا يسأل، و المسكين الّذي يسأل.

ص: 150

و قيل: بالعكس. و جاء في الحديث ما يدلّ على القول الثاني؛ فقد روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: ليس المسكين الّذي يرده الاكلة و الاكلتان و التمرة و التمرتان، و لكنّ المسكين الّذي لا يجد غنيّا فيغنيه و لا يسأل الناس شيئا و لا يفطن منه فيتصدّق عليه.

و قيل: الفقير هو الزمن المحتاج و المسكين هو الصحيح المحتاج.

و قيل: إنّ الفقير هو الّذي أسوأ حالا من المسكين؛ فإنّ الفقير هو الّذي لا شي ء له و المسكين الّذي له بلغة من العيش لا يكفيه؛ محتجّين بهذه الآية و هي «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ» (1) و بأنّ الفقر مشتقّ من فقار الظهر فكأنّ الحاجة و الاضطرار قد كسرت فقار ظهره.

و يمكن أنّهما صنف واحد و إنّما ذكر الصنفين تأكيدا للأمر.

[وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها] و المراد سعاة الزكاة و جباتها [وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ و كان هؤلاء قوما من الأشراف في زمن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و كان يعطيهم سهما من الزكاة ليألفهم على الإسلام و يستعين بهم على قتال العدوّ.

ثمّ اختلف في هذا السهم هل هو ثابت أم لا؟ فقيل: هو ثابت في كلّ زمان و اختاره الجبّائيّ و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام إلّا أنّه قال: من شرطه أن يكون إمام عادل يتألّفهم على ذلك. و قيل: إنّ ذلك كان خاصّا بزمن النبيّ صلى اللّه عليه و آله، ثمّ سقط بعده لأنّ اللّه أعزّ الإسلام.

[وَ فِي الرِّقابِ أي و في فكّ الرقاب بالعتق و أراد به المكاتبين، و يشمل قوما قد لزمهم كفّارات في قتل الخطاء و في الظهار و قتل الصيد في الحرم و في الأيمان و ليس لهم ما يكفّرون و هم مؤمنون فجعل اللّه لهم سهما في الصدقات ليكفّر عنهم و يفكّون رقابهم من الرقّيّة و من الكفّارات.

[وَ الْغارِمِينَ و هم قوم ركبهم الدين و أنفقوها في طاعة اللّه من غير إسراف و معصية فيجب على الإمام أن يقضي ذلك من الصدقات.

[وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هو الجهاد و يدخل فيه عند أصحابنا جميع مصالح المسلمين

ص: 151


1- الكهف: 78.

كالمساجد و أمثالها أو قوم من المسلمين ليس عندهم ما يحجّون به أو في جميع سبل الخير، فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصدقات حتّى يتقوّون به.

[وَ ابْنِ السَّبِيلِ أبناء الطريق الّذين يكونون في الأسفار في طاعة اللّه فيذهب مالهم و يقطع عليهم، فعلى الإمام أن يعطيهم و يردّهم إلى أوطانهم من مال الصدقات. و الصدقات تنقسم ثمانية أجزاء فيعطى كلّ إنسان من هذه الثمانية على قدر ما يحتاجون إليه بلا سرف و لا تقتير.

و الحكمة في إيجاب الزكاة امور بعضها مصالح عائدة إلى معطي الزكاة و بعضها عائدة إلى آخذها.

أمّا الراجعة إلى المعطي أنّ المال محبوب بالطبع و أنّ القدرة صفة محبوبة لذاتها لأنّه لا يمكن أن يقال: إنّ كلّ شي ء فهو محبوب لمعنى آخر و إلّا لزم إمّا الدور أو التسلسل و هما محالان فوجب في الأشياء المحبوبة الانتهاء إلى ما يكون محبوبا لذاته، و أنّ القدرة و الكمال صفة محبوبة لذاتها كما أنّ النقصان مكروه لذاته فهذه المحبوبيّة يوجب الاستغراق في الدنيا و يذهل النفس عن التأهّب للآخرة و عن حبّ اللّه.

ثمّ إنّ النفس الناطقة لها قوّتان نظريّة و عمليّة فالنظريّة كمالها في التعظيم لأمر اللّه و العمليّة كمالها الشفقة على خلق اللّه فبالزكاة يحصل لجوهر الروح هذا الكمال و هو اتّصافه بكونه محسنا إلى الخلق فيتخلّق بأخلاق اللّه.

ثمّ إنّ الناس إذا علموا أنّه ساع في إيصال الخير إليهم أحبّوه طبعا؛ قال صلى اللّه عليه و آله:

جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها و بغض من أساء إليها. خصوصا إذا كانوا فقراء أمدّوهم بالدعاء و للقلوب آثار و للأرواح. و قد يكون تصير تلك الدعوات سببا لبقاء ذلك الإنسان في الخير و النعمة و إليه الإشارة بقوله «وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» (1) و بقوله عليه السّلام: حصّنوا أموالكم بالزكاة. و لا تغفل عن دعاء الخير؛ فقد قيل:

سهام أيدي القانتين في السحرأنفذ في الأحشاء من و خز الإبر

ثمّ أمر اللّه بالزكاة مقصوده أنّه يحصل للمزكّي حالة اخرى و هي أنّه كان له الاستغناء بالشي ء فبعد الأداء صار له حالة الاستغناء عن الشي ء، و هذا المقام أعلى و أشرف.

ص: 152


1- الرعد: 18.

و المال إذا أنفقه الإنسان في وجوه الصلاح و البرّ بقي بقاء لا يمكن زواله، بخلاف ما إذا بقي في يده كالمشرف على الهلاك و التلف لأنّه على كلّ حال لا يحمل معه إلى قبره و إذا أنفقه في طلب الرضوان فقد ذهب به إلى يوم القيامة و نفع المال يكون لذلك اليوم.

ثمّ إنّ شكر النعمة عبارة عن صرف النعمة إلى رضاء المنعم و مرضاته على أنّه إذا فضل المال عن قدر الحاجة و حضور إنسان آخر محتاج فحينئذ للمالك سلطة و له حقّ لأنّه سعى في تحصيله و اكتسابه و للفقير حقّ لاحتياجه فاقتضت الحكمة الإلهيّة إبقاء الأكثر للمالك و المكتسب و اليسير منه للفقير و هو الزكاة، و معلوم أنّ المال الفاضل عن الحاجات الأصليّة إذا أمسكه الإنسان و حبسه في بيته بقي المال معطّلا عن المقصود الّذي لأجله خلق، و ذلك منع عن ظهور حكمة اللّه و هو غير جائز.

ثمّ إنّ الفقراء عيال اللّه لقوله: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ (فِي الْأَرْضِ) إِلَّا عَلَى (اللَّهِ) رِزْقُها» (1) و الأغنياء خزّان اللّه لأنّ الأموال الّتي في أيديهم أموال اللّه و لو لا أنّ اللّه ألقاها في أيديهم ما ملكوا حبّة فكم عاقل يسعى و لا يملئ بطنه طعاما و كم أبله جلف تأتيه الدنيا صفوا و صحيح أنّ الملك أن يقول لخازنه اصرف شيئا من الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي. و المال إذا كان بالكلّيّة في يد الغنيّ مع أنّه غير محتاج إليه، و إهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم فوجب على الغنيّ صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير.

ثمّ إنّ الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح الفقراء ربّما حملهم شدّة الحاجة على الالتحاق بأعداء المسلمين أو الإقدام على الأفعال القبيحة كالسرقة و غيرها فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفوائد.

قال صلى اللّه عليه و آله: الإيمان نصفان صبر و شكر، فالمال محبوب بالطبع فوجدانه يوجب الشكر و فقدانه يوجب الصبر فأعطيتك أيّها الغنيّ المال و النعمة فإن شكرت و صرفت النعمة في رضاي فصرت من الشاكرين، و بسبب فقدان بعض مالك في أداء الزكاة فصبرت على فقده فصرت من الصابرين، و أما أنت أيّها الفقير ما أعطيتك المال فصبرت فصرت من الصابرين و حكمت على الغنيّ أن يصرف إليك طائفة من ذلك و أدخلته في ملكك و ارتفعت حاجتك

ص: 153


1- هود: 7.

و فاقتك فشكرتني فصرت من الشاكرين. فكان إيجاب الزكاة موجبا لصلاح المكلّفين من الطائفتين لتتّصفوا بصفة الصبر و الشكر و إن كان الغنيّ قد أنعم على الفقير بهذا الدينار فقد أنعم الفقير على الغنيّ بأن خلّصه بهذا الدينار عن عذاب النار، فهذه وجوه في بيان حكمة الزكاة بعضها يقينيّة و بعضها إقناعيّة.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 61]

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)

النزول: بيان نوع آخر من جهالات المنافقين كانوا يطعنون النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه اذن أي يقبل كلّما يقال له و يصدّق و «اذن خير» مرفوعين قرئ، و قرئ بالإضافة إلى «خير» أي هو اذن خير لا اذن شرّ. قال ابن عبّاس: إنّ جماعة من المنافقين ذكروا النبيّ صلى اللّه عليه و آله بما لا ينبغي من القول فقال بعضهم: لا تقولوا فإنّا نخاف أن يبلغه ما نقول. فقال الجلاس بن سويد: بل نقول ما نشاء، ثمّ نذهب إليه و نحلف أنّا ما قلنا فيقبل قولنا و إنّما محمّد اذن سامعة. فنزلت الآية و قيل: إنّ المنافقين كانوا يقولون: ما هذا الرجل إلّا اذن من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له.

قوله: [وَ رَحْمَةٌ] فمن رفع «رحمة» كان المعنى: هو اذن خير و رحمة و أمّا الجرّ في «رحمة» فعلى العطف على «خير» فإن قيل: هلّا استغني بشمول الخير الرحمة؛ فالقول منه تخصيص الرحمة بالذكر كقوله تعالى «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» (1) ثمّ خصّ خلق الإنسان و إن كان قوله: «خلق» يعمّ الإنسان و غيره فكذلك الرحمة.

و بالجملة المعنى أنّ بعض المنافقين يؤذون النبيّ و الاذن هاهنا بالقول، يقولون:

هو يستمع إلى ما يقولون له و يصغي إليه و يقبله.

[قُلْ يا محمّد: هو [أُذُنُ خَيْرٍ] أي يستمع إلى ما هو [خَيْرٍ لَكُمْ و هو الوحى و قيل: المراد هو يسمع الخير و يعمل به، و من قرأ بعدم الإضافة فمعناه قل: كونه إذنا أصلح لكم لأنّه يقبل

ص: 154


1- العلق: 1.

عذركم و يستمع إليكم و لو لم يقبل عذركم لكان شرّا لكم فكيف تعيبونه بما هو خير لكم؟

[يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ و عدّي الإيمان إلى اللّه بالباء و إلى المؤمنين باللام لأنّ المراد بإيمان اللّه التصديق الّذي هو نقيض الكفر، و الإيمان المعدّى باللام معناه التسليم و التصديق كقوله: «فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ» (1) و قوله تعالى:

«وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا» (2) و قوله: «أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» (3).

[وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ معناه أنّ هذا النبيّ الّذي تعيبون عليه بأنّه اذن، هذه الصفة صفة مدح لوجوه:

الاول هو اذن الخير، و بيّن الخيريّة أنّه يؤمن باللّه و كلّ من آمن باللّه هو خائف من اللّه و لا يقدم على الإيذاء بالباطل و يتسلّم للمؤمنين قولهم إذا توافقوا على الصلاح، فيقبل قولهم.

و الثاني أنّه رحمة للّذين آمنوا و هذا أيضا يوجب الخيريّة لأنّه يجري أمركم على الظاهر و لا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم و لا يسعى في هتك أستاركم. و أمّا على قراءة التنوين أي اذن سامعة واعية خير لكم من أن لا يكون كذلك و رحمة لكم لأنّ من آمن باللّه بسبب هدايته إيّاكم خير لكم. و الّذين يؤذونه صلى اللّه عليه و آله [لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 62]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

بيّن قباحة أفعال المنافقين بأنّهم يقدمون على الأيمان الكاذبة. نزلت في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك فلمّا رجع النبيّ صلى اللّه عليه و آله أتوه و اعتذروا و حلفوا ليرضوا المؤمنين بيمينهم الكاذبة بأنّ الّذي بلغكم عنّا باطل، فاللّه يخبر بأنّ هذه الاعتذار منهم لطلب رضى الناس و اللّه أحقّ أن يرضوه و رسوله أحقّ أن يرضوه و حذف لدلالة الكلام

ص: 155


1- يونس: 83.
2- يوسف: 17.
3- الشعراء: 111.

عليه كقول الشاعر:

نحن بما عندنا و أنت بماعندك راض و الرأي مختلف

و المعنى نحن بما عندنا راضون.

ثمّ قال سبحانه: على وجه التقريع لهم قوله سبحانه تعالى:

[سورة التوبة (9): آية 63]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)

أي و ما علموا أنّ من يجاوز حدود اللّه الّتي أمر اللّه المكلّفين أن لا يتجاوزوها فإنّ للمتجاوز خلود النار و ذلك الخلود هو الخزي العظيم و الهوان و الذلّ الشديد.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 64]

يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)

النزول: قال الحسن: اجتمع اثنا عشر رجلا من المنافقين على أمر من النفاق فأخبر جبرئيل بأسمائهم فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّ أناسا اجتمعوا على كيت و كيت فيقرموا و ليستغفروا حتّى أشفع لهم فلم يقوموا فقال صلى اللّه عليه و آله: بعد ذلك: قم يا فلان و يا فلان حتّى أتى على آخرهم فقالوا: نعترف و نستغفر فقال صلى اللّه عليه و آله: أنا كنت أوّل الأمر أطيب نفسا بالشفاعة و اللّه كان أسرع في الإجابة و أمّا الآن فلا، اخرجوا عنّي اخرجوا عنّي فلم يزل يقول حتّى خرجوا بالكلّيّة.

و قيل: إنّ سبب النزول أنّ عند رجوع النبيّ صلى اللّه عليه و آله من تبوك وقف على العقبة اثنا عشر رجلا ليفتكوا به فأخبره جبرئيل و كانوا متلثّمين في ليلة مظلمة و أمره أن يرسل صلى اللّه عليه و آله إليهم من يضرب وجوه رواحلهم؛ فأمر صلى اللّه عليه و آله حذيفة بذلك فضربها حتّى نحّاهم، ثمّ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله لحذيفة: من عرفت من القوم؟ فقال: لم أعرف منهم أحدا فذكر صلى اللّه عليه و آله أسماءهم و عددهم له، و قال: إنّ جبرئيل أخبرني بذلك فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم ليقتلوا فقال: أكره أن تقول العرب: قاتل محمّد بأصحابه حتّى إذا ظفر صار يقتلهم بل يكفينا اللّه ذلك.

فإن قيل: المنافق كافر و الكافر كيف يحذر نزول الوحي على الرسول؟

فالجواب أنّ القوم و إن كانوا كافرين بدين الرسول إلّا أنّهم لمّا شاهدوا مرارا أنّ

ص: 156

الرسول يخبرهم بما يضمرونه فلهذه التجربة كانوا يخافون و يحذرون و بعضهم كانوا شاكّين في صحّة نبوّته صلى اللّه عليه و آله و ما كانوا قاطعين بفسادها، و الشاكّ خائف لا محالة.

روي عن أبي عبد اللّه الصادق صلوات اللّه عليه و على آبائه أنّهم ائتمروا بينهم ليقتلوه، و قال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنّا كنّا نخوض و نلعب و إن لم يفطن نقتله.

[سورة التوبة (9): الآيات 65 الى 66]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)

النزول: قيل: إنّ جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يظنّ هذا الرجل أن يفتح قصور الشام هيهات هيهات فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، فقال صلى اللّه عليه و آله: احبسوا عليّ الركب فدعاهم فقال لهم قلتم كذا و كذا؟ فقالوا: كنّا نخوض و نلعب و حلفوا على ذلك فنزلت الآية.

و قيل: كان عند منصرفه عن غزوة تبوك إلى المدينة بين يديه أربعة نفر ثلاثة يستهزئون و يتحدّثون و يضحكون، و واحدهم يضحك و لا يتكلّم فنزل جبرئيل و أخبر رسول اللّه فدعا عمّار و قال: إنّ هؤلاء يستهزئون بي و بالقرآن أخبرني جبرئيل و لئن سألتهم ليقولنّ كنّا نتحدّث بحديث الركب فأتبعهم عمّار و قال لهم: لم تضحكون؟ قالوا: نتحدّث بحديث الركب فقال عمّار: صدق اللّه و رسوله.

أي إذا سألتهم عن طعنهم في الدين و استهزائهم بالنبيّ و بالمسلمين يقسمون و يحلفون إنّا كنّا نخوض خوض الركب في الطريق لا على طريق الجدّ و لكن على طريق اللعب و اللهو، قل يا محمّد: أ بآياته و حججه و كتابه [كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا] بالمعاذير الكاذبة فإنّكم بما فعلتموه [قَدْ كَفَرْتُمْ بعد أن كنتم مظهرين للإيمان.

[إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ] عن قوم منهم إذا تابوا [نُعَذِّبْ طائِفَةً] اخرى لم يتوبوا و أقاموا على النفاق و «الطائفة» اسم للجماعة لأنّه اسم لما تطيف و تحيط بغيره، و روي أنّ هاتين الطائفتين كانوا ثلاثة فهزأ اثنان و ضحك واحد و هو الّذي تاب من نفاقه، و اسمه محشّى بن حمير فعفى اللّه عنه. و قد يسمّى الواحد طائفة على معنى أنّها نفس طائفة.

ص: 157

قوله: [تَسْتَهْزِؤُنَ المراد الاستهزاء بتكاليف اللّه أو بذكر اللّه أو بقدرة اللّه كما هو عادة بعض الجهلة و الملاحدة.

و المراد من الاعتذار محو الذنوب من قولهم: اعتذرت المنازل إذا درست، يقال:

مررت بمنزل معتذر أي مندرس. أخذ هذا المعنى بهذه المناسبة لأنّ المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه.

و قيل: الاعتذار القطع و منه يقال للقلفة عذرة لأنّها تقطع. و عذرة الجارية من هذا المعنى لأنّها تقطع، فالعذر لمّا صار سببا لقطع اللوم سمّي عذرا.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 67 الى 68]

الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68)

المعنى: المنافقون و المنافقات بعضهم من جملة بعضهم، و بعضهم مربوط ببعضهم في الاجتماع على النفاق و الشرك كقولك: أنا من فلان و فلان منّي أي أمرنا واحد و كلمتنا واحدة. أو بعضهم على دين بعض ذكورهم كإناثهم في العقيدة الخبيثة.

[يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ] و لفظ المنكر يدخل فيه كلّ قبيح إلّا أنّ هاهنا المراد تكذيب الرسول [وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ و يدخل فيه كلّ حسن إلّا أنّ المراد هاهنا الإيمان بالرسول [وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ من كلّ خير واجب من زكاة و صدقة و إنفاق في سبيل اللّه و الغرض تخلّفهم عن الجهاد.

[نَسُوا] طاعة [اللَّهَ فترك رحمته لهم و جعلوا اللّه كالمنسيّ حيث لم يطيعوه فجعلهم اللّه في حكم المنسيّ عن الثواب، و ذكر ذلك لازدواج الكلام و إلّا فالنسيان لا يجوز عليه سبحانه على سبيل الحقيقة.

ثمّ أخبر سبحانه بأنّ المنافقين خارجون عن الإيمان و هم المتمردّون الفاسقون و وعد الّذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر و هم المنافقون و الكفّار نار جهنّم.

و إنّما فصّل النفاق من الكفر و إن كان النفاق هو الكفر؟ ليتبيّن الوعيد على كلّ

ص: 158

واحد من الصنفين [خالِدِينَ و دائمين فيها و حسبهم العقاب فيها كفاية ذنوبهم أي على قدر فعلهم عقوبتهم و أبعدهم من رحمته و خيره [وَ لَهُمْ عَذابٌ لا يزول عنهم.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 69]

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)

قوله: «كَالَّذِينَ» هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب للالتفات أي فعلتم كأفعال الّذين من قبلكم. شبّه المنافقين بالكفّار الّذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر و القبائح مع أنبيائهم.

ثمّ قال سبحانه: أولئك الكفّار [كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ (أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ) أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا] في الدنيا ثمّ بادوا و هلكوا و انقلبوا إلى عذاب الدائم، فاستمتعوا أولئك بنصيبهم و حظّهم من الدنيا بأن صرفوها في شهواتهم المحرّمة و فيما نهاهم اللّه.

فأنتم أيضا استمتعتم بحظّكم من الدنيا و خضتم في الكفر و الاستهزاء كما خاض الأوّلون.

[أُولئِكَ الذين هم كذلك أعمالهم محبوطة، أي كما أنّ المؤمنين يثابون بأعمال الخير من البرّ و الإنفاق و صلة الرحم هؤلاء ليسوا كذلك؛ لأنّ الكفر يحبط العمل و لا فائده لهم بها في الآخرة و لهم الخسران.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال في هذه الآية: ما أشبه الليلة بالبارحة كالّذين من قبلكم هؤلاء بنو إسرائيل شبّهنا بهم لا أعلم إلّا أنّه قال: و الّذي نفسي بيده لتتّبعنّهم حتّى لو دخل الرجل منهم جحر ضبّ لدخلتموه.

و روي مثل ذلك عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: لتأخذنّ كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع و شبرا بشبر و باعا بباع حتّى لو أنّ أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول اللّه: كما صنعت فارس و الروم و أهل الكتاب قال: فهل الناس إلّا هم؟

ص: 159

و قال عبد اللّه بن مسعود: أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل تتّبعون عملهم حذو القذّة بالقذّة غير أنّي لا أدري أ تعبدون العجل أم لا؟

قوله: [سورة التوبة (9): آية 70]

أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ وَ الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

المعنى: ألم يأت هؤلاء المنافقين الموصوفين أخبار الكفّار الّذين كانوا قبلهم الطوائف الستّة الّذين خالفوا أنبياءهم و عذّبهم اللّه بطرق العذاب.

فأوّلهم: قوم نوح، و اللّه أهلكهم بالإغراق.

و ثانيهم: عاد، و اللّه أهلكهم بإرسال الريح العقيم عليهم.

و ثالثهم: ثمود، و اللّه أهلكهم بإرسال الصيحة و الصاعقة.

و رابعهم: قوم إبراهيم، و اللّه أهلكهم بسلب النعمة عنهم، و سلّط اللّه البعوضة على دماغ نمرود.

و خامسهم: قوم شعيب و هم أصحاب مدين، و اللّه أهلكهم بعذاب يوم الظلّة.

و سادسهم: قوم لوط أهل المؤتفكات، أهلكهم اللّه بأنّ جعل عالي أرضهم سافلها. و معنى «الائتفاك»: الانقلاب، و تلك القرى انقلبت. و «المؤتفكات» صفة القرى [أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالدلائل الواضحة.

و قوله: «أَ لَمْ يَأْتِهِمْ» و إن كان بصيغة الاستفهام إلّا أنّ المراد التقرير. و ما كان عذابهم ظلما من اللّه بل باستحقاقهم.

[سورة التوبة (9): آية 71]

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)

لمّا وصف حال الكفّار و عذابهم شرع في وصف المؤمنين و ما أعدّ لهم من الثواب و النعيم أي كما أنّ المنافقين و المنافقات بعضهم من جنس بعض كذلك المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض.

ص: 160

و هذا البيان اتّصال النقيض بالنقيض أي يتولّون بعضهم بعضا و يلتزم كلّ واحد منهم نصرة صاحبه.

[يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي ما أوجب اللّه فعله عليهم [وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ] و هو ما نهى اللّه عن فعله. و يداومون على فعل الصلاة و إخراج الزكاة و يمتثلون أوامر اللّه [أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ أي الّذين هذه صفتهم سيرحمهم اللّه في الآخرة [إِنَّ اللَّهَ قادر على الرحمة و العذاب.

[سورة التوبة (9): آية 72]

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

لمّا ذكر اللّه الوعد في الآية السابقة على سبيل الإجمال ذكر في هذه الآية على سبيل التفصيل أي إنّ تلك الرحمة أشياء:

أولها: [جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] أراد بها البساتين الّتي يتناولها المناظر لأنّه قال بعده: «وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» فحينئذ تكون منازلهم في جنّات عدن و مناظرهم الجنّات الّتي هي البساتين بدليل تغاير العطف. و قد كثر الكلام في صفة [جَنَّاتِ عَدْنٍ .

و سأل عمران بن الحصين و أبو هريرة عن رسول اللّه عن قوله: [وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً].

قال صلى اللّه عليه و آله: قصر في الجنّة من اللؤلؤ فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء في كلّ بيت سبعون سريرا على كلّ سرير سبعون فراشا على كلّ فراش زوجة من الحور العين في كلّ بيت سبعون مائدة على كلّ مائدة سبعون لونا من الطعام و في كلّ بيت سبعون و صيفة، يعطى المؤمن من القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع. و عن ابن عبّاس أنّها دار الّتي لم ترها عين و لم تخطر على قلب بشر. و لعلّ مراده أنّها دار المقرّبين عند اللّه لأنّه كان أعلم من أن يثبت له دارا.

و قال عبد اللّه بن عمر: إنّ في الجنّة قصرا يقال له عدن، حوله البروج و له خمسة آلاف باب، على كلّ باب خمسة آلاف حرّة لا يدخلها إلّا نبيّ أو وصيّ أو صدّيق أو شهيد.

و «العدن» بمعنى الإقامة، و على هذا الاشتقاق و المعنى الجنّات كلّها جنّات عدن و لكنّه

ص: 161

اسم علم لموضع مخصوص.

[وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ] روي أنّه تعالى يقول لأهل الجنّة: هل رضيتم؟ فيقولون:

و ما لنا أن لا نرضى و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: أما أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: و أيّ شي ء أفضل من ذلك؟ قال: احلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا.

فدلالة هذا الحديث أنّ السعادة الروحانيّة أفضل من سعادة الجسمانيّة.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 73]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (73)

الآية تدلّ على أنّ النبيّ مأمور بالجهاد مع الكفّار و المنافقين. و المنافق هو الّذي يظهر الإيمان و يبطن الكفر و متى كان الأمر كذلك لم يجز محاربته.

و ذكروا أقوالا بسبب هذا الإشكال:

فالقول الأوّل أنّ الجهاد مع الكفّار، و تغليظ القول مع المنافقين و هذا بعيد؛ لأنّ ظاهر القول يقتضي الأمر بجهادهما معا و كذا ظاهر قوله: «وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ» راجع إلى الفريقين.

و القول الثاني: قال الرازيّ- و هو الصحيح-: أنّ الجهاد عبارة عن بذل الجهد و ليس في اللفظ ما يدلّ على أنّ ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر. و في المجمع في قراءة أهل البيت: «جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ» لأنّ النبيّ لم يجاهد المنافقين بالسيف و عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: «جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ» هكذا نزلت، فجاهد رسول اللّه الكفّار و جاهد عليّ عليه السّلام المنافقين فجاهد عليّ عليه السّلام جهاد رسول اللّه.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 74]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَ ما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (74)

هذه الآية تدلّ على أنّ أقواما من المنافقين قالوا كلمات فاسدة.

ثمّ لمّا قيل لهم: إنّكم ذكرتم هذه الكلمات حلفوا أنّهم ما قالوا.

و المفسّرون ذكروا في أسباب النزول وجوها:

ص: 162

قيل: إنّ رسول اللّه كان جالسا في ظلّ حجرة فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان فلم يلبثوا أن جاء رجل أزرق فدعاه رسول اللّه، فقال: علام تشتمني أنت و أصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا باللّه ما قالوا: فأنزل اللّه الآية، عن ابن عبّاس.

و قيل: خرج المنافقون مع رسول اللّه إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول اللّه و أصحابه و طعنوا في الدين فنقل ذلك حذيفة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فقال لهم:

ما هذا الّذي بلغني عنكم؟ فحلفوا باللّه ما قالوا شيئا من ذلك، عن الضحّاك.

و قيل: نزلت في جلاس بن سويد بن الصامت، و ذلك أنّ رسول اللّه خطب ذات يوم بتبوك و ذكر المنافقين فسمّاهم رجسا و عابهم فقال الجلاس: و اللّه لئن كان محمّد صادقا فيما يقول فنحن شرّ من الحمير، فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل و اللّه إنّ محمّدا لصادق و أنتم شرّ من الحمير، فلمّا انصرف النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى المدينة أتاه فأخبره بما قال الجلاس. فقال الجلاس: كذب يا رسول اللّه فأمر هما النبيّ صلى اللّه عليه و آله أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر فحلف باللّه ثمّ قام عامر فحلف باللّه لقد قاله، ثمّ قال: اللّهم أنزل على نبيّك منك الصدق، فقال:

النبيّ و المؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل قبل أن يتفرّقا بهذه الآية حتّى بلغ: [فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ فقام الجلاس فقال: يا رسول اللّه قد عرض عليّ التوبة صدق عامر بن قيس فيما قال لك لقد قلته و أنا أستغفر اللّه و أتوب إليه، فقبل رسول اللّه منه.

و قيل: نزلت في عبد اللّه بن ابيّ بن سلول حين قال: «لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» (1).

و قيل: نزلت في أهل العقبة فإنّهم ائتمروا أن يغتالوا يقتلوا رسول اللّه في عقبة عند مرجعهم من تبوك و قصدوا أن يقطعوا أنساع راحلته، ثمّ ينخّسوا بها فاطّلعه اللّه على ذلك و كان ذلك من جملة معجزاته؛ لأنّه لا يمكن معرفة مثل ذلك إلّا بوحي من اللّه. و بالجملة أظهر اللّه أسرار المنافقين فقال: [يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كاذبين [ما قالُوا] ما حكي عنهم.

ثمّ حقّق عليهم ذلك و أقسم بأنّهم قالوا و طعنوا في الإسلام و كفروا بعد إظهار إسلامهم.

ص: 163


1- المنافقون: 8.

[و همّوا بأمر لم ينالوا] الأمر إمّا همّهم بفتك الرسول ليلة العقبة و التنفير لراحلته و إمّا قصدهم بإخراج النبيّ من المدينة أو الفساد و التضريب بين أصحابه.

[وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ أي فعلوا بخلاف ما يقتضي فإنّ إغناءهم يوجب شكر النعمة و أنّهم قابلوا الشكر بالكفران و النقمة فإنّه قبل ذلك كانوا في ضنك العيش لا يركبون الخيل و لا يحوزون الغنيمة، و بعد قدومه صلى اللّه عليه و آله أخذوا الغنائم و وجدوا الدولة و ذلك يوجب أن يكونوا محبّين له، و هم قابلوا بالنقمة و الفساد و هذا كقول النابغة:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

ثمّ قال: [فَإِنْ يَتُوبُوا] هؤلاء المنافقون خير لهم و إن يعرضوا عن الحقّ يعذّبهم اللّه عذابا أليما و ليس لهم وليّ و لا ناصر.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 75 الى 78]

وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)

و من المنافقين من عاهد اللّه. نزلت في ثعلبة بن خاطب قال لرسول اللّه: يا رسول اللّه ادع اللّه أن يرزقني مالا فقال صلى اللّه عليه و آله: يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه. فراجعه و قال: و الّذي بعثك بالحقّ لئن رزقني اللّه مالا لأعطينّ كلّ ذي حقّ حقّه.

فدعا له فاتّخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود حتّى ضاقت بها المدينة فنزل واديا بها فجعل يصلّي الظهر و العصر و يترك ما سواهما، ثمّ نمت و كثرت حتّى ترك الصلاة إلّا الجمعة ثمّ ترك الجمعة و طفق يسأل الركبان و يتلقّى الركبان عن الأخبار فسأل رسول اللّه عنه فأخبره بخبره فقال: يا ويح ثعلبة فنزل: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً» فبعث إليه برجلين و قال: مرّا بثعلبة و خذا صدقاته فعند ذلك قال ثعلبة لهما: ما هذه إلّا جزية أو اخت الجزية و لم يدفع الصدقة، فأنزل اللّه هذه الآية.

فقيل له: قد أنزل اللّه فيك كذا و كذا فأتى رسول اللّه و سأله أن يقبل صدقته فقال صلى اللّه عليه و آله:

ص: 164

إنّ اللّه منعني من قبول صدقتك فحثا التراب على رأسه فقال صلى اللّه عليه و آله: قد قلت لك فما أطعتني فرجع إلى منزله و قبض رسول اللّه.

و قيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام و أبطأ عليه و جهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن آتاه اللّه ذلك المال ليصّدّقنّ فآتاه اللّه ذلك و لم يفعل.

و «المعاهدة» أن تقول: عليّ عهد اللّه لأفعلنّ كذا أو عاهدت اللّه لأفعلنّ كذا فإنّه بذلك قد عقد على نفسه وجوب ما ذكره و قصده.

قوله: [فَلَمَّا آتاهُمْ و أعطاهم اللّه ما اقترحوه [بَخِلُوا بِهِ أي شحّت نفوسهم عن الوفاء بالعهد [وَ تَوَلَّوْا] عن ما عهدوا [وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن أمر اللّه [فَأَعْقَبَهُمْ و أورثهم بخلهم بما أوجبوا على أنفسهم [نِفاقاً] في قلوبهم فصار البخل سببا لحصول النفاق في قلوبهم بحرمان التوبة [إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي يلقون جزاء البخل و نقض العهد أو يوم يلقون اللّه و هو اليوم الآخر. و هذا إخبار من اللّه أنّ هؤلاء المنافقين يموتون على الكفر بما أخلفوا اللّه ما وعدوه و بتكذيبهم أحكامه.

[أَ لَمْ يَعْلَمُوا] هؤلاء المنافقون [أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يخفون في أنفسهم و ما يتناجون بينهم؟ أي يجب أن يعلموا أنّه عالم بكلّ ما غاب عن علم كلّ عالم.

ثمّ هاهنا مسألة؛ هل من شرط المعاهدة أن يحصل التلفّظ بها باللسان أولا حاجة إلى التلفظ حتّى لو نواه بقلبه فهو داخل في هذا العهد؟ قال جماعة: إنّ أصحاب هذا القول الّذي بالنيّة ينعقد العهد قالوا: إنّ قوله: «وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ» كان شيئا نووه في أنفسهم؛ ألا ترى أنّه تعالى قال: «أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ»؟

و قال المحقّقون: هذه المعاهدة مقيّدة بالتلفّظ و الدليل عليه قوله صلى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه قد عفى عن امّتي ما حدثت به نفوسها و لم يتلفّظوا به. و أيضا فقوله: «وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ» إخبار عن من تكلّمه فهذا القول و ظاهره مشعر بالقول باللسان.

و بالجملة قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ثلاث من كنّ فيه فهو منافق و إن صلّى و صام و زعم أنّه مؤمن: إذا حدّث كذب، و إذا وعد أخلف، و إذا ائتمن خان.

ص: 165

و عنه صلى اللّه عليه و آله قال: تقبّلوا لي ستّا أتقبّل لكم الجنّة: إذا حدّثتم فلا تكذبوا، و إذا وعدتم فلا تخلفوا، و إذا ائتمنتم فلا تخونوا، و كفّوا أبصاركم و أيديكم و فروجكم؛ أبصاركم عن الخيانة و أيديكم عن السرقة و فروجكم عن الزنا.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 79]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)

النزول: قال ابن عبّاس: إنّ رسول اللّه خطبهم ذات يوم و حثّ على الصدقات القوم فجاءه عبد الرحمن بصرّة من دراهم تملأ الكفّ منها، و جاء عاصم بن عديّ الأنصاريّ بسبعين وسق من التمر و جاء علبة بن زيد الحارثيّ بصاع من تمر و قال: آجرت نفسي ليلتي الماضية لرجل لإرسال الماء على نخيله فأخذت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي و أقرضت الآخر ربّي فأمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله بوضعه في الصدقات، فقال المنافقون على وجه الطعن: ما جاءوا بصدقاتهم إلّا رياء و سمعة و أمّا أبو عقيل فقد جاء بصاعه لتذكر مع سائر الأكابر؛ فعيّبوا على المكثر بالرياء و على المقلّ بالقلّة و قالوا: إنّ اللّه غنيّ عن صاعه فنزلت هذه الآية أي إنّ المنافقين الّذين يعيبون على المطّوّعين المتنفّلين لطاعة اللّه و مرضاته و يعيبون على فقرائهم مثل أبي عقيل الّذي جهده إتيان صاع من تمر و يسخرون منهم بهذا الفعل أولئك قوم اللّه يسخر بهم [وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .

قوله: [سورة التوبة (9): آية 80]

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)

قال ابن عبّاس: إنّ عند نزول آية «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ إلخ» في حقّ المنافقين قالوا:

يا رسول اللّه استغفر لنا فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: سأستغفر لكم و عزم بالاستغفار لهم فنزلت فترك صلى اللّه عليه و آله الاستغفار.

الصيغة صيغة الأمر و المراد به الإخبار في مبالغة الإياس من المغفرة أي لو طلبت الاستغفار أو تركته سواء في أنّ اللّه لا يقبلها [إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً] المراد بالسبعين مرّة المبالغة لا العدد المخصوص كقول القائل: لو تقول لي ألف مرّة ما قبلت منك، و جاء في كلام العرب المبالغة في عدد

ص: 166

السبع و السبعين، و لهذا قيل: للأسد السبع لأنّهم تأوّلوا منه لقوّته أنّه ضوعفت له سبع مرّات، و أمّا ما روي أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: و اللّه لأزيد على السبعين فإنّه خبر واحد لا يعوّل عليه.

و يحتمل أن يكون النبيّ صلى اللّه عليه و آله يرجو أن يكون لهم لطف يصلحون به فعزم على الاستغفار لهم فلمّا نزلت الآية عرف أنّه ليس لهم لطف و ترك العزم.

و يحتمل أن يكون قد استغفر لهم قبل أن يخبر بأنّ الكافر لا يغفر له أو قبل أن يمنع منه و يجوز أن يكون استغفاره لهم واقعا بشرط التوبة عن الكفر، فمنعه اللّه منه و أخبره بأنّهم لا يؤمنون أبدا فلا فائدة في الاستغفار لهم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ حرمان المغفرة لهم بكفرهم باللّه و رسوله [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ .

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 81 الى 83]

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)

بيان نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين أخبر سبحانه أنّ جماعة منهم الّذين خلّفهم رسول اللّه و لم يخرجهم معه إلى تبوك لمّا استأذنوه في التأخير و القعود فأذن لهم فرحوا بقعودهم عن الجهاد خلاف رسول اللّه أي بعده. و قيل: معناه لمخالفتهم الرسول [وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا للمسلمين لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ] و مقصودهم صدّ المسلمين عن الغزو و كانوا يقولون للمسلمين: لا تخرجوا إلى الغزو سراعا في هذا الحرّ [قُلْ لهم يا محمّد: [نارُ جَهَنَّمَ الّتي وجبت لهم بالتخلّف عن الرسول و أمر اللّه [أَشَدُّ حَرًّا] من هذا الحرّ فهي أولى بالاحتراز، إذ لا يعتد بهذا الحرّ بالنسبة إلى ذلك الحرّ [لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ وعيد اللّه و وعده.

ص: 167

فلو قيل: إنّ هؤلاء المنافقين كانوا متخلّفين لأنّهم احتالوا في التخلّف فكان الأولى أن يقال: فرح المتخلّفون؛ و أجابوا بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله منع أقواما من الخروج معه لعلمه بأنّهم يشوّشون و يفسدون فحينئذ كانوا مخلّفين لا متخلّفين. ثمّ هؤلاء المتخلّفين صاروا مخلّفين في الآية الآتية و هي قوله: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا» فلمّا منعهم اللّه من الخروج معه صاروا بسبب المنع مخلّفين.

و قوله: «بِمَقْعَدِهِمْ» قال ابن عبّاس: يريد المدينة فعلى هذا «المقعد» اسم للمكان، و قال غيره: بمقعدهم أي بقعودهم و على هذا اسم للمصدر «و خلاف» قيل: معناه خلف أي بعد «رسول اللّه» و على هذا الخلاف اسم للجهة المعيّنة كالخلف الّذي يقابل القدّام في المعنى، و أنّ الإنسان متوجّه إلى قدّامه فجهة خلفه مخالف لجهة قدّامه في كونها جهة متوجّها إليها.

قوله: [فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً] هذا تهديد لهم في صورة الأمر أي فليضحك هؤلاء المنافقون في الدنيا قليلا؛ لأنّ ذلك يفنى و إن دام إلى الموت و ليبكوا كثيرا في الآخرة لأنّ ذلك يوم مقداره خمسين ألف سنة و هم فيه يبكون فصار بكاؤهم كثيرا جزاء بما كسبوا من النفاق و الكفر و التخلّف عن الجهاد.

قال ابن عبّاس: إنّ أهل النفاق في النار عمر الدنيا فلا يرقى لهم دمع و لا يكتحلون بنوم.

و روى أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا.

قوله تعالى: [فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ يا محمّد و ردّك من غزوتك هذه أي غزوة تبوك إلى طائفة منهم أي من هؤلاء المنافقين الّذين تخلّفوا عنك و عن الخروج معك و استأذنوك للخروج معك في غزوة اخرى [فَقُلْ لهم: [لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً] إلى غزوة [وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا].

ثمّ بيّن سبحانه سبب ذلك فقال: [إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ] أي عن غزوة

ص: 168

تبوك [فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ بعد هذا في كلّ غزوة قيل: معناه مع الصبيان و النساء و قيل:

مع الّذين تخلّفوا من غير عذر و قيل: أي مع الخالفين قال الفرّاء: يقال: عبد خالف إذا كان مخالفا.

و قيل: معناه اقعدوا مع الأخسّاء و الأدوناء؛ يقال: فلان خالفة أهله إذا كان أدونهم أو فاسدهم، و منه خلوف فم الصائم إذا تغيّرت و فسدت رائحته.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 84]

وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ (84)

المراد من الآية تحذير المنافقين لأنّ في الآية السابقة منعهم عن الخروج مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و في هذه الآية منع الرسول من أن يصلّي على من مات منهم و هذا سبب قويّ في إذلالهم و إهانتهم.

قال ابن عبّاس: إنّه لمّا مرض عبد اللّه بن ابيّ بن أبي سلول عاده رسول اللّه فطلب منه أن يصلّي عليه إذا مات و يقوم على قبره.

ثمّ إنّه أرسل إلى الرسول فطلب منه قميصه ليكفّن فيه فأرسل صلى اللّه عليه و آله القميص الفوقانيّ فردّه و طلب منه الّذي يلي جلده ليكفن فيه فقال عمر: لم تعطي قميصك الرجس النجس فقال: إنّ قميصي لا يغني عنه من اللّه شيئا فلعلّ اللّه أن يدخل به ألفا في الإسلام و كان المنافقون لا يفارقون عبد اللّه فلمّا رأوه يطلب القميص و يرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف كما ظنّ رسول اللّه ببركة الثوب فلمّا مات عبد اللّه جاء ابنه و هو اسمه عبد اللّه- و كان مؤمنا- و قال لرسول اللّه: إنّ أبي مات فقال صلى اللّه عليه و آله له: صلّ عليه و ادفنه فقال: إن لم تصلّ عليه لم يصلّ عليه مسلم فقام صلى اللّه عليه و آله ليصلّي عليه فنزلت الآية.

فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: إنّ رسول اللّه رغب في أن يصلّي عليه بعد أن علم كونه كافرا و قد مات على كفره و إنّ صلاة الرسول تجري مجرى الإجلال و التعظيم له و ذلك محظور لأنّ اللّه أعلمه أنّه لا يغفر للكفّار البتّة و كذلك دفع القميص إليه؟.

الجواب: لعلّ السبب فيه أنّه لمّا طلب من الرسول صلى اللّه عليه و آله أن يرسل إليه قميصه غلب على ظنّه أنّه انتقل إلى الإيمان لأنّ هذا الطلب أمارة للإيمان و ذلك وقت يتوب

ص: 169

فيه الفاجر و يؤمن فيه الكافر فلمّا رأى منه هذا الأمر غلب على ظنّه أنّه أسلم و رغب في أن يصلّي عليه فلمّا نزل جبرئيل عليه السّلام و أخبره أنّه مات على كفره و نفاقه امتنع من الصلاة عليه.

و أمّا دفع القميص إليه فذكروا فيه وجوها. قيل: إنّ العبّاس عمّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا أخذ أسيرا يوم بدر لم يجدوا له قميصا و كان رجلا طويلا فكساه ذلك اليوم عبد اللّه قميصه. و قيل: إنّ المشركين يوم صلح الحديبية قالوا العبد اللّه: إنّا لانتقاد لمحمّد صلى اللّه عليه و آله، و لكنا ننقاد لك، فقال: لا إنّ لي في رسول اللّه أسوة حسنة، فشكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله له ذلك ثمّ إنّ اللّه سبحانه أمره أن لا يردّ السائل بقوله: «وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ» (1) فدفعه لهذا المعنى. و منع القميص لا يليق بأهل الكرم. على أنّ ابنه عبد اللّه كان من صلحاء الصحابة و أنّ الرسول أكرم ابنه بهذا الأمر. و لعلّ اللّه أوحى إليه: إذا دفعت إليه قميصك صار ذلك الأمر حاملا لإسلام ألف نفر من المنافقين ففعل ذلك لهذه المصلحة و قد أسلم ألف.

قوله: [وَ لا تُصَلِ أي لا تصلّ على من مات على الكفر أبدا [وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ لأنّه صلى اللّه عليه و آله كان إذا دفن الميّت وقف على قبره و دعاله فمنع منه.

و علّل المنع بسبب أنّهم ماتوا على الكفر و الفسق و لمّا علل المنع بسبب الكفر فما الفائدة في وصفه إيّاهم بالفسق و الفسق أدنى من الكفر؟ فالجواب أنّ الكافر قد يكون عدلا في دينه و قد يكون خبيثا ممقوتا بالنفاق و الخداع و الكذب و المكر فهؤلاء كانوا كذلك و لذا وصف الفسق. و يوضح بأنّ طريقة النفاق طريقة قبيحة عند أهل العالم.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 85]

وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (85)

اعلم أنّ هذه قد سبق ذكرها في هذه السورة ثمّ ذكرت هاهنا مع تفاوت في الجملة، ففي الآية الاولى: «فَلا تُعْجِبْكَ» بالفاء، و هاهنا بالواو. و في الآية الاولى: «أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ» و هاهنا كلمة «لا» محذوفة. و في الآية الاولى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ» و هنا «أن يعذّبهم» و هناك: «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» و هنا «الحياة» محذوفة و المعنيان متقاربان فما

ص: 170


1- الضحى: 10.

الحكمة في التكرير؟ و هي أنّ أشدّ الأشياء جذبا للقلوب في الاشتغال بالدنيا هو الإعجاب و الاشتغال بالأموال و الأولاد و ما كان كذلك يجب التحذير و التنبيه عليه مرّة بعد اخرى و هذا التكرير للمبالغة في التحذير.

ثمّ إنّه لمّا كان أحبّ الأشياء للرجل المؤمن في المطلوبيّة الرجاء و الغفران أعاد اللّه قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* في سورة النساء مرّتين للتصريح كذلك مع الإعجاب بالمال و الأولاد هاهنا مرّتين للمبالغة و التنبيه على لزوم هذا الأمر.

و قيل: التكرير أراد بالأولى قوما من المنافقين لهم أموال في وقت نزول الآية و أراد بهذه الآية أقواما آخرين، و الكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام مختلفين في أوقات مختلفة لم يكن ذكره تكرارا بل يجب ذكره و قد ذكرنا أنّ الإرادة تعلّقت بالإزهاق لا بالكفر في تفسير الآية السابقة.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 86 الى 87]

وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)

في هذه الآية بيان تقاعد رؤساء المنافقين عن الجهاد و السورة تطلق على تمام السورة و على بعضها كما أنّ القرآن و الكتاب يقع على كلّه و على بعضه، أي متى نزلت آية أو سورة مشتملة على الأمر بالإيمان و بالجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة و المال منهم في التخلّف عن الغزو و قالوا لرسول اللّه: [ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ أي مع الضعفاء و الساكنين في البلد و في تخصيص اولي الطول بالذكر أنّ الذمّ لهم ألزم لكون وجود القدرة على الجهاد و السفر و أنّ من لا مال له و لا قدرة له على السفر لا يحتاج إلى الاستيذان غالبا.

ثمّ عيّرهم بقوله: [رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ قال الفرّاء: الخوالف عبارة عن النساء الّتي تخلّفن في البيت فلا يبرحن و قد ذكرنا قبيل هذا معنى الخالف. و كان يصعب على المنافقين هذا التشبيه و على العرب. ثمّ قال: سبحانه: [وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ و معنى الطبع ذكر مرارا في القرآن و هو عبارة عن بلوغ القلب في الميل إلى الكفر

ص: 171

إلى الحدّ الّذي لا يقبل الإيمان و علامة و سواد في القلب يحصل في القلب بسبب اختيار الكفر بحيث إنّه لا يعالج و لا يفقهون حكمة اللّه.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 88 الى 89]

لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

لمّا بيّن حال المنافقين في التخلّف عن الجهاد و الدوام على النفاق بيّن في هذه الآية أنّ حال الرسول و الّذين آمنوا به على سبيل الحقيقة بالضدّ حيث بذلوا الأموال و الأنفس في طلب مرضاة اللّه، أي إذا تخلّف المنافقون فقد توجّه إلى القبول من هو خير منهم و أخلص عقيدة و نيّة.

فذكر ما حصل للمؤمنين به من الفوائد بقوله: [أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ و لفظ «الخيرات» يتناول منافع الدارين و قيل: المراد من الخيرات الحور العين لقوله: «فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ» (1).

ثمّ قال: [وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي متخلّصون من العذاب و العقاب.

ثمّ قال: [أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب قبولهم هذه المرتبة العالية و الدرجات الرفيعة.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 90]

وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)

هذه الآية شرح حال المنافقين الّذين كانوا خارجين من المدينة من أعراب البوادي.

«المعذر» بالتخفيف الّذي له عذر، و بالتشديد الّذي يعتذر بلا عذر و قال: (لعن اللّه المعذّرين) و قرئ «معذورون» فمن قرأ بالتخفيف أراد الّذين باقون بالعذر و من قرأ بالتشديد احتمل أمرين: أحد هما أن يكون المراد المعتذرون سواء كان لهم عذر أو لم يكن و إنّما أدغمت التاء في الدال لقرب مخرجهما و الثاني المقصّرين من التعذير.

و بالجملة صنّف اللّه الأعراب صنفين: صنف اعتذروا بالباطل و ليس لهم عذر و صنف قعدت عن الاعتذار و ما اعتذروا مطلقا لا بباطل و لا بحقّ جرأة على اللّه.

و قيل: إنّ الصنف الأوّل اعتذروا بالحقّ و كان لهم عذر و هم نفر من بني غفار و يدلّ

ص: 172


1- الرحمن: 70.

على هذا المعنى قوله: «وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» فدلّ على أنّ الأوّلين كانوا صادقين.

قيل: معناه أنّ الأوّلين تصوّروا بصورة العذر و ليسوا كذلك و كلا الفريقين كانوا كاذبين. سيصيب الّذين لا عذر لهم و كفروا عذاب موجع.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 91 الى 93]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)

لمّا بيّن الوعيد في حقّ من توهّم الإعذار مع أنّه لا عذر له بيّن أصحاب الأعذار المقبولة أنّه ليس عليهم حكم الجهاد و هم معذورون في الحقيقة و هم أقسام.

الأوّل: الصحيح في بدنه الضعيف مثل الشيوخ و من خلق في أصل الخلقة ضعيفا نحيفا و هم المرادون بالضعفاء، و الدليل عليه أنّه عطف عليهم المرضى و المعطوف مبائن للمعطوف عليه.

و أمّا المرضى فيدخل فيهم أصحاب العمى و العرج و الزمانة و كل من كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكّن من المحاربة.

و القسم الثالث الّذين لا يجدون الأهبة من الزاد و الراحلة؛ لأنّ حضوره في الغزو إنّما ينفع إذا قدر على أمر يعينه، فإن لم تحصل قدرة له صار كلّا و وبالا على المجاهدين حتّى يمكن أن يمنعهم وجوده من الاشتغال بالمقصود فقال: سبحانه: لا حرج على هؤلاء أي يجوز أن يتخلّفوا عن الجهاد لكن ليس في الآية ما يدلّ على تحريم خروجهم؛ لأنّ الواحد منهم لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القوّة إمّا بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم بشرط أن لا يكون كلّا كان ذلك طاعة مقبولة.

ثمّ إنّه شرط في جواز هذا التأخير [إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ أي إذا أقاموا بالبلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف و إثارة الفتنة و سعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الّذين

ص: 173

سافروا إمّا بأن يقوموا بإصلاح مهمّات بيوتهم إلى المجاهدين؛ فإنّ جملة هذه الأمور إعانة على الجهاد.

ثمّ قال: [ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ و قد اتّفقوا على أنّه دخل تحت قوله: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ» هو أنّه لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد.

و اختلفوا في أنّه هل يفيد العموم في كلّ الوجوه أم لا: فمنهم من زعم أنّ اللّفظ مقصور على هذا المعنى لأنّ هذه الآية نزلت فيهم. و منهم من زعم أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب و قالوا: المحسن هو الآتي بالإحسان، و رأس أبواب الإحسان قول: لا إله إلّا اللّه؛ فكلّ من قالها و اعتقد بها كان من المسلمين و من المحسنين؛ فهذه الآية بعمومها يقتضي أنّ الأصل في كلّ مسلم عدم توجّه الغير عليه في نفسه أو ماله أو عرضه إلّا بدليل منفصل فتصير هذه الآية بهذا الطريق أصلا معتبرا في الشريعة في تقرير أنّ الأصل براءة الذمّة؛ فإن ورد نصّ خاصّ يدلّ على وجوب حكم خاصّ في واقعة خاصّة قضينا بذلك النصّ تقديما للخاصّ على العامّ و إلّا فهذا النصّ كاف في تقرير البراءة الاصليّة. و هذا تقرير أصحاب الظواهر مثل داود الإصفهانيّ و أصحابه و نفاة القياس.

قوله: [وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ إلخ فإن قيل: أليس هؤلاء داخلون تحت قوله:

«وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ» فما الفائدة في إعادته؟ نعم فيه فرق؛ لأنّ الّذين لا يجدون هم الفقراء الّذين ليس لهم النفقة و هؤلاء المذكورون في قوله: «وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ» هم الّذين ملكوا قدر النفقة إلّا أنّهم لم يجدوا المركوب.

قال مجاهد: هم ثلاثة إخوة: معقل و سويد و النعمان بنو مقرن سألوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله أن يحملهم على الخفاف المدبوغة و النعال المخصوفة، فقال صلى اللّه عليه و آله: لا أجد ما أحملكم عليه فتولّوا و هم يبكون قال ابن عبّاس: سألوا أن يحملهم على الدوابّ فقال: لا أجد ما أحملكم عليه لأنّ الشقّة (1) بعيدة و الرجل يحتاج إلى بعيرين بعير يركبه و بعير يحمل عليه ماءه و زاده.

قوله: [إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ] لمّا نفى السبيل عن الفقراء و المرضى في الآية السابقة أثبت في هذه الآية أنّ السبيل المنفيّ عنهم ثابت في هؤلاء المنافقين

ص: 174


1- المسافة البعيدة.

الأغنياء الّذين يستأذنوك في التخلّف. «و رضوا» جملة مستانفة أي رضوا بالدناءة و الضعة و الانتظام في جملة الخوالف و طبع على قلوبهم و بسبب الطبع لا يعلمون شيئا.

[سورة التوبة (9): الآيات 94 الى 96]

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)

النزول: نزلت في جماعة من المنافقين و هم جندب بن قيس و معتب بن قشير و أصحابهما و هم ثمانون رجلا و لمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه و آله المدينة راجعا من تبوك قال: لا تجالسوا هؤلاء القاعدين المتخلّفين و لا تكلّموهم. و قيل: نزلت في عبد اللّه و أصحابه حلف للنبيّ أن لا يتخلّف عنه بعدها و طلب إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله أن يرضى عنه.

و بالجملة هؤلاء المتأخّرون القاعدون عن الجهاد مع النبيّ [يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ من من تأخّرهم عنكم بالمعاذير و الأباطيل الكاذبة [إِذا رَجَعْتُمْ إلى المدينة من تبوك [قُلْ يا محمّد: [لا تَعْتَذِرُوا] لسنا نصدّقكم على ما تقولون [قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ و حقيقة أمركم فأعلمنا كذبكم بقوله تعالى: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» [وَ سَيَرَى اللَّهُ رسوله فيما بعد [عَمَلَكُمْ هل تتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ ثمّ ترجعون بعد الموت إلى اللّه سبحانه الّذي يعلم ما غاب و ما حضر ليجزيكم بأعمالكم كلّها حسنها و قبيحها فيجازيكم عليها أجمع.

قوله: [سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي سيقسم هؤلاء المنافقون [لَكُمْ أيّها المؤمنون إذا رجعتم إليهم أنّهم إنّما يحلفوا العذر و هذه اليمين الكاذبة لأجل أن تصفحوا عنهم حيث إنّ الرسول أمر الأصحاب أن لا يجالسوهم و لا يكلّموهم.

ثمّ أمر اللّه نبيّه و المؤمنين فقال: [فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أعراض ردّ و إنكار و مقت. ثمّ بيّن سبحانه عن سبب الإعراض فقال: [إِنَّهُمْ رِجْسٌ أي نجس أي إنّهم كالشي ء الّذي هو نفس النجاسة و القذارة فاجتنبوهم كما تجتنبون النجاسة.

ص: 175

ثمّ قال: [يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فإن رضيتم عنهم لجهلكم بحالهم فإنّ اللّه لا يرضى عن من خرج دينه أي لا ترضوا عنهم و باعدوهم كما تجتنبون من النجاسات أي إنّ ظاهرهم نجس و باطنهم أيضا خبث و نجس؛ فكما أنّه يجب التحرّز عن الأرجاس الجسميّة كذلك يجب الاجتناب عن الأرجاس الروحانيّة بل أولى خوفا من سريانها إلى الإنسان و حذرا من أن يميل الطبع إلى تلك العقائد و الأعمال.

ثمّ قال: [وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً] على ما اكتسبوا من النفاق و الكفر.

و هذه المعاني مذكورة في الآية السابقة و قد أعادها اللّه هاهنا مرّة اخرى يمكن أن يكون الأوّل خطابا مع المنافقين الّذين كانوا في المدينة و هذه الآية خطاب مع المنافقين من الأعراب و أصحاب البوادي و لمّا كانت طرقهما متقاربة من أهل الحضر و البودي لا جرم كان الكلام معهما على مناهج متقاربة و يؤيّد هذا التأويل آية بعدها.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 97 الى 98]

الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

«رجل عربيّ» إذا كان من العرب و إن سكن البلاد، و «رجل أعرابيّ» إذا كان ساكنا في البادية و العرب صنفان عدنانيّة و قحطانيّة و الفضل للعدنانيّة برسول اللّه، يقال: رجل عربيّ إذا كان نسبه في العرب و جمعه العرب. و رجل أعرابيّ إذا كان بدويّا يطلب مساقط الغيث و الكلاء سواء كان من العرب أو من مواليهم، و يجمع الأعرابيّ على الأعراب و الأعاريب فالأعرابيّ إذا قيل له: يا عربيّ فرح، و العربي إذا قيل له: يا أعرابيّ غضب فالعرب سكّان الأمصار و الأعراب سكّان البوادي.

و إنّما سمّي العرب عربا قيل: لأنّ أولاد إسماعيل نشئوا بعربة و هي موضع تهامة فنسبوا إلى موطنهم و قيل: سمّي العرب عربا لإبانة كلامهم و فصاحة نطقهم لأنّ ألسنتهم معربة عمّا في ضمائرهم.

قيل: إنّ حكمة الروم في أدمغتهم و حكمة الهند في أوهامهم، و حكمة اليونان في أفئدتهم لكثرة مالهم من المباحث العقليّة، و حكمة العرب في ألسنتهم و ذلك لجزالة ألفاظهم و عذوبة عباراتهم كقوله مثلا: لا و أيّد اللّه الأمير.

ص: 176

و بالجملة شرح اللّه حال منافقي الأعراب بأنّهم أشدّ كفرا و نفاقا لأنّهم يشبهون الوحوش ثمّ استيلاء الهواء الحارّ اليابس عليهم و ذلك يوجب مزيد التكبّر و النخوة و الفخر. على أنّهم ما كانوا تحت سياسة سائس و لا تأديب مؤدّب فنشؤوا كما شاؤوا و من كان كذلك خرج على أشدّ الجهات من الفساد؛ و من أصبح و أمسى شاهدا لمشاهد المجرّبين المهذّبين، و تأديبات المحاضر الكاملة كيف يكون مساويا لمن كان حليّه الودعم، و عطره القطران، و صيده اليربوع الأرؤل و إذا أردت أن تعرف الفرق بينهما قابل الفواكه الجبليّة بالفواكه البستانيّة فحينئذ هؤلاء أولى بالجهل و أجدر بأن لا يعرفوا حدود أحكام اللّه من الحلال و الحرام [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم [حَكِيمٌ فيما يحكم عليهم.

قوله: [وَ مِنَ منافقي [الْأَعْرابِ من يعتقد أنّ الّذي ينفقه في سبيل اللّه غرامة و خسران- و «المغرم» مصدر كالغرامة- لأنّه لا ينفقه إلّا تقيّة و رياء لا لابتغاء ثوابه و ينتظر بكم الموت و القتل و يتوقّع أن تنقلب الأمور عليكم بموت الرسول و يظهر عليكم المشركون فأعاده سبحانه إليهم فقال: [عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ] و الدائرة إمّا صفة أو مصدر كالعاقبة و العافية و الصفة أكثر استعمالا و هي خلّة تحيط بالإنسان بحيث لا يكون للإنسان منها مخلص، و أضيف إلى السوء على وجه التأكيد و الزيادة و لو لم يضف لعلم هذا المعنى كقولك شمس النهار.

و «السوء» قرئ بضم السين و بفتح السين، فبالفتح المصدر و بالضمّ الاسم أي عليهم دائرة البلاء و العذاب و إحاطته أي يكونون محاطون بالعذاب و البلاء و المضرّة و يدور عليهم البلاء فلا يرون في محمّد و أصحابه إلّا ما يسوؤهم [وَ اللَّهُ سَمِيعٌ بأقوالهم و [عَلِيمٌ بنيّاتهم.

[سورة التوبة (9): آية 99]

وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ من الأعراب من يتّخذ ما ينفق مغرما بيّن في هذه الآية أنّ منهم قوما مؤمنين صالحين مجاهدين يتّخذ إنفاقه في سبيل اللّه مغنما.

و في هذا البيان دلالة على أنّ الأصل في جميع الطاعات الإيمان باللّه و رسوله. ثمّ

ص: 177

في البيان دلالة على أنّه شرط في جميع أقسام الإنفاق في سبيل اللّه أن يكون خالصا لوجهه.

و «قربات» مفعول ثان ليتّخذ أي ما ينفقه لأجل القربات و «القربات» جمع قربة أي يتقرّب إلى اللّه بإنفاقه و يطلب به رضاه و يطلب به دعاء الرسول بالخير و البركة.

قوله: [أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ أي انتبهوا أنّ أدعية الرسول يقرّبهم إلى اللّه و إلى ثوابه و يمكن أنّ الضمير راجع إلى النفقات أي النفقات سبب تقرّب رضاء اللّه.

و هذه شهادة من اللّه للمتصدّق بحصول القرب إذا كان خالصا لوجهه و أكّدها بحرف التنبيه ثمّ بحرف التحقيق و هو قوله: «إنّها» ثمّ زاد في التأكيد بقوله: [سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ .

و معلوم أنّ إدخال حرف السين يوجب مزيد التأكيد. و قرئ «قربة» بضمّ الراء و هو الأصل ثمّ خفّفت نحو كتب و رسل و طنب.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 100]

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)

لمّا ذكر أنّ بعض الأعراب صالحون في الآية السابقة شرح في هذه الآية أنّ بعضا منهم أعلى درجة في الفضل و هم السابقون الأوّلون قال ابن عبّاس: هم الّذين صلّوا إلى القبلتين و شهدوا بدرا. و عن الشعبيّ: هم الّذين بايعوا بيعة الرضوان و هي بيعة الحديبية.

و قيل: الّذين أسلموا قبل الهجرة و نصروا رسول اللّه و كذلك الّذين اتّبعوا المهاجرين الأوّلين بالدخول في الإسلام و متابعة منهاجهم و سلوك مدارجهم و يدخل في ذلك من يجي ء بعدهم بشرط متابعتهم إلى يوم القيامة هؤلاء الجماعة الموصوفون بهذه الكيفيّة رضي اللّه عنهم بقبولهم الإسلام و أوامر الرسول و هم رضوا عن اللّه لمّا أجزل لهم الثواب.

و قوله: [رَضِيَ اللَّهُ خبر لقوله «السابقون» [وَ أَعَدَّ] اللّه [لَهُمْ جَنَّاتٍ يبقون فيها منعّمين ببقاء اللّه [ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الّذي يصغر في جنبه كلّ نعيم.

و أوّل من أسلم عندنا عليّ عليه السّلام من الرجال و خديجة من النساء و به قال ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه و أنس بن مالك و زيد بن أرقم و مجاهد و قتادة و أبي إسحاق و جماعة كثيرة غيرهم؛ قال أنس: بعث النبيّ صلى اللّه عليه و آله يوم الاثنين و صلّى عليّ عليه السّلام و أسلم يوم الثلثاء،

ص: 178

أسلم و هو ابن عشر سنين. و كان عليه السّلام مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أخذه من أبي طالب و ضمّه إلى نفسه يربيه في حجره و كان معه قبل أن يبعث صلى اللّه عليه و آله و قيل: أسلم و هو ابن تسع سنين. و قيل:

اثنتي عشر سنة؛ و هو الصحيح.

و في تفسير الثعلبيّ روى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن جدّه عفيف قال: كنت امرءا تاجرا فقدمت مكّة أيّام الحجّ فنزلت على العبّاس بن عبد المطّلب و كان العبّاس لي صديقا و كان يختلف إلى اليمن يشري العطر و يبيعه في أيّام الموسم، بينما أنا و العبّاس بمنى إذ جاء رجل شابّ حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثمّ استقبل الكعبة فقام مستقبلها فلم يلبث حتّى جاء غلام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشابّ فركع الغلام و المرأة فخرّ الشابّ ساجدا فسجدا معه فرفع الشابّ فرفع الغلام و المرأة؛ فقلت: يا عبّاس أمر عظيم فقال: أمر عظيم فقلت: ويحك ما هذا؟ قال:

هذا ابن أخي محمّد بن عبد اللّه يزعم أنّ اللّه بعثه رسولا و أنّ كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه و هذا الغلام عليّ بن أبي طالب و هذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمّد بايعاه على دينه و أيم اللّه ما على ظهر الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء؛ فقال: عفيف الكنديّ بعد ما أسلم: ليتني كنت رابعهم.

و روي أنّ أبا طالب قال لعليّ: أي بنيّ ما هذا الّذي أنت عليه؟ قال: يا أبتاه آمنت باللّه و رسوله و صدّقت محمّدا فيما جاء به و صلّيت معه للّه فقال له: ألا إنّ محمّدا لا يدعو إلّا إلى خير فألزمه.

و روى عبد اللّه بن موسى عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمر عن عبّاس بن عبد المطّلب قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: أنا عبد اللّه و أخو رسوله أنا الصدّيق الأكبر لا يقولها بعدي إلّا كذّاب مفتر صلّيت قبل الناس بسبع سنين.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 101 الى 102]

وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

ص: 179

كان جماعة حول المدينة من الأعراب و هم أربع قبائل: أسلم و أشجع و جهينة و غفار.

المراد في الآية ممّن حول المدينة هؤلاء [مَرَدُوا] على النفاق و «المارد» العاتي و المتطاول بالكبر و المعاصي و «المرود» الملاسة مأخوذ من الأرض الرملة الّتي لا تنبت شيئا.

[لا تَعْلَمُهُمْ مع حدسك و صفاء فهمك [نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ أي عذاب الدنيا بالقتل و السبي و الثاني عذاب القبر. و قيل: المراد بالدبيلة و عذاب القبر. و قيل: إحدى العذابين ضرب الملائكة وجوههم و أدبارهم عند النزع و الآخر عند البعث قبل الورود إلى جهنّم يوكّل بهم عنق من النار في الموقف. و بيان عذاب الدبيلة أنّه صلى اللّه عليه و آله أسرّ إلى حذيفة اثني عشر رجلا من المنافقين و قال: ستّة يبتليهم اللّه بالدبيلة، سراح من نار يأخذ أحدهم حتّى يخرج من صدره و ستّة يموتون.

[ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ أي النار المؤبّدة المخلّدة.

قوله: [وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا] قيل: إنّهم قوم من المنافقين تابوا عن النفاق. و قيل قوم من المسلمين تكاسلوا و تخلّفوا عن غزوة تبوك ثمّ ندموا على ما فعلوا و تابوا. روي أنّهم كانوا عشرة، فسبعة منهم ندموا على قعودهم و تخلّفهم عن الجهاد في غزوة تبوك لمّا بلغهم ما نزل في المتخلّفين فأيقنوا على أنفسهم بالعذاب فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول اللّه فدخل المسجد و صلّى ركعتين.

و هذه كانت عادته لمّا يقدم عن سفر فرآهم موثوقين سأل عنهم فذكر له صلى اللّه عليه و آله أنّهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يحلّهم رسول اللّه فقال صلى اللّه عليه و آله: و أنا اقسم أنّي لا احلّهم حتّى أومر فيهم فنزلت الآية، فأطلقهم صلى اللّه عليه و آله بعد الآية فقالوا بعد ما انتحلوا: هذه أموالنا و إنّما تخلّفنا عنك بسببها فخذها و تصدّق بها و طهّرنا فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزل «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ إلخ».

و بالجملة [وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا] المراد بهم من الأعراب و أهل المدينة و ليس المراد منهم المنافقين أقرّوا [بِذُنُوبِهِمْ و يخلطون و يفعلون أفعالا حسنة و أفعالا قبيحة. و أتى بكلمة «عسى» حتّى يكونوا بين إشفاق و طمع فيكون ذلك أبعد من الاتّكال على العفو و إهمال التوبة.

ص: 180

و في هذا دلالة على بطلان القول بالإحباط بأنّه لو صحّ الإحباط لكان أحد العملين إذا طرأ على الآخر أحبطه و أبطله فلم يجتمعا فلا يكون لقوله: «خلطوا» معنى. قال بعض التابعين: ما في القرآن آية أرجى لهذه الأمّة من هذه الآية. (1) قوله: [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا تعليل لقبول التوبة من العصاة أي لأنّه غفور رحيم.

و عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ هذه الآية نزلت في حقّ أبي لبابة الّذي شدّ نفسه بسارية المسجد لقضيّة بني قريظة و قد ذكر سابقا.

[سورة التوبة (9): آية 103]

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)

ثمّ خاطب سبحانه نبيّه و أمره بأخذ الصدقة قيل: المراد بأخذ الصدقة من هؤلاء التائبين تشديدا للتكليف، و ليست الصدقة المفروضة الّتي تسمّى بالزكاة و قد أخذ ثلث مال هؤلاء التائبين و ترك ثلثي الباقي لهم حيث إنّهم بذلوا جميع مالهم كفّارة أوّلا.

و قال جماعة من المفسّرين: المراد من الصدقة في هذه الآية هي الزكاة المفروضة و هو الأصحّ؛ لأنّ حمله على الخصوص بغير دليل لا وجه له فعلى هذا القول أمر سبحانه نبيّه أن يأخذ من المالكين النصاب الزكاة فمن الورق مثلا إذا بلغ مائتي درهم ربع العشر و من الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا و من الغنم إذا بلغت أربعين رأسا و من الإبل إذا بلغت خمس نفر و من البقر إذا بلغ ثلاثين رأسا و من الغلّات و الثمار إذا بلغت خمسة أوسق، تطهّرهم تلك الزكاة عن دنس الذنوب و تزكّيهم.

و هاهنا قيل ضمير الخطاب أي أنت تزكّيهم بأخذك منهم هذا المال. و قيل: معنى الخطاب في كلا الضميرين في الفعلين أي أنت تطهّرهم و تزكّيهم أي تدعو لهم بما يصيرون أزكياء مطهّرين.

و قوله: [صَلِّ عَلَيْهِمْ هذا أمر للنبيّ أن يدعو لمن أخذ منه الزكاة كقوله: بارك اللّه لك. و روي أنّه صلى اللّه عليه و آله كان إذ أتاهم قوم بصدقتهم دعا لهم كما قال: اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى؛ حين أتوه بصدقة.

ص: 181


1- و اما عند الائمة عليهم السّلام فارجى آية في القرآن هو قوله تعالى خطابا لنبيه: «و لسوف يعطيك ربك فترضى» كما ورد عنهم عليهم السّلام.

[إِنَّ صَلاتَكَ أي دعواتك رحمة و اطمينان لنفوسهم بأنّ اللّه قد قبل منهم [وَ اللَّهُ سَمِيعٌ بدعائك و [عَلِيمٌ بنيّاتهم.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 104]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)

لمّا حكى عن القوم الّذين تقدّم ذكرهم أنّهم تابوا عن ذنوبهم و تصدّقوا و لم يذكر إلّا قوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» و ما صرّح سبحانه بقبول التوبة رغّب جميع العصاة و من لم يتب بالتوبة و الطاعة و بشّر هؤلاء بقبول توبتهم. و قوله: «أَ لَمْ يَعْلَمُوا» و إن كان بصيغة الاستفهام إلّا أنّ معناه التقرير و الأمر.

و «الإله» هو الّذي يمتنع تطرّق الزيادة و النقصان إليه و يمتنع أن يزداد و يتغيّر حاله بطاعة المطيعين و أن ينتقص حاله بمعصية المذنبين، و يمتنع أيضا أن يكون له شهوة إلى الطاعة و نفرة عن المعصية حتّى يقال: إنّ نفرته و غضبه يحمله على الانتقام، و شهوته و ميله يحمله على الإنعام. و المذنب لا يضرّ إلّا نفسه و المطيع لا ينفع إلّا نفسه كما قال: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها» (1).

و قبول التوبة و ردّها راجع إلى اللّه و ليس إلى غيره هذا الأمر و قالت المعتزلة:

قبول التوبة واجب عقلا على اللّه. و قالت الأشاعرة: قبول التوبة واجب بحكم الوعد و التفضّل و الإحسان، و أمّا عقلا فلا.

و قوله: [وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي هو عزّ شأنه أخذ الصدقات و هذا تشريف عظيم لهذه الطاعة، و أضاف الأخذ إلى نفسه كما أضاف التوفّي إلى نفسه بقوله: «وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ» (2) في الحديث: إنّ اللّه يقبل الصدقة و لا يقبل منها إلّا الطيّب و إنّه يقبلها بيمينه و يربيها لصاحبه كما يربّي أحدكم مهره و فصيله، حتّى أنّ اللقمة تكون عند اللّه أعظم من احد و قال صلى اللّه عليه و آله: و الّذي نفس محمّد بيده ما من عبد مسلم يتصدّق بصدقة فتصل إلى الّذي يتصدّق بها عليه حتّى تقع في كفّ اللّه و يمين اللّه، و كفّه لا يوصف، ليس كمثله شي ء.

ص: 182


1- الإسراء: 7.
2- الانعام: 60.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 105]

وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

هذه الآية ترغيب عظيم للمطيعين و ترهيب عظيم للعاصين أي اجتهدوا في أعمالكم فإنّ عملكم له حكم في الدنيا و في الآخرة حكم أمّا في الدنيا فإنّه يراه اللّه و يعلمه الرسول و يراه المؤمنون فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم و إن كان معصية حصل منه الذمّ في الدنيا و العقاب الشديد في الآخرة.

فلو قيل: إنّه في قوله: «فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ» أنّ عملهم لا يراه كلّ أحد.

و الجواب أنّه يصل خبر عملهم غالبا إلى الناس؛ قال صلى اللّه عليه و آله: لو أنّ رجلا عمل عملا في صخرة لا باب لها و لا كوّة يخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان. و لو أنّ العطف يقتضي التشريك لكنّ التسوية في كلّ مراتب الرؤية فغير لازم، و معلوم أنّ رؤية اللّه غير رؤية الرسول و رؤية الرسول غير رؤية المؤمنين. و «الرؤية» إذا عدّيتها إلى مفعول واحد بمعنى الإبصار و إذا عدّيتها إلى مفعولين فمعناه العلم.

فإن قيل: ما الفائدة في رؤية المؤمنين أو علمهم؟

الفائدة أنّ المؤمنين شهداء اللّه يوم القيامة كما قال سبحانه: «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (1) و الرسول كذلك شهيد الامّة كما قال: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (2) و الشهادة لا تصحّ إلّا بعد الرؤية و يشهدون يوم القيامة عند حضور الأوّلين و الآخرين بأنّكم أهل السداد و الرشاد [فَيُنَبِّئُكُمْ و يجازيكم بما أسررتم و أعلنتم و ما عملتم من خير و شرّ.

فحينئذ إذا حملت معنى الرؤية على الإبصار فيكون قوله: «وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ» معناه أنّ ما يرى منكم يتبيّن نفعه و ضرره بعد الردّ إلى عالم الغيب، و إذا حملت على العلم فيكون جملة «وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ» جاريا في مجرى التفسير لقوله:

«فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ».

ص: 183


1- الاولى أن يذكر بعده و هو: «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ». البقرة: 137.
2- النساء: 45.

و في هذه الآية دلالة صريحة بأنّ اللّه عالم بالجزئيّات.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 106]

وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

قرئ «مرجون» بالهمزة و بغير الهمزة.

اعلم أنّ اللّه قسّم المتخلّفين عن الجهاد ثلاثة أقسام: أوّلهم المنافقون الّذين مردوا على النفاق و بقوا على نفاقهم. و الثاني: التائبون و هم المرادون بقوله: «وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ» و بيّن تعالى قبول توبتهم. و القسم الثالث: الّذين بقوا موقوفين، و هم المذكورون في هذه الآية. و الفرق بين القسم الثاني و الثالث أنّ الثاني سارعوا إلى التوبة، و الثالث لم يسارعوا إليها.

نزلت هذه الآية في ثلاثة: كعب بن مالك و مرارة بن الربيع و هلال بن اميّة و كانوا متخلّفين عن الجهاد. قال كعب: أنا أفره أهل المدينة جملا فمتى شئت لحقت الرسول؛ فتأخّر أيّاما و أيس بعدها من اللحوق به صلى اللّه عليه و آله، فندم على صنيعه و كذلك صاحباه.

فلمّا قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قيل لكعب: اعتذر إليه من صنيعتك. فقال: لا و اللّه حتّى تنزل توبتي. و أمّا صاحباه فقد اعتذر إليه صلى اللّه عليه و آله فقال صلى اللّه عليه و آله: ما خلّفكما عنّي؟ فقالا:

لا عذر لنا إلّا الخطيئة، فنزلت «وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا، إلخ» فوقفهم رسول اللّه بعد نزول الآية و نهى الناس عن مجالستهم و أمرهم باعتزال نسائهم و أرسلهنّ إلى أهلهنّ؛ فجاءت امرأة هلال تسأل أن تأتيه بطعام فإنّه شيخ كبير فأذن صلى اللّه عليه و آله لها في ذلك خاصّة.

و جاء رسول من الشام إلى الكعب يرغّبه في اللحوق بهم فقال كعب: بلغ من خطيئتي أن طمع فيّ المشركون! قال: فضاقت عليّ الأرض بما رحبت و بكى هلال بن اميّة حتّى خيف على بصره.

فلمّا مضى خمسون ليلة نزلت توبتهم بقوله: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ» و بقوله: «وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ إلخ». و قوله: [إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ .

و كلمة «إمّا» للشكّ و اللّه منزّه عنه و المراد منه: ليكن أمرهم على الخوف و الرجاء؛ فجعل أناس يقولون: هلكوا، و آخرون يقولون: عسى اللّه أن يغفر لهم. و في هذه الآية دلالة على

ص: 184

أنّ قبول التوبة على اللّه ليس بواجب بل هو تفضّل إن شاء قبل و إن لم يشأ لم يقبل؛ لأنّه لو كان قبولها عليه واجبا لما علّقه بالمشيئة و ما جاز تعليقه بها.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 107]

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107)

النزول: قال ابن عبّاس و عامّة أهل التفسير: إنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قبا و بعثوا إلى رسول اللّه أن يأتيهم فأتاهم و صلّى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجدا نصلّي فيه و لا نحضر جماعة محمّد صلى اللّه عليه و آله و كانوا خمسة عشر رجلا منهم ثعلبة بن خاطب و معتب بن قشير فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا فلمّا فرغوا منه أتوا رسول اللّه و هو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول اللّه قد بنينا مسجدا لذوي العلّة و الحاجة و الليلة المطيرة و الليلة الشاتية (1) و إنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا و تدعو بالبركة فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّي على جناح سفر فلو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه فصلّينا لكم فيه فلمّا انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله من غزوة تبوك نزلت الآية في شأن المسجد فبيّن أنّ جماعة من المنافقين بنوا مسجدا للتفريق بين المسلمين و طلب الغوائل للمؤمنين. و المسجد في الأصل موضع السجود و في العرف اسم لبقعة مخصوصة بنيت للصلاة فالاسم عرفيّ فيه علاقة معنى اللغة.

[ضِراراً] أي مضارّة، أي بنوا هذا المسجد للضرر بأهل مسجد قبا أو مسجد الرسول ليقلّ الجمع فيهما.

[وَ كُفْراً] و لإقامة الكفر فيه و ليكفروا فيه بالطعن على الرسول و الإسلام [وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لاختلاف الكلمة و إبطال الالفة عن رسول اللّه في الناس [وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي اتّخذوا ذلك المسجد رصدا لهذه الأمور.

و أعدّوا هذا المسجد لأبي عامر الراهب و هو الّذي ترهّب في الجاهليّة و لبس المسوح (2) فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه و آله المدينة حين الهجرة حسده و حزّب عليه الأحزاب و

ص: 185


1- اى الليلة الباردة في الشتاء.
2- جمع المسح: البلاس، ينسج من الشعر و يلبس قهرا للجسد.

حارب اللّه و رسوله ثمّ هرب بعد فتح المكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام و خرج إلى الروم و تنصّر و هو أبو حنظلة غسيل الملائكة الّذي قتل يوم احد و كان جنبا فغسلته الملائكة، و سمّى رسول اللّه أبا عامر الفاسق و كان قد أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا و ابنوا مسجدا فإنّي أذهب إلى قيصر و آتي من عنده بجنود و اخرج محمّدا من المدينة فكان هؤلاء المنافقون يتوقّعون مجي ء أبي عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم.

[وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي هؤلاء يحلفون كاذبين ما أردنا ببناء هذا المسجد إلّا الفعلة الحسنى من التوسعة للمسلمين و الترفّه للمزمنين و المرضى فأخبر اللّه نبيّه على فساد طويّتهم و خبث سريرتهم [وَ اللَّهُ يَشْهَدُ] بكذبهم فوجّه النبيّ عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلانيّ و مالك بن الدخشم فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه و حرّقاه. و روي أنّه بعث عمّار بن ياسر و وحشيّا فحرّقاه، و أمر بأن يتّخذ كناسة يلقى فيها الجيف.

[سورة التوبة (9): آية 108]

لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)

ثم نهى اللّه أن يقوم في هذا المسجد فقال: [لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً] أي لا تصلّ فيه أبدا؛ يقال: فلان يقوم بالليل أي يصلّي بالليل ثمّ أقسم فقال: [لَمَسْجِدٌ] أي و اللّه لمسجد [أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى و بني أصله على تقوى اللّه و طاعته [مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي منذ أوّل يوم وضع أساسه أولى أن تصلّي فيه.

و اختلف في هذا المسجد فقيل هو مسجد قبا، عن ابن عبّاس و جماعة. و قيل: هو مسجد رسول اللّه، عن زيد بن ثابت و جماعة. و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: هو مسجدي أو كلّ مسجد بني لوجه اللّه.

ثمّ وصف المسجد فقال: [فِيهِ أي في هذا المسجد [رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يصلّون للّه تعالى متطهّرين بأبلغ الطهارة أو [يَتَطَهَّرُوا] من الذنوب و قيل: يحبّون أن يتطهّروا بالماء عن الغائط و البول. و روي عن النبي أنّه سأل أهل قبا: ماذا تفعلون في طهركم فإنّ اللّه قد أثنى عليكم؟ قالوا: نغتسل أثر الغائط.

ص: 186

قال الزمخشريّ: لمّا نزلت هذه الآية مشى رسول اللّه و معه المهاجرون حتّى وقف على باب مسجد قبا فإذا الأنصار جلوس فقال صلى اللّه عليه و آله: أ مؤمنون أنتم فسكت القوم ثمّ أعادها فقال أحد من الصحابة: إنّهم لمؤمنون يا رسول اللّه. فقال صلى اللّه عليه و آله: أ ترضون بالقضاء؟

قالوا: نعم. قال: أ تصبرون على البلاء؟ قالوا: نعم. قال: أ تشكرون في الرخاء؟ قالوا:

نعم قال صلى اللّه عليه و آله: مؤمنون و ربّ الكعبة. ثمّ قال: يا معشر الأنصار إنّ اللّه أثنى عليكم فما الّذي تصنعون في الوضوء؟ قالوا: نتبع الماء الحجر فقرأ النبيّ صلى اللّه عليه و آله: «فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، إلخ».

و في هذه الآية أي قوله: «لا تَقُمْ فِيهِ» نكتة دقيقة فتأمّل فيها يزيدك آية و هي أنّه إذا لم يكن يجوز أن يصلّي في مسجد ما كان أساسه بني على التقوى، و كون الصلاة في مسجد بني أساسه علي التقوى أولى و أحقّ بالصلاة فيه؛ و ثبت أنّ عليّا عليه السّلام ما كفر باللّه طرفة عين فوجب أن يكون هو الأولى بالقيام بالإمامة ممّن كفر باللّه في أوّل مرّة؛ لأنّ أمر الإمامة و الخلافة الكلّيّة أهمّ من الصلاة حتما و إنّ الصلاة تقوم و تبقى بالإمامة و بمن نصبه النبيّ صلى اللّه عليه و آله علما للدين.

و بالجملة «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ إلخ» فإن قيل: لم قال: «أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ» مع أنّه لا يجوز قيامه في الأخير؟ قلنا: المعنى: أنّه لو كان ذلك جائزا لكان هذا أحقّ أن يقوم فيه فكيف بأنّه لا يجوز فبطريق الأولى عدم الجواز.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 109 الى 110]

أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

اعلم أنّه أرجح سبحانه مسجدهم على مسجد ضرار بأمرين: أحدهما أنّه بني على التقوى، و الثاني بأهلها؛ فإنّ أهلها رجال متطهّرون. و المراد بهذه الطهارة طهارة عن القذارة و النجاسات الظاهريّة و قد سبق بيانه و طهارة عن الكفر لأنّ اللّه وصف أهل مسجد الضرار بمضارّة المؤمنين و تفريق بين المؤمنين و الكفر، فوجب كون هؤلاء- أهل مسجد

ص: 187

قبا- بالضدّ في صفاتهم، و ما ذاك إلّا كونهم مبرّئين عن هذه الصفات فقال سبحانه:

[أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ و البنيان مصدر كالغفران و المراد به المبنيّ و إطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور، تقول هذا نسج زيد أي منسوجه، أي من أسّس بناء على تقوى من اللّه أي للخوف من عقاب اللّه و رغبة في ثواب اللّه أكمل و أفضل أم من بنى بناء لداعية الكفر و الإضرار بعباد اللّه؟

و «الشفا جرف» الشي ء و طرفه، و «الجرف» بسكون الراء و ضمّه هو ما إذا سال السيل و الجرف الوادي و يبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط يهور إذا انصدع و اندفع من خلفه و هو ثابت بعد في مكانه؛ يقال: فيه جرف هار هائر فإذا سقط فقد انهار و تهوّر.

إذا عرفت هذه الألفاظ فالمعنى أنّ الّذي بنى بنيان دينه على قاعدة قويّة محكمة و هي تقوى اللّه و رضوانه ليس كمن بناه و أسّسه على أضعف القواعد و أقلّها بقاء و هو الباطل و النفاق الّذي مثله مثل الجرف الهائر على طرف جهنّم و مشرف على السقوط فيها إذا انهار؛ فإنّه متى يسقط فإنّما ينهار في جهنّم؛ بناء الأول واجب الإبقاء و بناء الثاني واجب الهدم.

و بالجملة لمّا أمر الرسول بتخريب مسجدهم ظنّوا أنّه إنّما أمر بتخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه و عظم خوفهم منه صلى اللّه عليه و آله في كلّ الأوقات و صاروا مرتابين في أنّه هل يتركهم على ما هم عليه أم يأمر بقتلهم؟

قوله تعالى: [لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ أي لا يزال هدم بنيانهم خوفا و غيظا أثبت في قلوبهم و لا ينفكّ عنهم [إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قرئ معلوما بحذف التاء و قرئ مجهولا أي هذا الحزن و الغيظ باق إلّا أن تقطّع قلوبهم و تتفرّق أجزاء أجزاء فحينئذ يسلمون عنها، و إلّا فما دامت قلوبهم سالمة هذا الريب و الحزن باق. و يجوز أن يكون المراد بالتقطّع على سبيل الحقيقة أي عند قتلهم أو في القبور أو في العذاب من النار يفنى هذا الغيظ. و قرئ على صيغة الخطاب يعني أنت يا محمّد- صلى اللّه عليه و آله- تقطّع قلوبهم بالسيف و القتل. و قيل: المراد من الريب الشكّ في أنّ اللّه هل يغفر تلك المعصية الّتي هي بناء هذا المسجد أم لا؟ و قيل: معناه: إلّا أن يتوبوا توبة تنقطع لها قلوبهم ندما و أسفا على تفريطهم.

ص: 188

قوله: [سورة التوبة (9): آية 111]

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)

قال المفسّرون: لمّا بايعت الأنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ليلة العقبة بمكّة و هم سبعون نفسا قال عبد اللّه بن رواحة: اشترط لنفسك يا رسول اللّه و لربّك ما شئت فقال صلى اللّه عليه و آله: أشترط لربّي أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا و لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم و أموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما ذا لنا؟ قال: الجنّة. قالوا: ربح البيع لا نقيل و لا نستقيل؛ فنزلت الآية.

قال أهل المعاني: لا يجوز أن يشتري اللّه شيئا في الحقيقة؛ لأنّ المشتري إنّما يشتري ما لا يملك، و كيف يشتري أنفسا هو خلقها، و أموالا هو أوجدها و رزقها؟

لكنّ هذا البيان لحسن التلطّف في الترغيب إلى الطاعة، و بيّن سبحانه أنّ المؤمن متى قاتل في سبيل اللّه حتّى يقتل فيذهب روحه، و ينفق مالا في سبيله أخذ من اللّه الأجر الجنّة جزاء لما فعل؛ فجعل هذا الأمر استبدالا و شراء.

و هذا معنى [اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ] أي بالجنّة و هذه و اللّه بيعة رابحة و كفّة راجحة بايع اللّه فيها كلّ مؤمن و ما على الأرض مؤمن إلّا و دخل في هذه البيعة؛ قال الصادق عليه السّلام: ليس لأبدانكم ثمن إلّا الجنّة فلا تبيعوها إلّا بها و قوله: «وَ أَمْوالَهُمْ» يريد الّتي ينفقونها في سبيل اللّه و على طاعة اللّه في المثوبات. و المشتري لا بدّ له من بايع و هاهنا بحسب الواقع البايع و المشتري هو اللّه، و بحسب الظاهر المشتري هو اللّه و البايع الّذين بذلوا أنفسهم و أموالهم في مرضات اللّه بالجهاد.

و أضاف سبحانه الأنفس و الأموال إليهم؛ لأنّ الإنسان عبارة عن الجوهر الأصليّ الباقي و هذا البدن يجري مجرى الآلة و الأدوات و المركب، و كذلك المال خلق وسيلة لرعاية مصالح هذا المركب؛ فاللّه سبحانه اشترى من الإنسان هذا المركب و هذا المال بالجنّة؛ لأنّ ذلك الإنسان الّذي عبّرنا عنه بالجوهر الأصليّ ما دام يبقى متعلّق الإرادة و القلب بمصالح عالم الجسم المتغيّر المتبدّل و هو البدن و المال امتنع وصوله إلى السعادات

ص: 189

العالية و الدرجات الشريفة لاشتغاله بهذين فإذا انقطع التفاته منهما و بلغ ذلك الانقطاع بحيث أن عرض البدن للقتل و الفناء و المال عرضه للإنفاق في طلب رضوان اللّه فقد بلغ أعلى درجة الهدى و فاز بالقدح المعلّى.

قوله: [فَيَقْتُلُونَ المشركين و يقتلهم المشركون فالجنّة جزاؤهم عن جهادهم سواء قتلوا أو قتلوا.

قوله: [وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا] أي إنّما يستحقّ الثمن بتسليم المبيع و إيجاب الجنّة لهم وعدا على اللّه حقّا لا شكّ فيه. و «وعدا» مصدر منصوب أي وعدهم اللّه الجنّة وعدا صدقا لا خلف فيه. و بقيّة الآية تأكيدات كلّها بعضها تلو بعض.

قوله: [فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ أي هذا الوعد وعد ثابت قد أثبته اللّه في التوراة و الإنجيل، و قيل: المراد أنّ اللّه تعالى بيّن في التوراة و الإنجيل أنّه اشترى من امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله أنفسهم و أخبر موسى و عيسى بهذه المبايعة من امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله. و قيل: معناه أنّ الأمر بجهاد الكفّار هو موجود في جميع الشرائع.

ثمّ أكّد هذا الوعد و صدّقه بقوله: [وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي إنّ نقض العهد كذب و خدعة و هو من القبائح في حقّ الإنسان المحتاج فكيف بالغنيّ بالذات؟ فهو أولى بإيفائه أي لا أحد أو في من اللّه ثمّ أكّد بقوله: [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ أي ابشروا بهذا الربح الّذي هو من عظيم الفوز.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 112]

التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

اعلم أنّه لمّا اشترى من المؤمنين أموالهم و أنفسهم بالجنّة بيّن في هذه الآية أنّ أولئك المؤمنين موصوفون بهذه الصفات التسعة أي هم التائبون.

قال الزجّاج: لا يبعد أن يكون «التائبون» مبتدءا و خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنّة و إن لم يجاهدوا لقوله: «وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى * (1) فحينئذ

ص: 190


1- النساء: 97.

يكون الوعد حاصلا لجميع المؤمنين. و يمكن أن يكون «التائبون» مبتدءا و قوله «العابدون، إلخ» خبرا بعد خبر أي التائبون من الكفر هم الجامعون لهذه الخصال.

و بالجملة الصفات التسع:

فالصفة الاولى: [التَّائِبُونَ قال ابن عبّاس: المراد التائبون من الكفر و الشرك و النفاق. و قال الاصوليّون: التائبون عن كلّ معصية. و هذا أولى؛ لأنّ التوبة أعمّ قد تكون من الكفر و قد تكون من المعصية، و «التائبون» صيغة عموم محلّاة بالألف و اللّام فيتناول الكلّ؛ فالتخصيص بالتوبة عن الكفر تحكّم.

و حقيقة التوبة إنّما يحصل عند حصول امور أربعة: أوّلها: احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه. و ثانيها: ندمه على ما مضى. و ثالثها: عزمه على الترك في المستقبل. و رابعها أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان اللّه و عبوديّته، فإن كان غرضه منها دفع مذمّة الناس أو سائر الأغراض فهو ليس من التائبين.

و الصفة الثانية: ثمّ قال: [الْعابِدُونَ و العبادة عبارة عن إتيان فعل مشعر يدلّ على تعظيم اللّه حسبما قرّره الشارع. قال قتادة و الحسن: هم قوم عبدوا اللّه في السرّاء و الضرّاء و أخذوا من أبدانهم في ليلهم و نهارهم.

و الصفة الثالثة قوله: [الْحامِدُونَ و هم الّذين يقومون بحقّ شكر اللّه على نعمه دينا و دنيا و يجعلون إظهار ذلك عادة لهم و اشتغالهم بالتسبيح و التهليل و التحميد و هذه الصفة كانت صفة الملائكة قبل أن يخلق اللّه الدنيا لأنّه تعالى أخبر عنهم بقوله: «وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ» (1).

و الصفة الرابعة: [السَّائِحُونَ و فيه أقوال: قال عامّة المفسّرين: هم الصائمون.

قال ابن عبّاس: كلّ ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام، قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: سياحة امّتي الصيام. و قيل: هم الّذين يديمون الصيام. و المناسبة في المعنى أنّ السائح لمّا كان يسيح في الأرض متعبّدا لا زاد معه كان ممسكا عن الأكل، و الصائم يمسك عن الأكل فلهذه المشابهة سمّي الصائم سائحا. ثمّ إنّ الإنسان إذا امتنع من الأكل و الشرب و أمثاله

ص: 191


1- البقرة: 28.

و سدّ على نفسه أبواب الشهوات انفتحت عليه أبواب الحكمة و تجلّت له أنوار الجلال فيصير من السائحين في عالم جلال اللّه و كماله، و من المنتقلين من درجة إلى درجة و من مقام إلى مقام فيحصل له سياحة في عالم الروحانيّات.

و القول الآخر في السائحين قال عكرمة و وهب بن منبّه: المراد طلّاب علم الشريعة ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم. و للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس بشرط أن تكون السياحة لاستفادة العلم و تحصيل معرفة اللّه و شواهد الربوبيّة لا لتفرّج شواهد الكفر كما هو معمول عندنا كأسفار الفرنج و إنّما هي التعرّب بعد الهجرة و هو من الكبائر.

و كانت السياحة في بني إسرائيل أنّ الرجل منهم إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون و قد يكون السائح يلقى في سياحته من الضرّاء و البأساء و يصبر عليها و قد ينقطع زاده فيحتاج إلى التوكّل على اللّه و قد يلقى أفاضل مختلفين فيستفيد منهم فوائد مخصوصة و كذلك يرى الأكابر من الناس في الدين فيستحقر نفسه في مقابلتهم فيصل إلى مقامات عالية و تقوى معرفته.

الصفة الخامسة و السادسة: [الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ و المراد منه إقامة الصلاة و إنّما جعل الركوع و السجود كناية عن الصلاة، لأنّ سائر أشكال الصلاة في المصلّي موافق للعادة كالقيام و القعود و الّذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع و السجود و به يتبيّن الفضل و التميّز بين المصلّي و غيره.

الصفة السابعة و الثامنة: [الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ] و اعلم أنّ كتاب أحكام الأمر و النهي و تفصيله لا يسعه هذا المختصر و في هذا إشارة إلى وجوب الجهاد سيفا أو عظة لأنّ رأس المعروف الإيمان باللّه و رأس المنكر الكفر باللّه، و الجهاد يوجب الترغيب في الإيمان و المنع و الزجر عن الكفر و الجهاد داخل في بابيه.

و الواو في قوله: «وَ النَّاهُونَ» للتسوية؛ فإنّ التسوية قد يجي ء بالواو تارة و بغير الواو اخرى؛ قال تعالى: «غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ» (1) و جاء بغير الواو مع معنى التسوية؛ قال تعالى: «شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ» (2) فجاء بعض بالواو و بعض بغير الواو و وجه آخر ذكروا

ص: 192


1- المؤمن: 2.
2- المؤمن: 2.

لإدخال الواو تنبيها على ما يحصل فيها لأهلها المشقّة و المحنة من دون سائر العبادات لظهور الخصومات و تحمّل المشقّات للمكلّف.

الصفة التاسعة: [وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ و المقصود أنّ فيه تكاليف كثيرة و هي محصورة في نوعين: أحدهما ما يتعلّق بالعبادات و الثاني ما يتعلّق بالمعاملات.

أمّا العبادات فهي لمصالح مرعيّة في الدين و هي الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ و الجهاد و الإعتاق و النذر و أمثالها.

و أمّا المعاملات فهي إمّا لجلب المنافع أو لدفع المضارّ: أمّا القسم الراجع لجلب المنافع فهي المنافع الحاصلة من طرف الحواسّ الخمسة كالمذوقات و يدخل فيها كتاب الأطعمة و الأشربة من الفقه، و لمّا كان الطعام قد يكون نباتا و قد يكون حيوانا؛ فدخل فيه كتاب الصيد و الذبائح و الضحايا و ما يحلّ أكله و ما يحرم. و ثانيها الملموسات و يدخل فيها باب أحكام الوقاع و لوازم النكاح كالمهر و النفقات، و أحوال القسم و النشوز و الطلاق و الخلع و الإيلاء و الظهار و اللعان و الأمور المتعلّقة بالملبوس و ما يجوز لبسه و لا يحلّ استعماله كأواني الفضّة و الذهب. و ثالثها المبصرات و هي باب ما يجوز النظر إليه و ما لا يجوز و هي راجعة إلى المحارم و غير المحارم. و رابعها المسموعات و هو باب ما يحلّ سماعه و ما لا يحلّ. و خامسها المشمومات و ليس للفقهاء فيها مجال.

و أمّا ما يتعلّق بالمنافع للدنيا فهو المعاملات و هو البيع و أمثاله و البيع إمّا بيع الأعيان أو منفعة الأعيان فأمّا بيع الأعيان كبيع العين بالعين أو بيع الدين بالعين و هو السلم، و أمّا بيع المنفعة فيدخل فيه الإجارة و الجعالة و المضاربة أو الأسباب الموجبة للملك كالإرث و الهبة و الوصيّة و إحياء الموات و الالتقاط و الفي ء و الغنائم و أخذ الزكوات و أمثال هذه الأمور فمثل هذه الأمور المذكورة ضبط امور حدود اللّه و تكاليفه في باب جلب المنافع.

و أمّا تكاليف اللّه و حدوده في باب دفع المضارّ فأقسام المضارّة كثيرة؛ إن حصلت في النفوس ففيها أقسام و أحكام منها القصاص أو الدية أو الكفّارة أو الأرش.

و أمّا المضارّ الحاصلة في الأموال كالغصب أو السرقة و أمثاله.

ص: 193

و أمّا المضارّ الحاصلة في الأديان فهي إمّا الكفر أو البدعة فله أحكام.

و أمّا المضارّ الحاصلة في الأنساب فيتّصل به تحريم الزناء و اللواط و العقوبة عليهما، و حدّ القذف و أحكام اللعان.

و لمّا كان أنّ كلّ أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع و دفع المضارّ بنفسه لضعفه أو لعدم علم طريقه أو لوقوع الهرج و المرج إذا باشر بنفسه؛ فلهذا السبب نصب اللّه الإمام لتنفيذ الأحكام و للإمام نوّاب و قضاة.

و لمّا لم يجز أن يكون قول الغير على الغير مقبولا إلّا بالحجّة فقرّر سبحانه لإثبات الحقّ حجّة مخصوصة و هي الشهادة و البيّنة أو اليمين فهذا ضبط معاقد تكاليف اللّه و حدوده على وجه الإجمال فالمؤمن هو الّذي يحفظ لحدود اللّه فهذه الآية تتناول جملة هذه التكاليف المذكورة على سبيل الاختصار.

و لمّا ذكر سبحانه هذه الصفات التسعة قال: [وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ .

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 113 الى 114]

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

لمّا كان من أوّل السورة الأمر بالبراءة عن المشركين أمر سبحانه أنّه يجب البراءة عن أمواتهم أيضا أي ليس للنبيّ و المؤمنين أن يطلبوا المغفرة للمشركين الّذين يعبدون مع اللّه إلها آخر و لا يوحّدونه في العبادة [وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أي و لو كان الّذين يطلبون لهم المغفرة أقرب الناس إليهم من بعد أن يعلموا أنّهم كفّار مستحقّون للخلود في النار.

النزول: إنّ المسلمين قالوا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله: أن نستغفر لآبائنا الّذين ماتوا في الكفر فنزلت فبيّن أنّه «ما كان». و إنّما عبّر سبحانه بقوله: «ما كان» أي ليس له حقّ أصلا و لم يجعل اللّه في حكمه و دينه أن يستغفروا للمشركين و لو دعتهم رقّة القرابة إلى الاستغفار لهم.

ثمّ بيّن أنّ الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه- سواء كان أبوه لأمّه أو عمّه على ما

ص: 194

رواه أصحابنا أو أبوه على قول العامّة- أنّ استغفاره عن موعدة وعدها إيّاه أي استغفاره كان عن موعدة.

و اختلف في أنّ الواعد هل هو إبراهيم أو أبوه؟ قيل: إنّ الموعدة كانت من الأب وعد بها إبراهيم أنّه يؤمن إن استغفر له فاستغفر له لذلك.

و قيل: إنّ الموعدة كانت من إبراهيم قال لأبيه: إنّي أستغفر لك ما دمت حيّا، و كان يستغفر له مقيّدا بشرط الإيمان فلمّا أيس من إيمانه تبرّأ منه، و هذا المعنى يوافق قراءة من قرأ «أباه» بالباء لا بالياء و يقوّيه قوله تعالى: «إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ». (1) قوله: [إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي دعّاء كثير الدعاء و البكاء و قيل: «الأوّاه» بلغة الحبشة المؤمن. و قيل: معناه الموقن المستيقن. و قيل: معناه الرّاجع عن كلّ ما يكره اللّه.

و قيل: أي المسبّح الكثير الذكر للّه. و قيل: هو المتأوّه شفقا و فرقا المتضرّع و لزوما للطاعة. و قيل: معناه الصبور على الأذى، الصفوح عن الذنب. و قد بلغ من حلم إبراهيم أنّ رجلا قد أذاه و شتمه فقال له: هداك اللّه.

و لمّا أمر اللّه النبيّ و المؤمنين بالبراءة عن المشركين و نهاهم من الموالات لهم و القيام بأمورهم و على قبورهم و الصّلاة على موتاهم فمنعهم في هذه الآية الاستغفار و الدعاء لموتاهم كناية عن البراءة عن حيّهم و ميّتهم سواء كانوا اولي قربى أو غير اولي القربى أي رحم ماسّة أو غير رحم ماسّة؛ فبيّن عذر استغفار إبراهيم لأبيه و بيّن أنّ إبراهيم مع أنّه كان حليما و رؤوفا و كونه على هذه الصفة يقتضي أن يكون على خلاص أقربائه أحرص و مع ذلك تبرّأ منه حيث يئس من فلاحه.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 115 الى 116]

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (116)

النزول: قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن ينزّل الفرائض فقال

ص: 195


1- الممتحنة: 4.

المسلمون: يا رسول اللّه إخواننا الّذين ماتوا قبل الفرائض كيف حالهم؟ فنزلت. و قيل:

لما نسخ بعض الشرائع و قد غاب أناس و هم يعلمون بالأمر الأوّل و يعملون به إذ لم يعلموا بالأمر الثاني مثل تحويل القبلة و غيره و قد ماتوا على الحكم الأوّل؛ فسئل النبيّ عن ذلك فنزلت و بيّن أنّه لا يعذّب هؤلاء على التوجّه إلى القبلة الاولى أو عدم العمل بما شرّع بعد النسخ و لا يضلّهم عن الثواب و الكرامة بعد إذ دعاهم إلى الإيمان حتّى يسمعوا النسخ و الحكم فيما لم يسمعوا فإذا سمعوا و علموا بالحكم و الناسخ فحينئذ إذا لم يعملوا يعذّبهم اللّه. و حاصل الأمر أنّ اللّه لا يؤاخذ بعمل إلّا بعد أن يبيّن لهم أنّه يجب عليهم أن يتّقوه.

و معنى قوله: [لِيُضِلَّ قَوْماً] أي ليصرفه عن طريق الصلاح و الجنّة. و لا يحكم عليهم بالضلال إلّا بعد البيان منه تعالى و عدم القبول عنهم فحينئذ يحكم عليهم بالضلال إنّه عالم بجميع المعلومات.

قوله: [لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ لمّا أمر بالبراءة عن المشركين حيّهم و ميّتهم بيّن في هذه الآية أنّ له ما في السماوات و الأرض و هو غنيّ عن كلّ شي ء و قادر على كلّ شي ء، فإذا كان كذلك و هو معكم و ناصركم فالكفّار لا يقدرون على إضراركم إذا تبرّأتم منهم و لو كان الكفّار آباءكم و أقاربكم؛ فإنّ المالك للسماوات و الأرض و المحيي و المميت لكم يعاونكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم، و لكون اللّه إلهكم و لكونكم عبيده وجب عليكم أن تنقادون لحكمه و تكليفه و تعرضون عن الكفّار.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 117]

لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)

أقسم اللّه تعالى بأنّه قبل توبتهم و إنّما ذكر النبيّ مفتاحا للكلام؛ لأنّه سبب توبتهم و إلّا فلم يكن منه صلى اللّه عليه و آله ما يوجب التوبة. روي أنّ عليّ بن موسى الرضا قرأ: لقد تاب اللّه بالنبيّ على المهاجرين و الأنصار الّذين اتّبعوه في الخروج معه إلى تبوك.

[فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ] و المراد من «الساعة» الوقت و هي صعوبة الأمر حتّى همّ قوم بالرجوع ثمّ تداركهم لطف اللّه. و حصلت عسرة الظهر و عسرة الماء و عسرة الزاد و عسرة الحرّ، و كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبون بينهم و يتناوبونه في الركوب.

ص: 196

و أمّا عسرة الزاد فربّما مصّ التمرة الواحدة جماعة حتّى لا يبقى من التمرة إلّا النواة و كان معهم من شعير مسوس فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة.

و أمّا عسرة الماء: قال عمر: خرجنا في قيظ شديد و أصابنا فيه عطش شديد حتّى أنّ الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه و يشربه. و المراد من العسرة هذه الأمور. و بلغ الجهد بهم كادت قلوب بعضهم تزيغ و تضلّ و تميل. و معنى الزيغ ميل القلب عن الحقّ.

و لمّا اشتدّ الأمر عليهم وقعت الوساوس في قلوب بعضهم و كادوا لا يثبتون على اتّباع الرسول في الغزوة. و «كاد» عند بعضهم يفيد المقاربة فقط و عند آخرين يفيد المقاربة مع عدم الوقوع. و يمكن هذه التوبة توبة عن تلك المقاربة.

قيل: كان عبد اللّه بن خيثمة تخلّف عن تبوك إلى أن مضى رسول اللّه من مسيره عشرة أيّام ثمّ دخل يوما على امرأتين له في يوم حارّ في عريشين لهما و قد رتّبتاهما و برّدتا الماء و هيّأتا له الطّعام فقام على العريشين و قال: سبحان اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قد غفر اللّه ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر في الضحّ و الريح و الحرّ و القرّ (1) يحمل سلاحه على عاتقه و أبو خيثمة في ظلال بارد و طعام مهيّأ و امرأتين حسناوين؟ اما هذا بالنصف! ثمّ قال: و اللّه لا اكلّم واحدة منكما كلمة و لا أدخل عريشا حتّى ألحق بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله فأناخ بعيره و اشتدّ عليه و ارتحل و امرأتاه تكلّمانه و لا يكلّمهما ثمّ سار حتّى إذا دنى من تبوك قال الناس هذا راكب على الطريق. فقال النبيّ: كن أبا خيثمة. فلمّا دنا قال النّاس: هذا أبو خثيمة فأناخ راحلته و سلّم على رسول اللّه فقال صلى اللّه عليه و آله: أولى لك، فحدّثه الحديث فقال له خيرا و دعا له، و هو الّذي زاغ قلبه للإقامة أوّلا ثمّ ثبّته اللّه اللّه و قبل توبته.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 118]

وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)

و قرئ خالفوا.

النزول: نزلت في كعب بن مالك و مرارة بن الربيع و هلال بن اميّة، و ذلك

ص: 197


1- الضح: الشمس و ضوؤها. و القر شدة البرد.

أنّهم تخلّفوا عن رسول اللّه و لم يخرجوا معه لا عن نفاق و لكن عن توان ثمّ ندموا فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه و آله المدينة جاءوا إليه يعتذرون إليه فلم يكلّمهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و تقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّموهم بهجرهم الناس حتّى الصبيان، و جاءت نساؤهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقلن:

يا رسول اللّه نعتزلهم فقال: لا و لكن لا يقربوكنّ. فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال و كان أهاليهم يجيؤون إليهم بالطّعام و لا يكلّمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس و لا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضا؟ فتفرّقوا و لم يجتمع منهم اثنان و بقوا على ذلك خمسين يوما يتضرّعون إلى اللّه و يتوبون إليه فقبل اللّه توبتهم و نزلت الآية.

قوله: [وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ هذه عبارة عن المبالغة في الغمّ أي ضيّق أنفسهم ضيق صدورهم [وَ ظَنُّوا] أي أيقنوا أنّه لا يعصمهم من اللّه موضع يعتصمون به و يلتجئون إليه غيره تعالى، و أن لا محيص لهم من عذاب اللّه إلّا التوبة [ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا] أي سهّل لهم التوبة حتّى تابوا و عادوا إلى حالتهم الاولى. و قيل: معناه: ثمّ تاب على الثلاثة و أنزل توبتهم على النبيّ صلى اللّه عليه و آله «ليتوبوا» أي ليتوب المؤمنون من ذنوبهم و يعلمون أنّه سبحانه قابل التوب.

قال المفسّرون: أما و اللّه ما سفكوا من دم و لا أخذوا من مال و لا قطعوا من رحم و لكنّ المسلمين تسارعوا في الشخوص مع رسول اللّه و تخلّف هؤلاء، و كان أحدهم بسبب ضيعة له و الآخر لأهله و الآخر طلبا للراحة ثمّ ندموا و تابوا فقبل اللّه توبتهم.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 119]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

لمّا حكم بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ذكر في هذه الآية ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى و هو التخلّف عن رسول اللّه في الجهاد بقوله: [اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة الرسول [وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أي مع الرسول و أصحابه في الغزوات.

و هذه الآية دالّة على فضيلة الصدق؛ روي أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قال:

إنّي رجل أريد أن او من بك إلّا أنّي احبّ الخمر و الزنا و السرقة و الكذب و الناس يقولون: إنّك تحرّم هذه الأشياء و لا طاقة لي على تركها بأسرها فإن قنعت بترك واحد منها آمنت بك فقال صلى اللّه عليه و آله: اترك الكذب فقبل ذلك ثمّ أسلم، فلمّا خرج عرضوا عليه الخمر

ص: 198

فقال: إن شربت و سألني الرسول عن شربها و كذبت فقد نقضت العهد و إن صدقت أقام عليّ الحدّ فتركها ثمّ عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه و كذلك السرقة فعاد إلى رسول اللّه و قال: يا رسول اللّه ما أحسن ما فعلت! لمّا منعتني عن الكذب انسدّت عليّ أبواب المعاصي؛ و تاب عن الكلّ. روي عن ابن مسعود أنّه قال: عليكم بالصدق فإنّه يقرّب إلى البرّ و البرّ يقرّب إلى الجنّة، و إنّ العبد ليصدق فيكتب عند اللّه صدّيقا و إيّاكم و الكذب؛ فإنّ الكذب يقرّب إلى الفجور و الفجور يقرّب إلى النار.

و قالوا في قباحة الكذب: إنّ إبليس إنّما ذكر هذا الاستثناء في قوله: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»* (1) لأنّه لو لم يذكره لصار كاذبا في ادّعائه فكأنّه استنكف عن الكذب و استثنى؛ فإذا كان الكذب شيئا يستنكف إبليس منه فالمسلم أولى بالاستنكاف.

و اختلف الناس في أنّ المقتضي لقبحه ما هو؟ فقال جماعة: المقتضي لقبحه هو كونه مخلّا لمصالح العالم و مصالح النفس. و قالت المعتزلة: المقتضي لقبحه هو كونه كذبا لقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» (2) أي لا تقبلوا قول الفاسق فربّما كان كذبا فيتولّد عن قبول ذلك الكذب فعل تصيرون نادمين عليه، و أيّ قبح أقبح من أن يكون الفعل مبغوضا عند اللّه؟

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 120 الى 121]

ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)

لمّا قصّ اللّه أحوال الّذين تأخّروا و تقاعدوا عن الخروج مع النبيّ في غزوة تبوك ذكر في هذه الآية على وجه التوبيخ بأنّه لا يجوز لأهل المدينة و لا يجوز لمن حول المدينة من سكّان البوادي من طوائف الأعراب. قيل: إنّهم مزينة و جهينة و أشجع و غفار و أسلم.

و قيل: بل جميع الأعراب الّذين كانوا أطراف المدينة؛ فإنّ الّلفظ عامّ و التخصيص تحكّم.

ص: 199


1- الجحر: 40.
2- الحجرات: 6.

و على القولين ليس لهم أن يتخلّفوا عن رسول اللّه و لا يجوز لهم أن يطلبوا لأنفسهم الراحة و الدعة حال ما يكون النبيّ في الحرّ و المشقّة و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أي ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه.

و بعد أن منعهم في صدر الآية عن التأخّر شرع في الترغيب لهم بذكر مثوبات الموافقة في الجهاد بأمور خمسة: أوّلها: [ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ] أي ذلك النهي عن التأخّر بأنّهم لا يصيبهم عطش في الجهاد [وَ لا نَصَبٌ و عناء و عيّ و تعب [وَ لا مَخْمَصَةٌ] أي جوع و ضمور بطن من الجوع. و لا يضعون أقدامهم و لا يضع حافر فرسه و لا يضع خفّ بعيره بحيث يصير ذلك سبيلا لغيظ الكفّار [وَ لا يَنالُونَ أعداءهم [نَيْلًا] أي أسرا أو قتلا أو هزيمة قليلا كان أو كثيرا [إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ و قربة إلى اللّه. و في الآية دلالة على أنّ من قصد طاعة اللّه فقيامه و قعوده و مشيته و حركته و سكونه كلّها حسنات مكتوبة عند اللّه و كذا القول في طرف المعصية فما أعظم بركة الطاعة و شؤم المعصية، و إنّ اللّه لا يضيع أجر من أحسن و لا يضيع عمل عامل.

و كذلك [وَ لا يُنْفِقُونَ في طاعة اللّه و جهاده [من نفقة صَغِيرَةً] كانت كالتمرة فما فوقها [وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً] و الوادي كلّ مفرج بين جبال و آكام يكون مسلكا للسيل إِلَّا [كُتِبَ اللّه [لَهُمْ ذلك الإنفاق و ذلك لمسير و كتب لهم ذلك [لِيَجْزِيَهُمُ على أحسن الجزاء من أعمالهم و أجلّ و أفضل و هو رضاء اللّه و ثوابه.

[سورة التوبة (9): آية 122]

وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

اعلم أنّه يمكن أن يقال: هذه الآية من بقيّة أحكام الجهاد و يمكن أن يكون كلاما مبتدءا مستأنفا لا تعلّق له في الجهاد، أمّا الأوّل لمّا بالغ اللّه في تحذير المتخلّفين عن الجهاد في غزوة تبوك قال المؤمنون: و اللّه لا نتخلّف في غزوة من الغزوات بعد هذا و لا عن سريّة فلمّا قدم رسول اللّه المدينة و أرسل السرايا إلى الكفّار نفر المسلمون جميعا إلى الغزو و تركوه وحده بالمدينة فنزلت الآية.

المعنى: أنّه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بكلمتهم إلى الجهاد و يتركون النبيّ وحده

ص: 200

بل يجب أن يصيروا طائفتين تبقى طائفة في خدمة الرسول و تنفر اخرى إلى الغزو و ذلك لأنّ الإسلام حينئذ كان محتاجا إلى الجهاد و قهر الكفّار و أيضا كانت التكاليف تحدث و الشرائع تنزل وقتا بعد وقت و كان بالمسلمين حاجة إلى جماعة مقيمين بحضرة الرسول عليه السّلام فيتعلّم الشرائع النازلة و يبلّغها إلى الغائبين فكان الواجب انقسام الأصحاب إلى قسمين أحد القسمين ينفرون إلى الغزو و الاخرى لحفظ الأحكام و إيصالها إلى الناس فالنافرة نائبون عن المقيمين، و المقيمون نائبون عن النافرين في التفقّه و بهاتين الطائفتين يتمّ أمر الدين.

«فلو لا» كلمة تستعمل للتحريض و التهديد مثل «هلّا» و «لو ما» و هذه الكلم الثلاثة للترغيب و «هل» كلمة استفهام و عرض و «لا» كلمة جحد فلو ركّبته صارت مركّبا من الأمرين:

الاستفهام و الجحد فكأنّك قلت: هل فعلت؟ ثمّ قلت: لا؟ يعني ما فعلت فينبّه المتكلّم على وجوب ذلك الفعل أي افعل و لم ما فعلت؟ فقوله تعالى: [فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ و يتعلّموا المسائل و بعد التعلّم يعلّموا قومهم الّذين لا يعلمون فيحذّرون الجاهلين و يتعلّمون منهم. (1) و اختلفوا في أنّ النافرة إلى الغزو متفقّهة أم المقيمة متفقّهة قيل: النافرة هم المتفقّهة لأنّهم يرون في الغزو من النصرة و الإعجاز و الظفر من اللّه لهم أمورا فيثبّطون شواهد الدين ثمّ يرجعون و يبيّنون للناس ما رأوا فيهتدون الناس بهم.

و قيل: المقيمة هي المتفقّهة، و على كلا التقديرين كانوا مأمورين بالتبعيض و الطائفتان هم المجاهدون منهم بالسيف و منهم بالعلم و بيان العلم و اللسان، فكلاهما مجاهدان و إليه الإشارة بقوله: مداد العلماء- إلى آخره-.

و المراد بالنفر في قوله: «فلو لا نفر» الخروج لطلب العلم، و في هذا دلالة على أنّ العلم لا يحصل إلّا في الغربة غالبا.

[سورة التوبة (9): آية 123]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

ص: 201


1- كذا.

المعنى: قاتلوا من قرب منكم من الكفّار الأقرب منهم فالأقرب في النسب و الدار. قيل:

إنّ هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافّة ثمّ إنّها نسخت بقوله: «قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً» و لكنّ المحقّقون أنكروا هذا النسخ و قالوا: هذه الآية بيان الأصلح و الأصوب و هو أن يبتدأ من الأقرب فالأقرب منتقلا إلى الأبعد فالأبعد، ألا ترى أنّ أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب؟ قال تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (1) و أمر الغزوات وقع على هذا المنهاج لأنّه حارب قومه ثمّ انتقل منهم إلى غزو سائر العرب ثمّ انتقل منهم إلى غزو الشام، و المسلمون لمّا فرغوا من أمر الشام دخلوا العراق؛ ثمّ إنّ مقابلة الكلّ دفعة واحدة متعذّرة و لمّا تساوى الكلّ في وجوب القتال معهم لما فيهم من الكفر و امتنع الجميع وجب الترجيح و القرب مرجّح ظاهر كما في الدعوة و سائر الواجبات كالنهي عن المنكر مثلا فالابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة.

ثمّ إنّ النفقات في القريب أقلّ من الأبعد، و المجاورين من الكفّار لدار الإسلام إمّا أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء؛ فإن كانوا أقوياء كان إيذاؤهم و تعرّضهم لدار الإسلام أشدّ و أكثر، و إن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل و حصول عزّ الإسلام بسبب انكسارهم أقرب و أيسر فكان الابتداء بهم أولى و إذا اجتمع واجبان و كان أحدهما أيسر حصولا وجب تقديمه و هذا الحكم جار في جميع الموارد لأنّ الأقرب سهل التناول؛ أما ترى أنّ الأعرابيّ لمّا جلس على المائدة و كان يمدّ يده إلى الجوانب في المائدة الجوانب البعيدة قال صلى اللّه عليه و آله له: كلّ ممّا يليك. فإن قيل: ربّما كان التخطّي من الأقرب إلى الأبعد أصلح قلنا: ذاك منفصل بدليل منفصل و المصالح مبنيّة على ما هو أكثر.

قوله: [وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً] فيها ثلاث لغات بفتح الغين و الكسر و الضمّ، أي يجدون الكفّار منكم شجاعة و شدّة، و الغلظة ضدّ الرأفة؛ لأنّ في الغلظة أثرا في الزجر و المنع، ثم إنّ الأمر في هذا الباب ليس على سبيل الاطّراد بل يحتاج تارة إلى الرفق و اللطف و اخرى إلى العنف فقوله: «وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» يدلّ على تعليل الغلظة و

ص: 202


1- الشعراء: 214.

هذه الغلظة في امور يرجع إلى الجهاد و القتال و أمّا ما يتّصل بالمعاشرة و المجالسة و المؤاكلة و البيع و الشراء و أمثال هذه فلا بل بالعكس [وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي من جاهد بسبب تقوى اللّه لا بسبب الغنائم و طلب الجاه و المال.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 124 الى 125]

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ (125)

لمّا ذكر مخازي الكافرين ذكر من جملة مخازيهم فقال: [وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ] فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعضهم: أيّكم زادته إيمانا بنزول هذه الآية؟ و مقصودهم تثبّت قومهم على الكفر و النفاق. و قيل: كان المنافقون يقولونه لأقوام من المسلمين و غرضهم صرف المسلمين عن الإيمان. و قيل: بل ذكروه على وجه الهزء فحصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران و حصل للكافرين أمران: أمّا ما حصل للمؤمنين أنّهم زاد إيمانهم و أقرّوا و اعترفوا بأنّها حقّ من عند اللّه و الثاني ما يحصل لهم من الاستبشار بثواب الآخرة و النصر و الغلبة و الفرح و السرور.

ثمّ جمع للمنافقين أمرين مقابلين للأمرين المذكورين للمؤمنين فقال: [وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ و المراد من الرجس العقائد الباطلة أي كانوا مكذّبين بالسور النازلة قبل ذلك و الآن صاروا يكذّبون بهذه السورة فانضمّ كفر إلى كفر و قيل: إنّهم كانوا قبل ذلك في الحسد و العداوة و إعمال وجوه الكفر و المكر و الآن بسبب نزول هذه السورة ازدادت. و الأمر الثاني أنّهم يموتون على كفرهم فكان هذه الحالة ضدّ الاستبشار الّذي حصل للمؤمنين؛ فالحالة الاولى من الكفّار كونهم على الرجاسة بسبب الكفر و الحالة الثانية ازدياد الرجاسة بمداومتهم و موتهم عليه لحصول الحسد الّذي أورث مزيد الكفر في قلوبهم، و من المعلوم أنّ نزول السورة ما أوجب زيادة الكفر في قلوبهم بدليل أنّ الآخرين سمعوا تلك السورة و ازدادوا إيمانا فثبت أنّ الرجاسة هم فعلوها من قبل أنفسهم و اللّه تعالى ما صدّهم عن الإيمان كما قالت الأشاعرة.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 126]

أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

.

ص: 203

و قرئ «ترون» بالخطاب للمؤمنين، و في الآية تقريع للمنافقين عن الاعتبار و النظر كأنّ المعنى أنّهم لا يشعرون أنّ في كلّ سنة مرّة أو مرّتين يرون أمورا يبتغي أن يعتبرون بها؛ يمتنحون بالجهاد مع رسول اللّه و يرون من نصره اللّه و ما ينال أعداء اللّه من القتل و السبي. و قيل: بالشدّة و المرض و الجوع و القحط. و قيل: يبيّن اللّه سرائرهم و يخبر اللّه نبيّه بنفاقهم بنزول الوحي و الآيات في حقّهم و مع ذلك لا ينتبهون و لا يتناهون و لا يتوبون عن نفاقهم.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 127 الى 129]

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

هذا نوع آخر في ذكر مخازي المنافقين و هو أنّه كلّما نزلت سورة مشتملة على ذكر المنافقين تأذّوا من سماعها و نظر بعضهم إلى بعض نظرا مخصوصا دالّا على الطعن و الهزء بها و أخذوا في التغامز و التضاحك ثمّ قال بعضهم لبعض: [هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ] أي لو يراكم أحد على هذا النظر و الشكل لضرّكم جدّا لأنّ ذلك النظر دلّ على الإنكار الشديد منهم و النفرة التامّة فكانوا يخافون أن يراهم أحد من المسلمين على هذه الحالة فإذا تحقّق لهم أنّهم لا يراهم أحد بالغوا فيه و إن علموا أنّه يراهم أحد من المسلمين كفّوا.

[ثُمَّ انْصَرَفُوا] عن مجلس النبيّ [صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الفوائد الّتي يستفيدها المؤمنون. أو المعنى: صرف اللّه قلوبهم عن رحمة اللّه و عن ثوابه عقوبة لهم عن الانصراف عن الإيمان بالقرآن و عن مجلس النبيّ. و قيل: إنّه على وجه الدعاء و دعاء اللّه على عباده و عيد لهم و إخبار بوقوع العذاب لهم بسبب أنّهم لا يفقهون خطاب اللّه.

ثمّ خاطب جميع المكلّفين و أكّد خطابه بالقسم فقال: [لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ .

عنى به محمّدا أي جاءكم رسول من جنسكم من البشر من العرب ثمّ من بني إسماعيل من نكاح لم يصبه شي ء من ولادة الجاهليّة؛ لأنّ نسب إسماعيل غير مدخول فصاعدا فنازلا و إنّما منّ اللّه عليهم بكونه منهم لأنّهم إذا عرفوا مولده و مخبره و منشأه و شاهدوه صغيرا و كبيرا

ص: 204

و عرفوا صدقه و أمانته و لم يعثروا بنقيصة منه فبالحريّ أن يكونوا أقرب إلى القبول منه و الانقياد له [شديد عليه عنتكم و ضرركم بترك الإيمان و لا يرضى بهلاكتكم حريص على إيمانكم رؤوف و ذو رقّة بالمؤمنين. و أقرّ بأنّه رؤوف بمن رآه و رحيم بمن لم يره. و لم يجمع اللّه سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلّا محمّدا صلى اللّه عليه و آله فإنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، و قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ»*.

قوله: [فَإِنْ تَوَلَّوْا] و ذهبوا عن الحقّ و اتّباع الرسول و أعرضوا عن قبول نبوّتك [فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي يكفيني اللّه فإنّه القادر على كلّ شي ء [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و عليه اعتمدت و فوّضت اموري [وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ و خصّ العرش بالذكر تفخيما لشأنه و لأنّه إذا كان ربّ العرش و مدبّره مع عظمته كان ربّ ما دونه.

و قيل: إنّ العرش عبارة عن الملك و القدرة و السلطان. و قيل: هذه الآية آخر آية نزلت من السماء و آخر سورة و آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان.

خاتمة سورة البراءة.

ص: 205

سورة يونس

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة يونس (10): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1)

السورة مكّيّة إلّا قوله: «وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ» أو ثلاث آيات فإنّها نزلت في اليهود بالمدينة.

قرئ بفتح الراء على التفخيم و بكسر الراء على الإمالة، و قرئ بين الفتح و الكسر و اتّفقوا على أنّ «الر» وحده ليس آية و على أنّ «طه» آية لأنّ «الر» لا يشاكل مقاطع الآيات الّتي بعده بخلاف «طه» فإنّه يشاكل مقاطع الآي الّتي بعده قال ابن عبّاس: «الر» معناه أنا اللّه أرى. و قيل: معناه أنا الربّ لا ربّ غيري. و الأصحّ أنّ فواتح السور علمها عند النبيّ صلى اللّه عليه و آله و مرموزات. و قيل: «الر» و «حم» و «ن» اسم الرحمن.

فعلى بناء أنّ هذه الحروف المقطّعة اسم للسورة فتقديره: هذه السورة مسمّاة؛ (الر) و الإشارة إليها قبل جريان ذكرها باعتبار كونها على جناح الذكر فصارت في حكم الحاضر و بصدده كما يقال: هذا ما اشترى فلان.

[تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يحتمل أن يكون إشارة إلى ما في هذه السورة من الآيات و يمكن أن يكون إشارة إلى ما تقدّم هذه السورة من الآيات. و الكتاب الحكيم يمكن أن يكون المراد القرآن، و يمكن أن يكون المراد الكتاب المكنون المخزون عند اللّه الّذي نسخ كلّ كتاب منه و هو اللوح المحفوظ و امّ الكتاب فتقدير المعنى: تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب الحكيم لأنّه سبحانه وعد رسوله بل وعد أنبياءه قبل أن

ص: 206

ينزل على محمّد كتابا لا يمحوه الماء و لا يغيّره كرور الدهر، فحينئذ المعنى أنّ تلك الآيات الّتي في سورة «الر» هي ذلك الكتاب المحكم الموعود به الّذي لا يمحوه شي ء.

و على هذا تكون الإشارة إلى الحاضر و «تلك» يشاربها إلى الغائب فكيف يحسن الإشارة بتلك؟

و أجيب عن هذا في أوّل سورة البقرة في قوله: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» قالوا:

إنّه لمّا وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك و قد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك. ثمّ إنّ القرآن لمّا اشتمل على حكم عظيمة و علوم كثيرة يتعسّر اطّلاع القوّة البشريّة عليها بأسرها و الآيات و إن كان حاضرا نظرا إلى صورته لكنّه غائب نظرا إلى أسراره و حقائقه؛ فجاز و صحّ أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب و الإشارة وقعت بالغائب لعلوّ شانه و كونه في الغاية القاصية من الشرف و جعله في حكم المتباعد. هذا إذا كان الإشارة إلى هذه الآيات الّتي في هذه السورة و أمّا إذا كان لفظ «تلك» إشارة إلى ما تقدّم هذه السورة من آيات القرآن فالمعنى أنّ تلك الآيات المتقدّمة هي آيات ذلك الكتاب المكنون الّذي يعبّر عنه بامّ الكتاب و يكون المعنى حينئذ إشارة إلى البعيد و يندفع الإشكال.

و أمّا وصف الكتاب بالحكيم لأنّه يشتمل على الحكمة و الصلاح أو أنّه بمعنى الحاكم لأنّه يميّز الحقّ عن الباطل و الصواب عن الخطاء و حاكم لمحمّد بالنبوّة لأنّ القرآن معجزته الكبرى و يبيّن صدق نبوّته و يحكم برسالته. أو المراد وصف الكلام بصفة من تكلّم به؛ قال الأعشى:

و غريبة تأتي الملوك حكيمةقد قلتها ليقال من ذا قالها؟

و يمكن أن يكون الحكيم معناه المحكم و الممتنع عن الفساد و الخلل أي لا يغيّره طول الدهر و الحكيم في أصل اللغة عبارة عن الّذي يفعل الحكمة و الصواب و لمّا كان القرآن يدلّ على الحكمة و الصواب فوصف القرآن به مجازا.

قوله: [سورة يونس (10): آية 2]

أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)

.

ص: 207

إنّ كفّار قريش تعجّبوا من تخصيص اللّه محمّدا بالرسالة و الوحي فأنكر اللّه عليهم ذلك التعجّب و الكفّار بلغوا في الجهالة إلى أن تعجّبوا من كون الإله واحدا كما في قوله: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ» (1) فإذا كان الحال كذلك فغير بعيد أن يتعجّبوا من تخصيص النبيّ بالوحي و الرسالة. و كان أهل مكّة يقولون: إنّ اللّه ما وجد رسولا إلى خلقه إلّا يتيم أبي طالب! فأنكر اللّه عليهم هذا التعجّب بقوله:

[أَ كانَ لِلنَّاسِ إلخ، أي أ كان إيحاؤنا إلى رجل من الناس بأن ينذرهم يكون عجبا و ليس هذا موضع التعجّب، و أمر إرسال الرسل أمر ما أخلى اللّه شيئا من أزمنة وجود المكلّفين كما قال: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ»* (2) فكيف يتعجّب و قد سبق نظائره؟ و لو كان تعجّبهم اختصاص محمّد بالوحي أيضا غلط؛ لأنّه تعالى بعث رجلا منهم مسلّم عندهم بالأمانة و الصدق و طهارة النسب و حسن الأخلاق عند العدوّ و الصديق و إذا كان فقره موجبا لتعجّبهم فاللّه أغنى الأغنياء فيغنيه فحينئذ لا وجه لتعجّبهم.

ثمّ بيّن الوجه الّذي لأجله بعث و ما الّذي أوحى إليه أن أخبرهم بالعذاب و خوّفهم به [وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا] أي عرّفهم ما فيه من الشرف و الخلود في نعيم الجنّة على وجه الإلزام لصالح الأعمال و قوله: [أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ أي أجرا حسنا و منزلة رفيعة.

و قيل: إنّ المعنى: سبقت لهم الحسنى في الذكر الأوّل. و قيل: تقديم اللّه إيّاهم في البعث يوم القيامة بيانه: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة.

[قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ يعنون النبيّ، أي هذا ساحر مظهر للسحر و ما أتى به سحر بيّن، و السحر فعل يخفى فيه وجه الحيلة و إنّما قدّم الإنذار في الآية على التبشير؛ لأنّ التخلية مقدّمة على التحلية و إزالة ما لا ينبغي مقدّم على فعل ما ينبغي.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 3 الى 4]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)

ص: 208


1- ص: 5.
2- الرعد: 109.

لمّا حكى عن الكفّار أنّهم تعجّبوا من رسالة رجل منهم أزال تعجّبهم بأنّه لا يبعد البتّة أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشّرهم على الأعمال الصالحة و ينذرهم عن الأعمال القبيحة و يؤدّبهم بأدب المعروف. و هذا إنّما يصحّ إذا كان لهذا العالم إله قاهر قادر حكيم يضع كلّ شي ء بعد الخلق موضعه، و يأمرهم و ينهاهم.

ثمّ لا بدّ أن يكون الحشر و القيامة و البعث ثابتا حتّى يحصل الثواب و العقاب اللّذان أخبر الأنبياء عن وقوعهما، فلا جرم سبحانه ذكر في الآية ما يدلّ على تحقّق هذين الأمرين.

أمّا الأوّل و هو إثبات الإلهيّة فبقوله: [إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أمّا الثاني و هو إثبات الحشر و النشر و البعث و القيامة فبقوله: [إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا].

و الاستدلال في الآية بخلق السماوات و الأرض من وجوه؛ لأنّهما مادّة كلّ شي ء و معلوم أنّ الأجرام الفلكيّة مركّبة من الأجزاء الّتي لا تتجزّى لأنّها قابلة للقسمة العقليّة و كلّما كان مركّبا من الأجزاء و الأبعاض وجب افتقارها إلى مقدّر و خالق لأنّها لمّا تركّبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم و بعضها حصلت على سطحها، فلها داخل و خارج و فوق و تحت و تلك الأجزاء متساوية في الطبع و الماهيّة و الحقيقة. و الفلاسفة أيضا أقرّوا بصحة هذه المقدّمة حيث قالوا: إنّها بسائط و قالوا: يمتنع كونها مركّبة من أجزاء مختلفة الطبائع.

و إذا ثبت هذا فنقول: حصول بعضها في الداخل و بعضها في الخارج أمر ممكن الحصول جائز الثبوت، يجوز و يمكن أن ينقلب الظاهر باطنا و الباطن ظاهرا و إذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبّر و قاهر و مسخّر يخصّص بعضها بالداخل و بعضها بالخارج، فثبت أنّ الأجرام السماويّة و الأرضيّة في تركيبها و شكلها و صفاتها مفتقرة (ظ) إلى مدبّر قاهر متصرّف عليم حكيم.

ص: 209

و الوجه الثاني في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر هو أنّه إنّا نرى بالحسّ و العيان أنّ الأفلاك لها حركات و تغيّرات؛ لأنّ المراد من الحركة و التغيّر التغيّر من حال إلى حال و هذه الحالة أي الحركة و التغيّر تقتضي المسبوقيّة بالحالة المنتقل عنها و الأزليّة تنافي المسبوقيّة بالغير فكان الجمع بين الحركة و بين الأزل محالا فثبت أنّ لحركات الأفلاك و تغييراتها لها بداية و أوّل و أوّليّتها و حركاتها مسبوقة بالعدم في الأوّل فافتقرت حركاتها إلى محرّك خالق فيها الحركة و الوجود و هو الإله.

ثمّ قد حصل من هذا الاستدلال و البيان دليل آخر، و هو أنّه لمّا ثبت افتقارها إلى مدبّر قاهر و تخصيص الأجرام بالحركة في ذلك الوقت المعيّن دون ما قبله و دون ما بعده لا بدّ و أن يكون بتخصيص مخصّص و ترجيح مرجّح، و ذلك المخصّص يتصرّف فيها كيف يشاء و هو اللّه. ثمّ إنّ أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر و أجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأوّل فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن و لا بدّ للتخصيص من مرجّح فثبت المطلوب. فبيان الآية مغن و مبيّن دلائل التوحيد و لذا بعد بيان الإلهيّة ذكر دلائل ألوهيّته بذكر السماوات و الأرض اللتين موادّ الموجودات.

و بالجملة [إِنَّ رَبَّكُمُ إلخ أي خالقكم و منشئكم و مالك تدبيركم و الّذي يجب عليكم عبادته [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ اخترعهما و أنشأهما من غير مثال على ما فيهما من عجائب الصنعة و بدائع الحكمة [فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ بلا زيادة و نقصان مع قدرته على إنشائهما دفعة واحدة، و الوجه فيه أنّ في ذلك مصلحة للملائكة و عبرة لمن استخبر عن ذلك، و كذا تصريف الإنسان حالا فحالا من النطفة و العلقة و المضغة، ثمّ و ثمّ، و إخراج الثمار و الأزهار شيئا بعد شي ء مع قدرته على ذلك في أقلّ من لمح البصر لأنّ ذلك أبعد من توهّم الاتّفاق فيه، و في «الأيّام» قيل: من أيّام الدنيا و قيل: من أيّام الآخرة.

[ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قيل: إنّ العرش المذكور هنا هو السماوات و الأرض لأنّهن من بنائه و العرش البناء، و أمّا العرش العظيم الّذي تعبد اللّه الملائكة حوله و يعظّمونه و عناه بقوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ» فهو غير هذا «ثمّ استوى» أي استولى عليه بإنشاء التدبير من جهة العرش كما يستوي الملك على سرير مملكته بالاستيلاء على

ص: 210

تدبيره فإنّ تدبير الأمور كلّها ينزل من عند العرش و لهذا ترفع الأيدي في دعاء الحوائج نحو العرش [يُدَبِّرُ الْأَمْرَ] أي يقدّره على وجهه و يرتّبه على مراتبه على أحكام عواقبه. و هو مأخوذ من الدبور.

[ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ و إنّما قال هذا و لم يجر ذكر للشفعاء لأنّ الكفّار كانوا يقولون: الأصنام شفعاؤنا عند اللّه فبيّن اللّه أنّ الشفعاء إنّما يشفعون عنده إذا أذن لهم فالأصنام الّتي لا تعقل فكيف تكون شافعة؟ [ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ إنّ الموصوف بهذه الصفات هو إلهكم [فَاعْبُدُوهُ وحده لأنّه لا إله لكم سواه و لا تعبدوا الأصنام [أَ فَلا تَذَكَّرُونَ .

و تتفكّرون؟

[إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ «المرجع» يحتمل فيه أن يكون بمعنى المصدر الّذي هو الرجوع و الآخر أن يكون بمعنى موضع الرجوع أي إليه موضع رجوعكم يكوّنه إذا شاء [وَعْدَ اللَّهِ ذلك وعدا [حَقًّا] صدقا [إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد موتهم ليؤتيهم جزاء أعمالهم بالعدل لا ينقص من أجورهم شيئا [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء حارّ انتهى حرّه في النار [وَ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع جزاء على كفرهم و اعلم أنّ في هذه الآية دلالات صريحة علي المبدأ و المعاد أمّا المبدأ فقد أشرنا إليه في تحقيق حركات الأفلاك و وضعها و أمّا المعاد فإليه الإشارة بقوله: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» لأنّا إمّا نقول بثبوت النفس الناطقة أولا؛ فإن قلنا به فزال الإشكال لأنّه كما لا يمتنع تعلّق هذه النفس بالبدن في المرّة الاولى لم يمتنع تعلّقها بالبدن مرّة اخرى و إن أنكرنا القول بالنفس فنقول: إنّه سبحانه يركّب تلك الأجزاء المفرّقة تركيبا ثانيا كما خلقها أوّلا، و يخلق الإنسان الأوّل بجمع تراكيبها و أجزائها مرّة اخرى كما ترى الأرض وقت الخريف و الشتاء، و ترى اليبس مستوليا عليها.

ثمّ إنّه ينزل المطر عليها في الشتاء و الربيع فتصير متحلّية بالأزهار و الأنوار كعام الماضي من غير اختلاف في الصورة و المادّة كما قال تعالى: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ... فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ» (1) و قال تعالى

ص: 211


1- فاطر: 10.

«أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» (1).

قال صلى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم الربيع فأكثروا ذكر النشور و نعمت المشابهة بين الربيع و النشور و كذلك كلّ إنسان يرى في نفسه من الزيادة و النقيصة و النموّ و الذبول بسبب الهزال و المرض، ثمّ يعود إلى حالته الاولى من السمن و الصحّة فما جاز كون بعضه جاز كون كلّه فظهر أنّ الإعادة غير ممتنعة، و أنّه تعالى لمّا كان قادرا على إنشاء ذواتكم ثمّ على إنشاء أجزائكم ثانيا حال تركّبكم و حياتكم شيئا فشيئا وجب القطع أيضا بأنّه لا يمتنع عليه إعادتكم بعد البلى في القبور لحشر يوم القيامة. و أيضا كان قادرا على خلقكم أوّلا من غير مثال سبق فلأن تكون قادرا على إيجاده اخرى مع سبق المثال أولى و أحرى كما قال:

«قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» (2).

و هذا المعنى قرّره سبحانه في آيات كثيرة منها في هذه الآية قوله: «يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» و كذلك قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ إلى قوله- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ* وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» (3) و كذلك قوله: «قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» (4).

و من الآيات الدالّة على وقوع الحشر قوله: «أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» (5) و كذلك قوله: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (6) و أمثال هذه الآيات كثيرة و هي الوجوه المستنبطة على وقوع المعاد فكيف يستنكر الحياة بعد الموت. و وجه الاستبعاد من حيث إنّه

ص: 212


1- الزمر: 22.
2- يس: 79.
3- الحج: 9- 6.
4- الإسراء: 53.
5- يس: 81.
6- الأحقاف: 32.

يحصل الضدّ بعد حصول الضدّ و هذا غير مستنكر من قدرة اللّه كما أنّه نجد النار و مادّتها مع حرّها و يبسها توجد و تتولّد من الشجر الأخضر مع برده و رطوبته فحصل الضدّ من الضدّ فقال سبحانه: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» (1).

و الامّة فريقان منهم من يقول: إنّ المعاد واجب على اللّه عقلا، و فريق يقول: لا يجب شي ء عليه أصلا. و القول الثاني ضعيف جدّا و على القول بالوجوب قالوا: يجب أن يكون إله العالم رحيما عادلا منزّها عن الإيلام و الإضرار إلّا لمنافع أجلّ و أعظم منها؛ و من الواجب في حكمته و عدله سبحانه أن يأمرهم بما هو خير لهم و ينهاهم عمّا يضرّهم فإنّه لو لم يمنع عن القبائح و لم يرغّب في الخيرات قدح ذلك في كونه محسنا عادلا و من المعلوم أنّ الترغيب في الطاعات لا يمكن إلّا بربط الثواب بفعلها و الزجر عن القبائح لا يمكن إلّا بربط العقاب بفعلها، و ذلك الثواب المرغّب فيه و العقاب المهدّد به غير حاصل في دار الدنيا فلا بدّ من دار اخرى يحصل هذا الثواب و هذا العقاب و هو المطلوب و هذا هو الدليل الأوّل.

قوله: [لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ] ثم إنّا نرى في هذه الدنيا أنّ أزهد الناس و أعلمهم و أعلمهم مبتلى بأنواع الغموم و الأحزان و الظلم و الابتلاء و أجهلهم و أظلمهم في أعظم اللّذّات و المسرّات فيحصل القطع بأنّ دار الجزاء يمتنع أن يكون هذه الدار و لا بدّ من دار اخرى و من حياة اخرى حتّى يتدارك للمحسن و المسي ء و أن لا يجعل من كفر به و جحده و ظلم الخلق بمنزلة من أطاعه، و لمّا وجب إظهار هذه التفرقة فحصول هذه التمايز إمّا في دار الدنيا أو في دار الآخرة، و الأوّل باطل فحقّ الثاني، و ثبت أنّه لا بدّ بعد هذه الدار من دار اخرى و هو المراد من قوله تعالى في سورة طه: «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (2) و في سورة ص: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» (3).

ثمّ إنّا نشاهد بعقولنا أنّه لو كان لسلطان قادر قاهر جمع من العبيد و الحشم و كان

ص: 213


1- يس: 80.
2- الآية: 15- 16.
3- الآية: 27.

بعضهم أقوياء و بعضهم ضعفاء وجب على ذلك السلطان إذا كان عادلا رحيما شفيقا عليهم أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القويّ فإن لم يفعل ذلك كان ذلك نقصا في عدله و كان راضيا بذلك الظلم و حاشاه؛ فوجب الانتصاف و ما وقع في الدنيا فلا بدّ من أن يقع في دار اخرى.

و حجّة اخرى هاهنا نذكرها أنّه تعالى خلق هذا العالم و ما فيه إمّا لمنفعة و مصلحة أولا و خلقهم لغوا، و الثاني لا يليق به و هو منزّه عنه. و الأوّل فذلك النفع و الصلاح إمّا أن يحصل في هذا العالم أو في دار اخرى، و الأوّل باطل من وجهين: الأوّل أنّ لذّات هذا العالم لا حقيقة لها إلّا إزالة الألم و إزالة الألم أمر عدميّ و هذا العدم كان حاصلا حال كون كلّ واحد من الخلائق معدوما و حينئذ لا يبقى للتخليق فائدة. و الثاني أنّ لذّات هذا العالم ممزوجة بالآلام و المحن بل الدنيا طافحة بالشرّ و الآفات و المحن و البليّات، و اللذّة فيها كالقطرة في البحر فعلم أنّ الدار الّتي فيه الصلاح و النفع غير هذه الدار.

فإن قيل: أليس أنّه تعالى يولم أهل النار بأشدّ العذاب لا لأجل مصلحة و لا لحكمة؟

قلنا: أوّلا لا نسلّم هذه الصغرى ثمّ على فرض التسليم الفرق في ذلك أنّ الألم و الضرر ضرر مستحقّ على أعمالهم الخبيثة و أمّا الضرر الحاصل في الدنيا فغير مستحقّ فوجب أن يعقّبه خيرات عظيمة و منافع جابرة لتلك المضارّ السالفة لهذا الزاهد الطائع المظلوم و لو لم يقع جزاء هذا المظلوم و ذلك الظالم لينا في أن يكون أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين.

و أيضا هاهنا حجّة اخرى و هي أنّه لو لم يحصل للإنسان معاد لكان الإنسان أخسّ من جميع الحيوانات في المنزلة و الشرف و اللازم باطل و الملزوم مثله؛ بيان الملازمة أنّ مضارّ الإنسان في الدنيا أكثر من مضارّ جميع الحيوانات فإنّ سائر الحيوانات قبل وقوعها في الآلام و الأسقام، تكون فارغة البال طيّبة النفس لأنّه ليس لها فكر و تأمّل، أمّا الإنسان فإنّه بسبب ما حصل له من العقل يتفكّر أبدا في الأحوال الماضية و الأحوال المستقبلة؛ فيحصل له بسبب التعقّل في الأحوال الماضية الحزن و التأسّف و بسبب التعقّل في الأمور

ص: 214

المستقبلة الخوف فبحصول العقل و كونه فيه يتألّم بالآلام النفسانيّة الشديدة القويّة و أمّا اللذّات الجسمانيّة فهي مشتركة بين الإنسان و بين سائر الحيوان لأنّ السرقين في مذاق الجعل طيّب كما أنّ اللوز في مذاق الإنسان طيّبة.

إذا ثبت هذا فلو لم يحصل للإنسان معاد- و به تكمل حالته و تظهر سعادته- لوجب أن يكون كمال العقل سببا لمزيد الهموم و الغموم من غير جابر يجبر، و كلّ ما كان كذلك يوجب مزيد الشقاء و التعب الخالي عن المنفعة فثبت أنّه لو لا سعادة الآخرة لكان الإنسان أخسّ من الحيوانات حتّى الخنافس و الديدان فثبت أنّ الإنسان خلق للبقاء و الآخرة لا للفناء و الدنيا.

ثمّ هاهنا بيان آخر و هو أنّه لا شكّ أنّ الإنسان و بدن الحيوان إنّما تولّد من النطفة و هذه النطفة اجتمعت من البدن، و مادّة النطفة إنّما تولّدت من الأغذية المأكولة و الأغذية تولّدت من الأجزاء العنصريّة و تلك كانت متفرّقة في مشارق الأرض و مغاربها و ألفت الأجزاء إذا اجتمعت فتولّد منها حيوان أو نبات فأكله إنسان فتولّد منه دم فتوزّع الدم على أعضائه فتولّد منها أجزاء لطيفة منويّة فعند استيلاء الشهوة سال من تلك الرطوبات مقدار في فم الرحم فتولّد منه هذا الإنسان فثبت أنّ الأجزاء الّتي تولّد منها بدن الإنسان كانت متفرّقة في العناصر فلمّا اجتمعت بالطريق المذكور تولّد منها هذا البدن، فإذا مات تفرّقت تلك الأجزاء على مثال تفرّق الأوّل و إذا ثبت هذا وجب القطع بأنّه لا يمتنع أن يجتمع مرّة ثانية على مثال الاجتماع الأوّل مع أنّا نقطع بأنّ هذا الإنسان الشيخ المنحني هو عين ذلك الإنسان الّذي كان في بطن امّه ثمّ انفصل و كان طفلا ثمّ شابّا و أنّ الأجزاء البدنيّة دائمة التحلّل و أن الإنسان هو هو بعينه فالإنسان إمّا أن يكون جوهرا مفارقا مجرّدا و إمّا أن يكون جسما نورانيّا لطيفا باقيا مع تحلّل هذا البدن، و على التقديرين لا يمتنع عوده إلى الجثّة مرّة اخرى فيكون هذا الإنسان العائد عين الإنسان الأوّل.

و اعلم أنّ إثبات الشي ء لا يعقل إلّا بطريقين: أحدهما أن يكون مثله ممكنا فيكون

ص: 215

هذا أيضا ممكنا. و الثاني أن يقال: إنّ ما هو أعظم منه و أعلى حالا منه ممكن فهو أيضا ممكن.

فذكر الطريق الأوّل فقال: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (1) إشارة إلى العود و إلى كمال القدرة و العلم و منكر و الحشر و النشر لا ينكرونه إلّا لجهلهم بهذين الأصلين لأنّهم تارة يقولون: إنّه يمتنع كونه عالما بالجزئيّات فيمتنع منه تميّز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو. و تارة يقولون: إنّه موجب بالذات و الموجب بالذات لا يصحّ منه القصد إلى التكوين و شبهتهم الفلاسفة في المعاد من هذين الأصلين لا جرم لمّا ذكر اللّه المعاد أردفه بدفع هذين الأصلين.

ثمّ ذكر بعده الطريق الثاني و هو الاستدلال بالأعلى على الأدنى بقوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، إلخ» (2) و هو أنّ الحرارة الناريّة أقوى في الحرارة من الحرارة الغريزيّة فلمّا لم يمتنع تولّد الحرارة الناريّة عن الشجر الأخضر مع كمال مضادّتهما؛ فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزيّة في جرم الشراب و هو أولى؟.

ثمّ حسم مادة الشبهات بقوله: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (3) أي تخليقنا ليس بالأدوات و لا يتوقّف على الآلات، و الدليل عليه أنّه خلق الأب الأوّل لا عن أب سابق عليه، ثمّ تأمّل في هذه الحجّة و هي أنّه قد دلّت الدلائل على أنّ العالم محدث، و إذا كان كذلك فلا بدّ له من محدث قادر عالم بمصالح حدوثه و أوضاعه فحينئذ لا يجوز في حقّ هذا الحكيم أن يهمل عبيده من غير أن يأمرهم بما ينفعهم و ينهاهم عمّا يضرّهم و لا يجوز له أن يتركهم سدى حتّى يفعلوا ما يشاءوا من القتل و النهب و الفساد في العالم، و إيقاع الهرج و المرج، و يجحدوا ربوبيّته و يأكلوا نعمته و يعبدوا الجبت و الطاغوت؛ لأنّ مثل هذه الأمور لا يقع و لا يليق إلّا بالسفيه البعيد من الحكمة، و بداهة العقل يحكم بفساده فلا بدّ له من أن يأمر و ينهى فإذا أمر و نهى و لم يقرن الأمر بالوعد و الثواب و لم يقرن النهي بالوعيد و العقاب لم يتأكّد الأمر و النهي و لم يحصل المطلوب و الأثر.

فثبت أنّ الوعد و الوعيد لا بدّ أن يقع من الحكمة، و هل يجوز له أن لا يفي بوعده

ص: 216


1- يس: 79- 80.
2- يس: 79- 80.
3- النحل: 42.

لأهل الثواب؟ و لا بوعيده لأهل العقاب من الكافرين؟ و لا شكّ أنّه لا يجوز عليه الكذب لأنّه لو جاز ذلك لما حصل الوثوق بوعده و وعيده بل بعدله و بصدقه، و هو أصدق الصادقين؛ فحينئذ تحقّق الثواب و العقاب أمر لا بدّ منه و ذلك لا يتمّ إلّا بالحشر و النشر و ما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب، و هذه مقدّمات تتعلّق بعضها ببعض كالسلسلة متى صحّ بعضها صحّ كلّها و متى فسد بعضها فسد كلّها، و دلّ مشاهدة أبصارنا لهذه التغيّرات الحاصلة على حدوث العالم و حدوث العالم على وجود المحدث و الصانع، و ذلك يكون غنيّا قادرا عالما فحينئذ فإن لم يثبت الحشر أدّى ذلك إلى بطلان جميع المقدّمات المذكورة و لزم إنكار العلوم البديهيّة و إنكار العلوم النظريّة العقليّة فثبت أنّه لا بدّ لهذه الأجساد البالية، و العظام النخرة و الأجزاء المتفرّقة من البعث بعد الموت، و هي المراد من الآية لقوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» هذه البيانات كلّها تقرير المعادو به الكفاية.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): آية 5]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

هذه الآية تكملة للدلائل الدالّة على الألوهيّة أي كما أنّ خلق السماوات و الأرض دالّة في الإلهيّة كذلك جعل الشمس و القمر نوع آخر من الأدلّة، و بهما يتوصّل المكلّف إلى معرفة السنين و الحساب فيمكنه ترتيب مهمّاته و معاملاته من الحرث و النسل و غيرهما في الأمور الدينيّة و الدنياويّة و لمّا وجب في الحكمة للمكلّف معرفة الشهور و الأعوام خلق الشمس و القمر مضيئة و منيرا فخصّص جسم الشمس بضوئها الباهر و شعاعها القاهر، و جسم القمر بنوره المخصوص الضعيف بالنسبة إلى ضوء الشمس.

و قد قرّرنا أنّ الأجسام من حيث ذواتها متساوية في تمام الماهيّة، و إذا ثبت هذا فالأشياء المتساوية في تمام الماهيّة تكون متساوية في جميع لوازم الماهيّة فكلّ ما يصحّ على بعضها وجب أن يصحّ على الباقي فلمّا صحّ جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر وجب أن يصحّ مثل ذلك الضوء على جرم القمر و بالعكس؛ فاختصاص الشمس بضوئه و القمر بنوره بقسم آخر غير نور الشمس بتخصيص مخصّص و تقدير مقدّر و هو المطلوب لأنّ هذا الاختصاص بجعل جاعل.

ص: 217

قال أبو عليّ الفارسيّ: «الضياء» لا يخلو من أحد أمرين إمّا جمع ضوء كسوط و سياط و حوض و حياض، أو مصدر ضاء يضوء ضياء كقولك: قام قياما و صام صياما و على أيّ الوجهين فالمضاف محذوف أي ذات ضياء و ذا نور، و يمكن أن يقال: لمّا عظم الضياء و النور فيهما جعلا نفس الضياء و النور مثل زيد عدل، و الضياء و النور كيفيّة قابلة للشدّة و الضعف فإنّ الضوء الحاصل في أوّل النهار أضعف من ضوء الحاصل في وسط النهار و كذلك النور القائم بالقمر. و اختلف الناس في أنّ الشعاع الحاصل و النور الساطع هل هو جسم أو عرض.

قال الرازيّ: و الحق أنّه عرض لقوله: «قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» أي قدّر مسيره منازل أو المعنى و قدّره ذا منازل، و الضمير لهما و إنّما و حدّ للاتّحاد و إلّا فهو بمعنى التثنية اكتفاء بالمعلوم لأنّ عدد السنين و الحساب إنّما يعرف بسير الشمس و القمر و نظيره: «وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» (1) و قيل: الضمير راجع إلى القمر وحده لأنّ بسير القمر تعرف الشهور. و الشهور و السنين المعتبرة في الشريعة هي الشهور القمريّة.

و اعلم أنّ انتفاع الخلق بضوء الشمس و نور القمر عظيم و بحركتهما يحصل الفصول و باختلاف أحوالهما تختلف أحوال رطوبات هذا العالم و يبوساته و تنتظم مصالحه و يتعيّن زمان التكسّب و الطلب و الدعة و الراحة و باختلاف حركاتهما ينشأ النباتات و الأغذية من الحيوان و النبات و كلّ ذلك يدلّ على كثرة رحمة اللّه على الخلق و لمّا تحقّق أنّ الأجسام متساوية فاختصاص كلّ جسم بشكله المخصوص و حيّزه المعيّن و أثر معلوم ما حصل إلّا بتدبير المقدّر العالم الحكيم. و التقرير الّذي قرّرنا يدلّ على أنّ جميع المنافع الحاصلة في هذا العالم بسبب حركات الأفلاك و مسير الشمس و القمر و الكواكب و قد حصل بتدبيره سبحانه.

و لمّا قرّر سبحانه هذه الدلائل على وجوه ختمها بقوله: [ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ .

أي خلقها على وفق الحكمة و الحقيقة كقوله: «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا» (2) قال حكماء الإسلام هذه الآية تدلّ على أنّه أودع في أجرام الأفلاك و الكواكب

ص: 218


1- التوبة: 63.
2- ص: 26.

خواصّا و قوى مخصوصة باعتبارها تنتظم هذا العالم السفلى إذ لو لم يكن لها آثار و فوائد لكان خلقها عبثا و باطلا ثمّ الفوائد لها في هذا العالم نراها عيانا و مشهودا.

قوله: [يُفَصِّلُ الْآياتِ و التفصيل ذكر هذه الدلائل الباهرة [لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يعقلون حتّى يعمّ الكلّ لأنّ العقل يشمل الجميع، و قيل: المراد العلماء و لا يمتنع أنّ يخصّ اللّه العلماء لهذا الذكر و الأوّل أليق.

قوله: [سورة يونس (10): آية 6]

إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

استدلّ سبحانه أوّلا على التوحيد و الإلهيّات بتخليق السماوات و الأرض، ثمّ بأحوال الشمس و القمر، ثمّ في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل و النهار و بأقسام الحوادث الواقعة في هذا العالم.

و الحوادث أقسام: منها في العناصر الأربعة و يدخل فيها أحوال الرعد و البرق و السحاب و الأمطار و الثلوج و أحوال البحار و المدّ و الجزر و الصواعق و الزلازل و الخسف و أمثالها.

و منها أحوال المعادن. و منها أحوال النبات و اختلافاتها و خواصّ وجودها و نفعها.

و منها اختلاف الحيوان و جملة هذه الأمور داخلة في قوله: «وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و جملتها لا تسع في ألف مجلّد بل كلّ ما ذكره العقلاء و الحكماء جزء عن ألف و أقلّ في هذا الباب.

ثمّ قال سبحانه: إنّ هذه الآيات للمتّقين لأنّهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر و التدبير و لذا خصّها بالذكر بهم، قال القفال: إنّ من تدبّر في أحوال هذا العالم و في بيان هذه الآية علم أنّ الدنيا مخلوقة للعمل و العمل لأمر آخر و هو الثواب و العقاب، فلا بدّ من أمر و نهي ليتميّز المحسن من المسي ء و كلّها آلة على صحّة القول بإثبات المبدء و المعاد.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 7 الى 8]

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)

ص: 219

لمّا تبيّن من الآيات صحّة هذه الأمور الإلهيّة من عجيب الخلقة و الحشر و الثواب و العقاب شرع في بيان أحوال من يكفر بها و هذه الآية و من يؤمن بها فيما بعد هذه الآية فوصف الكافرين بصفات:

الاولى: و هم [الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا] و فسرّ «الرجاء» هاهنا بالخوف أي لا يخافون البعث لا يؤمنون بها و تفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال: «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» (1) قال الهذليّ: «إذا لسعته النحل لم يرج لسعها» و قيل: معنى «الرجاء» معناه الأصليّ و المراد الطمع أي لا يطمعون في ثوابنا و هذا القول أصحّ لأنّ حمل الرجاء على الخوف و بمعنى الضدّ بعيد و لا مانع هاهنا من حمل الرجاء على ظاهره البتّة و حسن جعل عدم الرجاء كناية عن عدم الإيمان باللّه و اليوم الآخر، و المراد من اللقاء رؤية ثواب اللّه و لقاء نعم اللّه من السعادات الأبديّة.

الثانية: [وَ رَضُوا] هؤلاء [بِالْحَياةِ الدُّنْيا] و استغرقوا باللذّات الجسمانيّة و أعرضوا عن كسب السعادات الروحانيّة.

و الثالثة: [وَ اطْمَأَنُّوا بِها] أي ما حصل لهم عند ذكر اللّه نوع من الوجل و الخوف بعكس السعداء لأنّهم إذا ذكروا اللّه و جلت قلوبهم، و هؤلاء حصلت الطمأنينة لهم من الدنيا، و اشتغلوا بها و لم يبالوا امور الآخرة مطلقا فلو قيل: مقتضى اللغة أن يقال: اطمأنّوا إليها إلّا أنّ حروف الجرّ يحسن إقامة بعضها مقام البعض فلهذا السبب قال: «وَ اطْمَأَنُّوا بِها».

الرابعة: [وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ بحيث لا يخطر بباله طول عمره ذكر اللّه و لمّا وصفهم سبحانه بهذه الصفات قال: [أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ].

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 9 الى 11]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

لمّا شرح حال الكافرين ذكر حال المؤمنين المحقّين. اعلم أنّ النفس الإنسانيّة

ص: 220


1- نوح: 12.

لها قوّتان نظريّة و عمليّة و النظريّة كما لها من معرفة الأشياء معرفة اللّه، و العمليّة كما لها العمل بخدمة اللّه من الطاعات و العبادات أي صدقوا بقلوبهم بقوّة النظر و حقّقوا الإيمان بعمل الجوارح، فشغلوا قلوبهم و أرواحهم بتحصيل المعرفة و شغلوا جوارحهم بالخدمة و العبادة فعينهم مشغولة باعتبار كما قال: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (1) و إذنهم بسماع كلام اللّه كما قال: «وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ» (2) و لسانهم مشغول بذكر اللّه كما قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ» (3) و جوارحهم مشغولة بطاعة اللّه كما قال:

«أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» (4).

و لمّا بيّن مقامهم ذكر درجات كراماتهم و مراتب سعاداتهم قوله: [ليهديهم ربّهم إلى الجنة] ثوابا لهم و الّذي يدلّ على هذا المعنى قوله: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ» (5) و ما روي أنّه عليه السّلام قال: إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك فيكون له نورا و قائدا إلى الجنّة و الكافر كذلك إلى الجحيم، و العمل الصالح عبارة عن العمل الّذي تحمل النفس على ترك الدنيا و طلب الآخرة و العمل المذموم بخلافه؛ و كلّما كان العمل أكمل كان النور و الهداية أكمل.

قوله: [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ] المراد أنّهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين و الأنهار تجري من بين أيديهم و نظيره قوله تعالى: «قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» (6) كالجدول و كذلك قوله: «وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» (7) المعنى بين يديّ و إلّا لا يقعد الإنسان على النهر الجاري أي تجري الأنهار بين أيديهم و من تحت اسرتهم و قصورهم.

ص: 221


1- الحشر: 2.
2- المائدة: 76.
3- الأحزاب: 41.
4- النمل: 25.
5- الحديد: 12.
6- مريم: 24.
7- الزخرف: 50.

[دَعْواهُمْ فِيها] أي دعاء المؤمنين في الجنّة أن يقولوا: [سُبْحانَكَ اللَّهُمَ لا على وجه العبادة بل يلتذّون بالتسبيح و قيل: المراد من دعواهم أي ما حصل من التمنّي في قلوبهم من المشتهيات قالوا: «سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ» فيؤتون بما أرادوا فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا:

«الحمد للّه».

و قال بعض المفسّرين كالكلبيّ: هذه الكلمة علامة ما يشتهونه بين أهل الجنّة و الخدام فإذا سمعوا ذلك أتوهم به. و هذا القول ضعيف جدّا؛ لأنّه تعالى وعدهم بما يشتهون في الجنّة و يجعلون هذا الذكر المقدّس العالي علامة المأكول و المشروب هذا بعيد.

و الأنسب في المعاني أنّ تمنّي أهل الجنّة في الجنّة ليس إلّا في تسبيح اللّه و تنزيهه أي النهاية في سرورهم و عيشهم هذا الذكر و لكن لا على سبيل العبادة بل على سبيل الميل و الإرادة فيكون مفتتح كلامهم في كلّ شي ء التسبيح و التنزيه، و مختتم كلامهم التحميد فيكون التسبيح في الجنّة بدل التسمية.

و تحيّتهم في الجنّة من اللّه [سَلامٌ و قيل: تحيّة بعضهم لبعض سلام أو تحيّة الملائكة لهم سلام يقولون: سلام عليكم أي سلمت عن الآفات و المكاره الّتي ابتلى بها أهل النار [وَ آخِرُ دَعْواهُمْ التحميد، و ليس المراد أن يكون ذلك آخر كلامهم حتّى لا يتكلّموا بعد بشي ء بل المراد أنّهم يجعلون هذا التحميد آخر كلامهم في كلّ ما ذكروا.

و «إن» في قوله: «إن الحمد» هي المخفّفة فلذلك لم تعمل لخروجها عن شبه الفعل كقوله:

«أن هالك كلّ من يحفى و ينتعل» على معنى أنّه هالك و قيل: «إن» الزائدة و التقدير: و آخر دعواهم. و قرئ بنصب الحمد و تشديد «إن».

قوله: [سورة يونس (10): آية 11]

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

يمكن أن يكون نظم الآية بهذا التقرير و هو أنّه لمّا ذكر في الآيات السابقة أنّ القوم تعجبّوا من تخصيص اللّه محمّد بالرسالة فدفع تعجّبهم بقوله: «أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ» (1) و ذكر دلائل صحّة التوحيد و المعاد و لازمهما أن يبعث رسولا من جنسهم فما بقي

ص: 222


1- السورة: 2.

حينئذ للتعجّب من نبوّته موقع، ثمّ إنّ بعض القوم من شدّة كفرهم و حسدهم على النبيّ كانوا يقولون: اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد صلى اللّه عليه و آله حقا في ادّعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فأجاب اللّه عن أحوالهم بما ذكر في هذه الآية قيل: هذا هو الكلام في كيفيّة النظم.

قوله: [وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ] أي إجابة دعوتهم في الشرّ إذا دعوا بالشرّ على أنفسهم و أهاليهم عند الغيظ و الغضب كقوله: أماتني اللّه أو لعنة اللّه عليّ مثلا أولا أبقاني اللّه ساعة كاستعجالهم بالخير، أي كما يعجّل لهم إجابة الدعوة بالخير [لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ .

أجلهم و هلكوا و لكنّ اللّه لا يعجّل لهم الهلاك، بل يمهلهم حتّى يتوبوا و يرجعوا.

و قيل: معنى الآية و لو يعجّل اللّه للناس العقاب الّذي استحقّوه بالمعاصي و الكفر كما يستعجل لهم خير الدنيا لفنوا؛ لأنّه لو تعجّلت العقاب لزال التكليف بالموت و إذا عوجلوا بالموت لم يبق أحد [فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ و لا يخافون البعث و الحساب يتحيّرون في كفرهم و عدولهم عن الحقّ إلى الباطل لسوء اختيارهم لأنّ تركهم في الدنيا لا يوجب ذلك و لا صلاح في إماتتهم فربّما آمنوا بعد ذلك و ربّما خرج من صلبهم من كان مؤمنا و ذلك يقتضي أن لا يعاجلهم بإيصال الشرّ و العقاب إليهم كما استعجلوا لقوله تعالى: «وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»* (1).

ثمّ إنّهم لمّا توعّدوا في الآية السابقة و هو قوله: «أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» استعجلوا ذلك العذاب و قالوا: متى يحصل ذلك؟ كما قال تعالى: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ». (2) فلو قيل: كيف قابل التعجيل بالاستعجال؟

الجواب أنّ في التعجيل معنى الطلب فقولك: عجلت فلانا طلبت عجلته، و كذلك عجّلت الأمر إذا أتيته عاجلا فطلبت فيه العجلة فصحّ مقابلة الاستعجال بالعجل لأنّ في كليهما معنى الطلب فحينئذ يصير معنى الآية: لو أراد اللّه عجلة الشرّ للناس كما أرادوا

ص: 223


1- يس: 48.
2- الشورى: 17.

عجلة الخير لهم لقضي إليهم أجلهم و لكن لا يتعجّل للمصالح المذكورة و يمهلهم للمصالح و إلزاما للحجّة.

قوله: [سورة يونس (10): آية 12]

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)

المقصود من هذه الآية بيان جهل الإنسان و غفلته، و لذلك بيّن كذبهم في استعجال العذاب بأنّهم في هذا الطلب كاذبون لأنّه إذا مسّهم أدنى شي ء يضرّه و يؤذيه؛ فإنّه يتضرّع إلى اللّه في كشفه و إزالته من محن الدنيا و دعانا لرفع ذلك الضرّ في حال أنّه مضطجعا كان أو قاعدا كان أو قائما، و اجتهد في الدعاء و سؤال العافية فلمّا أزلنا عنه ذلك الضرّ و وهبنا له العافية استمرّ على طريقته الاولى معرضا عن شكرنا [كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا] قطّ لكشف ضرّه.

[كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ يعني كما زيّن لهم الشيطان و لاقترانهم من المشركين ترك الدّعاء و الشكر كذلك زيّن للمسرفين عملهم. و يحتمل أن يكون المعنى: زيّن المسرفون بعضهم لبعض هذا العمل و إن لم يضف التزيين إليهم فهو كقولهم: فلان معجب بنفسه و هذه الآية حثّ للذين منحوا الرخاء بعد الشدّة، و العافية بعد البليّة على أن يتذكّروا حسن صنع اللّه إليهم و يشكروا له؛ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من سرّه أن يستجاب له دعوة عند الكرب و الشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء.

و اعلم أنّ المؤمن إذا ابتلي ببليّة و محنة وجب عليه رعاية امور.

أولها أن يكون راضيا بقضاء اللّه غير معترض بالقلب و اللسان لأنّه سبحانه مالك على الإطلاق فله أن يفعل في ملكه ما شاء و ما يشاء و لأنّه حكيم على الإطلاق و هو منزّه عن الباطل و العبث فعله حكمة و صواب فإن أبقى على عبده المحنة فهو عدل و إن أزال فهو فضل؛ فحينئذ يجب عليه الصبر و السكوت و ترك القلق و الاضطراب.

و ثانيها أنّ العبد في ذلك الوقت يشتغل بذكر اللّه و الثناء عليه بدلا عن الدعاء و هو أفضل من الدعاء حيث يقول عزّ و جلّ: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما اعطي السائلين، و لأنّ الاشتغال بالذكر اشتغال بالحقّ و الاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظّ

ص: 224

النفس و نيل الآمال و لا شكّ أنّ الأوّل أفضل.

و ثالثها أنّه سبحانه إذا أزال عنه البليّة يجب عليه أن يبالغ في الشكر و لا يشتغل بالنعم عن المنعم. و قوله: [كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا] حذف الضمير في «كأن» للتخفيف و الوضوح.

قال أبو بكر الأصمّ في السبب الّذي لأجله سمّى اللّه سبحانه الكافر في هذه الآية مسرفا: لأنّ الكافر مسرف في نفسه و ماله و مضيّع لهما، أمّا في النّفس فقد جعلها عبدا للوثن و أمّا في المال فلأنّهم يصرفونه في البحيرة و السائبة و أمثالها و لا شبهة في أنّ المرأ كما يكون مسرفا في ماله كذلك يكون مسرفا فيما يتركه من واجب، أو يقدم من قبيح و محرّم إذا تجاوز الحدّ فيه.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 13 الى 14]

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)

لما بيّن في الآية السابقة أنّ إهلاكهم و إجابة دعائهم ليس مصلحة لهم لعلّ يتوبون أو يكون من أولادهم مؤمنون- على أنّ هم في دعائهم كاذبين- ذكر هذه الآية على سبيل التهديد بأنّه قد ينزل بهم عذاب الاستيصال و لا يزيله عنهم.

قوله: [وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا] قال الزمخشري: «لمّا» في الآية ظرف «لأهلكنا» و الواو في قوله «و جاءتهم» للحال أي أهلكنا القرون من قبلكم بأنواع العذاب لمّا ظلموا أنفسهم بأنواع العذاب بأن أشركوا و عصوا أنبياءهم مع أنّ الأنبياء أتوا لهم بالمعجزات و الدلالات الواضحة. قوله: [وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا] هذا الكلام إخبار من اللّه بأنّ هذه الأمم إنّما اهلكوا لمّا كانوا في المعلوم أنّهم لو بقوا لم يكونوا يؤمنون بالرسل.

و استدلّ أبو علي الجبّائيّ بهذا على أنّ تبقية الكافر واجبة إذا كان المعلوم أنّهم لو بقوا يؤمنون فيما بعد.

قوله: [كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي كذلك نعذّب المشركين في المستقبل إذا لم يؤمنوا بعد قيام الحجّة عليهم و علمنا أنّهم لا يؤمنون و لا يصلحون [ثُمَّ جَعَلْناكُمْ .

يا امّة محمّد خلائفهم [فِي الْأَرْضِ من بعد القرون الّتي أهلكناهم أي أسكنّاكم الأرض خلفهم

ص: 225

لننظر كيف عملكم، يعني نرى عملكم كيف يقع من عمل أولئك؛ أ تقتدون بهم فتستحقّون العذاب مثل ما استحقّوه أم تؤمنون فتستحقّون الثّواب؟ و اللّام في «ليؤمنوا» لتأكيد النفي.

فلو قيل: كيف يطلق النظر على اللّه و فيه معنى المقابلة، ثمّ «كيف تعملون» مشعرة بأنّ اللّه ما كان عالما بأحوالهم قبل وجود عملهم.

فالجواب أنّ اللّه يعامل العبد معاملة المختبر الّذي لا يعلم الشي ء فيجازيه على ما يظهر و لا يجازيهم على ما علم منهم أنّهم يفعلون أو لا يفعلون، و النظر في الحقيقة لا يجوز على اللّه لأنّ النظر إمّا يكون بالقلب و هو التفكّر أو بالعين و هو تقليب الحدقة نحو المرئيّ طلبا للرؤية مع سلامة الحاسّة و المقابلة و كلّها لا يجوز على اللّه حقيقة بل يستعمل في صفاته على وجه المجاز و التوسّع؛ فإنّ النظر يطلب العلم و هو سبحانه يعامل عباده معاملة مثل من يطلب العلم بالوقوع و اللاوقوع؛ لأنّ الجزاء فرع الوقوع و اللّاوقوع و ليس الجزاء فرع العلم فتأمّل.

قوله: [سورة يونس (10): آية 15]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

النزول: قال ابن عبّاس: إنّ خمسة من الكفّار كانوا يستهزئون بالرسول صلى اللّه عليه و آله و بالقرآن: الوليد بن مغيرة المخزوميّ، و العاص بن وائل السهميّ، و الأسود بن المطّلب، و الأسود بن عبد يغوث، و الحرث بن حنظلة؛ فقتل اللّه كلّ رجل منهم بطريق آخر كما قال: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ». (1) فشرح اللّه في هذه الآية حالهم و حال من مثلهم فقال في حالهم: إنّه كلّما تلي عليهم آيات القرآن [قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا] أي كونهم مكذّبين للحشر و البعث و القيامة و لا يعتقدون منها فحينئذ حسنت الاستعارة بقوله: «لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا» لأنّ من كان

ص: 226


1- الحجر: 95.

معتقدا بالقيامة يرجو الثواب و يخاف العقاب، و من لم يكن كذلك لا يعتقد الملاقاة أصلا.

ثمّ إنّهم طلبوا من رسول اللّه أحد الأمرين على البدل: الأوّل أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن قيل: إنّ هؤلاء المقترحين غير أولئك الخمسة المستهزئين الّذين ذكروا و هم عبد اللّه اميّة، و مكرز بن حفص و عمرو بن عبد اللّه أبي قيس العامريّ، و العاص بن عامر ابن هاشم، و الوليد بن مغيرة قالوا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله: ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات و العزّى و منات و هبل و لا يكون فيه عيب الأصنام أو بدّله من تلقاء نفسك و غيّر أحكامه من الحلال و الحرام و سائر الشرائع. أرادوا بذلك زوال الحظر عنهم و سقوط الأمر منهم و أن يخلّي بينهم و بين ما يريدون.

[قُلْ لهم يا محمّد [ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي و ناحيتي و ما [أَتَّبِعُ إِلَّا].

الّذي اوحي [إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي في اتّباع غيره [عَذابَ يَوْمٍ القيامة.

ثمّ هاهنا بحث و هو أنّهم طلبوا من النبيّ صلى اللّه عليه و آله أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن أو التبديل و هذا يؤول إلى أمر واحد لأنّه إذا بدّل هذا القران بغيره فقد أتى بقرآن غير هذا القرآن و إذا كان كذلك كان كلّ منهما شيئا واحدا و أمرا واحدا، و الجواب من اللّه أيضا يدلّ على أنّ كلّ منهما عين الآخر؛ لأنّه سبحانه اقتصر في الجواب على نفي أحدهما و هو قوله: «ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي» و لمّا كان كلّ واحد من هذين الأمرين نفس الآخر فإلقاء اللفظ على التخيّر باطل.

و الجواب أنّ أحد الأمرين غير الآخر لا عين الآخر حتّى يرد الإيراد فالإتيان بكتاب آخر لا على ترتيب هذا القرآن و لا على نظمه يكون إتيانا بقرآن آخر أو يأتي بهذا القرآن و لكن يضع المدح مثلا محلّ الذمّ كعبادة الأصنام، أو الرحمة محلّ العذاب و هذا القسم الثاني تبديل و تغيير، و هذا القسم غير القسم الأوّل فصار اقتراحهم أحد الأمرين.

و أمّا الاكتفاء بالجواب عن أحد الأمرين لا يدلّ على أنّ الأمرين أمر واحد بل الجواب عن الأمر الواحد يكتفي بذكره عن ذكر الجواب الثاني لأنّ الجواب عن أحد

ص: 227

القسمين هو عين الجواب عن القسم الثاني لأنّ علّة المنع في كلا الأمرين واحد و هو عدم القدرة في تبديله أو الإتيان بغيره من تلقاء نفسه.

قوله: [سورة يونس (10): آية 16]

قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (16)

لمّا ظنّ بعض الجاهلون منهم أنّ هذا القرآن هو الّذي يأتي به من عند نفسه فرفع اللّه فساد هذا الظنّ و الوهم بهذه الآية بأنّ هؤلاء الكفّار كانوا قد شاهدوا الرسول من أوّل عمره إلى ذلك الوقت و كانوا عالمين بأحواله و رأوا أنّه صلى اللّه عليه و آله ما طالع كتابا و لا تلمّذ لأستاذ و ما تعلّم من أحد، ثمّ بعد انقراض أربعين سنة بهذا الحال جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على أخبار الماضين و نفائس الحكمة و عمدة علم الأصول و الأخلاق المرضيّة و عجز عن معارضته العلماء من اليهود و النصارى و الفصحاء و البلغاء فكلّ من كان له عقل يعرف أنّ مثل هذا لا يحصل إلّا بالوحي من اللّه.

قوله: [لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ يعني لو شاء اللّه ما تلوت هذا القرآن عليكم بأن كان لا ينزله عليّ و لا أعلمكم اللّه به بأن لا ينزله عليّ فلا أقرؤه عليكم فلا تعلمونه. و قرئ «و لا أدرأتكم به» بصيغة المتكلّم و قرأ ابن عبّاس: و لا أنذرتكم به [فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ مدّة من العمر من قبل هذا الوقت فلم لا أتيتكم بكتاب [أَ فَلا تَعْقِلُونَ و تتفكّرون و تستدلّون.

قال عليّ بن عيسى: العقل هو العلم الّذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب و الناس يتفاضلون فيه بالأمر المتفاوت فبعضهم أعقل من بعض إذا كان أقدر على الاستدلال من بعض.

قوله: [سورة يونس (10): آية 17]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)

أي لا أحد أظلم ممن اخترع على اللّه كذبا و كذّب بآياته و رسله إنّه لا يفلح المشركون الكافرون.

فإن قيل: أليس من ادّعى الربوبيّة أعظم ظلما ممّن ادّعى النبوّة كذبا؟

ص: 228

قلنا: إنّ المراد بقوله: «مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» من كفر باللّه و قد دخل فيه من ادّعى الربوبيّة و غيره من أنواع الكفر و الكفّار فكأنّه قال: لا أحد أظلم من الكفّار. و نظم الآية و تعليقها بما قبلها واضح.

قوله: [سورة يونس (10): آية 18]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)

لمّا التمسوا من النبيّ صلى اللّه عليه و آله تبديل القران لأنّ فيه شتم آلهتهم ذكر اللّه في هذه الآية ما يدلّ على قبح عبادة الأصنام و حكى عنهم أمرين: الأوّل أنّهم يعبدونها. و الثاني أنّهم يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه؛ أمّا الأوّل فقد بيّن اللّه و نبّه اللّه على فساده بقوله: «ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ» إن عبدوها و إن تركوها لا يضرّهم بشي ء و إذا كان العابد أنفع من المعبود فالعبادة غلط لأنّ العبادة لا يليق إلّا للمنعم و هؤلاء لا يضرّ و لا ينفع. و أمّا أمر الثاني و هو الشفاعة فاعلم أنّ من الناس من قال: إنّ أولئك الكفّار توهّموا أنّ عبادة الأصنام أشدّ في تعظيم اللّه من عبادة اللّه سبحانه؛ فقالوا: ليست لنا أهليّة أن نشتغل بعبادة اللّه بل نحن نشتغل بعبادة هذه الأصنام و إنّها رابطة و واسطة و شفعاء لنا عند اللّه.

ثمّ اختلفوا في أنّهم كيف قالوا في الأصنام: إنّها شفعاءنا و ذكروا فيه أقوالا كثيرة فأحدها أنّهم اعتقدوا في أنّ المتولّي لكلّ إقليم من أقاليم العالم روح معيّن من أرواح عالم الأفلاك؛ فعيّنوا لذلك الروح صنما معيّنا و اشتغلوا بعبادة ذلك الصنم و مقصودهم عبادة ذلك الروح ثمّ اعتقدوا أنّ ذلك الروح يكون عبدا للإله الأعظم و مشتغلا بعبوديّته.

و ثاني الأقوال أنّهم كانوا يعبدون الكواكب و زعموا أنّ الكواكب هي الّتي لها أهليّة عبوديّة اللّه، ثمّ إنّهم لمّا رأوا أنّ الكواكب تطلع و تغرب وضعوا لها أصناما بعينه و اشتغلوا بعبادتها و مقصودهم توجيه العبادة إلى الكواكب.

و ثالثها أنّهم وضعوا طلسمات معيّنة على تلك الأصنام و الأوثان؛ ثمّ تقرّبوا إليها كما يفعله أصحاب الطلسمات.

ص: 229

و رابعها أنّهم وضعوا هذه الأصنام و الأوثان على صور أنبيائهم و أكابرهم و زعموا أنّهم متى اشتغلوا بعبادة هذه الصور و التماثيل فإنّ أولئك الأكابر يكون شفعاءهم عند اللّه.

و خامسها أنّهم اعتقدوا أنّ الإله نور عظيم، و أنّ الملائكة أنوار فوضعوا على صورة الإله الأكبر الصنم و على صور الملائكة صور أخر.

و سادسها لعلّ القوم حلوليّة و جوّزوا حلول الإله في بعض الأجسام العالية الشريفة.

و قد أبطل كلّ هذه الوجوه الباطلة بقوله تعالى: «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ» و تقريره الوجوه الثلاثة المذكورة قوله: [أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ المعنى: أمر نبيّه أن يقول لهم على وجه الإلزام: أ تخبرون اللّه بما لا يعلم من حسن عبادة الأصنام و كونها شافعة؟ لأنّ ذلك لو كان صحيحا لكان تعالى عالما ففي نفي علمه بذلك نفي المعلوم. و قيل:

معناه: أ تخبرون اللّه بشريك أو شفيع لا يعلم شيئا و لا يفهم؟ كما قال سبحانه: «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً» (1) فكذلك وصفهم هاهنا بأنّهم لا يعلمون في السماوات و الأرض شيئا [سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ و هو منزّه عن الشريك و المثيل.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): آية 19]

وَ ما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

المعنى: لمّا بيّن سبحانه الدلائل القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام بيّن السبب في كفرهم اختلافهم و سوء اختيارهم فقال: [وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً] و ظاهر الآية لا يدلّ على أنّهم أمّة واحدة فيما ذا، و فيه أقوال: القول الأوّل أنّهم كانوا جميعا على دين الإسلام.

و احتجّوا عليه بأمور: الأوّل أنّ المقصود من هذه الآيات بيان كون الكفر باطلا و تزييف طريقة عبادة الأوثان و تقرير أنّ الإسلام هو الدين الفاضل فحينئذ لا يناسب أن يقال:

إنّهم كانوا امّة واحدة في الكفر فبقي أنّهم كانوا امّة واحدة في الإسلام و لا يجوز أن يقال: إنّهم

ص: 230


1- الخل: 73.

كانوا امّة واحدة في الكفر لقوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ» (1) و شهيد اللّه لا بدّ و أن يكون مؤمنا عدلا فثبت أنّه ما خلت امّة من الأمم إلّا و فيهم مؤمن، ثمّ إنّ الأحاديث وردت بأنّ الأرض لا تخلو عمّن يعبد اللّه و عن أقوام بهم يمطر أهل الأرض و بهم يرزقون على أنّ الحكمة الأصليّة في الخلق العبوديّة فخلوّ أهل الأرض بالكليّة عن هذا المقصود بعيد.

روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ اللّه تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم و عجمهم إلّا بقيّة من أهل الكتاب. و هذا يدلّ على قوم تمسّكوا بالإيمان قبل مجي ء الرسول عليه السّلام، فكيف يقال: إنّهم كانوا امّة واحدة في الكفر؟

ثمّ على كون الامّة مؤمنة اختلف القائلون بهذا القول أنّهم متى كانوا كذلك؟

فقال ابن عبّاس و مجاهد و جماعة: كانوا على دين الإسلام في عهد آدم و في عهد ولده و اختلفوا عند قتل أحد ابنيه الابن الآخر. و قال قوم: إنّهم بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح و كانوا عشر قرون مسلمين ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث اللّه نوحا إليهم. و قال آخرون:

كانوا على دين الإسلام في زمن نوح بعد الغرق إلى أن ظهر الكفر فيهم. و قال آخرون:

كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم عليه السّلام إلى أن غيّره عمرو بن لحيّ. و هذا القائل قال: المراد من الناس في قوله: «و ما كان الناس» العرب خاصّة.

إذا عرفت هذا فالمراد من بيان الآية على هذا التقرير أنّ عبادة الأصنام ما كان أصليّا فيهم و أنّه إنّما حدث بعد أن لم يكن؛ فعلى هذه الصورة كيف لم يتزيّفوا هذا المذهب و لم تنفر طباعهم عنه؟ هذا كلّه على بيان أنّ الناس كانوا امّة واحدة في الإيمان و يصحّ الوعيد حينئذ؛ لأنّ الاختلاف وقع بسبب الكفر و ذلك يقضي الوعيد.

و أمّا إذا فسّرنا بأنّ الناس كانوا امّة واحدة في الكفر كما هو منقول عن بعض المفسّرين ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنّه تعالى بيّن للرسول أنّه لا تطمع في أن يصير كلّ من تدعوه إلى الدين مجيبا لك قابلا لدينك فإنّ الناس كلّهم كانوا على الكفر، و إنّما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك فكيف تطمع في إيمان كلّهم و اتّفاقهم جميعا علي الإيمان.

ص: 231


1- النساء: 45.

و قول آخر و لعلّ هو الصحيح و هو أنّ المراد أنّهم كانوا امّة واحدة في أنّهم خلقوا على فطرة الإسلام ثمّ اختلفوا في الأديان، و إليه الإشارة بقوله: عليه السّلام كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه كما قال تعالى: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» (1) و قوله: [وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من أنّه لا يعاجل العصاة و الكفّار بالعقوبة إنعاما منه في التأنّي بهم [لَقُضِيَ و فصّل بينهم فيما اختلفوا بأن يهلك العصاة و ينجي المؤمنين لكنّه أخّرهم إلى يوم القيامة.

ثمّ حكى عن حال الكفّار بقوله:

[سورة يونس (10): آية 20]

وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)

قال الكفّار: هلّا انزل على محمّد آية من ربّه تضطرّ الخلق إلى المعرفة بصدقه فلا يحتاجون مع تلك الآية إلى الاستدلال و النظر و لم يطلبوا معجزة تدلّ على صدقه، و إنّما لم يلجئهم اللّه إلى ما التمسوه لأنّ التكليف يمنع من الاضطرار، و لو كانت المعرفة ضرورة و قهريّة لما استحقّوا ثوابا و كان ذلك الأمر نقضا للغرض. فقل يا محمّد: إنّ الّذي يعلم الغيب و يعلم بالمصالح قبل كونها هو اللّه العالم فما يعرف في إنزاله صلاحا أنزله و ما لم يعرف لا يفعل الآية الّتي اقترحوها ذلك الوقت فانتظروا عقاب اللّه بسبب تمرّدكم و العقاب القهر و الغلبة و القتل، و الأسر في الدنيا، لأنّ اللّه وعدني بالنصرة عليكم و في الآخرة العذاب الأليم، و الحاصل أنّهم طلبوا من الرسول آية قاهرة يقهرهم على الإيمان و التصديق بالرسول غير القرآن لأنّه في بدو الأمر كان فيهم من يزعم أنّه يتمكّن من معارضة القرآن كما أخبر اللّه عنهم أنّهم قالوا: لو شئنا لقلنا مثل هذا. و إذا كان الأمر كذلك لا جرم طلبوا منه شيئا آخر سوى القرآن فأمر اللّه رسوله أن يقول لهم: «إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ» فصلاح إتيان آية و عدم صلاحها منوط بعلمه و أنتم بعد القرآن لا تحتاجون إلى آية اخرى [فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ .

ص: 232


1- الروم: 29.

قوله: [سورة يونس (10): آية 21]

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21)

المعنى: بيّن اللّه عادة هؤلاء القوم المكر و اللجاج و عدم الإنصاف و إذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إرسال آية اخرى فإنّهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم كما روي أنّ اللّه سلّط القحط على أهل مكّة سبع سنين ثمّ رحمهم و أنزل الأمطار النافعة فخصبت أرضهم.

ثم إنّهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام و الأنواء، فقابلوا النعمة بالكفران فقوله. [وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً] أي تلك الأمطار النافعة الّتي خلصهم من أكل الزهق و القحط الشديد [إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا] أي أضافوا إلى الكواكب و الأصنام و هذا المعنى ذكر في قبل هذه حيث يقول: «وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ» (1) إلّا أنّه في هذه الآية هذه الدقيقة مذكورة، و هي أنّهم عند وجدان الرحمة و الشواهد يمكرون الآية و ينسبونها إلى الغير و كلمة «إِذا لَهُمْ مَكْرٌ» جواب الشرط كقوله: «وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» (2) و يفيد المفاجأة معناه أنّهم فورا أقدموا على المكر.

و إنّما سمّي تكذيبهم آيات اللّه بالمكر لأنّ المكر عبارة عن صرف الشي ء عن وجه الظاهر بطريق الحيلة و هؤلاء دفعوا آيات اللّه بإلقاء الشبهات بالسحر و بالأنواء و الكواكب و الأصنام [قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً] لمّا قابلوا نعم اللّه بالمكر قابلهم اللّه بالجزاء و النكال؛ فإنّ رسل اللّه يكتبون مكرهم و يحفظونه و يصير ذلك سببا لمقابلة مكرهم.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 22 الى 23]

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

ص: 233


1- التوبة: 13.
2- الروم: 35.

اعلم أنّ هذه الآية كالمفسّرة للآية السابقة على سبيل التمثيل لأنّه سبحانه لمّا قال: «وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ» فذكر اللّه مثالا جليّا يكشف عن حقيقة المعنى بقوله: [هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ أي يمكّنكم من السير [فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ] بما هيّأ لكم من أدوات السير من غير تعب كخلق الدوابّ و تسخيرها لكم و تحملون عليها أثقالكم و هيّأ لكم السفن في البحر [حَتَّى إِذا كُنْتُمْ ركبتم [فِي الْفُلْكِ و خصّ الخطاب براكب البحر أي إذا كنتم راكبي السفن في البحر.

[وَ جَرَيْنَ السفن بالناس لمّا ركبوا و عدل من الخطاب إلى الغيبة قيل: للإيذان بما لهم من سوء الحال الموجب للإعراض لأنّ ضمير الخطاب إذا عدل عنه و انقلب إلى الغياب يفيد هذا المعنى و بالعكس يفيد التقرّب و العلوّ كقوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (1) و الأوّل مثل الآية و هو يدلّ على المقت و التبعيد و الطرد، و بالجملة أي جرين السفن بالناس [بِرِيحٍ ليّنة يستطبّونها و سرّوا [وَ فَرِحُوا] بتلك الريح لأنّها تبلغهم إلى مقاصدهم و منازلهم و قيل: إنّ الضمير في «بها» راجعة إلى السفينة حيث حملتهم و أمتعتهم جاءت السفينة ريح شديد الهبوب هائلة و جاءهم اضطراب البحر و أيقنوا أنّهم دنوا على الهلاك أو غلب على ظنّهم الهلاك لمّا أحاط بهم من الأمواج فدعوا اللّه عند هذه الشدائد و الأهوال و التجؤوا إليه على سبيل الخلوص من الاعتقاد من دون تشريك من الأوثان و غيره، و لم يذكروا الأوثان و قالوا: يا ربّ [لَئِنْ أَنْجَيْتَنا] عن ما نحن فيه من الكرب و البلاء [لَنَكُونَنَ من جملة من يشكرك على نعمك قوله: «جاءتها ريح» جواب قوله: «إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ» فلمّا خلّصهم اللّه من الشدّة [إِذا هُمْ يَبْغُونَ و يعملون المعاصي و يشتغلون بالظلم على أنفسهم و على الناس.

[يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ المعنى أنّهم بعد التضرّع و التخلّص عن المهلكة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحقّ و معنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم و الترقّي في الفساد.

فإن قيل: ما معنى قوله «بغير الحقّ» و البغي لا يكون حقّ؟

قلنا: البغي قد يكون بالحقّ و هو استعلاء المسلمين على أرض الكفرة و هدم دورهم

ص: 234


1- الفاتحة: 4.

و إحراق زروعهم و قطع أشجارهم كما فعل رسول اللّه ببني قريظة، و الحاصل أنّه سبحانه نهى عن البغي بأنّه أمر باطل و يؤول ضرره على أنفسكم و [مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا] خبر لقوله «بغيكم» أي بغي بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا: الفانية، و لا يصلح لكم.

و البغي من منكرات المعاصي قال عليه السّلام: أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، و أعجل الشرّ عقابا البغي و اليمين الفاجرة. و روي: ثنتان يعجّلهما اللّه في الدنيا: البغي و عقوق الوالدين. قال ابن عبّاس: لو بغى جبل على جبل لاندكّ الباغي؛ قال الشاعر:

فلو بغى جبل يوما على جبل لاندكّ منه أعاليه و أسفله

[ثُمَّ إِلَيْنا] يرجع الباغي و المبغيّ عليه و الغرض الوعيد على العذاب.

قوله: [سورة يونس (10): آية 24]

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

لمّا ذكر في الآية السابقة أنّ البغي أمر قبيح و لا يحصل منه إلّا متاع الحياة الدنيا و هو فاسد أتبعه بهذا المثل العجيب لمن يغترّ بالدنيا و يبغي في الأرض فقال: [إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ بسبب هذا الماء النازل من السماء و ذلك لأنّه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواع من النبات و تكون الأنواع مختلفة و يكون المنبوت قبل المطر لم يترعرع و لم يهتزّ فإذا نزل المطر عليه اختلط النابت و اتّصل بذلك المطر و نمى و ربا ذلك النبات و اكتسى كمال الرونق و الزينة و هو المراد بقوله: [حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها] و تزيّنت بجميع الألوان من حمرة و خضرة و صفرة و بياض و لا شكّ أنّه متى صار البستان على هذا الوجه و بهذه الصفة فإنّه يفرح المالك به و يعظم رجاؤه في الانتفاع منه.

ثمّ إنّه تعالى يرسل على هذا الزرع و البستان العجيب آفة عظيمة دفعة واحدة من برد أو ريح أو سيل فصارت تلك الأشجار و الزروع باطلة هالكة، فكذلك من وضع قلبه على لذّات الدنيا فإذا فاتته تلك الأشياء يعظم حزنه فشبّه سبحانه الحياة الدنيا بهذا النبات أي عاقبة هذه الحياة الدنيا كعاقبة هذا النبات لأنّ المتمسّك بالدنيا إذا وضع عليها قلبه

ص: 235

و عظمت رغبته فيها يأتيه الموت و هو معنى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» (1) و بالجملة قوله: [فَاخْتَلَطَ بِهِ أي اختلط بذلك المطر نبات الأرض لأنّ المطر يدخل في خلل النبات و قيل: معناه فاختلط بسبب المطر بعض النبات بالبعض فاختلط ما يأكل الناس بما يأكل الأنعام، و ما يقتات بما يتفكّه فقال: [مِمَّا يَأْكُلُ الإنسان كالحبوب و الثمار و البقول [و الْأَنْعامُ كالحشيش و أنواع المراعي.

[وَ ظَنَّ أَهْلُها] و مالكها [أَنَّهُمْ قادِرُونَ على الانتفاع بها [أَتاها أَمْرُنا] أي عذابنا من برد و آفة و غيره [فَجَعَلْناها] محصورة مقطوعة ذاهبة يابسة [كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أي كأن لم تقم و تكن على تكل الصفة بالأمس و لم توجد من قبل [كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل ذلك نميّز الآيات [لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي نذكر آية بعد آية ليكون تواليها و كثرتها سببا لقوّة اليقين و موجبا لزوال الشكّ و الشبهة.

قوله: [سورة يونس (10): آية 25]

وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)

النظم: لمّا نفّر العاقلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغّبهم في هذه الآية بالآخرة. قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّما مثلي و مثلكم مثل سيّد بنى دارا و وضع مائدة و أرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار و أكل من المائدة و رضي عنه السيّد، و من لم يجب لم يدخل و لم يأكل و لم يرض منه السيّد فاللّه السيّد و الدار دار الإسلام و المائدة الجنّة و الداعي محمّد صلى اللّه عليه و آله.

و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما من يوم تطلع فيه الشمس إلّا و بجنبها ملكان يناديان بحيث يسمع كلّ الخلائق إلّا الثقلين: أيّها الناس هلمّوا إلى ربّكم.

[وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ و المراد من دار السّلام الجنّة و اختلفوا في السبب الّذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه: الأوّل أنّ السّلام هو اللّه، و الجنّة داره و تسميته تعالى بالسلام لأنّه لمّا كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء و التغيّر، و سلم من احتياجه ذاتا و صفة إلى الغير، ثمّ إنّه يوصف بالسلام بمعنى أنّ الخلق سلموا من ظلمه حيث يقول: «وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ». (2)

ص: 236


1- الانعام: 44.
2- فصلت: 46.

قال المبرّد: إنّه تعالى يوصف بالسلام أي هو ذو السّلام و السّلام عبارة عن تخليص العاجزين من المكاره، و على هذا التقدير مصدر سلم. و قيل: «سلام» جمع سلامة؛ فمعنى دار السّلام دار السلامة من الآفات كالرضاع بمعنى الرضاعة أو سمّيت الجنّة بدار السّلام؛ لأنّه يسلم على أهلها قال تعالى: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (1) و الملائكة يسلّمون عليهم و يقولون: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» (2) قوله: [وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

أي من أجاب الدعوة و أطاع و اتّقى فإنّ اللّه يهدي إلى تلك الدار و مشيئته تحصل بإجابة الدعوة.

قوله: [سورة يونس (10): آية 26]

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)

لمّا دعا عباده إلى دار السّلام ذكر السعادات الّتي تحصل لهم فيها قال ابن عبّاس:

أي الّذين ذكروا كلمة لا إله إلّا اللّه. و قال آخرون: الّذين أحسنوا في كلّ ما تعبّدوا به و أتوا بالمأمور به كما ينبغي و اجتنبوا المنهيّات على وجه ما نهوا عنها. و «الحسنى» تأنيث الأحسن و العرب يوقع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة الكاملة المرغوب فيها و لذلك لم تؤكّد و لم تنعت بشي ء.

و قوله: [وَ زِيادَةٌ] و هذه الكلمة مبهمة و لهذا اختلف في تفسيرها:

قيل: المراد منها التفضّل على قدر المستحقّ على الطاعات من الثواب و هي المضاعفة المذكورة في قوله: «فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» (3) هذا أحد الأقوال.

و ثانيها: الزيادة ما أعطاهم اللّه من النعم في الدنيا لا يحاسبهم به في الآخرة عن أبي جعفر عليه السّلام.

و ثالثها: أنّ الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب عن عليّ عليه السّلام.

و رابعها: الزيادة النظر إلى وجه اللّه أي وجه حمته لأنّ النظر إلى اللّه أمر ممتنع

ص: 237


1- يس: 58.
2- الرعد: 24.
3- الانعام: 161.

و لا يجوز حمل الزيادة على الرؤية كما فسّره بعض الأشاعرة و الدلائل العقليّة دلّت على الامتناع على أنّ نفس الآية تدلّ على امتناع هذا المعنى لأنّ الزّيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه و رؤية اللّه ليست من جنس نعيم الجنّة على أنّ النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئيّ و ذلك يقتضي كون المرئيّ في الجهة و ذلك يلزم التجسّم و المقابلة و التحيّز و كلّها ممتنع على اللّه.

قوله: [وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ و الرهق لحاق الأمر و منه راهق الغلام إذا لحق بالرجال و رهقه بالحرب إذا أدركه و الإرهاق حمل الإنسان على ما لا يطيقه و منه «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» (1) و المعنى في الآية: لا يغشى و لا يلحق وجوههم سواد و غبرة، و لا أثر ذلّة و هوان و كسوف و كأبة.

و روى الفضل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ما من عين ترقرقت بمائها إلّا حرّم اللّه ذلك الجسد على النار فإن فاضت من خشية اللّه لم يرهق ذلك الوجه قتر و لا ذلّة.

قوله: [أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ] مرّ معناه مرارا.

قوله: [سورة يونس (10): آية 27]

وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)

لمّا شرح حال المؤمنين في الآية السابقة شرح في هذه الآية من أقدم على السيّئات و ذكر أمورا أربعة من أحوالهم:

أوّلها: [جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها] و المقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات و السيّئات و ذكر سبحانه من فضله أنّه يوصل في أعمال البرّ الثواب مع الزيادة، و في أعمال الشرّ بالمثليّة تأكيدا للترغيب في الطاعة و ذاك تفضّل و هو حسن و لكنّ الزيادة على قدر الاستحقاق في المعصية، فهو ظلم و لا يفعل سبحانه.

و الثاني من الأمور الأربعة: [تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ] و ذلك كناية عن التحقير و الهوان لأنّ الإنسان العاصي ناقص عن درجة الإنسانيّة فإذا مات بقيت روحه ناقصة عن الكمالات

ص: 238


1- المدثر: 17.

فإدراكه و علمه بنقصه يوجب له مذلّة و هوانا.

و ثالثها قوله: [ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ فإنّ قضاءه سبحانه محيط بجميع الكائنات و ليس شي ء ينفعه عن قضاء اللّه.

و رابعها: [كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً] من ظلمة المعاصي و الجهل بعكس ما للمؤمنين من الضياء و العلم و نورهم يسعى بين أيديهم.

قوله: [أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ] مرّ تفسيره مرارا.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 28 الى 29]

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29)

هذا شرح نوع آخر من فضائح أولئك الكفّار و الضمير في قوله: [وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ .

عائد إلى المذكور السابق و ذلك قوله: «وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ» في الآية السابقة و حاصل الكلام: يحشر العابد و المعبود، ثمّ إنّ المعبود يتبرّأ من العابد و يتبيّن له أنّه ما فعل ذلك بعلمه و إرادته. و المقصود أنّ القوم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه فبيّن اللّه في هذه الآية أنّهم لا يشفعون لهؤلاء الكفّار بل يتبرّؤون منهم. و نظير هذا المعنى قوله تعالى: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا» (1).

و معنى الحشر الجمع من كلّ جانب إلى موقف واحد و «جميعا» نصب على الحال أي نحشر الكلّ حال اجتماعهم «و مكانكم» منصوب بإضمار فعل محذوف أي ألزموا و أثبتوا مكانكم «و أنتم» تأكيد للضمير «و شركاؤكم» عطف عليه و المراد أنّه تعالى يقول: للعابدين و المعبودين أثبتوا مكانكم حتّى تسألوا و قوله: [فَزَيَّلْنا] جاءت على لفظ الماضي لأنّ الّذي حكم اللّه فيه بأنّه سيكون صار كالكائن الراهن الآن نظير قوله: «وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ» (2) «زيّلنا» أي ميّزنا و فرّقنا و «الزيل» التفريق أي فرّقنا بين المشركين و بين شركائهم من الأصنام و الآلهة و انقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا.

و أمّا قوله: [وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ و إنّما أضاف الشركاء إليهم لأنّهم

ص: 239


1- البقرة: 161.
2- الأعراف: 42.

جعلوا نصيبا في أموالهم لأصنامهم فصيّروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال فلهذا قال تعالى:

«وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ» و قيل: المراد بالشركاء الملائكة و استشهدوا بقوله تعالى: «يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ» (1) و قيل: المراد من الشركاء الأصنام لأنّ الخطاب مشتمل على الوعيد و التهديد و ذلك لا يليق بالملائكة.

ثمّ قالوا: إنّ اللّه يخلق في الأصنام الحياة و العقل و النطق فلا جرم تنطق. و قال آخرون: بل يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة و العقل. و قيل: المراد من الشركاء كلّ من عبد من دون اللّه من صنم و شمس و قمر و إنسيّ و جنيّ و ملك.

و هاهنا مسألة و هي أنّ هذا الخطاب تهديد في حقّ العابدين فهل يكون في حقّ المعبودين؟

أمّا المعتزلة فإنّهم قطعوا بأنّ ذلك لا يجوز لأنّه لا ذنب للمعبود، و من لا ذنب له فإنّه يقبح من اللّه أن يوجّه التخويف و التهديد إليه.

و أمّا الأشاعرة قالوا: إنّه تعالى لا يسأل عمّا يفعل كسائر أقوالهم في الأفاعيل.

و الحاصل: و قال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون أي يحييهم اللّه و ينطقهم فيقولون: ما كنّا نشعر بأنّكم إيّانا تعبدون أي إنّكم لم تعبدونا بأمرنا و دعوتنا و لم يرد أنّهم لم يعبدوهم أصلا بل بيان أنّ العبادة لم تكن بأمرنا.

[فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً] و فاصلا للحكم بيننا و بينكم أيّها المشركون [إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» و هذا إذا كان الملائكة فإنّهم ما كان لهم أمر و علم و رضاء منهم و إن كان الأصنام فما كان للأصنام حسّ و إدراك حتّى يعلموا و يأمروا فهم صادقون فيما ادّعوا.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): آية 30]

هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)

هذه الآية تتمّة لما قبلها فقوله: [هُنالِكَ أي في ذلك المقام و الموقف [تَبْلُوا] و تعلم و قرئ نبلو بالنون، و قرئ تتلو بالتائين و يختلف المعنى باختلاف القراءة فبالتاءين المعنى: كلّ نفس يقرأ ما في صحيفتها. و بالنون أي نختبر كلّ نفس [ب ما أَسْلَفَتْ من العمل

ص: 240


1- سبا: 39.

أي نفعل بها فعل المختبر لقوله: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»* (1).

قوله: [وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أي و ردّوا إلى حيث لا حكم إلّا للّه و إلى ما يظهر لهم من اللّه من ثواب و عقاب و يلجئون إلى الإقرار بإلهيّته بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غيره، و لذلك قال تعالى: [مَوْلاهُمُ الْحَقِ أي أعرضوا عن المولى الباطل و رجعوا قهرا إلى المولى الحقّ قوله تعالى: [وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يعلمون أنّ كلّ ذلك من أعمالهم باطل و افتراء و كذب لا حقيقة له.

[سورة يونس (10): الآيات 31 الى 33]

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)

لمّا بيّن فضائح عبدة الأوثان و ما يؤول في القيامة أمرهم شرع بذكر الدلائل الدالّة على فساد مذهبهم و هو أحوال الرزق و الحواسّ و أحوال الموت و الحياة، أمّا الرزق فإنّه ينزل من السماء و الأرض، أمّا من السماء فبنزول الأمطار النافعة الموافقة، و أمّا من الأرض لأنّ الغذاء إمّا أن يكون نباتا او حيوانا أمّا النبات فلا ينبت إلّا من الأرض، و أمّا الحيوان فهو يتوقّف وجوده و بقاؤه أيضا إلى الغذاء و لا يمكن أن يكون غذاء كلّ حيوان حيوانا آخر و إلّا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له و ذلك محال فلزم أن يكون غذاء الحيوان ينتهي إلى النبات و تولّد النبات من الأرض.

فثبت أنّ الأرزاق لا تحصل إلّا من السماء و الأرض و مدبّر السماوات و الأرض هو اللّه فثبت أنّ الرزق ليس إلّا من اللّه، و أمّا أحوال الحواسّ فكذلك لأنّ أشرفها السمع و البصر؛ قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: سبحان من بصّر بشحم و أسمع بعظم، و أنطق بلحم.

و أمّا أحوال الموت و الحياة قوله: [وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ أي يخرج الإنسان و الطائر من النطفة و البيضة و يخرج الميّت من الحيّ أي يخرج النطفة

ص: 241


1- الملك: 2.

و البيضة من الإنسان و الطائر، أو المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن لكنّ معنى الأوّل إلى الحقيقة أقرب.

ثمّ ذكر كلاما كلّيّا و هو قوله: [وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ] لأنّ تمام مراتب الأمور هو مدبّره و خالقه من العالم العلويّ و السفليّ، من الأرواح و الأجساد كأنّه لمّا ذكر بعض الأفراد عقّبها بالكلام الكلّيّ الشامل على البواقي.

ثمّ بيّن و قال: إذا سألهم الرسول مثلا عن خالق هذه الأمور فسيقولون: إنّه اللّه.

و هذا يدلّ على أنّ المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعترفون باللّه و لكن كانوا جاعلين أصنامهم شفعاءهم و شركاء اللّه فعند ذلك [قُلْ لهم يا محمّد [أَ فَلا تَتَّقُونَ الشرك و الإشراك في المعبوديّة و لم تجعلون هذه الأوثان الّتي لا تنفع و لا تضرّ شركاء اللّه في العبادة؟

قوله: [فَذلِكُمُ اللَّهُ أي و من كان قدرته و رحمته كذلك هو ربّكم الحقّ الثابت ربوبيّته و إذا كان كذلك وجب أن يكون سواه باطلا لأنّ النقيضين يمتنع أن يكونا حقّين [فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي كيف تستجيزون العدول عن هذا الحقّ الظاهر؟ و استدلّ الجبّائيّ بهذه الآية على بطلان قول المجبّرة حيث يقولون:

إنّ اللّه يصرف الكفّار عن الإيمان تعالى اللّه عن ذلك؛ لأنّه لو كان كذلك لما جاز أن يقول: «فإنّى تصرفون» و بالجملة لمّا ثبت أنّه ليس بعد الحقّ إلّا الضلال لأنّه ليس واسطة بينهما.

قوله: [كَذلِكَ أي مثل انصرافهم عن الإيمان وجبت العقوبة لهم أي جازاهم اللّه بمثل انصرافهم عن الحقّ. و قيل: معناه أنّه كما ثبت و حقّ أنّه ليس بعد الحقّ إلّا الضلال كذلك حقّت كلمة ربّك. و قرئ بالجمع كلمات ربّك [عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا] و خرجوا من الحقّ [أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و يعلم أنّهم يبقون على الكفر.

[سورة يونس (10): آية 34]

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)

احتجاج آخر على التوحيد [قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين [هَلْ من هذه الأصنام الّتي جعلتموها شركاء في عبادتي أو جعلتموها شركاء في أموالكم كما قال: «وَ هذا

ص: 242

لِشُرَكائِنا» (1) [مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بالإنشاء بعد أن لم يكن و هو النشأة الاولى [ثُمَّ يُعِيدُهُ في النشأة الثانية فإن قالوا: ليس من شركائنا من يفعل ذلك و يقدر عليه أو سكتوا- و يفهم هذا الكلام من الكلام عند الاحتجاج؛ لأنّ الدليل إذا كان جليّا فإذا أورد على الخصم في معرض الاستفهام ثمّ يقول المستدلّ: الأمر كذلك كان تنبيها على وضوح الأمر حيث لا يحتاج فيه إلى إقرار الخصم سواء أقرّ أو أنكر- فقل أنت يا محمّد: اللّه الّذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده [فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ و كيف تصرفون عن الحقّ و تقلبون عن الإيمان؟

و اعلم أنّ جمهور العقلاء يقرّون بالصانع سوى جماعة قليلة من ملاحدة الفلاسفة.

و من أقرّ بالصانع صنفان: موحّد يعتقد أنّ اللّه واحد لا يستحقّ العبادة غيره، و مشرك و هم ضربان: فضرب جعلوا للّه شريكا في ملكه يضادّه و يوازيه و هم الثنويّة و المجوس، ثمّ اختلفوا فمنهم من يثبت للّه شريكا قديما كالمانويّة و منهم من يثبت شريكا محدثا كالمجوس، و ضرب آخر لا يجعل للّه شريكا في حكمه و ملكه، و لكن يجعل له شريكا في العبادة يكون متوسّطا بينه و بين اللّه، و هم أصحاب المتوسّطات ثمّ اختلفوا فمنهم من جعل الوسائط من الأجسام العلويّات كالنجوم و الشمس و القمر، و منهم من جعل المتوسّط من الأجسام السفليّة كالأصنام و نحوها فهؤلاء أجمع مشركون، تعالى اللّه عن الشرك علوّا كبيرا.

قوله: [سورة يونس (10): آية 35]

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)

احتجاج آخر إلزاما لهم بعد إلزام و إفحام [قُلْ يا محمّد لهم [هَلْ مِنْ نوع [شُرَكائِكُمْ و أصنامكم من يكون له أدنى مراتب المعبوديّة بوجه من الوجوه و أدنى مراتب المعبوديّة لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم؟ و يهديكم إلى طريق الحقّ، و كيف يهدي الجماد الّذي لا حياة له و لا روح و لا حسّ و لا شعور؟ فحينئذ [قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ قال الزجّاج:

هديت إلى الحقّ و هديت للحقّ بمعنى واحد و اللّه تعالى ذكر هاتين اللغتين.

قوله تعالى [أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي و قوله «لا يهدّي» أصله يهتدي قرئ ستّ لغات:

ص: 243


1- الانعام: 137.

الاولى: بفتح الياء و الهاء و تشديد الدال، أصله «يهتدي» أدغمت التاء في الدال و نقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء.

الثانية: ساكنة الهاء مشدّدة الدال أدغمت التاء و تركت الهاء على حالها. و هذه قراءة نافع فجمع في هذه القراءة بين ساكنين كما في قوله: «يخصّمون» و لهذا غلّطوا بعض على نافع في هذه القراءة.

الثالثة: بالإشارة إلى فتحة الهاء من غير إشباع فهو بين الفتح و الجزم للتخفيف.

الرابعة: بفتح الياء و كسر الهاء و تشديد الدال فرارا من التقاء الساكنين، و الجزم يحرّك بالكسر.

الخامسة: بكسر الياء و الهاء أتبع الكسرة للكسرة.

السادسة: يهدي ساكنة الهاء و تخفيف الدال على معنى يهتدي و العرب يقول: «يهدي» بمعنى يهتدي يقال: هديته فهدى أي اهتدى.

و هاهنا مسألة: و هي أنّ المراد من الشركاء في هذه الآية الأصنام و أنّها جمادات لا تقبل الهداية فكيف تليق بها نسبة الهداية؟

و الجواب من وجوه: الأوّل لا يبعد أن يكون المراد من قوله: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» هو الأصنام و المراد من قوله: «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» رؤساء الكفر و الدعاة إليها و الدليل عليه قوله سبحانه: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قوله:- لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (1) فحينئذ المراد و معنى الآية أنّهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلّا إذا هداهم اللّه؛ فكان التمسّك بدين اللّه و قول الأنبياء المهتدين بهداية اللّه أولى من قبول قول هؤلاء الجهّال.

و الوجه الثاني في الجواب أنّ القوم لمّا اتّخذوا هذه الأصنام آلهة لا جرم عبّر عنها كما يعبّر عمّن يعلم و يعقل، ألا ترى أنّه تعالى قال: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» (2) مع أنّها جمادات و قال: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ» (3) فأجرى

ص: 244


1- التوبة: 31.
2- الأعراف: 193.
3- فاطر: 15.

اللّفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعقل و يعلم، فكذا هاهنا وصفهم اللّه بصفة من يعلم و إن لم يكن الأمر كذلك.

الثالث أنّا نحمل على التقدير و الفرض، يعني أنّها لو كان بحيث يمكنها أن يهدي فإنّها لا يهدي غيرها إلّا بعد أن يهديها غيرها، و إذا حملنا الكلام على التقدير فزال السؤال بالكلّيّة.

الرابع أنّ الهدي عبارة عن النقل و الحركة يقال: هديت المرأة إلى زوجها هداية إذا نقلت إليه، و سمّيت الهديّة هديّة لانتقالها من رجل إلى غيره، و الهدي ما يهدي إلى الحرم من النعم فحينئذ قوله: «أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى يحتمل أن يكون معناه أنّ هذه الأصنام لا ينتقل إلى مكان إلّا إذا نقل إليه و هي جمادات خالية عن القدرة و الحياة، فكيف يهدي غيره؟

ثمّ لمّا قرّر سبحانه هذه الحجج الباهرة على الكفّار قال سبحانه [فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا تعجّب من حالهم كيف يقضون بالوهيّة هذه الأصنام و يعتقدون أنّها تستحقّ العبادة.

قوله: [سورة يونس (10): آية 36]

وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)

ثمّ قال: [وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ الكفّار [إِلَّا ظَنًّا] و فيه وجهان: الأوّل: و ما يتّبع أكثرهم في إقرارهم باللّه إلّا ظنّا من غير تعقّل و برهان بل سمعوه من أسلافهم. الثاني قوله: و ما يتّبع أكثرهم في قولهم و عقيدتهم أنّ الأصنام آلهة و أنّها شفعاء عند اللّه إلّا الظنّ.

و القول الأوّل أقوى لأنّا على القول الثاني نحتاج إلى أن نفسّر الأكثر بالكلّ.

ثمّ قال: [إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً].

و تمسّك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: العمل بالقياس عمل بالظنّ فوجب أن لا يجوز.

و أجاب مثبتو القياس فقالوا: الدليل الّذي دلّ على وجوب العمل بالقياس دليل قاطع؛ فكان وجوب العمل بالقياس معلوما، فلم يكن العمل بالقياس مظنونا بل كان معلوما.

و أجابوا بأن لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكما للّه لكان ترك العمل

ص: 245

به كفرا لقوله: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» (1) و لمّا لم يكن كذلك بطل العمل به.

و قد يعبّرون عن هذه الحجّة بأن قالوا: الحكم المستفاد من القياس إمّا أن يعلم كونه حكما للّه أو يظنّ أو لا يعلم و لا يظنّ و الأوّل باطل و إلّا لكان من لم يحكم به كافرا لقوله: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ»* و بالاتّفاق ليس كذلك. و الثاني باطل لأنّ العمل بالظنّ لا يجوز لقوله: «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي» و الثالث باطل لأنّه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوما و لا مظنونا كان مجرّد التشهّي فكان باطلا.

و أجاب مثبتوا القياس بأنّ حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسّك بالعمومات و التمسّك بالعمومات لا يفيد إلّا الظنّ فلمّا كانت هذه العمومات دالّة على المنع من التمسّك بالظنّ لزم كونها دالّة على المنع من التمسّك بها، و ما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكا انتهى.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 37 الى 39]

وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)

هذه الآية تتمّة جواب الكافرين حيث قالوا: «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» و كانوا يعتقدون أنّ القرآن ليس بمعجز و أنّ محمّدا إنّما أتى به من عند نفسه على سبيل الاختلاق، و ذكر سبحانه عن هذا الكلام أجوبة كثيرة فبيّن في هذه الآية أنّ إتيان محمّد بهذا القرآن ليس على سبيل الكذب و الافتراء عليّ بل هو وحي منزل.

ثمّ إنّه تعالى قال: إذا كان الأمر على ما يزعمون [فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ قوله: [وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ بيان هذا المعنى.

و قوله: [أَنْ يُفْتَرى في تأويل المصدر، و المعنى ما كان افتراء، أو كلمة «أن» هاهنا بمعنى اللام و التقدير: ليفترى كقوله: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا» (2) و «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ

ص: 246


1- المائدة: 48.
2- التوبة: 123.

الْمُؤْمِنِينَ» (1) أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك فكذلك هاهنا أي ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى.

و الافتراء من فريت الأديم إذا قدّرته للقطع، ثمّ استعمل في الكذب [وَ لكِنْ هذا القرآن وحي و [تَصْدِيقَ للكتب الّتي بين يديه من التوراة و الإنجيل و غيرهما، أي شاهد لما تقدّم من الكتب قبله بأنّها حقّ كما أنّها شاهدة لصدقه، أو المعنى أنّ القرآن و الكتب الّتي قبله مصدّقة و شاهدة بالتوحيد و الثواب و الجزاء و البعث و القيامة.

قوله: [وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ أي هذا القرآن تبيّن المعاني المجملة من الحلال و الحرام و الأحكام و الأدلّة الكلاميّة، و فيه جميع ما تحتاجون إليه من الأصول و الفروع شارح و مميّز بعضه بعضا و يبلّغكم من انزل عليه لأنّه إنّما يعرف القرآن من خوطب به، و بالجملة لا شكّ أنّه من عند اللّه و لا يقدر أحد على مثله أن يأتي به من البشر.

قوله: [أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ هذا تقرير على موضع الحجّة بعد مضيّ حجّة اخرى. بل أ يقولون افتراه؟ و التقدير: إذا قالوا: افتراه محمّد فقل و ألزمهم بإتيان سورة مثله [وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ من الفصحاء للمعاونة و استعينوا بهم للمعاضدة بآية منه [إِنْ كُنْتُمْ في دعواكم [صادِقِينَ و هذا البيان غاية في التعجيز و التحدّي.

و اعلم أنّ الناس اختلفوا في أنّ القرآن معجز من أيّ الوجوه للنبيّ:

فقال بعضهم: لاشتماله على الإخبار عن الغيوب الماضية و المستقبلة و إليه الإشارة بقوله:

«تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ».

و منهم من قال: إنّه معجز لاشتماله على العلوم الكثيرة و إليه الإشارة بقوله: «و تفصيل كلّ شي ء» و لا شكّ أنّ كتابا يشتمل على تمام علوم الأوّلين و الآخرين من المعاشيّة و المعاديّة و يكون فيه أحكام جميع من يحتاج إلى حكم من غير إبقاء نكتة أو إهمال دقيقة من الخلق بأسرها بحيث لا يشذّ عنه حكم واحد من الأفراد حكما و محكوما لا يكون إلّا من عند اللّه و لا يتمكّن أحد سواء كان نبيّا أو ملكا أو بشرا أن يأتي به، و ما نعني بالمعجزة إلّا هذا الأمر؛ لأنّه متى ثبت العجز ثبت المعجز.

و قال بعضهم: إنّ إعجاز القرآن مع قطع النظر إلى اشتماله على العلوم و الدقائق

ص: 247


1- آل عمران: 173.

و قطع النظر عن الغيوب الماضية و المستقبلة عجزوا عن تركيب هذه الألفاظ على هذا الأسلوب مع أنّه لسانهم و هم كانوا أفصح العرب، و قال بعض: مع قطع النظر عن هذه الدلائل لمّا أراد اللّه أن يكون القرآن معجزا لنبيّه منع اللّه أفواه جميع الخلق إلى يوم القيامة أن يتمكّنوا من إتيان آية أو سورة منه.

و هذا القول لا يمكن المناقشة فيه؛ حيث ما ادّعى أحد و لا تمكّن منه مخلوق و ما سمع أن يدّعي أحد فضلا عن أن يأتي به. و أظنّ القائل بهذا القول الأخير السيّد المرتضى رحمة اللّه عليه.

قوله: [بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا] أي كذّبوا بما لم يدركوا علمه من القرآن و لم يأتهم تفسيره؛ لأنّهم لم يراجعوا رسول اللّه حتّى يتعلّموا منه و في القرآن علوم لا يمكنهم معرفتها إلّا بالرجوع إلى النبيّ لأنّ فيه أمورا يحتاج إلى الفكر و التدبّر و السؤال عن النبيّ، فالكفّار لمّا لم يعرفوا المراد منه كذّبوا به لعدم إحاطة علمهم بتأويله و النبيّ يعرف ذلك و لا بدّ أن يستكشفوا منه، و لو راجعوه صلى اللّه عليه و آله لعلموه.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: خصّ هذه الامّة بآيتين في القرآن أن لا يقولوا إلّا ما يعلمون، و أن لا يردّوا ما لا يعلمون، ثمّ قرأ «أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» (1).

قيل: إنّ من هنا أخذ أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قوله: «الناس أعداء ما جهلوا» من قوله تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ».

و أخذ قوله: «قيمة كلّ امرى ما يحسنه» من قوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» (2) و أخذ قوله: «تكلّموا تعرفوا» من قوله: «وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» (3) قوله تعالى: [كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل تكذيب هؤلاء الّذين في زمانك كذّبت الأمم السالفة رسلها [فَانْظُرْ] يا محمّد كما كان عاقبة أولئك المكذّبين الهلاك كذلك

ص: 248


1- الأعراف: 168.
2- النجم: 31.
3- محمّد: 32.

يكون عاقبة هؤلاء الظالمين.

هاهنا مسألة بيانيّة و هي أنّ المعتزلة تمسّكوا بهذه الآية على أنّ القرآن مخلوق حادث و قالوا: إنّه صلى اللّه عليه و آله تحدّى العرب بالقرآن و طلب منهم أن يأتوا بمثله، فلمّا عجزوا عنه ظهر كونه من عند اللّه، و ظهر صدقه صلى اللّه عليه و آله، و هذا التحدّي إنّما يمكن لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الوجود و لو كان قديما لكان الإتيان بمثل القديم محالا في نفس الأمر فوجب أن لا يصحّ التحدّي به.

تحقيق شريف و هو أنّه قال سبحانه في سورة البقرة: «وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» (1) و هاهنا قال: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» فما السبب في ذكر «من» هناك و هنا بغير «من»؟ و السبب أنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله كان رجلا امّيّا لم يتلمّذ عند أحد، و لم يطالع كتابا لا بمعنى أنّه ما كان يعرف اللغات أو لا يعرف العلوم، أي تحصيله ما كان بطريق التلمّذ بل من لدن حكيم عليم، و كان أعلم من عليها.

و الحاصل: فليأت بسورة من مثله أي فليأت إنسان يساوي محمّدا في عدم التلمّذ و عدم مطالعة الكتب و ممارسة العلماء بسورة تساوي هذه السورة و هذا لا يدلّ على أنّ السورة في نفسها معجزة و لكنّه يدلّ على أنّ ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمّد صلى اللّه عليه و آله معجز. أمّا في هذه السورة بيّن أنّ تلك السورة في نفسها معجز، و أنّ الخلق و إن تلمّذوا و تعلّموا و تفكّروا و طالعوا فإنّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور؛ فلا جرم قال: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ».

و اعلم أنّ الكفّار إنّما كذّبوا القرآن و فرضوه افتراء لأمور:

منها- و هو الأعظم حبّ-: الدنيا الفانية و أنّ القرآن مشحون بذمّ الدنيا و بيان مفاسدها و هذا الأمر على خلاف ميلهم و إراداتهم و يبيّن أنّ الدنيا فاسدة و نهاية كلّ متحرّك سكون و موت، و غاية كلّ متكوّن أن لا يكون، و كذلك القرآن مملوء من إثبات الحشر و النشر، و القوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت و لم يتقرّر ذلك

ص: 249


1- البقرة: 21.

في قلوبهم الفاسدة و عقولهم السخيفة فظنّوا أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله إنّما يذكر ذلك على سبيل الكذب.

و كذلك لمّا رأوا أنّ في القرآن أحكاما راجعة إلى العبادات كالصلاة و الصوم و نحوهما و يقولون بأنّ اللّه غنيّ عنّا و عن عبادتنا و يقيسون برأيهم و باجتهادهم الفاسد أنّ الغنيّ أجلّ من أن يأمرنا بشي ء لا فائدة فيه، ثمّ يجرون الأمور على الأحوال المألوفة في عالم المحسوسات و الطبيعيّات و لا يعرفون أسرارها و لا يطلبون حكمها و علمها، و وجوه تأويلها عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله فلا جرم وقعوا في التكذيب و الجهل.

و لهذا قال سبحانه: [بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ و هذه الآية إشارة إلى أنّ هذه الأمور من جهلهم في الأسرار.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 40 الى 41]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)

لمّا ذكر في الآية السابقة قوله: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» و كان المراد منه تسليط العذاب عليهم في الدنيا شرح أحوال بعضهم بقوله: [وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ منبّها على أنّ الصلاح عنده تبقية هذه الطائفة دون الاستيصال من حيث كان المعلوم أنّ منهم من يؤمن به. و الأقرب و الأولى إرجاع الضمير إلى القرآن، و قيل: إلى الرسول يعني أنّ منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر و يبدّله بالإيمان و منهم من يصرّ على كفره و يبقى عليه.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ يا محمّد لهم: [لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أي عملي الطاعة لي و عملكم الشرك لكم، أو المعنى: لي جزاء عملي و لكم جزاء عملكم [أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ .

قال بعض المفسّرين: هذه الآية منسوخة بآية السيف. و أنكروا جماعة النسخ لأنّ شرط الناسخ أن يكون رافعا لحكم المنسوخ و مدلول هذه الآية اختصاص كلّ واحد بأفعاله، و ثمرات أفعاله من الثواب و العقاب، و آية القتال ما رفعت شيئا من مدلولات الآية فالقول بالنسخ باطل.

ص: 250

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 42 الى 44]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)

في الآية قسّم اللّه الكفّار على قسمين: منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و في هذا القسم ممّن لا يؤمن على قسمين: منهم من يكون على غاية البغض و العداوة للرسول، و هو في نهاية النفرة عن قبول دينه، و منهم من لا يكون كذلك.

فوصف القسم الأوّل فقال: [وَ مِنْهُمْ مَنْ يستمع كلامك مع أنّه كالأصمّ من حيث إنّه لا ينتفع من الاستماع بذلك الكلام فإنّ الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر و عظمت نفرته عنه، صارت نفسه متوجّهة إلى طلب مقابح كلامه، معرضة عن جميع جهات محاسن الكلام فالصمّ في الاذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت فكذلك حصول هذا البغض الشديد كالمنافي للوقوف للمحاسن لذلك الكلام، و العمى في العين معنى ينافي حصول إدراك الصورة، فكذلك العداوة ينافي وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه و الوقوف على ما آتاه اللّه من الفضائل.

فبيّن تعالى أنّ في أولئك الكفّار من بلغت حالته في البغض و العداوة إلى هذا الحدّ فكما أنّه لا يمكن جعل الأصمّ سميعا، و لا جعل الأعمى بصيرا فكذلك لا يمكن جعل العدوّ البالغ في العداوة إلى هذا الحدّ صدّيقا تابعا للرسول صلى اللّه عليه و آله و المقصود تسلية الرسول بأنّ هذه الطبقة من الكفّار قد بلغوا في مرض الجهل إلى حيث لا يقبلون العلاج، و الطبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج أعرض عنه فلا تستوحش أيّها النبيّ.

و هاهنا مسألة: احتجّ جماعة بهذه الآية على أنّ السمع أشرف من البصر؛ قالوا:

إنّ اللّه قرن ذهاب السمع بذهاب العقل و لم يقترن بذهاب النظر إلّا ذهاب البصر فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر لأنّ العقل أشرف الأشياء للإنسان.

ثمّ قالوا: إنّ اللّه كلّما ذكر السمع و البصر فإنّه قدّم ذكر السمع على البصر، و كذلك إنّ العمى قد وقع على الأنبياء و أمّا الصمم فغير جائز عليهم لأنّه يخلّ بأداء الرسالة من حيث إنّه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذّر عليه الجواب فعجز عن تبليغ رسالته و شرائع اللّه على أنّ القوّة السامعة تدرك المسموعات من جميع الجوانب و الباصرة لا تدرك المرئيّ

ص: 251

إلّا من جهة واحدة و هي المقابل.

ثمّ إنّ الإنسان إنّما يستفيد العلم بالتعليم من الأستاذ و ذلك لا يمكن إلّا بقوّة السمع، و استكمال النفس بالكمالات العلميّة لا يحصل إلّا بقوّة السمع و لا يتوقّف على قوّة البصر فكان السمع أشرف.

و من الدلائل على أشرفيّة السمع قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ» (1) و المراد من القلب هاهنا العقل فجعل السمع قرينا للعقل.

و يتأكّد هذا بقوله تعالى: «وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» (2).

و من الدلائل أنّ متعلّق السمع النطق و هو شرف الإنسان و متعلّق البصر إدراك الأشكال و الألوان، و ذلك مشترك فيه بين الإنسان و سائر الحيوانات، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.

و من الدلائل على أفضليّة السمع أنّ الأنبياء عليهم السّلام يراهم الناس و يسمعون كلامهم و نبوّتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئيّة، و إنّما حصلت بسبب ما معهم من الكلمات و الأصوات المسموعة فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيّ. فهذا جملة ما تمسّك به القائلون بأنّ السمع أفضل من البصر.

و من الناس من قال: البصر أشرف من السمع و استدلّوا بوجوه:

الحجّة الاولى أنّهم قالوا: آلة القوّة الباصرة هي النور و آلة القوّة السامعة هي الهواء و النور أشرف من الهواء فالقوّة الباصرة أفضل من السامعة و في المثل المشهور: ليس وراء العيان بيان و ذلك يدلّ على أنّ أكمل وجوه الإدراك البصر.

الحجّة الثانية أنّ عجائب حكمة اللّه في تخليق العين أكثر من عجائب خلقته في الاذن فركّب العين من سبع طبقات و ثلاث رطوبات و خلق لتحريكات العين عضلات كثيرة على صور مختلفة، و الاذن ليس كذلك و كثرة العناية في تخليق الشي ء تدلّ على كونه أشرف من غيره.

ص: 252


1- ق: 36.
2- الملك: 10.

الحجّة الثالثة أنّ البصر يرى ما حصل فوق سبع سماوات و هو فلك الكرسيّ و نجومها و السمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ فكان البصر أقوى لرؤيته شواهد الربوبيّة.

قال ابن الأنباريّ: كيف يكون السمع أفضل من البصر و بالبصر يحصل جمال الوجه و بذهابه عيبه و ذهاب السمع لا يورث الإنسان عيبا ظاهرا مكشوفا و العرب تسمّي العينين: الكريمتين و لا تصف السمع بمثل هذا؛ و منه الحديث يقول اللّه: من أذهبت كريمتاه فصبر و احتسب لم أرض له ثوابا دون الجنّة. انتهى.

فقوله تعالى: [أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ معناه أنّ هؤلاء الكفّار الّذين يستمعون و يطلبون السمع للردّ عليك لا للفهم فلذلك لزمهم الذمّ و على هذا الوجه من الاستماع هم صمّ لم يستمعوه حيث لم ينتفعوا به، فأنت لا تقدر على أسماع الصمّ فهذا الكلام في حدّ التربية و الإرشاد لنبيّه صلى اللّه عليه و آله لإنكار استماعهم و أوقع الكلام في معرض الاستحالة.

و أكّده بقوله: [وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي و لو انضمّ إلى صممهم عدم العقل و الإدراك فبالحريّ أن لا يسمعوا، لأنّ الأصمّ العاقل ربّما يتفرّس إذا وصل إلى صماخه هوت و أمّا إذا اجتمع فقدان السمع و العقل جميعا فقد تمّ الأمر و كذلك الأعمى كيف تهديهم أنت و تبيّن لهم الطريق للهداية و ليس لهم أعين؟ فكيف ينظرون خصوصا إذا انضمّ إلى العمى عدم البصيرة؟ فإذا اجتمع عدم البصر و عدم البصيرة فحينئذ تمّ الأمر؛ لأنّه اجتمع فيه الحمق و العمى.

و جواب «لو» محذوف في الجملتين لدلالة الكلام و هو قوله تعالى: «تُسْمِعُ الصُّمَ و تَهْدِي الْعُمْيَ» عليه أي أ فأنت تسمع الصمّ لو كانوا يعقلون، و لو كانوا لا يعقلون لا تسمع أ فأنت تهدي العمي لو كانوا يبصرون و لو كانوا لا يبصرون؟ أي على كلّ حال مفروض.

قوله: [إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ المعتزلة و العدليّة احتجّوا بهذه الآية على صحّة مذهبهم و ردّ مذهب القدريّة أي الجبريّة و وجه الاستدلال به أنّه يدلّ علي أنّه تعالى ما ألجأ أحدا بالكفر و لا بهذه القبائح و المنكرات لكنّهم باختيار أنفسهم يقدمون عليها و يباشرونها لأنّ الآية صريحة الدلالة على هذا المعنى.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 45 الى 46]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46)

ص: 253

المعنى: لمّا وصف هؤلاء الكفّار بقلّة الإصغاء و ترك التعقّل و التدبّر أتبعه بذكر الوعيد فقال: [وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا] مشابهين حالا من حال ممن يلبث ساعة من النهار و قوله: [يَتَعارَفُونَ يجوز أن يكون متعلّقا بيوم يحشرهم و يجوز أن يكون حالا بعد حال و «كأن» مخفّفة من المثقّلة و التقدير: كأنّهم لم يلبثوا في الدنيا إلّا ساعة من النهار.

و حاصل المعنى: يوم نجمعهم من كلّ مكان إلى الموقف كأنّهم لم يلبثوا في الدنيا إلّا مقدار ساعة أي استقلّوا أيّام الدنيا فإنّ المكث في الدنيا و إن طال كان بمنزلة مكث ساعة في جنب الآخرة.

و قيل: إنّهم استقلّوا مدّة لبثهم في القبور، عن ابن عبّاس و جماعة؛ و قد دلّ القرآن بذلك الوجهين؛ قال اللّه: «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» (1) و ذكروا في سبب الاستقلال وجوها؛ قيل: لمّا شاهدوا من أهوال الآخرة و دوامها و عظم خوفهم نسوا زمان الدنيا و استقلّوه، و لمّا طال وقوفهم في الحشر استقلّوا بقاءهم في الدنيا.

قوله: [يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي إنّ الخلق يعرف بعضهم بعضا في ذلك الوقت كما كانوا في الدنيا كذلك و قيل: معناه: يعرف بعضهم ممّا كانوا عليه من الخطاء و الكفر.

قال الكلبيّ: يتعارفون إذا خرجوا من قبورهم ثمّ ينقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب و يتبرّأ بعضهم من بعض فحينئذ لا يسأل حميم حميما أو المراد من قوله: [يَتَعارَفُونَ يوبّخ بعضهم بعضا فيقول كلّ فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا و زيّنت لي الفعل الفلانيّ من القبائح فهذا تعارف بين اثنين في التقبيح و التعنيف و التقاطع لا تعارف عطف و شفقة. و كلمة التعارف يشمل القسمين فلا منافاة بين هذه الآية و بين آية «وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» (2).

قوله: [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا] فيه وجهان: الأوّل: أن يكون التقدير: و يوم يحشرهم

ص: 254


1- المؤمنون: 115.
2- المعارج: 10.

رجال كونهم متعارفين و حال كونهم قائلين: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» و الوجه الثاني أن يكون «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا» كلام اللّه فيكون شهادة من اللّه عليهم بالخسران أي من باع آخرته بدنياه «فقد خسر» لأنّه أعطى الكثير الشريف الباقي و أخذ الخسيس الفاني.

[وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى رعاية مصالح هذه التجارة لأنّهم اغترّوا بالظاهر و غفلوا عن الحقيقة كمن رأى زجاجة صافية حسنة فظنّها جوهرة نفيسة فاشتراها بكلّ ما ملكه فلمّا عرضها على الناقدين خاب سعيه و أخبروه بأنّها زجاجة لا تعادل فلسا، فوقع في حرقة الروع و عذاب القلب.

قوله: [وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ في الدنيا و قيل: إنّه سبحانه وعد محمّدا صلى اللّه عليه و آله أن ينتقم له من أعدائه إمّا في حياته أو بعد وفاته و لم يعيّن سبحانه الوقت فقال في هذه الآية: إنّ ما وعدناه حقّ إمّا نرينّك يا محمّد في حياتك بعض الّذي نعد هؤلاء الكفّار من العقوبة في الدنيا، قالوا: و منها وقعة بدر و بعض الغزوات على الكفّار.

[أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ و نميتك قبل أن ينزل ذلك بهم، و ينزل ذلك بهم بعد موتك و ستراه في الآخرة أكثروا إلى حكمنا مصيرهم في الآخرة فلا يفوتنا.

[ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ] عليهم بأفعالهم و يوفّيهم كفرهم و معاصيهم.

و قوله: [سورة يونس (10): آية 47]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)

لمّا بيّن حال محمّد صلى اللّه عليه و آله مع قومه بيّن حال الأنبياء مع أقوامهم تسلية للرسول.

و هذه الآية تدلّ على أنّ كلّ جماعة ممّن تقدّم قد بعث اللّه إليهم رسولا، و أنّه ما أهمل امّة من الأمم قطّ و يؤيّده قوله تعالى: «وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» (1) فإن قيل: كيف يصحّ هذا مع ما نعلمه من أحوال الفترة؟ و مع قوله سبحانه: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» (2) فالجواب أنّ كون كلّ امّة أن يكون لها نذير لا يوجب أن يكون الرسول حاضرا مع القوم لأنّ تقدّم الرسول لا يمنع من كونه رسولا إليهم و حكمه باقيا

ص: 255


1- فاطر: 22.
2- يس: 5.

فيهم كما لا يمنع تقدّم رسولنا من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد. و يحمل معنى الفترة على ضعف الدين و ارتداد الناس عن الحقّ و وقوع موجبات التخليط فيها.

و الحاصل في معنى الآية: لكلّ امّة كأمّة محمّد و امّة موسى و امّة إبراهيم و امّة عيسى بعث اللّه إليهم و حمل رسله الرسالة الّتي كان مأمورا لتبليغه.

قوله: [فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ هاهنا حذف و إضمار و التقدير فإذا جاء رسولهم و بلغ الرسالة فكذّبه قوم و صدّقه آخرون [قُضِيَ بَيْنَهُمْ يهلك المكذّبون و ينجي المؤمنون و فصل الأمر بينهم بالعدل و هم لا ينقصون عن ثواب طاعاتهم و لا يزدادون في عقاب سيّئاتهم.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 48 الى 49]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (49)

المعنى: لمّا أوعد اللّه المكذّبين بيّن في هذه الآية أنّهم استعجلوا ذلك الوعيد على سبيل التكذيب و الردّ.

قل يا محمّد في جوابهم: [لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً] و لا أقدر لنفسي على ضرّ أو نفع إلّا ما شاء اللّه أن يملكني أو يقدرني عليه و حينئذ فكيف أقدر لكم ضرّا أو نفعا أو تقديم القيامة و تعجيل العقوبة قبل الوقت المقدّر؟ لكلّ امّة أجل لعذابها في تكذيب الرسل و موتها فلا يتأخّرون عن ذلك الوقت، و لا يتقدّمون. و كلمة «متى» سؤال عن الزمان كما أنّ «أين» سؤال عن الزمان.

و احتجّ المعتزلة بقوله: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» قالوا: هذا الاستثناء يدلّ على أنّ العبد لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا إلّا ما شاء اللّه» قالوا: هذا الاستثناء يدلّ على أنّ العبد لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا إلّا الطاعة و المعصية فهذا الاستثناء يدلّ على كون العبد مستقلّا بهما.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 50 الى 52]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)

المعنى: هذا جواب آخر لقول الكفّار الّذين يكذّبون النبيّ و كانوا يقولون

ص: 256

لأنبيائهم: أنتم تخوّفونا بالعذاب و البعث و القيامة متى هذا الوعد و لم لم يأتنا؟ و يستعجلون العذاب.

[قُلْ يا محمّد لهم: [أَ رَأَيْتُمْ أي أعلمتم [إِنْ أَتاكُمْ عذاب اللّه ليلا أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أي أيّ شي ء الّذي يستعجل من العذاب المجرمون؟

و حاصل الجواب أن يقال لأولئك الكفّار الّذين يطلبون نزول العذاب: بتقدير أن يحصل هذا المطلوب ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم: نؤمن عنده؛ فذلك باطل؛ لأنّ الإيمان في ذلك الوقت إيمان إلجاء و قسر، و ذلك لا يفيد قطعا.

قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: يريد بذلك عذابا ينزل على فسقة أهل القبلة في آخر الزمان أجارنا اللّه.

قوله: [أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أي أحين وقع بكم العذاب المقدّر الموقّت آمنتم باللّه أو بالقرآن أو بالعذاب الّذي كنتم تنكرونه؟ فيقال لكم: [آلْآنَ تؤمنون و تصدّقون و قد اضطررتم لحلوله و قد كنتم بالعذاب من قبل تستعجلون و كنتم تستهزءون.

ثمّ يقال يوم القيامة للّذين ظلموا أنفسهم على وجه التقريع: ذوقوا عذاب الدائم. و قوله: [ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا] عطف على الفعل المضمر قبل كلمة «آلآن» قيل لهم: «آلآن» نظير قوله: «آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ» (1) فذوقوا عذاب الدائم بعد عذاب الدنيا.

قوله: [هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا بسبب ما كسبتم و أنّكم هديتم من قبل فما اهتديتم، و بيّن لكم الأدلّة و ازيحت عنكم العلّة فأبيتم إلّا التمادي في الكفر و الامتناع و الانهماك في الغيّ؛ فحينئذ ذوقوا جزاء أعمالكم. و الذوق طلب الطعم و إحساس الكيفيّة. و قيل: لأنّهم يتجرّعون العذاب بدخول أجوافهم.

قوله: «بياتا» أى ليلا يقال: بتّ ليلتي أفعل كذا. و السبب فيه أنّ الإنسان يكون في الليل غالبا في بيته؛ فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل و «البيات» مصدر كالوداع و السراج.

و يقال في النهار: ظللت أفعل كذا؛ لأنّ الإنسان في النهار ظاهر في الظلّ. و «ماذا» قيل:

كلمة واحدة و يكون منصوب المحلّ، نحو: «ما ذا أَرادَ اللَّهُ»* (2) و قيل: كلمتين و محلّ «ما»

ص: 257


1- السورة: 91.
2- البقرة: 25.

الرفع على الابتداء و خبره «ذا» بمعنى الّذي فيكون معناه: ما الّذي يستعجل منه. و دخول حرف الاستفهام على «ثمّ» كدخوله على الواو و الفاء نحو قوله: «أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى (1) للتقريع و إفادة التوبيخ.

و اعلم أنّ الآية صريحة الدلالة على أنّ العبد هو المكتسب لأفعاله التكليفيّة و ليس إجبار من اللّه تعالى أبدا خلافا للجبريّة.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 53 الى 54]

وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (54)

المعنى: قوله: [وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ عطف على «و يستعجلونك» و وقوع الاستعجال حين قالوا: «متى هذا الوعد» أي يقولون: متى تكون القيامة و العذاب و يستخبرونك أحقّ ما تقول؟ و اختلفوا في الضمير في قوله: «أحقّ هو» قيل: أحقّ ما جئتنا من القرآن و النبوّة و الشرائع؟ و قيل: أحقّ ما تعدنا من البعث و العذاب و القيامة؟ و قيل: ما تعدنا من عذاب الدنيا و نزوله. فأمر سبحانه نبيّه أن يجيبهم بقوله: [إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ .

و الفائدة أن يستميلهم و يتكلّم معهم بكلام المعتاد، و أنّ من أخبر عن شي ء و أكّده بالقسم فقد أخرجه عن الهزل و الشبهة، و أدخله في الجدّ و الحقيقة و الناس طبقات: فمنهم من لا يقبل الشي ء إلّا بالبرهان الحقيقيّ، و منهم من لا ينتفع بالبرهان بل ينتفع و يقنع بالبيانات الإقناعيّة نحو القسم؛ فإنّ الأعرابيّ الّذي جاء الرسول صلى اللّه عليه و آله و سأل عن نبوّته اكتفى في تحقيق تلك الدعوى بالقسم. قل يا محمّد صلى اللّه عليه و آله لهم: نعم و حقّ اللّه إنّ ما وعدتكم بمجيئه لحقّ لا شكّ فيه.

ثمّ أكّد سبحانه بقوله: [وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ و سابقين و فائتين لمن وعدكم بالعذاب أن ينزّله عليكم، لا يمكن لأحد أن يمانع ربّه و يدافعه عمّا أراد و قضى.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ هذا الجنس من الكلمات إنّما ينفع لهم ما داموا في الدنيا فأمّا إذا حضروا محفل القيامة و عاينوا قهر اللّه تعالى و ماتوا على كفرهم لا ينفعهم شي ء أبدا فقال:

ص: 258


1- الأعراف: 96.

[وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ و الافتداء إيقاع الشي ء بدل غيره لدفع المكروه أي لو أنّ لهم جميع ما في الأرض و يعطون بدل عذابهم لا يمكن ذلك؛ لأنّه في ذلك الوقت لا يملك شيئا كما قال سبحانه: «وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» (1) و بتقدير أن يملك خزائن الأرض لا ينفعه الفداء لقوله تعالى: «وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ» (2).

و قال في صفة هذا اليوم: «لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ» (3).

قوله: [وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ و جاء بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه. و «الإسرار» معناه الإخفاء و الإظهار ضدّان فإذا كان بمعنى الإخفاء فظاهر، و أمّا بمعنى الإظهار من قولهم: سرّ الشي ء و أسرّه إذا أظهره فقيل: المراد إخفاء تلك الندامة لأنّهم لمّا رأوا العذاب الشديد صاروا مبهوتين متحيّرين فلم يطيقوا عنده بكاء و لا صراخا سوى إسرار الندم كحالة من يذهب به إلى الصلب؛ فإنّه يبقى مدهوشا متحيّرا لا ينطق بكلمة، أو لأنّهم أسرّوا الندامة من سفلتهم و أتباعهم حياء منهم و خوفا توبيخهم.

فإن قيل: إنّ مهابة ذلك الموقف يمنع الإنسان عن مثل هذه الأمور.

قيل: إنّ ذلك قبل الورود في النار و إلّا فبعد الورود استصرخوا و أظهروا لقوله تعالى:

«قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا» (4).

و أمّا من قال: المراد بالإسرار الإظهار فظاهر لأنّهم إنّما أخفوا الندامة في الدنيا إمّا لأجل رئاستهم و ميلهم أو أنّ الندامة ما حصلت لهم حتى يخفوا أو يظهروا و لكن لمّا رأوا العذاب و تقطّعت بهم الأسباب فحينئذ أظهروا الندامة.

قوله: [وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ] و العدل قيل: قضي بين المؤمنين و الكافرين. و قيل:

بين الرؤساء و الأتباع من أهل الكفر لأنّهم و إن اشتركوا في العذاب لكن لا بدّ أن يقضى بينهم بالعدل لأنّه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضا في الدنيا فيكون في ذلك القضاء

ص: 259


1- مريم: 96.
2- البقرة: 45.
3- «: 255.
4- المؤمنون: 108.

تخفيف بعضهم دون بعض و تثقيل بعضهم دون بعض لأنّ العدل يقتضي أن ينتصف للمظلومين من الظالمين و لا سبيل إليه إلّا بأن يخفّف من عذاب المظلومين و يثقل في عذاب الظالمين.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 55 الى 56]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)

تعلّق الآية بما قبلها هو أنّه قال قبل هذه الآية: «وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ» فلا جرم بيّن في هذه الآية أنّه ليس للظالم شي ء يفتدي به فإنّ كلّ الأشياء ملك اللّه تعالى و ملكه.

و هاهنا دقيقة اخرى و هي كلمة «ألا» و هذه الكلمة إنّما تذكر عند تنبيه الغافلين و إيقاظ النائمين و أهل هذا العالم غالبا مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيقولون:

البستان للأمير، و الدار للوزير، و الغلام لزيد، و الجارية لعمرو؛ فيضيفون كلّ شي ء إلى مالك آخر و الخلق لكونهم في رقدة الغفلة يظنّون صحّة تلك الإضافات؛ فاللّه سبحانه ينبّه الغافلين بقوله: [أَلا إِنَّ لِلَّهِ و ذلك لأنّه لمّا ثبت بالعقل أنّ ما سوى الواحد الأحد ممكن لذاته و الممكن مستند إلى الواجب لذاته فما سواه ملكه أجدّه فما سواه له و ليس لغيره في الحقيقة.

ثمّ نبّه ثانيا بقوله تعالى أنّ المالك الغنيّ عن كلّ شي ء جميع ما وعد به من العذاب و الحشر و النشر حقّ و واقع لا محالة.

[وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لغفلتهم و لاقتصار فهمهم على المحسوسات المعتادة [لا يَعْلَمُونَ .

فيقولون ما يقولون و يفعلون ما يفعلون [هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ من غير دخل لأحد في ذلك [وَ إِلَيْهِ .

لا إلى غيره في الآخرة [تُرْجَعُونَ بالبعث و الحشر.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 57 الى 58]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

المعنى: [يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لجميع الخلق و المكلّفين [قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ].

يعني القرآن. و الموعظة بيان ما يجب أن يحذر عنه و يرغب فيه و يدعو إلى الصلاح و يزجر

ص: 260

عن الفساد [وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ] كالدواء لإزالة الداء فداء الجهل أضرّ من داء البدن، و علاجه أعسر و أطبّاؤه أقلّ و الشفاء منه أجلّ و الصدر موضع القلب، و هو أجلّ موضع من البدن لشرف القلب [وَ هُدىً أي القرآن دلالة تؤدّي إلى معرفة الحقّ [وَ رَحْمَةٌ] أي نعمة لمن تمسّك به و عمل بما فيه.

و إنّما خصّ المؤمنين بالذكر و إن كان القرآن موعظة لجميع الخلق لأنّهم الّذين انتفعوا به.

و قد وصف اللّه سبحانه القرآن بأوصاف أربعة الموعظة و الشفاء لما في الصدور و بالهدى و بالرحمة.

[قُلْ يا محمّد بإفضال اللّه و نعمته، و وضع الفضل موضع الإفضال كما وضع النبات موضع الإنبات في قوله: «وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (1) أي إنباتا [فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا].

بدل من قوله: «بفضل اللّه» أي بالقرآن فليفرحوا لأنّه خير لكم يا أمّة محمّد و هو أحسن لكم [مِمَّا يَجْمَعُونَ الكفّار من الأموال.

و حاصل المعنى أنّه قل يا محمّد لهؤلاء الفرحين بأموال الدنيا الجامعين لها: إذا فرحتم بشي ء فافرحوا بفضل اللّه و رحمته: بهذا القرآن و بإرسال محمّد صلى اللّه عليه و آله إليكم فحينئذ إنّكم تحصلون بهما نعيما دائما مقيما. و قيل: «فضل اللّه» هو القرآن و رحمته الإسلام عن أبي سعيد الخدريّ. و روى أنس بن مالك عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: من هداه اللّه للإسلام و علّمه القرآن ثمّ شكا الفاقة كتب اللّه الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة.

قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: فضل اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و رحمته عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و روى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس كذلك. و في الآية بيان آخر و طريق صحيح لإثبات النبوّة و هو أنّا نعلم بعقولنا أنّ من جاء و دعى الخلق إلى الحقّ و نهاهم عن الباطل و الفساد، و نقل الناس من الكفر و الفساد إلى الإيمان و الصلاح و معه آية و معجزة لا يتمكّن غيره أن يأتي بها فهو النبيّ الحقّ الصادق المصدّق.

و من المعلوم أنّ نفوس الخلق قد استولى عليها أنواع الجهل و النقص و حبّ الدنيا

ص: 261


1- نوح: 16.

و طالبين لاستدراك مشتهيات طباعهم و مستلذّاتهم بأيّ نحو كان و من أيّ وجه حصل.

و لا شكّ أنّ هذا الميل يستدعي إلى ارتكاب جهالات و ضلالات غير متناهية؛ و إذا كان كذلك فالخلق يحتاجون إلى إنسان كامل قويّ النفس مشرق الروح علويّ الملكة بحيث يقوى بكماله نقل هؤلاء الناقصين و الجاهلين الفاسدين المفسدين إلى مقام الكمال حتّى لا يقع الهرج و المرج ليأمر بالمعروف و ينهى عن المنكرات.

و نحن نرى أنّ الناس طبقات: الناقصون و هم الجهلة الفسدة، و الكاملون الّذين لا يقدرون على تكميل الناقصين، و الأكملون الّذين يقدرون على تكميل الناقصين؛ فالطبقة الاولى هي عامّة الخلق، و القسم الثاني بعض الأولياء، و الثالث هم الأنبياء.

و لمّا كانت القدرة على نقل الناقصين إلى درجة الكمال متفاوتة و مراتبها مختلفة لا جرم كانت درجة الأنبياء في قوّة النبوّة مختلفة؛ و لهذا السرّ قال صلى اللّه عليه و آله: علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل.

إذا عرفت هذه المقدّمات و ظهر لك إعجاز القرآن ثبت لك نبوّته و هذه الاستدلال أي المعجزيّة على نبوّته برهان الإنّ على اصطلاح المنطقيّين، و هذه البيانات الّتي نذكرها في تفسير هذه الآية برهان اللّم و هو أشرف و أعلى فائدة.

اعلم أنّ نور العقل يضعف حيث قويت العلائق الحسّيّة و الحوادث الجسدانيّة، و يوجب ذلك الاستغراق حصول العقائد الفاسدة و الأخلاق الذميمة في جوهر الروح، و هذه الأحوال تجري مجرى الأمراض الشديدة للروح و البدن فلا بدّ لها من طبيب حاذق يعالجه بالعلاجات المفيدة و ربّما حصلت الصحّة و زال السقم؛ فكان محمّد صلى اللّه عليه و آله كالطبيب الحاذق و القرآن عبارة عن مجموع الأدوية الّتي بتركّبها تتعالج القلوب المريضة و الأرواح الفاسدة.

و الطبيب له مع المريض في المعالجة أحوال أربعة:

الاولى أن ينهاه عن تناول ما لا ينبغي و يأمره بالاحتراز عن امور بسببها وقع ذلك المرض و هذا هو الموعظة فإنّه لا معنى للموعظة إلّا الزجر و المنع عمّا يبعّد الإنسان عن مرضاة اللّه.

و الثاني من حال الطبيب الشفاء و هو أن يسقيه أدوية يزيل المرض و أخلاط الفاسدة

ص: 262

عن باطنه ليبرأ المرض فهذا النبيّ الطبيب بهذا الدواء الّذي هو شفاء للصدور يتداوى ذلك المريض كقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ» (1) فصار جوهر الروح مطهّرا من النقوش المانعة.

و المرتبة الثالثة حصول الهداية كما يحصل للمريض حصول العافية، و يحصل لجوهر النفس الناطقة فيض السعادة و الأضواء الإلهيّة، و فيض عامّ غير منقطع قال عليه السّلام: إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها. و المنع في حقّه تعالى ممتنع فعلى هذا عدم حصول هذه الأضواء الروحانيّة إنّما كان للعقائد الفاسدة و الأخلاق الذميمة و الظلمة فحينئذ يمتنع حصول النور فإذا زالت تلك الأحوال فيقع ضوء عالم القدس و المريض يصحّ.

و أمّا الحال الرابع للطبيب فهي أن تصير النفس بالغة إلى هذه الدرجات العالية و المعارج الربّانيّة بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر ضياء الشمس على أجرام هذا العالم، و هو المراد بقوله: «وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» و هو وجود محمّد صلى اللّه عليه و آله الّذي جعله اللّه رحمة انتهى.

[سورة يونس (10): الآيات 59 الى 60]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)

النظم: قيل: لمّا وصف القرآن بأنّه هدى و رحمة و أمرهم بالتمسّك به عقّبه في هذه الآية بذكر مخالفتهم.

و قيل: إنّها اتّصلت بقوله: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» فإذا أقرّوا أنّه الرزّاق [قُلْ لهم يا محمّد لكفّار مكّة و غيرهم من المشركين و «ما» بمعنى «الّذي» منصوب «برأيتم» قل لهم على وجه التقريع و لو كان بصورة الاستفهام: الّذي [أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ و إنّما قال:

أنزل اللّه لأنّ أرزاق العباد من المطر الّذي ينزله اللّه. لم جعلتم بعضه حلالا و بعضه حراما أي ما حرّموا من قبل أنفسهم كالسائبة و البحيرة و الوصيلة و الزروع.

[آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في هذه الأمور؟ و معناه أنّ اللّه لم يأذن لكم في شي ء من ذلك بل أنتم

ص: 263


1- النحل: 92.

تكذبون في ذلك على اللّه سبحانه. و أيّ شي ء يظنّ الّذين يكذبون على اللّه يوم القيامة؟

أي لا ينبغي أن يظنّوا أن نصيبهم على افترائهم على اللّه إلّا العذاب الشديد. و قرئ «ظنّ» بصيغة الماضي.

قوله: [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بما فعل بهم من ضروب الإنعام [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ نعمه و يجحدونها و قيل: معناه أنّه لذو فضل على خلقه بترك معاجلته العذاب على من افترى عليه بالعقوبة، و يمهلهم لعلّهم ينتبهون.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إمهاله إيّاهم ليس لجهل بحالهم، فقال:

قوله: [سورة يونس (10): آية 61]

وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)

[وَ ما تَكُونُ أنت يا محمّد و امّتك في حال من الأحوال من الدين و الدنيا [وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ الضمير إلى اللّه أو ضمير الشأن و ما تقرء من اللّه [مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا].

عالمين به شاهدين عليكم متى ما دخلتم في ذلك العمل. و «الإفاضة» الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه مأخوذ من انصباب الماء من الإناء من جوانبه.

[وَ ما يَعْزُبُ و يغيب عن علم [رَبِّكَ وزن نملة صغيرة [فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ].

من وزن نملة و [لا أَكْبَرَ إِلَّا] هو مثبوت و مبيّن في كتاب بيّنه اللّه فيه، و هو اللّوح المحفوظ.

أو المراد الكتاب الّذي كتبه الملائكة السفرة و الحفظة. قال الصادق عليه السّلام: كان رسول اللّه إذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديدا.

و هذه الآية ردّ على قول من يقول: إنّ اللّه ليس عالما بالجزئيّات.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 62 الى 65]

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّه سبحانه عالم بجميع ما تعملون شرح أحوال الصادقين الصدّيقين و نفى الخوف و الحزن عنهم بقوله: [أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ إلخ و لا بدّ أن نعرف

ص: 264

الوليّ فعرّفه سبحانه بقوله: [الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ و عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله: هم الّذين يذكر اللّه برؤيتهم. و السبب فيه أنّ مشاهدتهم تذكّر أمر الآخرة لما يشاهد منهم من الخشوع و الخضوع كما قال سبحانه: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» (1).

قال أبو بكر الأصمّ: أولياء اللّه هم الّذين تولّى اللّه هدايتهم باليقين و تولّوا القيام بحقّ عبوديّة اللّه و الدعوة إليه.

و ظهر في علم الاشتقاق أنّ تركيب الواو و اللّام و الياء تدلّ على القرب؛ فوليّ كلّ شي ء هو الّذي يكون قريبا منه و القرب من اللّه بالمكان و الجهة محال؛ فالقرب منه إنّما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معرفة اللّه فإن رأى دلائل معرفة اللّه، و إن سمع سمع آيات اللّه، و إن نطق نطق بالثناء على اللّه، و إن تحرّك تحرّك في خدمة اللّه فهنالك يكون هذا الإنسان في غاية القرب من اللّه و يكون وليّ اللّه و إذا كان كذلك كان اللّه وليّه كما قال سبحانه: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (2) و القرب لا يحصل إلّا من الجانبين.

و قال المتكلّمون: وليّ اللّه من يكون بالاعتقاد الصحيح المبنيّ على الدليل و يكون آتيا بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة. و بالجملة فهؤلاء [لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لأنّ الخوف إنّما يكون في المستقبل و الحزن إنّما يكون على الماضي إمّا لأجل أنّه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنّه فاته شي ء أحبّه.

و ليس المراد أنّ الأولياء لا يلحقهم في الدنيا خوف و حزن، بل المراد في الآخرة؛ لأنّ المؤمن و إن صفا عيشه في الدنيا فإنّه لا يخلو من همّ بأمر الآخرة شديد و حزن على ما يفوته في القيام بطاعة اللّه، و قلّما يتّفق أن يكون المؤمن خاليا من قلّة أو ذلّة أو علّة كما في الحديث: الدنيا سجن المؤمن.

قال ابن عطا: بين العبد و الربّ بحران عميقان: أحدهما بحر النجاة و هو القرآن و الآخر بحر الهلاك و هو الدنيا؛ فمن ركن إليها هلك، ليذهب بلال الحبشيّ بالتاج و الحلية إلى الفردوس و يذهب بمولاه صاحب الطيلسان الحرير اميّة بن خلف بالأنكال و الحديد و

ص: 265


1- الفتح: 29.
2- البقرة: 258.

معلوم أنّ ترك اللّذائذ يخفض القوى الجسمانيّة لكي تقوى القوى الروحانيّة؛ إنّ الملوك إذا دخلوا ...

قوله: [وَ كانُوا يَتَّقُونَ مع ذلك المعاصي [لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ].

فيه أقوال:

أحدها أنّ البشرى في الحياة الدّنيا هي ما بشّرهم اللّه تعالى به في القرآن على الأعمال الصالحة نظير قوله: «وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ» (1) و نظير قوله تعالى:

«يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ» (2) و ثانيها أنّ البشارة في الحياة الدنيا بشارة الملائكة للمؤمنين عند موتهم بأن لا تخافوا و لا تحزنوا و ابشروا بالجنّة.

و ثالثها أنّها في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له، و في الآخرة بالجنّة و هي ما يبشّرهم الملائكة عند خروجهم من القبور و في القيامة إلى أن يدخل الجنّة حالا فحالا و هو المرويّ عن أبي جعفر، و روي ذلك في حديث مرفوع عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

و روى عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: يا عقبة لا يقبل اللّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الدين الّذي أنتم عليه و ما بين أحدكم و بين أن ترى ما تقرّ به عينه إلّا أن تبلغ نفسه إلى هذه- و أومأ بيده إلى الوريد- الخبر بطوله. ثمّ قال: إنّ هذا في كتاب اللّه و قرأ «الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ» و قد بيّنّا البشرى أنّ من معناها الرؤيا الصالحة و عنه صلى اللّه عليه و آله قال: الرؤيا الصالحة من اللّه و الحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليتعوّذ منه و ليبصق عن شماله ثلاث مرّات فإنّه لا يضرّه.

و عنه صلى اللّه عليه و آله ذهبت النبوّات و بقيت المبشّرات. و عنه صلى اللّه عليه و آله: الرؤيا الصالحة جزء من ستّة و أربعين جزءا من النبوّة.

و عن ابن مسعود: الرؤيا ثلاثة قصد و همّ يهمّ به الرجل في النهار فيراه في الليل و حلم الشيطان و الرؤيا الصادقة؛ فإذا رأى منكم رؤيا غير صالحة فليقل: أعوذ بما عاذت به ملائكة

ص: 266


1- السورة: 2.
2- التوبة: 21.

اللّه من شرّ الرؤيا الّتي رأيتها أن تضرّني في دنياي أو في آخرتي.

قوله: [لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا خلف فيها و الكلمة و القول سواء نظيره «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» (1) و هذا دليل على أن المراد بالبشرى وعد اللّه بالثواب و الكرامة إنّ هذا [هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .

قال القاضي عبد الجبّار: قوله «لا تبديل» يدلّ على أنّ كلمات اللّه غير قابلة للتبديل و كلّ ما قبل العدم امتنع القدم (؟).

قوله: [وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .

النظم: كما أنّه سبحانه أزال الخوف و الحزن عن أوليائه في الآخرة بقوله:

«لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» أزال الخوف و الحزن في الدنيا عن قلبه صلى اللّه عليه و آله بهذه الآية حيث كان المشركون يهدّدونه بالكثرة و القوّة و المال، و كانوا يقولون: إنّا أصحاب المال و التبع و نسعى في قهرك و إبطال أمرك.

فإن قيل: فكيف آمنه و لم يزل خائفا حتّى احتاج إلى الهجرة و الهرب.

قلنا: إنّ اللّه وعده الظفر و النصرة مطلقا و الوقت ما كان معيّنا؛ فهو كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقت المعيّن ذلك الوقت؛ فحينئذ يحصل الانكسار و الانهزام في هذا الوقت.

قوله: [سورة يونس (10): آية 66]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)

ذكر في الآيات السابقة «إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» فدلّ على أنّ كلّ ما لا يعقل فهو ملك اللّه.

و أمّا في هذه الآية فكلمة «من» و هي مختصّة بمن يعقل فدلّت على أنّ كلّ العقلاء من الثقلين و الملائكة ملك للّه فحينئذ ما سواه ملكه و ذلك قدح في جعل الأصنام شركاء للّه تعالى.

ثمّ قال: [وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ] و في كلمة «ما» قولان:

ص: 267


1- ق: 28.

الأوّل أنّه نفي و جحد. و المعنى: أنّهم ما اتّبعوا شريكا و إنّما اتّبعوا شيئا ظنّوه شريكا للّه لأنّ شريك اللّه ممتنع. الثاني أنّ «ما» استفهام كأنّه قيل: أيّ شي ء يتّبع الّذين يدعون من دون اللّه شركاء؟ و المقصود تقبيح فعلهم يعنى أنّهم ليسوا على شي ء.

ثمّ قال سبحانه: [إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ أي اتّبعوا ظنونهم الباطلة و أوهامهم الفاسدة.

ثمّ بيّن أنّ هذا الظنّ لا حكم له [وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ و «الخرص» الكذب و التقدير بالتخمين أي يقدّرون تقديرا باطلا.

قوله: [سورة يونس (10): آية 67]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)

المعنى: أي الّذي مالك السماوات و الأرض و مالككم [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ .

و جعله لسكونكم و لأن يزول التعب و الكلال عنكم بالسكون فيه، و جعل [النَّهارَ مُبْصِراً].

مضيئا تبصرون و تهتدون به في معاشكم [إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق و الجعل [لَآياتٍ و حججا لقوم يسمعون الحجج، و يفتهمون البيّنات سماع تدبّر و تعقّل. «و المبصر» الّذي يبصر و النّهار يبصر فيه.

و إنّما جعله مبصرا على طريق نقل الاسم من السبب إلى المسبّب.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 68 الى 70]

قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

و إنّما قال: «قالوا» و إن لم يكن سبق ذكرهم لأنّهم كانوا بحضرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و كان يعرفهم، و يصحّ الضمير و الكناية عن المعلوم كما يصحّ عن المذكور. ثمّ حكى اللّه سبحانه عن صنف من الكفّار أنّهم أضافوا إليه سبحانه اتّخاذ الولد و هم طائفتان: إحداهما كفّار قريش و العرب فإنّهم قالوا: الملائكة بنات اللّه. و الطائفة الاخرى النصارى الّذين قالوا:

المسيح ابن اللّه [سُبْحانَهُ أي تنزيها له تعالى عن اتّخاذ الولد.

ثمّ بيّن الوجه فيه فقال: [لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أي إذا كان له ما في السماوات

ص: 268

و الأرض ملكا و خلقا فهو غنيّ عن اتّخاذ الولد ليقوى به من ضعف أو يستغني به عن فقر و إذا استحال اتّخاذ الولد حقيقة عليه لاستغنائه بالذات عن كلّ شي ء استحال عليه اتّخاذ الولد على وجه التبنّي.

قوله: [إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا] أي ما عندكم من حجّة و برهان بهذا [أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ هذا توبيخ لهم على قولهم.

ثمّ بيّن وعيدهم على ذلك فقال: [قُلْ لهم يا محمّد [إِنَّ الَّذِينَ يكذبون [عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ باتّخاذ الولد و غير ذلك [لا يُفْلِحُونَ و لا يفوزون بشي ء من الثواب.

و أصل الافتراء القطع من فريت الأديم أي يقطعون بالكذب الّذي يكذبون به على اللّه هو [مَتاعٌ فِي الدُّنْيا] يتمتّعون به أيّاما قلائل ثمّ تنقضي ثمّ إلى ما حكمنا مصيرهم [و نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ].

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 71 الى 73]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)

لمّا بالغ سبحانه في تقرير الأدلّة للكفّار و الجواب عن شبهاتهم شرع في قصص بعض الأنبياء لإثبات المطلوب بنوع آخر و هذه صناعة الافتنان و هو الخروج عن فنّ إلى فنّ لأنّ الكلام إذا طال فربّما حصل نوع من الملالة، فإذا انتقل عنوان الكلام يحصل للمتكلّم به شرح صدر و طاب قلبه و وجد رغبة في الاستماع و قوّة حادثة، على أنّ في الآية تسلية للرسول بمن سلف من الأنبياء لأنّه صلى اللّه عليه و آله إذا سمع معاملة الكفّار مع كلّ الرسل خفّت المصيبة عليه، لأنّ المصيبة إذا عمّت طابت.

ثمّ إذا سمعوا هذه القصص و أنّ ما فعل الجهّال قبلهم بأنبيائهم لعلّ أن يقع الخوف في قلوبهم و يرتدعون عمّاهم عليه و هم كانوا يعلمون أنّ هذا النبيّ امّيّ و لم يتعلّم من أحد فإخباره لهم بأمثال هذه الأمور دلائل على نبوّته خصوصا إذا بيّن لهم هذه الأقاصيص من

ص: 269

غير تفاوت و زيادة و نقصان فلا يكون حينئذ إلّا من الوحي و التنزيل.

و الحاصل أنّه أمر اللّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله أن يقرأ عليهم أخبار نوح [إِذْ قالَ نوح [لِقَوْمِهِ .

الّذي بعث إليهم: [يا قَوْمِ إِنْ كانَ ثقل و شقّ و عظم عليكم إقامتي بين أظهركم و فيكم و بينكم و ثقيل عليكم تذكيري و وعظي بآيات اللّه و بحججه و بيّناته على اصول دينكم من التوحيد و العدل و النبوّة و المعاد و بطلان ما تدينون به.

و في الكلام حذف و إضمار و هو قوله: و عزمتم على قتلي و طردي و تبعيدي [فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ مع أنّه متوكّل عليه كان في جميع الأحوال ليتبيّن لهم أنّه متوكّل عليه. و في هذا الإعلام موعظة و زجر لهم أي إلى اللّه فوّضت أمري فاعزموا على أمركم و اجتماعكم و اتّفقوا على أمر واحد من قتلي و طردي. و هذا تهديد في صورة الأمر [وَ شُرَكاءَكُمْ أي الأوثان الّتي تعبدونها و جعلتموها معبودا لكم أو المراد من شاركهم من أصحابهم في عداوته و قوله: «فعلى اللّه» جواب الشرط.

[ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً] أي مبهما و ملتبسا و يكون ظاهرا و منكشفا [ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ أي ثمّ امضوا إليّ بمكروهكم و اقطعوا ما بيني و بينكم. و قرئ بالفاء أي انتهوا.

و هذا القول من نوح يدلّ على توكّله و يقينه بربّه. و من قرأ بالفاء معناه أن اسرعوا إلى الفضاء لأنّه إذا صار إلى الفضاء تمكّن من الإسراع و تسلّط على قتله و كان هذا من معجزات نوح لأنّه كان في نفر يسير أو ما كانوا يقدرون أن يقتلوه نعم كانوا يؤذونه، لكن لم يتمكّنوا من قتله.

قوله: [فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي إن أعرضتم عن قبول قولي فإنّي ما كنت طامعا منكم شيئا و ما طلبت منكم أجرا ليس أجري إلّا على اللّه و أنا أطلب الأجر منه، و أمرني اللّه أن أكون من المستسلمين لأمره.

[فَكَذَّبُوهُ و نسبوا إليه الكذب في أنّه نبيّ اللّه [فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ في السفينة و جعلنا الّذين نجوا مع نوح خلفاء لمن هلك بالغرق قيل: إنّهم كانوا ثمانين نفسا.

و أهلكنا المكذّبين بنوح جميعا من أهل الأرض [فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ] المخوّفين باللّه و عذابه

ص: 270

كيف أهلكهم اللّه؟!

قوله تعالى: [سورة يونس (10): آية 74]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)

ثمّ بعد نوح بعثنا رسلا و لم يسمّهم، و كان منهم هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب عليهم السّلام بالمعجزات و الشواهد القاهرة؛ فأخبر تعالى عنهم أنّهم جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب فما كانوا هؤلاء الأقوام الّذين بعث اللّه إليهم الرسل و لم يصدّقوا بسبب ما كذّبت به أوائلهم الّذين هم قوم نوح أي كذّبوا هؤلاء كما كذّبوا أولئك لأنّهم كانوا مثلهم في العتوّ و الكفر و كانت الحالتان سواء عندهم قبل البيّنات و بعد البيّنات.

قوله: [كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي نجعل على قلوب الظالمين لأنفسهم الّذين تعدوا حدود اللّه سمة و علامة على كفرهم يلزمهم الذمّ كما فعلنا ذلك بقلوب هؤلاء الكفّار حتّى تعرفهم الملائكة.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 75 الى 78]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)

المعنى: ثمّ بيّن قصّة من بعثه بعد الرسل أو بعد الأمم [مُوسى وَ هارُونَ نبيّين مرسلين [إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي رؤساء قومه بأدلّتنا و معجزاتنا فاستكبروا عن الانقياد لها و كانوا قوما عاصين لربّهم. فلمّا جاء قوم فرعون الحقّ من عندنا أي جاءهم موسى بالبيّنات و البراهين قالوا إنّ هذا لسحر ظاهر قال: لهم موسى أ تقولون للمعجز و الحقّ إنّه سحر؟

و السحر باطل و المعجز حقّ و هما متضادّان و لا يظفرون السحرة بحجّة و لا يأتون على ما يدّعونه ببيّنة و إنّما هو تمويه على الصفة.

و [قالُوا] يعني فرعون و قومه لموسى: [أَ جِئْتَنا] لتصرفنا عن ذلك و لتلوينا عن ديننا الّذي كان آباؤنا على ذلك الدين و [تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ] أي السلطنة و الملك؛ لأنّ

ص: 271

النبيّ إذا اعترف القوم بنبوّته صارت مقاليد أمر الامّة إليه فصار أكبر القوم، و الرياسة تنتقل إليه في الأرض؛ و لذا صرّحوا بأن لا نؤمن لكما ثمّ لمّا ذكروا هذه المعاني حاولوا في معارضة موسى بأنواع السحر ليظهروا عند الناس و يموّهوا في الأمر.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 79 الى 82]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)

ثمّ جمع فرعون السحرة و أحضرهم [ف قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ .

فإن قيل: كيف أمرهم بالكفر و السحر و الأمر بالكفر كفر؟

قلنا: إنّه عليه السّلام أمرهم ليظهر للخلق أنّ ما أتوا به عمل فاسد لا على طريق أنّه عليه السّلام أمرهم بالسحر [فَلَمَّا أَلْقَوْا] حبالهم و عصيّهم [قالَ لهم [مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ].

و هو الباطل و التمويه و أخبرهم بأنّ اللّه يحقّ الحقّ و يبطل الباطل و يظهر فضيحة صاحبه و قد أخبر اللّه سبحانه إبطاله في سائر السور و [اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ و لا يقوّيه و لا يكمّله، بل يحقّ الحقّ و يكمّله بكلماته أي بحكمه و قضائه.

و في هذه الآية دلالة على أنّ اللّه لا يهيّئ عمل من قصد إفساد الدين و لا يمضي له و لا يرضى به، و ينصر المحقّين.

و النصرة على وجهين: تارة بالحجّة الحقّة و هي مستمرّة على كلّ حال، و تارة بالغلبة و القهر و هذا يختلف بحسب المصلحة قد تكون بالتخلية و بالحيلولة اخرى.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 83 الى 86]

فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَ قالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)

ثمّ بيّن سبحانه من آمن من قوم موسى. أي لم يصدّق موسى فيما ادّعى من النبوّة مع ما أظهره عن المعجزات إلّا ذرّيّة أي أولاد من قوم فرعون. و قيل: من قوم موسى

ص: 272

و هم بنو إسرائيل الّذين كانوا بمصر.

و اختلف من قال بالأوّل فقيل: إنّهم قوم كانت امّهاتهم من بني إسرائيل و آباؤهم من القبط؛ فاتّبعوا امّهاتهم و أخوالهم عن ابن عبّاس. و قيل: إنّهم ناس يسير من قوم فرعون منهم امرأة فرعون و مؤمن آل فرعون و جارية و امرأة هي مشّاطة امرأة فرعون.

و اختلف من قال بالثاني فقيل: هم جماعة من بني إسرائيل أخذهم فرعون لتعلّم السحر و جعلهم في أصحابه فآمنوا بموسى. و قيل: أراد مؤمني بني إسرائيل؛ و كانوا ستّمائة ألف؛ و كان يعقوب دخل مصر باثنين و سبعين إنسانا فتوالدوا حتّى بلغوا ستّمائة ألف و إنّما سمّاهم ذرّيّة لضعفهم.

قوله: [عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ يعني آمنوا و هم خائفون من معرّة فرعون و من معرّة أشرافهم و رؤسائهم. و قيل: إنّ الضمير في «ملائهم» راجع إلى الذرّيّة؛ لأنّ آباءهم كانوا من القبط و كانوا يخافون قومهم من القبط أن يعذّبوهم و أن يفتنهم فرعون عن الدين و يمتحنهم لمحنة لا يمكنهم الصبر عليها فينصرفون عن الدين و كان جنود فرعون يعذبون بني إسرائيل فكان خوفهم منه و منهم.

[وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ و مستكبر باغ طاغ في أرض مصر و نواحيها و من المجاوزين الحدّ في العصيان؛ لأنّه ادّعى الربوبيّة و أسرف في القتل و الظلم.

[وَ قالَ مُوسى لقومه الّذين آمنوا به [يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ كما تظهرون فأسندوا أموركم إليه [إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ على الحقيقة. و إنّما أعاد قوله: «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» بعد قوله: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ» لتبيّن المعنى أنّ اجتماع الصفتين واجب: التصديق و الانقياد؛ فأخبر اللّه عن طاعتهم [فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا و لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً] أي لا تمكّن الظالمين من ظلمنا بما يحملنا على الانصراف عن ديننا و لا تظهر علينا فرعون و قومه، و لا تسلّطهم علينا فنفتتن بهم [وَ نَجِّنا] برحمتك من فرعون و استعباده إيّانا و أخذهم جماعتنا بالأعمال الشاقّة.

و المصدر هاهنا في قوله «فتنة» بمعنى المفتون، و المصدر بمعنى المفعول شائع كالخلق بمعنى المخلوق.

قوله: [سورة يونس (10): آية 87]

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

.

ص: 273

لمّا ظهر من التوكّل على اللّه من المؤمنين بموسى أمر سبحانه موسى و هارون عليهما السّلام باتّخاذ المساجد و الإقبال على الصلوات فقال: [تَبَوَّءا] أي اتّخذاه مكانا كقوله: «توطّنه» أي اتّخذه وطنا.

قوله: [وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً] قال الفرّاء: معناه: و اجعلوا بيوتكم إلى القبلة. و اختلفوا في أنّ هذه القبلة أين كانت؟ فظاهر لفظ القرآن لا يدلّ على تعيّنه إلّا أنّه نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: كانت الكعبة قبلة موسى. و بعضهم يقول: الكعبة قبلة كلّ الأنبياء.

و قال آخرون: كانت تلك القبلة جهة بيت المقدّس. و خصّ موسى بالتبشير ليدلّ بذلك الخطاب على أنّ الأصل في الرسالة موسى و أنّ هارون تبع له و كأنّ موسى و قومه كانوا في أوّل الأمر مأمورين بأن يصلّوا في بيوتهم خفية عن الكفرة كما كان المسلمون كذلك في أوّل الإسلام في مكّة.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 88 الى 89]

وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)

المعنى: لمّا بالغ موسى في إظهار البيّنات و رأى القوم مصرّين على الجحود و العناد أخذ يدعو عليهم، و لمّا علم أنّ سبب إنكارهم و جحودهم اشتغالهم بزينة الدنيا من الصحّة و الجمال و اللّذّات [قالَ مُوسى يا ربّ [إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ و أشراف قومه [زِينَةً وَ أَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ... لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ .

قالت الأشاعرة: اللام هاهنا للتعليل و غرضهم من هذا المعنى إثبات مذهبهم الجبر.

و ذلك فاسد لأنّا قد علمنا بالأدلّة الواضحة أنّ اللّه سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلالة و لا يريد منهم الكفر و الضلال، و كذلك لا يؤتيهم المال ليضلّوا.

قال القاضي عبد الجبّار المعتزليّ: لا يجوز أن بكون اللام بمعنى الغرض و الأجل

ص: 274

قطعا؛ لأنّه ثبت أنّه سبحانه منزّه عن فعل القبيح و لا شكّ أنّ إرادة الكفر قبيحة.

ثمّ دليل آخر هاهنا: و هو أنّه سبحانه لو أراد ذلك لكان الكفّار مطيعين لإرادته سبحانه بسبب كفرهم لأنّه لا معنى للطاعة إلّا الإتيان بما يوافق الإرادة، و لو كانوا كذلك لما استحقّوا العذاب و الدعاء عليهم بطمس الأموال و شدّ القلوب كما دعا عليهم موسى و هو سبحانه يجيب.

ثمّ دليل آخر: أنّا لو جوّزنا أن يريد اللّه إضلال العباد لجوّزنا أن يبعث اللّه الأنبياء للدعاء إلى الضلال و في هذا الأمر هدم الدين و هذا باطل.

ثمّ لو كان الأمر كذلك كيف يقول سبحانه لموسى و هارون: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ؟ (1) و كيف يجوز أن يقول: «وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ»؟ (2) ثمّ إنّه تعالى أراد الضلالة منهم و أعطاهم النعم لكي يضلّوا، لأنّ ذلك عين المناقضة؛ فلا بدّ من حمل أحدهما على موافقة الآخر فوجب أن يتأوّل هذه الكلمة، و ذلك من وجوه:

الاول: أنّ اللام للعاقبة في قوله «ليضلّوا» كقوله: «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» (3) و لمّا كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال و قد أعلمه اللّه لا جرم عبّر عن هذا المعنى بهذا اللّفظ.

الثاني: أنّ قوله: «لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» أي لئلّا يضلّوا عن سبيلك فحذف «لا» لدلالة المفعول عليه كقوله «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (4) و المراد: أن لا تضلّوا. و كقوله تعالى: «قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» (5) و المراد: أن لا تقولوا. و مثل هذا الحذف كثير في الكلام.

ص: 275


1- طه: 44.
2- الأعراف: 129.
3- القصص: 8.
4- النساء: 175.
5- الأعراف: 171.

الثالث: أن يكون موسى عليه السّلام ذكر ذلك على سبيل التعجّب المقرون بالإنكار، و التقدير: كأنّك آتيتهم ذلك لهذا الغرض؛ فإنّهم لا ينفقون هذه الأموال إلّا فيه فالمعنى يصير:

أنّهم يصرفون لأجل الضلال، ثمّ حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر:

كذبتك عينك أم رأيت بواسطغلس الظلام من الرباب خيالا

أرادا: أ كذبتك عينك؛ فكذا هاهنا.

الرابع: هذه اللام لام الدعاء و هي لام مكسورة تجزم المستقبل و تفتح بها الكلام فيقال: ليغفر اللّه المؤمنين، و ليعذّب اللّه الكافرين فحينئذ يكون المعنى: ربّنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك.

الخامس: أنّ الضلال جاء في القرآن بمعنى الهلاك و في غير القرآن: أمّا القرآن في سورة البقرة «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» (1) و فسّر بمعنى الهلاك و في غير القرآن يقال: ضلّ الماء في اللبن أي هلك.

إذا ثبت هذا فنقول: قوله «رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» معناه ليهلكوا و ليموتوا فحينئذ أيضا اللام بهذا المعنى للعاقبة.

قوله: [رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ المراد من الطمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها قال عامّة أهل التفسير: صارت جميع، أموالهم حجارة حتّى السكر و الفانيذ أي الحلوا [وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ قيل: معناه أمتهم بعد سلب أموالهم. و قيل: اطبع على قلوبهم بأن يموتوا على الكفر. و قيل: معناه ثبّتهم على المقام ببلدهم بعد إهلاك أموالهم فيكون ذلك أشدّ عليهم. قال ابن عبّاس: بلغنا أنّ الدراهم و الدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا و أنصافا و أثلاثا. و الطمس معناه المسخ.

ثمّ قال: [فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ يجوز أن يكون معطوفا على قوله: «ليضلّوا» و التقدير: ربّنا ليضلّوا عن سبيلك فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم.

قال اللّه سبحانه: [قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما] و الداعي موسى و كان هارون يؤمّن على دعائه؛ لأنّ المؤمّن أيضا الداعي [فَاسْتَقِيما] و أثبتا على أمركما في دعوة الناس على الإيمان قال ابن جريح: مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام

ص: 276


1- الآية ال 26.

قوله: [وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ نهاهما عن أن يتّبعا طريقة من لا يؤمن باللّه و لا يعرفه و لا يعرف أنبياءه.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 90 الى 92]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)

المعنى: أنّه سبحانه لمّا استجاب دعاءهما و اقتضت المصلحة أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم، و يسّر لهم أسبابه و فرعون كان غافلا عن ذلك فلمّا سمع بخروجهم خرج على عقبهم.

و قوله: [فَأَتْبَعَهُمْ أي لحقهم مع جنوده و هو كان مظاهرا للعزّ و شاكي السلاح [بَغْياً وَ عَدْواً] مفعول له أي للعدو و البغي.

روي أنّ موسى عليه السّلام لمّا خرج مع قومه وصلوا إلى طرف البحر و قرب فرعون مع عسكره منهم فوقع أصحاب موسى في خوف شديد لأنّهم وقعوا بين بحر مغرق و جند مهلك؛ فأنعم اللّه عليهم بأن أظهر لهم في البحر طريقا يبسا.

ثمّ إنّ موسى عليه السّلام مع أصحابه دخلوا و خرجوا من البحر، و أبقى اللّه ذلك الطريق يبسا ليطمع فرعون و جنوده في التمكّن من العبور، فلمّا دخل مع جمعه أغرقه اللّه بأن أوصل أجزاء المال ببعضها و أزال الفلق.

ثمّ إنّ سبحانه ذكر أنّه لمّا أدركه الغرق أظهر كلمة الإخلاص ظنّا منه أنّه ينجيه من تلك الآفة.

و هاهنا بيان و هو أنّه لو قيل: كيف يتمكّن الغريق عن هذه المقالة المفصّلة؟

يمكن أن يكون لمّا كان مشرفا و مشفيا على الغرق قال هذه الكلمات أو قال بكلام النفس لا بكلام اللّسان.

السؤال: إنّ فرعون آمن ثلاث مرّات أي بثلاث تقرير آمن أوّله قوله «آمنت»

ص: 277

و ثانيه قوله: «لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ» و ثالثها قوله: «وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» فما السبب في عدم قبوله توبته، و اللّه متعال عن أن يلحقه غيظ عياذا باللّه حتّى يقال: ما قبل توبته و إنّما لم تقبل توبته لأنّ هذه التوبة توبة إلجاء و لا تفيد البتّة لا منه و لا من غيره؛ لأنّه رأى نزول العذاب فليس من مثل هذه التوبة مقبولة قطعا، و لهذا السبب قال تعالى:

«فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» (1) على أنّه إنّما ذكر هذه الكلمات لدفع تلك البليّة الحاضرة و ما كان مقصوده من هذا الكلام الإقرار بتوحيد اللّه و الاعتراف بعزّة الربوبيّة و ذلّة العبوديّة، و لمّا لم يكن الكلام مقرونا بالإخلاص فلهذا السبب ما كان مقبولا.

و وجه آخر: ذكروا جماعة من المفسّرين أنّ بعض الأقوام من بني إسرائيل اشتغلوا بعبادة العجل فلمّا قال فرعون: «آمنت أنّه لا إله إلّا الّذي آمنت به بنو إسرائيل» انصرف ذلك إلى العجل الّذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقّه سببا لزيادة الكفر.

و الحقّ أنّ هذا الوجه غير وجيه؛ لأنّ قوله: «آلآن و قد عصيت قبل» ينافي هذا المعنى.

و وجه آخر و هو أنّ الإيمان إنّما كان يتمّ بالإقرار بالوحدانيّة و بالإقرار بنبوّة موسى فههنا لمّا أقرّ بالوحدانيّة و لم يقرّ بالنبوّة لا جرم لم يصحّ إيمانه كما أنّ أحدا من الكفّار يقول ألف مرّة بالتوحيد و لا يقرّ بنبوّته صلى اللّه عليه و آله فحينئذ لا يصحّ إيمانه و هو كافر.

قال الزمخشريّ في الكشّاف: إنّ جبرئيل عليه السّلام أتى بفتيا فيها: ما قول الأمير في عبد نشأ من مال مولاه و نعمته فكفر نعمته و جحد حقّه و ادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيها: يقول أبو العبّاس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيّده الكافر بنعمته أن يغرق في البحر. ثمّ إنّ فرعون لمّا غرق رفع جبرئيل عليه السّلام فتياه إليه.

ص: 278


1- غافر: 85.

و بالجملة قوله: [آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الأخبار دالّة على أنّ القائل بهذا القول جبرئيل. و قيل: هو اللّه قاله له على وجه التوبيخ. و في الآية إضمار و التقدير: قيل له: آلآن آمنت حين لا ينفع الإيمان هلّا آمنت قبل ذلك و كنت من المفسدين بادّعاء الإلهيّة و قتل النفوس؟

روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: ما أتى جبرئيل عليه السّلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إلّا كئيبا حزينا و لم يزل كذلك منذ أهلك اللّه فرعون، فلمّا أمر اللّه سبحانه بنزول هذه الآية نزل ضاحكا مستبشرا فقال صلى اللّه عليه و آله له: يا جبرئيل ما أتيتنى إلّا و الحزن في وجهك ظاهر حتّى الساعة. قال: نعم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله لمّا أغرق اللّه فرعون قال: «آمنت أنّه لا إله إلّا الّذي آمنت به بنو إسرائيل» فأخذت حمأة فوضعتها في فيه، ثمّ قلت له:

«الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين» ثمّ خفت أن تلحقه رحمة من عند اللّه فيعذّبني اللّه على ما فعلت فلمّا كان الآن و أمرني أن أؤدّي إليك ما قلته أنا لفرعون أمنت و علمت أنّ ذلك كان اللّه راضى.

قوله تعالى: [فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ اختلف معناه و قرئ بالحاء المهملة.

قال المفسّرون: لمّا أغرق اللّه فرعون و قومه أنكر بعض بني إسرائيل غرق فرعون و قالوا: هو أعظم شأنا من أن يغرق؛ فأخرجه اللّه حتّى رأوه فذلك قوله: «فاليوم ننجّيك ببدنك» أي نلقيك على نجدة و مكان مرتفع من الأرض بجسدك من غير روح؛ و ذلك أنّه طغا عريانا.

و قيل: معناه نخلّصك من البحر ببدنك أي بدرعك و البدن الدرع.

قال ابن عبّاس: كانت عليه درع من ذهب يعرف بها، فالمعنى: نرفعك فوق الماء بدرعك المشهور ليعرفوك [لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً] فلا يقولوا مثل مقالتك. و قرئ «لمن خلقك» بالقاف؛ لأنّه كان يدّعي أنّه الربّ.

و المعنى الثالث: ننجّيك ببدنك أي نخرجك من البحر عريانا من غير لباس.

الرابع بالحاء أي نلقيك بناحية ممّا يلي البحر، و ذلك أنّه طرح بعد الغرق بجانب من جوانب الساحل كأنّه ثور و ما أخرج اللّه جثّة غيره من هذا الجمع الكثير أحدا بل خصّه بالإخراج.

ص: 279

[وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ قال الرازيّ: الأظهر أنّه سبحانه في ختم هذه الآية خاطب قوم محمّد صلى اللّه عليه و آله ليكون ذلك زاجرا لهم عن كفرهم.

قوله: [سورة يونس (10): آية 93]

وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه حال بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون و إنجائهم بقوله تعالى:

«مكّنّاهم مكانا محمودا» و هو بيت المقدس و الشام و «مبوّء» يجوز أن يكون مصدرا و مفعولا ثانيا لبوّأت و إنّما قال: [مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي أنزلناهم في موضع خصب و أمن بصدق ما يدلّ عليه من جلالة النعمة. و قيل: مبوّأ صدق لأنّ فضل ذلك المنزل على غيره كفضل الصدق على الكذب. و قيل: يريد به مصر و ذلك أنّ موسى عبر ببني إسرائيل البحر ثانيا و رجع إلى مصر و تبوّأ مساكن آل فرعون. و قيل: الشام و مصر.

[وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي الأشياء اللذيذة المستطابة.

[فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ معناه: فما اختلفوا في تصديق محمّد صلى اللّه عليه و آله يعني اليهود كانوا مقرّين به من بني قريظة و بني النضير و اليهود الساكنين ما بين المدينة و الشام قبل مبعثه حتّى جاءهم العلم و هو القرآن الّذي جاء به محمّد صلى اللّه عليه و آله عن ابن عبّاس. و قال الفرّاء: «العلم» محمّد صلى اللّه عليه و آله لأنّه كان معلوما عندهم بنعته فلمّا جاءهم اختلفوا في تصديقه فكفر به أكثرهم.

و قيل: إنّ معناه: فما اختلف بنو إسرائيل إلّا من بعد ما جاءهم العلم بالحقّ على يد موسى و هارون؛ فإنّهم كانوا مطيعين و متّفقين على الكفر قبل مجي ء موسى فلمّا جاءهم آمن بعضهم به و ثبت على الكفر بعضهم فصاروا مختلفين.

[إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ و هو تعالى يتولّى الحكم يوم القيامة لأنّ هذا النوع من الاختلاف لا حيلة في إزالته في الدنيا فلا بدّ أن يقضى في القيامة بينهم و يميّز المحقّ عن المبطل و الصدّيق من الزنديق.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 94 الى 97]

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)

ص: 280

المراد إثبات نبوّته صلى اللّه عليه و آله بشهادة الأحبار من اليهود كعبد اللّه بن سلام و ابن صوريا و تميم الدارميّ و غيرهم للناس و الشاكّين و المتوقّفين في نبوّته و إنّما خاطبه كقولهم:

«إيّاك عني و اسمعي يا جارة» أي أيّها الشاكّين استخبروا من علماء أهل الكتاب.

اختلف المفسّرون في أنّ المخاطب من هو؟ قيل: هو صلى اللّه عليه و آله. و قيل: غيره. فأمّا من قال: هو قالوا: إنّ الخطاب معه ظاهرا و المراد غيره و أمثال هذا العنوان في القرآن كثير كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ» (1) و معلوم أنّه صلى اللّه عليه و آله ما كان يطيعهم و كقوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (2) و كقوله: «يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ». (3) و الّذي يدل على صحّة هذا التأويل قوله في آخر السورة: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي» (4) فبيّن أنّ المذكور في أوّل السورة على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح.

ثمّ إذا كان صلى اللّه عليه و آله فرضا شاكّا في نبوّته لكان غيره أولى بالشكّ في رسالته، و هذا باطل.

ثمّ بتقدير أن يكون صلى اللّه عليه و آله شاكّا في نبوّة نفسه؛ فكيف يزول هذا الشكّ بإخبار أهل الكتاب عن نبوّته؟ مع أنّهم في الأكثر كفّار؛ فثبت أنّ المراد بالخطاب امّته و لو أنّ صورة الخطاب هو، و مثل هذا معتاد في الكلام فإنّ السلطان إذا كان له أمير و كان تحت راية ذلك الأمير جمع فإذا أراد أن يأمر الرعيّة بأمر مخصوص فإنّه لا يوجّه خطابه عليهم بل يوجّه الخطاب إلى الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرا في قلوبهم.

و بالجملة في تمام التقرير أنّ قوله تعالى: [فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ

ص: 281


1- الأحزاب: 1.
2- الزمر: 65.
3- المائدة: 119.
4- السورة: 104.

فَسْئَلِ الَّذِينَ إلخ قضيّة شرطيّة و القضيّة الشرطيّة لا إشعار فيها البتّة بأنّ الشرط وقع أو لم يقع، و كذلك لا إشعار فيها بأنّ الجزاء وقع أو لم يقع بل ليس فيها إلّا بيان أنّ ماهيّة ذلك الشرط مستلزمة لماهيّة ذلك الجزاء فقط، مثلا إنّك إذا قلت: إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين؛ فهذا الكلام حقّ لكن لا يدلّ على أنّ الخمسة زوج و لا يدلّ على أنّها منقسمة بمتساويين فكذا هاهنا الآية تدلّ على أنّه لو حصل هذا الشكّ لكان الواجب فيه السؤال عن أهل الكتاب، و أمّا وقع الشكّ أو لم يقع فلا دلالة عليه.

فالفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول تسكين قلوب المتوقّفين في نبوّته و تقوية لخاطرهم و طمأنينة النفس لهم بتكثير الدلائل و تقريبهم إلى الإيمان بالرسول لأنّهم طالبوه مرّة بعد اخرى بما يدلّ على نبوّته.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لم يشكّ و لم يسأل. و الخطاب لرسول اللّه و إن لم يشكّ لكنّ الكلام خرج مخرج التقرير و الإفهام للناس، كما يقول القائل لعبده: إن كنت عبدي فأطعني أو يقول لأبيه: إن كنت والدي فتعطّف عليّ. و ربّما خرجوا في مبالغة الكلام إلى ما يستحيل كقولهم: بكت السماء لموت فلان أي لو كان سماء تبكي على ميّت لبكت عليه.

قوله تعالى: [لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ يعني بالحقّ القرآن و الإسلام. و رأيت في تفسير أبي السعود العلّامة في الآية أنّه قال: و إن كنت أيّها السامع في شكّ ممّا أنزلنا إليك على لسان نبيّنا فاسأل الّذين يقرءون الكتاب فلا تكوننّ من الممترين الشاكّين.

قوله تعالى: [وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ و اعلم أنّ فرق المكلّفين ثلاثة مصدّقة و متوقّفة و مكذّبة، و لا شكّ أنّ الفرقة المتوقّفة الشاكّة أمرهم أسهل من أمر المكذّبة فبيّن تعالى أنّهم من الخاسرين.

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ أي إنّ الّذين أخبر اللّه عنهم أنّهم لا يؤمنون، فنفى الإيمان عنهم و لم ينف القدرة عنهم؛ فإنّ نفي الفعل لا يكون نفيا للقدرة كما أنّ اللّه نفى عن نفسه مغفرة المشركين و لم يكن ذلك نفيا لقدرته على مغفرتهم.

ص: 282

و قيل: المعنى: إنّ الّذين وجبت عليهم سخط ربّك لا يؤمنون [وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ] و معجزة [حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الموجع فيصيروا ملجئين إلى الإيمان.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): آية 98]

فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)

هذه الآية بيان قصّة ثالثة في هذه السورة: الاولى قصّة نوح، و الثانية قصّة فرعون، و هذه قصّة قوم يونس بن متى. و روى الواحديّ في البسيط قال: قال أبو مالك: كلّ ما في كتاب اللّه من ذكر «لو لا» فمعناه «هلّا» و للتحضيض إلّا حرفين أي إلّا في موضعين:

واحد من الموضعين هذه الآية و معناه النفي أي فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها و كذلك. «فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ» (1) أي فما كان من القرون؛ فعلى هذا تقدير الآية:

فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلّا قوم يونس. و انتصب قوله: «إلّا قوم يونس» على أنّه استثناء منقطع عن الأوّل و وقع استثناء القوم من القرية و قرئ بالرفع على البدل. و قيل:

إنّ «هلّا» معناه أي هلّا كانت قرية واحدة من القرى الّتي أهلكناها تابت عن الكفر و أخصلت في الإيمان قبل معاينة العذاب إلّا قوم يونس.

و فسّروا المعنى جماعة بأنّه لم يكن فيما خلا من الأمم أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتّى لا يشذّ منهم أحد إلّا قوم يونس فلا كانت القرى كلّها هكذا. و قيل: معناه لم أفعل هذا الأمر بامّة من الأمم قطّ إلّا قومه لمّا آمنوا عند نزول العذاب كشف عنهم العذاب بعد ما تدلّى عليهم العذاب [كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا].

و كان من قصّة يونس أنّ قومه كانوا بنينوى من أرض الموصل و كان يدعوهم يونس إلى الإسلام فأبوا فأخبرهم أنّ العذاب مصبحهم إلى ثلثين أو إلى أربعين إن لم يتوبوا فقالوا:

إنّا نجرّب عليه فإن بات فيكم ليلة العذاب فليس بشي ء فإن لم يبت فيكم فاعلموا أن العذاب مصبحكم.

فلمّا كان في جوف الليل خرج يونس من بين أظهرهم فلمّا أصبحوا أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتّى غشى مدينتهم و اسودّت سطوحهم. قال ابن عبّاس:

ص: 283


1- هود: 117.

كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ثلثي ميل فلمّا رأوا ذلك طلبوا نبيّهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم و نسائهم و صبيانهم و دوابّهم و ألبسوا المسوح و أظهروا الإيمان و التوبة و أخلصوا النيّة و فرّقوا بين كلّ والدة و ولدها من الناس و الأنعام فحنّ بعضها إلى بعض و علت أصواتها و اختلطت أصواتها بأصواتهم و تضرّعوا إلى اللّه، و قالوا: آمنّا بما جاء به يونس.

فرحمهم ربّهم و كشف عنهم العذاب بعد ما أظلّهم.

قال عبد اللّه بن مسعود: بلغ من قومه أهل نينوى ان يردّ و المظالم بينهم حتّى أن كان الرجل ليأتي الحجر و قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه و يردّه. و روي عن أبي مخلّد أنّه لمّا غشيهم العذاب مشوا إلى شيخ من بقيّة علمائهم فقالوا: لقد نزل العذاب بنا فما ترى؟

قال: قولوا: يا حيّ يا قيّوم يا حيّ حين لا حيّ و يا حيّ يا محيي الموتى و يا حيّ لا إله إلّا أنت. فقالوا؛ فكشف اللّه العذاب عنهم. و عن الفضل بن عبّاس أنّهم قالوا: اللّهم إنّ ذنوبنا قد عظمت و جلّت و أنت أعظم منها و أجلّ افعل بنا ما أنت أهله و لا تفعل بنا ما نحن أهله.

في الحديث- بحذف الأسانيد- عن أبي عبد اللّه قال: كان فيهم رجل اسمه مليخا عابد و آخر اسمه روبيل عالم، و كان العابد يشير إلى يونس بالدعاء عليهم و العالم ينهاه عن الدعاء عليهم و يقول: إنّ اللّه يستجيب دعائك فلا تدع عليهم و اللّه لا يحبّ إهلاك عباده؛ فقبل يونس قول العابد فدعا عليهم فأوحى اللّه إليه أنّه يأتيهم العذاب في شهر كذا و في يوم كذا. فلمّا قرب الوقت خرج يونس مع العابد و بقي العالم فيهم فلمّا كان اليوم الّذي نزل بهم العذاب قال لهم العالم: افزعوا فلعلّه يرحمكم و يردّ العذاب عنكم فاخرجوا إلى المفازة و فرّقوا بين النساء و الأولاد و بين سائر الحيوانات و أولادها، و تضرّعوا إلى اللّه و ابكوا؛ ففعلوا فصرف عنهم العذاب و كان قد قرب منهم.

و مرّ يونس على وجهه مغاضبا كما حكى اللّه عنه حتّى انتهى إلى ساحل البحر فإذا سفينة قد شحنت و أرادوا أن يدفعوها فسألهم يونس أن يحملوه فحملوه فلمّا توسّطوا البحر بعث عليهم حوتا عظيما فحبس عليهم السفينة فتساهموا فوقع من بينهم السهم على يونس فأخرجوه و ألقوه في البحر فالتقمه الحوت و مرّ به في الماء. و قيل: إنّ الملّاحين قالوا: نقترع فمن أصابته

ص: 284

القرعة ألقيناه في البحر فإنّ هاهنا عبدا آبقا فوقعت القرعة سبع مرّات على يونس فقام يونس قال: أنا العبد الآبق و ألقى نفسه في الماء فابتلعه الحوت فأوحى اللّه إلى ذلك الحوت لا تؤذ شعرة منه فإنّي جعلت سجنه بطنك و لم أجعله طعامك فلبث في بطنه ثلاثة أيّام. و قيل:

سبعة أيّام. و قيل: أربعين يوما.

و قد سأل بعض اليهود عليّا عليه السّلام عن سجن طاف أقطار الأرض بصاحبه فقال عليه السّلام له: هو الحوت الّذي حبس يونس في بطنه فدخل في بحر قلزم حتّى خرج إلى بحر مصر ثمّ إلى بحر آخر ثمّ خرج من الدجلة.

قال عبد اللّه بن مسعود: ابتلع الحوت حوتا آخر فأهوى به إلى قرار الأرض و كان في بطنه أربعين ليلة «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ» (1) فاستجاب له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر و هو كالفرخ المتمعّط فأنبت اللّه له شجرة من يقطين فجعل يستظلّ تحتها و وكّل اللّه به و علا يشرب من لبنها فيبست الشجرة فبكى عليها فأوحى اللّه إليه تبكي على شجرة يبست و لا تبكي على مائة ألف أو يزيدون و أردت أن أهلكهم.

فخرج يونس فإذا بغلام يرعى فقال: من أنت؟ قال: من قوم يونس قال: إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنّك لقيت يونس؛ فأخبرهم الغلام و ردّ اللّه عليه بدنه و عافيته و رجع إلى قومه و آمنوا به. و قيل: إنّه أرسل إلى قوم آخرين غير قومه الأوّلين.

و هاهنا مسألة: و هي أنّ فرعون تاب في آخر الأمر و لم يقبل توبته و حكى سبحانه عن قوم يونس أنّهم تابوا و قبل توبتهم فما الفرق؟

الجواب أنّ فرعون قد ذكرنا قبيل هذا بآيتين سبب عدم قبول توبته على أنّ فرعون لو فرضنا أنّه تاب تاب بعد أن شاهد العذاب و بعد مشاهدة العذاب و الإلجاء لا يقبل التوبة البتّة. و أمّا قوم يونس فإنّهم ظهرت لهم أمارات دلّت على قرب وقوع العذاب، و تابوا قبل أن شاهدوا؛ فظهر الفرق.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 99 الى 100]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)

ص: 285


1- الأنبياء: 87.

المعنى: لمّا تقدّم أنّ إيمان الإلجاء غير نافع بيّن في هذه الآية أنّ ذلك لو كان ينفع لأكره أهل الأرض عليه فقال: [وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ يا محمّد لآمن أهل الأرض جميعا و أكرههم قهرا على الإيمان أي بقدر على هذا الأمر كما قال في موضع آخر: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» (1) و كذلك قال بعده:

[أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان مع أنّك لا تقدر عليه؛ لأنّ اللّه تعالى يقدر عليه و لا يريده لأنّه ينافي التكليف.

و أراد بهذا المعنى سبحانه تسلية الرسول و تخفيف ما يلحقه من التحسّر و الحرص على إيمانهم.

و في هذا أيضا دلالة على بطلان قول المجبّرة: «إنّه تعالى لم يزل كان شائيا و إنّه لا يوصف بالقدرة على أن يشاء» و هذا باطل لأنّه تعالى أخبر أنّه لو شاء لقدر لكنّه لم يشأ فلذلك لم يوجد و لو كانت مشيئته أزليّة لم يصحّ تعليقها بالشرط فصحّ أنّ مشيئته فعليّة ألا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال: لو علم و لو قدر كما صحّ أن يقال: لو شاء و لو أراد.

قوله: [وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ المعنى أنّه لا يمكن أحد أن يؤمن إلّا بإطلاق اللّه له في الإيمان و تمكينه منه و دعائه إليه بما خلق فيه من العقل الموجب لذلك و قيل: إنّ إذنه هاهنا أمره. و قيل: إنّ إذنه هنا علمه. أي لا تؤمن نفس إلّا بعلم اللّه.

[وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ و العذاب [عَلَى الَّذِينَ لا] يتفكّرون حتّى [يَعْقِلُونَ و المراد من الرجس قيل: السخط و الغضب. و قيل: النتن. و الرجز و الرجس واحد. قال أبو عليّ الفارسيّ: الرجس على ضربين أحدهما بمعنى العذاب، و الآخر بمعنى القذر و النجس.

فحينئذ المعنى يحكم بأنّهم رجس كما في قوله: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (2)

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 101 الى 103]

قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

ص: 286


1- الشعراء: 4.
2- التوبة: 29.

المعنى: [قُلِ يا محمّد في مقام الإرشاد لمن يسألك الآيات و الشواهد [انْظُرُوا].

و النظر طلب الشي ء من جهة الفكر كما يطلب إدراكه بالعين أي انظروا [ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الدلائل و العبر من اختلاف اللّيل و النهار و مجاري النجوم و الأفلاك و ما خلق من الجبال و إنبات الأشجار و الثمار و أنواع الحيوانات و فوائدها الّتي يستفيدون منها فإنّ النظر و التدبّر فيها في أفرادها و جملتها يدعو إلى معرفة الصانع و الإيمان بوحدانيّته و قدرته و حكمته.

قوله: [وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ] و هو جمع النذير أي الرسل و الأنبياء أو الإنذارات.

و المعنى: و ما تغني هذه الآيات و البراهين الواضحة مع ظهورها و لا الرسل المخوّفة عن قوم لا ينظرون في الأدلّة و لا يتدبّرون و لا يريدون الإيمان. و قيل: «ما» استفهاميّة يعني أيّ شي ء يغني عنهم إذا لم يستدلّوا بهذه الدلائل؟

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: تفكّروا في الخلق و لا تتفكّروا في الخالق. و لو أنّ الإنسان أخذ يتفكّر في كيفية حكمة اللّه في تخليق جناح بعوضة لا نقطع عقله قبل أن يصل إلى أقلّ مرتبة من مراتب تلك الفوائد و الحكم فنبّه سبحانه على القاعدة الكلّيّة و أمر بالنظر إلى ما في السماوات و الأرض حتّى أنّ الإنسان بقدر القوّة البشريّة يشرع في فهم تحصيل حكمته فحينئذ يوجب النظر له اليقين.

و كان الحسن إذا قرأ هذه الآية هتف بها و قال: و ما تغني الحجج عن قوم لا يقبلونها.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لمّا أسرى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله جبرئيل بالبراق فركبها فأتى بيت المقدّس فلقي من لقي من الأنبياء ثمّ رجع فأصبح يحدّث أصحابه أنّي أتيت بيت المقدس و لقيت إخواني من الأنبياء فقالوا: يا رسول اللّه كيف أتيت بيت المقدس اللّيلة؟ قال: جاءني جبرئيل بالبراق فركبتها و آية ذلك أنّي مررت بعير لأبي سفيان على ماء لبني فلان و قد أضلّوا جملا لهم أحمر و هم في طلبه.

فقال القوم بعضهم لبعض: إنّما جاءه راكب سريع و لكنّكم أتيتم الشام و عرفتموها فاسألوه عن أسواقها و أبوابها و تجّارها؛ فسألوه عن ذلك، و كان صلى اللّه عليه و آله إذا سئل عن الشي ء

ص: 287

لا يعرفه شقّ ذلك عليه حتّى يرى ذلك في وجهه على جهة التفصيل.

قال: فبينا هو كذلك إذ أتاه جبرئيل فقال: يا رسول اللّه هذه الشام قد رفعت لك فالتفت النبيّ فإذا هو بالشام فقالوا له: أين بيت فلان و مكان كذا؟ فأجابهم كلّ ما سألوه عنه فلم يؤمن منهم إلّا قليل و هو قول اللّه تعالى: «وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ».

ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فنعوذ باللّه أن لا نؤمن باللّه و رسوله.

قوله: [فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ المعنى أنّ الأنبياء قبلك كانوا يتوعّدون كفّار زمانهم بمجي ء أيّام العذاب و هم كانوا يكذّبون بها و يستعجلونها على سبيل السخريّة و كذلك كفّار زمانك هكذا يفعلون و أمر نبيّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله أن يقول: لهم فانتظروا و أنا كذلك منتظر.

ثمّ أخبره بأنّه لو نزل العذاب، و اقتضت الحكمة بنزوله ننجي رسلنا و أتباعهم فهم أهل النجاة.

ثمّ قال سبحانه: مثل ذلك الإنجاء الرسل السابقة ننظر المؤمنين من امّتك و ننظرك و نهلك المشركين و حقّ علينا حقّا بنجاتهم.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 104 الى 106]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106)

أمر سبحانه نبيّه بإظهار دينه و بإظهار المباينة عن المشركين لكي تزول الشبهات و تخرج عبادته من طريقة السرّ إلى الإظهار. و ظاهر هذه الآية يدلّ على أنّ هؤلاء الكفّار ما كانوا يعرفون دين رسول اللّه.

و في الخبر أنّهم كانوا يقولون فيه: قد صبأ و هو صابئ.

المعنى: إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا ابيّنه لكم و إنّما أثبت تقديم النفي لقوله:

[فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ لأنّ بيان إزالة النقوش الفاسدة عن اللّوح مقدّمة لا محالة على إثبات النقوش الصحيحة في ذلك اللّوح.

ص: 288

[وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ و المقصود ترك عبادة الأوثان و الأحجار و يجب الاشتغال بعبادة المعبود الحقّ الموصوف بهذه الصفة أي يتوفّاكم. و إنّما خصّ هذا الوصف بالذكر في هذا المقام لأنّ الموت أقوى من الزجر و الردع، أو المراد: أعبد الّذي خلقكم أولا ثمّ يتوفّاكم ثانيا ثمّ يعيدكم ثالثا و اكتفى بذكر التوفّي من المراتب الثلاثة لكونه منبّها على البواقي.

قوله: [وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي إنّا مأمورون بعبادة الجوارح و قبول الإيمان بالقلب، يعني لا بدّ أن يكون الظاهر مزيّنا بالأعمال الصالحة و القلب منوّرا بالمعرفة و القبول.

قوله: [وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي و أمرت بإقامة الوجه إلى طلب الدين كناية عن توجيه العقل بالكلّيّة إلى طلب الدين لأنّ من يريد أن ينظر إلى شي ء نظرا بالاستقصاء فإنّه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يصرفه عنه و الحاصل أي استقم في الدين على ما أمرت به من القيام بأعباء الرسالة و تحمّل أمر الشريعة بوجهك. و قيل: المعنى: و أقم وجهك في الصلاة بالتوجّه نحو الكعبة [حَنِيفاً] أي مائلا إليه ميلا كلّيّا معرضا عمّا سواه إعراضا كلّيّا بإخلاص تامّ و ترك الالتفات إلى غيره.

[وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي لا يكون في العبادة شرك لغير اللّه.

قال الرازيّ: لا يمكن أن يكون هذا نهيا عن عبادة الأوثان لأنّ ذلك صار مذكورا بقوله: «فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» فوجب حمل هذا الكلام على فائدة زائدة و هو الشرك الخفيّ؛ لأنّ من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا، و تسمّيه أصحاب القلوب الشرك الخفيّ.

قوله: [وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ و كلّ شي ء هالك إلّا وجهه فلا نافع و لا ضارّ سوى اللّه لأنّ غيره ممكن و معدوم أو سيعدم فما سواه لا وجود له إلّا بإيجاده فلا حكم إلّا له و الرجوع إليه فحينئذ إن اشتغلت بطلب المنفعة أو دفع الضرر من غيره [فَإِنْ فَعَلْتَ ذلك الأمر [فَإِنَّكَ إِذاً] وضعت الشي ء في غير موضعه و كنت ظالما؛ فإنّ ما سوى الحقّ معزول عن التصرّف لعدم القدرة.

ص: 289

فإن قيل: طلب الشبع من الأكل و الريّ من الشرب هل يقدح في ذلك الإخلاص و التوجّه؟

قلنا: لا لأنّ حصول الشبع من الأكل بتكوين اللّه و طلب الانتفاع بشي ء قدّره اللّه للانتفاع به لا يكون منافيا للرجوع بالكلّيّة إلى اللّه بشرط أن يشاهد بعين عقله أنّها معدومة بذواتها و هالكة بأنفسها و باقية بإبقاء الحقّ و يرى ما سوى الحقّ عدما محضا بحسب أنفسها و يرى فيض وجوده و إحسانه غالبا على الكلّ.

قوله: [سورة يونس (10): آية 107]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ ما تدعونه و تعبدونه من الأوثان لا يضرّ و لا ينفع عقّبه ببيان أنّه تعالى هو النافع الضارّ أي إن أحلّ اللّه بك ضرّا من بلاء أو شدّة أو مرض لا يقدر على كشفه أحد غيره و إن يردك بخير من صحّة و نعمة و خصب و نحوها لا يقدر أحد على منعه.

[يُصِيبُ بالخير [مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فيعطيه على ما تقتضيه الحكمة و المصلحة [وَ هُوَ الْغَفُورُ] لذنوب عباده [الرَّحِيمُ بهم.

و في الآية نكتة دقيقة حيث إنّ المسّ نسبه إلى الضرّ و الإصابة نسبها إلى الخير حيث إنّ جانب الخير و الرحمة أقوى و أغلب و هذا يؤيّد قوله سبحانه: «سبقت رحمتي غضبي» و الخير مراد بالذات و الشرّ مراد بالعرض.

قوله: [سورة يونس (10): آية 108]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)

المعنى: لمّا قرّر الدلائل من أوّل السورة في التوحيد و النبوّة و المعاد بالدلائل و البراهين و الأمثلة لتقريب المعنى في الأذهان ختم السورة بقوله: [قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ أي إنّه بيّن التكاليف و أزاح العلّة و قطع المعذرة [فَمَنِ قبل و [اهْتَدى فالنفع راجع إليه و الهداية تنفعه، و من لم يصغ بسمع القبول و خالف الهداية و اتّبع الضلالة فخاصم نفسه، و لا يجب عليّ من السعي في إلجائكم إلى الثواب العظيم.

ص: 290

قال بعض المفسّرين كابن عبّاس: إنّ هذه الآية منسوخة بآية القتال.

قوله: [سورة يونس (10): آية 109]

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)

ثمّ أمر نبيّه باتّباع الوحي و التنزيل فإن وصل إليه صلى اللّه عليه و آله بسبب ذلك الاتّباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم اللّه فيه و هو حكم عدل لا جور في قضيّته.

تمّت السورة بحمد اللّه تعالى.

ص: 291

سورة هود

اشارة

هذه السورة مكّيّة كلّها إلّا آية و هو قوله: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» فإنّها نزلت بالمدينة.

فضلها: ابيّ بن كعب عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح و هود و صالح و شعيب و إبراهيم و موسى و كان يوم القيامة من السعداء.

و روى الثعلبيّ بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي حجيفة قال: قيل: يا رسول اللّه قد أسرع إليك الشيب؟ قال صلى اللّه عليه و آله: شيّبتني هود و أخواتها. و في رواية أنّه سئل عن إسراع الشيب، قال: شيّبتني هود و أخواتها: الحاقّة و الواقعة و عمّ و هل أتاك حديث الغاشية.

روى العيّاشيّ بحذف الأسانيد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ سورة هود في كلّ جمعة بعثه اللّه يوم القيامة في زمرة النبيّين و حوسب حسابا يسيرا و لم تعرف له خطيئة عملها يوم القيامة.

ص: 292

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ (2) وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (4)

لمّا ختم اللّه سورة يونس بذكر الوحي و أمر النبيّ باتّباع الوحي افتتح هذه السورة ببيان الوحي.

قوله: [الر] اسم للسورة و هو مبتدأ و [كِتابٌ خبره و «أحكمت آياته» صفة «للكتاب» قال الزجّاج: لا يجوز أن يكون «الر» مبتدءا و قال: «كتاب» خبر بإضمار هذا كتاب.

و قوله: [أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي لا يتطرّق إليها الفساد و آياته محكمة و مفصّلة ببيان الحلال و الحرام و الأمر و النهي [ثُمَّ فُصِّلَتْ بالوعد و الوعيد و الثواب و العقاب. و قيل:

معناه: أحكمت آياته جملة لا يتطرّق إليها الفساد.

[ثُمَّ فُصِّلَتْ أي فرّقت في الإنزال آية بعد آية ليكون المكلّف أمكن في النظر و التدبّر و قيل: معناه أحكمت في ترتيبها بأن جعلت على أبلغ وجوه الفصاحة حتّى عجزوا عن الإتيان بمثله ثمّ فصّلت بالشرع و البيان المفروض.

و الحاصل يعني هذا الكتاب محكم النظم مفصّل الآيات من الأمور فليس فيها خلل و لا باطل و تتابعت آياته بعضها على إثر بعض [مِنْ لَدُنْ أي أتاكم هذا الكتاب الموصوف بهذه الصفات من عند [حَكِيمٍ في تدابيره عليم بأحوال خلقه و مصالحهم.

و في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كلام محدث لأنّه وصفه بأنّه أحكمت آياته ثمّ

ص: 293

فصّلت و الإحكام و التفصيل من صفات الأفعال لأنّه قال: هذا التفصيل و الإحكام من لدن حكيم وقعت و صدرت و هذه الإضافة لا تصحّ إلّا في المحدث لأنّ القديم يستحيل أن يكون صادرا من غيره. و الحقّ أنّه نعم الدليل على حدوث الكلام.

قوله: [أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ في موضع نصب تقديره فصّلت آياته لأن لا تعبدوا أو بأن لا تعبدوا إلّا اللّه و أنّ هذا الأصل ثابت في كلّ الشرائع و لا محيص عنه.

و حاصل المعنى: انزل هذا الكتاب المحكم المفصّل ليأمركم لكي لا تعبدوا الّا اللّه [إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ] هذا إخبار من النبيّ أنه مخوّف من مخالفة اللّه بأليم العذاب و مبشّر على طاعة اللّه بجزيل الثواب.

قوله: [وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي اطلبوا المغفرة و اجعلوها غرضكم و مقصدكم و استغفروا من ذنوبكم الماضية ثمّ توبوا إليه في المستأنف و ارجعوا إليه. و قيل:

إنّ «ثمّ» هاهنا بمعنى «الواو» و الاستغفار و التوبة واحد فحينئذ على هذا المعنى يكون التوبة تأكيدا للاستغفار.

[يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إنّكم إذا استغفرتموه و تبتم إليه يمتّعكم في الدنيا بالنعم السابغة من الخفض و الدعة و الأمن و السعة إلى الوقت الّذي قدّر لكم أجل الموت فيه و يبقيكم و لا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الّذين كفروا من قبلكم.

[وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ أي و يعط كلّ ذي إفضال على غيره بمال أو كلام أو عمل بيد أو رجل جزاء إفضاله و الهاء في [فَضْلَهُ راجع إلى ذي الفضيلة. و قيل: إنّ معناه يعطي اللّه كلّ ذي عمل صالح ثوابه على قدر عمله و على هذا فالأولى أن تكون «الهاء» في «فضله» عائدا إلى اسم اللّه [وَ إِنْ تَوَلَّوْا] و أعرضوا عمّا أمروا. به و قرئ بالتائين و المراد الخطاب [فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ] شأنه و هو يوم القيامة و هذا الخوف ليس في معنى الشكّ بل بمعنى اليقين أي قل لهم: إنّي أعلم أنّ لكم عذابا عظيما.

و إنّما وصف اليوم بالكبير لعظم ما فيه من الأهوال. و في ذلك اليوم رجوعكم إلى حكم اللّه و مصيركم إليه و يعيدكم للجزاء و هو قادر على الإعادة و الجزاء فاحذروا مخالفته.

ص: 294

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 5]

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)

قرئ «يثنوني» على يفعوعل للمبالغة مثل احلولى و اخشوشن.

و أصل «الثنّ» العطف تقول: ثنيته عن كذا أي عطفته و منه الاثنان لعطف أحدهما على الآخر في المعنى و منه الثناء لعطف المناقب في المدح و منه الاستثناء لأنّه عطف عليه بالإخراج منه.

قوله: [أَلا إِنَّهُمْ «ألا» حرف تنبيه و لا نصيب لها من الإعراب.

النزول: قيل: نزلت في الأخنس بن شريق كان حلو الكلام يلقى رسول اللّه بما يحبّ، و ينوي بقلبه على ما يكره. و عن أبي جعفر أنّ المشركين إذا مرّوا برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله طأطأ بعضهم رأسه و ظهره هكذا و غطّى رأسه بثوبه حتّى لا يراه رسول اللّه فأنزل اللّه هذه الآية. لمّا تقدّم ذكر القرآن بيّن سبحانه فعلهم عند سماعه فقال: ألا إنّ المنافقين و الكفّار يطوون صدورهم و يطأطئونها و يحنون صدورهم لكي لا يسمعوا كلام اللّه.

و حاصل المعنى أنّ طائفة من المنافقين و المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا و أرسلنا ستورنا و استغشينا ثيابنا و ثنينا صدورنا على عداوة محمّد فكيف يعلم بنا؟ أي نضمر خلاف ما نظهر ليستخفوا من اللّه، فاللّه سبحانه نبّه بأنّهم لو تولّوا ظاهرا و باطنا لا فائدة لهم بذلك التولّي باطنا لأنّي أعلم سرّهم و علنهم و أعلم خطرات ما في صدورهم و حديث نفسهم.

قوله: [سورة هود (11): آية 6]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)

لمّا ذكر سبحانه في الآية السابقة على أنّه عالم بجميع المعلومات ذكر آية علمه بأنّه لو لم يكن عالما لما كان يوصل رزق كلّ حيوان إليه و ما حصلت لها هذه المهمّات فقال: [وَ ما مِنْ دَابَّةٍ] أي ليس ما يدبّ على وجه الأرض من الجنّ و الإنس و الأنعام و الطير و الهوامّ و الوحوش إلّا و اللّه يتكفّل برزقها و يعلم موضع قرارها من أصلاب الآباء و أرحام الأمّهات و مسكن الأرض و يعلم سبحانه حيث تأوي هذه الأنواع إليه من الأرض و حيث تموت و تبعث منه و أين مكان يستقرّ عملها و إلى أيّ مكان تصير إليه و تستودع فيه و جميع

ص: 295

ذلك مكتوب في كتاب ظاهر و هو اللوح المحفوظ.

و قيل في معنى المستقرّ و المستودع: إنّ المستقرّ هو مكانه في الأرض و المستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة أو أصل.

قوله: [سورة هود (11): آية 7]

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

لمّا أثبت بالدليل المتقدّم كونه عالما أثبت بهذا الدليل كونه قادرا على جميع المقدورات فقال: [وَ هُوَ الَّذِي إخبار عن قدرته بأنّه خلق هذه الأجرام العظيمة في هذا المقدار من الزمان لو كان زمان لأنّه لم يكن هناك أيّام تعدّ فإنّ اليوم عبارة عمّا بين طلوع الشمس و غروبها، و الحكمة اقتضت أن ينشئهما في هذا المقدار من الزمان مع قدرته على أن يخلقهما في مقدار لمح البصر.

[وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ] و في هذا دلالة على أنّ العرش و الماء كانا موجودين قبل خلق السماوات و الأرض و كان الماء قائما بقدرة اللّه على غير موضع قرار بل كان اللّه يمسكه بقدرته و بناء العرش و السماوات و الأرض على الماء أبدع و أعجب في القدرة.

قال بعض المفسّرين: خلق اللّه ياقوتة خضراء ثمّ نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثمّ خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثمّ وضع العرش على الماء.

و قالت المعتزلة: في الآية دلالة على وجود الملائكة قبل خلقهما لأنّه خلقهما لمنفعة و تلك المنفعة عائدة إلى غيره سبحانه لأنّه غنيّ عن أن ينتفع بشي ء و لا بدّ أن يكون المنتفع حيّا و ذلك كان في جنس الملائكة.

و بالجملة ففي مقام إثبات القدرة شرح أنّ العرش الّذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه اللّه فوق سبع سماوات من غير دعامة تحته و لا علاقة فوقه.

[لِيَبْلُوَكُمْ و يمتحنكم. و معنى «الاختبار» في حقّ اللّه ذكرناها مرارا أي يعاملكم معاملة المختبر ليظهر إحسان المحسن و إساءة المسي ء لئلا يتوهّم أنّه سبحانه يجازي العباد على حسب ما في معلومه بل يجازي بعد وقوع العمل و قوله: [أَحْسَنُ لأنّه قد يكون فعل

ص: 296

حسن أحسن من حسن آخر.

و مع هذه الدلائل [لَئِنْ قُلْتَ لهم يا محمّد [إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ للحساب و الجزاء [لَيَقُولَنَ هؤلاء الكفّار ليس هذا القول إلّا باطلا و تمويها ظاهرا و لا حقيقة له. و من قرأ «ساحر» أي أنت ساحر و الساحر معناه الكذّاب. قال القفال: كانوا يقولون: إنّ هذا القول خدعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذّات الدنيا و إحرازا لهم إلى الانقياد لكم و الدخول تحت طاعتكم كما قال بعض الزنادقة في زماننا و يقولون. أجارنا اللّه من هذه العقائد الرجسة و الأقوال النجسة.

قوله: [سورة هود (11): آية 8]

وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)

المعنى: لمّا حكى سبحانه عن الكفّار أنّهم يكذّبون الرسول و نسبوا إليه أنّه قوله سحر أو هو ساحر و كاذب حكى في هذه الآية أنّه متى تأخّر عنهم العذاب الّذي توعّدهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله أخذوا في الاستهزاء و كانوا يقولون: ما السبب الّذي حبسه عنّا العذاب؟

فأجاب اللّه بأنّه إذا جاء الوقت الّذي عيّنه اللّه لنزول العذاب لم ينصرف ذلك العذاب عنهم.

و اختلفوا في ذلك العذاب أهل التفسير؛ فمنهم قال: عذاب الدنيا من الأسر و القتل و أمثاله. و قيل: عذاب الآخرة. فنبّه سبحانه بأنّه يوم يأتيهم في القيامة ليس مصروفا عنهم و ليس له صارف و حاق بهم. و إنّما أتى بلفظ الماضي لتقريره و تحقّق وقوعه.

و المراد من قوله: [إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ] قيل: المراد من «امّة» الحين و الوقت كما في قوله: «وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» (1) أي بعد زمان. و قيل: المراد بعد طائفة مجتمعة أي إلى حين تنقضي امّة من الناس بعد هذا الوعيد لقالوا: ما ذا يحبسه عنّا؟ و قد انقرض من الناس.

و هذا من باب تسمية الشي ء باسم ما يحصل فيه كقولك: كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الوقت.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 9 الى 11]

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (11)

ص: 297


1- يوسف: 45.

المراد من الإنسان مطلق الإنسان لأنّه تعالى استثنى منه قوله: «إلّا الّذين» و الاستثناء يخرج من الكلام ما لو لاه لدخل فيشمل المؤمن و الكافر كقوله. «وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ» (1) فبيّن تعالى: عادة الإنسان أن يقابل النعم بالكفران أي إذا أحللنا به نعمة من الصّحة و السعة من المال و غير ذلك من نعيم الدنيا، ثمّ سلبنا تلك النعمة عنه للمصلحة فيه فعادته اليأس و كفران النعمة.

[وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ أي أحللنا به بعد أن مسّته الضرّاء و أعطيناه نعمة ثانية [لَيَقُولَنَ .

عند نزول النعماء ذهبت عنّي الخصال الّتي تسوؤني أي الشدائد و الأمراض و الآلام ذهبت عنّي و لا تعود إليّ و يغفل و لا يؤدّي شكرها للّه الّذي أعطاه [إِنَّهُ لَفَرِحٌ به و [فَخُورٌ].

به على الناس فلا يصبر في المحنة و لا يشكر عند النعمة. إلّا بعض الناس من المؤمنين يقابلون الشدّة بالصبر و النعمة بالشكر، و يواظبون على الأعمال الصالحة أولئك لهم الجنّة.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 12 الى 14]

فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

النزول: روي عن ابن عبّاس أنّ رؤساء مكّة من قريش أتوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقالوا:

يا محمّد إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكّة ذهبا أو ائتنا بملائكة تشهد لك بالنبوّة فأنزل اللّه الآية.

و روى العيّاشيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: إنّي سألت اللّه أن يؤاخي بيني و بينك ففعل و سألت ربّي أن يجعلك وصيّي ففعل فقال بعضهم: و اللّه لصاع من تمر في شنّ بال أحبّ إلينا ممّا سأل محمّد صلى اللّه عليه و آله ربّه فهلّا سأله ملكا يعضده على عدوّه أو كنزا يستعين به على فاقته؟ فنزلت الآية.

ص: 298


1- العصر: 1- 3.

المعنى: ثمّ أمر سبحانه رسوله بالثبات على الأمر و حثّه على حجاج القوم بما يقطع العذر فقال: [فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ القرآن و هو ما فيه سبّ آلهتهم و لا تبلّغهم إمّا دفعا لشرّهم أو خوفا منهم أي و لعلّك يضيق صدرك بما يقولونه و يلحقك من أذاهم و تكذيبهم مخافة [أَنْ يَقُولُوا] لو لا يعني هلّا [أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ] من المال [أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يشهد له.

و الحاصل: الحثّ للنبيّ على أداء الرسالة كما يقول أحدنا لغيره و قد علم من حاله أنّه يطيعه و لا يعصيه، لكن لأجل ترغيبه و حثّه يقول له: لعلّك تترك بعض ما آمرك لقول فلان. فيقول اللّه لنبيّه: لا تترك بعض ما يوحى إليك و لا يضيق صدرك بسبب مقالتهم هذه.

[إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ يجلب النفع و يدفع الضرّ إن أراد.

[أَمْ يَقُولُونَ الكفّار اختلقه و اخترعه و أتى به من عند نفسه. قيل: هاهنا حذف و إنّما الحذف لدلالة ما ابقي على ما القي و تقديره: أ يكذّبونك فيما أتيتهم به من القرآن.

أم يقولون افتريته أنت على ربّك [قُلْ لهم يا محمّد: إن كان على زعمكم مفترى [فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في الترتيب و النظم و الفصاحة فإنّ القرآن نزل بلغتكم و قد نشأت أنا بين أظهركم فاجتمعوا و أتوا من عندكم بمثل هذه المفتريات، فإن لم يمكنكم ذلك فاعلموا أنّه من عند اللّه و هذا صريح في التحدّي.

و اعلم أنّه قد أجمع المسلمون على أنّه لا يجوز للرسول أن يخون في الوحي و لا قصّر و لا خان أبدا و ما ترك بعض ما يوحى إليه فما المراد في قوله «فلعلّك»؟ و هو أنّه لمّا علم سبحانه أنّ قلب النبيّ صلى اللّه عليه و آله ضاق بسبب كلماتهم الفاسدة فكان يضيق صدره أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه فأيّده اللّه و هيّجه بهذا العنوان لطرح المبالات بكلماتهم الفاسدة و بشرح صدره لا أنّه صلى اللّه عليه و آله ما بلّغ بعض الوحي. فإن عجزتم عن الإتيان فاعلموا أنّ القرآن انزل بعلم اللّه و ليس مفترى و لا شريك في خلقه. فهل أنتم بعد قيام الحجّة و العجز عن الإتيان مستسلمون و منقادون و لتوحيده معتقدون، أو بعد في ضلالتكم.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 15 الى 16]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)

ص: 299

المعنى: من كان يريد حسن بهجة الدنيا و زهرتها و لا يريد الآخرة نوفّر عليهم جزاء أعمالهم في الدنيا تامّا و لا ينقضون شيئا منها.

و المراد المشركون الّذين لا يصدّقون بالبعث و يعملون أعمال البرّ كإعطاء السائل و صلة الرّحم و الكفّ عن الظلم و إغاثة المظلوم و الأعمال الّتي يستحسنها العقل كبناء المرابط و القناطير فإنّ اللّه يعجّل لهم جزاء أعمالهم في الدنيا بالاستمتاع بما خوّلهم و بصحّة أبدانهم و توسعة المعاش و صرف المكاره عنهم حتّى قيل: إنّ من مات على كفره قبل استيفاء العوض وضع اللّه عنه في الآخرة من العذاب بقدره و أمّا ثواب الآخرة فلا حظّ لهم فيه.

و قيل: المراد من الآية المنافقون الّذين كانوا يغزون مع النبيّ للغنيمة دون نصرة الدين جازاهم اللّه على ذلك بأن جعل لهم ثواب الدنيا.

و قيل: المراد منهم أهل الرياء [أُولئِكَ الَّذِينَ كذا حالهم [لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا] في الدنيا من الخير إنّهم ما عملوا للّه و ماتوا على كفرهم و بطل عملهم بالكفر.

و ذكر الحسن في تفسيره أنّ رجلا من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله خرج من عند أهله فإذا بجارية عليها ثياب و هيئة فجلس عندها؛ فقامت الجارية فأهوى بيده إلى عارضها فمضت فأتبعها بصره و مضى خلفها؛ فلقيه حائط فخمش وجهه فعلم أنّه أصيب بسبب ذلك الذنب فأتى الرسول صلى اللّه عليه و آله و ذكر له ذلك فقال صلى اللّه عليه و آله: أنت رجل عجّل اللّه عقوبة ذنبك في الدنيا إنّ اللّه إذا أراد بعبد شرّا أمسك عنه عقوبة ذنبه حتّى يوافي به يوم القيامة، و إذا أراد به خيرا عجّل له عقوبة ذنبه في الدنيا.

و النظم: لمّا قال سبحانه: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» كأنّ قائلا قال: إن أظهرنا الإسلام سلامة المال و النفس تكون ماذا؟ فقال اللّه: من أراد الدنيا دون الآخرة فسبيله هذا.

و القائلون بأنّ المراد المراؤون ذكروا أخبارا كثيرة في هذا الباب.

روي أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: تعوّذوا باللّه من جبّ الحزن قيل: و ما جبّ الحزن؟ قال صلى اللّه عليه و آله:

واد في جهنّم يلقى فيها القرّاء المراؤون. و قال صلى اللّه عليه و آله: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من يري الناس أنّ فيه خيرا و لا خير فيه.

ص: 300

و روى أبو هريرة أيضا أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جمع القرآن فيقال له: ما عملت فيه؟ فيقول: يا ربّ قمت به آناء اللّيل و النهار فيقول اللّه: كذبت بل أردت أن يقال: فلان قارئ و قد قيل.

و يؤتى بصاحب المال فيقول اللّه: ألم اوسّع عليك؟ فماذا عملت فيما آتيتك؟ فيقول:

وصلت الرحم و تصدّقت؛ فيقول اللّه: كذبت بل أردت أن يقال: فلان جواد و قد قيل ذلك.

و يؤتى بمن قتل في سبيل اللّه فيقول: قاتلت في الجهاد حتّى قتلت فيقول اللّه: كذبت بل أردت أن يقال: فلان جري ء و قد قيل ذلك.

قال أبو هريرة: ثمّ قرب رسول اللّه ركبتي و قال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق تسعر بهم النار يوم القيامة.

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 17]

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)

تعلّق هذه الآية بما قبلها ظاهر و التقدير: أ فمن كان علي بيّنة من ربّه كمن يريد الحياة الدنيا و زينتها؟ إلّا أنّه حذف الجواب لظهوره.

و اختلفوا في أنّ الّذي وصفه اللّه بأنّه على بيّنة من هو؟ قيل: المراد به النبيّ صلى اللّه عليه و آله. و قيل: المراد من آمن به من القوم و هو الأظهر لقوله في الآية «أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» و هذا صيغة جمع، فلا يجوز رجوعه إلى النبيّ. و المراد بالبيّنة هو البيان و البرهان الّذي عرف به صحّة الدين الحقّ.

و الضمير في «يتلوه» راجع إلى معنى البيّنة و هو البرهان. و المراد بالشاهد القرآن و [مِنْهُ أي من اللّه [وَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن و قبل مجيئه التوراة [كِتابُ مُوسى و حاصل المعنى أنّ اللّه يقول: اجتمع في صحّة هذا الدين امور ثلاثة: أوّلها البيّنات العقليّة و الثاني شهادة القرآن بصحّته و الثالث شهادة توراة، فلا يبقى ريب مع هذه الأمور.

و اختلف في معنى الشاهد أنّه من المراد به؟ فقيل: الشاهد جبرئيل يتلو القرآن على

ص: 301

النبيّ صلى اللّه عليه و آله من اللّه، عن ابن عبّاس و مجاهد و الزجّاج.

و قيل: الشاهد من اللّه محمّد صلى اللّه عليه و آله، عن الحسين بن علي عليه السّلام و اختاره الجبّائيّ.

و قيل: الشاهد عليّ بن أبي طالب يشهد للنبيّ و هو منه و من صنوه و أصله و هذا غاية التشريف لعليّ عليه السّلام.

و هو المرويّ عن أئمّتنا أبي جعفر و عليّ بن موسى الرضا عليهما السّلام، رواه الطبريّ بإسناده، عن جابر بن عبد اللّه، عن عليّ عليه السّلام.

و من قبل القرآن التوراة و قد وصف اللّه كتاب موسى بأنّه [إِماماً وَ رَحْمَةً] أي كان مقتدى الخلق و رحمة لهم أي لما كان سببا للرحمة إطلاقا لاسم المسبّب باسم السبب [أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي إنّ الموصوفين بالبيّنة و الهدى في صحّة هذا الدين يؤمنون بالقرآن أو بمحمّد صلى اللّه عليه و آله.

و قيل: المعنى المراد أنّ صورة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و وجهه و خصائله كلّ ذلك يشهد له بالصدق فالتقدير أنّ حصول هذا الشاهد عقيب تلك البيّنة؛ فحينئذ يكون الشاهد منه كون هذه الأحوال متعلّقة بذات النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

و هاهنا بيان آخر و هو أنّ المطالب على قسمين: منها ما يعلم صحّتها بالبداهة و الضرورة و منها يحتاج في تحصيل العلم بها إلى طلب و اجتهاد، و هذا القسم الثاني على قسمين؛ لأنّ طريق تحصيل المعارف إمّا الحجّة و البرهان المستنبط بالعقل و إمّا الاستفادة من الوحي فهذان الطريقان هما الطريقان اللّذان يمكن الرجوع إليهما في تعريف المجهولات، فإذا اجتمعا و اعتضد كلّ واحد منهما بالآخر بلغا في غاية القوّة.

ثمّ إنّ في الأنبياء كثرة فإذا توافقت كلماتهم على صحّته و كان البرهان اليقينيّ قائما على صحّته.

فقوله: [أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فالمراد الدلائل العقليّة اليقينيّة و قوله:

[وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إشارة إلى الوحي الّذي حصل لمحمّد صلى اللّه عليه و آله [وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى .

إشارة إلى الوحي الّذي حصل لموسى فقد بلغ هذا الدليل و البرهان في القوّة إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه.

ص: 302

ثمّ قال: [وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالقرآن و بمحمّد صلى اللّه عليه و آله من أصناف الناس [فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ .

فيدخل فيهم اليهود و النصارى و المجوس و سائر الطبقات من الكفر. روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و الراوي أبو موسى روى عنه سعيد بن جبير أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: لا يسمع بي يهوديّ و لا نصرانيّ فلا يؤمن بي إلّا كان من أهل النار. قال أبو موسى: فقلت في نفسي: إنّ النبيّ لا يقول مثل هذا إلّا عن القرآن فوجدت اللّه يقول: «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ».

قوله: [فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُ أي لا تكن في مرية من صحّة هذا الدين و من كون هذا القرآن نازلا من عند اللّه. و قيل: إنّ المعنى: لا تك في مرية من أنّ موعد الكفّار النار.

ثمّ قال: [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ فلا تبال بالجهّال سواء آمنوا أو لم يؤمنوا.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 18 الى 19]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19)

المعنى: في الآية دلالة على أنّ الافتراء على اللّه من أعظم أنواع الظلم.

ثمّ إنّه تعالى بيّن وعيد هؤلاء بقوله: [أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ و ما وصفهم بذلك لأنّهم مختصّون بذلك العرض لأنّ العرض عامّ في كلّ العباد كما قال سبحانه:

«وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا» (1) و إنّما أراد أنّهم يعرضون فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم: هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم فيحصل لهم من الخزي و النكال ما لا مزيد عليه.

فإن قيل: إذا لم يجز أن يكون اللّه تعالى في مكان فكيف يعرضون على ربّهم؟

فالجواب أنّهم يعرضون على الأماكن المعدّة للحساب الّتي أعدّها اللّه للحساب و الأشهاد الّذين أضيف إليهم القول قيل: الناس و قيل: هم الأنبياء و الملائكة الحفظة. و «الأشهاد» جمع شاهد مثل صاحب و أصحاب و ناصر و أنصار و يجوز أن يكون شهيدا مثل شريف و أشراف.

ص: 303


1- الكهف: 49.

ثمّ بيّن سبحانه عن حالهم بأنّهم في تلك الحال لملعونون من عند اللّه و هذه اللّعنة ابتداء خطاب من اللّه و قيل: من كلام الأشهاد. و المراد من اللّعنة إبعادهم عن رحمته.

ثمّ وصف سبحانه الملعونين الظالمين فقال: [الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و يغوون الخلق و يصرفونهم عن دين اللّه، و قد يكون بإلقاء الشبهة إليهم و يطلبون لسبيل اللّه زيغا عن الاستقامة و زيادة و نقيصة في الكتاب ليتغيّر الأدلّة كما فعله اليهود في وصف النبيّ و التحريفات في التأويل و البدع.

[وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ قال الزجّاج: كلمة «هم» كرّرت على جهة التأكيد بشأنهم في الكفر.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 20 الى 22]

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)

المعنى: أولئك الموصوفون من الكفّار لم يكونوا معجزين اللّه بالهرب مفلتين بأنفسهم من أخذه لو أرادوا ذلك في الأرض مع سعتها و أن يهربوا منها كلّ مهرب.

و إنّما خصّ الأرض بالذكر و إن كانوا لا يفوتون اللّه و لا يخرجون عن قبضته على كلّ حال؛ لأنّ معاقل الأرض مهرب البشر و معصمهم عند المخاوف.

قوله: [وَ ما كانَ لَهُمْ أي ليس لهم وليّ و لا ناصر ينصرهم و يحميهم عن عذاب اللّه في الدنيا و الآخرة [يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ أي كلّما مضى ضرب من العذاب يعقّبه ضرب آخر مثله أو فوقه دائما مؤبّدا على قدر الاستحقاق. و قيل: معناه يضاعف العذاب على رؤسائهم للإضلال و الصدّ عن الدين.

قوله: [ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ في معناه وجوه:

أحدها: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون و بما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون عنادا و ذهابا عن الحقّ فأسقطت الباء عن الكلام؛ كما في قول الشاعر:

ص: 304

نغالي اللّحم للأضياف نيّاو نبذله إذا نضج القدور

أراد: نغالي باللحم، فحينئذ «ما» مصدريّة و ليست بنافية.

و ثانيها أنّه لاستثقالهم استماع آيات اللّه و كراهتهم تذكّر هاجروا مجرى من لا يستطيع السمع و كذلك أبصارهم لم يبصروا كقول الأعشى:

ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل و هل تطيق وداعا أيّها الرجل؟

و قد علمنا أنّ الأعشى كان يقدر على الوداع، و إنّما نفى الطاقة عن نفسه من حيث الكراهة.

و ثالثها: إنّما عنى بذلك آلهتهم و أوثانهم أي أولئك الكفّار الموصوفون العابدون لآلهتهم إنّ آلهتهم جمادات ليس لها سمع و لا بصر، و فيه تعسّف.

و رابعها أنّ «ما» ليست للنفي بل يجري مجرى قولهم: لأواصلنّك ما لاح نجم و المعنى أنّهم معذّبون ما داموا أحياء.

[أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من حيث فعلوا ما استحقّوا به العذاب فهلكوا فذلك خسران النفس، فأخذوا الخسيس من الدنيا و بدّلوا الشريف [وَ ضَلَ و بطل مفترياتهم و أكاذيبهم [لا جَرَمَ من عمل هذه التجارة الخاسرة [هُمُ الْأَخْسَرُونَ و خسارتهم أضرّ من كلّ تجارة.

قال الزجّاج: كلمة «لا جرم» كلمة «لا» حرف نفي و «جرم» معناه كسب فمعناه لا كسب لهم في النفع بل هذا الكسب خسران الدنيا و الآخرة؛ فيؤول المعنى من كلمة «لا جرم» أنّه حقّ كفرهم وقوع العذاب و الخسران بهم.

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 23]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23)

لمّا شرح خسارة الكفّار و شقاوتهم بيّن في هذه الآية سعادة المؤمنين. و «الإخبات» مأخوذ من الخبت و هو الأرض المطمئنّة كناية عن من يطمئنّ إلى ربّه و يخضع له أي المؤمنون المطمئنّون إلى اللّه الخاضعون، و يعبدون اللّه و قلوبهم مطمئنّة بذكر اللّه و الخضوع له، فارغة عن الالتفات إلى ما سوى اللّه، و تيقّنوا بصدق ما وعدهم اللّه.

ص: 305

و أمّا إذا فسّرنا الإخبات بالخشوع كان المعنى: أنّهم يأتون بالأعمال الصالحة لكنّهم خائفون و خاشعون من أن يكونوا لم يأتوا بها من الوجوه الصحيحة، و وجلون من أن يكون وقوع التقصير و الإخلال، فأولئك الموصوفون بهذه الصفات أصحاب الجنّة و يحصل لهم الخلود.

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 24]

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (24)

لمّا ذكر اللّه حال الفريقين من المؤمن و الكافر ذكر لهما مثالا في الآية مطابقا لها أي مثل فريق المؤمنين كالبصير و السميع و مثل فريق الكافرين كالأعمى و الأصمّ، و أنّ المؤمن ينتفع بهاتين الحاسّتين في الدين و الكافر الّذي ليس له هاتان الحاسّتان لا ينتفع بها فصارت حاسّته بمنزلة المعدوم. و إنّما دخل الواو ليبيّن أنّ حال الكافر كحال الأعمى عليحدة، و كحال الأصمّ عليحدة، و حال من يكون قد جمع بين الصفتين جميعا.

[هَلْ يَسْتَوِيانِ فكما لا تستوي هاتان الحالتان عند العقلاء كذلك لا تستوي حال الكافر و المؤمن [أَ فَلا تَذَكَّرُونَ و تتفكّرون.

[سورة هود (11): الآيات 25 الى 28]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)

اعلم أنّه تعالى قد بدأ بذكر هذه القصّة في سورة يونس و قد أعادها في هذه السورة أيضا لما فيها من زوائد الفكر و بدائع الحكم.

[وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا] و بعثنا [نُوحاً إِلى أهل زمانه و [قَوْمِهِ ... أَنْ لا تَعْبُدُوا] أي: أنذركم أن لا تعبدوا إلّا اللّه، و وحّدوا اللّه، و تتركوا عبادة غيره. و بدأ بالدعوة إلى الإخلاص في العبادة له سبحانه لأنّه من أهمّ الأمور، و لا تصحّ العبادات إلّا بعد التوحيد [إِنِّي أَخافُ .

و إنّما قال: أخاف مع أنّ عقاب الكفّار مقطوع عليه و ليس مظنونا به لأنّه ألطف في

ص: 306

الدعوة و أقرب إلى القبول و الإجابة في الغالب.

[فَقالَ الْمَلَأُ] و الأشراف [الَّذِينَ يملؤون المجالس بحاشيتهم و غاشيتهم [مِنْ قوم نوح لنوح: [ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا] ظنّا منهم أنّ الرسول إنّما يكون من غير جنس المرسل إليه و لم يعلموا أنّ البعثة من الجنس قد يكون أصلح و من الشبهة أبعد.

ثمّ قالوا: [وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ أي: لم يتّبعك الملأ و الأشراف و الرؤساء منّا و إنّما اتّبعك أخسّاؤنا الّذين لا مال لهم و لا جاه [بادِيَ الرَّأْيِ أي في ظاهر الأمر و الرأي لم يتدبّروا و لم يتعمّقوا فيما قلت.

و قال الزّجّاج: معناه اتّبعوك في الظاهر و باطنهم على خلاف ذلك. و من قرأ بالهمزة فالمعنى: أنّهم اتّبعوك ابتداء الرأي، و لو فكّروا و تأمّلوا لم يتّبعوك. و قيل: معناه أنّ في مبتدء وقوع الرؤية عليهم يعلم أنّهم أراذلنا و أسافلنا.

قوله: [وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي: ما نرى لك و لقومك علينا من فضل؛ لأنّ الفضل عندهم بكثرة المال و المنزلة في الدنيا و الشرف في النسب و هكذا عادة أهل الدنيا يستحقرون أرباب الدين إذا كانوا فقراء و يسترذلونهم و إن كانوا هم الأكرمين الأفضلين عند اللّه.

[بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ هذه بقيّة كلام كفّار قوم نوح، قالوه لنوح و من آمن به.

[قالَ نوح لقومه: [يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي .

و اختلفوا أنّ قول نوح هذا جواب عمّا ذا من كلامهم؟ قيل: جواب عن قولهم:

«بل نظنّكم كاذبين» و قيل: جواب عن قولهم: «ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا» فالمعنى كأنّه عليه السّلام قال: أخبروني أنّكم إن تظنّوني كاذبا فما ذا تقولون إذا أتيتكم بحجّة من اللّه واضحة؟ ألا تصدّقونني؟

هذا إذا كان قوله عليه السّلام جوابا عن قولهم «بل نظنّكم كاذبين». و إذا كان جوابا عن قولهم: «ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً» فالمعنى: إن كنت بشرا فماذا تقولون إذ أتيتكم بحجّة دالّة على صدقي؟ و الرسالة تظهر بالمعجزة فلا معنى لاعتبار البشريّة.

قوله: [وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ و المراد بالرحمة هنا النبوّة أي و أعطاني نبوّة من

ص: 307

عنده [فَعُمِّيَتْ و خفيت [عَلَيْكُمْ لقلّة تدبّركم فيها. أ تريدون أن أكرهكم و ألزمكم بطريق الإلجاء على تصديق نبوّتي على كره منكم؟ ذلك غير مقدور لي؛ لأنّ إلزامي إيّاكم على قبول نبوّتي ذلك الإيمان الاضطرارىّ و ليس من شأني.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 29 الى 31]

وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)

المعنى: ثمّ أنكر نوح استثقالهم التكليف؛ لأنّ العاقل يستثقل الأمر إذا لزمته مؤونة ثقيلة فقطع عذرهم فقال: إني لا أطلب منكم مالا لدعوتي إيّاكم إلى اللّه حتّى تمتنعوا إجابتي خوفا من بذل المال؛ لأنّي أطلب أجري من اللّه و لست أطرد المؤمنين من عندي، و لا ابعدهم عنّي على وجه الإهانة؛ لأنّهم سألوه طردهم ليؤمنوا له آنفة من أن يكونوا مع الفقراء سواء.

فكأنّه عليه السّلام أجاب عن جميع سؤالاتهم بهذه الآية أي أنّي لا أطلب المال حتّى إذا كان المستجيب لنبوّتي إذا كان فقيرا لم ينفعني، و إذا كان غنيّا نفعني و يتفاوت لي؛ فإن ظننتم أنّي فقير و اشتغلت بهذه الحرفة لأتوصّل بها إلى أخذ أموالكم فاعلموا أنّ هذا الظنّ خطاء منكم و لا أطرد الصعاليك عنّى؛ لأنّهم ملاقوا ربّهم ما وعدهم من البعث و الجزاء فإن طردتهم استخصموني عند اللّه. و نبّه بهذا المعنى لهم وجود البعث و الجزاء و القيامة؛ فحينئذ إن فعلت ذلك و خاصموني فمن ينصرني عند اللّه من مخاصمتهم؟ و أراكم جاهلين؛ لأنّ تعظيم البرّ المتّقي المؤمن و إهانة الفاجر الكافر حكم بهما الشرع و العقل؛ فإذا قلبت القضيّة كنت على صدّ أمر اللّه فحينئذ من يجيرني من هذا الإثم و العصيان؟

[أَ فَلا] تفقهون و [تَذَكَّرُونَ و الفرق بين التفكّر و التذكّر أنّ التذكّر طلب معنى قد كان حاضرا للنفس و التفكّر طلب معرفة الشي ء بالقلب و إن لم يكن حاضرا للنفس.

ص: 308

قوله: [وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي هذا تمام الحكاية عمّا قاله نوح لقومه أي إنّي لا أرفع نفسي فوق قدرها فأدّعي أنّ عندي مقدورات اللّه فأفعل ما أشاء و اعطي من أشاء و أمنع من أشاء و مفاتيح اللّه في الرزق و خزائنه عنده و لا أدّعي علم الغيب حتّى أدلّكم على منافعكم و مضارّكم. و لا أقول إنّي ملك فأخبركم بخبر السّماء من قبل نفسي، و إنّما أنا بشر لا أعلم الأشياء إلّا بتعليم اللّه.

ثمّ أكّد عليه السّلام بيانه بقوله: [وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ و تستقلّونهم و تستخفّونهم و تنظرون إليهم بعين الحقارة و العيب لما ترونهم من الفقر: لا يعطيهم اللّه في المستقبل خيرا [اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي قلوبهم من الإخلاص إن قلت منهم ما لم أعلم و طردتهم [إِذاً].

أنا [لَمِنَ الظَّالِمِينَ .

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 32 الى 34]

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)

لمّا جاوب الكفّار بهذه الآية السابقة و صفوه بكثرة المجادلة و حملوا كلامه على الجدل. و المجادلة المقابلة بما يقبل الخصم من مذهبه بحجّة أو شبهة، و الجدل شدّة القتل.

و الفرق بين الحجاج و الجدال أنّ المطلوب بالحجاج ظهور الحجّة، و المطلوب بالجدال الرجوع عن المذهب.

و بالجملة [قالُوا يا نُوحُ حاججتنا و أكثرت الجدل فأتنا بما تخوّفنا من العذاب فلسنا نؤمن بك إن كنت صادقا فيما تدّعي.

[قالَ نوح: لا يأتي بالعذاب إلّا اللّه متى شاء، فإن شاء عجّل و إن شاء أخّر و أنتم لا تفوتونه بالهرب و التأخير. و إذ أراد اللّه عذابكم و أن يعاقبكم لكفركم، و يجنّبكم من رحمته بسبب سوء اختياركم، و يحرّمكم ثوابه، و أغواكم لا ينفعكم نصحي إذا أردت أن أنصح، لأنّكم عامدون على العناد و الإنكار.

ص: 309

و قد سمّى اللّه سبحانه العقاب و العذاب غيّا بقوله: «فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» (1) و يشهد بذلك قول الشّاعر:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره و من يغو لا يعدم على الغيّ لائما

و قال بعض المفسّرين: إنّ معنى الآية: إن كان اللّه يريد عقوبة إغوائكم الخلق و إضلالكم إيّاهم أي يريد عقوبتكم على ذلك الإغواء. و من عادة العرب أن تسمّي العقوبة باسم الشي ء المعاقب عليه كقوله: و جزاء سيّئة سيّئة مثلها، و مكروا و مكر اللّه.

و قيل: معنى الإغواء: الإهلاك إذا أراد اللّه إهلاككم بسبب كفركم لا ينفعكم نصحي عند نزول العذاب و إن قبلتم نصحي و آمنتم؛ لأنّ اللّه حكم بأن لا يقبل الإيمان بعد نزول العذاب. و قد حكي عن العرب أنّهم قالوا: أغويت فلانا أي أهلكته، و يقال: غوى الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللّبن.

و قيل: إنّ قوم نوح كانوا يعتقدون أنّ اللّه يضلّ عباده عن الدّين و أنّ ما هم عليه بإرادة اللّه و لو لا ذلك لأجبرهم على خلافه؛ فقال نوح على وجه التعجّب من قولهم: إن كان القول كما تقولون و تعتقدون فنصحي لا ينفعكم.

و اعلم أنّه لا يجوز أن يكون المراد بالإغواء في الآية فعل الكفر و الدعاء إلى الكفر أو الحمل عليه على ما يعتقده المجبّرة؛ لقيام الأدلّة على أنّ خلق الكفر و إرادته من أقبح القبائح و كالأمر به، و كما لم يجز أن يأمر به فكذلك لا يجوز أن يفعله أو يريده. و لأنّه لو جاز منه الإضلال لجاز منه أن يبعث من يدعو إلى الضلال [هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم.

قوله: [سورة هود (11): آية 35]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

المعنى: قيل: أ يؤمن كفّار محمّد صلى اللّه عليه و آله بما أخبرهم به محمّد صلى اللّه عليه و آله من نبأ قوم نوح [أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ من تلقاء نفسه [ف قُلْ لهم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله: إن اختلقته و افتريته كما تزعمون فعليّ عقوبتي و لا تؤخذون به و أنا لا أؤاخذ بجرمكم.

ص: 310


1- مريم: 60.

و قيل: يعني به نوحا و أنّه يقول على اللّه الكذب، عن ابن عبّاس.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 36 الى 39]

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)

المعنى: أخبر اللّه نوحا أنّه لن يؤمن به أحد من قومه في المستقبل فلا تغتمّ و لا تحزن.

و لأنّ العقل لا يدلّ و لا يحكم على أنّ قوما لا يؤمنون في المستقبل و إنّما طريق ذلك السمع فأخبره اللّه؛ فلمّا علم أنّ أحدا منهم لا يؤمن فيما بعد و لا من قبلهم دعا عليهم «فقال:

«رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (1) فلمّا أراد اللّه إهلاكهم أمر نوحا باتّخاذ السفينة له و لقومه المؤمنين فقال سبحانه:

[وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ و اعمل السفينة [بِأَعْيُنِنا] و بمرأى منّا أي بحفظنا إيّاك حفظ الرائي لغيره إذا كان يدفع الضرر عنه. و ذكر الأعين لتأكيد الحفظ و قيل: المراد بالأعين الملائكة الموكّلون بك و هم ينظرون إليك بأعينهم. و إنّما أضاف ذلك إلى نفسه إكراما و تعظيما لهم.

و قوله: [وَ وَحْيِنا] معناه: على ما أوحينا إليك من صنعتها و كيفيّتها أو المراد:

بوحينا إليك أن اصنعها؛ و ذلك أنّه لم يعلم صنعة الفلك فعلّمه اللّه بأنّا نوحي إليك بما تحتاج إليه من طوله و عرضه و هيئته [وَ لا تُخاطِبْنِي أي و لا تسألني العفو عن هؤلاء [الَّذِينَ .

كفروا من قومك و لا تشفع لهم [ف إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ عن قريب و هذا غاية في الوعيد.

فجعل نوح يصنع الفلك كما أمر اللّه بيده فجعل ينحت و يسوّيها و أعرض عن قومه.

و كلّما مرّ عليه أشراف قومه و رؤساؤهم و هو يعمل السفينة هزءوا بفعله؛ لأنّه كان يعملها في البرّ على مبلغ من الطول و العرض و لا ماء هناك يحمل مثلها، فكانوا يتضاحكون و يتعجّبون

ص: 311


1- نوح: 27- 28.

من عمله، و كانوا يقولون له: يا نوح صرت نجّارا بعد النبوّة؟ على طريق الاستهزاء. و قيل:

إنّ استهزاءهم له بأن كانوا يقولون: لو كنت صادقا في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاقّ. أو أنّهم ما رأوا السفينة قبل ذلك و ما عرفوا السفينة إلّا ينتفاع بها فيسخرون و يعدّون عمله سفها. و لمّا طالت مدّته مع القوم، و كان ينذرهم بالغرق و ما شاهدوا من ذلك المعنى خبرا غلب على ظنونهم كونه كاذبا في ذلك المقال.

ثمّ إنّه سبحانه حكى عن نوح أنّه كان يقول: [إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ أي إذا وقع الغرق و العذاب نحن نسخر منكم.

فإن قيل: السخريّة من آثار المعاصي فكيف يليق بالأنبياء؟

قلنا: سمّي المقابلة سخريّة كما في قوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» (1).

[فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيّنا أحقّ بالسخريّة، و تعلمون عاقبة سخريّتكم [مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يفضحه في الدنيا و ثبت عليه عذاب دائم في الآخرة، القصّة.

قال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع و مأتي ذراع و عرضها ستّمائة ذراع.

و قيل: أقلّ. قال ابن عباس: كانت ثلاث طبقات: طبقة للناس و طبقة للأنعام و الدوابّ و طبقة للوحش و الهوامّ، و جعل أسفلها للوحوش و السباع و الهوامّ، و أوسطها للدوابّ و الأنعام، و ركب هو و من معه في الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، و كانت من خشب الساج، و قيل: من النخل.

و بالجملة لمّا فرغ نوح من عمل السفينة و أراد اللّه إهلاكهم، روى عليّ بن إبراهيم بحذف الأسانيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لمّا أراد اللّه إهلاك قوم نوح عقم أرحام النساء أربعين سنة فلم يولد لهم مولود، و أمر اللّه نوحا أن ينادي بالسريانيّة أن يجمع إليه جميع الحيوان، فلم يبق حيوان إلّا و قد حضر؛ فأدخل من كلّ نوع من أنواع الحيوان زوجين ما خلا الفأر و السنّور.

ثمّ لمّا شكوا القوم من سرقين الدوابّ دعا الخنزير و مسح جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج فأرة فتناسلوا و لمّا كثروا و شكوا إليه منها دعا بالأسد و مسح جبينه؛ فعطس فسقط من أنفه زوج سنّور.

ص: 312


1- الشورى: 40.

و كان الّذين آمنوا به من جميع الدنيا ثمانين نفرا. و روى الشيخ أبو جعفر في كتاب النبوّة بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: آمن مع نوح ثمانية نفر.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 40 الى 41]

حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)

كلمة «حتّى» وقعت غاية لقوله: «و يصنع الفلك» أي فكان يصنعها إلى أن جاء وقت العذاب.

و في «التنوّر» قولان: أحدهما أنّه التنوّر الّذي يخبز فيه. و الثاني أنّه غيره؛ فعلى الأوّل قيل: إنّه تنّور لنوح عليه السّلام، كانوا يخبزون فيه. و قيل: كان لآدم و حوّاء حتّى صار لنوح. و اختلفوا في موضعه؛ قال الشعبيّ: كان بناحية الكوفة. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه في مسجد الكوفة؛ قال عليه السّلام: و قد صلّى نحوه سبعون نبيّا. و قيل: بالشام بموضع يقال له وردان. و لكنّ الصحيح ما قاله عليّ عليه السّلام؛ و قيل: فار التنوّر بالهند. و قيل: إنّ امرأته كانت تخبز في ذلك التنوّر خبزا ورده من أرض الشام في دار نوح، فأخبرت نوحا بخروج الماء فاشتغل في الحال بوضع الأشياء في السفينة، هذا كلّه على القول الأوّل.

و على القول الثاني إنّ المراد وجه الأرض و العرب تسمّي وجه الأرض تنّورا. و قيل: إنّ التنوّر أعلى مكان في الأرض و أشرفها؛ و قد أخرج اللّه الماء من ذلك الموضع ليكون ذلك معجزة له. و قيل: فار التنوّر أي طلع الصبح عن عليّ عليه السّلام. و قيل: فار التنوّر كقولهم:

«حمى الوطيس» بمناسبة وقوع العذاب. و فار أي. نبع على قوّة و شدّة تشبيها بغليان القدر.

و قد وعد اللّه المؤمنين النجاة؛ و جعل هذه الحالة علامة لحدوث الواقعة.

قال الليث: «التنوّر» لفظة عمّت بكلّ لسان و وافقت اللغات بهذا المعنى و صاحبه تنّار. لكنّ الأزهريّ قال: إنّ الاسم قد يكون أعجميّا في الأصل فتعربه العرب فصار عربيّا نظير ما دخل في كلام العرب من كلام العجم كالديباج و الدينار و السندس و الإستبرق فإنّ العرب لمّا تكلّموا بهذه الكلمات صارت عربيّة.

ص: 313

قوله: [قُلْنَا احْمِلْ أي قلنا لنوح لمّا فار التنوّر: احمل في السفينة [مِنْ كُلٍ نوع من الحيوان [اثْنَيْنِ .

فإن قيل: الزوجان قد فهم أنّهما اثنان فكيف جاز وصفهما بقوله «اثنين»؟ إنّما جاز للتأكيد كقوله: «لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ» (1) تقول: أمس الدابر و نفخة واحدة و نعجة واحدة، و الحاصل: احمل في السفينة من الحيوان ذكرا و أنثى.

[وَ] احمل [أَهْلَكَ و ولدك [إِلَّا مَنْ سَبَقَ القول بإهلاكه إلّا امرأته الخائنة، و اسمها واغلة، و ابنه كنعان. و احمل [مَنْ آمَنَ بك من قومك، و أخبر اللّه أنّه ما آمن معه إلّا نفر قليل و هم ثمانون إنسانا. و قيل: اثنان و سبعون رجلا و امرأته و بنوه الثلاثة و نساؤهم فهم ثمانية و سبعون نفسا و حمل معه جسد آدم و قيل: ثمانية أنفس، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و كان فيهم بنوه الثلاثة: سام، و حام و يافث. و ثلاث كنائن (2) لهم، فالعرب، و الروم، و فارس و أصناف العجم ولد سام، و السودان و الحبش و الزنج و أمثالهم ولد حام، و الترك و الصين و الصقالبة و يأجوج و مأجوج ولد يافث.

قوله: [وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها] أي قال نوح لأهله و قومه: اركبوا في السفينة متبرّكين [بِسْمِ اللَّهِ أو قائلين: بسم اللّه وقت إجرائها و حركتها و وقت إرسائها و ثبوتها. و قيل: كانوا إذا أرادوا أن تجري السفينة قالوا: بسم اللّه جرت، و إذا أرادوا أن تقف السفينة قالوا:

بسم اللّه فوقفت.

[إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ هذا القول حكاية عمّا قاله نوح لقومه. و وجه اتّصالها بما قبلها: لمّا ثبت النجاة بالسفينة ذكرت النعمة بالمغفرة و الرحمة.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 42 الى 43]

وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)

المعنى: إنّ السفينة كانت تجري بنوح و من معه على الماء في أمواج كالجبال في

ص: 314


1- النحل: 51.
2- جمع الكن بالفتح: امرأة الابن.

عظمها. و ارتفاعها و من التشبيه تبيّن أنّ الموج لم يكن واحدا بل كان كثيرا. و روي أنّ الماء ارتفع فوق كلّ جبل عال ثلاثين ذراعا. و قيل: إنّ السفينة سارت لعشر مضين من رجب، فسارت ستّة أشهر، فطافت الأرض كلّها لا تستقرّ في موضع حتّى أتت الحرم فطافت بموضع الكعبة اسبوعا، ثمّ سارت بهم حتّى انتهت إلى الجوديّ. و من المعلوم أنّ الأمواج العظيمة في البحر لا تحدث إلّا بعد هبوب رياح عاصفة، و حدوث هول عظيم و الفزع. ثمّ [نادى نُوحٌ ابْنَهُ يا بنيّ [وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ من السفينة و إنّه كان يظنّ أنّ الجبل يمنعه عن الغرق. و قيل: إنّه كان بمعزل أي في معزل من الكفّار، و إنّه انفرد عنهم. فظنّ نوح أنّ ذلك إنّما كان لأنّه أحبّ مفارقتهم فطمع في إيمانه و ركوبه معه، و لهذه الجهة ناداه، و إلّا لما قال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (1) كيف يناديه مع كفره؟ بل قيل: إنّه كان ينافق أباه فظنّ نوح أنّه مؤمن و لو لا ذلك لما أحبّ نجاته.

و القول الصحيح أنّه كان ابن امرأته (2)، و يروى أنّ عليّا عليه السّلام قرأ: و نادى نوح ابنها. قال الباقر عليه السّلام: إنّه كان ابن امرأته. قال قتادة: سألت الحسن البصريّ عنه فقال: و اللّه ما كان ابنه، فقلت إنّ اللّه حكى عنه قال: إنّ ابني من أهلي و أنت تقول: ما كان ابنا له؟ فقال الحسن: لم يقل: إنّه منّي و لكنّه قال: من أهلي و هذا يدلّ على قولي و ابن المرأة يدعى بالابن.

و بالجملة فأجابه ابنه فقال: سأرجع و أستقرّ إلى جبل يمنعني من الماء. قال نوح:

[لا عاصِمَ و لا مانع و لا دافع اليوم من عذاب اللّه إلّا من رحمه اللّه بإيمانه فآمن باللّه يرحمك، فما قبل قول نوح [وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فصار كنعان و قيل: اسمه يام [مِنَ الْمُغْرَقِينَ .

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 44]

وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)

قال اللّه للأرض: انشفي ماءك الّذي نبعت به العيون، و اشربي ماءك حتّى لا يبقى على وجهك شي ء منه. و هذا إخبار عن ذهاب الماء عن وجه الأرض بأوجز مدّة فجرى مجرى

ص: 315


1- نوح: 27.
2- رواه القمي في تفسيره عن العلاء عن الصادق عليه السّلام.

أن قيل لها: ابلعي فبعلت و قال اللّه للسماء: أمسكي عن المطر و هذا إخبار عن إقشاع السحاب في أسرع زمان فكأنّه قال: له أقلعي فأقلعت.

و المقصود من هذا الكلام وصف آخر لمّا انتهى الطوفان، بلع الماء إذا شربه دفعة من غير تروّ، و بلع الطعام إذا لم يمضغه، و أقلع الرجل عن عمله إذا كفّ و أمسك عن شغله، و غاض الماء إذا نقص، لازم متعدّ. و «الغيض» النقص الّذي ما بقي منه شي ء.

و هذه الآية مشتملة على عظمة اللّه و كبريائه غاية فقوله: «قيل» يدلّ على أنّه سبحانه في القدرة بحيث إنّه متى قيل: «قيل» لم ينصرف العقل إلّا إليه و لم يتوجّه الفكر إلّا إلى أنّ ذلك القائل هو هو. و هذا البيان تقرير في العقول أنّه لا حاكم في العوالم العلويّ و السفلي إلّا هو و قوله: [يا أَرْضُ فإنّ الحسّ يدلّ على عظمة هذه الأجسام و شدّتها و قوّتها فإذا شعر العقل بوجود قاهر لهذه الأجسام يتصرّف فيها فصار ذلك البيان لوقوف القوّة العقليّة على كمال قوّة الجلال و علوّ قهره و مشيئته سبحانه.

ثمّ إنّ السماء و الأرض من الجمادات فقوله: «يا أرض» و «يا سماء» مشعر بحسب الظاهر على أنّ أمره نافذ في الجمادات. فلأن يكون أمره نافذا على العقلاء كان أولى.

فإن قيل: كيف يليق بحكمة اللّه أن يغرق الأطفال بسبب جرم الكفّار؟

فالجواب أنّ كثيرا من المفسّرين يقولون: إنّ اللّه أعقم أرحام النساء أربعين سنة، فلم يغرق إلّا من بلغ أربعين سنة فما فوق.

فلو قيل: فما قولكم في إهلاك الطير و الوحش مع أنّه لا تكليف عليها؟ فالجواب على مذهب الأشاعرة: لا اعتراض على فعله، لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون. و على مذهب المعتزلة و العدليّة. ذلك يجري مجرى ذبح البهائم و إعمالها في الأعمال الشاقّة؛ و اللّه يعوّضهن عوض ألم الذبح و الغير بأنواع اللذّة على حسب مراتبها بنوع يتداركه، و كذلك القول في الأطفال.

قوله: [وَ قُضِيَ الْأَمْرُ] أي وقع الهلاك على القوم و استقرّت السفينة على الجبل المعروف بالجوديّ. و قيل: الجوديّ اسم لكلّ جبل. قال الزجّاج: هو لناحية أسل. و

ص: 316

قيل: بقرب الموصل. و في كتاب النبوّة مسندا إلى أبي بصير عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام قال: كان نوح لبث في السفينة ما شاء اللّه و كانت مأمورة فخلّى سبيلها؛ فأوحى اللّه إلى الجبال أنّي واضع سفينة نوح على جبل منكنّ، فتطاولت الجبال و شمخت و تواضع الجوديّ و هو جبل بأرض الموصل فضرب جؤجؤ السفينة الجبل فقال نوح عند ذلك: يا ماريا أتقن و هو بالعربيّة يا ربّ أصلح. و في رواية اخرى يا رهمان اتقن و تأويله: يا ربّ أحسن. قيل:

و أرسلت السفينة على الجوديّ شهرا و كان ذلك اليوم عاشوراء.

[وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي قال اللّه: و أبعد اللّه الظالمين من رحمته. أو قال نوح أبعد اللّه الظالمين من رحمته، أو قالت الملائكة هذا الكلام.

و لا يخفى على ما قال أهل الفصاحة من الفصاحة في هذه الآية من حسن تقابل المعنى و ائتلاف الألفاظ و لطف البيان و الإيجاز من غير إخلال و غير ذلك ممّا يعرفه أهل الأدب و من له معرفة بكلام العرب و محاوراتهم في الدواوين.

و يروى أنّ كفّار قريش أرادوا في وقت أن يتعاطوا معارضة القرآن؛ فعكفوا على لباب البرّ و لحوم الضأن و سلاف الخمر (1) أربعين صباحا لتصفو أذهانهم؛ فلمّا أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية. فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبهه شي ء من الكلام و ليس كلام المخلوق و تركوا ما أخذوا فيه فافترقوا.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 45 الى 47]

وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)

المعنى: [نادى نُوحٌ رَبَّهُ إنّك وعدتني و أهلي بالنجاة فقال سبحانه: [إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الّذين وعدتك أن انجيهم معك؛ لأنّه ليس من أهل دينك؛ فالآية تدلّ على أنّ العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب؛ لأنّه نفاه اللّه بأبلغ الألفاظ بقوله: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ

ص: 317


1- بالضم ما سال قبل عصر العنب و هو أفضل الخمر.

أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» و قرئ «إنّه عمل غير صالح» على صيغة فعل الماضي. و «غير» منصوب و نعت لمصدر محذوف أي إنّ ابنك عمل عملا غير صالح، و هذا غلط؛ لأنّه يمتنع أن يقع على الأنبياء شي ء من القبائح و هذا السؤال قبيح. و اختار المرتضى رحمه اللّه أنّه ذو عمل غير صالح كقول الخنساء: «فإنّما هي إقبال و إدبار» أي هي ذات إقبال و ذات إدبار.

فإن قيل: فلم قال سبحانه: [فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و كيف قال نوح [رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ؟

قال: لا يمتنع أن يكون نهى عن سؤال ما ليس لك به علم و إن لم يقع ذلك منه و أن يكون تعوّذ من ذلك و إن لم يوقعه كما نهى اللّه عن الشرك في قوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (1) و إن لم يجز وقوع ذلك منه و إنّما سأل نوح نجاة ابنه بشرط المصلحة لا على سبيل القطع. و قوله: [إِنِّي أَعِظُكَ و أحذّرك [أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي إنّي أعظك لئلّا تكون من الجاهلين.

و قيل في معنى «إنّه عمل غير صالح»: الضمير يرجع إلى ابن نوح كأنّه جعل عمل غير صالح للمبالغة كما يجعل الشي ء الشخص لكثرة ذلك منه كقولهم: الشعر زهير، من كثرة حذقه بالشعر.

و قوله: [وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ و إنّما قال ذلك على سبيل التخشّع و الاستكانة للّه و إن لم يسبق منه ذنب؛ لأنّه دلّت الدلائل الكثيرة بل ضرورة الإسلام عندنا أن ننزّه الأنبياء عن المعصية صغيرة كانت أم كبيرة، و حصول العقاب و الأمر بالاستغفار لا يدلّ على سابقة الذنب كما قال تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ* وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ» (2) و معلوم أنّ مجي ء نصرة اللّه و الفتح و دخول الناس في دين اللّه أفواجا ليست بذنب يوجب الاستغفار؛ و قال: في موضع آخر: «وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» (3) و ليس جميعهم مذنبين.

ص: 318


1- الزمر: 65.
2- الفتح: 1- 3.
3- محمّد: 19.

و الحاصل أنّه تعالى لمّا نهاه عن ذلك السؤال بقوله: «فلا تسألن ما ليس لك به علم» قال نوح: «ربّ إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به و إلّا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين» فقال نوح: عند ذلك قبلت يا ربّ هذا التكليف و لا أعود إليه إلّا أنّي لا أقدر على الاحتراز منه إلّا بإعانتك و هدايتك؛ فقال: في الابتداء: إنّي أعوذ بك أن أسألك في المستقبل ما ليس لي به علم أي لا أعود لمثل هذا، ثمّ اشتغل بالاعتذار عمّا مضى فقال:

«وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» و قد حصلت حقيقة التوبة من غير ذنب، و هذا معنى: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

و من غيرنا من نسب هذه الزلّة إلى نوح و حاشا منه لم ينصبه إلى معصية بل قال:

إنّه أخطأ في اجتهاده حيث ظنّ أنّ ابنه مؤمن كما أنّهم قالوا: إنّ آدم أخطأ في ظنّه بإبليس أنّه لم يقسم على اللّه كذبا.

قوله: [سورة هود (11): آية 48]

قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)

ثمّ بعد ما استقرّت السفينة على الجبل بعد خراب الدنيا بالطوفان امر نوح و قومه بالخروج من السفينة و الهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية و وعده اللّه بالسلامة و البركة؛ لأنّ ذلك الغرق لمّا كان عامّا في جميع الأرض و أنّه ما كان في الدنيا شي ء ينتفع به نوح بشّره اللّه بالبركة و السلامة حتّى يستقرّ قلبه، و يعلم حصول السلامة من الآفات.

و «البركة» هي الثبات و الدوام مأخوذ من بروك الإبل و منه البركة لثبوت الماء فيها. و من البركة الحاصلة لنوح أنّ اللّه جعله آدم الأصغر و أبا البشر؟ لأنّ الخلق كلّهم من نسله لأنّه على قول من قال: إنّه ما كان في السفينة من البشر غير أولاده قالوا: لم يبق منهم ذرّيّة و أنّ من بقي من أولاد نوح و الدليل عليه قوله: «وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» (1) فهذا هو المراد من البركات.

قوله: [وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي الأمم الّذين كانوا معه في السفينة. و «الامّة» الجماعة المتّفقة على ملّة واحدة. و قيل: معناه: يعني بالأمم الّذين معه سائر الحيوان الّذين

ص: 319


1- الصافات: 77.

معه في السفينة بأن يزودون في الدنيا و يكثرون كالأوّل.

قوله: [وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أي من نسلهم سنمتّعهم في الدنيا بضروب النعم فيكفرون و نهلكهم [ثُمَّ يَمَسُّهُمْ بعد الهلاك بسبب كفرهم [عَذابٌ مولم. و إنّما ارتفع في قوله «و امم» لأنّه استأنف الإخبار عنهم.

ثمّ أشار سبحانه بقوله:

[سورة هود (11): آية 49]

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

فأشار و قال: تلك الأنباء من أخبار ما غاب عنك معرفتها. و لو قال ذلك بالتذكير جاز لأنّ المصادر يكنى عنها بالتذكير و التأنيث يقال: قدوم فلان فرحت بها و فرحت به أي بقدمته و بقدومه و هذه الأخبار الّتي أخبرناكها لم تكن تعلم و كذلك قومك لم يكونوا يعلمون من قبل إيحائنا؛ لأنّهم لم يكونوا أهل كتاب و سرّ من قبل هذا القرآن.

[فَاصْبِرْ] على القيام بأمر اللّه و على أذى قومك يا محمّد صلى اللّه عليه و آله كما صبر نوح على أذى قومه. و هذا أحد الوجوه الّتي لأجلها كرّر اللّه قصص الأنبياء ليصبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله على ما يقاسي من الكفّار و الجهلة [إِنَّ الْعاقِبَةَ] المحمودة و النصرة [لِلْمُتَّقِينَ كما كانت لنوح.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 50 الى 55]

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلا تَعْقِلُونَ (51) وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)

مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55)

هذا هو القصّة الثانية في هذه السورة عطف إلى قوله: «و لقد أرسلنا نوحا» أي و لقد أرسلنا [إِلى قوم عاد أخاهم في النسب لا في الدين [هُوداً] لأنّ هود كان رجلا من قبيلة عاد و هي قبيلة من العرب و كانوا بناحية اليمن، و هذه العبارة مصطلحة يقال: يا أخا تميم، و يا أخا سليم.

ص: 320

ثمّ حكى سبحانه عن هود ما قال لهم و أمرهم:

الأوّل أنّه أمرهم بالتوحيد و نهاهم عن عبادة غيره [إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم إلّا كاذبون في قولكم: إنّ الأصنام آلهة [يا قَوْمِ لست أطلب منكم على دعوتي لكم بعبادة اللّه جزاء، ليس جزائي إلّا على الّذي خلقني [أَ فَلا تَعْقِلُونَ و تتعقّلون أنّ الأمر ما أقوله.

و الأمر الثاني الّذي أمرهم هود: دعاهم إلى الاستغفار ثمّ إلى التوبة أي سلوه سبحانه أن يغفر لكم ما قدّمتم من شرككم، ثمّ ارجعوا إليه بعد الندم؛ إنّكم متى ما فعلتم ذلك فاللّه تعالى يكثر النعم. و إنّما يحصل تكثير النعم في الدنيا بالأمطار؛ لأنّ الأمطار الموافقة مادّة النعم [وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي مع أنّكم متبرّزون و معروفون بالقوّة تزداد قوّتكم. و كانوا صاحب بساتين خصبة مونقة طيّبة لأنّ هذين الحالين كانوا طالبين لأنّ اللّه لمّا بعث هودا عليه السّلام إليهم و كذّبوه حبس اللّه عنهم المطر سنين، و أعقم أرحام نسائهم، فوعدهم هود بأن إذا آمنوا تنعكس القضيّة فقالوا:

[يا هُودُ ما جِئْتَنا] بحجّة واضحة- و قد أظهر المعجزات إلّا أنّ القوم بجهلهم أنكروها- و لسنا بتاركين عبادة أصنامنا لأجل قولك. و معنى «عن» هاهنا معنى الباء [وَ ما نَحْنُ لَكَ .

بمصدّقين في شي ء ممّا تأتي به من التوحيد و ترك عبادة الأصنام- و في هذه العبارة دلالة على شدّة الشكيمة و العتوّ- و لو لا تقول إلّا قولنا أصابك بعض آلهتنا بجنون و تغيّر مزاج بسبّك إيّاها و صدّك عن عبادتها و حطّك لها عن رتبة الألوهيّة.

و بالجملة زعموا بيانات هود من جملة الخرافات فضلا عن أن يصدّقوا بقوله. أي لا نعدّ كلامك إلّا من الهذيانات الصادرة من المجانين.

و قد سلكوا في طريق المخالفة و العناد إلى سبيل الترقّي من الأدنى إلى الأعلى حيث أخبروا بالأوّل أنّ ما جئتنا ليست بحجّة واضحة ثمّ بعد هذا البيان تركوا الامتثال بقولهم: [ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ و نفوا تصديق قوله، ثمّ نسبوه إلى الجنون.

قال هود لقومه: [إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا] أي أشهدكم بعد إشهاد اللّه [أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ أي أنا بري ء من أصنامكم الّذي تعبدونها و تزعمون أنّها عاقبتني لطعني عليها. و إنّما أشهدهم على ذلك و إن لم يكونوا من أهل الشهادة من حيث

ص: 321

إنّهم كانوا كفّارا فسّاقا إقامة للحجّة عليهم لا لتقوم الحجّة بهم.

[فَكِيدُونِي جَمِيعاً] و احتالوا و اجتهدوا أنتم و آلهتكم في إنزال مكروه بي ثمّ لا تمهلوني. قال الزجّاج: و هذا من عظيم الآيات أن يكون الرسول وحده و امّته متهاونة عليه فيقول لهم: «فكيدوني» و لا يستطيع واحد منهم ضرّه، و كذلك نوح عليه السّلام قال مثل هذه الكلمة لقومه حيث قال: «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ» (1) و قال نبيّنا صلى اللّه عليه و آله: «فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ» (2) و لا يصدر هذا الكلام إلّا ممّن يكون واثقا بنصر اللّه.

ثمّ قال هود:

[سورة هود (11): الآيات 56 الى 60]

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (57) وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

قوله تعالى: [ما مِنْ دَابَّةٍ] و ذي حياة يدبّ على وجه الأرض إلّا و اللّه مالك لها.

و جعل الأخذ بالناصية كناية عن القهر و القدرة لأنّ من أخذ بناصية غيره فقد قهره و أذلّه و مع كونه تعالى قاهرا يعدل و لا يجور و صراطه عدل مستقيم لا عوج فيه.

قوله: [فَإِنْ تَوَلَّوْا] يمكن أن يكون حكاية عن قول هود فالمعنى: فإن تتولّوا أنتم. و يجوز أن يكون قول اللّه أي فإن تولّوا هم فقل لهم: [فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ .

و ليس لتقصير منّي في إبلاغكم و إنّما هو لسوء اختياركم في إعراضكم عن نصحي [وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ و يهلككم ربّي بكفركم و يستبدل قوما غيركم يوحّدونه و لا ضرر يترتّب عليه في إهلاككم [إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ] يحفظه من الهلاك

ص: 322


1- يونس: 71.
2- المرسلات: 39.

إن شاء و يهلكه إذا شاء. و قيل: معناه: إنّ ربّي يحفظني عنكم و عن أذاكم و حفيظ من أعمال عباده يجازيهم عليها.

[وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا] بهلاك عاد [نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ من الهلاك قيل: إنّهم كانوا أربعة آلاف [بِرَحْمَةٍ مِنَّا] بما أريناهم من الهداية [وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ] أي من عذاب الثقيل العظيم في الآخرة. و يحتمل أن يكون المراد من عذاب الدنيا الّذي عذّب به قوم هود.

ثمّ ذكر سبحانه كفر قوم عاد فقال: [وَ تِلْكَ أي تلك القبيلة [جَحَدُوا] معجزات الدالّة على صحّة نبوّة هود و عصوا رسله. و إنّما جمع الرسل مع أنّه بعث إليهم هودا؛ لأنّ من كذّب رسولا واحدا فقد كذّب جميع الرسل؛ لأنّ جميع الرسل يدعون الناس إلى الإيمان باللّه و بما أنزل إليهم من الكتب فلذلك فقد عصوهم و اتّبع السفلة و إسقاط الرؤساء الّذين يقتلون و يضربون على غضبهم و المعاندين في الدين.

قوله: [وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ] رديفا لهم و متابعا في الدنيا و الآخرة أي الأبعاد من الرحمة و من كلّ خير [أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا] بنعمة [رَبَّهُمْ فحذف الباء كما في قوله: «أمرتك الخير» أي بالخير [أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ] من الرحمة. و إنّما فسّر بآخر الآية بكلمة «قوم هود» لأنّ عادا عادان: القديمة و هو قوم هود، و الثانية عاد إرم ذات العماد؛ فذكر ذلك لإزالة الاشتباه.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 61 الى 63]

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)

عطف على قوله تعالى: «وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ» و أرسلنا إلى قوم ثمود أخاهم صالحا.

سمّوا باسم أبيهم الأكبر و هو ثمود بن غابر بن إرم بن سام بن نوح، أو أنّهم سمّوا بذلك

ص: 323

لقلّة مائهم من «الثمد» و هو الماء القليل من نزّ الأرض.

و هذا هو القصّة الثالثة في هذه السورة، فأمرهم بالتوحيد، و منعهم عن عبادة الأصنام و ذكر عليه السّلام في تقريره دليلين:

الأوّل: [هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ لأنّكم من صلب آدم و هو مخلوق من الأرض، أو الإنسان مخلوق من النطفة و هي تتولّد من الأغذية، و مادّتها من الأرض. و قيل: «من» هاهنا بمعنى في الأرض و هذا بعيد.

الدليل الثاني قوله: [وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها] أي جعلكم عمّار الأرض و مكّنكم من عمارتها، أو المعنى أطال أعماركم و كانت أعمارهم من الألف إلى ثلاثمائة سنة.

ليس الفتى بفتى لا يستضاء به و لا يكون له في الأرض آثار

[فَاسْتَغْفِرُوهُ من الشرك و الذنوب. ثمّ دوموا على التوبة [إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ برحمته [مُجِيبٌ لمن دعاه. [قالُوا يا صالِحُ قبل ذلك كنّا نرجو منك الخير، فالآن قد يئسنا منك و من خيرك بهذا القول، و كنّا نظنّ بك عونا لنا في ديننا. و قالوا على سبيل الإنكار:

[أَ تَنْهانا]؟ كأنّهم أنكروا أن ينهى الإنسان عن عبادة ما عبده آباؤه.

[وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من الدين شكّ موجب للتهمة و الريب؛ لأنّ آباءنا لم يكونوا في جهالة و ضلالة. و الفرق بين الشكّ و الريب أنّ الشاكّ متوقّف بين النفي و الإثبات و المريب هو الّذي يظنّ به السوء أي نرجّح في اعتقادنا فساد قولك.

قال صالح: [يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني [إِنْ كُنْتُ يعني قدّروا و افرضوا إن كنت في الحقيقة على حجّة ظاهرة و نصرة من ربّي [وَ آتانِي من قبله سبحانه نبوّة فخالفت نبوّته و عصيته فعذّبني من ينصرني منه؟ و إنّما أورد كلامه بحرف الشكّ و هو قوله:

«إن كنت» مع أنّه عليه السّلام كان على يقين من أمره؛ لأنّ خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب للقبول و الإلزام.

ثمّ قال في هذه الصورة: [فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ] يعني تخسرون أعمالي و تبطلونها.

ص: 324

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 64 الى 65]

وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)

قد جرت العادة لمن يدّعي النبوّة بأن يأمرهم بعبادة اللّه، و لا بدّ أنّ قومه يطلبون منه المعجزة. يروى أنّ قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية و أن يخرج لهم من صخرة معيّنة أشاروا إليها ناقة؛ فدعا صالح ربّه فخرجت الناقة كما سألوه. و هي كانت معجزة من وجوه: كونها من صخرة، و خلقها من جوف الجبل، ثمّ شقّ عنها الجبل، و حامل من غير ذكر، و خلقها بتلك الصورة من غير ولادة و لها شرب يوم و للقوم كلّهم شرب يوم، و يحصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم و كلّ واحد من هذه الوجوه معجزة قويّ.

ثمّ قال عليه السّلام: [فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ و رفع عن القوم مؤونتها فصارت تنفع و لا تضرّهم، و كان عليه السّلام يخاف من إقدامهم على قتلها بسبب إخفاء هذه المعجزة فلهذا احتاط و قال لهم: [وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ] و توعّدهم في وقوع مسّ السوء بعذاب قريب و مع ذلك عقروها لإبطال الحجّة و لأنّها ضيّقت الشرب على القوم و رغبوا في شحمها و لحمها.

فلمّا عقروها قال: تلذّذوا بالمنافع في دنياكم ثلاثة أيّام من غير كذب واقع بكم العذاب بعد المدّة لا محالة- و المصدر يقع بلفظ المفعول كالمجلود و المفتون- فلمّا كان اليوم الرابع أتتهم الصيحة و الصاعقة.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 66 الى 68]

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)

[فَلَمَّا جاءَ] أمر العذاب [نَجَّيْنا صالِحاً] و المؤمنين معه بسبب [رحمة منا] للمؤمنين و نجّيناهم من الخزي و العار الّذي لزمهم ذلك اليوم و ظهر فضيحته [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُ الغالب على ما يشاء [الْعَزِيزُ] الّذي لا يمتنع عليه شي ء [وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ] قيل: إنّ اللّه أمر جبرئيل فصاح بهم صيحة فماتوا عندها. و يجوز أنّ اللّه خلق تلك الصيحة فماتوا عند

ص: 325

الصياح فأصبحوا في منازلهم ميّتين واقعين على وجوههم أو قاعدين على ركبهم.

و إنّما قال: [فَأَصْبَحُوا] لأنّ العذاب أخذهم عند الصباح [كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها] أي كأن لم يكونوا في تلك المنازل قطّ لانقطاع آثارهم بالهلاك إلّا ما بقي من أجسادهم الدالّة على الخزي. [أَلا إِنَّ ثَمُودَ] بكفرهم نالوا هذا العذاب، و بعدا لهم.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 69 الى 73]

وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)

هذا هو القصّة الرابعة في هذه السورة.

قال النحويّون: دخلت «قد» هاهنا لأنّ السامع للقصّة يتوقّع قصّة بعد قصّة و «قد» للتوقّع، و دخلت اللام للتأكيد في الخبر و «رسلنا» جمع و أقلّه ثلاثة، و كانوا جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و قيل: أربعة و الرابع كرّوبيل. و قيل: اثنا عشر بصورة الغلمان الحسنة.

[بِالْبُشْرى و البشارة فأبشره اللّه بعد ذلك بقوله: «فبشّرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب» و قيل: المراد بالبشارة سلامة لوط و بإهلاك قومه.

و أمّا قوله: [قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ و قرئ «سلم» بكسر السين و بكون اللام بغير ألف؛ قال الفرّاء: لا فرق بين القراءتين كما قالوا: حلّ و حلال لأنّ في التفسير: أنّهم لمّا جاءوا سلّموا عليه. و قيل: المراد بالسلم خلاف العدو و الحرب، و على قراءة المشهور «قالوا سلاما» أي سلّمنا عليك سلاما قال إبراهيم: سلام، تقديره: أمري سلام و لست مريدا غير السلامة. أو المراد: سلام عليكم، و حذف الخبر كما حذف من قوله: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ»* (1) أجمل و يحسن هذا الحذف إذا كان المقصود معلوما بعد الحذف و نظيره قوله تعالى: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ» (2) على حذف الخبر. و اعلم أنّه إنّما سلّم بعضهم على بعض لقوله تعالى: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً

ص: 326


1- يوسف: 18.
2- الزخرف: 89.

غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها» (1) و أكثر ما يستعمل سلام عليكم بغير الألف و اللّام.

فإن قيل: كيف جاز جعل المبتدأ نكرة. فالنكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدءا فالتنكير في هذا الموضع أتمّ و أكمل فكانّه قيل: سلام كامل شامل تامّ عامّ عليكم نظيره «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (2) و أمّا مع الألف و اللّام فصحيح كقوله: «وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (3) و المراد مع الألف و اللّام الماهيّة و الحقيقة؛ فحينئذ بدون الألف و اللام يفيد الكمال و المبالغة، و مع الألف و اللام لا يفيد إلّا الماهيّة.

قوله: [فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ] قالوا: مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتمّ لذلك، ثمّ جاءه ملائكة فرأى أضيافا لم ير مثلهم فجعل فما لبث في المجي ء به.

و «الحنيذ» هو الّذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة، و هو من فعل أهل البادية و أصله محنوذ مثل طبخ و مطبوخ: و قيل: «الحنيذ» الّذي يقطر دسمه عرقا و مرقا.

[فَلَمَّا رَأى إبراهيم [أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إلى العجل استنكرهم [وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً].

أي أضمر منهم خوفا. و اختلف في سبب الخوف فقيل: إنّه لمّا رآهم شبّانا أقوياء و كانوا نازلين بطرف من المكان، و امتنعوا من تناول الطعام لم يأمن أن يكون ذلك لبلاء؛ و ذلك لأنّ أهل ذلك الزمان إذا أكل بعضهم طعام بعض أمنه صاحب الطعام على نفسه و ماله، و كذلك كان يقال: تحرّم فلان بطعامنا أي أثبت الحرمة بأكله الطعام.

و قيل: إنّ سبب خوف إبراهيم أنّه ظنّ أنّهم ليسوا من البشر و أنّهم جاءوا لأمر عظيم فخاف أن يكون قومه المقصودين بالعذاب حتّى [قالُوا] له [لا تَخَفْ يا إبراهيم [إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ] بالإهلاك قيل: إنّ إبراهيم ما عرفهم أنّهم الملائكة. و قيل: عرفهم لكن ما عرف أنّهم لأيّ أمر أتوا فكان خوفه من هذه الجهة. و الصحيح أنّه ما عرفهم أنّهم من الملائكة.

ص: 327


1- النور: 27.
2- يس: 58.
3- طه: 49.

[وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ هي سارة بنت آزر بن باحورا بنت عمّ إبراهيم عليه السّلام.

و قوله: «قائمة» من وراء الستر تستمع إلى الرسل. و اختلفوا في الضحك: منهم من حمله على نفس الضحك و منهم من حمل على الطمث أي حاضت لشدّة سرورها. و قيل: ضحكت سرورا من البشارة بإسحاق لأنّها قد هرمت و هي ابنة ثمان و تسعين سنة، و كان قد شاخ زوجها و كان ابن تسع و تسعين أو مائة سنة أو مائة و عشرين سنة و لم يرزق لهما ولد في حال شبابهما. فعلى هذا المعنى يكون في الكلام تقديم و تأخير.

و تقديره [فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ بابن يسمّى إسحاق و من بعد [إِسْحاقَ يَعْقُوبَ - قيل:

معنى «و من وراء إسحاق يعقوب» الوراء ولد الولد- فضحكت بعد البشارة [قالَتْ سارة [يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ] و لم ترد بهذه الكلمة الدعاء على نفسها بالويل و لكنّها كلمة تجري على أفواه النساء إذا طرأ عليهنّ ما يتعجّبن [وَ هذا] الّذي تعرفونه [بَعْلِي شَيْخاً إِنَ هذه البشارة لأمر [عجيب .

قالت الملائكة لها حين تعجّبت من أن تلد بعد الكبر: [أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ من أن يفعل بك و بزوجك كذلك و ليس هذا موضع تعجّب لأنّ التعجّب إنّما يكون من الأمر الّذي لا يعرف سببه، و نعمة اللّه و كثرة خيراته النامية الباقية عليكم. و يحتمل أن يكون دعاء لهم بالرحمة و البركة من اللّه.

فقالوا: [رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ يا [أَهْلَ الْبَيْتِ كما يقال: أ تتعجّب من هذا بارك اللّه لك أو يرحمك اللّه. روي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرّ بقوم فسلّم عليهم فقالوا: و عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته و مغفرته و رضوانه. فقال عليه السّلام: لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم: «رحمة اللّه و بركاته عليكم أهل البيت».

[إِنَّهُ حَمِيدٌ] أي محمود في أفعاله [مَجِيدٌ] أي مبتدئ بالعطيّة قبل الاستحقاق أو المعنى واسع القدرة و النعمة. روي أنّ سارة قالت لجبرئيل: ما آية ذلك فأخذ بيده عودا يابسا فلوّاه بين أصابعه فاخضرّ.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 74 الى 76]

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

ص: 328

قوله: [فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ و الخوف و الفزع الّذي دخله من الرسل [وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى بالولد [يُجادِلُنا] أي يجادل رسلنا و يسألهم عن قوم لوط، و تلك المجادلة أنّه قال لهم: إن كان فيها خمسون من المؤمنين أ تهلكونهم؟ قالوا: لا قال: فأربعون؟

قالوا: لا. فما زال بنقص و يقولون: «لا» حتّى قال: فواحد؟ قالوا: «لا» فاحتجّ عليهم بلوط.

و أعلم أنّ هذه المجادلة من إبراهيم- و مقصوده منها التخفيف لهم في حكم العذاب- لاحتمال أن يتوبوا لا لكونه ما كان راضيا بقضاء اللّه و يطلب من الرسل مخالفة أمر اللّه، و الدليل عليه أنّه سبحانه مدحه عليه السّلام بقوله: [إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ و لو كان هذا الجدل غير هذا لما ذكر عقيبه ما يدلّ على المدح العظيم؛ أو كانت المجادلة بسبب مقام لوط فيهم.

و بالجملة لمّا رأى و علم أنّ مجي ء الملائكة لأجل إهلاك قوم لوط عظم حزنه بسبب ذلك و أخذ يتأوّه عليه فلذلك وصفه اللّه بهذه الصفة و وصفه بأنّه منيب و راجع إلى اللّه. فقالت الملائكة له: [يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذه المجادلة لأنّه [قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بإيصال العذاب بهم، و لا سبيل إلى دفعه عنهم و آتيهم العذاب لا محالة.

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 77]

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)

فانطلقوا الرسل من عند إبراهيم إلى لوط- و بين القريتين أربع فراسخ- و دخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، و كانوا في غاية الحسن و لم يعرف لوط أنّهم من الملائكة و ظنّ أنّهم من الإنس فخاف عليهم خبث قومه و أيضا ساءه مجيئهم لأنّه ما كان يجد ما ينفقه عليهم و أيضا ساءه لأنّ قومه منعوه من إدخال الضيف داره.

[وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً] الذراع يوضع موضع الطاقة و الأصل في معناه أنّ البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوته فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فضعف و مدّ عنقه؛ فيقال: ما لي به ذرع أي ما لي به طاقة. و قال: إنّ هذا اليوم عصيب عليّ

ص: 329

أي شديد و «العصيب» الشديد في الشرّ خاصّة و أصله من الشدّ قال الراجز:

يوم عصيب يعصب الأبطالاعصب القويّ سلّم الطوالا.

و حاصل المعنى: أي يوم شديد التفّ الشرّ فيه بالشرّ. و إنّما قال ذلك لأنّه لم يعلم أنّهم رسل اللّه و خاف من قومه أن يفضحوهم.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 78 الى 83]

وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

المعنى: لمّا دخلت الملائكة دار لوط قال الصادق عليه السّلام: جاءت الملائكة لوطا و هو في ذرعه قرب القرية فسلّموا عليه، و رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض و عمائم بيض، فقال لهم: المنزل؛ فتقدّمهم و مشوا خلفه. فقال لوط في نفسه: أيّ شي ء صنعت إذا آتي بهم قومي و أنا أعرفهم فالتفت و قال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه فقال جبرئيل: هذه واحدة- و كان قد قال اللّه لجبرئيل: لا تهلكهم حتّى يشهد عليهم ثلاث مرّات- ثمّ مشى لوط و التفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه. فقال جبرئيل هذه ثنتان. ثمّ مشى فلمّا بلغ باب المدينة التفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه. فقال جبرئيل:

هذه الثلاثة.

ثمّ دخل و دخلوا معه حتّى دخل منزله فلمّا رأتهم امرأة لوط رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخّنت- و هذه كانت علامة بينهم- فلمّا رأوا الدخان أقبلوا يسرعون بعدو و عجلة لطلب الفاحشة.

قوله: [وَ مِنْ قَبْلُ قيل: معناه من قبل بعثة لوط إليهم [كانُوا يَعْمَلُونَ الفواحش مع الذكور.

ص: 330

و لمّا رأى لوط أنّهم همّوا بأضيافه من قصد السوء و جاهروا بذلك عرض عليهم نكاح بناته. و اختلف في ذلك فقيل: أراد نكاح بناته لصلبه. و قيل: أراد النساء من امّته لأنّهنّ كالبنات له؛ فإنّ كلّ نبيّ أبو امّته و أزواجه امّهاتهم، و كان يجوز في شرعه تزويج المؤمنة من الكافر و كذلك كان يجوز أيضا في بدو الإسلام، و قد زوّج النبيّ صلى اللّه عليه و آله بنته من أبي العاص بن الربيع قبل أن يسلم ثمّ نسخ اللّه ذلك. و قيل: إنّه كان لهم سيّدان مطاعان فيهم فأراد أن يزوّجهما بنتيه اسمهما زعوراء و ريثاء.

و قال لهم: [فَاتَّقُوا] من عقابه من هذا العمل الخبيث و لا تلزموني عارا بالهجوم على أضيافي فإنّ الضيف إذا نزل به معرّة لحق عارها للمضيف [أَ لَيْسَ مِنْكُمْ و في جملتكم رجل يعرف الرشد و يعمل به و يزجر هؤلاء عن قبح فعلهم.

[قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ فجاوبوه قومه حين أمر نكاح البنات: [ما لَنا فِي بَناتِكَ من حاجة [وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ] و تعلم ميلنا إلى الغلمان دون النساء؛ فلمّا رأى لوط أنّ الموعظة لم يقبلوها تأسّف على عدم قدرة دفاعهم بأن قال: [لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً] و منعة و جماعة أتقوّى بها عليكم [أَوْ آوِي و أنضمّ إلى عشيرة منيعة تنصرني و لكن لا يمكنني أن أفعل كذلك.

فكابروه حتّى دخلوا البيت فصاح به جبرئيل أن يا لوط دعهم يدخلوا، فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم و هو قوله: [فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ .

و لمّا رأت الملائكة ما لقيه لوط من قومه [قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ أرسلنا لهلاكهم فلا تغتمّ به [لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ و لا ينالونك بسوء أبدا [فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ليلا [بِقِطْعٍ .

أي بظلمة من اللّيل أو بعد طائفة من اللّيل، أو نصفه و لا ينظر أحد منكم وراءه، أو المعنى لا يلتفت أحد منكم إلى ماله و متاعه بالمدينة. و قيل: إنّ معناه أنّهم أمروه أن لا يلتفتوا إذا سمعوا الوجبة و الهدّة [إِلَّا امْرَأَتَكَ قيل: إنّها التفتت حين سمعت الوجبة فقالت: يا قوماه فأصابها حجر فقتلها. و قيل: «إلّا امرأتك» أي لا تسر بها [إِنَّهُ مُصِيبُها] أي يصيبها من العذاب ما يصيبهم فأمروه أن يخلفها في المدينة.

[إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ لمّا أخبرت الملائكة لوطا بأنّهم يهلكون قومه قال لهم لوط:

أهلكوهم الساعة لضيق صدره عليهم فقالوا: إنّ موعد إهلاكهم الصبح [أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ

ص: 331

و إنّما قالوا هذه الكلمة تسلية له.

[فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا] بالعذاب [جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها] أي قلّبنا القرية أسفلها أعلاها؛ فإنّ اللّه أمر جبرئيل فأدخل جناحه تحت الأرض فرفعها حتّى سمع أهل السماء صياح الديكة و نباح الكلاب، ثمّ قلبها، ثمّ خسف بهم الأرض يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة.

[وَ أَمْطَرْنا] على القرية على الغائبين منها [حِجارَةً] و قيل: مطرت الحجارة على تلك القوية حين رفعها جبرئيل و إنّما أمطرت عليهم الحجارة بعد أن قلّبت قريتهم تغليظا للعقربة. و قيل: كانت أربع مدائن و هي المؤتفكات: سدوم، و عامورا، و ذادوما، و صبوايم و أعظمها سدوم كان يسكنها لوط و هي الأربعة كانت من الشامات. قوله: [مِنْ سِجِّيلٍ أي «سنگ و گل» المتصلّب بمرور الزمان. و قيل: «السجّيل» موضع الحجارة و هي جبال مخصوصة، و منه قوله: «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» (1) [مَنْضُودٍ] و النضد وضع الشي ء بعضه على بعض فعلى هذا يمكن أنّه سبحانه كان قد خلقها في معادنها و نضد بعضها فوق بعض و أعدّها لإهلاك الظالمين و [مُسَوَّمَةً] أي معلمة بعلامة كان عليها أمثال الخواتيم قال أبو صالح: رأيت منها عند امّ هاني حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع و قيل: مكتوب على كلّ حجر اسم من رمي به.

[وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] يعني به كفّار مكّة عن أنس أنّه قال: سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله جبرئيل عن هذه فقال: يعني عن ظالمي امّتك ما من ظالم منهم إلّا و هو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة، أراد بذلك إرهاب قريش. و قال قتادة: ما أجار اللّه منها ظالما بعد قوم لوط فكونوا منها على حذر. و ذكر أنّ حجرا بقي معلّقا بين السماء و الأرض أربعين يوما يتوقّع به رجلا من قوم لوط كان في الحرم حتّى خرج منها فأصابه. قال بعض المفسّرين: و كانوا أربعة آلاف ألف.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 84 الى 88]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (88)

ص: 332


1- النور: 43.

هذا هو القصّة السادسة في هذه السورة.

«مدين» اسم لابن إبراهيم، ثمّ صار اسما لقبيلة ثمّ صار اسما لمدينة بناها مدين ابن إبراهيم عليه السّلام و عادة الأنبياء كلّهم ان يشرعوا في أوّل الأمر بالدعوة إلى التوحيد.

المعنى: [وَ] أرسلنا [إِلى أهل [مَدْيَنَ أَخاهُمْ و نسيبهم؛ لأنّ شعيبا ابن ميكيل بن يشجر بن مدين جدّهم، و كان يقال له: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته و خطابته قومه.

[قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ .

ثمّ شرع في الأهمّ من الدعوة لأنّ المعتاد من أهل مدين البخس في المكيال و الميزان فدعاهم إلى ترك هذه العادة فقال: [وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ و النقص فيه على وجهين:

أحدهما الإيفاء من قبلهم فينقصون من قدره و الآخر أن يكون لهم الاستيفاء فيأخذون أزيد من المقدار، و في القسمين النقص في حقّ الغير. ثمّ قال لهم: [إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ] أي إذا لم تتركوا هذه العادة أراكم بزوال الخير و النعمة عنكم، أو المعنى أنّي أراكم بالخير الكثير و الخصب فلا حاجة لكم بالتطفيف، و أنّي أخاف عليكم عذابا يحيط بكم بحيث لا يخرج أحد منه، و المحيط في الظاهر صفة اليوم و في المعنى صفة العذاب.

ثمّ قال: [وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ و هذه الكلام الأوّل فما الفائدة في هذا التكرار؟ لأنّ القوم كانوا مصرّين على هذا العمل فاحتيج إلى التأكيد و المبالغة في المنع، و أمّا قوله تعالى ثالثا: [وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ليس بتكرير لأنّه تعالى نهى في المرّة الاولى عن التطفيف و التنقيص، و في آية الثانية أمر بالإيفاء على سبيل الكمال و التمام حتّى أنّه لا يحصل ذلك باليقين القطعيّ إلّا إذا أعطى قدرا زائدا على الحقّ لحصول البراءة، و في الآية الثالثة النهي عن التنقيص في كلّ الأشياء: لأنّ في العنوانين خصّوا بالمكيال و الميزان، و في الثالثة عمّ الأشياء فحينئذ لا تكرار.

قوله تعالى: [وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن قيل: «العثو» الفساد التامّ فقوله:

«وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» جار مجرى قوله: و لا تفسدوا في الأرض مفسدين؟ المراد من هذا البيان أنّ في البخس و التطفيف و عبادة غير اللّه فساد دينكم و دنياكم.

ص: 333

ثمّ قال: [بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ و قرئ «تقيّة اللّه خير لكم» أي تقواه خير لكم، المراد:

ما أبقى اللّه لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل و الوزن خير من البخس و التطفيف أي مال الحلال يبقى لكم من تلك الزيادة من التطفيف الحرام و حظّكم من ربّكم خير لكم؛ فإن حملنا البقيّة من موادّ امور الدنيويّة فواضح فإنّ الناس إذا عرفوا الإنسان بالأمانة و البعد عن الخيانة اعتمدوا عليه و رجعوا في المعاملات إليه فيفتح باب الرزق عليه، كما أنّه إذا عرفوه بالخيانة و التطفيف انصرفوا عنه فتضيق أبواب النعمة و الرزق عليه، و أمّا إذا حملنا هذه البقيّة على الأمور الاخرويّة من ثواب اللّه فالأمر ظاهر؛ لأنّ كلّ الدنيا يفنى و ينقرض و ثواب اللّه باق.

[إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و مقرّين بالثواب و العقاب [وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ] أي إنّي نصحتكم و أرشدتكم إلى الخير، و لا قدرة لي على منعكم، أو المعنى ما أنا بحافظ نعم اللّه عليكم إذا أراد أن يزيلها عنكم بمعصيتكم إيّاه فاطلبوا بقاء نعمته بطاعته، أو المعنى ما أنا بحافظ كيلكم و وزنكم حتّى توفّوا الناس حقوقهم و لا تظلموهم، و إنّما عليّ أن أنهاكم عنهم.

[قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا] و إنّما قالوا ذلك لأنّ شعيبا كان كثير الصلاة و كان يقول: إنّ الصلاة رادعة عن الشرّ ناهية عن الفحشاء و المنكر.

فقالوا: أ صلاتك الّتي تزعم أنّها تأمر بالخير و تنهى عن الشرّ أمرتك بهذا الأمر؟ و دينك يأمرك بترك دين السّلف؟ و كنّي عن الدين بالصلاة لأنّها من أجلّ امور الدين و إنّما قالوا ذلك على وجه الاستهزاء و أنّها كانت ضحكة لهم حين كان يصلّي [أو أَنْ نَتْرُكَ فعل ما نشاء في أموالنا من البخس و التطفيف [إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ] و إنّهم قالوا هذا القول على وجه الهزء و التهكّم و أرادوا به ضدّ ذلك أي السفيه الغاوي كما يقال للبخيل: لو رآك حاتم لسجد لك.

و قيل: إنّهم قالوا ذلك على وجه التحقيق أي إنّك الحليم في قومك و لا تعاجل العقوبة لمستحقّها و معروف عند الناس بالحكم و الرشد و مع ذلك كيف تنهانا عن دين أسلافنا و طريقة آبائنا؟ و يستبعد منك من حلمك و رشدك هذا الأمر.

ص: 334

قال شعيب: [يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ] و جواب الشرط محذوف يدلّ عليه فحوى الكلام و المعنى: أ تقولون في شاني ما تقولون، و نظمتوني في سلك السفهاء و الغواة و حسبتم ما صدر عنّي من الأوامر من قبيل ما لا يصلح أن يتفوّه به عاقل و جعلتموه من أقسام السفه و الجنون و استهزأتم بي حتّى قلتم ما قلتم؟ فأخبروني إن كنت على بيّنة [مِنْ .

جهة [رَبِّي ثابتا على النبوّة و الحكمة و رزقني بذلك رزقا حسنا هل تقولون ما تقولون أيضا؟ أو المعنى: أخبروني إن كنت على بيّنة و معجزة ممّا آتاني اللّه من العلم و الهداية و النبوّة [وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً]- لأنّه كان عليه السّلام كثير المال- فهل ينبغي و يجوز لي مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه و أخالفه في أمره و نهيه؟

قوله: [وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي أسبقكم إلى شهواتكم الّتي نهيتكم عنها و أريد أن أدخل فيه و إنّما أختار لكم ما أختاره لنفسي و ما أقصد بخلافكم إلى ارتكابه؛ قال الشاعر:

لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيما

[إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ و لست أريد إلّا إصلاح دينكم و دنياكم ما قدرت عليه و تمكّنت منه، و ليس توفيقي إلّا باللّه فلا يوفّق غيره بل بمعاونته سبحانه و نصرته [عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و تقديم الخبر يفيد الحصر أي لا ينبغي لأحد أن يتوكّل على أحد إلّا اللّه فأعظم مراتب معرفة المبدأ هو اللّه جلّ ذكره.

و أمّا قوله: [وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ إشارة إلى معرفة المعاد و هو أيضا يفيد الحصر و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إذا ذكر شعيب عليه السّلام قال: ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته في قومه.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 89 الى 95]

وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

ص: 335

المعنى: «جرم» مثل كسب يتعدّى إلى مفعول واحد و إلى مفعولين، و المراد أنّه قال لقومه: لا تكسبنّكم معاداتكم إيّاي [أَنْ يُصِيبَكُمْ عذاب الاستيصال في الدنيا [مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من عذاب الغرق، و لقوم هود عن الربح العقيم، و لقوم صالح من الرجفة، و لقوم لوط من الخسف.

و أمّا قوله: [وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ] المراد إمّا نفي البعد في المكان لأنّ قوم لوط قريبة من مدين، و إمّا نفي البعد في الزمان لأنّ إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات زمانا من زمان شعيب؛ فكأنّه قال: اعتبروا بأحوالهم و احذروا مخالفة اللّه [وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ .

عن عبادة الأوثان [ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بأوليائه [وَدُودٌ] محبّ لعباده.

[قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ لأنّهم كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدّة نفرتهم عن كلامه، أو أنّهم فهموه و لكنّهم ما أقاموا له وزنا فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بكلامه: ما أدري ما تقول. و المراد من الفقه الفهم أي ما نفهم [وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً] قيل: ضعيف البصر. و قيل: ضعيف البدن.

و قيل: أعمى- و كان أعمى- و حمير سمّى المكفوف ضعيفا كما قيل: ضرير أي ضرّ ببصره.

و قيل: معنى «ضعيفا» أي مهينا. و اختلف في أنّ النبيّ هل يجوز أن يكون أعمى: قيل:

لا، لأنّه يوجب النفرة. و قيل: يجوز كسائر الأمراض.

[وَ لَوْ لا رَهْطُكَ أي و لو لا حرمة عشيرتك و قومك لقتلناك بالحجارة، و قيل: لشتمناك و سببناك و لم ندع قتلك لعزّتك علينا، و لكن لأجل عشيرتك. و كان شعيب في عزّ من قومه و كان من أشرافهم.

[قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ أ عشيرتي و قومي أعظم حرمة عندكم من اللّه فتتركون أذاي لأجل قومي و اتّخذتم اللّه وراء ظهوركم و نسيتموه؟ و الضمير إلى اللّه أو

ص: 336

إلى ما جاء به شعيب [إِنَّ رَبِّي محص أعمالكم و خبير بها.

[وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ و حالتكم هذه و «المكانة» الحالة الّتي يتمكّن بها صاحبها من عمل- و هذا تهديد في صورة الأمر- أو المعنى: اعملوا أنتم على ما تقولون و أنا أعمل على ما أقول كقوله: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ» (1) و فيه دلالة على يأسه من قومه [ف سَوْفَ تَعْلَمُونَ أيّنا المخطئ و أيّنا الجاني على نفسه و تبيّن لكم عاقبة الأمر [مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ .

يهينه و [يُخْزِيهِ و يظهر الصادق من الكاذب، و انتظروا ما وعدكم ربّكم من العذاب، إنّي معكم من المنتظرين.

[وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ] صاح بهم جبرئيل صيحة فماتوا [فَأَصْبَحُوا فِي دارهم ملازمين مكانهم باركين على ركبهم لا يتحوّلون عن أمكنتهم. و إنّما ذكر «الصيحة» بالألف و اللام إشارة إلى المعهود السابق و هي صيحة جبرئيل في قوم صالح، فزهق روح كلّ واحد منهم بحيث وقعوا في مكانهم ميّتين كأن لم يقيموا في ديارهم و ما كانوا أحياء أبدا. فبعدا بعدا لهم كما لثمود.

[سورة هود (11): الآيات 96 الى 103]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ (100)

وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)

هذه هي القصّة السابعة من القصص في هذه السورة.

و المراد بالآيات التوراة مع ما ضمّها من الشرائع و الأحكام و من السلطان المبين

ص: 337


1- الجحد: 6.

المعجزات الظاهرة و التقدير: و لقد أرسلنا موسى بشرائع و تكاليف و أيّدناه بمعجزات باهرة له على صدق نبوّته، و هي تسع آيات: العصا، و اليد، و الطوفان، و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و نقص من الثمرات و الأنفس- و منهم من أبدل بإظلال الجبل- و التاسع فلق البحر.

و الحجّة سمّيت بالسلطان لأنّ صاحب الحجّة يقهر من لا حجّة له كما يقهر السلطان غيره، قيل: إنّ اشتقاق السلطان من السليط ما يضاء به، و من هذا قيل للزيت السليط، و من هذا المعنى يقال للسلطان: «ظلّ اللّه في الأرض» و قيل: إنّ السلطان مشتقّ من التسليط، و العلماء سلاطين بسبب كمال قوّتهم العلميّة، و الملوك سلاطين بسبب تسلّطهم بقدرتهم.

قوله: [إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ و جماعته من الأشراف [فَاتَّبَعُوا] الملأ و الناس [أَمْرَ فِرْعَوْنَ و تركوا أمر اللّه [وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بهاد لهم إلى رشد و لا قائد إلى خير؛ إنّ فرعون [يَقْدُمُ قَوْمَهُ و يمشي بين يدي قومه [يَوْمَ الْقِيامَةِ] على قدميه حتّى هجم بهم على النار كما تقدّمهم في الدنيا و يدعوهم إلى النار [فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ] أتى بلفظ الماضي و المراد المستقبل لأنّ ما عطفه عليه من قوله: «يقدم قومه» يدلّ عليه. [وَ بِئْسَ الماء الّذي يردونه عطاشا لإحياء نفوسهم النار. و إنّما أطلق سبحانه على النار اسم «الورد المورود» ليطابق ما يرد عليه أهل الجنّة من الأنهار و العيون. و قيل: معناه بئس الشي ء الّذي يرده النار، و بئس النصيب المقسوم لهم النار. و إنّما أطلق لفظ «بئس» و إن كان عدلا حسنا لما فيه لهم من البؤس و الشدّة.

[وَ أُتْبِعُوا] و الحقوا في الدنيا [لَعْنَةً] و هي الغرق [وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ] بإبعادهم عن الرحمة و ورود العذاب. و قيل: معناه أتبعهم اللّه في الدنيا لعنة و أتبعهم الأنبياء و المؤمنون بالدعاء عليهم باللعنة [بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ] بئس العطاء المعطى النار و اللعنة. و إنّما سمّاه رفدا لأنّه في مقابلة ما يعطى أهل الجنّة من أنواع النعيم. قال قتادة: ترافدت عليهم لعنتان من اللّه: لعنة الدنيا و لعنة الآخرة. قال ابن عبّاس و الضحّاك: اللعنتان اللتان أصابتهما رفدت

ص: 338

إحداهما الاخرى.

[ذلِكَ النبأ الّذي ذكرناه [مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أي من أخبار البلاد [نَقُصُّهُ عَلَيْكَ .

و نذكره لك تسلية لخاطرك [مِنْها قائِمٌ أي من تلك البلاد معمور و منها [حَصِيدٌ] و خراب قد أتى عليه الإهلاك و لم يعمر فيما بعد و اندرس أثره كالشي ء المحصود. و قيل: المعنى: منها قائم أصولها ينظرون إليها، و حصيد قد هلك و باد أهلها.

[وَ ما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكهم [وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن كفروا و ارتكبوا ما استحقّوا به الهلاك فما أغنتهم و نفعتهم [آلِهَتُهُمُ و أوثانهم [الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من فائدة [لَمَّا جاءَ].

عذاب ربّك، أو [أَمْرُ رَبِّكَ بإهلاكهم لم يزيدوا تلك الأصنام إيّاهم غير الهلاك و الخسار.

و إنّما أضاف الهلاك إلى الأصنام لأنّها السبب في ذلك و لو لم يعبدوها لم يهلكوا. و إنّما قال: «يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأنّهم كانوا يسمّونها آلهة و يطلبون الحوائج منها كما يطلبها الموحّدون من اللّه.

قوله: [وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى أي كما فعل بأمم من تقدّم من الأنبياء لمّا خالفوا الرسل و ردّ عليهم من عذاب الاستيصال، بيّن أنّ عذابه ليس مقتصرا على من تقدّم بل الحال في أخذ كلّ الظالمين كذلك. قوله: [وَ هِيَ ظالِمَةٌ] الضمير بحسب الظاهر عائد إلى القرى و لكنّ المراد أهلها و نظائره كثيرة كقوله: «وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» (1).

ثمّ أكّد سبحانه هذا البيان بقوله: [إِنْ أَخَذَ] ربّك [أَلِيمٌ شَدِيدٌ] و شرح بأن لا ينبغي أن يظنّ أحد أنّ هذه الأحكام مختصّة بأولئك المتقدّمين لأنّه تعالى قال: «و كذلك أخذ ربّك» فحكم بأنّ من شاركهم في فعل ما لا ينبغي فلا بدّ و أن يشاركهم في ذلك الأخذ الشديد.

قوله: [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً] أي إنّ في ما قصصنا عليك من إهلاك الجماعة تبصرة عظيمة لمن خشي عقوبة اللّه يوم القيامة. و خصّ الخائف بذلك لأنّه هو الّذي ينتفع به بالتدبر.

و يوم الآخرة يوم يجمع له الناس و فيه الناس كلّهم الأوّلون و الآخرون منهم للجزاء و الحساب. و الهاء راجعة إلى اليوم [وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ] يشهده الجنّ و الإنس و أهل السماء

ص: 339


1- الأنبياء 6: 11.

و الأرض، و في هذا دلالة على إثبات المعاد و حشر الخلق.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 104 الى 108]

وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

المعنى: أخبر سبحانه عن اليوم المشهود فقال: [و ما نؤخّر] هذا اليوم [إِلَّا لِأَجَلٍ .

قد عدّه اللّه لعلمه أنّ صلاح الخلق في إدامة التكليف عليهم إلى ذلك الوقت و إنّما قال:

«لأجل» و لم يقل: «إلى أجل» لأنّ اللام يدلّ على الغرض، و أنّ الحكمة اقتضت تأخيره، و كلمة «إلى» لا تدلّ على ذلك. [يَوْمَ يَأْتِ القيامة و الجزاء لا يتكلّم أحد إلّا بأمره و إذنه؛ لأنّ الخلق ملجؤون هناك إلى ترك القبائح. و المراد أنّه لا يتكلّم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة و وسيلة إلّا بإذنه.

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية و بين قوله: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ* وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» (1) و قوله: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ» (2) و في موضع آخر «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» (3) و هل هذا إلّا التناقض؟

فالجواب أنّ يوم القيامة يشتمل على مواقف عديدة قد اذن لهم في الكلام في بعض تلك المواضع و لم يؤذن لهم في بعض المواضع. و بالجملة و يوم يأتي الأمر الهائل المهيب المستعظم أي القيامة.

قال صاحب الكشّاف: فاعل يأتي «اللّه». و هذا غير صحيح لأنّه قاس على قوله تعالى: «وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا» (4) و الكلام فيهما نقول في هذه نقول في تلك؛ لأنّه إذا تأوّل قوله: «و جاء ربّك» و جاء مرأ ربّك مع صراحة الفاعل ففي هذه الآية بطريق أولى.

ص: 340


1- المرسلات: 35- 36.
2- الرحمن: 38.
3- الصافات: 24.
4- الفجر: 23.

و الّذي أوجب لصاحب الكشّاف هذا القول قوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ» (1) و الحال أنّه حكى اللّه هذه الآية عن أقوام و هم اليهود، و إسناد الفعل إلى اللّه غلط. انتهى.

قوله: [فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ] إخبار من اللّه بأنّهم قسمان: أشقياؤهم المستحقّون للعقاب، و سعداؤهم المستحقّون للثواب؛ و الشقيّ من شقي بسوء عمله في معصية اللّه، و السعيد من سعد بحسن عمله في طاعة اللّه. و الضمير في قوله: «فمنهم» راجع إلى المجتمعين من الناس و المكلّفين. و قيل: راجع إلى النفس و المعنى واحد.

[فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا] باستحقاقهم العذاب داخلون في النار، و أمّا ما روي عنه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الشقيّ من شقي في بطن امّه و السعيد سعيد» فإنّ المراد بذلك أنّ المعلوم من حاله أنّه سيشقى بارتكاب القبائح الّتي تؤدّيه إلى النار كما في السعيد، كما يقال لابن الشيخ الهرم: إنّه يتيم أي سييتم.

قوله: [لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ «الزفير» و «الشهيق» أصوات المكروبين المحزونين و «الزفير» من شديد الأنين بمنزلة ابتداء صوت الحمار. و «الشهيق» الأنين المرتفع جدّا بمنزلة آخر صوت الحمار. و على قول الأطبّاء الزفير استدخال الهواء الكثير و الشهيق استخراج الهواء الكثير عند انحصار الطبيعة. عن ابن عبّاس: يريد ندامة و نفسا عاليا و بكاء لا ينقطع [خالِدِينَ فِيها] في النار [ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ .

اختلف العلماء في تأويل هاتين الفقرتين- و هما من المواضع المشكلة في القرآن- فيه من وجهين أحدهما: تحديد الخلود بمدّة دوام السماوات و الأرض، و الآخر معنى الاستثناء بقوله: «إلّا ما شاء ربّك» فالأوّل فيه أقوال:

أحدها أنّ المراد ما دامت السماوات و الأرض مبدّلتين أي ما دامت سماء الآخرة و أرضها و هما لا ينفيان إذا أعيدا بعد الإفناء.

و ثانيها أنّ المراد ما دامت سماوات الجنّة و النار و أرضهما و كلّ ما علاك فأظلّك فهو سماء و كلّما أقلّك و استقرّ عليه قدمك فهو أرض؛ و هذا قريب من قول الأوّل.

ص: 341


1- البقرة: 206.

و ثالثها أنّه لا يراد به السماء و الأرض بعينها، بل المراد التبعيد فإنّ للعرب ألفاظا في معنى التأبيد يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل و النهار و ما دامت السماء و الأرض و ما نبت النبت و ما أطّت الإبل و ما دزّ شارق، و أشباه ذلك ظنّا منهم أنّ هذه الأشياء لا يتغيّر و يريدون منه التأييد لا التوقيت، قال عمرو بن معد يكرب:

و كلّ أخ يفارقه أخوه لعمر أخيك إلّا الفرقدان

و أمّا الكلام في الاستثناء ففيه أقوال:

أحدها أنّه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار و الزيادة من النعيم لأهل الجنّة و التقدير: إلّا ما شاء ربّك من الزيادة على هذا المقدار؛ كما يقول الرجل لغيره: لي عليك ألف دينار إلّا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا؛ فالألفان زيادة على الألف بغير شكّ لأنّ الكثير لا يستثنى من القليل فحينئذ يكون «إلّا» بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربّك فحينئذ يكون المعنى: إنّهم يكونون في النار في جميع مدّة بقاء السماوات و الأرض؛ فذكر أوّلا في خلودهم ما ليس في العرب أطول منه ثمّ زاد عليه الدوام الّذي لا آخر له بقوله: «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» أي سوى ما شاء ربّك من الزيادة الّتي لا آخر لها.

الثاني أنّ الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر و الحساب؛ لأنّهم حينئذ ليسوا في جنّة و لا نار و كذلك مدّة كونهم في البرزخ الّذي هو بين الموت و الحياة الثانية؛ لأنّه تعالى لو كان قائلا: «خالدين فيها أبدا» و لم يستثن لكان يظنّ ظانّ أنّهم يكونون في النار أو الجنّة من لدن انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة و لا ينافي الدوام؛ فحينئذ هذا الاستثناء قبل الدخول فيها لا بعدها.

الثالث أن يكون المراد بالّذين شقوا جميع الداخلين إلى جهنّم ممّن ادخل فيها من أهل التوحيد الّذين ضمّوا إلى إيمانهم و طاعاتهم ارتكاب المعاصي فقال: إنّهم يعاقبون في النار إلّا ما شاء ربّك من إخراجهم إلى الجنّة فاستثنى هؤلاء الموصوفين بهذه الصفة ممّن لم يستحقّ الخلود الأبديّ لإيمانه؛ فتقدير الآية: إلّا من شاء ربّك أن يخرجه بتوحيده من النار. فحينئذ يكون «ما» بمعنى «من» قالت العرب عند سماع الرعد: سبحان ما سبّحت له. و أمّا في أهل الجنّة فكذلك فهو استثناء من خلودهم أيضا لما ذكرناه لأنّ من

ص: 342

ينقل إلى الجنّة من النار و خلّد فيها لا بدّ في الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدّم فكأنّه قال: خالدين فيها إلّا ما شاء ربّك من الوقت الّذي أدخلهم النار فيه قبل أن ينقلهم إلى الجنّة «فما» في قوله: «ما شاء ربّك» هاهنا على بابه و الاستثناء من الزمان.

و روى أبو روق عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: الّذين شقوا ليس فيهم كافر و إنّما هم من أهل التوحيد يدخلون النار بذنوبهم، ثمّ يتفضّل اللّه عليهم فيخرجهم من النار إلى الجنّة فيكونون أشقياء في حال سعداء في حال اخرى.

الرابع أنّ المعنى خالدون في النار، دائمون فيها مدّة كونهم في القبور ما دامت السماوات و الأرض في الدنيا، و إذا فنيتا و عدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم اللّه للحساب فقوله:

«إلّا ما شاء ربّك» استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، أورده الشيخ أبو جعفر قدّس اللّه سرّه، و قال: ذكره قوم من أصحابنا في التفسير.

الخامس أنّ المراد إلّا ما شاء ربّك أن يتجاوز سبحانه عنهم فلا يدخلهم النار، و قدّر الاستثناء لأهل التوحيد عن أبي مجلز قال: هي جزاؤهم و إن شاء تجاوز عنهم.

قوله: [وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا] بطاعة اللّه و انتهائهم عن المعاصي [فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أي مدّة دوام السماوات و الأرض [إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ .

يتأتّى فيه جميع أقوال الّتي قلنا في الاستثناء من الخلود في النار إلّا مسألة الخروج من الجنّة؛ فإنّ إجماع الامّة انعقد على أنّ من دخل الجنّة لا يخرج منها [عَطاءً غَيْرَ].

مقطوع.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 109 الى 112]

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَ إِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)

[فَلا تَكُ في شكّ [مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ] من دون اللّه؛ إنّه باطل، و إنّ مصيرهم إلى النار و لا يكون داعي عبادتهم دون اللّه إلّا التقليد و إنّما اتّبعوا آباءهم، و إنّا لمعطوهم جزاء

ص: 343

أعمالهم و عقابهم وافيا من غير نقيصة عن مقدار ما استحقّوا. و قيل: معناه إنّا نعطيهم ما استحقّوه من العذاب بعد أن حكمنا لهم به من الخير في الدنيا.

قوله: [وَ لَقَدْ آتَيْنا] و أعطينا [مُوسَى التوراة [فَاخْتُلِفَ فِيهِ يريد أنّ قومه اختلفوا في صحّة الكتاب الّذي انزل عليه، و أراد سبحانه بذلك البيان تسلية النبيّ عن تكذيب قومه إيّاه و جحدهم للقرآن [وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي لو لا قضاء اللّه السابق بأنّه يؤخّر العذاب و الجزاء إلى يوم القيامة، أو يكون المعنى: لو لا كلمة «سبقت رحمتي غضبي» لعجّل الثواب و الجزاء لأهله. و فصّل بين المؤمنين و الكافرين بنجاة هؤلاء و هلاك هؤلاء، و إنّ الكافرين [لَفِي شَكٍ من القرآن و وعد اللّه و وعيده [مُرِيبٍ و الريب أقوى الشكّ و معنى «مريب» أي موقع في الريبة.

[وَ إِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ و كلمة «لمّا» مركّبة من «من» الجارّة و «ما» الموصولة فقلبت «النون» «ميما» للإدغام فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت اولاهنّ و اللام الاولى موطّئة للقسم، و الثانية في قوله: «ليوفّينّهم» جواب للقسم المحذوف، و التنوين في «كلّا» عوض عن المضاف إليه أي و إنّ كلّ الفريقين المؤمنين و الكافرين لمن الّذين ليوفّينّهم ربّك. و قرئ «لما» بالتخفيف على أنّ ما مزيدة للفصل بين اللامين، و المعنى: و إنّ جميعهم و اللّه ليوفّينّهم أجزية أعمالهم إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ. و قرئ «لمّا» بالتنوين أي لمّا و جمعا كقوله سبحانه: «أكلا لمّا» و قرأ أبو عليّ أنّ معنى «إن» النافية و معنى «لمّا» بمعنى «إلّا» و حاصل المعنى أنّ من عجّلت عقوبته أو اخّرت و من صدّق الرسل أو كذّب فحالهم سواء في جزاء أعمالهم.

قال بعض الفضلاء: إنّ في هذه الآية سبعة أنواع من التوكيدات في الدلالة على الحشر و الجزاء: أوّلها كلمة «إنّ» و هي للتأكيد. و ثانيها كلمة «كلّ» و هي للتأكيد. و ثالثها «اللام» الداخلة على خبر «إنّ» و هي تفيد التأكيد أيضا. و رابعها حرف «ما» إذا جعلناه موصولا على قول الفرّاء. و خامسها القسم المضمر فإنّ تقديره: و إنّ جميعهم و اللّه ليوفّينّهم.

و سادسها «اللام» الثانية الداخلة على جواب القسم. و سابعها «النون» المؤكّدة في قوله:

«ليوفّينّهم». انتهى.

ص: 344

قوله: [فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ و هذه الكلمة كلمة جامعة في كلّ ما يتعلّق بالعقائد و الأعمال سواء كان مختصّا به أو كان متعلّقا بالأمّة. قال ابن عبّاس: ما نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله آية أشدّ على رسول اللّه من هذه الآية في تمام القرآن و لهذا قال صلى اللّه عليه و آله: شيّبتني هود و أخواتها؛ و لا شكّ أنّ البقاء و المواطئة على الاستقامة الحقيقيّة مشكل جدّا و من هذا المعنى تبيّن لك سبب خوف الأنبياء و الأولياء فالسبب في غشوات أمير المؤمنين في كلّ ليلة سبعين مرّة يتّضح لك فتأمّل. و هذه الآية و هي «فاستقم كما أمرت» أصل عظيم في الشريعة؛ و ذلك لأنّ القرآن لمّا ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتّبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» و كذلك مثلا ورد الأمر بالزكاة بأداء الإبل من الإبل و البقر من البقر وجب اعتبارها، و في كلّ ما ورد أمر اللّه به.

قوله: [وَ مَنْ تابَ مَعَكَ «و من» في محلّ الرفع و عطف على الضمير المستتر في قوله: «فاستقم» أي فاستقم أنت و من تاب معك يعني أنت و هم لأنّ التائب عن الفسق و الكفر يصحّ منه الاستقامة. ثمّ قال: [وَ لا تَطْغَوْا] أي لا تجاوزوا ما أمرتم به و تعيّن لكم «و الطغيان» تجاوز المقدار فتحلّوا حرامه و تحرّموا حلاله [إِنَّهُ سبحانه [بَصِيرٌ].

بأفعالكم.

قوله: [سورة هود (11): آية 113]

وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)

و الركون هو السكون إلى الشي ء و الميل إليه بالمحبّة؛ و نقيضه النفور. أي و لا تميلوا إلى المشركين في شي ء من دينكم؛ عن ابن عبّاس. و قيل: معناه لا يداهنوا الظلمة؛ عن السدّيّ و جماعة. و قيل: إنّ الركون إلى الظالمين المنهيّ عنه هو الدخول معهم في ظلمهم و إظهار الرضا بفعلهم و إظهار موالاتهم. و قريب من هذا المعنى ما روي عنهم عليهم السّلام أنّ الركون المودّة و النصيحة و الطاعة.

[فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ] فيصيبكم عذاب النار أي إنّكم ركنتم إليهم فهذه عاقبة الركون و ليس لكم أولياء يخلّصوكم من عذابه و لا تجدون من ينصركم فإذا كان الركون إلى الظالم موجب مس النار فكيف إذا كان ظالما هو؟ فحينئذ أولى يمسّ النار.

ص: 345

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 114 الى 116]

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (116)

[وَ أَقِمِ الصَّلاةَ] أي أدّها و أت بأعمالها على وجه التمام في فروضها. و قيل: أدم على فعلها، و المراد من «طرفي النهار» صلاة الفجر و المغرب و «بزلف الليل» صلاة العشاء الآخرة و «الزلف» أوّل ساعات الليل. قالوا: و ترك ذكر الظهر و العصر إمّا لظهور هما في أنّهما صلاتا النهار فكأنّه قال: و أقم الصلاة طرفي النهار مع المعروفة من صلاة النهار.

و إمّا لأنّهما مذكورتان على التبع للطرف الآخر لأنّهما بعد الزوال فهما أقرب إليه و قد قال سبحانه: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» (1) و دلوك الشمس زوالها، و هذا القول هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و قيل: صلاة طرفي النهار الغداة و الظهر و العصر، و صلاة زلف الليل المغرب و العشاء الآخرة. قال الحسن: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله:

المغرب و العشاء زلفتا الليل و قيل: أراد بطرفي النهار صلاة الفجر و صلاة العصر.

[إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قيل في معناه: إنّ الصلاة الخمس تكفّر ما بينها من الذنوب؛ لأنّه عرّف الحسنات بالألف و اللام. و ذكر الواحديّ بإسناده معنعنا عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا منها؛ فهزّه حتّى يتحاتّ ورقه، ثمّ قال: يا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: و لم تفعله؟

قال: إنّ المسلم إذا توضّأ و أحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلاة الخمس تحاتت خطاياه كما يتحاتّ هذا الورق ثمّ قرأ هذه الآية. و بإسناده عن أبي أمامة قال: بينما رسول اللّه في المسجد و نحن قعود معه إذ جاءه رجل فقال: يا رسول اللّه إنّي أصبت حدّا فأقمه عليّ فقال:

هل شهدت الصلاة معنا؟ قال: نعم يا رسول اللّه قال: فإنّ اللّه قد غفر لك حدّك (أو قال: ذنبك).

ص: 346


1- الإسراء: 80.

و بإسناده عن الحرث عن عليّ بن أبي طالب قال: كنّا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول اللّه إنّي أصبت ذنبا فأعرض عنه فلمّا قضى النبيّ الصلاة قام الرجل فأعاد القول؛ فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: أليس صلّيت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور؟ قال: بلى قال: فإنّها كفّارة ذنبك.

و رووا عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أحدهما عليهما السّلام يقول: إنّ عليّا عليه السّلام أقبل على الناس فقال: أيّ آية أرجى عندكم في كتاب اللّه فقال بعضهم: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ*، الآية» (1) فقال: حسنة و ليست إيّاها، و قال بعضهم: «وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ» (2) قال: حسنة و ليست إيّاها، و قال بعضهم: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» (3) قال: حسنة و ليست إيّاها، و قال بعضهم: «وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، الآية» (4) قال: حسنة و ليست إيّاها. قال: ثمّ أحجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟ فقالوا: لا و اللّه ما عندنا شي ء قال: سمعت حبيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول:

أرجى آية في كتاب اللّه «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» و قرأ الآية كلّها، ثمّ قال: يا عليّ و الّذي بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب فإذا استقبل اللّه بوجهه و قلبه لم ينفتل و عليه من ذنوبه شي ء كما ولدته امّه، فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصلاة الخمس، ثمّ قال: يا عليّ إنّما منزلة الصلاة الخمس لأمّتي بمنزلة النهر الجاري على باب أحدكم فما يظنّ أحدكم لو كان في جسده و رن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات في كلّ يوم و ليلة، أ كان يبقى في جسده درن؟ فكذلك و اللّه الصلاة الخمس لأمّتي.

و قيل: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» معناه أنّ الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيّئات. و قيل: المراد بالحسنات التوبة فإنّها يذهب بالسيّئات و تسقط عذابها.

ص: 347


1- النساء: 51 و 116.
2- «: 110.
3- الزمر: 54.
4- آل عمران: 129.

[ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ يعني ما ذكره من أنّ الحسنات يذهبن بالسيّئات في هذا البيان تذكار و موعظة لمن تذكّر به.

[وَ اصْبِرْ] أي اصبر على الصلاة كما قال: «وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها» (1) و قيل: معناه: اصبر يا محمّد على أذى قومك و تكذيبهم إيّاك [فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ عمل [الْمُحْسِنِينَ .

و قيل: معنى المحسنين هاهنا المصلّين.

قوله تعالى: [فَلَوْ لا] المعنى: لمّا بيّن سبحانه أنّ الأمم المتقدّمة حلّ بهم عذاب الاستيصال بيّن أنّ السّبب فيه أمران: الأوّل أنّه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض و المعنى: فهلّا كان؟ و حكى الخليل أنّ كلّ ما كان في القران من كلمة «لو لا» فمعناه «هلّا» إلّا الّتي في الصافّات.

و المراد من قوله: [أُولُوا بَقِيَّةٍ] أي أولو فضل و نعمة و خير و سمّي الفضل و الخير «بقيّة» لأنّ الرجل يستبقي ممّا يخرجه أجوده و أفضله يقال: فلان من بقيّة القوم أي من خيارهم، و يجوز أن يكون البقيّة بمعنى البقوى كالتقيّة بمعنى التقوى أي فهلّا كان منهم ذو بقاء على أنفسهم و صيانة لها من سخط اللّه و قرئ «أولو بقية» بكسر الباء و سكون القاف و البقية المرّة، و المعنى: فلو لا كان منهم أولو مراقبة و خشية من عذاب اللّه.

ثمّ قال: [إِلَّا قَلِيلًا] و لا يمكن أن يكون المستثنى متّصلا لأنّه على هذا التقدير يكون أمر البقيّة في النهي عن الفساد إلّا القليل من الناجين منهم كما تقول: هلّا قرأ قومك القرآن إلّا الصلحاء منهم تريد استثناء الصلحاء منهم، فإذا ثبت هذا فالاستثناء منقطع، و التقدير: لكنّ قليلا ممّن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد و سائرهم تاركون للنهي.

قوله: [وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي و اتّبع المشركون ما عوّدوا من لنعم و التنعّم و إيثار اللّذات على امور الآخرة و كان هؤلاء المبطرون و المتنعّمون مصرّين على الجرم.

و في الآية دلالة على وجوب النهي عن المنكر؛ لأنّه سبحانه ذمّهم بترك النهي عن المنكر و أخبر بأنّه أنجى القليل منهم، و نبّه بأنّه لو كان الكثير كما نهى القليل لما

ص: 348


1- طه: 132.

هلكوا و ما استوصلوا بالعذاب كأنّه بيّن أنّ سبب عذابهم بالاستيصال ترك النهي عن الفساد.

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 117]

وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)

المعنى: و ما كان ربّك ليهلك القرى بظلم منه تعالى لهم و لكن إنّما يهلكهم بظلمهم لأنفسهم كما قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً، الآية» (1) هذا أحد وجوه معنى الآية. و الثاني أنّ اللّه لا يؤاخذهم بظلم بعضهم مع أنّ أكثرهم مصلحون و لكن إذا عمّ الفساد و ظلم الأكثرون عذّبهم. و ثالثها أنّه لا يهلكهم بشركهم و ظلم أنفسهم و هم يتعاطون الحقّ بينهم و يتعاملون بينهم بالإصلاح و ينصف بعضهم بعضا.

و حاصل النظم في الآية أنّ السبب في إهلاك الأمم أنّهم أقدموا في إهلاك نفوسهم بعذاب الاستيصال، و لو كان فيهم مؤمنون يأمرون بالمعروف و ينهون عن الفساد لما استأصلناهم رحمة منّا، و لكنّهم لمّا عمّهم الكفر استحقّوا عذاب الاستيصال.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 118 الى 123]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

المعنى: أخبر سبحانه عن قدرته فقال: [لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الكلّ [أُمَّةً واحِدَةً].

و على دين واحد فيكونون مؤمنين بأن يلجئهم إلى الإيمان و لكنّ ذلك ينافي التكليف و يبطل الغرض و لذلك لم يشأ اللّه ذلك و لكنّه سبحانه شاء أن يؤمنوا باختيارهم ليستحقّوا الثواب و قيل: معناه: لو شاء ربّك لجعلهم امّة واحدة في الجنّة على سبيل التفضّل و لكنّه شاء لهم بالحنّة لا على سبيل التفضّل بل شاء على سبيل الاستحقاق للجنّة بحسن عملهم و قيل: معناه لو شاء رفع الخلاف فيما بينهم.

ص: 349


1- يونس: 44.

[وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الأديان بين يهوديّ و نصرانيّ و مجوسيّ و غير ذلك. و قيل:

مختلفين في الأرزاق و الأحوال [إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ من المؤمنين فإنّهم لا يختلفون و يجتمعون على الحقّ و قد رحمهم ربّهم.

قوله: [وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ اختلف في معناه فقيل: و للرحمة خلقهم؛ عن جماعة كابن عبّاس و مجاهد و قتادة و الضحّاك و هذا هو الصحيح. و اعترض على ذلك بأن لو أراد ذلك لقال: و لتلك خلقهم لأنّ الرحمة مؤنّثة؛ و هذا ليس بشي ء؛ لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقيّ فإذا ذكر فعلى معنى الإنعام و التفضّل و قد قال: سبحانه. «هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» و «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (1) و مثله قول امرئ القيس:

برهرهة رودة رخصةكخرعوبة البانة المنفطر

و لم يقل: المنفطرة لأنّه ذهب إلى الغصن و أمثال ذلك كثير و قيل: «اللام» للعاقبة يريد أنّ اللّه خلقهم و علم أنّ عاقبتهم يؤول إلى الاختلاف المذموم كما قال: «وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً» (2) و لا يجوز أن يكون اللام للغرض لأنّه تعالى لا يجوز أن يريد منهم الاختلاف المذموم لأنّه لو أراد منهم ذلك لكانوا مطيعين له في ذلك الاختلاف و حقيقة الطاعة الموافقة للإرادة فحينئذ لم يعذّبهم و الإجماع محقّق بعذابهم و يمكن أن يكون «اللام» في الآية للغرض. و هذا إذا كان معنى الآية أنّه سبحانه لو شاء لجعلهم امّة واحدة في الجنّة على سبيل التفضّل لكنّه اختار لهم أعلى الدرجتين ليستحقّوا الثواب و لهذا الغرض خلقهم.

و قال المرتضى قدّس سرّه: قد قال قوم: إنّ معنى الآية و لو شاء ربّك أن يدخل الناس بأجمعهم الجنّة فيكونوا في وصولهم جميعهم إلى الجنّة امّة واحدة لفعل و أجروا هذه الآية مجرى قوله: «وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» (3) و إنّه أراد هداها إلى طريق الجنّة فعلى هذا التأويل يكون لفظة ذلك إشارة إلى إدخال الجميع الجنّة و خلقهم المصير إليها لكنّهم نقضوا هذا الغرض بسوء اختيارهم و هذا المعنى اختيار جمهور المعتزلة قالوا: و لا يجوز أن يفسّر الآية بأنّ اللّه العادل يخلقهم للاختلاف بل خلقهم للرحمة و هو القول الصحيح.

ص: 350


1- الكهف: 97. الأعراف: 54.
2- الأعراف: 178.
3- السجدة: 13.

قوله: [وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي وصل و بلغ وحيه و وعده و وعيده بتمامه إلى خلقه فمن شاء فليكفر و من شاء فليؤمن. و قيل معناه: وجب قول ربّك و مضى حكمه سبحانه [لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ بكفرهم إذا كفروا [وَ كُلًّا] من هذه القصص من أخبار الرسل يتابع بعضها بعضا و يأتي بعضها أثر بعض ليكون [ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ و نقوّي به قلبك و نزيدك به ثباتا على ما أنت عليه.

قوله تعالى: [وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ قيل: في هذه السورة. و قيل: في هذه الدنيا و قيل: في هذه الأنباء، و المراد بالحقّ الصدق من الأنباء و الوعد. و قيل: معناه: و جاءك في ذكر هذه الآيات الحقّ و الموعظة و ليس المراد إذا قيل: قد جاءك في هذه الحقّ أن يكون لم يأتك الحقّ إلّا فيه و لكنّ بعض الحقّ أوكد من بعض [وَ ذِكْرى و تذكّر [لِلْمُؤْمِنِينَ [وَ قُلْ يا محمّد صلى اللّه عليك [لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآياتنا: [اعْمَلُوا] على طريقتكم على الكفر [إِنَّا عامِلُونَ على طريقتنا على الإيمان [وَ انْتَظِرُوا] ما يعدكم اللّه على الكفر من العقاب [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما يعدنا اللّه على الإيمان من الثواب.

[وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ أي علم ما غاب في السماوات [وَ الْأَرْضِ لا يخفى عليه شي ء منه و قيل: معناه و للّه خزائن السماوات و الأرض المستورات [وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي إلى حكمه يرجع في المعاد كلّ الأمور لأنّ في الدنيا قد يكون يملك غيره سبحانه بعض الأمر و النهي و النفع و الضرّ و لكنّ هناك كلّ الأمور راجعة إليه؛ فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ أنّه يعبد و يتوكّل عليه و يوثق به و ليس هو سبحانه غافلا عن أعمال عباده من ثواب و موجب عقاب.

قال الطبرسيّ قدس سرّه في المجمع: وجدت بعض المشايخ ممّن يتّسم بالعدوان و التشنيع قد ظلم الشيعة الإماميّة في هذا الموضع من تفسيره فقال: هذا يدلّ على أنّ اللّه يختصّ بعلم الغيب خلافا لما تقول الرافضة: إنّ الأئمّة يعلمون الغيب و لا شكّ أنّه عنى بذلك من يقول بإمامة الاثني عشر و يدين و يعتقد بأنّهم أفضل الأنام بعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله و ينسب الفضائح و القبائح إلى هذه الطائفة.

ص: 351

قال الطبرسيّ رحمه اللّه: و لا نعلم أحدا منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق حتّى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و إنّما يستحقّ الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا يعلم مستفاد، و هذه صفة القديم سبحانه العالم لذاته لا يشركه أحد من المخلوقين و من اعتقد أنّ غير اللّه يشركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملّة الإسلام.

فأمّا ما نقل عن أمير المؤمنين و رواه عنه الخاصّ و العامّ من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم و غيرها مثل قوله إلى صاحب الزنج: «كأنّي به يا أحنف و قد سار بالجيش الّذي ليس له غبار و لا لجب و لا قعقعة لجم (1) و لا صهيل خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّه أقدام النعام» و قوله- يشير إلى مروان-: «أما إنّ له امرة كلعقة الكلب أنفه و هو أبو الأكبش الأربعة و سيلقى الامّة منه و من ولده موتا أحمر».

و ما نقل من هذا القبيل عن أئمّة الهدى مثل ما قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لعبد اللّه بن الحسن- و قد اجتمع هو و جماعة من العلويّة و العبّاسيّة ليبايعوا ابنه محمّد-: و اللّه ما هي لابنك و لا لك و لكنّها لهم و أشار إلى العبّاسيّة و إنّ ابنيك لمقتولان. ثمّ نهض و توكّأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهريّ فقال له: أ رأيت صاحب الرداء الأصفر يعني أبا جعفر المنصور قال: نعم فقال: إنّا و اللّه نجده يقتله فكان كما قال. فقتله المنصور. و مثل قول الرضا عليه السّلام:

بورك قبر بطوس و قبران ببغداد فقيل له. قد عرفنا واحدا فما الآخر فقال: ستعرفونه ثمّ قال: قبري و قبر هارون هكذا و ضمّ إصبعيه و قوله: في حديث عليّ بن الوشّاء حين قدم مرو من الكوفة قال له الرضا عليه السّلام: معك حلّة في السفط الفلانيّ دفعتها إليك ابنتك و قالت اشتر لي بثمنها فيروزجا؛ الحديث. إلى غير ذلك ممّا روي عنهم.

فإنّ جميع ذلك متلقّى عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله بما أطلع اللّه نبيّه و النبيّ أخبرهم فهذا علم مستفاد و ليس بعلم الغيب و أنّهم ما ادّعوا علم الغيب بل نفوا عن أنفسهم كما قال أمير المؤمنين في خطبة الملاحم لمّا قالوا بعض أصحابه حين أنشأ تلك الخطبة: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب فضحك عليه السّلام و قال للرجل- و كان كلبيّا-: يا أخا كليب ليس هو بعلم الغيب، و إنما هو تعلّم من ذي علم و إنّما علم الغيب علم الساعة و ما عدّده اللّه بقوله: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ

ص: 352


1- اللجب: صوت الابطال. و القعقعة: صوت السلاح.

عِلْمُ السَّاعَةِ ... وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» من ذكر و أنثى و قبيح و جميل و سخيّ و بخيل و شقيّ و سعيد، و من يكون في النار حطبا أو في الجنان و أمثاله فهذا علم الغيب الّذي لا بعلمه أحد إلّا اللّه و ما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه فعلّمنيه. انتهى.

و في شرح النهج أنّ صاحب الزنج (1) اسمه عليّ و كان يدّعي أنّه عليّ بن محمّد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، و أرباب السير قدحوا في نسبه و أنكروا ذلك و اتّفقوا على أنّه من بني عبد القيس الأسديّ أحد الخارجين مع زيد بن عليّ عليه السّلام، و بعض الناس يرمونه بالزندقة و الإلحاد و في بعض الأخبار أنّ ارتفاع أمره كان قريبا من وفات سيّدنا العسكريّ عليه السّلام، و كان يقتل الرجال و النساء و الأطفال و الشيخ الفاني و المريض و لا يبقي، و أكثر أتباعه الدهاقين بالبصرة أوّل أمره، و كانوا مشاة عراة أقدامهم عراض غلاظ و قد أشار إلى هذا المعنى عليه السّلام بقوله: (يثيرون الأرض بأقدامهم) و كناية عن شدّة وطئهم الأرض بأقدامهم الغليظة.

و بالجملة قد ختم سبحانه هذه السورة بخاتمة شريفة جامعة لكلّ المطالب العالية حيث خصّ ذاته الشريفة بعلم الغيب حيث لا يشاركه موجود، و حقيقة ذات الإله و كنه ربوبيّته غير معلومة للبشر البتّة، و إنّما المعلوم للبشر و الأمر القابل لعلم البشر صفاته سبحانه و صفاته قسمان: صفات الجلال و صفات الإكرام.

أمّا صفات الجلال فهي سلوب كقولك: ليس بجوهر و لا جسم و لا مرئيّ و لا متحيّز و أمثاله و هذه السلوب في الحقيقة ليست صفات الكمال؛ لأنّ السلوب عدم و العدم المحض و النفي الصرف لا كمال فيه فقولنا: «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ» أفاد الكمال لدلالته على العلم المحيط الدائم المبرّإ عن التغيير، و لو لا ذلك كان عدم النوم ليس يدلّ على كمال

ص: 353


1- من كبار أصحاب الفتن في العهد العباسي و فتنته معروفة بفتنة الزنج لان اكثر انصاره منهم ظهر في ايام المهتدى العباسي سنة 255 ه، و التف حوله سودان اهل البصرة فامتلك البصرة و الأبلة و تتابعت لقتاله الجيوش فكان يظهر عليها و يشتتها. و نزل البطائح و امتلك الأهواز و أغار على واسط و عجز عن قتاله الخلفاء حتى ظفر به الموفق باللّه في ايام المعتمد فقتله و بعث برأسه الى بغداد سنة 270 ه. و كان يرى رأى الازارقة من الخوارج. و في نسبه طعن كما ذكره المصنف قدس سره و المشهور في اسمه: على بن محمّد العلوي. فوات الوفيات ج 2: 83.

أصلا ألا ترى أنّ الميّت و الجماد لا يأخذه سنة و لا نوم؟ و لكن قوله: «وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ» (1) يفيد الجلال و الكبرياء لكونه يفيد أنّه واجب الوجود غنيّ لذاته عن احتياج الطعام.

فتحقّق أنّ صفات العزّ و الكمال و العلوّ هي الصفات الثبوتيّة، و أشرفها و أسناها العلم و القدرة فوصف سبحانه ذاته بهما في معرض التعظيم و الثناء.

أمّا العلم بقوله: [وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أى إنّ علمه نافذ في جميع الكلّيّات و الجزئيات و الحاضرات و الغائبات.

و أمّا صفة القدرة بقوله: [وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ و إنّما يكون كذلك لو كان مصدر الكلّ و مبدأ الكلّ هو هو و الّذي مبدأ الكلّ إليه مرجع الكلّ، و ليس هذا إلّا من عظيم القدرة فحينئذ لا تنبغي العبادة إلّا له و تفويض الأمور إلّا إليه.

فأوّل درجات السير إلى اللّه هو عبوديّة اللّه و آخرها التفويض إليه و التسليم له فلهذا السبب قال: [فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ و هو لا يضيع طاعات المطيعين و لا يهمل أحوال المتمرّدين الجاحدين فقال: [وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ و ذلك بأن يحضروا في موقف القيامة و يحاسبوا على النقير و القطمير و يعاتبوا في الصغير و الكبير، ثمّ يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنّة و فريق في السعير، فظهر لك أنّ هذه الآية وافية بالإرشاد إلى جميع المطالب العلويّة، و روي عن كعب الأحبار أنّه قال: خاتمة التوراة خاتمة سورة هود.

تمّت السورة بحمد اللّه إلى هنا تمّ الجزء الخامس من الكتاب و هو مشتمل على 104 آية من سورة الأعراف و تمام سورة الأنفال و التوبة و يونس و هود. و للّه الحمد.

ص: 354


1- الانعام: 14.

المجلد 6

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

سورة يوسف

اشارة

مكّيّة إلّا أربع آيات نزلن بالمدينة، ثلاث من أوّلها و الرابعة «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ» قال أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: علّموا أرقّاءكم سورة يوسف فإنّه أيّما مسلم تلاها و علّمها ما ملكت يمينه من العبيد هوّن اللّه عليه سكرات الموت و أعطاه القوّة أن لا يحسد مسلما.

و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ سورة يوسف في كلّ يوم أو في كلّ ليلة بعثه اللّه يوم القيامة و جماله مثل جمال يوسف و لا يصيبه فزع يوم القيامة و كان من خيار عباد اللّه الصالحين و قال: إنّها كانت في التوراة مكتوبة.

و روى إسماعيل بن أبي زياد، عن أبي عبد اللّه عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تنزلوا نساءكم الغرف و لا تعلّموهنّ الكتابة و لا تعلّموهنّ سورة يوسف و علّموهنّ الغزل و سورة النور و فيها آية الحجاب و هي «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا، إلخ» أقول: قم يا رسول اللّه و انظر في تعليمهنّ البال، و نسخوا آية الحجاب في سورة النور فلعن اللّه من خالف سنتك.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لمّا ختم قصّة هود من أنباء الرسل افتتح هذه السورة بأنّ من تلك القصص قصّة يوسف.

[سورة يوسف (12): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)

«قُرْآناً» بدل عن «الهاء» أو توطئة للحال و هو «عَرَبِيًّا» كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا.

قوله: [الر] قد سبق تفسيره في فواتح السور [تِلْكَ آياتُ في معنى الإشارة إشارة إلى ما سيأتي من ذكرها على وجه التوقّع لها. و قيل: إشارة إلى السورة أي سورة يوسف آيات الكتاب الظاهر المبين. الثالث أنّ معناه: هذه الآيات الّتي وعدتم بها في التوراة كما قال: «الم ذلِكَ الْكِتابُ» و المبين المظهر للحلال و الحرام و البيان هو الدلالة.

[إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني القرآن أي أنزلنا هذا الكتاب، أو أنزلنا قصّة يوسف و خبره لأنّ علماء يهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمّدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر و سلوه عن كيفيّة قصّة يوسف [قُرْآناً] بلسان العرب ليتمكّنوا من فهمها و المعرفة بها، و التقدير:

إنّا أنزلنا هذا الكتاب الّذي فيه قصّة يوسف الّتي طلبتموها في حال كونه قرانا عربيّا و «القرآن» اسم جنس يطلق على البعض و الكلّ.

و احتجّوا بحدوث الكلام بوجوه بهذه الآية:

الأوّل: قوله: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ» يدلّ على الحدوث فإنّ القديم لا يجوز إنزاله و تحويله من حال إلى حال.

الثاني: وصفه بكونه عربيّا و القديم لا يكون عربيّا و لا فارسيّا.

ص: 3

الثالث أنّه لمّا قال: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» دلّ على أنّه كان قادرا على أن ينزله لا عربيّا و ذلك يدلّ على حدوثه.

الرابع أنّ قوله: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ» يدلّ على أنّه مركّب من الآيات و الكلمات و كلّما كان مركّبا كان محدثا.

[لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و كلمة «لعلّ» يجب حملها على الجزم أي أنزلنا لكي تعقلوا معانيه في أمور الدين و تعلموا أنّه من عند اللّه إذا كان عربيّا و قد عجزتم الإتيان بمثله.

[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ و نبيّن لك أحسن البيان كقولك: قمت أحسن القيام [بِما أَوْحَيْنا] أي بوحينا [إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ و إنّما وصف القرآن بأحسن القصص و دخلت الباء لتبيّن القصص، إذ القصص تكون قرآنا و غير قرآن و هذه القصص بوحي القرآن لأنّه بلغ النهاية في الفصاحة و حسن المعاني و عذوبة اللفظ مع التلازم المنافي للتنافر، و جميع ما يحتاج إليه العباد إلى يوم القيامة بأعذب لفظ و أحسن نظم.

و قيل: المراد بأحسن القصص سورة يوسف وحدها، و كيف كان و هو أيضا من القرآن و هل يجوز أن يقال في حقّه: «قاصّا» لا يجوز؟ لأنّ الأسماء توقيفيّ كما لا يجوز أن يقال:

معلّم أو مفتي و لأنّ هذه الإطلاقات و الاستعمالات في العرف إنّما يقال لمن تمسّك بهذه الطرق على أنّه سوء الأدب و إن وصف نفسه سبحانه بأنّه علّم القرآن و بأنّه يفتيكم في النساء.

قوله: [وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ أي و ما كنت من قبل أن أوحينا إليك هذا القرآن إلّا من الغافلين عن حكم الّتي في القرآن لا تعلم شيئا منها، أو المعنى من الغافلين عن قصّة يوسف و عن حكم الّتي فيها.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 4 الى 6]

إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

ص: 4

و اذكر [إِذْ قالَ يُوسُفُ و يجوز أن يكون العامل في «إِذْ» نقصّ عليك و لكنّ هذا القول ليس بصحيح؛ لأنّ اللّه لم يقصّ على نبيّه هذا القصص في وقت قول يوسف. اذكر و اسمع هذه القصّة:

[إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يعقوب و هو إسرائيل اللّه و معناه عبد اللّه الخاصّ الخالص ابن إسحاق نبيّ اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه. في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا سئل عن الكريم فقولوا: الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

[يا أَبَتِ أصله يا أبي أو أصله يا أبتا فحذف الياء أو الألف و لمّا كثرت هذه الكلمة في كلام العرب ألزموها الحذف و القلب و لذا قرئ بفتح التاء و بكسرها.

قال ابن عبّاس: إنّ يوسف عليه السّلام رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر أحد عشر كوكبا نزلن من السماء فسجدن له و رأى الشمس و القمر نزلا من السماء فسجدا له قال:

فالشمس و القمر أبواه أي أبوه و خالته؛ لأنّ امّه راحيل قد ماتت. قال وهب: كان يوسف رأى و هو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة و إذا عصا صغيرة تشبّثت عليها حتّى اقتلعتها و غلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال له: إيّاك أن تذكر هذه لإخوتك. ثمّ رأى و هو ابن اثنتي عشرة سنة الرؤيا الثاني فقصّها على أبيه فقال له يعقوب: «لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ» و قيل: إنّه كان بين رؤياه و بين مصير أبيه و إخوته إلى مصر أربعون سنة، و قيل: ثمانون سنة. و يقال: إنّ أخوته لمّا بلغهم رؤياه قالوا:

ما رضي أن يسجد له إخوته حتّى يسجد له أبواه.

قوله: [فَيَكِيدُوا] أي فيحسدوك و يقابلوك بما هو هلاكك، و ذلك أنّ رؤيا الأنبياء وحي و علم يعقوب أنّ إخوته يعرفون تأويلها و يخافون علو يوسف عليهم [إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ] ظاهر.

قوله: [وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أي كما أراك ربّك هذه الرؤيا تكرمة لك كذلك يصطفيك و يختارك للنبوّة، و قيل: لحسن الخلق و الخلق [وَ يُعَلِّمُكَ من تعبير الرؤيا لأنّ فيه أحاديث الناس عن رؤياهم و يتحدّثون الناس ما يرون في مناماتهم، و سمّي تأويلا لأنّ ما يرى الإنسان في المنام يؤول إلى ما يعبّر صحيحا إذا كان التعبير صحيحا و تكون الرؤيا

ص: 5

بشرائطها، قال ابن زيد: كان أعبر الناس للرؤيا.

قوله: [وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوّة لأنّها منتهى النعمة. و قيل: و يتمّ نعمته عليك بأن يحوّج إخوتك إليك حتّى تنعمهم بعد إساءتهم إليك [وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ بأن يثبتهم على الإسلام و يجعل فيهم النبوّة.

[كَما أَتَمَّها] على إبراهيم بالخلّة و النبوّة و النجاة من النار، و على إسحاق بأن فداه بذبح عظيم عن الذبح، و هذا على قول من قال: إنّ الذبيح إسحاق مثل عكرمة. و لكن أكثر المفسّرين قالوا بإخراج الأنبياء من صلبه مثل يعقوب و أولاده و قالوا: ليس هو الذبيح و إنّما الذبيح إسماعيل عليه السّلام [إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يصلح للرسالة [حَكِيمٌ في اختيار الرسل و في أحكامه.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 7 الى 10]

لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)

ثم أنشأ سبحانه في ذكر قصّة [لَقَدْ كانَ فِي قصّة [يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ عبر [لِلسَّائِلِينَ عنهم و أعاجيب فمنها أنّهم اجتمعوا على إلقائه في البئر للحسد مع أنّهم أولاد الأنبياء فصفح عنهم لمّا مكّنه اللّه منهم و أحسن إليهم و لم يعيّرهم بما كان منهم، و في هذا العمل عبرة لمن اعتبر به، و منها الفرج بعد الشدّة و المنحة بعد المحنة، و منها الدلالة على صحّة نبوّة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله لأنّه لم يقرء كتابا فعلم أنّه لم يأته ذلك إلّا من جهة الوحي فهو بصيرة للذين سألوه أن يخبرهم بذلك.

و كان ليعقوب اثنا عشر ولدا لصلبه، قال الزمخشريّ: أسماء أولاد يعقوب: يوسف يهودا، روبيل، شمعون، لاوي، زبالون، يشجر، دينة، دان، نفتالى، حاد، اشر.

فالسبعة الأوّلون من ليا بنت خالة يعقوب و الأربعة الآخرون من سرّيّتين: زلفة و بلهة. و لعلّ بنيامين اسمه في هؤلاء العدد.

ص: 6

و الحاصل أنّ إخوة يوسف [قالُوا] بعضهم لبعض: [لَيُوسُفُ و اللام جواب للقسم أي و اللّه ليوسف و أخوه من أمّه و أبيه بنيامين [أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا] لأنّه عليه السّلام شديد الحسن و كان يعقوب يحبّه كثيرا و يؤثره على أولاده فحسدوه، ثمّ لمّا سمعوا بالرؤيا اشتدّ حسدهم عليه و قيل: كان يعقوب لصغرهما يقرّ بهما عنده.

و روى أبو حمزة الثماليّ عن السجّاد عليه السّلام: أنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشا فيتصدّق به و يأكل هو و عياله منه، و أنّ سائلا مؤمنا صوّاما اعتبر ببابه عشيّة جمعة عند أوان إفطاره، و كان مجتازا غريبا فهتف على بابه و استطعمهم و هم يسمعون قوله فلم يصدّقوا فلمّا يئس الفقير و غشيه الليل استرجع و استعبر و شكا جوعه إلى اللّه، و بات طاويا و أصبح صائما حامدا للّه و بات يعقوب و آل يعقوب بطّانا و أصبحوا و عندهم فضلة من طعامهم فابتلاه اللّه بيوسف و أوحى إليه أن استعدّ لبلائي و ارض بقضائي، و الصبر للمصائب فرأى يوسف تلك الليلة الرؤيا، و الحديث طويل.

قوله: [وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ] أي نحن جماعة يعين بعضنا بعضا و نحن أنفع لأبينا [إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ و خطاء من الراي و لا يعتدل بيننا في المحبّة و نحن أقوم له بأمور معاشه و مواشيه.

و قال أكثر المفسّرين: إنّ إخوة يوسف كانوا أنبياء و قال بعضهم: لم يكونوا أنبياء لأنّ الأنبياء لا يقع منهم القبائح و قال المرتضى قدس سرّه: لم يقم لنا دليل بأنّ إخوة يوسف الّذين فعلوا ما فعلوا كانوا أنبياء و لا يمتنع أن يكون الأسباط الذين كانوا أنبياء غير هؤلاء الإخوة الّذين فعلوا بيوسف ما قصّه اللّه عنهم و ليس في ظاهر الكتاب أنّ جميع إخوة يوسف و سائر الأسباط فعلوا بيوسف من الكيد. و قال جماعة من مفسّري أهل الجماعة: إنّ هؤلاء الإخوة الّذين فعلوا و هم في ذلك الحال لم يبلغوا الحلم، و هذا قول البلخيّ و الجبّائيّ قالوا: و يدلّ عليه قوله: «نرتع و نلعب» و روى أبو جعفر بن بابويه في كتاب النبوّة بإسناده عن ابن سدير قال قلت لأبي جعفر: أ كان أولاد يعقوب أنبياء فقال: لا و لكنّهم كانوا أسباط أولاد الأنبياء و لم يفارقو الدنيا إلّا سعداء تابوا و تذكّروا ما صنعوا.

و قال بعض من أهل الجماعة: كانوا رجالا بالغين و وقعت تلك منهم صغيرة. قال الرازيّ:

ص: 7

و هم أتوا بما يقدح في العصمة و النبوّة إلّا أنّ المعتبر عندنا عصمة الأنبياء في وقت حصول النبوّة و أمّا قبلها فذلك غير واجب.

قوله تعالى: [اقْتُلُوا يُوسُفَ لمّا قوي الحسد و بلغ النهاية قالوا: لا بدّ من تبعيد يوسف عن أبيه و ذلك لا يحصل إلّا بأحد امور: القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه. ثمّ ذكروا الفائدة من هذا الأمر قالوا: الفائدة: [يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ و يكون بسبب بعد يوسف عن أبيه قرينا منه و إذا فعلنا هذا الفعل القبيح تبنا إلى اللّه و نصير من الصالحين بعد التوبة.

و اختلفوا في أنّ القائل الّذي أمر بالقتل من كان؟ قيل: أحد إخوته و هو شمعون.

و قيل: هو روبيل. و قيل: إنّهم شاوروا أجنبيّا فأشار عليهم بالقتل و [قالَ قائِلٌ من الإخوة إمّا روبيل و إمّا يهودا و كان أقدمهم في الرأي و السنّ [لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ و قرئ غيابات بلفظ الجمع و يجوز لأنّ للجبّ أقطار و نواحي و «الغيابة» كلّ ما غيّب شيئا و ستره فغيابة الجبّ غوره و ما غاب منه عن عين الناظر؛ فاشار إليهم أن ألقوه في قعر الجبّ و غوره و سمّي بالغيابة لغيبته عن عين الناظر، و الجبّ البئر الّتى لم يطو بعد لأنّها أرض جبّت جبّا من غير أن يزاد على ذلك شيئا [يَلْتَقِطْهُ و يتناوله [بَعْضُ السَّيَّارَةِ] و مارّة الطريق و المسافرين فيذهب به إلى ناحية اخرى.

ثمّ اختلفوا في ذلك الجبّ فقيل: هو بئر بيت المقدس. و قيل: بأرض الأردن. و قيل:

بين مدين و مصر. و قيل: على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب [إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شيئا ممّا تقولون في يوسف.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 11 الى 12]

قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)

المعنى: ثمّ إنّهم عند اتّفاق آرائهم فيما تآمروا فيه من أمر يوسف سألوا أباهم فقالوا: [يا أَبانا ما لَكَ لا تثق بنا و لا تعتمدنا في أمر يوسف و إنّا مخلصون في إرادة الخير له؟ و في هذه دلالة على أنّه عليه السّلام كان يأبى عليهم أن يرسله معهم [أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً] إلى الصحراء [نرتع و نلعب (1) و قرئ بالياء أي نذهب و نجي ء و ننشط و نلهو و الرتع هو التردّد

ص: 8


1- كذا في الأصل.

يمينا و شمالا، و أرادوا اللعب المباح و قد روي أنّ كلّ لعب حرام إلّا ثلاثة: لعب الرجل بقوسه و فرسه و أهله [وَ إِنَّا] ليوسف [حافظون .

و قيل: في الآية تقديم و تأخير، و ذلك أنّ إخوة يوسف قالوا: أرسله. فقال أبوهم:

«إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ الآية» فحينئذ قالوا: «يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ» و لكن إذا صحّ الكلام من غير تقديم و تأخير فلا معنى لحمله عليه.

قال الحسن: جعل يوسف في الجبّ و هو ابن سبع عشر سنة. و قيل: ابن اثنتي عشر سنة.

و قيل: ابن سبع سنين أو تسع و كان في البلاء و المشقّة إلى أن وصل إليه أبوه و هو ابن ثمانين سنة، و قيل: لمّا وصل إليه أبوه كان عمر يوسف أربعين سنة و لبث بعد الاجتماع ثلاث و عشرين سنة، و قيل: مات و هو ابن مائة و عشرين سنة.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 13 الى 18]

قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17)

وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)

المعنى: لمّا أظهروا النصح و الشفقة على يوسف همّ يعقوب أن يبعثه معهم و حثّهم على حفظه فقال: [إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي يغمني أن تغيبوه عنّي [وَ أَخافُ عليه إذا ذهبتم به إلى الصحراء [أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ في حال كونكم مشغولين عنه، و كانت أرضهم مذأبة، و كانت الذئاب ضارية في ذلك الوقت كثيرا.

قيل: إنّ يعقوب رأى في منامه كأنّ يوسف قد شدّ عليه عشر أذؤب ليقتلوه، و إذا ذئب يحمي عنه، فكأنّ الأرض انشقّت فدخل فيها يوسف فلم يخرج منها إلّا بعد ثلاثة أيّام.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: لا تلقّنوا الكذب أولاد كم فيكذبوا، فإنّ بني يعقوب

ص: 9

لم يعلموا أنّ الذئب يأكل الإنسان حتّى لقّنهم أبوهم، و هذا يدلّ على أنّ الخصم لا ينبغي أن يلقّن حجّة.

[قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ و نحن جماعة متعاضدون نرى الذئب قد قصده و لا نمنعه منه [إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ و العصبة الجماعة من عشرة فصاعدا و قيل: إنّ معناه إنّا إذا عجزة ضعفة.

[فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ و عزموا جميعا أن يجعلوه في قعر البئر فأخرجوه من البلدة مكرما فلمّا أصحروا أظهروا له العداوة و جعلوا يضربونه و هو يستغيث بواحد واحد منهم فلا يغيثه، و كان يقول: يا أبتاه، فهمّوا بقتله فمنعهم يهودا منه، و قيل: منعهم لاوي، فانطلقوا إلى الجبّ فجعلوا يدلونه في البئر و هو يتعلّق بشفير البئر، ثمّ نزعوا قميصه و هو يقول:

لا تفعلوا ردّوا عليّ قميصي أتوارى به، فيقولون: ادع الشمس و القمر و الأحد عشر كوكبا يؤنسنك فدلوه في البئر حتّى إذا بلغ نصفها ألقوه أرادوه أن يموت، و كان في البئر ماء فسقط فيه، ثمّ آوى إلى صخرة فقام عليها و كان يهودا يأتيه بالطعام.

و قيل: إنّ الجبّ أضاء له و عذب ماؤه، و كان الماء كدرا فصفا و وكّل اللّه به ملكا يحرسه و يطعمه، عن مقاتل. و قيل: إنّ جبرئيل كان يؤنسه.

و قيل: إنّ اللّه أمر بصخرة حتّى ارتفعت من أسفل البئر فوقع يوسف عليها و هو عريان كما أنّ إبراهيم لمّا القي في النار جرّد و هو عريان فأتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه فكان ذلك الثوب عند إبراهيم فلمّا مات ورثه إسحاق فلمّا مات إسحاق ورثه يعقوب فلمّا شبّ يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ و علّقه في عنق يوسف فكان لا يفارقه، فلمّا القي في البئر عريانا جاءه جبرئيل، و كان عليه ذلك التعويذ فأخرج منه القميص فألبسه إيّاه. روى ذلك مفضّل بن عمر عن الصادق عليه السّلام قال: و هو القميص الّذي وجد يعقوب ريحه لمّا فصلت العير من مصر، و كان يعقوب بفلسطين فقال:

إنّي لأجد ريح يوسف.

و في الحديث عن مسمع عن الصادق عليه السّلام قال: لمّا ألقى إخوة يوسف يوسف في

ص: 10

الجبّ نزل عليه جبرئيل فقال له: يا غلام من طرحك هنا؟ فقال: إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني، قال: أ تحبّ أن تخرج من هذا الجبّ قال: ذلك إلى إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب، فقال له جبرئيل: فإنّ إله إبراهيم يقول لك: قل: اللهمّ إنّي أسئلك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت بديع السماوات و الأرض يا ذا الجلال و الإكرام أن تصلّي على محمّد و آل محمّد و أن تجعل لي في أمري فرجا و ترزقني من حيث أحتسب و من حيث لا أحتسب.

فجعل اللّه له من الجبّ مخرجا و فرجا و من كيد المرأة مخرجا و آتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب.

و روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّ يوسف قال في الجبّ: يا إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب ارحم ضعفي و قلّة حيلتي و صغري.

قوله تعالى: [وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ أي أوحينا إلى يوسف في الجبّ قيل: أعطاه النبوّة و البشارة بالنجاة و الملك [لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا] أي لتخبرنّهم بقبيح فعلهم بعد هذا الوقت يريد بقوله: «هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ» ... [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ أنّك يوسف و لك جلالة الأمر و كان فيما أوحى اللّه إليه أن اكتم أمرك و اصبر على ما أصابك و قيل: معناه لتجازينّهم على فعلهم يقول العرب: حين يتوعّد لأنبأنّك أي لأجازينّك.

قوله: [وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً] و انقلب إخوة يوسف إلي أبيهم ليلا أو في آخر النهار ليلبسوا على أبيهم و إنّما أظهروا و البكاء ليوهموا أنّهم صادقون. و في هذا دلالة على أنّ البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي لأنّه قد يكون البكاء حقيقة، و المراد من الباكي تمويه الأمر فلمّا سمع يعقوب بكاءهم فقال: ما بالكم [قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ و نعدوا على الأقدام لننظر أيّنا أعدى و أسبق لصاحبه. و قيل: معناه نتنصّل و نترامى فننظر إلى السهام أيّها أسبق إلى الغرض؟ [وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا] و تركناه عند الرحل ليحفظه [فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بمصدّق لنا و جواب «لو» محذوف أي و لو كنّا صادقين ما صدّقتنا.

و جاءوا و معهم قميص يوسف ملطّخا بدم فقالوا له: هذا دم يوسف حين أكله الذئب.

قيل: إنّهم ذبحوا سخلة و جعلوا دمها على قميصه. و قيل: ظبيا و لم يمزّقوا القميص و لم يخطر ببالهم أنّ الذئب إذا أكل إنسانا فإنّه يمزّق ثوبه. و قيل: إنّ يعقوب قال: لهم أروني

ص: 11

القميص فأروه إيّاه فلمّا رأى القميص صحيحا قال: يا بنيّ و اللّه ما عهدت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني و لم يمزّق قميصه.

و روي أنّه ألقى ثوب يوسف على وجهه و قال: يا يوسف لقد أكلك ذئب رحيم أكل لحمك و لم يشقّ قميصك، و معنى قوله: «بِدَمٍ كَذِبٍ» أي مكذوب عليه كماء سكب أي مسكوب، و صبّ أي مصبوب.

و قيل: إنّه لمّا قال لهم يعقوب ذلك قالوا: بل قتله الصوص فقال عليه السّلام: فكيف قتلوه و تركوا قميصه و هم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله.

قال يعقوب: و لكن زيّنت لكم أنفسكم أمرا في يوسف غير الّذي قلتموه حتّى سهل عليكم ففعلتموه، و قيل: إنّما ردّ عليهم يعقوب ذلك الجواب بوحي من اللّه و قيل: بحدس صائب و ذهن صادق، فصبري صبر جميل لا جزع فيه و لا شكوى إلى الناس أو المعنى فصبر جميل أحسن و أولى من الجزع من غير فائدة، و إنّ البلاء نزل بيعقوب على كبره و بيوسف على صغره بلا ذنب كان منهما فأكبّ يعقوب على حزنه و يوسف على رقّه، و كلّ ذلك بعين اللّه يرى و يسمع حتّى أتى المخرج و كلّ ذلك امتحان [وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ على دفع [ما تَصِفُونَ و على تحمّل المشقّة و الصبر و مكث يوسف في البئر ثلاثة أيّام.

[سورة يوسف (12): الآيات 19 الى 20]

وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)

فأخبر اللّه عن حال يوسف بعد إلقائه في البئر، جاء جماعة مارّة من قبل مدين يريدون مصر، فأخطئوا الطريق فانطلقوا على غير الطريق حتّى نزلوا قريبا من الجبّ و كان الجبّ في قفرة بعيدة من العمران [فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أي بعثوا من يطلب لهم الماء رجلا يقال له مالك بن زعر فأرسل دلوه في البئر ليستقي فتعلّق يوسف بالحبل فلمّا خرج إذا هو بغلام من أحسن الغلمان، قال النبيّ: اعطي يوسف شطر الحسن و النصف الآخر لسائر الناس.

ص: 12

و قال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوى الخلقة أبيض اللون، غليظ الساقين و العضدين خميص البطن صغير السرّة و كان إذا تبسّم رئيت النور في ضواحكه و إذا تكلّم رئيت في كلامه شعاع النور يلتهب عن ثناياه و كان حسنه كضوء النهار عند الليل، و كان يشبه آدم عليه السّلام يوم خلقه اللّه عزّ و جلّ و صوّره و نفخ فيه من روحه، قبل أن يصيب المعصية و يقال: إنّه ورث الجمال من جدّته سارة و كانت قد أعطيت سدس الحسن.

و بالجملة فلمّا رآه المدنيّ [قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ و قيل: إنّه نظر في البئر لمّا ثقل الدلو فرأى يوسف فقال: هذا غلام فأخرجوه. و قيل: إنّ «بُشْرى رجل من أصحاب المدنيّ ناداه. و أخفى يوسف الّذين وجدوه من رفقائهم و كتموا أمره مخافة أن يطلبوهم الشركة فقالوا: هذا بضاعة لأهل الماء دفعوه إلينا لنبيعه عنهم، و قيل: معناه و أسرّ إخوته يكتمون أنّه أخوهم فقالوا: هو عبد أبق و اختفى منّا في هذا الموضع و قالوا له: لئن قلت: أنا أخوهم فقتلناك، فتابعهم يوسف على ذلك لئلّا يقتلوه [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بعمل إخوة يوسف.

قوله: [وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي باعوه بثمن ناقص قليل و قيل: معنى «البخس» الحرام لأنّ ثمن الحرام حرام و سمّي بخسا لأنّه لا بركة فيه و هو منقوص البركة [دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ] أي قليلة و ذكر العدد عبارة عن القلّة و كانت الدراهم عشرين درهما و هو المرويّ عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: و كانوا عشرة فاقتسموها درهمين درهمين و قيل: كانت اثنين و عشرين درهما و قيل: أربعين درهما.

و اختلف فيمن باعه فقيل: إنّ إخوة يوسف باعوه و كان يهودا منتبذا ينظر إلى يوسف فلمّا أخرجوه من البئر أخبر إخوته فأتوا مالكا و باعوه منه، و قيل: باعه الواجدون في بلدة مصر. و قيل: إنّ السيّارة اشتروه من الّذين أخرجوه من البئر.

[وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ يعني أنّ الّذين اشتروه كانوا من الزاهدين في شرائه لأنّهم وجدوا علامة الأحرار و أخلاق أهل البرّ فيه فلم يرغبوا فيه مخافة أن يلحقهم تبعة في استعباده.

ص: 13

و قيل: معناه المراد أنّ الّذين باعوه من إخوته ما كان مقصودهم الرغبة في ثمنه بل كان مقصودهم استبعاده و تبعيده عن يعقوب.

قال ابن عبّاس: إنّ إخوة يوسف لمّا طرحوا يوسف في الجبّ و رجعوا عادوا بعد ثلاثة أيّام يتعرّفون خبره فلمّا لم يروه في الجبّ و رأوا آثار السيّارة طلبوهم فلمّا رأوا يوسف قالوا: هذا عبد أبق منّا فقالت السيّارة لإخوة يوسف: بيعوه لنا فباعوه منهم و المراد من «وَ شَرَوْهُ» أي باعوه منهم لأنّ الضمير في قوله «و شروه» و في قوله: «وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» عائد إلى شي ء واحد، و إذا كان كذلك فمعنى «شروه» باعوه. قال محمّد بن إسحاق: ربّك أعلم أ إخوته باعوه أم السيّارة و الضمير في قوله: «فيه» يحتمل أن يكون راجعا إلى يوسف و يمكن أن يكون راجعا إلى الشمس.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 21 الى 22]

وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)

. اعلم أنّه لمّا ثبت من الأخبار أنّ الّذي اشتراه إمّا من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر، و باعه بمصر، فاشتراه قطعير أو أطفير و هو العزيز الّذي كان يلي خزائن مصر و الملك حينئذ ريّان بن الوليد رجل من العماليق و قد آمن بيوسف و مات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى؛ فلمّا اشتراه العزيز أقام في منزله ثلاثة عشر سنة، و كان بلغ عمره ثلاثين سنة و استوزره ريّان بن الوليد و آتاه اللّه الملك و الحكمة و هو عليه السّلام ابن ثلاث و ثلاثين سنة و توفّي و هو ابن مائة و عشرين سنة، و كان فرعون موسى من أولاد قابوس بن مصعب فرعون يوسف.

و بالجملة فاشتراه العزيز بعشرين دينارا هذا على قول.

و قيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتّى بلغ ما يساوي في الوزن من المسك و الورق و الحرير فاشتراه قطعير بذلك الثمن فقال [لِامْرَأَتِهِ و كانت المرأة اسمها زليخا- و قيل: راعيل-: [أَكْرِمِي منزله و مقامه عندك و علّل ذلك بأن قال: [عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً] يقوم بإصلاح مهمّاتنا لأنّه كان لا يولد له ولد و كان حصورا.

ص: 14

قوله: [وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجبّ مكّنّاه بأن عطفنا عليه قلب العزيز حتّى توصّل بذلك و تمكّن من الأمر و النهي في أرض مصر [وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي نوفّقه لتعبير المنامات الّتي من عمدتها رؤيا الملك و صاحب السجن فأدّى ذلك التعبير إلى الرياسة العظمى، و يمكن أن يكون المراد إرساله إلى الخلق بتبليغ الأحكام و تحقّق أمر نبوّته [وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ فعّال لما يريد لا دافع عن حكمه في أرضه و سمائه يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء كناية عن أنّ أمر يوسف إليها ليس بسعي إخوته لأنّهم أرادوا به كلّ سوء و اللّه أراد له الخير فكان كما أراد.

قوله: [وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لمّا صبر يوسف على تلك الشدائد و المحن مكّنه اللّه في الأرض، ثمّ لمّا بلغ أشدّه و منتهى شبابه و قوّته آتيناه الحكم و النبوّة و العلم الشريعة و قيل: الدعوة إلى دين اللّه. و قيل: أراد سبحانه الحكم على الناس و العلم بوجوه المصالح فإنّ النّاس كانوا إذا تحاكموا على العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله و إصابته في الرأي [وَ كَذلِكَ أي مثل ما جزينا يوسف بصبره نجزي كلّ من أحسن و صبر على الشدائد.

و قال ابن عبّاس: بلاغ الأشدّ ليوسف لمّا بلغ ثلاثا و ثلاثين سنة. و هذا القول شديد الانطباق على القوانين الطبيعيّة، و ذلك لأنّ الإنسان يحدث في أوّل الأمر و يتزايد كلّ يوم شيئا فشيئا إلى أن ينتهي لغاية الكمال، ثمّ يأخذ في التراجع و الانتقاص فكانت حالته كالهلال ضعيفا، ثمّ لا يزال يزداد إلى أن يصير بدرا تامّا ثمّ يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم و المحاق، فبين مدّة دور القمر ثمانية و عشرون يوما و شي ء فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام كان كلّ قسم منها سبعة أيّام فلا جرم رتّبوا أحوال الأبدان على الأسابيع؛ فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتمّ له سبع سنين، ثمّ إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم و الذكاء و لا يزال في الترقّي إلى أن يتمّ له أربع عشر سنة فإذا دخل في السنة الخامسة عشر دخل في الأسبوع الثالث، و هناك يكمل العقل و يبلغ إلى حدّ التكليف و تتحرّك فيه الشهوة.

ص: 15

ثمّ لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتمّ السنة الحادية و العشرين و هناك يتمّ الأسبوع الثالث، و يدخل في السنة الثانية و العشرين و هذا الأسبوع آخر الأسابيع النشور و النماء.

فإذا تمّت الثانية و العشرون فقد تمّت مدّة النشو و النماء و ينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف و هو الزمان الّذي يبلغ فيه أشدّه و بتمام الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة و ثلاثون سنة ثمّ إنّ هذه المراتب مختلفة في الزيادة و النقصان.

و هاهنا تحقيق و هو أنّ المراد بالحكم صيرورة النفس المطمئنة قاهرة و حاكمة على النفس الأمّارة بالسوء مستعلية عليها و متى صارت القوّة الشهوانيّة مقهورة ضعيفة فاضت الأنوار القدسيّة و الأضواء الإلهيّة من عالم القدس على جوهر النفس، و جوهر النفس خلقت قابلة للمعارف الكليّة و الأنوار العقليّة و جواهر الأرواح البشريّة مختلفة منها زكيّة و منها بليدة و منها خيرة و منها نذلة و شريفة و خسيسة و منها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيّات و عظيمة الرغبة في الجسمانيّات فهذه الأقسام كثيرة، و كلّ واحد من هذه المقامات قابل للأشدّ و الأضعف و الأكمل و الأنقص فإذا اتّفق بأن كان جوهر النفس الناطقة جوهرا مشرقا شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقليّة و اللوائح الإلهيّة فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال لأنّ النفس الناطقة إنّما يقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسديّة الّتي يعبّر بالحكمة العمليّة و هذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات و الموانع مستولية عليها، فإذا كبر الإنسان و استولت الحرارة الغريزة على البدن نضجت تلك الرطوبات و اعتدلت و قلّت الموانع، فصارت تلك الآلات البدنيّة صالحة لأن يستعملها النفس الناطقة فإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنيّة تكمل معارفها و تقوى أنوارها و إلى هذا الإشارة بقوله: «وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً» و المراد من العلم و الحكم استكمال النفس في قوّتها العمليّة و النظريّة انتهى.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 23]

وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)

.

ص: 16

ثمّ أخبر سبحانه عن امرأة العزيز و ما همّت به و طالب يوسف المرأة التي كان يوسف في بيتها عن نفسه و هي راعيل الملقّبة بزليخا أو بالعكس أي طلبت منه أن يواقعها [وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ على نفسها بابا بعد باب، و كانت سبعة أبواب أو باب الدار و باب البيت [وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ أي هلمّ لك و أقبل و بادر. و في كلمة هيت لغات أجودها القراءة المعروفة؛ قال الشاعر:

أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيناإن العراق و أهله عنق إليك فهيت هيتا

أي أقبل و يقال: فعلى هذا كلمة «هيت» اسم فعل و أمّا على قراءة «هيئت لك» فهو فعل أي تهيئت لك من هاء يهيئ «و المراودة» المطالبة بأمر بالرفق و اللين ليعمل به و هي كناية عمّا تريده النساء من الرجال.

قال يوسف: [مَعاذَ اللَّهِ أي عياذا باللّه أن أجيب إلى هذا و أظهر الإباء [إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ قال أكثر المفسّرين: الضمير راجع إلى زوجها أي إنّ العزيز زوجك مالكي و أحسن تربيتي و إكرامي فلا أخونه. و إنّما سمّاه ربّا لما كان بحسب الظاهر رقّا له، و قيل: الضمير عايد إلى اللّه أي إنّ اللّه رفع من محلّي و أحسن مثواي و جعلني نبيّا فلا أعصيه أبدا [إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ و لو فعلت لكنت ظالما و في هذه الآية دلالة على أنّ يوسف لم يهمّ بالفاحشة لأنّ من همّ بقبيح لا يقول مثل ذلك.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 24]

وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)

إنّ هذه الآية من المهمّات الّتي تجب الاعتناء بالبحث عنها لأنّ بعض من ادّعى العلم فسّر هذه الآية بما لا يجوز أن ينسب الأنبياء و الأولياء إلى مثله.

قال المحقّقون من المفسّرين و المتكلّمين كالفخر الرازيّ: إنّ يوسف كان بريئا عن العمل الباطل و الهمّ الحرام، و قطع النظر عن الأدلّة الدالّة على وجوب عصمة الأنبياء الّتي قرّرناها في سورة البقرة في قصّة آدم فذكر وجوها.

الحجّة الاولى أنّ الزنا و الخيانة في معرض الأمانة و قصدها من منكرات الذنوب

ص: 17

و مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة العامّة و العار، غاية في القبح خصوصا الصبيّ إذا تربّى في حجر إنسان و هو مكفيّ المؤونة مصون العرض من أوّل صباه إلى زمان شبابه و كمال قوّته، فإقدام مثل هذا الإنسان على مثل هذا القصد السوء من أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم، و مثل هذا المعصية لو نسبوها إلى أفسق خلق اللّه و أبعدهم عن كلّ خير لاستنكف منه فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه السّلام المؤيّد بالمعجزات القاهرة الباهرة؟

ثمّ إنّه تعالى قال في عين هذه الواقعة: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ» و ذلك يدلّ على أنّ ماهيّة السوء و الفحشاء مصروفة عنه و لا شكّ أنّ هذه النسبة أعظم أنواع السوء و أفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق بربّ العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئا من السوء مع أنّه عليه السّلام قد أتى بأعظم أنواع السوء؟ و لو فرضنا أنّ الآية لا تدلّ على نفي هذه المعصية عنه إلّا أنّه لا شكّ أنّها تفيد المدح العظيم و الثناء البالغ فلا يليق بحكمة اللّه أن يحكي عن إنسان مقدم على مثل هذا الفعل الشنيع، ثمّ إنّه تعالى يمدحه و يثني عليه بأعظم المدائح و الأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك القبيح، و إنّ ذلك يستنكر جدّا مثل ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، ثمّ يذكره بأبلغ المدح.

على أنّ الأنبياء متى ما صدرت منهم زلّة استعظموا ذلك و أتبعوها بإظهار الندامة و التوبة، و لو كان يوسف أقدم على مثل هذا الأمر لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة و الاستغفار و لو أتى بالتوبة لحكى اللّه تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع فحيث لم يوجد شي ء من ذلك علمنا أنّه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب و لا معصية.

الدليل الرابع أنّ كلّ من كان له تعلّق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف من المعصية، و الّذين لهم تعلّق بهذه الواقعة يوسف و تلك المرأة و زوجها و النسوة و الشهود و ربّ العالمين و إبليس و الكلّ بيّنوا براءة يوسف، و إذا كان الأمر كذلك فكيف يبقى للمسلم توقّف في هذا الباب؟

أمّا بيان أنّ يوسف ادّعى البراءة عن الذنب فهو قوله: «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي»

ص: 18

و قوله: «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ».

و أمّا بيان أنّ المرأة اعترفت بذلك فلأنّها قالت للنسوة: «وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» و أيضا «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ».

و أمّا بيان أنّ زوج المرأة أقرّ بذلك فهو قوله: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ».

و أمّا الشهود فقوله تعالى «وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ».

و أمّا شهادة اللّه بذلك فقوله: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ».

فقد شهد اللّه في هذه الآية على طهارته أربع مرّات: أوّلها «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ» و اللام للتأكيد و المبالغة. و الثاني قوله: «وَ الْفَحْشاءَ» و الثالث قوله: «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا» مع أنّه قال: «وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» (1) و الرابع قوله: «الْمُخْلَصِينَ» ورد باسم المفعول و الفاعل و بالفاعل يدلّ على أنّه آت بالطاعات و المقرّبات بصفة الإخلاص، و بصيغة المفعول يدلّ على أنّ اللّه استخلصه لنفسه و اصطفاه لحضرته و على المعنيين فإنّه من أدلّ الألفاظ على كونه منزّها عمّا أضافوا إليه.

و أمّا بيان إبليس فإنّه قال: «لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»* (2) فأفرّ بأنّه لا يمكنه إغواء المخلصين، و يوسف من المخلصين بشهادة اللّه؛ فكان هذا إقرارا بأنّ إبليس ما تمكّن من إغوائه.

قال الرازيّ: إنّ هؤلاء الجهّال الّذين نسبوا إلى يوسف هذا الأمر إن كانوا من أتباع دين اللّه فليقبلوا شهادة اللّه على طهارته، و إن كانوا من جند إبليس و أتباعه فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته، و لقائل أن يقول: إنّهم كانوا من جند إبليس أوّل الأمر إلى أن تتحرّجنا عليه فردّنا عليه في السفاهة.

ص: 19


1- الفرقان: 63،
2- الحجر: 39- 40. ص 82- 83.

و لمّا ثبت بهذه الدلائل أنّ يوسف بري ء ممّا قاله بعض الجهّال؛ فنقوم بتفسير الآية:

قيل: إنّه عليه السّلام ما همّ بها و الدليل عليه أنّه تعالى قال: «وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» و «همّ» جواب «لو لا» هاهنا مقدّم كما يقال: قد كنت من الهالكين لو لا أنّ فلانا خلّصك.

و ردّ الزجّاج هذا القول و قال: تقديم جواب «لو لا» غير فصيح و «لو لا» يجاب جوابها باللام فلو كان المعنى على ما ذكرتم لقال: و لقد همّت و لهمّ بها لو لا أن رأى برهان ربّه.

و ذكر غير الزجّاج بيانا آخر و هو أنّه لو لم يوجد الهمّ لما كان لقوله: «لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» فائدة.

و كلّها مردود بقوله تعالى: «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» (1) و جواب «لو لا» باللام جائز لا يلزم من كونه بغير اللام غير جائز، ثمّ تأخير جواب «لو لا» حسن جائز لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب.

و في الآية بيان آخر و هو أن يقول: سلّمنا أنّ الهمّ قد حصل لكن لا يمكن حمله على ظاهره لأنّ تعليق الهمّ بذات المرأة محال لأنّ الهمّ من جنس القصد و القصد لا يتعلّق بالذوات الباقية و إنّما يتعلّق القصد بالفعل حتّى يكون ذلك الفعل متعلّق القصد، و ذلك الفعل غير مذكور فهم أي جند الإبليس زعموا هو إيقاع الفاحشة و نحن نضمر شيئا آخر يغاير ما ذكروه فوجب أن يحمل الهمّ فيهما على الهمّ الّذي يليق به فاللائق بالمرأة القصد.

إلى تحصيل اللذّة و التمتّع فضلا عن القرائن في الكلام و اللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته و إلى النهي عن المنكر، فهمّ عليه السّلام بدفعها و ضربها و منعها.

فلو قيل: على هذه الصورة لا يبقى لقوله: «لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» فائدة.

قلنا: فيه أعظم الفوائد لأنّ يوسف لو فعل ما كان همّ من ضربها أو دفعها لقتلته

ص: 20


1- القصص: 10.

أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله فأعلمه اللّه أنّ الامتناع من ضربها أولى صونا للنفس عن الهلاك أو أنّه لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربّما تعلّقت به فكان يتمزّق ثوبه من قدّام، و اللّه يعلم أنّ الشاهد يشهد بأنّ ثوبه لو تمزّق من قدّام لكان يوسف يحسب هو الخائن، و كان يقتل بهذه الشهادة و لو كان ثوبه ممزّقا من خلف لكانت المرأة هي الخائنة كما وقعت القصّة كذلك.

و في المسألة تحقيق آخر و هو أن يفسّر «الهمّ» بالشهوة و هذا مستعمل في اللغة الشائعة في العرف يقول القائل فيما لا يشتهيه: «ما يهمّني هذا» و فيما يشتهيه: «هذا أهمّ الأشياء إليّ» فسمّى اللّه شهوة يوسف همّا. معنى الآية: و لقد اشتهته و اشتهاها لو لا أن رأى برهان ربّه لدخل ذلك الميل إلى الوجود.

أو معنى «الهمّ» حديث النفس؛ و ذلك لأنّ المرأة الفائقة في الجمال إذا تزيّنت و تهيّأت للرجل الشابّ القويّ فلا بدّ و أن يقع هناك بين شهوة الطبيعة و بين النفس و العقل مجاذبات و منازعات تارة تقوى داعية الشهوة و الطبيعة و تارة تقوى داعية العقل و الحكمة، فالهمّ عبارة عن جواذب الطبيعة، و رؤية البرهان عبارة عن جواذب العبوديّة و التقوى، مثال ذلك أنّ الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف إذا رأى الجلّاب المبرّد بالثلج فإنّ طبيعته تحمله و تميله على شربه إلّا أنّ دينه و هداه يمنعانه منه فهذا لا يدلّ على حصول الذنب بل كلّما كانت هذه الحالة أشدّ كانت القوّة في القيام بلوازم العبوديّة أكمل.

و بالجملة فالمحقّقون المثبتون للعصمة قد فسّروا رؤية البرهان بوجوه:

الاول حجّة اللّه في تحريم الزنى و العلم بما على الزاني من العقاب.

و الثاني طهر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذميمة فالمراد برؤية البرهان حصول تلك الأخلاق و تذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات.

و الثالث أنّه رأى مكتوبا في السقف «لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا» (1).

ص: 21


1- الإسراء: 32.

و الرابع أنّه النبوّة المانعة من ارتكاب الفواحش لأنّ الأنبياء بعثوا لمنع الخلق عن القبائح و الفضائح فلو أنّهم منعوا ثمّ أقدموا بأنفسهم على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» (1) و أيضا إنّ اللّه عيّر اليهود بقوله: «أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» (2) و ما يكون عيبا في حقّ اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيّد بالمعجزات؟

و أمّا الّذين نسبوا المعصية إلى الرسول يوسف عليه السّلام- أجارنا اللّه من هذه العقيدة الفاسدة- فقد ذكروا في تفسير البرهان أمورا:

الاول: قالوا: إنّ المرأة قامت إلى صنم مكلّل بالدرّ و الياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف: لمَ فعلت ذلك؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصيته.

فقال يوسف: أ تستحين من صنم لا يعقل و لا يسمع و لا أستحي من إلهي القائم على كلّ نفس بما كسبت؟ فو اللّه لا أفعل ذلك أبدا فقالوا: فهذا هو البرهان.

الثاني: نقلوا عن ابن عبّاس: أنّه تمثّل له يعقوب فرآه عاضّا على أصابعه و يقول له:

أ تعمل عمل الفجّار و أنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ فاستحيى منه، و هو قول عكرمة و مجاهد و الحسن و سعيد بن جبير و قتادة و الضحّاك و مقاتل و ابن سيرين؛ قال سعيد بن جبير: تمثّل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.

الثالث: قالوا: إنّه سمع في الهواء قائلا يقول: يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنى ذهب ريشه.

قال الرازيّ: و لمّا نقل الواحديّ في البسيط هذه البيانات تصلّف و قال: هذا الّذي ذكرناه قول أئمّة التفسير الّذين أخذوا التأويل عمّن شاهد التنزيل. فيقال له: إنّك لا تأتينا إلّا بهذه التصلّفات الّتي لا فائدة فيها فأين هذا من الحجّة و الدليل؟ و أيضا فإنّ ترادف الدلائل على الشي ء الواحد جائز و إنّه عليه السّلام كان ممتنعا عن الزنى بحسب الدلائل الأصليّة؛ فلمّا انضاف إليها هذه الزواجر قوي الاحتراز عن مثل هذه الأقوال.

ص: 22


1- الصف: 2- 3.
2- البقرة: 44.

و العجب أنّهم نقلوا أنّ جروا (1) دخل حجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بقي هناك بغير علمه قالوا: فامتنع جبرئيل عليه السّلام من الدخول عليه صلّى اللّه عليه و آله أربعين يوما، و هاهنا زعموا أنّ يوسف حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبرئيل، فالأعجب أنّهم زعموا أنّه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبرئيل مع أنّه لو كان أفسق الخلق مشتغلا بفاحشة فإذا دخل عليه رجل في زيّ الصالحين استحيا منه و فرّ و ترك ذلك العمل، و هاهنا أنّه رأى يعقوب عليه السّلام و عضّ على أنامله و لم يلتفت إليه ثمّ إنّ جبرئيل على جلالة قدره دخل عليه، و لم يمتنع أيضا بسبب حضوره حتّى احتاج جبرئيل إلى أن يركضه على ظهره- فنسأل اللّه أن يصوننا عن الغيّ- انتهى كلامه.

و الفرق بين السوء و الفحشاء قيل: إنّ السوء خيانة اليد و الفحشاء هو الزنى أو أنّ السوء مقدّمات الفاحشة كالقبلة و النظر بالشهوة، و الفحشاء هو الزنى [إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ .

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 25 الى 29]

وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)

المعنى: تبادرا إلى الباب و طلب كلّ واحد منهما السبق إلى الباب أمّا يوسف فإنّه كان بقصد أن يهرب منها و أمّا هي فإنّما كانت تطلب يوسف ليقضي حاجتها و تمنع يوسف من الخروج، و تراوده ثانيا عن نفسه و لحقت يوسف فجذبت قميصه فهرب يوسف و شقّته طولا من خلفه و هي تعدو من خلفه. قيل: إنّ يوسف رأى الأبواب قد انفتحت فعلم أنّ الصواب الخروج فلمّا خرجا و جدا زوجها عند الباب، و سمّاه سيّدها لأنّه مالك أمرها.

ص: 23


1- ولد الكلب.

[قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً] يعني أنّ المرأة سبقت بالكلام لتورك الذنب على يوسف فقالت: ليس جزاء من أراد بأهلك خيانة إلّا السجن أو الضرب بالسياط ضربا وجيعا.

قال المحقّقون: و لو صدق حبّها لم تقل ذلك و لآثرته على نفسها و لكن كان حبّها له شهوة.

فقال يوسف: هي الّتي طالبتني بالسوء لأنّه عليه السّلام لم يجد بدّا من تنزيه نفسه بالصدق [وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها] و كان صبيّ في المهد ابن اخت زليخا و هو ابن ثلاثة أشهر، و قيل: إنّه شهد شاهد أي كان هناك رجل حكيم من أهلها بتبرئة يوسف قالوا:

و لو كان طفلا لكان قوله معجزا لا يحتاج معه إلى البيان. و قيل: إنّ ذلك الرجل الحكيم ابن عمّ زليخا و كان جالسا مع زوجها عند الباب.

ثمّ في هذا الأمر شواهد على براءة ساحة يوسف عن السوء غير شواهد المذكورة:

منها أنّ يوسف عليه السّلام في ظاهر الأمر كان عبدا لهم و العبد لا يمكنه أن يتسلّط على مولاه إلى هذا الحدّ.

و منها أنّهم شاهدوا أنّ يوسف عليه السّلام كان يعدو عدوا شديدا ليخرج إلى الباب و الرجل الطالب للمرأة لا يخرج من البيت على هذا الوجه بل يمنع طرفه عن الخروج.

و منها أنّهم رأوا أنّ المرأة تزيّنت نفسها على أكمل الوجوه و أمّا يوسف فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فإلحاق هذا الأمر و نسبته إلى المرأة أولى.

و منها أنّ المرأة ما نسبه إلى الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاما مجملا مبهما، و أمّا يوسف عليه السّلام فإنّه صرّح بالأمر و لو كان متّهما لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإنّ الخائن خائف.

و منها أنّ زوج المرأة كان عاجزا و آثار طلب الشهوة في حقّ المرأة كانت متكاملة، فإلحاق هذا الأمر بها أولى و هذه كلّها أمارات دالّة على صدق يوسف.

و بالجملة فعلى قول أنّ الشاهد كان لها ابن عمّ لها اتّفق في ذلك الوقت أنّه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال: قد سمعنا الجلبة من وراء الباب و شقّ القميص إلّا أنّا

ص: 24

لا ندري أيّكما قدّام صاحبه، فإن كان شقّ القميص من قدّامه فأنت صادقة و يوسف كاذب و إن كان من خلفه فيوسف صادق و أنت كاذبة، و قد أفتى بحكمته و عقله، و نعم ما أفتى! فلمّا نظروا إلى القميص و رأوا الشقّ من خلفه، قال ابن عمّها «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» أي من عملكنّ ثمّ قال ليوسف: أعرض عن هذا الأمر و اكتمه، و قال لها: «اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ». و هذا قول طائفة عظيمة من المفسّرين.

و قيل: إنّ الشاهد كان صبيّا كما ذكرناه أنطقه اللّه كما أنطق عيسى في المهد.

و هاهنا قول ثالث بأنّ الشاهد من أهلها المراد شهادة القميص كونه مشقوقا من دبره، و هذا القول لا يخلو من الضعف؛ لأنّ إطلاق الشاهد على القميص تعسّف و لا ينسب إلى الأهل.

و قوله: [يُوسُفُ أَعْرِضْ قيل: إنّه قال العزيز و قيل: قال الشاهد و أمر يوسف بكتمان هذا الأمر للعار الشديد و أمر الزوجة بطلب العفو و الصفح عن العزيز. و قيل:

من اللّه لأنّهم و إن كانوا عابدي أصنام و لكنّهم يثبتون الصانع بدليل أنّ يوسف قال:

«أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» (1) و يمكن على هذا أن القائل الزوج.

قوله: [إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ و هذا دليل على أنّ الزوج عرف أنّ الذنب للمرأة و أتى بلفظ التذكير تغليبا للذكور على الإناث، و يحتمل أن يكون مراده أنّك من نسل الخاطئين فمن ذلك النسل يرى هذا العرق الخبيث فيك.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 30 الى 31]

وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)

. «النسوة» اسم مفرد لجمع المرأة و تأنيثه غير حقيقيّ فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث

ص: 25


1- السورة: 39.

كما أنّ «الثبه» اسم لجماعة من الرجال.

المعنى: [قالَ نِسْوَةٌ] جماعة من النساء أشعن [فِي الْمَدِينَةِ] أي مدينة مصر هذا الخبر أو المعنى أنّ نسوة من أهل المدينة هكذا قالت- و كنّ خمسا: امرأة الساقي و امرأة الخبّاز و امرأة صاحب الدوابّ و امرأة صاحب السجن و امرأه الحاجب-: إنّ [امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا] أي دخل حبّ الفتى الجلد المحيط بالقلب و تجاوز من الجلد و نفذ في القلب بل في حبّة سويداء قلبها، و هو كناية عن الحبّ الشديد و العشق العظيم، و قرئ بالعين المهملة أي بلغ إلى حدّ الاحتراق؛ قال ابن الأنباريّ: الشعف رؤوس الجبال أي ارتفعه حبّه إلى أعلى المواضع من قلبه. و «حبّا» مصدر على التمييز.

[فَلَمَّا سَمِعَتْ زليخا [بِمَكْرِهِنَ أي بمقالتهنّ هذه و إنّما سمّيت المقالة بالمكر لأنّ قصدهنّ من هذه المقالة الخدعة مستدعيات لرؤية يوسف و النظر إلى وجهه لأنّهنّ علمن أنّهنّ إذا قلن هذا الكلام، و سمعت زليخا تعرّض يوسف عليهنّ ليتمهّد عذرها في حبّه عندهنّ، أو أنّ زليخا أسرّهن بحبّ يوسف و طلبت منهنّ كتمان هذا السرّ، فلمّا أظهرن كان ذلك مكرا و غدرا منهنّ، و لمّا سمعت أنّهنّ يلمنها على تلك المحبّة المفرطة أرادت إبداء عذرها فاتّخذت مائدة و دعت جماعة من أكابرهنّ.

[وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً] قيل: المتّكأ النمرق الّذي يتّكأ عليه. و قيل: المراد من المتّكأ الطعام و الأصل فيه أنّ من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له و سادة فسمّي الطعام متّكأ على الاستعارة. و قيل: متّكأ طعاما يحتاج إلى القطع بالسكّين لأنّ الطعام متى كان كذلك احتاج الإنسان إلى أن يتّكئ عليه عند القطع. و قيل: متّكا بغير الهمزة مشدّدة التاء أي أنواع الفواكه المحتاجة إلى القطع و الاترجّ. و قرء «متكا» خفيفة ساكنة التاء و حاصل ذلك أنّها دعت أولئك النسوة الخمسة مع نساء أخر يبلغ عددهنّ إلى الأربعين و هيّأت لكلّ واحدة منهنّ مجلسا معيّنا و مائدة معيّنة.

[وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً] لأجل أكل الفاكهة أو قطع اللحم، فأمرت يوسف بأن يخرج إليهنّ و أنّه عليه السّلام لا يقدر أن يخالفها لأنّها سيّدتها.

[فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ و في «أَكْبَرْنَهُ» قيل: أي أعظمنه. و قيل:

ص: 26

أي حضن؛ قال الأزهريّ: الهاء للسكت و أكبرت المرأة إذا حاضت و حقيقة: دخلت في الكبر لأنّها بالحيض تخرج عن حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، و السبب فيه أنّ المرأة إذا خافت و فزعت أو وقع عليها أمر شديد، ربّما أسقطت ولدها إن كانت حبلى أو تحيض.

[وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ من دهشتهنّ فكانت تظنّ أنّها تقطع الفاكهة و كانت تقطع يدها و لا تحسّ، و إنّما أكبرنه للجمال الفائق، و الحسن الكامل، و كان فضل يوسف على الناس كفضل البدر على الكواكب. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: مررت بيوسف ليلة عرج بي إلى السماء فقلت لجبرئيل: من هذا؟ فقال: هذا يوسف. فسئل عنه صلّى اللّه عليه و آله: كيف رأيته؟ قال:

كالقمر ليلة البدر. و قيل: كان يوسف إذا سار في أزقّة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من السماء عليها، و كان يشبه آدم يوم خلقه ربّه.

قوله: [حاشا للّه بإثبات الألف بعد الشين و هي الأصل لأنّ المادّة من المحاشاة و هي التنحية و التبعيد، و الأكثر قرءوا بحذف الألف للتخفيف و هي كلمة تفيد التنزيه و المعنى هاهنا تنزيه اللّه من العجز حيث قدر على خلق جميل مثله.

قوله: [ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ لأنّه ركز في الطباع أن لا حيّ أحسن من الملك كما أنّه ركز فيها أن لا حيّ أقبح من الشيطان فلمّا أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف بالحسن لا جرم شبّهنه بالملك، و يمكن أنّه لمّا نظرن إلى يوسف و سيماه و أنّه لم يلتفت إليهنّ عرفن أنّه بري ء من القبائح و الشهوة فنزّهنه عن لوث البشريّة و صفة الإنسانيّة و نسبنه إلى الملكيّة صونا له عن الخطاء.

و بالجملة فقال بعض المفسّرين: إنّهنّ قلن: «حاش للّه» أي صار يوسف في حشى و ناحية ممّا قذفوه بهذه النسبة فحينئذ نزّهنه عن صفة البشريّة خلقا أي نعوذ باللّه أن نقول:

هذا بشر، بل إنّما هو ملك. و قال آخرون: هذا تنزيه له من شبه البشر لفرط جماله، و يدلّ على هذا المعنى سياق الآية «ما هذا بَشَراً» أي ليس هذه الصورة صورة البشر و لا خلقته، و لكن ملك كريم لحسنه و لطافته.

ص: 27

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 32]

قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)

. المعنى: [قالَتْ امرأة العزيز للنسوة اللاتي عذلنها على محبّتها ليوسف: هذا هو ذلك [الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ فأصابكنّ في رؤيته مرّة واحدة ما أصابكنّ من ذهاب العقل و قطع الأيدي، أي جرح كثير في أيديكنّ، فكيف عذلتنّني في حبّي إيّاه؟ و أنا أنظر إليه آناء ليلي و نهاري. و الفاء في قوله «فَذلِكُنَّ» فاء فصيحة و الإشارة إلى يوسف و الخطاب للنسوة، و اسم الإشارة مبتدأ و الموصول خبر أو اسم الإشارة خبر لمبتدء محذوف أي هو العبد الكنعانيّ الّذي سبق القول منكنّ أنّ امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعانيّ و قلتنّ فيه و فيّ ما قلتنّ فالآن علمتنّ من هو؟ و ما قلتنّ؟ و المراد تبكيتهنّ من هذه الدعوة من اللوم على ما صدر منهنّ، و الحقّ أنّها فعلت من التبكيت بما لا مزيد عليه.

قال ابن الأنباريّ: أشارت بصيغة ذلك إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس. ثمّ إنّها بعد هذه المقولات و الإشفاقات باحت لهنّ ببقيّة سرّها فأقرّت و قالت: [وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ حسبما سمعتنّ و قلتنّ [فَاسْتَعْصَمَ أي امتنع طالبا للعصمة.

و في هذا الكلام دلالة على عصمة يوسف و أنّه عليه السّلام بري ء من هذه التهمة [وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ فهدّدته بقولها: و لو لم يفعل [ما آمُرُهُ و يوافقني مرادي [لَيُسْجَنَنَ و يقع في السجن [وَ لَيَكُوناً] من المستصغرين بالإهانة و من الأدلّاء. و الألف في «لَيَكُوناً» ألف الوقف بدل من نون الخفيفة كقوله: «لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ و اللَّهَ فَاعْبُدْ» أي فاعبدن فابدل في الوقف النون ألفا.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 33 الى 34]

قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)

. المعنى: لمّا هدّدته امرأة العزيز بقولها المذكور و سمعت النسوة اجتمعن على يوسف و قلن: لا مصلحة لك في مخالفة أمرها و إلّا وقعت في السجن و في الهوان. فخاف يوسف على نفسه من هذه الأسباب القويّة من مكر النساء و الطاقة البشريّة أن لا تفي قوّة العصمة

ص: 28

التجأ إلى اللّه و قال:

يا [رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي و تبيّن من هذا الكلام أنّ النسوة كنّ يدعون يوسف لأنفسهنّ كما تدعو زليخا فحينئذ قال: إلهي إن لم توفّقني لحفظ نفسي عن هذه المعصية أخاف من هذه الأسباب القويّة أن أميل إلى هذا الأمر و أنقلب من الجاهلين العاصين. لأنّه اجتمع له جميع أسباب المعصية و المقتضيات لهذا العمل من الخوف على نفسه و الطمع من المال ما لا يحصى و الجاه و التمتّع بالمنكوح و المأكول و اللذائذ بأجمعها و ذلك كلّه موجبات وقوع الفعل. و الصبوة لطافة الهوى و الميل، فأجاب له ربّه فيما دعا فعصمه من مكرهنّ.

فإن قيل: ما معنى سؤال يوسف اللطف من اللّه و هو عالم بأنّ اللّه يفعله لا محالة؟

فالجواب أنّه يجوز أن يتعلّق المصلحة بالإلطاف عند الدعاء (1) المجدّد و يستحبّ أن يسأل العبد من ربّه لطفا و العبد و لو علم أنّ في سؤاله لطف عند الدعاء. إنّه سميع الدعاء، العليم بإخلاص العبد عند الدعاء.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 35]

ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)

. ثمّ بعد هذه الوقائع ظهر لهم و بنوا، و إنّما لم يقل: لهنّ، مع تقدّم ذكر النسوة لأنّه أراد به الملك و زليخا و أعوانها فغلّب المذكّر، و المراد بالآيات العلامات الدالّة على براءة يوسف من قدّ القميص و جزّ الأيدي و إقرار زليخا عند النسوة و أمثالها. فبدالهم أن يسجنوه، و ذلك أنّ المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد قد فضحني في الناس من حيث أنّه يخبرهم أنّي راودته عن نفسه و لست أطيق أن اعتذر بعذري فإمّا أن تأذن لي فأخرج و أعتذر و إمّا أن تحبسه كما حبستني، فحبسه بعد علمه ببراءته و كان الغرض من حبسه أن يعلم للناس أنّ الذنب كان له لأنّه إنّما يحبس المجرم و إنّما اقترحت زليخا منه الحبس لأنّ المحبس كان قريبا منها فأرادت أن يكون بقربها حتّى تراه.

و [حَتَّى حِينٍ أي إلى سبع سنين أو خمس حتّى ينسى حديث الواقعة و تنقطع الخبر

ص: 29


1- كذا في الأصل.

بالاندراس. و هذه حيلة من العزيز للإقطاع و الانقراض بهذا الحديث و حيلة من زليخا لسبيل الوصول إلى يوسف. و قوله: «لَيَسْجُنُنَّهُ» أقيم الفعل مقام الاسم أي بدا لهم السجن، و إلّا جعل الفعل مخبرا عنه لا يجوز و هذا مبحث عميق ليس هنا موضع ذكره. و الحين اسم لوقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه و الطويل. و حبسوه و حذف ذلك. لدلالة قوله: «وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ».

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 36 الى 38]

وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)

. المعنى: في الحديث: لا يقولنّ أحدكم: عبدي و أمتي، و لكن: فتاي و فتاتي و المملوك يسمّونه فتى. و سجن يوسف و سجن معه شابّان حدثان، و قيل: مملو كان لملك مصر الأكبر و اسم الملك وليد بن ريّان و كان أحدهما صاحب شرابه و الآخر طعامه فنمي إلى الملك أنّ صاحب طعامه يريد أن يسمّه و ظنّ أنّ الآخر ساعده على ذلك قال أحدهما ليوسف: إنّي رأيت في النوم- و هو الساقي- رأيت أصل حملة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها و عصرتها في كأس الملك و سقيته إيّاها و تقديره: أعصر عنب خمر أي العنب الّذي يكون عصيره خمرا، تسمية الشي ء باسم ما يؤول إليه إذا وضح المعنى، و لم يلتبس؛ يقولون: فلان يطبخ الآجرّ و يطبخ الدبس، و إنّما يطبخ اللبن و العصير. حكى الأصمعيّ أنّه لقي أعرابيّا معه عنب فقال له: ما معك؟ قال: خمر. فيكون معناه: أعصر عنبا. و قال صاحب الطعام: إنّي رأيت كان فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز و ألوان الأطعمة و سباع الطير تنتهش منه.

[نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ و أخبرنا بتعبيره، و التأويل ما يؤول و يرجع إليه المعنى و الأمر، و التعليم تفهيم الدلالة المؤدّية إلى العلم [إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ و تؤثر الأفعال الجميلة.

ص: 30

و هو كان عليه السّلام في الحبس جميل الأخلاق لأنّه إذا ضاق على رجل مكانه وسّع عليه و إذا احتاج جمع له و إن مرض قام عليه، و يعين المظلوم و ينصر الضعيف، و قيل: من المحسنين أي ممّن يحسن تأويل الرؤيا و إنّه لمّا دخل السجن أخبر بأنّي عالم في تأويل الرؤيا.

فائدة: لو قيل: ما حقيقة علم التعبير؟ الجواب: القرآن و البرهان يدلّان على صحّته أمّا القرآن فهو هذه الآية و أمّا البرهان فهو أنّه قد ثبت أنّ جوهر النفس الناطقة خلقه سبحانه بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك و مطالعة اللوح المحفوظ و المانع لها من ذلك اشتغالها بتدبير البدن، و في وقت النوم يقلّ هذا التشاغل فيقوى على هذه المطالعة و القوّة فإذا وقعت الروح على حالة من الأحوال تركت آثار مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحانيّ إلى عالم الخيال، فالمعبّر يستدلّ بتلك الآثار الخياليّة على تلك الإدراكات العقليّة، انتهى.

[قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ اعلم أنّ هذا البيان الّذي أجاب يوسف عليه السّلام ليس بجواب لما سألا عنه فلمّا كان هنا مطلب أهمّ من تعبير الرؤيا أعرض عن التعبير و بيّن ذلك المطلب ثمّ عبّر رؤياهم و ذلك الأهمّ هو أنّه لمّا علم بعلم النبوّة أنّ أحدهما يصلب و هو على الكفر ادّعى الحقّيّة و النبوّة و الإرشاد في الدين لعلّهم يؤمنون باللّه فلا جرم اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتّى لا يموت على الكفر و ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيّ عن بيّنة، فقال عليه السّلام: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلّا أخبرتكما أي طعام و أيّ لون هو؟ و كم هو و كيف هو يكون عاقبته؟ و قيل: كان الملك إذا أراد أن يقتل إنسانا صنع له طعاما مسموما فأرسله إليه فقال يوسف: لا يأتيكما طعام إلّا أخبرتكما، و ادّعى عليه السّلام علما غير عاديّ من قبيل المعجزة و الغيب و هو يجري مجرى قول عيسى عليه السّلام: حيث قال: «وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» (1) و ليس ذلك هذا العلم من قبيل الكهانة و النجامة، و إنّما أخبرتكما بوحي و علم حصل بتعليم اللّه.

ثمّ قال: [إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فأظهر عليه السّلام أنّه ليس على دينهم و لعلّه إلى ذلك الوقت ما كان يظهر نبوّته أو إيمانه خوفا منهم على سبيل التقيّة لأنّه كان

ص: 31


1- آل عمران: 49.

مملوكا لهم، و تقديم لفظ «هم» للاختصاص لهم بالكفر، و التكرار للتأكيد و الجهة غير التأكيد؛ لأنّه لمّا دخل بينهما قوله «بِالْآخِرَةِ» صارت الأولى كالملغاة و صار الاعتماد على الثانية كما قال سبحانه: «أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» (1).

و بالجملة من تأمّل في القرآن المجيد و تفكّر في كيفيّة دعوة الأنبياء علم من إرسال الرسل و إنزال صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد و المبدء و المعاد و أنّ ما وراء ذلك عبث.

ثمّ قال: [وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ فبيّن عليه السّلام أنّه من أهل بيت النبوّة و جدّه و آباؤه كانوا أنبياء اللّه و رسله لأنّهم متى ما عرفوه عظّموه و وقّروا كلامه و يكون أقرب للقبول [ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ] لأنّهم كانوا مختلفون في الشرك:

فمنهم من يعبد الأوثان، و منهم من يعبد النار، و منهم من يعبد الكواكب، و منهم من يعبد العقل و النفس و الطبيعة؛ فردّ عليه السّلام على كلّ هؤلاء الفرق.

و [ذلِكَ التوحيد و التوفيق لنا معاشر الأنبياء و المؤمنين [مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ اللّه هذه النعمة.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 39 الى 40]

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)

يريد يا صاحبيّ في السجن، و هذا نداء يوسف للمستفتيين له عن تأويل رؤياهما يا ملازمي السجن [أَ أَرْبابٌ و أملاك متبانون من حجر و خشب و حيوان لا تضرّ و لا تنفع [خَيْرٌ] لمن عبدها [أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ] الضارّ النافع؟ لأنّه عليه السّلام لمّا ادّعى النبوّة في الآية السابقة و كان إثبات النبوّة مبنيّا على إثبات الإلهيّات فحينئذ شرع في تقرير الإلهيّات.

و لمّا كان أكثر الخلق مقرّين بوجود الإله العالم القادر، و إنّما الشكّ في جعل

ص: 32


1- المؤمنون: 35.

الشريك في العبادة و كانوا يتّخذون أصناما على صورة الأرواح الفلكيّة و يعبدونها و يتوقّعون حصول النفع و الضرّ منها و لذا كان أكثر الأنبياء سعيهم في المنع عن عبادة الأوثان، فاحتجّ عليه السّلام بالحجج فذكر:

الاولى: قوله: «أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ» و قد سبق بيانه.

الحجّة الثانية أنّ هذه الأصنام معمولة و لا عامله و مقهورة و لا قاهرة و لا تأثير لها إذا كانت معمولة و لا عاملة فعبادتها غلط و فاسد و قوله: «مُتَفَرِّقُونَ» أي الناحت و الصانع صنعه صغيرا و كبيرا و كلّا بشكل مخصوص.

الحجّة الثالثة أنّ كونه واحدا يوجب عبادته لأنّه لو كان له ثان لم نعلم من الّذي خلقنا و رزقنا و دفع المكروه عنّا فيقع الشكّ في أنّا نعبد هذا أم ذاك؟ و فيه إشارة إلى فساد عبادة الأصنام؛ و ذلك لأنّ بتقدير أن يحصل المساعدة منها على كونها نافعة ضارّة إلّا أنّها كثيرة فحينئذ لا نعلم أنّ نفعنا و دفع الضرر عنّا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الصنم أو بالمشاركة؟ فحينئذ يقع الشكّ في أنّ المستحقّ للعبادة هو ذاك أم هذا؟ فهذا وجه لطيف مستنبط في قوله: «أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ».

الحجّة الرابعة أنّ بتقدير أن يساعد هذه الأصنام في النفع و الضرّ على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلّا أنّه لا نزاع في أنّها تنفع في أوقات مخصوصة و بحسب آثار معيّنة و الإله قادر على جميع المقدورات على الإطلاق لا على التقييد، فالاشتغال بعبادته أولى.

الحجّة الخامسة بكونه قهّارا و القهّار هو أن لا يكون يقهره أحد و يقهر غيره و ما سواه.

و هذا الوصف يقتضي أن يكون واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكن الوجود لكان مقهورا لا قاهرا، و أيضا يجب أن يكون واحدا إذ لو كان في الوجود واجبان لما كان قاهرا لكلّ ما سواه، و الإله القهّار لا يكون إذا كان واجبا لذاته و واحدا بذاته، فحينئذ يلزم أن يكون الإله غير الفلك و غير الكواكب و غير النور و غير الظلمة و غير العقل و النفس، و كلّما تراه و تتعقّله؛ لأنّ كلّما تراه تراه مقهورا و متغيّرا بنوع خاصّ و القاهر غيره و هو اللّه، فأرباب متفرّقون

ص: 33

كلّها حادثة متغيّرة مقهورة و لا تصلح للإلهيّة، و إنّما سمّاهم يوسف أربابا بزعمهم و بلسانهم على سبيل الفرض. انتهى.

ثمّ قال: [ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ أي هذه الذوات المسمّية بالآلهة غير موصوفة بصفات الإلهيّة فحينئذ أسماء صرفة من غير المسمّيات، فاسم محض و الاسم لا يفيد شيئا، و يمكن نظر يوسف بهذا البيان أنّ عبدة الأوثان مشبّهة فإنّهم تصوّروا أنّ الإله هو النور الأعظم و أنّ الملائكة أنوار صغيرة فوضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأوثان و جعلوا معبودهم هو تلك الأنوار السماويّة، فصار هذا المتخيّل المعبود من الصنم و الوثن حينئذ غير موجود فصحّ أنّهم لا يعبدون إلّا مجرّد الأسماء و كان غرض يوسف عليه السّلام هذا البيان.

قوله: [ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ و ما جعل اللّه لهذه الأسماء المنتزعة عن المعاني من حجّة و سلطة و ليس الحكم إلّا للّه و قد أمر سبحانه أن لا يكون المعبود إلّا ذاته ذلك الّذي بيّنت لكم من توحيده و ترك عبادة غيره الدين المستقيم الّذي لا عوج فيه [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ما تهيّأ للمطيعين من الثواب و للمتمرّدين من العقاب لعدولهم عن النظر و الاستدلال.

قوله: [سورة يوسف (12): الآيات 41 الى 42]

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)

المعنى: لمّا أقام عليه السّلام الحجّة عليهم في التوحيد شرع في تعبير رؤياهما فقال:

أمّا العناقيد الثلاثة فإنّها ثلاثة أيّام تبقى في السجن ثمّ يخرجك الملك اليوم الرابع و تعود إلى ما كنت عليه. و أجرى على مالكه صفة الربّ فأضافه إليه كما يقال: ربّ الدار و ربّ الضيعة.

[وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ يريد بالآخر صاحب الطعام، فقال عليه السّلام له: أما السلال الثلاث فإنّها ثلاثة أيّام تبقى في السجن، ثمّ يخرجك الملك فيصلبك

ص: 34

فتأكل الطير من رأسك. فقال صاحب الطعام: ما رأيت شيئا، و مازحت و كنت ألعب.

قيل: إنّهما ما رأيا في النوم بل لمّا رأوا أنّ يوسف في السجن أظهر لهم علم الرؤيا أرادوا أن يمتحنوه فاخترعوا هذه الرؤيا امتحانا فعلى هذا تعبير يوسف لهما على جهة الوحي لا على جهة التعبير.

و بالجملة لمّا عبّر لهم يوسف و قالوا: كنّا نلعب و نمازح. قال لهما يوسف: [قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تطلبان الفتوى و هو كما قلت لكم و إنّه نازل بكم البتّة و كائن لا محالة [وَ قالَ يوسف: [لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناج، يمكن أن يفسّر الظنّ هاهنا بمعنى الظنّ و يمكن أن يكون بمعنى اليقين، فإذا حملنا بمعنى الظنّ فالمدار من علم التعبير، و إذا كان بمعنى اليقين فالمدار من الوحي، و الظنّ بمعنى اليقين استعمل كثيرا في القرآن و غيره كقوله:

«الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» (1) و قال: «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ». (2) و قال للّذي ظنّ أنّه ناج: اذكرني عند سيّدك بأنّي محبوس ظلما [فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ و اختلف في عود الضمير في قوله: «فَأَنْساهُ» قالوا: يرجع إلى يوسف يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر اللّه في تلك الحال حتّى استغاث بمخلوق فالتمس من الساقي هذا الأمر أن يذكره عند سيّده، و كان من حقّه أن يتوكّل على اللّه في ذلك فلبث لهذه الجهة بضع سنين أي سبع سنين، روي ذلك عن عليّ بن الحسين و أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قيل: معناه فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف عند الملك و لم يذكره حتّى لبث في السجن سبع سنين، و هذا القول عن جماعة كأبي مسلم و الجبّائيّ و غيره روي عنه عليه السّلام:

لو لا كلمته ما لبث في السجن سبع سنين، يعني «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ».

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: جاء جبرئيل فقال: يا يوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال: ربّي، قال: فمن حبّبك إلى أبيك؟ قال: ربّي، قال: فمن ساق إليك السيّارة؟

ربّي، قال: فمن صرف عنك الحجارة؟ قال: ربّي، قال: فمن أنقذك من الجبّ؟ قال: ربّي، قال: فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال: ربّي، قال: فإنّ ربّك يقول: ما دعاك إلى أن

ص: 35


1- البقرة: 46.
2- الحاقة: 20.

تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث في السجن بما قلت بضع سنين. و في رواية اخرى قال:

فبكى يوسف عند ذلك بكاء بكى ببكائه أهل السجن فصالحهم على أن يبكي يوما و يسكت يوما فكان في اليوم الّذي يسكت أسوء حالا. قال الطبرسيّ: فلو صحّت هذه الرواية عوتب يوسف في ترك عادته الجميلة من الصبر و التوكّل على اللّه.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: علّم جبرئيل يوسف في حبسه فقال: قل في عقب كلّ صلاة فريضة: اللهمّ اجعل لي فرجا و مخرجا و ارزقني من حيث أحتسب و من حيث لا أحتسب.

و روى شعيب العقرقوفيّ عنه عليه السّلام قال: و لمّا انقضت المدّة و اذن له بالدعاء للفرج وضع خدّه على الأرض، ثمّ قال: اللّهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك فإنّي أتوجّه إليك بوجوه آبائي الصالحين إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، ففرّج اللّه عنه. قال:

فقلت له: جعلت فداك أ ندعو نحن بهذا الدعاء؟ فقال: ادعوا بمثله: اللهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت عندك وجهي فإنّي أتوجّه إليك بوجه نبيّك نبيّ الرحمة محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة (عليهم السّلام).

و اعلم أنّ الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة سببا لا أصالة، بشرط أن لا يغفلوا عن مسبّب الأسباب بالكلّيّة، و أمّا في حقّ يوسف من باب حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، و الأولى للصدّيقين يقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب، و لا شكّ أنّ الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائز في الشريعة لا إنكار عليه إلّا أنّه لمّا كان مستدركا عن المحقّقين المتوغّلين في بحار العبوديّة لا جرم صار يوسف مؤاخذا به.

فعند هذا نقول في جواب الّذين نسبوا بعض المزخرفات إلى يوسف: لمّا صار مؤاخذا بسبب هذه الكلمة للساقي كيف ما صار مؤاخذا بتلك الأمور العظيمة؟ فلمّا رأينا اللّه تعالى أخذه بهذا القدر و لم يؤاخذه في تلك القضيّة و ما عابه بل ذكره بأعظم وجوه المدح و الثناء علمنا أنّه كان مبرّءا ممّا نسبه الحشويّة و الجهّال إليه.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: رحم اللّه يوسف لو لا الكلمة الّتي قالها لما لبث في السجن هذه المدّة الطويلة. قال الحسن- و بكى و قال-: نحن إذا نزل بنا أمر تضرّعنا إلى الناس.

ص: 36

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 43 الى 44]

وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)

. و لمّا دنى فرج يوسف رأى ملك مصر و هو ريّان في النوم سبع بقرات ثمان خرجن من قهر يابس و سبع بقرات عجاف أي مهازيل فابتلعت العجاف السمان، و رأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبّها و سبعا أخر يابسات فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبن عليها، فجمع الكهنة و ذكرها لهم، و هو المراد بقوله: [يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ فقال القوم: هذه الرؤيا مختلطة و هو المراد بقوله [أَضْغاثُ جمع الضغث و هو الحزمة من النبت و الحشيش بشرط أن يكون ممّا قام على ساق و استطال؛ فشبّهوا هذه الرؤيا لاختلاطها من أشياء غير متناسبة بنظرهم بالضغث أي هذه أباطيل [أَحْلامٍ و تخاليط [وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ هذه [الْأَحْلامِ الفاسدة [بِعالِمِينَ .

و حكى الأزهريّ أنّ «التعبير» مأخوذ من العبر و هو جانب النهر يقال: عبرت النهر أي قطعته إلى الجانب الآخر فقيل لعابر الرؤيا: عابر لأنّه يتأمّل جانبي الرؤيا فيتفكّر في أطرافها و ينتقل من أحد الطرفين إلى الآخر و بالجملة لمّا قالت الكهنة: إنّ هذه الرؤيا أضغاث أحلام تذكّر الشرابيّ واقعة الحبس فإنّه كان يعتقد فيه كونه متبحّرا لأنّه جرّبه.

[سورة يوسف (12): الآيات 45 الى 46]

وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)

قال الشرابيّ: إنّ في الحبس رجلا فاضلا صالحا كثير الطاعة قصصت أنا و الخبّاز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في لكلّ و لم بخط؛ فإن أذنت مضيت إليه و جئتك بالجواب فذلك قوله: [وَ قالَ الَّذِي أي تذكّر بعد مدّة ما وصّاه يوسف في الحبس.

قوله: [فَأَرْسِلُونِ و هاهنا حذف يدلّ الكلام على المحذوف و تقدير الكلام: فأرسل فأتى يوسف في الحبس و قال له: يا [يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي كثير الصدق فيما تخبر به

ص: 37

[أَفْتِنا] إلخ فإنّ الملك رأى هذه الرؤيا و اشتبه تأويله [لَعَلِّي أَرْجِعُ إلى الملك و أصحابه و العلماء الّذين جمعهم للتعبير و عجزوا عنه [لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فضلك و علمك و يخرجونك من الحبس، فعبّر يوسف:

[سورة يوسف (12): الآيات 47 الى 49]

قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

[قالَ عليه السّلام في مقام التعبير: [تَزْرَعُونَ خبر بمعنى الأمر أي ازرعوا كقوله: «وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ» (1) «وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ» (2) و إنّما يخرج الخبر بمعنى الأمر و يخرج الأمر في صورة الحبر للمبالغة في الإيجاب فيجعل كأنّه وجد فهو يخبر عنه و الدليل على كونه بمعنى الأمر قوله: «فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ» قوله: [دَأَباً] أي مستمرّا متواليا في هذه السنين من غير فتور دائبين على عادتكم أو ازرعوا بجدّ و اجتهاد في هذه السنين السبع [فَما حَصَدْتُمْ من الزرع [فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لا تدوسوه و لا تذروه؛ لأنّ السنبل لا يقع فيه سوس و إن بقي مدّة من الزمان و إذا ديس وصفي أسرع إليه الفساد [إِلَّا قَلِيلًا] تريدون أن تأكلوه.

[ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ] أي سنين مجدبات صعبات يشدّ على الناس تأكلون فيها [ما قَدَّمْتُمْ في السنين المخصبة لتلك السنين الشديدة، و إنّما أضاف الأكل إلى السنين لأنّه يقع فيها كما قال الشاعر:

نهارك يا مغرور سهو و غفلةو ليلك نوم و الردى لك لازم

و قيل: أراد بالأكل الإفناء و الإهلاك كما يقال: أكل السير لحم الناقة، أي ذهب به. قال زيد بن أسلم: كان يوسف يصنع طعام اثنين فيقرّ به إلى رجل فيأكل نصفه حتّى كان ذات يوم قرّبه إليه فأكله كلّه فقال يوسف: هذا أوّل يوم السبع الشداد.

[ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد هذه السنين الشداد [عامٌ فِيهِ يمطر الناس من الغيث و [يُغاثُ النَّاسُ فيه أي ينجون و ينقذون من القحط و في ذلك الطعام الممطر المخصب يعصرون الثمار

ص: 38


1- البقرة: 228.
2- البقرة: 233.

من العنب للدبس و الزيت من السمسم مثلا و أمثاله أي تكثر النعم، و هذا القول من يوسف بما اطّلعه اللّه عليه من علم الغيب ليكون من آيات نبوّته.

قال بعض المحقّقين في هذا: التعبير من يوسف يدلّ على بطلان قول من يقول: إنّ الرؤيا على ما عبّرت أوّلا لأنّهم كانوا قالوا: أضغاث أحلام، و عبّروها بالأضغاث فلو كان كذلك لكان يوسف لا يتأوّلها.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 50 الى 53]

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)

. لمّا رجع الساقي إلى الملك و عرض عليه التعبير الّذي شرحه يوسف استحسنه الملك؛ فقال: [ائْتُونِي بِهِ و هذا يدلّ على فضيلة العلم، فعاد الشرابيّ إلى يوسف عليه السّلام و قال: أجب الملك. فأبى يوسف أن يخرج من السجن إلّا بعد أن ينكشف أمره و تزول التهمة عنه لأنّه لو خرج في الحال فربّما كان يبقى في قلب الملك أثر التهمة، فالتمس من الملك أن يتفحّص عن تلك الواقعة.

و هذا يدلّ على براءة ساحته لأنّ من كان محبوسا في مدّة اثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك، و أمر بإخراجه إذا كان فيه ما نسبوه إليه لما كان تجدّد الواقعة للتفحّص بل كان تبادر بالخروج فحيث لم يخرج عرف طهارته عن تلك النسبة، إذ لو كان ملوّثا لكان خائفا من مذاكرة هذا الأمر فلمّا جاء الشرابيّ جاذبه يوسف و قال: ارجع إلى سيّدك فاسأله أن يسأل النسوة ما شأن القصّة ليعلم براءتي. و إنّما أتى بهذا القسم من الكلام لئلّا يشتمل اللفظ على ما يجري مجرى أمر الملك بعمل أو فعل مراعاة لحسن الأدب في الكلام لأنّ الصغير لا يأمر الكبير، و أيضا راعى عليه السّلام حسن الأدب لمولاتها زليخا و جعل المسؤول النسوة لا هي فاقتصر عليه السّلام على قوله: [ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ ثمّ قال:

[إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ .

ص: 39

و إنّما نسب الكيد إليهنّ لأنّ كلّ واحدة منهنّ طمعت فيه فلمّا لم تجد المطلوب أخذت تطعن فيه و تنسبه إلى القبيح، و يمكن أنّ المعنى لمّا بالغ كلّ واحدة منهنّ على موافقة سيّدتها فامتنع يوسف فنسبهنّ إلى هذا الكيد. و قد حكي أنّه لمّا التمس يوسف هذا الأمر من الملك أمر الملك بإحضارهنّ و قال لهن: ما خطبكنّ؟ أي ما شأنكنّ و أمر كنّ إذ طلبتنّ يوسف و ما القصّة؟ فقلن:

[حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ] هذه الكلمة أي «حاشَ لِلَّهِ» كلمة تنزيه أي نزّهن يوسف ممّا اتّهم به فقلن: حاش للّه و عياذا باللّه من هذا الأمر و ما علمنا عليه من سوء و خيانة و اعترفن ببراءته و بأنّه حبس مظلوما.

[قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ] و كانت حاضرة، و تعلم أنّ هذه المناظرات إنّما وقعت بسببها فكشفت عن الغطاء و صرّحت بالقول الحقّ و قالت: [الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ و اشتقاقه من الحصّة أي بانت حصّة الحقّ من حصّة الباطل أي وضح الحقّ [أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ و ليس له خيانة [وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ .

[ذلِكَ لِيَعْلَمَ ذلك الردّ من الرسول و امتناعي عن الخروج من الحبس ليعلم الملك أو العزيز [أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في حال غيبته. و الضمير في «لَمْ أَخُنْهُ» إلى العزيز أي ليعلم الملك أنّي لم أخنه أي لم أخن وزيره لأنّ خيانة العزيز خيانة الملك. أو الضمير في قوله: «لِيَعْلَمَ» يرجع إلى «العزيز» يعني أردت أن يعلم العزيز أنّي لم أخنه.

و قيل: إنّ هذا الكلام في قوله: «لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ» من قول امرأة العزيز أي ذلك الإقرار منّي ببراءة يوسف ليعلم يوسف أنّي لم أخنه بترتيب الذنب عليه في الغيبة كما رتّبت عليه في الحضرة. و ليعلم [أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ و هذه من بقيّة قول المرأة.

قوله: [وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي هذا بقيّة كلام يوسف عند أكثر المفسّرين. و قيل:

من كلام زليخا أي ما أبرّئ نفسي عن الخيانة في أمر يوسف [إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي كلّ النفوس كذلك، أو للعهد أي إنّ نفسي الموصوفة بهذه الصفة

ص: 40

إلّا من رحمه اللّه فعصمه فيكون «ما» بمعنى «من» نحو «ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» (1) و يجوز أن يكون «ما» معناه إلّا مدّة ما عصم ربّي و من قال: إنّ هذا الكلام من قول يوسف معناه: لا أبرّئ نفسي ممّا لا تعتري منه طباع البشر و إنّما امتنعت عن الفاحشة بهدايته و لطفه لا بنفسي لأنّه عليه السّلام كره أن يكون قد زكّى نفسه [إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ] لعباده [رَحِيمٌ بهم.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 54 الى 57]

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (57)

. المعنى: لمّا تبيّن أمانة يوسف و براءته من السوء أمر بإحضاره فقال: [ائْتُونِي بِهِ أجعله خالصا لنفسي أرجع إليه في تدبير مملكتي و أعمل على صلاحه و إشارته، و هاهنا حذف أي فلمّا جاء الرسول و أخرجه من الحبس و أحضره عند الملك و كلّمه قال: إنّك عندنا ذو مكانة و شأن مأمون ثقة أي مكّنتك في ملكي و جعلت سلطانك فيه كسلطاني.

قال الكلبيّ: فلمّا خرج من السجن أقبل يوسف و تنظّف من درن السجن، و البس ثيابا جددا، و أتى الملك و هو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلمّا رآه الملك شابّا حدث السنّ، قال: يا غلام هذا تأويل رؤياي و لم يعلمه الكهنة! قال: نعم. فأقعده قدّامه.

و لمّا خرج من السجن كتب يوسف على باب السجن: هذا قبور الأحياء و بيت الأحزان و تجربة الأصدقاء و شماتة الأعداء. و لمّا دخل على الملك قال: اللهمّ إنّي أسألك بخيرك من خيره و أعوذ بك من شرّه و شرّ غيره. و لمّا ورد على الملك سلّم يوسف عليه بالعربيّة، فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمّي إسماعيل. ثمّ دعى له بالعبرانيّة فقال له الملك:

ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي. و كان الملك يتكلّم سبعين لسانا فكلّما كلّم الملك بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان؛ فأعجب الملك ما رأى منه.

ص: 41


1- النساء: 3.

ثمّ قال له الملك: إنّي احبّ أن أسمع رؤياي منك شفاها، فقال يوسف: نعم أيّها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب كشف لك عنهنّ النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلاقهنّ لينا فبينا تنظر إليهنّ و تعجبك حسنهنّ إذ نضب النيل فغار ماؤه و بدا يبسه فخرج من حمئه و وحله سبع بقرات عجاف شعث غير مقلّصات البطون ليس لهنّ ضروع و لا أحلاف، و لهنّ أنياب و أضراس و أكفّ كأكفّ الكلاب، و خراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهنّ افتراس السبع فأكلن لحومهنّ و مزّقن جلودهنّ و حطمن عظامهنّ، فبينما أنت تنظر و تتعجّب إذا سبع سنابل خضر و أخر سود في منبت واحد عروقهنّ في الثرى و الماء فبينا أنت تقول في نفسك: أنّى هذه السنابل خضر مثمرات و هؤلاء سود يابسات و النبت واحد و اصولهنّ في الماء؟ إذ هبّت ريح فذرّت الأرفات من اليابسات السود على المثمرات الخضر فاشتعلت فيهنّ النار و أحرقتهنّ و صرن سودا متغيّرات، فهذا آخر ما رأيت من الرؤيا ثمّ انتبهت من نومك مذعورا.

فقال الملك: و اللّه ما شأن هذه الرؤيا و إن كانت عجبا بأعجب ممّا سمعته منك! فما ترى في رؤياي أيّها الصدّيق؟ فقال: أرى أن تجمع الطعام و تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة و تبني خزائن و المحارز فتجمع فيها الطعام بقصبه و سنبله ليكون قصبه و سنبله علفا للدوابّ و تأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الّذي جمعته لأهل مصر و من حولها و يأتيك الخلق من النواحي فيمتارون منك بحكمك و يجتمع عندك من الكنوز ما لم تجمع لأحد ذلك. فقال الملك: و من لي بهذا الأمر؟ و من يجمعه و يرتّبه و يبيعه؟

فعند ذلك قال يوسف: [اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ حافظا لما استودعتني و عليما بوضع الأمور مواضعها.

قيل: معناه كاتب حاسب و حفيظ للحساب عالم بالألسن و في هذا دلالة على أنّه يجوز للإنسان أن يعرّف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه خصوصا لفائدة؛ فإنّه عليه السّلام عرّف نفسه عند الملك ليقيمه في الأمور الّتي في أيالتها صلاح العباد و البلاد و لم يدخل

ص: 42

بذلك تحت قوله تعالى تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» (1) فقال الملك: و من أحقّ به منك؟

فولّاه ذلك.

و اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال: هو العزيز. و منهم من قال: بل هو الريّان الّذي كان يقال له: الملك الأكبر. و هذا هو الأظهر لقوله: «أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي» و هو يدلّ على أنّه قبل ذلك ما كان خالصا و قد كان قبل ذلك خالصا للعزيز و لأنّ يوسف قال له: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» و لأنّ العزيز كان اسمه اطفير و الملك الأكبر اسمه ريّان.

فلو قيل: لم طلب يوسف الإمارة من سلطان كافر و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعبد الرحمن بن سمرة أو لأبي ذرّ: لا تسأل الإمارة؟ و لم طلب الخزائن مع أنّه يورث نوع تهمة؟ و كيف مدح نفسه بقوله: «حَفِيظٌ عَلِيمٌ» و ترك الاستثناء حيث يقول سبحانه: «وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» (2)؟

فالجواب أنّ التصرّف في امور الخلق بطريق الصحّة كان واجبا عليه لأنّه كان رسولا من اللّه إلى الخلق و الرسول يجب عليه رعاية مصالح الامّة، و قد علم بالوحي أنّه سيحصل القحط و الضيق الشديد الّذي يفضي إلى هلاك الخلق العظيم لو لم يباشر الولاية و السعي إلى إيصال النفع و الخير إلى المستحقّين، و دفع الضرر عنهم أمر راجح عقلا و هو كان مكلّفا برعاية مصالح الخلق و ما كان يمكنه رعايتها إلّا بهذا الطريق فما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب فكان هذا الأمر واجبا عليه خصوصا إذا كانت السلطة الاولى سلطة كفر.

و أمّا ترك الاستثناء لأنّه لا يحصل ترديد للملك بأنّه لعلّ لا يتمكّن على ضبط هذه المصلحة فما استثنى. و لم مدح نفسه لأنّه لا نسلّم أنّه كان مقصوده مدح نفسه بل كان مقصوده بيان هاتين الصفتين النافعتين لحصول المطلوب الواجب عليه و قد غلب على ظنّه أنّه لا بدّ من ذكر هذين الوصفين ذهب أنّه وصف نفسه إلّا أنّ مدح النفس إنّما يكون مذموما إذا قصد الرجل به التطاول و التفاخر و التوصّل إلى غير ما يحلّ، فأمّا على غير هذا الوجه فلا نسلّم أنّه محرّم؛ فقوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» المراد منه تزكية النفس حال ما يعلم كونها غير متزكّية، أو أن يكون المزكّي مرائيا، و الدليل عليه بعد

ص: 43


1- النجم: 32.
2- الكهف: 24.

الآية بقوله: «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (1).

و بالجملة روي عن ابن عبّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» لولّاه من ساعته و لكنّه أخّره إلى سنة فأقام يوسف في بيت الملك سنة فلمّا انصرفت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك و توجّه و ردّاه بسيفه و أمر بأن يوضع له سرير من ذهب مكلّل بالدرّ و الياقوت و يضرب عليه كلّة من إستبرق، ثمّ أمره أن يخرج متوّجا، لونه كالثلج و وجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء وجه يوسف فانطلق حتّى جلس على السرير، و دانت له الملوك فعدل بين الناس فأحبّه الرجال و النساء و باع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الاولى بالدنانير و الدراهم، و في الثانية بالحليّ و الجواهر، و في الثالثة بالدوابّ ثمّ بالضياع و العقار ثمّ برقابهم حتى استرقّهم جميعهم، ثمّ أعتقهم و ردّ إليهم أموالهم و ذلك قوله:

[وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا] أي و مثل ذلك الإنعام الّذي أنعمنا على يوسف أقعدنا يوسف على ما يريد في أرض مصر [يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ] أي يتصرّف في الملك من غير رجوع إلى الملك بحيث إنّه لا أمر عليه، و في الآية دلالة على أنّ ذلك التمكين أو الملك كان بلطف اللّه، و فيها دلالة على جواز تولّي القضاء و الحكم من جهة الباغي و الظالم بشرط أن يتمكّن بذلك من إقامة أحكام الدين، ثمّ بعد أن ملكهم و أعتقهم جميعا و ردّ ما أخذ منهم، قال للملك: ما ترى أيّها الملك فيما خوّلني ربّي من ملك مصر و أهلها؟ أشر علينا برأيك فإنّي لم أصلحهم لأفسدهم و لم انجهم من البلاء لأكون بلاء عليهم و لكنّ اللّه أنجاهم على يدي. قال له الملك:

الرأى رأيك. قال يوسف: إنّي اشهد اللّه و أشهدك أنّي أعتقت أهل مصر كلّهم و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم و رددت عليك خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلّا بسيرتي و لا تحكم إلّا بحكمي. قال له الملك: إنّ ذلك لفخري و زينتي، و فخري أن لا أسير إلّا بسيرك و لولاك لما قويت عليه و لا اهتديت له و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّك رسوله؛ فأقم على ما ولّيتك فإنّك لدينا مكين أمين.

و قيل: إنّ يوسف كان في الأيّام المجدبة لا يمتلئ شبعا من الطعام فقيل له تجوع

ص: 44


1- النجم: 33.

و بيدك خزائن مصر؟ قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع.

و الحاصل أنّ المراد من تمكين اللّه ليوسف و تمكّنه في أرض مصر هذه الأمور العظيمة المذكورة ثمّ أكّد ثانيا بقوله: [نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ و هذه شهادة من اللّه على أنّ يوسف كان من المحسنين. لو صدق أقوال الحشويّة فيما نسبوه إليه لامتنع أن يقال: إنّه كان من المحسنين و الأمر متوقّف بين تكذيب اللّه و هو عين الكفر أو تكذيب الحشويّ و هو عين الإيمان.

قوله: [وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ المراد أنّ يوسف و إن كان وصل بصون نفسه إلى المنازل العالية و الدرجات الرفيعة في الدنيا إلّا أنّ الثواب الّذي أعدّه اللّه له في الآخرة خير و أفضل. و لفظ «الخير» قد يستعمل بمعنى التفضيل، و قد يستعمل بمعني نفس الخير كقولهم: «الثريد خير من ..» و في هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه يؤتي يوسف في الآخرة من الثواب ما هو خير ممّا آتاه اللّه من الملك في الدنيا و شهادة منه سبحانه على تقواه، فكيف يقال فيه ما قالوا؟ فتأمّل!

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 58 الى 61]

وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ (61)

لمّا عمّ القحط في البلاد و وصل إلى البلدة الّتي كان يسكنها يعقوب و نزل بآل يعقوب ما نزل بالناس قال يعقوب لبنيه: إنّ بمصر رجلا صالحا يمير الناس فاذهبوا بدراهمكم و خذوا الطعام. فخرجوا إليه و هم عشرة و دخلوا على يوسف، و صارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف مع إخوته و ظهور صدق ما أخبر اللّه ليوسف حين ما ألقوه في الجبّ في قوله «لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ» و كان كلّ من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحّص عنهم ليعرف أنّ الجائين و الواصلين هل فيهم إخوته أم لا؟

فلمّا وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحّص عن أحوالهم ظهر له أنّهم إخوته، و

ص: 45

أمّا أنّهم ما عرفوه لأنّه أمر حجّابه بأن يوصّفوهم من البعد و ما كان يتكلّم معهم إلّا بواسطة، لا سيّما مهابة الملك و شدّة الحاجة يوجبان كثرة الخوف.

ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا ألقوه في الجبّ كان صغيرا ثمّ إنّهم رأوه بعد تغيير الزيّ و الهيئة و اللحية و لبس الملوك فنسوا العلائم لطول المدّة و كان بين أن قذفوه بالجبّ و بين أن دخلوا عليه أربعين سنة، و كان من عادة يوسف مع الكلّ أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه و لا أنقص فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا: إنّ لنا أبا شيخا كبيرا و أخا آخر بقي معه، و ذكروا أنّ أباهم لأجل سنّه و شدّة حزنه لم يحضر و أنّ أخاهم بقي في خدمة أبيه، و لا بدّ لهما أيضا شي ء من الطعام، فلمّا ذكروا ذلك قال يوسف: فهذا يدلّ على أنّ حبّ أبيكم له أزيد من حبّه لكم، و هذا أمر عجيب لأنّكم مع جمالكم و أدبكم و عقلكم إذا كانت محبّة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبّته لكم، و هذا يدلّ على أنّ ذلك اعجوبة في العقل و في الفضل و الأدب فجيئوني به حتّى أراه.

و قيل: إنّهم لمّا دخلوا عليه و أعطاهم الطعام قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار. فقال: لعلّكم جئتم عيونا؟ فقالوا: معاذ اللّه نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صدّيق نبيّ اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا: كنّا اثني عشر فهلك منّا واحد و بقي واحد مع الأب يتسلّى به عن ذلك المفقود و نحن عشرة، و قد جئناك. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة و ائتوني بأخ لكم من أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون أو يهودا و كان أحسنهم رأيا في يوسف فخلّفوه عنده.

ثمّ إنّ يوسف لمّا طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب و الترهيب أمّا الترغيب فهو قوله: [أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ و أمّا الترهيب فهو قوله: [فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ و ذلك لأنّهم في نهاية الاحتياج إلى الطعام فلمّا سمعوا هذا الكلام من يوسف قالوا: [سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي سنجتهد و نحتال على أن ننزعه من يده [وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ أن نجيئك به و فاعلون ما في وسعنا من هذا الباب.

قوله: [سورة يوسف (12): الآيات 62 الى 64]

وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

.

ص: 46

«الفتية» جمع فتى في العدد القليل و الفتيان للكثير و اتّفق الأكثرون على أنّ إخوة يوسف ما كانوا عالمين، فجعل البضاعة في رحالهم و منهم من قال: كانوا عالمين.

ثمّ اختلفوا في السبب الّذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم؛ لأنّهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه علموا أنّ ذلك كان كرما من يوسف و سخاء فيبعثهم ذلك على العود إليه. و قيل: لأنّه خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرّة اخرى. ثمّ إنّ أخذ الثمن من الطعام من أبيه و إخوته مع شدّة حاجتهم إلى الطعام لؤم أو لأنّه عليه السّلام أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب و لا منّة و أراد أن يقابل إساءتهم بالإحسان قال يوسف لعبيده و غلمانه الّذين يكيلون الطعام- و قيل: لأعوانه-: اجعلوا ثمن طعامهم و ما كانوا جاءوا به في أوعيتهم. قيل: كانت بضاعتهم النعال و الأدم. و قيل: كانت الورق [لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها] أي يعرفون متاعهم [إِذَا] رجعوا [إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لطلب الميرة مرّة اخرى.

[فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ في المستقبل لقول يوسف لهم: فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي [فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ و يكتل و إنّا ضامنون بحفظه [قالَ يعقوب [هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ أي إنّكم ذكرتم هذا القول و ضمنتم هذا الضمان في أخيه يوسف يعني كما لم يحصل الأمان هناك كذلك هنا.

ثمّ قال: [فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ قرئ «حافظا» علي التمييز على تقدير:

هو خير لكم حافظا، كقولهم: هو خيرهم رجلا و للّه درّه فارسا. و قرئ على الحال و الأكثر قرءوا «حفظا» بغير ألف أي حفظ اللّه له خير من حفظكم. و قيل: معناه وثقت بكم في حفظ يوسف فكان ما كان فالآن أتوكّل على اللّه في حفظ بنيامين. ورد في الخبر أنّ اللّه سبحانه قال:

ص: 47

فو عزّتي لأردّنّهما عليك من بعد ما توكّلت عليّ.

قوله: [سورة يوسف (12): آية 65]

وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)

. [وَ لَمَّا فَتَحُوا] أوعية الطعام [وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا] ما نطلب وراء هذا أوفى لنا الكيل و ردّ علينا الثمن [هذِهِ بِضاعَتُنا] فلا ينبغي أن تخاف على بنيامين ممّن أحسن إلينا هذا الإحسان و ما نريد منك دراهم تعطيناه نرجع بها إليه بل تكفينا في الرجوع إليه بضاعتنا هذه [وَ نَمِيرُ] و نجلب إلى أهلنا الطعام [وَ نَحْفَظُ أَخانا] حتّى نردّه إليك [وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ] لأجله؛ لأنّه كان يكال لكلّ رجل وقر بعير [ذلِكَ كَيْلٌ سهل ممكن، و هين على الملك. و قيل: معناه: أنّ ذلك الكيل قليل و نحتاج إلى أن يضيفه كيل بعير أخينا حتّى يزداد كيلنا.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 66]

قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)

. أي لن أرسله معكم حتّى تعطوني عهدا موثوق به. و «الموثوق» مصدر بمعنى الثقة أي عهد يوثق به، مصدر بمعنى المفعول أي عهدا مؤكّدا بإشهاد اللّه و بسبب القسم باللّه، أي تحلفوا باللّه لتأتنّي به و تردّنّه عليّ. قال ابن عبّاس: يعني حتّى تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيّين و سيّد المرسلين أن لا تغدروا بأخيكم.

[إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي إلّا أن تهلكوا جميعا أو إلّا أن يحال بينكم و بينه حتّى لا تقدرون على الإتيان به، فلمّا أعطوا مواثيقهم و حلفوا بمحمّد [قالَ يعقوب: [اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ يريد أنّ اللّه شهيد و وكيل أي هذا العهد موكول إليه فإن وفيتم جازاكم و إن غدرتم كافأكم.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 67 الى 68]

وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)

ص: 48

و لمّا تجهّزوا للمسير [قالَ يعقوب: [يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا] مصر [مِنْ بابٍ واحِدٍ] خاف عليهم العين لأنّهم كانوا ذو جمال و غاية و هيئة و كمال، و هم إخوة بنو أب واحد. و أنكر الجبّائيّ خوف العين، بل خاف حسد الناس للطف الملك إيّاهم و جوّزه كثير من المحقّقين، و رووا فيه الخبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: إنّ العين حقّ و العين تتنزّل الحالق. و الحالق المكان المرتفع من الجبل فجعل صلّى اللّه عليه و آله العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل من قوّة أخذها و بطشها.

و أيضا ورد في الخبر أنّه عليه السّلام كان يعوّذ الحسن و الحسين بأن يقول: أعيذ كما بكلمات اللّه التامّة من كلّ شيطان و هامة و من كلّ عين لامة. و روي أنّ بني جعفر كانوا غلمانا بيضا فقالت أسماء بنت عميس: يا رسول اللّه إنّ العين إليهم سريعة أ فأسترقي لهم من العين فقال: نعم. و روي أنّ جبرئيل رقّى رسول اللّه و علّمه الرقية و هي بسم اللّه أرقيك من كلّ عين و حاسد اللّه يشفيك. و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو كان شي ء تسبق القدر لسبقته العين. و في كيفيّة إصابة العين اختلاف كثير:

قال عمرو بن بحر الجاحظ: إنّه لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشي ء المستحسن أجزاء لطيفة تتّصل به و تؤثّر فيه فيكون هذا المعنى خاصيّة في بعض الأعين كالخواصّ في الأشياء. و قد اعترض عليه بأنّه لو كان كذلك لما اختصّ ذلك ببعض الأشياء دون بعض، و لأنّ الأجزاء تكون جوهرا و الجواهر متماثلة، و لا يؤثّر بعضها في بعض.

و قال أبو هاشم: إنّه فعل اللّه بالعباد لضرب من المصلحة، و هو قول القاضي و رأيه.

و قال الشريف الرضيّ الموسويّ: إنّ اللّه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصلاح لهم في تلك الأفعال الّتي يفعلها، فغير ممتنع أن يكون تغيير نعمة زيد مصلحة لعمرو، و إذا كان يعلم من حال عمرو أنّه لو لم يسلب نعمته من زيد أقبل على الدنيا بوجهه و يئس عن الآخرة و إذا سلب نعمة زيد للعلّة الّتي ذكرناها عوّضه فيها و أعطاه بدلا منها عاجلا أو آجلا؛ فيمكن أن يتأوّل قوله صلّى اللّه عليه و آله: «العين حقّ» على هذا الوجه، على أنّه قد روي عنه ما يدلّ على أنّ الشي ء إذا عظم في صدور العباد وضع اللّه قدره و صغّر أمره فلا ينكر تغيير الحال

ص: 49

لبعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه و استحسانه له، و فخامته في عينه.

و هاهنا تحقيق آخر- و هو قول الحكماء في هذا الباب- و هو أنّه قالوا: ليس من شرط المؤثّر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيّات المحسوسة أعني الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة بل قد يكون التأثير نفسانيّا محضا، و لا يكون للقوى الجسمانيّة فيها تعلّق و الّذي يدلّ عليه أنّ اللوح الّذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعا على الأرض قدر الإنسان المشي عليه و لو كان موضوعا بين الجدارين لعجز الإنسان عن المشي عليه، و ما ذلك إلّا لأنّ خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه، فعلمنا أنّ التأثيرات النفسانيّة موجودة.

و أيضا إنّ الإنسان إذا تصوّر كون فلان موذيا له حصل في قلبه غضب، و يسخن مزاجه جدّا فمبدأ تلك الخولة ليس إلّا ذلك التصوّر النفسانيّ، و لأنّ مبدأ الحركات البدنيّة ليس إلّا التصوّرات النفسانيّة فلمّا ثبت أنّ تصوّر النفس يوجب تغيير بدنه الخاصّ لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدّى تأثيراتها إلى سائر الأبدان.

فثبت أنّه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثّرة في سائر الأبدان و جواهر النفوس مختلفة بالماهيّة؛ فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثّر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه و يتعجّب منه، و التجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه و النفوس النبويّة نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شكّ.

قوله: [وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ و لمّا دخلوا متفرّقين من أبواب متفرّقة، و كان لمصر خمسة أبواب [ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ] أي لم يكن دخولهم مصر كما أمرهم أبوهم بالتفرّق يغني عنهم أو يدفع منهم شيئا من مكروه أراد اللّه إيقاعه بهم من ضرر أو عين أو بلاء، و هو عليه السّلام كان يعلم أنّه لا ينفع من قدر اللّه شي ء و التفرّق ليس مانع شيئا أراده اللّه، و لكن ما قاله لبنيه حاجة في قلبه فقضى تلك الحاجة؛ فيكون «إلّا» بمعنى لكنّ حاجة قضاها و أظهرها يعني أنّه عليه السّلام يعلم أنّ هذه التوصية و هي ورود مصر من أبواب متفرّقة لا تنفعهم إذا أراد اللّه بهم، لكن شفقة عليهم من أن يعانوا أظهرها و وصّى بها، و الاستثناء منقطع.

[وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ و إنّ يعقوب لذو يقين و معرفة باللّه بتعليمنا إيّاه [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ

ص: 50

النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ بتقديرنا و سرّ أمورنا أو لا يعلمون كعلمه.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 69 الى 76]

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 100

وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ (73)

قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

ثمّ أخبر سبحانه عن دخولهم عليه [فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ قالوا: هذا أخونا الّذي أمرتنا أن نأتيك به. فقال: أحسنتم. ثمّ أكرمهم و أضافهم و قال: يجلس كلّ بني أمّ على مائدة فجلسوا، فبقي ابن يامين قائما فردا فقال له يوسف: مالك لا تجلس؟ قال: إنّك قلت: ليجلس كلّ بني أمّ على مائدة و ليس لي فيهم ابن أمّ، فقال يوسف: فما كان لك ابن امّ؟ قال: بلى، قال يوسف: فما فعل؟ قال: زعم هؤلاء أنّ الذئب أكله! قال: فما بلغ من حزنك عليه؟ قال:

ولد لي أحد عشر ابنا كلّهم اشتققت له اسما من اسمه فقال له يوسف: أراك قد عانقت النساء و شممت الولد من بعده. قال بنيامين: إنّ لي أبا صالحا و قد قال لي: تزوّج لعلّ اللّه يخرج منك ذرّيّة تثقل الأرض بالتسبيح. فقال له يوسف: فاجلس معي على المائدة [قالَ له [إِنِّي أَنَا أَخُوكَ أي اطّلعه على أنّه أخوه، و قيل: إنّه قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، و لم يعترف له بالنسبة، و لكنّه أراد أن يطيب قلبه. فلا تحزن بشي ء سلف من إخوتك.

[فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ و أعطاهم ما جاءوا لطلبه من الميرة و جعل لكلّ واحد منهم حمل بعير و يسمّى حمل التاجر جهازا [جَعَلَ الصاع في متاع [أَخِيهِ بنيامين، و قيل: إنّ السقاية الماعون الّذي كان الملك يشرب منه، أو الدوابّ كانت يشرب منها و يكال بها، ثمّ جعل يكال به الطعام، و كان من ذهب مرصّعة بالجواهر الثمينة. ثمّ ارتحلوا و انطلقوا.

ص: 51

[ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ و نادى مناد مسمعا معلما [أَيَّتُهَا الْعِيرُ] و القافلة أي يا أهل القافلة. و قيل: كانت القافلة من الحمير [إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ إنّما قال ذلك بعض من فقد الصاع من أتباع يوسف من غير أمره، و لم يعلم بما فعل يوسف من جعل الصاع في رحالهم.

و قيل: إنّ يوسف أمر المنادى بأن ينادي به، و لم يرد سرقة الصاع و إنّما عنى أنّكم سرقتم يوسف عن أبيه و ألقيتموه في الجبّ. و الغرض التسبّب إلى احتباس أخيه عنده، و يجوز أن يكون هذا أمر من اللّه أو استفهام، و إذا كان إدخال هذا الحزن سببا مؤدّيا إلى إزالة غموم كثيرة عن الجميع، و تعلّق بهذا الأمر هذه المصلحة فقد ثبت جوازه. و [قالُوا] أصحاب العير [وَ أَقْبَلُوا] على أصحاب يوسف: ما الّذي فقدتموه من متاعكم؟ [قالُوا]:

صاعه و سقايته. و قال المنادي: [وَ لِمَنْ جاءَ] بالصاع فله [حِمْلُ بَعِيرٍ] من الطعام [وَ أَنَا] بالحمل كفيل و مؤدّ.

قال إخوة يوسف: [تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أيّها القوم [ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ قطّ أي ظهر لكم من حسن سيرتنا و معاملتنا معكم أنّه ليس من شأننا السرقة؛ قيل:

إنّهم لمّا دخلوا مصر شدّوا أفواه دوابّهم كيلا تتناولوا الحرث و الزرع و لهذا قالوا:

«لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ» [قالُوا فَما جَزاؤُهُ أي قال الّذين نادوهم: فما جزاء السارق؟

[قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ قال: كان في ذلك الزمان يستعبدون كلّ سارق بسرقته، و كان استعباد السارق في شرعهم تجري مجرى وجوب القطع في شرعنا، أي ذلك السارق هو جزاء ذلك الجرم [كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ يجوز أن يكون بقيّة كلام إخوة يوسف و يمكن أن يكون كلام أصحاب يوسف.

و لمّا اشترط إخوة يوسف بأنّ من وجد المسروق في رحله فجزاؤه أن يسترقّ سنة قال لهم المؤذّن: إنّه لا بدّ من تفتيش أمتعتكم، فانصرف بهم إلى يوسف فبدأ يوسف في التفتيش بأوعيتهم لإزالة التهمة.

[ثُمَّ اسْتَخْرَجَها] يعني السقاية [مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ و أرجع ضمير المؤنّث إلى السقاية، و المذكّر إلى الصاع، و الصواع يذكّر و يؤنّث.

ص: 52

و قيل: إنّ حكم السارق في شريعة يعقوب أن يستخدم و يسترقّ على قدر سرقته و في دين الملك الضرب و الضمان ضعفين. فسألهم يوسف: ما جزاء السارق عندكم؟ فقالوا: أن يؤخذ بسرقته كذلك نجزي الظالمين، قال الإخوة: أي مثل ما ذكرنا جزاء السارقين نجزيهم. فأقبل الإخوة على بنيامين و وبّخوه، و قالوا له: قد فضحتنا و سوّدت وجوهنا متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: وضع هذا الصاع في رحلي الّذي وضع الدراهم في رحالكم.

[كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي مثل ذلك الكيد الّذي كاد الإخوة بيوسف ألهمنا يوسف ليكيد بأمر تهيّأ له أن يحبس أخاه ليكون سببا لوصول خبره إلى أبيه فجازيناهم على كيدهم بما فعلوا بيوسف من قبل. و قيل: معنى «كدنا» دبّرنا و دلّلنا بيوسف بدلالة قوله: «وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» لأنّه علم من صلاح هذا الأمر ما لم يعلمه غيره فحينئذ الكيد استسلامهم لهذا الحكم في حقّ السارق، و إلقاء اللّه في قلوب إخوته تقرير هذا الحكم لأنّه ما كان حكم الملك الاسترقاق، بل كان حكم السارق الضرب و الغرامة مضاعفة.

و لمّا أقرّوا أثبتوا على أنفسهم هذا الحكم لأنّ يوسف [ما كانَ يتمكّن [أن يأخذ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا] أنّه تعالى كادله و ألهمه هذا الأمر ليتوسّل به إلى أخذ أخيه، و لفظ «الكيد» مشعر بالحيلة و الخدعة، و ذلك في حقّ اللّه محال لكن أمثال هذه الألفاظ تحمل على نهايات الأغراض المفيدة لا على بدايات الأغراض فالكيد إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه عنده و لا سبيل له إلى دفعه لتحقّق المصالح في إيقاعه، فالكيد في حقّ اللّه تعالى محمول على هذا المعنى لأنّه سبحانه شاء كذلك للمصالح المترتّبة عليه.

[نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ] من العلم و الحكمة كما وقع ليوسف من النبوّة و العلم [وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ لأنّ إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء إلّا أنّ يوسف كان زائدا عليهم بالعلم و المعرفة.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 77 الى 80]

قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80)

ص: 53

ثمّ أخبر سبحانه عن إخوة يوسف: أنّهم [قالُوا] ليوسف: [إِنْ يَسْرِقْ بنيامين [فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ أمّ و أب [قَبْلُ ذلك؛ فليست سرقته أمر بديع فإنّه اقتدى بأخيه يوسف.

و اختلف في كيفيّة ما وصفوه به من السرقة على أقوال:

فقيل: إنّ عمّة يوسف كانت تحضنه بعد وفات أمّه راحيل و تحبّه حبّا شديدا، فلمّا ترعرع أراد يعقوب أن يستردّه منها، و كانت أكبر أولاد إسحاق، و كان عندها منطقة إسحاق و كانوا يتوارثونها بالكبر فاحتالت بحيلة، و جاءت بالمنطقة و شدّتها على وسط يوسف و ادّعت أنّه سرقها، و كان من سنّتهم استرقاق السارق، فحبسه بهذا السبب.

و قيل: إنّه سرق صنما لجدّه من أمّه كان جدّه يعبده فأمرته أمّه أن يسرق ذلك الصنم و يكسره فلعلّه ترك عبادة الأوثان ففعل يوسف ما أمرته أمّه فهذا هو السرقة.

و قيل: إنّه يسرق من مائدة أبيه الطعام و يدفعه إلى الفقراء.

و قيل: سرق عناقا من أبيه و دفعه إلى مسكين و كان أبوه راضيا و لكن لا يظهر رضاه لإخوته حذرا من الحسد.

و قيل: إنّهم لحسدهم و عداوتهم القديمة نسبوا السرقة من دون هذه الدواعي.

قوله تعالى: [فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ أي فأخفى يوسف تلك الكلمة الّتي قالوها و لم يبدها لهم. قال الزجّاج: «فأسرّها» إضمار على شريطة التفسير لأنّ قوله: «أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً» بدل من «ها» في «أسرّها» و المعنى: فأسرّ يوسف في نفسه.

قوله: [أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً] و قال: أنتم شرّ مكانا، و التفسير بعد الإضمار يقع بمفرد كقولك: «نعم رجلا زيد» ففي «نعم» ضمير فاعلها و «رجلا» تفسير لذلك الفاعل المضمر و يقع بجملة مثل «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فمعنى ضمير القصّة و الشأن اللّه أحد. و بالجملة ليس

ص: 54

المعنى أنّه قال هذا الكلام، و هو «أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً» بل في نفسه قال ثمّ جهر بقوله: [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ .

و الصحيح في مذهبنا أنّهم ما كانوا أنبياء و الأسباط من أولادهم لأنّ النبيّ لا يجوز أن يقع منه القبيح أصلا حتّى أنّ أغلب أهل السنّة وافقونا على هذا القول؛ قال البلخيّ:

إنّهم كذبوا و اتّهموا أخاهم و لم يصحّ أنّهم كانوا أنبياء.

قوله: [يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ و سألوه أن يأخذ عنه بدلا شفقة على والدهم و رقّقوا في الاسترحام بالقول و أنّ أباه كثير السنّ و كبير القدر لا يحبس ابن مثله [إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في الكيل و ردّ البضاعة و في الضيافة و نحن نأمل منك هذا.

فأجابهم يوسف: أعوذ باللّه [أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا] و كيف يجوز أن نأخذ بريئا بمذنب؟ أي أعوذ باللّه من أخذ أحد بغيره، فحينئذ إذا فعلنا كذلك إنّا من الظالمين.

فلو قيل: كيف يجوز للرسول هذه الأمور؟ الجواب لعلّه كان مأمورا بذلك تشديدا للمحنة على يعقوب و نهاه اللّه عن العفو و الصفح و أخذ البدل.

قوله تعالى: [فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا] أي لمّا آيسوا من قبول يوسف قولهم تفرّدوا عن سائر الناس و شرعوا يتناجون و يتشاورون فيما وقعوا فيه [قالَ كَبِيرُهُمْ في السنّ و هو روبيل أو يهودا، و هو الّذي نهاهم عن قتل يوسف [أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ .

قال ابن عبّاس: لمّا قال يوسف: «مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ» غضب يهودا و كان إذا غضب و صاح فلا تسمع صوته حامل إلّا وضعت و تقوم شعره على جسده فلا يسكن حتّى يضع بعض آل يعقوب يده عليه أو يمسّه فقال يهودا لبعض إخوته:

اكفوني أسواق أهل مصر و أنا أكفيكم الملك، فقال يوسف لابن صغير له: مسّه، فمسّه فذهب غيظه. و قيل: كان الصبيّ بين يدي يوسف يلعب برمّانة الذهب فأخذ يوسف الرمّانة و دحرجها نحو يهودا فتبعها الصبيّ فمسّ يد الصبيّ يد يهودا فسكن غضبه، و فعل يوسف ذلك ثلاث مرّات، فقال يهودا: إنّ في البيت معنا لبعض ولد يعقوب إنسان.

ص: 55

ثمّ بعد اليأس [قالَ : لا أفارق أرض مصر [حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف إليه [أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج أو بالانتصاف ممّن أخذ أخي بخلاصه منه بسبب من الأسباب [وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ و المراد ظهور عذر يزول حياؤه و خجله من أبيه.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 81 الى 82]

ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (82)

. فقال لهم كبيرهم روبيل أو يهودا في العلم أو في السنّ: [ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا ... إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ و قرئ بالتشديد [وَ ما شَهِدْنا] عندك بهذا إلّا بما شهدنا من الصاع استخرج من رحله [وَ ما كُنَّا] نعلم الغيب حين سألناك أن تبعث ابن يامين معنا، و لم ندر أنّ أمره يؤول إلى هذا، و إنّما قصدنا الخير و لو علمنا ذلك ما ذهبنا به و ما كنّا بهذا الأمر و وقوعه عالمين.

و قيل: معنى الغيب الكيل بلغة حمير.

و نقل أنّ يعقوب قال لهم: فهب إنّه سرق و لكن كيف عرف الملك أنّ شرع بني إسرائيل أنّ من يسرق يسترقّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم، فقالوا عند هذا الكلام:

إنّا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة و ما كنّا نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها. فقوله: «وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» إشارة إلى هذا المعنى.

قوله: [وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ] أي اسأل أهل القرية [الَّتِي كُنَّا فِيها] و هي مصر أي سل من شئت من أهل مصر فإنّ هذا خبر شاع و كان بعض أهل مصر قد صاروا إلى الناحية الّتي أبوهم فيها، و اسأل أهل القافلة الّتي كمّا فيها، و كانوا من أهل كنعان راجعين من مصر خبر ابن يامين [وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك، فلمّا رجعوا إلى أبيهم و قصّوا عليه القصّة، قال لهم: عندي ليس الأمر على ما تقولونه.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 83]

قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)

. لمّا سمع يعقوب من أبنائه هذا الكلام [قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ قيل: معناه:

سوّلت لكم أنفسكم أمرا خيّلت لكم أنّه سرق و ما سرق. قال بعض المفسّرين: «بَلْ سَوَّلَتْ

ص: 56

لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» ليس هاهنا المراد الكذب و الحيلة، كما في قوله في واقعة يوسف حين قال: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ» و مراد يعقوب ذكر التسويل الثاني لا التسويل الأوّل أي أردتم المنفعة فعاد ذلك شرّا و ضررا، و قد كنتم لا تعلمون أنّ قضاء اللّه جار على خلاف تدبيركم.

[عَسَى اللَّهُ أَنْ يجمعهم [جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي و [الْحَكِيمُ في أفعاله.

قيل: إنّ روبيل أو يهودا لمّا عزم على الإقامة بقوله: «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ» أمره الملك أن يذهب مع إخوته سوى بنيامين فقال: اتركوني و إلّا صحت صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلّا و تضع حملها، فقال يوسف: دعوه.

و لمّا رجع القوم إلى يعقوب و أخبروه بالواقعة بكى، و قال: يا بنيّ لا تخرجون من عندي مرّة إلّا و نقص بعضكم: ذهبتم مرّة فنقص يوسف و في الثانية نقص روبيل و بنيامين، ثمّ بكى و قال: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي» لعلّه تعالى أخبره من بعد محنته أنّ يوسف حيّ أو قال ذلك بحسن ظنّه باللّه و بقوله: «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» (1).

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 84 الى 87]

وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)

. و لمّا سمع يعقوب كلام أبنائه ضاق صدره جدّا و أعرض عنهم و فارقهم و فرّ عنهم و عظم حزنه، و ذكر يوسف، و قال: [يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ و إنّما عظم حزنه لأنّ الحزن الجديد على بنيامين جدّد حزن يوسف لأنّهما من امّ واحدة و كلاهما متشابهان، فقال:

«يا أَسَفى أي يا طول حزني على يوسف و لمّا كان البكاء من أجل الحزن أضاف بياض البصر إليه فقال: [وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ أي مملوء من الغيظ و لا يشكوه لأحد.

قال ولد يعقوب لأبيهم: [تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ أي لا تزال تذكر يوسف حتّى

ص: 57


1- الطلاق: 7.

تكون دنفا فاسد العقل أو قريبا من الموت. و قيل: معناه هرما باليا، أو تصير من الميّتين.

و إنّما قالوا له ذلك إشفاقا عليه و رحمة له؛ يقال: ما فتئت و فتيت إذا نسيت و حرف النفي مضمر على معنى ما تفتؤ؛ قال امرؤ القيس: «فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا» و المعنى: لا أبرح قاعدا. قال يعقوب: في جوابهم إنّما أشكوا همّي و حاجتي إلى اللّه.

و نقل الفخر الرازيّ رواية عن النبيّ أنّه قال: كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له يوما: ما الّذي أذهب بصرك و قوّس ظهرك؟ فقال: الّذي أذهب بصري البكاء على يوسف و قوّس ظهري الحزن على بنيامين.

فأوحى اللّه إليه أ تشكوني إلى غيري فقال: [إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي و البثّ ما أبداه من الهمّ و الحزن ما أخفاه [وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ و قال: يا ربّ أما ترحم الشيخ الكبير قوّست ظهري و أذهبت ريحانتيّ يوسف و بنيامين؟

و أتاه جبرئيل بالبشرى و قال: و لو كانا ميّتين لنشرتهما لك فاصنع طعاما للمساكين فإنّ أحبّ عبادي إليّ الأنبياء و المساكين أو تدري لم أذهبت بصرك و قوّست ظهرك؟ لأنّك ذبحت شاة و أتاك مسكين و هو صائم فلم تطعمه شيئا. فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغذاء أمر مناد ينادي: ألا من أراد الغذاء من المساكين فليتغدّ مع يعقوب، و إذا كان صائما أمر مناد ينادي: ألا من أراد أن يفطر مع يعقوب فليحضر.

[وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي و أعلم من رحمة اللّه ما لا تعلمون. في كتاب النبوّة بالإسناد عن سدير الصيرفيّ عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: إنّ يعقوب دعا اللّه سبحانه في أن يهبط عليه ملك الموت فأجابه فقال له: ما حاجتك؟ فقال عليه السّلام: أخبرني هل مرّ بك روح يوسف في الأرواح؟ فقال: لا، فعلم أنّه حيّ فقال: [يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ و استخبروا من شأنهما.

فلو قيل: كيف خفي أخبار يوسف على يعقوب في المدّة الطويلة مع قرب المسافة و كيف لم يعلم يوسف أباه بخبره لتسكن نفسه و يزول وجده؟

قال المرتضى قدّس سرّه: يجوز أن يكون ذلك له ممكنا و كان قادرا عليه لكنّ اللّه

ص: 58

سبحانه أوحى إلى يوسف بأن يعدل عن اطّلاعه عن خبره لتشديد المحنة على يعقوب، و للّه سبحانه أن يصعب التكليف و أن يسهّله.

و قد بلغ حزن يعقوب حزن سبعين ثكلى، قيل: عمي من البكاء. و قيل: ما عمي و لكن صار بحيث يدرك إدراكا ضعيفا و ما جفّت عينا يوسف من وقت فراق يعقوب يوسف إلى حين لقائه، و تلك المدّة قيل: ثمانون عاما- و ما كان على وجه الأرض عبد أكرم على اللّه من يعقوب- أو أربعون سنة.

[وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رحمة [اللَّهِ و من فرجه [إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رحمته [إِلَّا الْكافِرُونَ و في هذه الآية دلالة على أنّ الفاسق الملي ء لا يأس عليه من رحمة اللّه بخلاف ما يقول أهل الوعيد.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 88 الى 93]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)

المعنى: و لمّا قال يعقوب لبنيه «اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ» خرجوا إلى مصر [فَلَمَّا دَخَلُوا] على يوسف [قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ] أي أصابنا و من يختصّ بنا الجوع و الحاجة من السنين الشداد [وَ جِئْنا] بمتاع قليل ندافع بها الأيّام دراهم رديئة زيوفا لا تنفق في ثمن الطعام، و قيل: كانت البضاعة خلق الغرارة و الحبل و أمتعة رثّة. و قيل:

الصوف و السمن. و قيل: الحبّة الخضراء. و قيل: الأقط و النعال و الأدم و قيل: صوف المعز.

و قيل: دراهم مصر كانت تنقش فيها صورة يوسف و الدراهم الّتي جاءوا بها ما كان فيها صورة يوسف، فما كانت مقبولة عند الناس و ما كانت رائجة. «و المزجاة» الشي ء القليل الّذي يدفع الإنسان في الزمان به.

و لمّا وصفوا شدّة حالهم قالوا: [فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ و مرادهم أن يساهلهم بأن يقيم

ص: 59

الناقص مقام الزائد و الردي ء مقام الجيّد [وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا] بالجيّد [إِنَّ اللَّهَ يثيب [الْمُتَصَدِّقِينَ على صدقاتهم.

و في كتاب النبوّة عن أبي عبد اللّه- بحذف الأسانيد- أنّ يعقوب كتب إلى يوسف:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم إلى عزيز مصر و مظهر العدل و موفي الكيل، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صاحب نمرود الّذي جمع له النار ليحرقه بها فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما، و أنجاه منها. أخبرك أيّها العزيز إنّا أهل بيت لم يزل البلاء إلينا سريعا من اللّه ليبلونا عند السرّاء و الضرّاء، و إنّ المصائب تتابعت عليّ سنين متطاولة أوّلها أنّه كان لي ابن سمّيته يوسف و كان سروري من بين ولدي و قرّة عيني و إنّ إخوته من غير امّه سألوني أن أبعثه معهم يرتع و يلعب فبعثته معهم بكره، فجاؤوا عشاء يبكون و جاءوا على قميصه بدم كذب، و زعموا أنّ الذئب أكله؛ فاشتدّ لفقده حزني و كثر عن فراقه بكائي حتّى ابيضّت عيناي من الحزن.

و إنّه كان له أخ و كنت به معجبا و كان لي أنيسا، و كنت إذا ذكرت يوسف ضممته إلى صدري سكن بعض وجدي، و أنّ إخوته ذكروا لي أنّك سألتهم عنه و أمرتهم أن يأتوك به فإن لم يأتوك به منعتهم الميرة، و بعثته معهم ليمتاروا لنا قمحا فرجعوا إليّ و ليس هو معهم و ذكروا أنّه سرق المكيال للملك، و نحن أهل بيت لا نسرق و قد حبسته عنّي و قد اشتدّ لفراقه حزني حتّى تقوّس ظهري لذلك، فمنّ عليّ بتخلية سبيله و إطلاقه من حبسك و طيّب لنا القمح و أسمح لنا في العسر و أوف لنا الكيل و عجّل سراح آل إبراهيم).

قال: فمضوا بكتابه حتّى دخلوا على يوسف في دار الملك و قدّموا الكتاب إلى يوسف فأخذ يوسف كتاب يعقوب و قبّله و وضع على عينيه و بكى و انتحت حتّى بلّت دموعه القميص الّذي عليه ثمّ أقبل عليهم و قال: [هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ أي بإذلاله و إبعاده عن أبيه و إلقائه في البئر و الاجتماع على قتله و بيعه بثمن و كس، و ما فعلتم بأخيه من امّه حتّى صار ذليلا بينكم؟ و لم يذكر إيّاه تعظيما له. و حاصل المعنى أنّ ما ارتكبتم ما أعظمه و أقبحه! و في هذا البيان مصدوق قوله: «لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ» و قوله: [إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أي فعلتم حين كنتم جاهلين، و كان هذا الكلام تلقينا

ص: 60

لهم لما يعتذرون به إليه و هذا هو الكرم إذ صفح عنهم و لقّنهم وجه العذر.

قيل: إنّ يوسف لمّا قال لهم: «هَلْ عَلِمْتُمْ الآية» تبسّم فلمّا أبصروا ثناياه و كانت كاللؤلؤ المنظوم شبّهوا بيوسف و [قالُوا] له: [أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ فرفع التاج عن رأسه فعرفوه [قالَ أَنَا يُوسُفُ و لم يقل: أنا هو [وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا] بالاجتماع [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللّه [وَ يَصْبِرْ] على المعاصي و على المصائب [فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ .

[قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ و فضّلك [عَلَيْنا] و ما كنّا إلّا مخطئين و آثمين فيما فعلنا [قالَ يوسف [لا تَثْرِيبَ و لا توبيخ و تقريع [عَلَيْكُمُ الآن فيما فعلتم و إنّي أطلب العفو من اللّه لكم [وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ في عفوه عنكم [اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا] و قد مرّ تفسير القميص [فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ .

قال يوسف: إنّما يذهب بقميصي من ذهب به أوّلا فقال يهودا: أنا ذهبت به و هو ملطّخ بالدم فأخبرته أنّه أكله الذئب. قال: فاذهب به أنت أيضا فأفرحه كما حزنته. فحمل القميص و خرج حافيا حاسرا حتّى أتاه و كان معه سبعة أرغفة و كانت مسافة بينهما ثمانين فرسخا فلم يستوف الأرغفة في الطريق.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 94 الى 98]

وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)

[وَ لَمَّا] خرجت القافلة و انفصلت من مصر متوجّهة نحو الشام [قالَ أَبُوهُمْ لأولاده الّذين كانوا عنده و لم يخرجوا إلى مصر: [إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

وجد ريح يوسف حين فصلت العير من مصر و هو عليه السّلام بفلسطين من مسير ثمانين فرسخا، و قيل: مسيرة شهر.

قال ابن عبّاس: إنّ الصبا استأذنت ربّها أن يأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير فأذن لها فأتته بها و لذلك يستروح كلّ محزون بريح الصبا؛ قال الشاعر:

ص: 61

فإنّ الصبا ريح إذا ما تنسّمت على نفس (قلب خ ل) محزون تجلّت همومها

قوله: [لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ و «التفنيد» تضعيف الرأي و تسفيه الشخص و «الفند» الكذب أي لو لا أن تكذّبوني و تقولون: إنّ هذا شيخ خرف و ذهب عقله. قالوا إشفاقا عليه: إنّك لفي ذهابك القديم عن الصواب في حبّ يوسف لأنّه باعتقادهم أنّ يوسف قد مات منذ سنين.

[فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ] و هو يهودا، و قيل: إنّه مالك بن زعر [أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فعاد [بَصِيراً] فعادت قواه أجمع، فقال يعقوب للبشير: ما أدري ما أثيبك به؟ هوّن اللّه عليك سكرات الموت.

[قالَ يعقوب: [أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي إنّي كنت أعلم أنّ اللّه يصدّق رؤيا يوسف و كنتم لا تعلمون قالوا: إنّ اللّه أعلمه بحياته و لم يعلمه بمكانه! روي أنّ يعقوب لمّا جاءه البشير قال للبشير: كيف يوسف؟ قال: هو ملك مصر! قال يعقوب:

ما أصنع بالملك؟ على أيّ دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمّت النعمة.

ثمّ إنّ أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون إليه [و قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا] [قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ و ظاهر الكلام أنّه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم.

الأكثرون على أنّه أراد أن يستغفر لهم وقت السحر لأنّ هذا الوقت أوفق للإجابة.

و قال ابن عبّاس: أخّر الاستغفار إلى ليلة الجمعة لأنّه أوفق للإجابة، أو أنّه أراد أن يعلم أنه هل تابوا على سبيل الحقيقة أم لا؟ و قد روي أنّ يعقوب كان يستغفر في كلّ ليلة جمعة من نيّف و عشرين سنة. و يقوم إلى الصلاة إلى وقت السحر و لمّا يفرغ من صلاته رفع يده إلى السماء و قال: اللهمّ اغفر جزعي على يوسف و قلّة صبري عليه و اغفر لأولادي ما فعلوه بيوسف. فأوحى اللّه إليه قد غفرت لك و لهم أجمعين.

و روي أن أبناء يعقوب قالوا ليعقوب و قد غلبهم الخوف و البكاء: ما يغني عنّا إن لم يغفر لنا فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو و يوسف خلفه يؤمّن و قاموا خلفهما أذلّة

ص: 62

خاشعين عشرين سنة حتّى قلّ صبرهم فظنّوا أنّها الهلكة فنزل جبرئيل و قال: إنّ اللّه تعالى أجاب دعوتك في ولدك.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 99 الى 100]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

المعنى هاهنا حذف تقديره: فلمّا خرج يعقوب و أهله من أرضهم و أتوا دخلوا على يوسف، فجنف السير إلى مصر فرحا و سرورا في تسعة أيّام فلمّا دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه و قبّله و بكى و رفعه و رفع خالته على سرير الملك، ثمّ دخل منزله و اكتحل و ادّهن و لبس ثياب العزّ و الملك فلمّا رأوه سجدوا إعظاما له و شكرا للّه عند ذلك و لم يكن يوسف في تلك المدّة يدّهن و لا يكتحل و لا يطيب.

و قيل: إنّ يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة مع ما يحتاج إليه في السفر فلمّا دنا يعقوب من مصر تلقّاه يوسف في الجند و أهل مصر، فقال يعقوب: يا يهودا أ هذا فرعون مصر؟ قال: هذا ابنك. ثمّ تلاقيا.

قال الكلبيّ: تلاقيا على يوم من مصر فلمّا دنا يعقوب بدأ بالسلام فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان.

عن أبي عبد اللّه- بحذف الأسانيد- قال: لما أقبل يعقوب إلى مصر خرج يوسف ليستقبله فلمّا رآه يوسف همّ بأن يترجّل له، ثمّ نظر إلى ما هو من الملك فلم يفعل فلمّا سلّم على يعقوب نزل جبرئيل عليه، و قال: يا يوسف إنّ اللّه جلّ جلاله يقول: هل منعك أن تنزل إلى عبدي الصالح ما أنت فيه؟ أبسط يدك فبسطها فخرج من بين أصابعه نور فقال:

يا جبرئيل ما هذا؟ قال: هذا أنّه لا يخرج من صلبك نبيّ أبدا عقوبة على ما صنعت بيعقوب إذ لم تنزل إليه.

و قوله: [آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ أي ضمّ يوسف إليه أبويه و أنزلهما عنده و عانقهما. و

ص: 63

قال أكثر المفسّرين: إنّه يعني بأبويه أباه و خالته أمّ يامين لأنّ يعقوب لمّا مضت أمّ يوسف في النفاس بأخيه بنيامين تزوّج خالة يوسف، و «بنيامين» بالعبرانيّة ابن الوجع، فسمّاها بأحد الأبوين لقيامها مقام الأمّ و لأنّ الخالة امّ كما أن العمّ يسمّى أبا، و منه قوله: «وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ» (1) و قيل: يريد أباه و امّه و كانا حيّين.

و قيل: إنّ راحيل امّه نشرت من قبرها حتّى سجدت له تحقّقا للرؤيا. و بالجملة قال لهم يوسف قبل دخولهم مصر: [ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ و الاستثناء يعود إلى الأمن؛ لأنّهم ما كانوا يدخلون مصر إلّا بجواز ملوك مصر و كانوا يخافون من ملوك مصر و أنّهم لمّا دخلوا مصر كانوا ثلاثة و سبعون إنسانا، و خرجوا مع موسى و هم ستّمائة ألف و خمسمائة و بضع و سبعون رجلا.

[وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ أي رفعهما على سرير السلطنة إعظاما لهما و «العرش» السرير المرتفع و انحنوا على وجوههم و كان تحيّة الناس بعضهم للملوك يومئذ السجود و التكفير (2)، و لم يكونوا نهوا عن السجود لغير اللّه في شريعتهم. و قيل: كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعل الأعاجم. و قيل: الهاء راجعة إلى اللّه أي سجدوا للّه شكرا على هذه النعمة. و هذا ينافي الرؤيا. و قيل: توجّهوا في السجود إليه كما يقال: صلّى للقبلة، و يراد استقبالها.

و قال عليّ بن إبراهيم: إنّ يحيى بن أكثم سأل مسائل و عرضوها على أبي الحسن عليّ بن محمّد الجواد عليهما السّلام، أحدها أن قال: أخبرني أسجد يعقوب و ولده ليوسف و هم أنبياء؟ فأجاب أبو الحسن: أمّا سجود يعقوب و ولده فإنّه لم يكن ليوسف و إنّما كان ذلك طاعة للّه منهم و تحيّة ليوسف كما أنّ السجود من الملائكة كان منهم طاعة للّه و تحيّة لآدم عليه السّلام، فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا للّه لاجتماع شملهم، ألم تر أنّ يوسف يقول في ذلك الوقت: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ الآية» و قال يوسف: يا أبت هذا تأويل رؤياي و تصديق رؤياي الّتي رأيتها من قبل.ر.

ص: 64


1- البقرة: 133.
2- وضع اليدين على الصدر.

فائدة: إنّ من قرأ «يا أَبَتِ» بكسر التاء فعلى الإضافة إلى نفسه و حذف الياء لأنّ ياء الإضافة يحذف في النداء و أمّا إدخال تاء التأنيث في الأب فإنّما دخلت في النداء خاصّة و المذكّر قد يسمّى باسم فيه علامة التأنيث، فالاسم مثل عيسى و نفس، و الصفة نحو غلام لقيته و رجل ربعة فلزمت التاء في الأب عوضا من ياء الإضافة و الوقف عليها بأنّه يقول: يا أبه بالهاء. و أمّا يا «أبت» بالفتح فعلى أنّه أبدل من ياء الإضافة ألفا ثمّ حذف الألف كما حذف ياء الإضافة و بقيت الفتحة و قول رؤبة: «يا أبتا علّك أو عساكا» فلمّا كثرت هذه الكلمة ألزموها الحذف و القلب، و أمّا الوقف على الهاء لأنّ تاء التأنيث يبدل منها الهاء في الوقف فيغيّر الحرف بذلك في الوقف كما غيّر التنوين إذا انفتح ما قبله، بأن أبدل منه الألف.

و بالجملة فيقول الإمام: ثبت أنّ السجود من آل يعقوب إنّما كان للّه لا ليوسف قال يوسف: يا أبت هذا تعبير رءياي الّتي رأيتها من قبل قد جعلها حقّا و واقعا و صدقا في اليقظة. و قيل: كان بين الرؤيا و تأويلها ثمانون سنة. و قيل: سبعون، عن سلمان الفارسيّ. و قيل: اثنتان و عشرون. و قيل ثمانية عشر. و ولد ليوسف من زليخا: إفرائيم، و ميسان، و رحمة امرأة أيّوب، و كان بين يوسف و بين موسى أربع مائة سنة.

قوله: [وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ أي أخرجني من السجن إلى أن بلغني إلى هذه المرتبة [وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ] إلى هاهنا في هذا المقام فإنّهم كانوا يسكنون البادية و يرعون أغنامهم فيها، و «الْبَدْوِ» بسيط الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد، سمّي المكان باسم المصدر فيقال: «بدو، و حضر» و قيل: إنّ «بدا» و «شعب» موضعان؛ قال كثيّر:

و أنت الّذي حبّبت شعبا إلى بداإليّ، و أوطاني بلاد سواهما

و على هذا القول ما كانوا بدويّين بل حضريّين. و إنّما بدأ يوسف بالسجن في تعداد نعم اللّه دون إخراجه من الجبّ، مع أنّه أهمّ في الذكر؟ كرما بصنيع إخوته به.

[مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي و أفسد اللعين بيننا أي دخل بيننا بالحسد، و أصل النزع النخس للدابّة و حملها على الجري.

ص: 65

و احتجّوا العدليّة بهذه الآية على بطلان الجبر، لأنّه عليه السّلام أضاف الإحسان إلى اللّه و أضاف النزغ إلى الشيطان، و لو كان ذلك أيضا من الرحمن لوجب أن لا ينسب إلّا إلى اللّه كما في النعم نسبها إلى اللّه إنّه هو الحكيم في أفعاله العليم بالمصلحة.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 101 الى 102]

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (102)

و في كتاب النبوّة بالإسناد عن أبي عبد اللّه قال: قال يعقوب ليوسف: يا بنيّ حدّثني كيف صنع بك إخوتك؟ قال: يا أبه دعني، فقال: أقسمت عليك إلّا ما أخبرتني. فقال له: أخذوني و أقعدوني على رأس الجبّ، ثمّ قالوا: لي انزع قميصك، فقلت لهم: إنّي أسألكم بوجه أبي يعقوب أن لا تنزعوا قميصي و لا تبدوا عورتي، فرفع فلان السكّين عليّ و قال:

انزع، فصاح يعقوب و سقط مغشيّا عليه، ثمّ أفاق فقال: يا بنيّ كيف صنعوا بك؟ فقال يوسف: يا أبه إنّي أسألك بإله إبراهيم و إسماعيل و إسحاق إلّا أعفيتني عن هذه المقالة، قال: فتركه يعقوب. و في رواية أنّ يوسف قال لأبيه: لا تسألني عن صنع إخوتي بي و اسأل عن صنع اللّه بي.

و بالجملة عاش يعقوب مائة و سبعا و أربعين سنة و دخل مصر على يوسف و هو ابن مائة و ثلاثين سنة، و كان بمصر سبع عشرة سنة، ثمّ توفّي و نقل إلى بيت المقدس في تابوت من ساج و وافق ذلك يوم مات عيصو أخوه فدفنا في قبر واحد، فمن ثمّ ينقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس، ثمّ رجع يوسف إلى مصر بعد أن دفن أباه ببيت المقدس عن وصيّة منه، و عاش بعد أبيه ثلاثا و عشرين سنة.

و في كتاب النبوّة عن أبي جعفر أنّه عليه السّلام قال: عاش يعقوب مع يوسف بمصر عامين، قال الراوي: سألته فمن كان الحجّة للّه في الأرض يعقوب أم يوسف؟ قال: كان الحجّة يعقوب و كان الملك ليوسف و كان ليوسف بعد يعقوب الحجّة و رسولا نبيّا، أما تسمع قول

ص: 66

اللّه: «وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ». (1) قال أبو عبد اللّه: و لمّا جمع اللّه شمل يعقوب و أقرّ عين يوسف و أتمّ له رؤياه و وسّع عليه في ملك الدنيا و نعيمها، علم أنّ ذلك لا يبقى له و لا يدوم فطلب من اللّه نعيما لا يفنى و اشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنّى الموت و دعا به، و لم يتمنّ ذلك نبيّ قبله و لا بعده فقال:

[رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي أعطيتني ملك النبوّة و ملك مصر [وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تأويل الرؤيا خالق [السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و منشئهما لا على مثال سبق [أَنْتَ وَلِيِّي أي ناصري و حافظي [فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً] أي ثبّتني على الإيمان و أمتني مسلما [وَ أَلْحِقْنِي بأهل الجنّة.

فتوفّاه اللّه بمصر و هو نبيّ فدفن في النيل في صندوق من رخام؛ و ذلك أنّه لمّا مات تشاحّ الناس عليه كلّ يحبّ أن يدفن في محلّته لما كانوا يرجون من بركته فرأوا أن يدفنوه في النيل؛ فيمرّ الماء عليه ثمّ يصل إلى جميع مصر فيكون كلّهم فيه شركاء و في بركته مستفيضون، فكان قبره في النيل في صندوق من رخام.

قوله: [ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ثمّ عاد سبحانه بعد تمام القصّة إلى خطاب النبيّ فقال: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ» أي الّذي قصصت عليك من قصّة يوسف من جملة أخبار المجهولة عليك [نُوحِيهِ إِلَيْكَ على ألسنة الملائكة لتخبر به قومك و يكون علمه دلالة على إثبات نبوّتك و معجزة على صدقك [وَ ما كُنْتَ يا محمّد عند أولاد يعقوب إذ عزموا على إلقائه في البئر و اجتمع آراؤهم عليه [وَ هُمْ يَمْكُرُونَ و يحتالون في أمر يوسف حتّى ألقوه.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 103 الى 107]

وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)

المعنى: لمّا بيّن الآيات الّتي لو تفكّروا فيها عرفوا الحقّ من جهتها، و لم يتفكّروا،

ص: 67


1- المؤمن: 34.

بيّن في هذه الآية أنّ التقصير من جهتهم لا من جهته سبحانه و لا من جهتك لأنّك دعوتهم فقال: [وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ بمصدّقين نبوّتك [وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ - و «الحرص» طلب الشي ء باجتهاد في إصابته- لأنّ حرص الداعي لا يفيد إذا كان المدعوّ لا يجيب.

و سبب نزول الآية أنّ جماعة من اليهود طلبوا بيان هذه القصّة من رسول اللّه و ظنّ رسول اللّه أنّهم بعد سماع القصّة يؤمنون، فلمّا ذكرها صلّى اللّه عليه و آله أصرّوا على كفرهم؛ فنزلت.

و هذا القرآن يشتمل على منافع عظيمة و أنت لا تطلب منهم شيئا و مالا جعلا، فلو كانوا عقلاء لقبلوا و لم يتمرّدوا؛ لأنّ القرآن تذكرة لهم في دلائل التوحيد و النبوّة، و حاصل المعنى أنّك ما تطلب منهم أجرا و مالا حتّى يكون ذلك مانعا لقبولهم، فكيف لا يقبلون صلاحهم؟

قوله: [وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ] أي كم من آية و حجّة من العدد شئت من العلامات الدالّة على وحدانيّة اللّه من الشمس و القمر و النجوم و السماوات و الجبال و الشجر و ألوان النباتات و أحوال المتقدّمين [يَمُرُّونَ عَلَيْها] و يبصرونها [و هم معرضون عن التفكّر فيها.

قوله: [وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ قريش و عبدة الأصنام كانوا يقرّون باللّه خالقا و محييا و مميتا، و يعبدون الأصنام و يدعونها آلهة مع أنّهم كانوا يقولون: اللّه ربّنا و إلهنا و رازقنا. فكانوا مع هذه الإقرار مشركين بسبب عبادة الأصنام فحينئذ إيمانهم شرك.

و قيل: إنّها نزلت في مشركي العرب إذا سئلوا: من خلق السماوات و الأرض، و ينزل المطر؟ قالوا: اللّه؛ ثمّ هم في تلبيتهم يقولون: لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه و ما ملك.

و ثالث الأقوال أنّهم أهل الكتاب آمنوا باللّه و اليوم الأخر و التوراة و الإنجيل، ثمّ أشركوا بإنكار القرآن و إنكار نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، عن عليّ بن موسى عليه السّلام.

و رابع الأقوال أنّهم المنافقون يظهرون الإيمان و يشركون في السرّ.

ص: 68

و خامس الأقوال أنّ المراد شرك الطاعة لا شرك العبادة أطاعوا الشيطان في المعاصي الّتي يرتكبونها ممّا أوجب اللّه عليها النار، فأشركوا باللّه في طاعته و لم يشركوا باللّه شرك عبادة فيعبدون غيره، عن أبي جعفر عليه السّلام.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قول الرجل: «لو لا فلان لهلكت» و «لو لا فلان لضاع عيالي» جعل للّه شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه و هذا الشرك لا يبلغ به الكفر.

قوله: [أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ أي أ فاطمأنّوا و أمنوا هؤلاء الكفّار أن يأتيهم عذاب من اللّه يعمّهم و يحيط بهم كالغاشية الّتي تحيط و تستر السرج، مجلّلة، مجلّلة لجميعهم، و هو عذاب الاستئصال. و قيل: هي الصواعق و القوارع [أَوْ تَأْتِيَهُمُ القيامة [بَغْتَةً] فجاءة من غير ترقّب على غفلة منهم [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بقيامها، قال ابن عبّاس: تهجم الصيحة بهم و هم في الأسواق و اللقمة في فيهم و الميزان بيدهم.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 108 الى 109]

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللَّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ (109)

المعنى: ثمّ أمر نبيّه أن يبيّن للمشركين ما يدعو إليه فقال: [قُلْ يا محمّد لهم [هذِهِ سَبِيلِي و طريقتي و سنّتي و منهاجي الّذي أدعوكم به و [أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ و توحيده و دينه على يقين و علم لا على وجه التقليد [أَنَا] أدعوكم [وَ مَنِ آمن بطريقتي يدعوكم إلى هذا الأمر و تنزيها للّه عمّا يشركون. و التقدير: قل هذه سبيلي و قل سبحان اللّه. و قيل: اعتراض بين الكلامين و الواو فيه مثل قولك: «قال اللّه و هو منزّه عن الشركاء».

و في هذه الآية دلالة على أنّ دعوة الخلق إلى دين اللّه لا بدّ و أن يكون على بصيرة من الداعي و يقين و فضيلة فضّلها اللّه بعض خلقه بها و هي حرفة الأنبياء قال صلّى اللّه عليه و آله: العلماء أمناء الرسل على عباد اللّه من حيث يحفظون لما يدعونهم إليه.

قوله: [وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ أي إنّه سبحانه إنّما أرسل الرسل من أهل الأمصار لأنّهم

ص: 69

أرجح عقلا و علما من أهل البوادي لبعد أهل البوادي عن العلم؛ قال بعض العلماء: لم يبعث اللّه نبيّا قطّ من أهل البادية و لا من النساء.

[أَ فَلَمْ يَسِيرُوا] هؤلاء المشركون المنكرون لنبوّتك [فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ من المكذّبين لرسلهم؟ و كيف أهلكم بعذاب الاستئصال؟

فيعتبروا و يحذروا مثل ما أصابهم [وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا] يقول هذا صنيعنا بأهل الإيمان و الطاعة، و لدار الآخرة خير لهم من دار الدنيا و ما فيها، أفلا تفهمون ما قيل لكم؟

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 110 الى 111]

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

أخبر اللّه نبيّه في هذه الآية عن حال الرسل مع أممهم تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال- و في الكلام حذف لدلالة الكلام عليه و التقدير: إنّا أخّرنا العذاب عن الأمم السالفة المكذّبة لرسلنا كما أخّرناه عن امّتك يا محمّد حتّى إذا بلغوا إلى حالة يأس الرسل عن إيمانهم و تحقّق يأسهم بإخبار اللّه تعالى إيّاهم-:

[حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من إيمان القوم [فَظَنُّوا] و في هذا الضمير اختلاف قيل: إنّ الضمير راجع إلى القوم؛ إنّ القوم لمّا استبطئوا العذاب ظنّوا أنّ الرسل كذبوا فيما وعدوا من النصر و الظفر، فحينئذ «كذبوا» بالتخفيف.

فإن قيل: هذا إضمار قبل الذكر لأنّه لم يجر فيما سبق من الكلام ذكر المرسل إليهم فكيف يجوز عود هذا الضمير إليهم؟

قلنا: ذكر الرسل يدلّ على المرسل إليهم و إن شئت قلت: إنّ ذكرهم جرى في قوله: «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» فيكون الضمير عائدا إلى الّذين من قبلهم من مكذّبي الرسل.

و أمّا قراءة التشديد فمعناه أنّ الرسل أيقنوا أنّ الأمم كذّبوهم تكذيبا لا يصدر منهم

ص: 70

الإيمان بعد ذلك فحينئذ دعوا عليهم فهنا لك أنزل اللّه سبحانه عليهم عذاب الاستئصال. و ورود الظنّ بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» (1) أي يتيقّنون. و فسّر وجوها أخر لا يليق و هو أنّ الظانّين الرسل.

روي أنّ سعيد بن جبير و الضحّاك اجتمعا في دعوة فسأل الضحّاك سعيد بن جبير عن هذه الآية فقال: «وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا» بالتخفيف بمعنى و ظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوهم. فقال الضحّاك: ما رأيت كاليوم قطّ لو رحلت في هذه الآية و تفسيرها إلى اليمن لكان قليلا.

أقول: و لا يليق أن يقال: إنّ الأنبياء ظنّوا هذا الظنّ الفاسد؛ قالت عائشة:

ما وعد اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله شيئا إلّا و قد علم أنّه سيوفيه و لكنّ البلاء لم يزل بالأنبياء حتّى خافوا من أن يكذّبهم الّذين كانوا قد آمنوا بهم، و هذا الردّ و التأويل في غاية الحسن.

قوله: [جاءَهُمْ نَصْرُنا] أي لمّا بلغ الحال إلى الحدّ المذكور جاءهم نصرنا لهم [فَنُجِّيَ قرئ بنون و تشديد الجيم على البناء للمفعول و قرئ بنونين على الاستقبال بمعنى نحن نفعل بهم ذلك و نخلصهم، و إنّما حكي فعل الحال و القصّة ماضية كقوله: «هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ» (2) إشارة إلى الحاضر و القصّة ماضية.

قوله: [لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي في قصّة يوسف و قصص إخوته أو القصص من البدو إلى الختم اعتبارا لأهل العقل. و «العبرة» عبارة عن العبور عن الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، و يستنبط من المعلوم إلى المجهول بالتأمّل و التفكّر و هو أنّ التأمّل في مثل هذه الأمور مثل أن ينتهي حال رجل قد ألقوه في البئر و باعوه بثمن و كس، و حبسوه سنين متطاولة، و هو وصل من غير سبب و نسب إلى مثل هذه السلطنة العظيمة في الدنيا و الدين ليس إلّا أمر خارج عن حدّ العادة، و لا بدّ أن يكون بمشيئة غيره تحصّل هذا الأمر و ليس إلّا بتقدير القادر القاهر.

[ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى أي ما كان ما أدّاه محمّد حديثا يختلق كذبا، و [لكِنْ كان [تَصْدِيقَ

ص: 71


1- البقرة: 46.
2- القصص: 15.

الكتب [الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لأنّ هذه القصّة وردت على وجه الموافق للتوراة و سائر الكتب و نصب «تصديقا» على تقدير و لكن كان تصديقا كقوله: «وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» (1) أي هذه القصّة و سائر القرآن تصديق الكتب الّذي بين يديه، [وَ تَفْصِيلَ بيان [كُلِّ شَيْ ءٍ] من الحلال و الحرام و الشرائع للمؤمنين؛ لأنّهم المنتفعون به دون غيرهم.

تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 72


1- الأحزاب: 40.

سورة الرعد

اشارة

مكّيّة كلّها إلّا آخر آية منها نزلت في عبد اللّه بن سلام، فإنّها مدنيّة، و قيل: إنّها مدنيّة إلّا اثنين فإنّهما مكّيّة.

فضلها: عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ سحاب مضى و كلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة، و كان يوم القيامة من الموفين بعهد اللّه.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من أكثر قراءة الرعد لم يصبه اللّه بصاعقة و إن كان مؤمنا ادخل الجنّة بغير حساب، و شفّع في جميع من يعرفه من أهل بيته و إخوانه.

ص: 73

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الرعد (13): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)

قد سبق ذكر فواتح السور، في المعاني عن الصادق عليه السّلام: «المر»: أنا اللّه المحيي المميت الرازق [تِلْكَ إشارة إلى أنّ هذه [آياتُ الْكِتابِ الّتي تقدّم الوعد بها، و ليست بمفتريات و لا بسحر بل قرآن و حقّ، و قيل: إنّ الكتاب عبارة عن التوراة و الإنجيل فيكون المعنى:

تلك الأخبار الّتي قصصتها عليك آيات التوراة و الإنجيل و الكتب المتقدّمة الدالّة على الأمور المؤدّية إلى المعرفة باللّه و أنّ القرآن لا يشبه شيئا من الكلام و لا يشبهه شي ء من الكلام في جامعيّته، و أنّه [الْحَقُ فاعتصم به [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يصدّقون بأنّه الحقّ و بأنّه منزّل من عند اللّه.

و لمّا ذكر أنّه منزّل منه تعالى و لكن لا يؤمنون به، ثمّ عرّف الدليل الّذي يوجب التصديق به و بخالقيّته: هو [الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها] قيل: إنّ السماوات لها عمد و دعائم و لكن لا ترونها. و قيل: ليس لها دعائم و ترونها أنّها فارغة عن العمد. العيّاشيّ قال: قال الرضا عليه السّلام: فثمّ عمد و لكن لا ترونها. و العمد جمع العماد و يجوز أن يكون اسم جمع فاستدلّ سبحانه بأحوال السماوات ابتداء.

و المعنى أنّ هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجوّ العالي بغير عمد، و يستحيل أن يكون بقاؤها بذواتها لأنّ الأجسام متساوية في الماهيّة و لو وجب حصول جسم في حيّز معيّن لوجب حصول كلّ جسم في ذلك الحيّز، و لو وجب حصول جسم في حيّز معيّن لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أنّ الأحياز بأسرها متشابهة، فحصول

ص: 74

الأجرام الفلكيّة في أحيازها و جهاتها المعيّنة ليس أمر واجب لذاته، و الخلأ لا نهاية له فحصول جسم معيّن بحيّز معيّن من دون الأحياز مع أنّ الأحياز متساوية و الخلأ لا نهاية لا بدّ من تخصيص مرجّح و مخصّص.

و لا يجوز أن يقال: إنّها اختصّت و بقيت بسلسلة فوقها لأنّه يعود الكلام بتلك السلسلة و لزم المرور إلى ما لا نهاية له و هو محال؛ فثبت أنّ هذه الخصوصيّات بمدبّر غيرها تعالى شأنه العزيز، فهذا برهان قاهر على وجود الإله، و كذلك في الشمس و القمر و الأرض و النبات و ما سواه؛ لأنّ اختصاصيّتها بتحيّزاتها الخاصّ و تكيّفاتها بكيفيّات مختلفة يدلّ على تخصيص مخصّص متصرّف في ذواتها و خارج عنها قاهر عليها.

قوله: [ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولى على العرش و استوى و استقرّ أمر العرش بعد خلقه، و الوجه في إدخال كلمة «ثُمَّ» في الكلام مع أنّه لم يزل كان مقتدرا أنّ المراد اقتداره على تصريفه و تقليبه و لا يوصف به إلّا بعد وجود العرش.

قوله: [وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ] و ذلّلهما لمنافع خلقه و مصالح عباده، كلّ واحد منهما يجري و يتحرّك إلى وقت معيّن و هو فناء الدنيا و قيام الساعة الّتي تكوّر عندها الشمس و ينخسف القمر و ينكدر النجوم أو المراد بالأجل المسمّى منازلهما الّتي ينتهيان إليها و لا تجاوزانها، و للشمس مائة و ثمانون منزلا تنزل كلّ يوم منزلا حتّى تنتهي إلى آخر المنازل فلا يجاوزه، و ترجع إلى أوّل المنازل، و ينزل القمر كلّ ليلة منزلا حتّى ينتهي إلى آخر منازله، فهو سبحانه يدبّر الأمور كلّها من الإيجاد و الإعدام و الإغناء و الإفقار و يكلّف الخلق من أيّ جهة على كمال القدرة و الحكمة.

[يُفَصِّلُ الْآياتِ يأتي بآية في أثر آية فصلا فصلا مميّزا بعضها عن بعض ليكون أمكن للاعتبار و التفكّر [لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ لكي توقنوا بالبعث و النشور، و في هذا دلالة على وجوب النظر المؤدّي إلى معرفة اللّه و على بطلان التقليد.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 3 الى 4]

وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

ص: 75

لمّا قرّر الدلائل السماويّة أردفها بتقرير الدلائل الأرضيّة [وَ هُوَ الَّذِي بسطها طولا و عرضا ليتمكّن الحيوانات من الثبات عليها و الاستقرار فيها.

[وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جعل فوق الأرض جبالا ثابتة باقية متمكّنة في أحيازها يقال:

رسى الوتد و أرسيته، و طبيعة الأرض واحدة فاختصاص البعض بكونه الجبل دون البعض بتخليق الحكيم بالمصالح كما أنّ الأرض واحدة في الطبيعة، و الجبل واحد في الطبع، و تحصل من الأرض و الجبال الفلزّات المختلفة الأثر و المعادن المختلفة الكيفيّة كالزاج و الأملاح و القير و النفط و الكبريت، و هذه امور مختلفة من موضع واحديّ الطبع حتّى أنّه يوجد في جبل عين ماء حارّ سخين لا يمكن مسّه من شدّة الحرارة و بجنبه عين ماء زلال بارد كالثلج، و بينهما مسافة شبر بل فتر، و كيف يمكن أن يتصوّر أنّ طبيعة هذا الفتر من الأرض غير طبيعة ذلك الفتر في طرفيها فرق من جميع الجهات.

قوله: [وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي و شقّ فيها أنهارا تجري فيها المياه ليتمكّن من الشرب و السقي و لو لا الأنهار لضاع المياه؛ لأنّ الماء جسم سيّال و الأرض منبسطة. و من كلّ الثمرات [جَعَلَ فِيها] و في أصنافها صنفين أسود و أبيض و حلوا و حامضا و رطبا و يابسا و صيفيّا و شتويّا.

و الزوج قد يكون فردا و قد يكون اثنين يقال: زوج نعل و زوجين نعل. و إنّما قال:

اثنين إمّا باعتبار هذا المعنى أو للتأكيد و الزوج في الحيوان عبارة عن الذكر و الأنثى، و في الثمار عبارة عن لونين أو باعتبار الذكورة و الأنوثة؛ لأنّ جنس من النبات كذلك و إن خفي [يُغْشِي اللَّيْلَ ضياء [النَّهارَ] ليسكن الحيوانات فيه و يأتي بضياء النهار ليمحو ظلام الليل لمعايشهم. [إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما سبق ذكره لدلالات واضحة على وحدانيّة اللّه لأهل الاستدلال و التعقّل.

[وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي أبعاض متقاربات مختلفات في التفاضل منها جبل صلب لا ينبت شيئا، و منها سهل حرّ ينبت مع تقارب بعضها من بعض [وَ جَنَّاتٌ و بساتين

ص: 76

[مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ أي من أصل واحد يكون النخيل و من نخلات و اصول شتّى و «الصنو» الأصل و «الصنوان» النخلة تكون حولها النخلات و غير صنوان النخل المتفرّق.

[يُسْقى ما ذكرناه [بِماءٍ واحِدٍ] من الأنهار أو من السماء [وَ] مع ذلك [نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الطبع و الشكل و اللون و الطعم، فلو كانت بالطبع لما اختلفت طعومها و ألوانها مع كون الأرض و الماء و الهواء واحدا، و هذا دليل واضح.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يعرفون، مثلا إنّك ترى وردة واحدة من أصله واحدة في غاية الرقّة و النعومة في أرضة واحدة أحد وجهها في غاية الحمرة و الوجه الثاني في غاية السواد، أو نصف الوجه في غاية الحمرة و النصف الآخر في غاية البياض، و يستحيل أن يقال: وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني و نعلم أنّ نسبة الطباع و الأفلاك بالنسبة إلى هذا الورد المخصوص بالسويّة فمن أين حصل هذا الاختلاف؟

فهذا التدبّر و التعقّل يوجب لك العلم بوجود مخصّص و مدبّر، لأنّ العلم بافتقار الحادث إلى المحدث علم ضروريّ.

قوله: [سورة الرعد (13): الآيات 5 الى 6]

وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)

العجب و التعجّب هجوم ما لا يعرف سببه على النفس [وَ إِنْ تَعْجَبْ يا محمّد من قول هؤلاء بتكذيبك في نبوّتك بعد أن حكموا و اعترفوا بصدقك، أو إن تعجب منهم بعبادتهم ما لا يضرّ و لا ينفع بعد أن عرفوا بهذه البيّنات من أنّه مدبّر السماوات و الأرض و خالق الشمس و القمر و الحيوان و النبات [فَعَجَبٌ إنكارهم البعث حيث قالوا: أ نبعث و نعاد بعد ما صرنا ترابا؟ و هذا منهم في غاية العجب.

و سمّي الإعادة خلقا جديدا فإذا جاز الإنشاء بالاستحالة الاولى حيث التراب صار إنسانا و الماء صار علقة ثمّ مضغة ثمّ لحما ثمّ إنسانا فلم لا يجوز تعلّقه بالاستحالة الثانية بأن يجعل التراب ثانيا إنسانا لأنّ القادر على الأقوى الأكمل قادر على الأقلّ الأضعف.

ص: 77

هؤلاء المنكرون بالبعث [كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فكلّ من أنكر البعث و القيامة فهو كافر بنصّ الآية لأنّ إنكار البعث إنكار القدرة و الصدق و العلم [وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فيه قولان قيل: المراد بالأغلال كفرهم و ذلّتهم و انقيادهم للأصنام و نظيره قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا» (1) قال الشاعر: «لهم عن الرشد أغلال و أقياد».

قال العاصي: هذا المعنى و إن كان محتملا إلّا أنّ حمل الكلام على الحقيقة أولى أو المراد أنّه تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة و الدليل عليه قوله تعالى: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» (2).

[وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و في الآية صراحة على تأييد عذاب الكفّار.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): آية 6]

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)

[وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ يا محمّد هؤلاء المشركون بالعذاب قبل الرحمة، و بالعقاب الّذي توعّدوا به على التكذيب قبل الثواب الّذي وعدوا به على الإيمان و ذلك حين قالوا: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» (3) و [قَدْ] مضت [مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي العقوبات و هو ما حلّ بهم من المسخ و الخسف و الغرق و قد سلك هؤلاء طريقتهم فكيف يتجاسرون على استعجالهم؟ و «المثلة» العقوبة المبيّنة في المعاقب شيئا من أثرها كتغيّر في الصورة تبقى تغيّر قبيح أو خزي و فضيحة، و المعنى: و قد وقعت المثلات بأقوام قبلهم.

[وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قال المرتضى: في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمؤمنين من أهل القبلة؛ لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله تعالى: «عَلى ظُلْمِهِمْ» إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين كقولك:

«أنا أودّ فلانا على عيبه و أصله على هجره» و أصحاب السنّة و الجماعة تمسّكوا بهذه الآية

ص: 78


1- يس: 8.
2- غافر: 72.
3- الأنفال: 32.

على أنّه تعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة [وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن استحقّه.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): آية 7]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)

. [وَ يَقُولُ الكفّار لم لم ينزل عليك آية غير القرآن مثل الناقة و العصا؟ و السبب في هذا الاقتراح أنّهم أنكروا كون القرآن من المعجزات و طلبوا غير الآيات الّتي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى و عيسى و مثل أن اجعل الصفا لنا ذهبا حتّى نأخذ منه ما نشاء، و إنّما لم يظهر اللّه تلك الآيات لأنّه لو أجاب أولئك لاقترح قوم آخرون آية اخرى، و كذلك كلّ كافر فكان يؤدّي إلى غير نهاية.

[إِنَّما أَنْتَ مخوّف و هاد لكلّ قوم، و ليس إليك إنزال الآيات، و قيل: معناه إنّما أنت منذر يا محمّد [وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ] يهديهم و داع يرشدهم و في رواية اخرى عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت الآية قال رسول اللّه: أنا المنذر و عليّ الهادي من بعدي يا عليّ بك يهتدي المهتدون.

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ في كتاب شواهد التنزيل بالاستناد عن إبراهيم ابن الحكم بن ظهير عن أبيه عن حكم الجبير عن أبي بردة الأسلميّ قال: دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالطهور، و عنده عليّ بن أبي طالب فأخذ رسول اللّه بيد عليّ بعد ما تطهّر فألزمها بصدره، ثمّ قال: إنّما أنت منذر، ثمّ ردّها إلى صدر عليّ، ثمّ قال: و لكلّ قوم هاد، ثمّ قال: إنّك منارة الأنام و غاية الهدى و أمير القرى و أشهد على ذلك أنّك كذلك.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 8 الى 12]

اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12)

. النظم: إنّه تعالى لمّا قال: «وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ» في إنكار البعث و ذلك

ص: 79

لأنّهم أنكروا البعث بسبب أنّ أجزاء الأبدان عند تفرّقها و تفتّتها يختلط بعضها ببعض و لا يبقى الامتياز فبيّن في هذه الآية أنّه إنّما لا يبقى الامتياز في حقّ من لا يكون عالما بجميع المعلومات.

ثمّ احتجّ على كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات بأنّه [يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي يعلم ما تحمله من الولد أنّه من أيّ الأقسام أ هو ذكر أم أنثى تامّ أو ناقص حسن أم قبيح طويل أم قصير و غير ذلك من الحاضرة و المترقّبة فيه [وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ و ما تغيضه الأرحام و «الغيض» النقص و الضمير محذوف [وَ ما تَزْدادُ] أي تأخذه زيادة و منه قوله: «وَ ازْدَادُوا تِسْعاً» (1).

و اختلفوا فيما تغيضه الرحم و تزداده على وجوه: الأوّل: عدد الولد من زمن العلوق إلى زمن الولادة و المولود في أقل مدّة الحمل و المولود في أكثرها. قيل: إنّ الضحّاك ذو السلعة ولد في سنتين و هرم ابن حيان في أربع سنين و من ذلك سمّي هرما، و يروى في العدد أنّ شريكا كان رابع أربعة.

[وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ أي في علمه في كمّه و كيفه بقدر و حدّ لا يجاوزه و لا ينقص عنه، و عالم ما غاب عن الخلق علمه و ما شهدوه، و قيل: الغائب هو المعلوم و الشاهد هو الموجود.

و هو الكبير السيّد الملك القادر على كلّ شي ء بقدرته.

[سَواءٌ مِنْكُمْ و كلمة سواء يطلب في معناه اثنين و إلّا لا يفرض التساوي لأنّ التساوي لا يتحقّق إلّا في الاثنينيّة، و المعنى: ذو سواء أو متساو في علمه [مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ منكم في نفسه و أخفاه أو أعلنه و أبداه [وَ مَنْ هُوَ] مستتر بالليل و [مُسْتَخْفٍ أو ظاهر أي يعلم و يرى ما أخفاه الليل بظلمته و أظهره النهار بضوئه.

[لَهُ مُعَقِّباتٌ الضمير إمّا راجع إلى «مَنْ» في قوله: «مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ» أو إلى اللّه أو إلى النبيّ في قوله: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» و من كلّ شي ء ما خلف يعقّب ما قبله، و «المعقّبات» الملائكة الحفظة و وصفهم بالمعقّبات لأنّ ملائكة الليل يعقّب ملائكة النهار و بالعكس، أو لأنّهم يتعقّبون أعمال العباد و يتبعونها بالحفظ و الكتب من أعمالكم، و منه العقاب لأنّه يعقّب

ص: 80


1- الكهف: 25.

الجرم، و منه العقاب لأنّه يتبع الصيد، و أيضا معقّبات يحفظونكم عن وجوه المهالك و الجنّ و الإنس و الهوامّ، و يحفظونه بما لم يقدّر نزوله؛ فإذا جاء المقدّر بطل الحفظ؛ قال كعب: لو لا أنّ اللّه وكّل بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم و مشربكم و عوراتكم لتتخطّفكم الجنّ.

[إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعمة و الحال الجميلة [حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الطاعة، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا أقبلت عليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر.

قوله: [وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً] و بلاء و مرضا فلا مردّ لبلائه [وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ يلي أمرهم و يمنع العذاب عنهم.

فلو قيل: إنّ الملائكة ذكور فلم ذكر في جمعها جمع الإناث و هو المعقّبات؟

قال الفرّاء: واحد المعقّبات معقّب، و الجمع معقّبة، و معقّبات جمع الجمع كما قالوا: رجالات جمع الجمع من رجال، و قال الأخفش: إنّما انّثت لكثرة ذلك منها نحو علّامة و نسّابة، و هو ذكر.

و معنى يحفظونه من أمر اللّه على التقديم و التأخير و التقدير: له معقّبات من أمر اللّه يحفظونه أي أمرهم اللّه بحفظه. و قيل: فيه إضمار أي ذلك الحفظ ممّا أمر اللّه به، فحذف الاسم و بقي خبره كما يكتب على الكلس السفان و المراد الّذي فيه السفان، و قيل: «من» بمعنى الباء أي بأمر اللّه، و الدليل عليه أنّه لا قدرة للملائكة على أن يحفظوا أحدا من أمر اللّه و قضائه.

و هذا البيان يعني أنّ الملائكة الحفظة للإنسان معيّنين لحفظ البشر من المهالك و مدبّرة لأمورهم كلام مقبول عند الفلاسفة و الحكماء و أصحاب الطلسمات، النهاية أنّهم عبّروا بالأرواح الفلكيّة و خالفوا لسان الشرع بهذه الطريقة المقبوحة، و من المعلوم بالبداهة في العقل أن يكون الملك المشتعر الحيّ المقتدر بقدرة اللّه حافظا لنوع البشر أقرب للقبول من أن يكون الكوكب حافظا و مدبّرا للإنسان لأنّ المنجّمين يعتقدون على أنّ التدبير في كلّ يوم لكوكب على حدة، و كذلك في كلّ ليلة على حدة، و يقولون: إنّ لتلك الكواكب أرواحا و تلك التدبيرات المختلفة لتلك الأرواح، و كذلك قولهم في تدبير القمر و الهيلاج و الكدخدا، و كذلك أصحاب الطلسمات، و كذلك يقولون: أخبرني الطباعيّ

ص: 81

التامّ و مرادهم بالطباعيّ التامّ أنّ لكلّ إنسان روحا فلكيّة يتولّى إصلاح مهمّاته و دفع بليّاته و آفاته.

و من هذه الأقوال لعلّ انتشاء مذهب التصابؤ. و باليقين أن يكون يؤيّدك و يحفظك ملك من ملائكة اللّه أحرى بالقبول من أن يؤيّدك و يحفظك المرّيخ مثلا لأنّ القوّتين ناشئتان من غيرهما، فإن قلت: منهما- عياذا باللّه- فقد تعدّدت الآلهة إلى عدد لا يتناهى، و إن قلت: من غيرهما. فتعلّق هذه القوّة بالملك أقبل بالقبول من تعلّقها بجرم كمد مجهول الماهيّة و الصورة كالقمر مثلا على أنّ تمام كتب السماويّة ناطقة بذلك، آمنت بما أنزل إليه في كتبه على لسان رسله.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 12 الى 15]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (15)

لمّا بيّن في الآية السابقة بأنّ اللّه إذا أراد بقوم سوء لا مردّ لقضائه أخبر في هذه الآية كمال قدرته فقال: [هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ تخويفا و إطماعا فأقام الخوف و الطمع مقام التخويف و الإطماع، و الخوف من الصواعق الّتي يكون معها و طمعا في الغيث الّذي ينزل، أو خوفا لمن يخاف ضرر المطر، و طعما لمن يرجو الانتفاع به فيشبه النعم و الإحسان من بعض الوجوه، و يشبه العذاب و القهر من بعض الوجوه؛ قال المتنبّي:

فتى كالسحاب الجون يخشى و يرتجى يرجّى الحيا منها و يخشى الصواعق

و اعلم أنّ حدوث البرق دليل عجيب على قدرة اللّه، و بيانه أنّ السحاب جسم مركّب من أجزاء رطبة مائيّة، و من أجزاء هوائيّة و ناريّة، و لا شكّ أنّ الغالب عليه الأجزاء المائيّة، و الماء جسم بارد رطب، و النار جسم حارّ يابس، و كوّن الضد في الضدّ، فظهور الضدّ من الضدّ التامّ على خلاف العقل و العادة، فلا بدّ من صانع مختار يظهر الضدّ من الضدّ.

ص: 82

فإن قيل: إنّ الريح احتبس في داخل حرم السحاب و استولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه، ثمّ إنّ الريح يمزّقه تمزيقا عنيفا فيتولّد من التمزيق الشديد حركة عنيفة و الحركة موجبة للسخونة و هي البرق.

و هذا الكلام خلاف المعقول لأنّه لو كان كذلك لوجب أن يقال: أينما يحصل البرق يكون يحصل الرعد لأنّ الرعد صوت حادث من تمزّق السحاب و ليس الأمر كذلك؛ فإنّه كثيرا مّا يحدث البرق القويّ من غير حدوث الرعد، ثمّ إنّ السخونة الحاصلة بسبب قوّة الخرق و الحركة تعارضه القوّة المائيّة الموجبة للبرد و الرطوبة و عند حصول هذا العارض القويّ كيف تحدث الناريّة؟ بل نرى النيران العظيمة تنطفئ بصبّ الماء عليها و أنّ السحاب أكثره ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة ناريّة؟

على أنّ النار الصرفة لا لون لها بمذهبكم، فمن أين حدث ذلك اللون؟ فثبت أنّ حدوث النار الحاصلة في جرم السحاب مع كونه ماء خالص لا يمكن إلّا بأمر خارج من الطبيعة، و ذلك بقدرة الحكيم القادر.

النوع الثاني من الدلائل في هذه الآية قوله تعالى: [وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ بالماء و «السحاب» اسم جنس و الواحدة سحابة، و اعلم أنّ هذا أيضا من دلائل القدرة و ذلك لأنّ هذه الأجزاء المائيّة إمّا أن نقول: إنّها حدثت في جوّ الهواء و يقال: إنّها تصاعدت من وجه الأرض؛ فإن كان الأوّل وجب أن يكون حدوثها بإحداث محدث قادر، و أمّا الثاني و هو أن يقال: إنّ تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض، فلمّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض، فهذا باطل لأنّ الأمطار مختلفة فتارة تكون القطرات كبيرة و تارة تكون صغيرة و تارة تكون متقاربة، و اخرى تكون متباعدة و تارة تدوم مدّة نزول المطر، و تارة تقصر المدّة فاختلاف هذه الكيفيّة مثلا في يوم واحد مع أنّ طبيعة الأرض واحدة و طبيعة الشمس المسخّنة للحارّات واحدة من غير تخصيص الفاعل المختار غير معقول، على أنّ التجربة دلّت على أنّ للتضرّع و الدعاء في نزول الغيث أثرا محسوسا فعلم أنّ المؤثّر فيه القدرة لا الطبيعة و الخاصّيّة.

و من آياته الدالّة على القدرة قوله: [وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ تسبيح الرعد دلالته على

ص: 83

تنزيه اللّه و وجوب حمده فكأنّه هو المسبح، و قيل: إنّ الرعد هو الملك الّذي يسوق السحاب و يزجره بصوته، و هو يسبّح اللّه تعالى و يحمده، روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ ربّكم سبحانه يقول: لو أنّ عبادي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل و أطلعت عليهم الشمس بالنهار و لم أسمعهم صوت الرعد.

و كان صلّى اللّه عليه و آله إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان من يسبّح الرعد بحمده. و روى سالم بن عبد اللّه عن أبيه قال: كان رسول اللّه إذا سمع الرعد و الصواعق قال: اللّهم لا تقتلنا بغضبك، و لا تهلكنا بعذابك و عافنا قبل ذلك. و قال ابن عبّاس: من سمع صوت الرعد فقال:

سبحان الّذي يسبّح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته و هو على كلّ شي ء قدير، فإن أصابته صاعقة فعليّ ديته.

و في كيفيّة تسبيح الرعد أقوال: الأوّل أنّ الرعد اسم ملك من الملائكة و هذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك بالتسبيح و التهليل.

قال ابن عبّاس: إنّ اليهود سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الرعد ما هو؟ فقال: ملك موكّل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء اللّه. قالوا فما الصوت الّذي نسمع؟

قال: زجره السحاب.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه ينشئ السحاب الثقال فينطق أحسن النطق و يضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد و ضحكه البرق.

و اعلم أنّ البنية ليست شرطا لحصول الحياة مع الإرادة من اللّه، فيخلق الحياة و العلم و النطق في أجزاء السحاب فيكون هذا الصوت المسموع فعلا له، و كيف يستبعد ذلك و نحن نرى أنّ السندل يتولّد في النار، و السمك في الماء، كما كان يسبّح الجبال في زمن داود و تسبيح الحصيّ في زمن محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: إنّ الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص و لو كان كذلك فإنّ الرعد يسبّح اللّه؛ لأنّ التسبيح و ما يجري مجراه ليس إلّا وجود لفظ يدلّ على حصول التنزيه للّه فلمّا كان حدوث هذا الصوت دليلا على وجود موجود متعال عن النقص و الإمكان فهو في الحقيقة تسبيح و هو معنى قوله: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (1) و هذا تأويل، و أيّ شي ء يلزمنا بهذه التأويلات مع علمنا بالقدرة الإلهيّة؟ فيحمل الكلام

ص: 84


1- الإسراء: 44.

على ظاهره كما نطقت به الشريعة الغرّاء و الكتاب المبين.

قوله: [وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ و خشيته قال ابن عبّاس: و الملائكة تسبّح اللّه من خيفته لا كخوف ابن آدم، و لا يشغلهم عن عبادة اللّه طعام و لا شراب و لا شي ء.

قوله: [وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ] و يصرفها عمّن يشاء إلّا أنّه حذف للدلالة. قال الباقر عليه السّلام: إنّ الصواعق تصيب المسلم و غير المسلم و لا تصيب ذاكرا. قوله: [وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ أي هؤلاء الجهلة مع مشاهدتهم لهذه الآيات يخاصمون أهل التوحيد أي يفتلون عن مذهب الحقّ؛ لأنّ معنى الجدال فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج.

و اعلم أنّ آية الصاعقة الناشئة من السحاب أمر عجيب جدّا و مع أنّها تتولّد من السحاب المملوءة من الماء ربما نزلت و غاصت في البحر و تحرق الحيتان مع أنّها تغوص في لجج البحر، و لا يؤثّر الماء فيها من قوّتها و حدّتها بل شاهدنا مرارا أنّها تحرق المسامير في الأبواب و تجعلها فحما. فكيف يمكن أن تتصوّر أنّها قد أحدثت من اصطكاك السحاب و الخرق! لأنّها لو كانت من أسباب عالم الطبيعة لا بدّ و أن تكون حرارتها أضعف من حرارة الموجودة لمجاورة ماء السحاب و مسّها فضلا عن غوص البحر، فاختصاصها بمزيد هذه القوّة الغريبة بتخصيص الفاعل و الأمر الغيبيّ علمه عنّا، فتأمّل (1).

و بالجملة لمّا بيّن هذه الآيات قال سبحانه: هؤلاء الكفّار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في اللّه، و يحرّفون الناس عن الإيمان به و الحال أنّه سبحانه شديد الحول و القوّة و العقوبة. و في لفظ المحال أقوال قيل: الميم زائدة و هو من الحول و نحوه مكان. و قيل:

أصليّة لأنّ الكلمة إذا كانت على مثال فعال أوّله ميم مكسورة فهي أصليّة نحو «مهاد و مداس و ملاك و مداد» و قيل: أخذ مادّته من «محل» إذا عرضه للهلاك و يحمل إذا تكلّف استعمال الهلاك بطريق لا يتوقّعونه أو عبارة عن المدّة سنة، ماحلة أي شديدة.

قوله: [لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ أي للّه دعوة الحقّ قيل: دعوة الحقّ قول «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»* و دعوته و تنزيهه هي الحقّ و الصدق فذكر وجوده بالثناء عليه بالإلهيّة و الكمال هو الحقّ في الأذكار و اعتقاد جود واجبيّته هو الحقّ في الاعتقادات.

[وَ] الآلهة [الَّذِينَ يدعونهم الكفار غير اللّه [لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ] ممّا يطلبونه ه.

ص: 85


1- توغل رحمه اللّه فيما لا ينبغي له.

[إِلَّا] استجابة كاستجابة باسط [كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ] و هو عطشان و الماء جماد لا يشعر ببسط كفّيه و لا بعطشه و لا يقدر أن يجيب دعاءه و يبلغ فاه؛ لأنّه لا يحسّ بدعائه، و قيل: شبّهوا هؤلاء الداعين في قلّة فائدة دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطها ناشرا أصابعه و لم يصل كفّاه إلى ذلك الماء [وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ .

قوله: [وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً] اعلم أنّ في المراد بهذا السجود قولين:

الاول السجود الحقيقيّ أي وضع الجبهة على الأرض و على هذا المعنى ففيه و جهان:

أحدهما أنّ اللفظ و إن كان عامّا لكنّ المراد به الخصوص و هم المؤمنون في الأرض و الملائكة في السماء و بعض المؤمنين يسجدون للّه طوعا بسهولة و نشاط و ميل، و من المسلمين من يسجد كرها لصعوبة ذلك عليه مع أنّه يحمل نفسه على أداء تلك الطاعة شاء أم أبى.

و الثاني أنّ اللفظ عامّ و المراد أيضا العامّ. و على هذا ففي الآية إشكال؛ لأنّه كلّ من الأرض لا يسجدون لأنّ الكفّار لا يسجدون.

و الجواب من وجهين: الأوّل أنّ المراد «وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ» أي شأنهم وجوب السجود، و يجب عليهم أن يسجدوا فعبّر عن الوجوب بالوقوع و الحصول. و الثاني و هو أنّ المراد من السجود الاعتراف بالعبوديّة و كلّ من في السماوات و الأرض يعترفون بالعبوديّة على ما قال: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»* (1) و نظير هذه الآية «بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» (2) أي في نفس الأمر كذلك (3).

قوله: [وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ أي كلّ شخص سواء كان مؤمنا أو كافرا فإنّ ظلّه يسجد للّه. في التفسير أنّ الكافر يسجد للصنم و ظلّه يسجد للّه. قال ابن الأنباريّ:

لا يبعد أنّ اللّه يخلق للظلال عقولا و أفهاما يسجد و يخشع للّه كما جعل اللّه للجبال أفهاما اشتغلت بتسبيح اللّه و يظهر فيها أثر للتجلّي. و قيل: إنّ المراد من سجود الظلال و أمثالها ميلانها من جانب إلى جانب فهي منقادة مستسلمة في طولها و قصرها.د.

ص: 86


1- العنكبوت: 61.
2- البقرة: 117.
3- لم يذكر القول الثاني من القولين في السجود.

و إنّما خصّص الغدوّ و الآصال بالذكر لأنّ الظلال إنّما تعظم و تكثر في هذين الوقتين.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): آية 16]

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)

لمّا بيّن سبحانه أنّه المستحقّ للعبادة عقّبه بما يجري مجرى الحجّة على ذلك فقال: [قُلْ يا محمّد لهولاء الكفّار [مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و مدبّرهما على ما فيهما من البدائع؟ فإذا استعجم عليهم الجواب و لا يمكنهم أن يقولوا: الأصنام المنحوتة، فقل أنت لهم: اللّه ربّ السماوات و الأرض و ما بينهما من الأنواع.

فإذا أقرّوا بذلك [قُلْ لهم على وجه التبكيت و التوبيخ: [أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ] توجّهون عبادتكم إليهم و الحال أنّهم [لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا]، و من لا يملك لنفسه فبالحريّ و الأولى أن لا يملك لغيره فكيف يستحقّ العبادة؟ و اعلم أنّ الأمر الّذي لا يجاب الخصم إلّا به لا يمتنع أن يبادر السائل إلى ذكره ثمّ يورد الكلام عليه تفاديا من التطويل.

ثمّ ضرب سبحانه مثلا بعد إلزام الحجّة فقال: كما لا يستوي الأعمى و البصير و الظلمات و النور كذلك لا يستوي الكافر و المؤمن؛ لأنّ المؤمن يعبد اللّه الّذي يملك النفع و الضرّ و الكافر بعكسه.

[أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ] أي هل هؤلاء الشركاء الّذين جعلهم الكفّار شركاء للّه في العبادة خلقوا أشياء أو أمورا مثل خلق اللّه من الأجسام و الألوان و الطعوم و الأرائيح و الحياة؟

[فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ فاشتبه عليهم ذلك حتّى يشتبه لهم ما الّذي خلق اللّه و ما الّذي خلق الأصنام، فإذا لم يكن إلّا و كذلك و لم يبق شبهة فقل لهم: [اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ] القديم لذاته لا ثاني له القاهر سواه.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 17 الى 18]

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (18)

ص: 87

المعنى: لمّا شبّه المؤمن و الكافر و الإيمان و الكفر بالأعمى و البصير و الظلمات و النور ضرب للإيمان و الكفر مثلا آخر فقال: [أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ] بقدرها و من حقّ الماء أن يستقرّ في الأودية المنخفضة عن الجبال بمقدار سعة تلك الأودية و ما زاد ينبسط على الأرض و من حقّ الزبد و الوغف الّذي يحتمله الماء أن يطغو و يربو عليه ثمّ يتبدّد في الأطراف و يضمحلّ.

شبّه سبحانه الحقّ و الإسلام بالماء الصافي النافع للخلق و الباطل بالزبد الذاهب الباطل الّذي لا ينفع للناس أبدا، فالماء مثل القرآن الّذي يوجب اليقين المفيد، و الوساوس الباطل مثل الزبد الّذي لا يفيد إلّا الشكّ. ثمّ ذكر نوعا آخر من الزبد غير المفيد الّذي لا يطّهر إلّا بالنار كالذهب و الفضّة و الرصاص ممّا يذاب لاتّخاذ الحلية و جواهر الأرض يتّخذ منها الأواني مثل زبد الماء؛ فإنّ هذه الأشياء الّتي تستخرج من المعادن و توقد عليها النار لتميّز الخالص من الخبيث لها فإنّه أيضا ينفصل عنها نوع من الزبد و الخبيث لا يفيد أصلا بل يضيّع و يبطل و يبقى الخالص، فكذلك الكفر و الإيمان فالزبد يجمع منها و يذهب و يترك هدرا و يلقى بحيث لا ينتفع به، و الماء الصافي و الأعيان من الجواهر فيمكث و ينتفع به الناس [كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ .

قوله: [لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى قيل: إنّه تمّ الكلام عند قوله: «يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» ثمّ استأنف بقوله: «لِلَّذِينَ». و قيل: متّصل بما قبله يعني أنّ الّذي يبقى مثل الّذين استجابوا لربّهم و الّذي يذهب جفاء مثل الّذين لا يستجيب. و المراد ب «الذين استجابوا» الّذين أطاعوه و آمنوا به فلهم الحسنى أي لهم الحالة الحسنة و هي الجنّة.

[وَ الَّذِينَ ما أطاعوه و آمنوا به [لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ] يضاعف [مِثْلَهُ جعلوا ذلك فدية عن أنفسهم من العذاب لا يقبل منهم، و مفعول «لَافْتَدَوْا» محذوف، هؤلاء الموصوفين لهم عدم قبول عذرهم بالفداء و عدم العفو- أجارنا اللّه من هذه العقوبة- و [لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ لأنّ كفرهم أحبط أعمالهم [وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ المقرّ و المأوى و سوء الحساب، أخذهم بذنوبهم كلّها من دون أن يغفر لهم بشي ء، و من نوقش في الحساب عذّب و الكافر يحاسب

ص: 88

للتقريع و التوبيخ. و قيل: إنّ المراد من سوء الحساب سوء الجزاء.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 19 الى 24]

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)

سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)

المعنى: [أَ فَمَنْ يَعْلَمُ بيّن الفرق بين المؤمن و الكافر. أخرج الكلام مخرج الاستفهام و المراد الإنكار إشارة إلى المثل المتقدّم ذكره. و لا يكون متساويا من يعلم [أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في هذا القرآن [مِنْ رَبِّكَ هو [الْحَقُ مع من هو كالأعمى الّذي لا يبصر.

إنّما يتعقّل و يبصر من هو ذو لبّ و إدراك فحال العالم كالبصير، و الجاهل كالأعمى و العالمون هم [الَّذِينَ يُوفُونَ و يؤدّون ما عهد اللّه إليهم بإتيانه و ألزمهم إيّاه عقلا و سمعا فالعقد العقليّ ما جعله في عقولهم من اقتضائه بصحّة امور و فساد امور كاقتضاء العقل للفاعل و المصنوع للصانع و أنّ للعالم خالق غير العالم، و العهد الشرعيّ ما أخذه النبيّ على المؤمنين من الميثاق المؤكّد بأن يطيعوه و لا يعصوه في الأوامر منه و النواهي.

قوله: [وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قيل: المراد الإيمان بجميع الأنبياء و الكتب و قيل: هو صلة محمّد و معاونته و قيل: صلة الرحم. و روى أصحابنا أنّ أبا عبد اللّه لمّا حضرته الوفاة أوصى قال: أعطوا الحسن بن الحسين بن عليّ بن الحسين و هو الأفطس سبعين دينارا. فقالت له امّ ولد له: أ تعطي رجلا حمل عليك بالشفرة؟ فقال لها: و يحك أما تقرئين قول اللّه: «وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» و قيل: هو ما يلزم من صلة المؤمنين بالأخوّة بأن يتولّوهم و ينصروهم و يذبّ عنهم، و يدخل فيه صلة الرحم و غير ذلك؛ قال رسول اللّه: صلة الرحم و برّ الوالدين يهوّنان الحساب ثمّ تلا هذه الآية. و روى محمّد بن الفضيل عن موسى بن جعفر في هذه الآية قال: صلة آل محمّد معلّقة بالعرش يقول: اللّهم صل من وصلني و اقطع من قطعني، و هي تجري في كلّ رحم و روى الوليد بن أبان عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: قلت له هل على الرجل في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم أين ما قال اللّه:

«وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلخ».

ص: 89

قوله: [وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ و يخافون عقاب ربّهم في قطعها [وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ أي المداقّة و المناقشة عند الحساب، فليكن المؤمن خائفا من المداقّة في الحساب.

قوله: [وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ] أي الّذين صبروا على القيام بما أوجبه اللّه عليهم و على البلاء من الأمراض و العقوبة و عن معاصي اللّه لطلب ثواب اللّه. و معنى الوجه عبارة عن الإخلاص و ترك غيره تقول في تعظيم الشي ء: هذا وجه الرأي و هذا نفس الرأي، للرأي المعظم، يريد خالصة و ماحضة [وَ أَقامُوا الصَّلاةَ] أي أدّوها بحدودها و داموا على فعلها [وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً] ظاهرا و باطنا [وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ] أي يدفعون بالطاعة المعصية و بالعمل الصالح العمل القبيح كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمعاذ بن جبل: إذا عملت سيّئة فاعمل حسنة بجنبها تمحها و قيل: معناه يدفعون إساءة من أساء إليهم بالإحسان و لا يكافئون، إذا أحرموا أعطوا، و إذا ظلموا عفوا، و إذا قطعوا و صلوا و قيل: يدفعون بالتوبة المعصية [أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ] أي هؤلاء الموصوفين لهم ثوابهم الجنّة و العاقبة المحمودة أي الدار المحمودة هي جنّات عدن بساتين إقامة تدوم و لا تفنى. و قيل: هي الدرجة العليا و سكّانها الشهداء و الصدّيقون. و قيل: قصر من ذهب لا يدخله إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حاكم عدل.

ثمّ بيّن ما يتكامل به سرورهم من اجتماع قومهم معهم فقال: [يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ أي أولادهم من آمن منهم لأنّ من إتمام السرور اجتماعهم بشرط القابليّة [وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب الجنّة الثمانية، و قيل: من كلّ باب من أبواب البرّ كالصلاة و الزكاة و الصوم أو أبواب قصورهم و بساتينهم بالتحيّة من اللّه و التحف و الهدايا و يقولون: [سَلامٌ عَلَيْكُمْ و القول محذوف لدلالة الكلام عليه أي سلّمكم اللّه من الأهوال و المكاره بصبركم على المكاره و الشدائد [فَنِعْمَ عاقبة [الدَّارِ] الجنّة ما أنتم فيه من الكرامة في داركم.

و اعلم أنّ الصبر على ترك المعاصي و أداء الطاعات مشروط بكونه ابتغاء لوجه اللّه لا أن يكون مقصود الصابر أن يقال له: ما أصبره و أشدّ قوّته على النوازل! أو يصبر لئلّا يعاب بسبب الجزع، أو يصبر لئلّا يحصل له شماتة الأعداء، أو يصبر لعلمه بأن لا فائدة في

ص: 90

الجزع، و كلّ هذه الأقسام خارج عن شمول الابتغاء. أمّا إذا صبر على البلاء لعلمه بأنّ ذلك البلاء قسمة حكم بها القسّام العلّام المنزّه من الباطل و السفه بل لا بدّ أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة و مصلحة و رضي بذلك حقيقة، فهذا وجه الابتغاء و مقام الصدّيقين.

قال الواحديّ: العقبى كالعاقبة و يحوز أن يكون مصدرا كالشورى و القربى و الرجعى، و قد يجي ء على فعلى كالنجوى و الدعوى و على فعلى كالضيزى و الذكرى.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 25 الى 29]

وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ (29)

لمّا بيّن حال السعداء أتبعها بذكر الأشقياء ليكون البيان كاملا فقال:

[وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ و ذكرنا معنى العهد، و نقصوا العهد من أحكامه، و قطعوا أمورا أمروا بوصلها و أفسدوا في الأرض بالدعاء إلى غير اللّه، أو بقتال النبيّ و المؤمنين أو بالعمل فيها بمعاصي اللّه و الظلم لعباده و التخريب في بلاده [أُولئِكَ لَهُمُ الإبعاد من رحمة اللّه و التبعيد من جنّته [وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] ضدّ العقبى أي عذاب النار و الخلود فيها.

[اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ] أي يوسّع على من يشاء من عباده بحسب المصلحة و يضيّقه على آخرين إذا كانت المصلحة في التضييق [وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا] بما أتوا من حطام الدنيا فرح البطر أي و فرح الّذين بسط لهم الرزق في الحياة الدنيا فكأنّه قيل: لو كانوا أعداء اللّه هؤلاء المتنعّمين لما فتح اللّه عليهم أبواب النعم و اللّذات في الدنيا فأجاب اللّه عنه بأنّه يبسط الرزق و يقدر و لا تعلّق له بالكفر و الإيمان فقد يوجد الكافر مرزوقا و يوجد المؤمن مضيّقا عليه و الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة كالمتاع مثل القدح و القصعة و القدر و المعول يتمتّع به زمانا ثمّ ينكسر و يفنى.

ص: 91

قوله: [وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا] هلّا انزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله آية نقترحها و لم يعتدّوا بتلك الآيات قل لهم: [إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ] عن طريق الجنّة بعظم معاصيه و سوء اختياره [وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ و رجع إليه بالطاعة و هم الّذين آمنوا و تطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه و اعترفوا بتوحيد اللّه و نبوّة نبيّه، و استأنسوا بذكر اللّه، و المعنى الحاضر للنفس دائما و هو العمدة.

و معنى «يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ» بيّنا هذا المعنى كرارا، أي يضلّ من يشاء عقوبة على كفره و هداية إلى رحمته و جنّته استحقاقا لإيمانه و ليس المراد: إضلالا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

قوله: [الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ بدل من قوله: «مَنْ أَنابَ» قال ابن عبّاس: يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم و اطمأنّت. و لا ينافي الوحل و الاطمينان و هما ضدّان لأنّهم لمّا فكّروا في المعاصي و ذكر العقاب و جلوا، و الطمأنينة حين اشتغالهم بالطاعات و تصوّر المثوبات. و قيل: المراد بالطمأنينة علمهم بكون القرآن حقّا و دين محمّد حقّا و أنّ اللّه صادق في وعده و وجلهم و شكّهم بأنّهم هل ارتكبوا المعاصي؟ أو هل أتوا بالطاعة المقبولة؟

[أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ و اعلم أنّ الإكسير إذا وقعت ذرّة منه على الجسم النحاسيّ انقلب باقيا على كرّ الدهور و الأزمان و لا يفسده التراب و تكون صابرا على الذوبان في النار فإكسير معرفة اللّه و جلاله إذا وقع في القلب كذلك يغلبه جوهرا صافيا باقيا نورانيّا لا يقبل التغيّر و الفناء و التبدّل فقال: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».

و بعبارة اخرى الموجودات على ثلاثة أقسام: مؤثّر لا يتأثّر و متأثّر لا يؤثّر و موجود يؤثّر في شي ء و يتأثّر عن شي ء؛ فالمؤثّر الّذي لا يتأثّر هو اللّه و المتأثّر الّذي لا يؤثّر هو الجسم، فإنّه ذات قابلة للصفات المختلفة و الآثار المتنافية و ليس له إلّا القبول فقط، و أمّا الموجود الّذي يؤثّر تارة و يتأثّر اخرى فهي الموجود الروحانيّة و ذلك لأنّها إذا توجّهت إلى الحضرة الإلهيّة صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة اللّه و قدرته و تكوينه و إيجاده، و إذا توجّهت إلى عالم الأجسام اشتافت إلى التصرّف فيها لأنّ عالم الأرواح مدبّر لعالم الأجسام.

ص: 92

و إذا عرفت هذا فالقلب كلّما توجّه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب و الفلق و الميل الشديد إلى الاستيلاء عليها و التصرّف فيها، أمّا إذا توجّه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهيّة حصل فيه أنوار الصمديّة و الأنوار الإلهيّة فيكون هناك ساكنا فاطمئنّت القلوب بذكر اللّه.

ثمّ إنّ القلب كلّما وصل إلى شي ء يريده فإنّه يطلب الانتقال منه إلى حالة اخرى أشرف منها؛ لأنّه لا سعادة في عالم الأجسام إلّا و فوقها مرتبة اخرى من اللذّة أمّا إذا انتهى القلب إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهيّة بقي و استقرّ فلم يقدر على الانتقال منه لأنّه ليس هناك درجة اخرى في السعادة أعلى منها و إنّما هي الدرجة ليس فوقها غيرها، نعم هذه الدرجة قابلة للزيادة و التكميل فالاطمينان قد حصل بذكره و استقرّ القلب.

[ف الَّذِينَ آمَنُوا] و أعملوا الفكر في المعرفة و القلب بالذكر و الطاعة [طُوبى لَهُمْ عن رسول اللّه: أن طوبى شجرة في الجنّة غرسها اللّه بيد قدرته تنبت الحلل و الحليّ. قيل:

أصلها في دار النبيّ و أغصانها في دور المؤمنين، و سئل عنه صلّى اللّه عليه و آله عن طوبى قال: شجرة أصلها في داري و فرعها لأهل الجنّة، ثمّ سئل ثانيا فقال: أصلها في دار عليّ. فقيل له في ذلك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ داري و دار عليّ في الجنّة بمكان واحد. و في معنى طوبى أقوال أخر قيل: فرح و قرّة عين، عن ابن عبّاس. و قيل: نعم مالهم. و «طُوبى مصدر من طاب كبشرى و زلفى، و معنى طوبى لك أي أصبت خيرا و طيبا.

و الحاصل على كلّ التقادير معناه مبالغة في نيل الطيّبات، و يدخل فيه جميع اللذّات.

و قيل: ليست بعربيّة و إنّما هي هنديّة و معناها الجنّة.

قال صاحب الكشّاف: «الَّذِينَ آمَنُوا» مبتدأ و «طُوبى لَهُمْ» خبره.

[وَ حُسْنُ مَآبٍ أي مرجع.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 30 الى 31]

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ (30) وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)

ص: 93

الكاف للتشبيه و وجه التشبيه أي مثل ذلك الإرسال الّذي أرسلنا الأنبياء قبلك أرسلناك.

النزول: نزلت الأولى في صلح الحديبية حين أرادوا كتاب الصلح، فقال رسول اللّه لعليّ: اكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو، و المشركون قالوا: ما نعرف الرحمن إلّا صاحب اليمامة- يعنون مسيلمة الكذّاب- اكتب بسمك اللّهم، و هكذا كان أهل الجاهليّة يكتبون. فقال النبيّ: اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللّه. فقال:

مشركو قريش: لئن كنت رسول اللّه ثمّ قاتلناك و صددناك فقد ظلمناك، و لكن اكتب: هذا ما صالح محمّد بن عبد اللّه. فقال أصحاب رسول اللّه دعنا: نقاتلهم، قال صلّى اللّه عليه و آله: لا و لكن اكتبوا كما يريدون، فنزلت الآية.

[كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ] قد تقدّمتها امم [لِتَتْلُوَا] و تقرأ [عَلَيْهِمُ الكتاب العظيم [الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ أي و حال هؤلاء أنّهم يكفرون بالرحمن الّذي رحمته وسعت كلّ شي ء، و كفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم و إنزال هذا القرآن الكريم، قل لهم: [هُوَ رَبِّي الواحد المتعالي عن الشركاء [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم و إليه رجوعي. و قوله: «وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» نزلت في عبد اللّه بن اميّة المخزوميّ لمّا قال:

أمّا اللّه فنعرفه و أمّا الرحمن فلا نعرفه إلّا صاحب اليمامة.

[وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ :

النظم: روي: أنّ أهل مكّة قعدوا في فناء كعبة فأتاهم الرسول و عرض عليهم الإسلام، فقال له عبد اللّه بن اميّة: سوّلنا جبال مكّة حتّى ينفسح المكان علينا، و اجعل لنا فيها أنهارا نزرع فيها أو أحي لنا بعض موتانا لنسأله أحقّ ما تقول أم باطل؟ فإنّ عيسى كان يحيي الموتى و لست بزعمك بأهون على اللّه منه، و كذلك و لست بزعمك أهون على ربّك من داود حيث سخّر له الجبال تسبّح معه، أو سخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليها جوائجنا ثمّ نرجع من يومنا فقد كان سليمان سخّرت له الريح فكما

ص: 94

زعمت لست أهون على ربّك من سليمان فنزلت «وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً» و آية بإنزاله سيّرت الجبال و زعزعت عن مقارّها كما فعل ذلك بالطور لموسى.

[أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ و شقّقت و جعلت أنهارا و عيونا كما فعل بالحجر حين ضربه عليه السّلام بعصاه.

[أَوْ كُلِّمَ بسبب تلاوته [الْمَوْتى و يحيون و يتكلّمون كما وقع لعيسى لكان ذلك هذا القرآن لعظم محلّه و جلالة قدره، و يمكن أن يكون المحذوف من جواب «لو» «لما آمنوا» و حذف جواب «لو» شائع كثير في الكلام؛ قال امرؤ القيس:

فلو أنّها نفس تموت سويّةو لكنّها نفس تساقط أنفسا

قوله: [بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ] أي لكنّ الأمر للّه: إن شاء فعل و إن يشأ لم يفعل.

قوله: [أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا] قيل: اليأس هاهنا العلم في لغة النخع و احتجّوا بقول الشاعر:

ألم ييأس الأقوام أنّي أنا ابنه و إن كنت عن أرض العشيرة نائيا؟

و قال أبو عبيدة:

أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم؟

أي ألم يعلموا، و أنكر بعض هذه اللغة كالكسائيّ، و قيل: معناه أ فلم يعلم الّذين آمنوا علما يئسوا معه من أن يكون غير ما علموه. و قيل: معناه: أ فلم ييأس الّذين آمنوا من إيمان هؤلاء الّذين وصفهم اللّه بأنّهم لا يؤمنون، و هذا المعنى قاله الزجّاج؛ لأنّه قال: أن لو يشاء اللّه و كانوا قابلين للهداية [لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً] إلى الجنّة لكنّه كلّفهم لينالوا الثواب بالتكليف و قبوله لا على سبيل الإلجاء كما مرّ هذا المعنى في الآيات كرارا.

[وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا] من كفرهم و أعمالهم الخبيثة [قارِعَةٌ] و داهية تقرعهم من الحرب و الجدب و الأسر للتنبيه و الزجر [أَوْ تَحُلُ تلك القارعة قريبا من دورهم فتجاورهم حتّى تحصل لهم المخافة لتتنبّهوا. و قيل: إنّ التاء للخطاب أي أو

ص: 95

تحلّ أنت يا محمّد بنفسك [قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ أي ما وعد اللّه من فتح مكّة عن ابن عبّاس قال: و هذه الآية مدنيّة. و قيل: المراد حتّى يأتي يوم القيامة [إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ ميعاده.

قال بعض المعتزلة: كالقاضي عبد الجبّار و هذا يدلّ على بطلان قول من يجوّز الخلف على اللّه في ميعاده، قال: و هذه الآية و إن كانت واردة في حقّ الكفّار إلّا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ بعمومه يتناول كل وعيد ورد في حقّ الفسّاق. و أجاب الرازيّ بأنّ الخلف غير و تخصيص العموم غير، و نحن لا نقول بالخلف و لكنّا نخصّص عمومات الوعيد بالآيات الدالّة على العفو. انتهى كلامه.

قوله: [سورة الرعد (13): الآيات 32 الى 34]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)

المعنى: اعلم أنّ القوم لمّا طلبوا سائر المعجزات المذكورة من الرسول على سبيل الاستهزاء، و كان ذلك يشقّ على الرسول و كان يتأذّى من تلك الكلمات فاللّه أنزل هذه الآية تسلية له و تصبيرا على سفاهة قومه فقال: إنّ أقوام سائر الأنبياء استهزءوا بهم فأطلت لهم المدّة بتأخير العقوبة و أمهلتهم فلم ينتهوا [ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عقابي لهم، و هو إشارة إلى تفخيم ذلك العقاب و تعظيمه.

ثمّ عاد سبحانه إلى الحجاج مع الكفّار قوله: [أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ بالتدبير [عَلى كُلِّ نَفْسٍ و حافظ على كلّ نفس أعمالها و يرزقها كمن ليس بهذه الصفة، و المراد الأصنام الّتي لا تضرّ و لا تنفع. و يدلّ على هذا الحذف قوله: «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» يعني أنّ هؤلاء الكفّار جعلوا للّه شركاء في العبادة.

[قُلْ يا محمّد [سَمُّوهُمْ بما يستحقّون من الصفات أي كما يوصف اللّه بالخالق و الرازق و المحيي و المميت أي إن الصنم لو كان إلها لتصور منه أن يخلق الرزق فيحقّ حينئذ أن تسمّى بالخالق

ص: 96

أو الرازق، يعني سموّهم بالأسماء الّتي هي صفاتهم، ثمّ انظروا هل يدلّ صفاتهم على جواز عبادتهم و اتّخاذهم آلهة؟ أي سموّهم ماذا خلقوا أو هل ضرّوا أو نفعوا؟ هل [تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ يعني أ تخبرون اللّه بشريك له [فِي الْأَرْضِ و هو لا يعلمه على معنى أنّه ليس و لو كان يعلم، و إنّما يقال للشي ء الحقير المستحقر الّذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر و لا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمّه إن شئت يعني أنّ أخسّ من أن يسمّى و يذكر و لكنّك إن شئت أن تضع له اسما فافعل و إنّما خصّ الذكر بالأرض لأنّهم ادّعوا أنّ له له شركاء في الأرض لا في غيرها.

قوله: [أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ يعني تموّهون بإظهار قول لا حقيقة له صورة مجازا و قيل: المراد أم بظاهر كتاب أنزل اللّه سمّيتم الأصنام آلهة.

قوله: [بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ قال الواحديّ: بل هاهنا دع كأنّه يقول: دع ذكر ما كنّا فيه من الدليل فإنّه لا فائدة في ذكره؛ لأنّه زيّن لهم كفرهم و مكرهم، فلا ينتفعون بذكر هذه البيّنات قال القاضي: لا شبهة في أنّه ذكر ذلك في مقام الذمّ لهم، و إذا كان كذلك امتنع أن يكون المزيّن هو اللّه [وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ يعني صدّهم الشيطان أو أنفسهم و بعضهم لبعض، و قرئ بالمعلوم أي أعرضوا و صرفوا غيرهم، و هو لازم متعدّ، و حجّة القراءة الثانية قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»* (1).

قوله: [وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي و من يضلّله اللّه عن ثواب الجنّة لكفره [فَما لَهُ مِنْ هادٍ] يهديه، منبئ بأنّ الثواب لا ينال إلّا بالطاعة خاصّة [لَهُمْ عَذابٌ في الدنيا بالقتل و الأسر [وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ و أغلظ للنفس لدوامه و كثرته [وَ ما لَهُمْ من دافع يدفع عنهم العذاب.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 35 الى 36]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ (36)

ص: 97


1- النساء: 166.

لمّا ذكر سبحانه عذاب الكفّار أتبعه يذكر ثواب المتّقين فقال: [مَثَلُ الْجَنَّةِ] أي شبهها و صورتها و صفتها [الَّتِي وُعِدَ] بها [الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ و ثمارها غير منقطع كثمار الدنيا [وَ ظِلُّها] لا يزول و لذّتها و نعيمها لا ينقطع بموت و لا آفة، و قيل: معناه أنّ لذّة أكل الجنّة باقية في الأفواه [تِلْكَ الجنّة عاقبة المتّقين فالطريق إليها التقوى، و عاقبة الكافرين أمرهم يؤول إلى النار.

قوله: [وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فقيل: المراد بالكتاب القرآن و قيل: المراد التوراة و الإنجيل. فعلى معنى أن تكون الكتاب القرآن المراد أصحاب النبيّ و الّذين آمنو معه فرحوا بالقرآن، و المراد من الأحزاب بقيّة أهل الكتاب و سائر المشركين لأنّه بعض معاني القرآن يخالف أحكامهم، و لهذا ينكرون. و قيل: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» هم الّذين كانوا من أهل التوراة كعبد اللّه بن سلام و أصحابه ساءهم قلّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فأنزل اللّه: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» (1) ففرحوا بذلك و كفر المشركون بالرحمن و قالوا: ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة.

و المراد من الأحزاب الّذين تحزّبوا على رسول اللّه بالمعاداة و [مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قيل:

المراد بذكر الرحمن فحينئذ هو كقوله: «وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» (2) [قُلْ يا محمّد [إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ في عبادته أحدا [إِلَيْهِ أَدْعُوا] و إلى الإقرار بتوحيده و صفاته و توجيه العبادة إلى اللّه نؤتي و أدعوا [وَ إِلَيْهِ مرجعي.

قوله: [سورة الرعد (13): آية 37]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ (37)

. الخطاب للنبيّ و المراد الامّة لئن وافقت أهواءهم أي كما أنزلنا الكتب السابقة على الأنبياء بلسانهم، كذلك أنزلنا عليك القرآن بلسان قومك حكمة عربيّة بلسان العرب و لمّا كان القرآن سببا للحكم جعل نفس الحكم في التعبير على سبيل المبالغة، و وصف القرآن بالعربيّ دليل على حدوث الكلام كما أنّ الإنزال يدلّ على الحدوث.

ص: 98


1- الإسراء: 110.
2- السورة: 32.

قيل: سبب النزول أنّ المشركين كانوا يدعونه إلى ملّة آبائهم و أن يصلّي إلى قبلتهم، فنزلت الآية [لَئِنِ وافقت [أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ باللّه و المعجزات الموجبة للعلم مالك ناصر يعينك و يمنعك عن عذابه، و «مِنَ» زائدة للتأكيد.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 38 الى 40]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ (40)

النزول: عيّروا رسول اللّه بكثرة التزويج قالوا: لو كان نبيّا لشغلتة النبوّة عن تزوّج النساء، فنزلت.

المعنى: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا] من قبل رسالتك رسلا [وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً] عديدة و نساء و أولادا أكثر من نسائك و أولادك. و كان لسليمان عليه السّلام ثلاثمائة امرأة مهيرة و سبعمائة سريّة و لداود مائة امرأة، فلا ينبغي أن يستنكر منك أن تتزوّج.

ثمّ أوردوا شبهة اخرى و عيّروه بأنّه لو كان نبيّا من عند اللّه لكان أيّ شي ء طلبنا منه يأتي به فأجاب اللّه عنها [وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ] و معجزة إلّا بمشيئة اللّه و أمره أظهرها، و إن شاء منعها و لا اعتراض عليه.

ثمّ إنّه صلّى اللّه عليه و آله في تبليغاته كان يخوّفهم بنزول العذاب و ظهور النصرة و ذلك الموعود كان يتأخّر احتجّوا بالتأخير على الطعن في نبوّته و قالوا: لو كان نبيّا صادقا لما ظهر كذبه فأجاب اللّه اللّه عن شبهتهم بقوله: [لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يعني نزول العذاب و ظهور النصرة و كلّ أمر له وقت مكتوب معيّن في اللوح، فالآية الّتي اقترحوا لها وقت أجّله اللّه لا على شهواتهم كتب وقته في كتابه كأجل الحياة و الموت و غيره. و قيل: معناه لكلّ كتاب وقت يعمل به فللتوراة وقت و للإنجيل وقت و كذلك يمحو اللّه ما يشاء و يثبت.

ثمّ أوردوا شبهة اخرى قالوا: لو كان في دعوى الرسالة صادقا لما نسخ الأحكام الّتي كان في الشرائع المتقدّمة نحو التوراة و الإنجيل لكنّه نسخها و حرّفها نحو تحريف القبلة و أمثالها فوجب أن لا يكون نبيّا؛ فأجاب اللّه بقوله: [يَمْحُوا اللَّهُ بحسب ما اقتضته مصلحة العباد

ص: 99

[وَ يُثْبِتُ بحسب المصلحة لهم.

و في معنى المحو و الإثبات أقوال:

أحدها أنّ ذلك في الأحكام من الناسخ و المنسوخ.

و الثاني أنّه يمحو من كتاب الحفظة المباحات و ما لا جزاء فيه و يثبت ما فيه الجزاء من الطاعات و المعاصي.

و الثالث يمحو ما يشاء من ذنوب المؤمن فضلا و رحمة، و يسقط عقابها، عن ابن عبّاس، و يثبت ذنوب من يريد عقابه عدلا و استحقاقا، عن سعيد بن جبير.

الرابع أنّه عامّ في كلّ شي ء فيمحو من الرزق و يزيد فيه و من الأجل و يزيد فيه و يمحو السعادة و الشقاوة و يثبتهما، عن ابن مسعود. و روى أبو قلابة عن ابن مسعود أنّه كان يقول: اللهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء و أثبتني في السعداء فإنّك تمحو ما تشاء و تثبت و عندك امّ الكتاب. و روي ذلك عن أئمّتنا في دعواتهم المأثورة.

و روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: هما كتابان سوى امّ الكتاب يمحو اللّه منه ما يشاء و يثبت و أمّا امّ الكتاب لا يتغيّر منه شي ء و هو أصل الكتاب الّذي اثبت فيه الحادثات و الكائنات، و روى هذه الرواية عمر بن حصين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر قال: سألته عن ليلة القدر فقال: ينزل اللّه فيها الملائكة و الكتبة إلى السماء الدنيا فيكتبون في أمر السنة و ما يصيب العباد و أمر ما عنده موقوف له فيه المشيئة، فيعدم منه ما يشاء و يؤخّر ما يشاء و يمحو و يثبت و عنده امّ الكتاب.

و روى الفضيل قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: العلم علمان: علم علّمه الملائكة و رسله و أنبياء، و علم عنده مخزون لم يطّلع عليه أحد يحدث فيه ما يشاء. و روى زرارة عن حمران عن الصادق عليه السّلام قال: هما أمران موقوف و محتوم فما كان من محتوم أمضاه فما كان من موقوف فله فيه المشيئة يقضي فيه ما يشاء.

و الخامس أنّه في مثل تقتير الأرزاق و المحن و الشدائد يثبته ثمّ يزيله بالدعاء و الصدقة.

ص: 100

و السادس معناه أنّه يمحو بالتوبة جميع الذنوب و يثبت بدل الذنوب حسنات يؤيّد هذا المعنى قوله: «إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» (1) و السابع أنّه يمحو ما يشاء من القرون و يثبت ما يشاء من القرون كقوله: «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ» (2) و روي ذلك عن عليّ عليه السّلام.

و الثامن أنّه يمحو ما يشاء يعني القمر، و يثبت يعني الشمس. «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» (3) و قيل: إنّ ابن عبّاس سأل كعبا عن امّ الكتاب فقال: علم اللّه ما هو خالق و ما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا، فكان كتابا و سمّي امّ الكتاب لأنّه الأصل الّذي كتب فيه أوّلا سيكون كذا و كذا لكلّ ما يكون فإذا وقع بعد كتب أنّه قد كان ما قيل إنّه سيكون. و الوجه في ذلك ما فيه من المصلحة لمن تفكّرت من الملائكة الّذين يشاهدونه إذا قابلوا ما يكون بما هو مكتوب فيه و علموا أنّ ما يحدث على كثرته قد أحصاه اللّه.

قوله: [وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ يا محمّد [بَعْضَ الَّذِي نعد] هؤلاء الكفّار من العذاب.

لمّا تقدّم في الآية أنّ لكلّ أمر وقتا و أجلا بيّن أنّ لعذابهم وقتا سيفعله إمّا في حياتك أو بعد وفاتك. و قوله «إما» أصله «إن» الشرطيّة و «ما» مزيدة للتأكيد. و إن نريك ما أوعدناهم في حياتك أو بعد مماتك من العذاب ما عليك و إنّما [عَلَيْكَ الإبلاغ [وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ و لا عليك الحساب.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 41 الى 43]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)

ص: 101


1- الفرقان: 70.
2- الإسراء: 12.
3- السجدة: 26.

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 149

[أَ وَ لَمْ يَرَوْا] هؤلاء الكفّار [أَنَّا] نقصد [الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها] و جوانبها بالفتوح على المسلمين فننقص من أهل الكفر و نزيد في المسلمين كما أنّا فتحنا لمحمّد ما حول مكّة من القرى. أو المعنى: أ و لم يروا ما يحدث في الدنيا من الخراب بعد العمارة و الموت بعد الحياة و النقصان بعد الزيادة لا رادّ لحكمه [وَ هُوَ سَرِيعُ المجازات على أفعال العباد ثوابا و عقابا.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الكفّار الّذين قبلهم قد مكروا بالمؤمنين و احتالوا في كفرهم و دبّروا في تكذيب الرسل بما في وسعهم فأبطل اللّه مكرهم كذلك يبطل اللّه مكر هؤلاء [فَلِلَّهِ الْمَكْرُ] أي له التدبّر و الأمر [جَمِيعاً] فيردّ مكرهم بنصب الحجج عليهم. و قيل:

معناه: يملك الجزاء على المكر، و إنّما أتى بلفظ المكر كقوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ» (1).

[يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية إلى النفس، و قد أسند الفعل إلى العباد و هذا صريح في بطلان قول المجبّرة، و لو كان حدوث الفعل بخلق اللّه لم يكن لقدرة العبد فيه أثر فوجب أن لا يكون للعبد كسب و قد أسند سبحانه الكسب إلى النفس [وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ] و لمن العاقبة المحمودة و المذمومة.

[وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا] لك يا محمّد [لَسْتَ مُرْسَلًا] من جهة اللّه إلينا [قُلْ لهم [كَفى بِاللَّهِ شاهدا [بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ بسبب ما أظهر لكم من الآيات الدالّة على نبوّتي [وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ و اختلف فيه:

قيل: إنّه اللّه على قراءة «من» بمعنى الموصول و من قرأ «من» بالكسر على الابتداء أي و من عنده علم الكتاب.

و قيل- على القراءة الأوّليّة المشهورة-: إنّ المراد شهادة أهل الكتاب من الّذين آمنوا كابن سلام و أصحابه و سلمان الفارسيّ و تميم الداريّ.

و قيل: معناه و من عنده يعني الّذي يعلم علم القرآن، فمن علم الكتاب القرآن و عرف جامعيّته من المعارف يعرف أنّه معجزة و دليل على صدق نبوّتك فحينئذ شهادة اللّه

ص: 102


1- الشورى: 40.

على نبوّته عليه السّلام إنزال القرآن على وفق دعواه، و لا يعلم كون القرآن معجزا إلّا أن يعلم علم القرآن.

و قيل: إنّ المراد به عليّ بن أبي طالب و الأئمّة الهداة، و هذا القول الأخير عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه. و روي عن بريد بن معاوية عن أبي عبد اللّه أنّه قال: إيّانا عنى. و عنى أوّلنا، و أفضلنا و خيرنا بعد النبيّ. و روى عنه عبد اللّه بن كثير أنّه وضع يده على صدره ثمّ قال: عندنا و اللّه علم الكتاب كملا.

و يؤيّد ذلك ما روي عن الشعبيّ أنّه قال: ما أحد أعلم بكتاب اللّه بعد النبيّ من عليّ بن أبي طالب و من الصالحين من أولاده.

و روى عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلميّ، قال: ما رأيت أحدا أقرأ من عليّ بن أبي طالب للقرآن أي أعلم. و روى أبو عبد الرحمن أيضا عن عبد اللّه بن مسعود قال:

لو كنت أعلم أنّ أحدا أعلم بكتاب اللّه منّي لأتيته، قال: فقلت له فعليّ؟ قال: و لم ير في كتاب و لم يسمع في حديث أنّ أحدا يدّعي الأعلميّة أو التساوي في علم القرآن من عليّ بن أبي طالب بعد النبيّ من الخلفاء و غيرهم.

تمّت السورة

ص: 103

سورة ابراهيم

اشارة

هي مكّيّة إلّا آيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين: قوله: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إلى قوله- فَبِئْسَ الْقَرارُ».

فضلها عن ابيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة إبراهيم و الحجر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام و بعدد من لم يعبدها. روى عنبسة بن مصعب عن أبي عبد اللّه قال: من قرأ سورة إبراهيم و الحجر في ركعتين جميعا في كلّ جمعة لم يصبه فقر و لا جنون و لا بلوى.

افتتح هذه السورة ببيان الغرض من الرسالة و الكتاب، فقال:

ص: 104

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة إبراهيم (14): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)

اعلم أنّ الكلام في هذه السورة مكّيّة أو مدنيّة طريقة الآحاد و متى لم يكن في السورة ما يتّصل بالأحكام الشرعيّة فنزولها بمكّة و المدينة سواء، و إنّما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل فيه ناسخ و منسوخ فذلك فيه فائدة عظيمة.

و قوله: [الر] معناه أنّ السورة المسمّاة بالر [كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لغرض أن تخرج جميع الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بأمر اللّه و إطلاقه، و في هذا دلالة على أنّه سبحانه يريد الإيمان من جميع المكلّفين، و اللام للغرض لا للعاقبة لأنّه لو كان كذلك لكان الناس كلّهم مؤمنين و المعلوم بخلافه.

ثمّ بيّن النور أنّه الصراط العزيز الحميد المؤدّي إلى معرفة اللّه المنيع في سلطانه المحمود في أفعاله، ثمّ في الآية دلالة في أنّ طرق الكفر متعدّدة، و طريق الإيمان و الخير واحد للجمع في الظلمات و الإفراد في النور، و كذلك طرق الجهل كثيرة و طريق العلم واحد و تكرير «إِلَى» على البدل كقوله: «لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ» (1).

[اللَّهِ هو [الَّذِي يتصرّف فيهما على وجه لا اعتراض عليه فيه، و أخبر أنّ الويل و العذاب للكافرين يجحدون نعم اللّه و لا يعترفون بوحدانيّته فلهم الويل و العذاب الشديد و كلمة «اللَّهِ» علم لذات اللّه، و ليس بمشتقّ لكونه لو كان مشتقّا لكان مفهومه صالحا لوقوع

ص: 105


1- الأعراف: 74.

الشركة فيه، و يدلّ على هذا القول قوله: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» (1) و المعنى هل تعلم من اسمه اللّه غير اللّه؟ و هذا يدلّ على أنّ قولنا: اللّه اسم لذاته المخصوصة.

و بالجملة قوله: [الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ وصف الكافرين، يحبّون المقام في هذه الدنيا العاجلة [عَلَى الكون في [الْآخِرَةِ] و يمنعون غيرهم من اتّباع الطريق المؤدّي إلى معرفة اللّه و يطلبون طريقا بعيدا عن الاستقامة و «السبيل» يذكّر و يؤنّث [أُولئِكَ الموصوفين [فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ] عن الحقّ.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): آية 4]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

. شرع في بيان نعمه على الخلق حيث إنّه سبحانه أرسل إليهم رسولا من خلّصهم من ظلمات الكفر، و هو من أهل لسانهم [لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما ينفعهم و ما يضرّهم، و كذلك كان سنّة المرسلين فيما مضى من لأزمان لا بدّ و أن يكون لسانه لسان أهل بلده و قومه المجاورين له حتّى إذا فهموا عنه فهّموا غيرهم من الّذين لسانهم غير لسانهم، فكأنّه أهل بلده و قومه يكونون تراجمة للغير، و قد أرسل اللّه محمّدا إلى الخلق كافّة بلسان قومه و هم العرب بدلالة قوله:

«وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً» (2).

و قيل: المعنى أنّا كما أرسلناك إلى الناس بلغة العرب لتبيّن لهم الدين ثمّ إنّهم يبيّنونه للناس كذلك أرسلنا كلّ رسول بلغة قومه ليظهر لهم الدين.

ثمّ استأنف فقال: [فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ] من طريق الجنّة إذ كانوا مستحقّين للعقاب بكفرهم [وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ] إلى طريق الجنّة؛ و قيل: يلطف لمن يشاء بمن له لطف. و يضلّ عن ذلك اللطف من لا لطف له؛ فمن تفكّر و تدبّر اهتدى و ثبّته اللّه، و من أعرض عنه خذله اللّه و هو الغالب [الْحَكِيمُ في أفعاله.

قوله: [سورة إبراهيم (14): الآيات 5 الى 6]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

ص: 106


1- مريم: 65.
2- سبا: 28.

. ثمّ ذكر سبحانه إرساله موسى فقال: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بالمعجزات الدالّة على نبوّته بأن [أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى سبيل الهداية يعنى أمرناه بذلك لأنّهم بسببه خرجوا من الكفر إلى الإيمان [وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فيه أقوال: أحدها أن يذكّرهم وقائع اللّه في الأمم الخالية و إهلاك من أهلك منهم ليحذروا بذلك. و الثاني: يذكّرهم بنعم اللّه أي يرغّبهم و يرهّبهم، مثلا أيّام موسى منها ما كان أيّام المحنة كما كانت بنو إسرائيل فيها تحت قهر فرعون، و منها أيّام المحنة و النعماء مثل إنزال المنّ و السلوى و غلبتهم على فرعون و كذا السابقين عن موسى. و كنّي عن الأيّام بالنعمة و النقمة لأنّ الأيّام ظرف لهما.

[إِنَّ فِي ذلِكَ التذكير دلالات لكلّ من عادته الصبر و الشكر و هو المؤمن؛ لأنّه لا يخلو من الصبر على البلاء أو الشكر على النعماء.

قوله: [إِذْ قالَ مُوسى أي و اذكر يا محمّد إذ قال موسى: لهم [اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ حين كنتم معذّبين [مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ و يذيقونكم أنواع العذاب [وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ للاسترقاق و لغرض الاسترقاق و إبقاؤهنّ منفردات عن الرجال [بلاء عظيم للرجال و النساء.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 7 الى 10]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)

.

ص: 107

قوله: [وَ إِذْ تَأَذَّنَ من بقيّة قول موسى حين قال: «اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ» أي و اذكروا إذا أعلم [رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمتي [وَ لَئِنْ جحدتم نعمتي [إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ] لمن كفر بنعمتي. قال أبو عبد اللّه في هذه الآية: أيّما عبد أنعم اللّه عليه فأقرّ بها بقلبه و حمد اللّه عليها بلسانه ثمّ لم ينفد كلامه حتى يأمر اللّه له بالزيادة.

[وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا] و تجحدوا نعم اللّه [أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً] من الخلق لم تضرّوا اللّه شيئا و إنّما يضرّكم ذلك بأن تستحقّوا عليه العذاب [فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌ عن شكركم [حَمِيدٌ] في أفعاله لأنّه متى كان غنيّا لا يزداد بشكر الشاكرين و لا ينقص بكفر الكافرين، و حينئذ لا يتفاوت الكفر و الكفران، أي سواء حمل الآية على الكفر المقابل للإيمان أو الكفران المقابل للنعمة.

قوله: [أَ لَمْ يَأْتِكُمْ قيل: هذا الخطاب متوجّه إلى امّة نبيّنا. و قيل: إنّه قول موسى فالخطاب إلى امّته أي ألم يجئكم [نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم مثل [قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أي لا يعلم تفاصيل أحوالهم و عددهم و ما فعلوه و ما فعل بهم إلّا اللّه، قال ابن الأنباريّ: إنّ اللّه أهلك امما من العرب و غيرها فانقطعت أخبارهم و عفت آثارهم فليس أحد يعرفهم إلّا اللّه.

و كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسّابون. و قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان لا يتجاوز في انتسابه معدّ بن عدنان بن أدد و قال: تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم و تعلّموا من النجوم ما تستدلّون به على الطريق. قال بعض العلماء: و بهذا الطريق لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن آدم عليه السّلام إلى هذا الوقت.

قوله: [جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و الآيات و الأحكام من الحلال و الحرام [فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إلى [أَفْواهِهِمْ في معناه أقوال:

أحدها: عضّوا على أصابعهم من شدّة الإنكار و الغيظ لأنّه ثقل عليهم مكان الرسل و كلامهم، عن ابن عبّاس و ابن مسعود و الجبّائيّ.

و ثانيها: جعلوا أيديهم في أفواه الأنبياء تكذيبا لهم و ردّا لما جاءوا به فالضمير في «أَيْدِيَهُمْ» إلى «الكفّار» و في «أَفْواهِهِمْ» إلى «الأنبيا» كأنّهم لمّا سمعوا كلام الأنبياء

ص: 108

أشاروا بأيديهم إلى أفواه الأنبياء تسكيتا لهم.

و ثالثها: وضعوا أيديهم على أفواههم مؤمين بذلك إلى الرسل أن اسكتوا عمّا تدعوننا إليه كما يفعل الواحد منّا إلى غيره إذا أراد أن يسكته.

و رابعها: أنّ كلا الضميرين إلى المرسل أي أخذوا أيدي الرسل فوضعوها على أفواههم ليسكتوهم و ليقطعوا كلامهم.

هذا كلّه إذا حملنا معنى الأيدي و الأفواه على الحقيقة، و من حملها على التوسّع و المجاز، و إلّا فقيل: المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج لأنّ الحجج يخرج من الأفواه.

و قيل: معناه كذّبوا رسلهم و تركوا ما أمروا به و بعض أنكروا هذا المعنى و قالوا: إنّما المعنى عضّوا على الأيدي حقدا أو غيظا كقول الشاعر:

«يردّون في فيه عشر الحسود» يعني أنّهم يغيظون الحسود حتّى يعضّ على أصابعه العشر.

قوله: [وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا] أي جحدنا ما [أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الدين نوقع في الريبة، الريبة قلق النفس و عدم الاطمئنان [قالَتْ رُسُلُهُمْ حينئذ:

[أَ فِي اللَّهِ شَكٌ مع هذه الحجج؟ [فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و خالقهما لا يقدر على ذلك غيره فوجب أن يعبد وحده و لا يشرك به من لم يقدر أن يخلق [و يَدْعُوكُمْ إلى الإيمان [لِيَغْفِرَ لَكُمْ و ينفعكم لا ليضرّكم و قال: [مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم لأنّه قد يغفر ما دون الشرك و لا يغفر الشرك [وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يؤخّركم إلى الأجل الّذي ضرب اللّه و قدّره لكم أن يميتكم فيه.

[قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا] أي قال لهم قومهم: ما أنتم إلّا خلق [مِثْلُنا تُرِيدُونَ أن تمنعونا [عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا] من الأصنام [فَأْتُونا بِسُلْطانٍ و حجّة، و إنّما قالوا ذلك لأنّهم ما اعتقدوا بأنّ جميع ما جاءت به الرسل معجزة؛ لأنّهم طلبوا معجزات سوى ما ظهرت منهم.

و في هذه الآية دلالة على أنّ اللّه لا يريد الكفر و الشرك و إنّما يريد الخير و الإيمان، و إنّما بعث الرسل إلى الناس فضلا و رحمة، فإنّه سبحانه قال: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ».

[سورة إبراهيم (14): الآيات 11 الى 12]

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَ ما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)

ص: 109

[قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ لسنا [نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الخلقة و الصورة [وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ] و ينعمه النبوّة و لقد منّ اللّه علينا، و ليس [لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بحجّة على صحّة دعوانا [إِلَّا] بأمر [اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المصدّقون به و بأنبيائه، و أيّ شي ء لنا إذا لم [نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ و لم نفوّض له أمورنا إليه؟ و لا عذر لنا في أن لا نتوكّل عليه [وَ قَدْ] عرّفنا الطريق و [هَدانا] إلى سبيل الإسلام و دلّنا على معرفته و ضمن لنا على الإيمان جزيل الثواب [وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى أذا كم فإنّه تعالى يكفينا أمركم.

و روى الواقديّ عن أبي مريم عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا آذاك البراغيث فخذ قدحا من الماء فاقرأ عليه سبع مرات: «وَ ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إلى آخر الآية» و قل: فإن كنتم آمنتم باللّه فكفّوا شرّكم و أذاكم عنّا، و ترشّ الماء حول فراشك فإنّك بتّ تلك الليلة آمنا من شرّها.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 13 الى 18]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ (14) وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)

المعنى: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و ما قبلوا الإيمان [لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ من بلادنا إلّا أن ترجعوا إلى أدياننا و مذاهبنا الّتي نحن عليها [فَأَوْحى اللّه إلى رسله لمّا ضاقت صدورهم بما لقوا من قومهم إنّا نهلك هؤلاء [الظَّالِمِينَ الكافرين [وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي نسكنكم أرضهم، يريد اصبروا فإنّي أهلك عدوّكم و أورثكم أرضهم. و في معناه ما جاء: من آذى جاره أورثه اللّه داره.

[ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي ذلك الفوز لمن خاف وقوفه في الحساب للجزاء بين يديّ

ص: 110

في الموضع الّذي أقيمه فيه، و أضاف المقام إلى نفسه سبحانه لأنّهم يقومون بأمره [وَ خافَ وَعِيدِ] و عقابي و إنّما قالوا: «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» ظنّا منهم- بزعمهم الفاسد- أنّهم على ملّتهم فطاما و هذا الزعم لأنّهم نشأوا فيهم.

[وَ اسْتَفْتَحُوا] قيل: استفتح الرسل. و قيل: استفتح الأمم أي طلبوا النصر على الكافرين أو الأمم استفتحوا العذاب على وجه التكذيب لهم [وَ خابَ و خسر [كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ] أي خسر كلّ متكبّر معاند للحقّ من وراء هذا الجبّار المعاند نار [جَهَنَّمُ أي يأتيه العذاب من خلفه [وَ يُسْقى ماء ممّا يصيل من النار، و القيح عن فروج الزواني في النار لونه لون الماء و طعمه طعم الصديد. عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: يقرب إليه ... فإذا دنى منه شوى وجهه و وقع فروة رأسه، فإذا شرب قطع أمعاءه حتّى يخرج من دبره.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من شرب الخمر لم تقبل صلاته أربعين يوما، فإن مات و في بطنه شي ء من ذلك كان حقّا على اللّه أن يسقيه من طينة خبال و هو صديد أهل النار و ما يخرج من فروج الزناة فيجتمع ذلك في قدور جهنّم فيشربه أهل النار فيصهر به ما في بطونهم و الجلود، رواه شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام.

قوله: [يَتَجَرَّعُهُ أي يشرب ذلك الصديد جرعة جرعة [وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ أي لا يقارب أن يشربه كراهة له و هو يشربه، و «يَكادُ» نفيه إثبات و إثباته نفي فقوله: «وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ» أي و يسيغه بعد إبطاء؛ تقول العرب: ما كدت أقوم أي قمت بعد إبطاء كقوله: «وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ» (1) يعني فعلوا بعد إبطاء.

قوله: [وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي يأتيه شدائد الموت و سكراته من كلّ موضع جسده من ظاهره و باطنه حتّى يأتيه من أطراف شعره و من فوقه و من تحته و عن يمينه و شماله، و مع إتيان أسباب الموت و الشدائد الّتي يكون من الموت لا يموت فيستريح [وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ] أي يستقبله و يتلقّى بعد هذا العذاب المذكور عذاب أشدّ منه و هو الخلود في النار؛ قال المفضّل: المراد بعد العذاب الأوّل و قبل الخلود، قطع الأنفاس و حبسها في الأجساد (2).

[مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أي مثل أعمال الّذين كفروا بربّهم، حذف المضاف س.

ص: 111


1- البقرة: 71.
2- اى و ذلك العذاب الغليظ قطع الأنفاس.

لدلالة الكلام الواقع بعد المضاف إليه في قلّة انتفاعها [أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ و ذرّته و نسفته [فِي يَوْمٍ عاصِفٍ أي شديد الريح فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرّق فكذلك هؤلاء الكفّار لا يقدرون ممّا كسبوا على شي ء من أعمالهم و مثله قوله: «ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» (1).

[ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ] عن النفع و الخطاء البعيد عن الصواب. و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان قول المجبّرة لأنّه سبحانه أضاف العمل إليهم و لو كان العمل مخلوقا له لما صحّ الإضافة إليهم.

قوله: [سورة إبراهيم (14): الآيات 19 الى 21]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)

المعنى: بيّن في هذه الآية أنّه إنّما خلق الخلق ليعبدوه و ليؤمنوا به لا ليكفروا فقال: [أَ لَمْ تَرَ] و تعلم، لأنّ الرؤية قد تكون بمعنى العلم كما يكون الإدراك للبصر [أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ على ما تقتضيه الحكمة، و الخلق معناه فعل الشي ء على تقدير و ترتيب [بِالْحَقِ أي للغرض الصحيح و هو الدين و العبادة [إِنْ يَشَأْ] يهلككم و يفنيكم [وَ يَأْتِ بقوم آخرين مكانكم لأنّ من قدر على بناء الشي ء كان على هدمه أقدر و ما هلاككم بأمر ممتنع و لا متعذّر على اللّه.

[وَ بَرَزُوا] إنّ الخلق يبرزون [لِلَّهِ جَمِيعاً] ورد بلفظ الماضي و إن كان معناه الاستقبال لأنّ كلّ ما أخبر اللّه صار كأنّه حصل و دخل في الوجود نظيره «وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ» (2) و المراد من البروز خروجهم من القبور و انكشفوا و قيل: برزت سرائرهم و الأحوال الكامنة فيهم للحاكم الحكيم، فإن كانوا من السعداء برزوا بصفاتهم القدسيّة و وجههم المشرقة و أرواحهم المستنيرة، فتجلّى لها نور الجلال فما أجلّ تلك الأحوال! و إن كانوا من الأشقياء

ص: 112


1- الفرقان: 23.
2- الأعراف: 49.

برزوا للمواقف العظيمة ذليلين مهينين خائفين واقعين في خزي الخجالة، و موقف الإهانة و الفزع، نعوذ باللّه منها.

ثمّ يقول الضعفاء للرؤساء من أهل الضلال: هل تقدرون على دفع عذاب اللّه عنّا؟

[إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً] في الكفر [فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ شيئا من عذاب واقع؟

قال المسّبعون للأتباع: [لَوْ هَدانَا اللَّهُ أي لو خلصنا لخلصناكم و لو هدانا اللّه إلى طريق الخلاص أو هدانا إلى طريق الرجعة إلى الدنيا فنصلح ما أفسدناه [لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ يعني أنّ الصبر و الجزع سواء، لا لنا مهرب من عذاب اللّه.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): آية 22]

وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)

. لمّا بيّن اللّه المناظرة الّتي وقعت بين الرؤساء و الأتباع من كفرة الإنسان بيّن في هذه الآية المناظرة الّتي وقعت بين الشيطان و أتباعه من الإنس فقال: [وَ قالَ الشَّيْطانُ أي لمّا استقرّ أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار أخذ أهل النار في لوم إبليس و تقريعه؛ فيقوم في النار خطيبا لهم على منبر من نار، فقال رسول اللّه: إذا جمع اللّه الخلائق و قضى بينهم يقول الكافر: قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلّا إبليس هو الّذي أضلّنا فيأتونه و يسألونه فعند ذلك يقول هذا القول:

[إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ و قوله: وعد الحقّ من باب إضافة الشي ء إلى نفسه كقوله: «حبّ الحصيد» و «مسجد الجامع» على قول الكوفيّين. و على قول البصريّين يكون التقدير وعد اليوم الحقّ فوعدكم و صدقكم و وعدتكم فأخلفتكم وعدتكم أن لا جنّة و لا نار و لا حشر و لا حساب [وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ من قدرة و قهر فأقهركم على الكفر و المعاصي و الجئكم إليها [إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ بوسوستي و تزييني.

[فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أنا بمغيثكم و لا أنتم بمغيثي و معيني. و في هذه الآية دلالة على أنّ الكفر و المعصية لو كان بتخليق اللّه لوجب أن يقول إبليس: لا تلوموني

ص: 113

و لا أنفسكم و إنّما اللّه قضى عليكم الكفر و أجبركم عليه. و كذلك تدلّ على أنّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان و على تعويج أعضائه و على إزالة العقل عنه كما يقوله العوامّ.

قوله: [إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي كفرت الآن بما كان من إشراككم إيّاي مع اللّه في الطاعة، يعني جحدت أن أكون شريكا للّه فيما أشركتموني فيه من قبل هذا اليوم. و لعلّ مراده استكباره عن سجود آدم [إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قيل: إنّه من تمام قول الشيطان. و قيل: استئناف وعيد اللّه لأهل النار.

و بقي هاهنا سؤال: كيف يتعقّل و يتمكّن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان و إلقاء الوسوسة إليه؟ فيه قولان:

الاول أنّ ما سوى اللّه بحسب القسمة العقليّة على أقسام ثلاثة: المتحيّز و الحالّ في المتحيّز و الّذي لا يكون متحيّزا و لا حالّا فيه. و هذا القسم الثالث هو المسمّى بالأرواح، فهذه الأرواح إن كانت طاهرة مقدّسة في عالم الروحانيّات فهم الملائكة و إن كانت خبيثة شريرة داعية إلى الشرور و عالم الأجساد و منازل الظلمات فهم الشياطين، فعلى هذا التقدير الشيطان لا يكون جسما يحتاج إلى الولوج في داخل البدن، بل هو جوهر روحانيّ خبيث الفعل؛ فعلى هذا التقدير لا يبعد في أن يلقي شي ء من تلك الأرواح أنواعا من الوساوس و الأباطيل إلى جوهر النفس الناطقة بالمشاكلة و تلك الوسوسة تؤثّر في النفس الناطقة فيحصل الإضلال من غير ولوج؛ فهذه المشاكلة تختلف فإن كانت مشاكلة الخير و البركة كان ذلك من الملك إلهاما، و إن كانت المشاكلة من أبواب الشرّ كان وسوسة من الشيطان، و هذا التقرير على القول بإثبات جواهر مبرّأة عن الجسميّة و التحيّز، و القول بالأرواح الخبيثة و الطاهرة كلام مشهور عند قدماء الفلاسفة فليس لأحد أن ينكر وجود الشيطان و الجنّ و الملائكة على أن نطقت به الشرائع و الشريعة الأحمديّة فمن أنكر أنكر القرآن.

و القول الثاني و هو أنّ الملائكة و الشياطين لا بدّ و أن تكون أجساما لكن أجساما لطيفة و اللّه سبحانه ركّبها تركيبا عجيبا و هي أن تكون مع لطافتها لا تقبل التفرّق و التمزّق

ص: 114

و الفساد و البطلان، و نفوذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة غير مستبعد كما في الروح، فإنّه نفذ في داخل عمق البدن؛ فإذا عقل ذلك فكيف يستبعد نفوذ أنواع كثيرة من الأجسام اللطيفة في داخل هذا البدن؟ كالشيطان مثلا و كماء الورد في الورد و دهن السمسم في السمسم فكذلك القول في الشيطان و الجنّ، فلمّا ثبت القول في إمكان وجودهما فحينئذ الأولى أنّ الملائكة يكونون من النور مخلوقين، و الشياطين مخلوقين من اللهب و الدخان كما قال اللّه:

«وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ» (1). انتهى.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 23 الى 26]

وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26)

المعنى: لمّا تقدّم وعيد الكفّار عقّبه بالوعد للمؤمنين فقال سبحانه: [وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ صدّقوا باللّه و رسوله [وَ عَمِلُوا] الطاعات [جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها] بأمر [رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ بعضهم يحيّي بعضهم بهذه الكلمة و الملائكة يحيّونهم بهذه الكلمة و الربّ الرحيم يحيّيهم بهذه الكلمة كما قال: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (2) و كذلك قال: «وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» (3) و التحيّة التلقّي بالكرامة في المخاطبة و الجمع التحيّات لأنّه كان الملوك يحيّون بتحيّات مختلفة يقال لبعضهم: أبيت اللعن. و لبعضهم: أسلم و أنعم. و لبعضهم: عش ألف سنة.

و بالجملة ثمّ [ضَرَبَ اللَّهُ مثالين للمؤمن و الكافر أي بيّن اللّه شبها و ضرب و جعل مثل الكلمة الطيّبة، و هي كلمة التوحيد أعني كلمة لا إله إلّا اللّه أو كلّ كلام أمر اللّه به من الطاعات، و إنّما سمّاها طيّبة لأنّها نامية زاكية لصاحبها بالخيرات مثل شجرة

ص: 115


1- الحجر: 27.
2- يس: 58.
3- الرعد: 25.

طيّبة المنظر و الشكل و الرائحة و الثمرة الّذيذة المستطابة المتولّدة منها، و كثيرة المنفعة بسبب أكلها جامعة لهذه الوجوه؛ لأنّ الطيّب يصدق على جميع هذه المراتب و يكون أصل الشجرة [ثابِتٌ راسخ في الأرض باق آمن من الانقلاع و الزوال لأنّ الطيّب إذا كان في معرض الانقراض و لو أنّه يحصل الفرح بسبب وجوده إلّا أنّه يعظم الحزن بسبب زواله فليس بطيّب. و يكون [فَرْعُها فِي السَّماءِ] و هذه الصفة تدلّ على قوّتها من التصاعد مرتفعة و بعيدة عن عفونات الأرض و قاذورات الأبنية فحينئذ ثمرتها نقيّة طاهرة عن جميع الشوائب.

[تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها] و الشجرة الموصوفة بهذه الصفات ثمراتها دائمة حاضرة في كلّ الأوقات و ليست مثل سائر الأشجار، و من المعلوم بالضرورة أنّ الرغبة في تحصيل هذه الشجرة بحسب أن تكون عظيمة و أنّ العاقل متى أمكنه تحصيلها و تملّكها فلا يجوز له أن يتغافل عنها في الفوز بها، فالمعرفة باللّه و الاستغراق في إطاعته و محبّته تشبه هذه الشجرة بهذه الصفات المذكورة، و هيهات من هذه اللذّة و الالتذاذ بالفاكهة أين الثرى و الثريّا؟ لأنّ المدرك من تلك اللّذة جوهر النفس القدسيّة و المدرك معرفة الجلال، و المدرك من هذه القوّة الذائقة الفانية و المدرك الفاكهة و نسبة أحد المدركين إلى الاخرى كنسبة أحد اللذّتين إلى الاخرى لأنّ اللذّه الحاصلة بتناول الفاكهة سريعة الاستحالة شديدة التغيّر، و لذّة المعرفة و كمال جلال اللّه ممتنع التغيّر. و بالجملة، فالمراد من هذه الشجرة روي عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ هذه الشجرة الطيّبة هي النخلة و قيل:

إنّها شجرة في الجنّة. و روى ابن عقدة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ الشجرة رسول اللّه و فرعها عليّ و عنصر الشجرة فاطمة و ثمرها أولادها، و أغصانها و أوراقها شيعتنا، ثمّ قال: إنّ الرجل من شيعتنا ليموت فيسقط من الشجرة ورقة و إنّ المولود من شيعتنا ليولد فيورق مكان تلك الورقة ورقة. و روي عن ابن عبّاس قال: قال جبرئيل للنبيّ: أنت الشجرة و عليّ غصنها و فاطمة ورقها و الحسن و الحسين ثمارها. و قيل: المراد بالكلمة الطيّبة الإيمان و بالشجرة الطيّبة المؤمن.

قوله: «تُؤْتِي أُكُلَها» أي تخرج هذه الشجرة ما يؤكل منها كلّ حين، قيل: المراد كلّ السنة. و قيل: كلّ غدوة و عشيّة. و قيل: معناه في جميع الأوقات لأنّ التمر يكون

ص: 116

أوّلا طلعا ثمّ بلحا ثمّ بسرا ثمّ رطبا ثمّ تمرا، فيكون تمره موجودا في كلّ الأوقات، و يدلّ على أنّ الحين بمنزلة الوقت، قول النابغة في صفة الحيّة:

يبادرها الراقون من سوء سمّهاتطلّقه حينا و حينا تراجع

و قيل: إنّ معنى آية «تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» ما يفتي به الاثنا عشر من آل محمّد شيعتهم في الحلال و الحرام.

[وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لكي يتدبّروا.

[وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ] و هي كلمة الكفر و الشرك، و قيل: كلّ كلام في معصية اللّه [كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ] غير زاكية و هي شجرة حنظل. و قيل: شجرة لا قرار لها في الأرض. و قيل:

إنّها الكشوت. و عن أبي جعفر عليه السّلام: أنّ هذا مثل بني اميّة [اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ أي اقتطعت و استأصلت و اقتلعت جثّتها من الأرض ما لتلك الشجرة من ثبات؛ فإنّ الريح يكشفها و تذهب بها، فكما أنّ هذه الشجرة لا ثبات لها و لا ينتفع بها أحد فكذلك الكلمة الخبيثة لا ينتفع بها صاحبها، و لا يثبت له منها نفع و لا ثواب.

و روي عن ابن عبّاس أنّها شجرة لم يخلقها اللّه بعد و إنّما هو مثل ضربه بهذا و حقيقة الشجرة الخبيثة هي الجهل باللّه فإنّه أوّل الآفات و رأس الشقاوات. و قيل: المراد بالشجرة الخبيثة الثوم لأنّه صلّى اللّه عليه و آله وصف الثوم بأنّها شجرة خبيثة. و قيل: الشوك. و بالجملة لمّا كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعا في المطلوب.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): آية 27]

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)

. لمّا ذكر الكلمة الطيّبة عقّبه بذكر ما يحصل لصاحبها من المثوبة و الكرامة، فقال: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] و يثبّتهم في الآخرة في كرامته و ثوابه بقولهم الثابت الّذي قالوا، و هو كلمة الإيمان و كلمة التوحيد حتّى لا يزلّوا و لا يضلّوا عن طريق الحقّ في الدنيا و لا يضلّوا عن طريق الجنّة [فِي الْآخِرَةِ] و بإسكانهم فيها.

و قال أكثر المفسّرين: إنّ المراد بقوله: «فِي الْآخِرَةِ» في القبر و قالوا: الآية وردت في سؤال القبر، و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

ص: 117

و روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ في كتاب الكافي بإسناده عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قال: إنّ ابن آدم إذا كان آخر يوم من الدنيا و أوّل يوم من الآخرة مثّل له ماله و ولده و عمله فيلتفت إلى ماله فيقول: و اللّه إنّي كنت عليك لحريصا شحيحا فما لي عندك؟ فيقول: خذ منّي كفنك. فيلتفت إلى ولده فيقول: و اللّه إنّي كنت لكم محبّا و محاميا فمالي عندكم؟ فيقولون نؤدّيك إلى حفرتك نواريك فيها. قال: فيلتفت إلى عمله فيقول و اللّه إنّي كنت فيك لزاهدا و إن كنت عليّ لثقيلا فمالي عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك و يوم نشرك حتّى اعرض أنا و أنت على ربّك.

قال: فإن كان للّه وليّا أتاه أطيب الناس ريحا و أحسنهم منظرا و رياشا فقال: ابشر بروح و ريحان و جنّة نعيم و مقدمك خير مقدم! فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح قرينك أو تحلّ إلى الجنّة، و إنّه ليعرف غاسله و يناشد حامله أن يعجّله فإذا ادخل قبره أتاه ملكا القبر يجرّان أشفارهما و يخدّان الأرض بأنيابهما أصواتهما كالرعد القاصف، و أبصارهم كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربّك و ما دينك و من نبيّك؟ فيقول: اللّه ربّي و ديني الإسلام و نبيّي محمّد. فيقولان: ثبّتك اللّه بالقول الحقّ، و هو قوله سبحانه: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ» ثمّ يفسحان له مدّ نظره ثمّ يفتحان له بابا إلى الجنّة ثمّ يقولان له: نم قرير العين نوم الشابّ الناعم فإنّ اللّه يقول: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا» (1).

قال: و إذا كان لربّه عدوّا فإنّه يأتيه أقبح خلق اللّه زيّا و أنتنه ريحا فيقول: ابشر بنزل من حميم و تصلية جحيم، و إنّه ليعرف غاسله و يناشد حملته أن يحبسوه فإذا ادخل القبر أتاه ملكا القبر فألقيا أكفانه، ثمّ يقولان له: من ربّك و ما دينك و من نبيّك؟ فيقول:

لا أدري. فيقولان: لا دريت و لا هديت، فيضربان يافوخه بمرزبة معهما ضربة ما خلق اللّه دابّة إلّا تذعر بها ما خلا الثقلين ثمّ يفتحان له بابا من النار ثمّ يقولان له: نم بشرّ حال فيه مثل ما فيه القناة من الزحّ حتّى أنّ دماغه ليخرج من بين ظفره و لحمه و يسلّط اللّه حيّات الأرض و عقاربها و هوامّها، فتنهشها حتّى يبعثه اللّه من قبره و أنّه ليتمنّى قيام الساعة بسبب ما هو

ص: 118


1- الفرقان: 24.

فيه من الشرّ، نعوذ باللّه من عذاب القبر.

[وَ يُضِلُّ اللَّهُ عن هذه التثبيت في الدنيا و في الآخرة [الظَّالِمِينَ بسبب اختيارهم الظلم و إنّما فسّر الآخرة هاهنا بالقبر بسبب أنّ الميّت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا و دخل في أحكام الآخرة [وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ] من الإمهال و الانتقام و ضغطة القبر و مساءلة منكر و نكير و لا اعتراض عليه.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 28 الى 30]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (29) وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)

نزلت في أهل مكّة حيث أسكنهم اللّه حرمه الأمن و جعل عيشهم في السعة و الدعة و بعث فيهم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، ثمّ حكى عنهم أنواعا من الأعمال القبيحة من تبديل [نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً] أي بدّلوا الشكر بالكفر [وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ] الهلاك و هي جهنّم و أخرجوهم إلى بدر و أنزلوهم جهنّم بدعائهم إيّاهم إلى الكفر. و سئل عليّ عليه السّلام عن هذه الآية فقال: هم الأفجران من قريش بنو اميّة و بنو المغيرة. و قيل: إنّهم جبلة بن الأيهم و من اتّبعوه من العرب تنصّروا و لحقوا بالروم.

[جَهَنَّمَ يدخلونها [وَ بِئْسَ الْقَرارُ] قرارهم في النار [وَ جَعَلُوا] هؤلاء الكفّار [لِلَّهِ نظراء و أمثالا للعبادة زيادة على كفرهم [لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ و قرئ «ليضلوا» بفتح الياء فحينئذ معنى اللام للعاقبة أي صار عاقبة أمرهم الهلاك، و من قرأ بضمّ الياء أي ليضلّ الناس عن سبيل اللّه، و على هذه القراءة فاللّام لام «كي» للغرض. و كانوا يصرّحون الشريك للّه في القول و العمل لأنّهم كانوا يعبدون الأصنام و يقولون في الحجّ: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك.

[قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار: [تَمَتَّعُوا] و انتفعوا قليلا [فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ] و المراد التهديد و إن كان بصورة الأمر.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 31 الى 34]

قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ (33) وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

ص: 119

المعنى: لمّا أمر الكافرين على سبيل التهديد و الوعيد بالتمتّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين في هذه الآية بترك التمتّع بالدنيا و المجاهدة بالنفس و المال فقال:

[قُلْ يا محمّد [لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا] أقيموا و أنفقوا، و هو في المعنى أمر محذوف منه اللام أي ليقيموا و لينفقوا، و إنّما جاز حذف اللام لأنّ قوله: «قُلْ» عوض منه كقولك: قل لزيد يضرب عمرا، و إنّ الإنسان بعد الفراغ من الإيمان مأمور بالصلاة و أداء الزكاة، و هما بذل النفس في مجاهدة الصلاة و بذل المال في إنفاق الزكاة، فهذه الأمور الثلاثة هي الطاعات المعتبرة، لقوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (1).

[سِرًّا وَ عَلانِيَةً] أي قل لهم: أنفقوا في النوافل سرّا لتدفعوا عن أنفسكم تهمة الرياء و في الفرائض تهمة المنع [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ القيامة، و هو يوم لا يمكن فيه إعطاء الفدية للتخلّص عن النار و لا مصادقة و لا مخاللة لأنّ المصادقة و المخاللة إنّما تحصل بسبب ميل الطبيعة و رغبة النفس و في ذلك اليوم تنقرض هذه الموادّ الطبيعيّة.

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية و بين قوله: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (2)؟.

الجواب أنّ إثبات الخلّة للمؤمنين في تلك الآية بسبب عبوديّة اللّه و محبّة حاصلة لا بسبب ميل الطبيعة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه المستحقّ للإلهيّة فقال: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أنشأهما من غير شي ء و مثال و رويّة، و بدأ بذكرهما لعظم شأنهما في القدرة و لأنّهما مادّة كلّ شي ء [وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ] غيثا و مطرا [فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ أرزاقكم لأنّ الماء مادّة الثمرات [وَ سَخَّرَ لَكُمُ السفن و المراكب [لِتَجْرِيَ الفلك في البحر بأمر اللّه لأنّها تسير بالرياح

ص: 120


1- البقرة: 2.
2- الزخرف: 67.

و اللّه هو المنشئ للرياح [وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ] الّتي تجري بالمياه الّتي ينزلها من السماء و تجريها في الأودية و ينصبّ منها في الجداول و لو لا النهار لما انتفع الناس من المياه دائما و ذلّل لمنافعكم [الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ] في سيرهما لتنتفعوا بضوء الشمس نهارا و بضوء القمر ليلا و ليبلغ به الثمار و النبات في النضج الحدّ الّذي عليه يتمّ النعمة [دائِبَيْنِ و مستمرّين لا يفتران [وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ] و مهّدهما لمنافعكم لتسكنوا في الليل للراحة و لتبغوا المعاش و الرزق في النهار من فضله.

[وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ لأنّ الإنسان قد يسأل اللّه العافية فيعطى و النجاة من المهالك فيعطى و الغنى فيعطى و العزّ فيعطى فهذه الأمور من مسؤولاته يعطي اللّه له ما لم يكن مفسدة، فأين يذهب هذا الإنسان مع هذه النعم الّتي لا تحصى كثرة عن اللّه و يعبد غيره؟ و إنّما قال: «مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» لأنّه سبحانه لا يعطي جميع ما سأله العبد لاختلال عالم نظام الأمور في عالمه أو عالم غيره.

[وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها] لكثرتها و «النعمة» هنا اسم أقيم مقام المصدر، و لذلك لم يجمع و فيه معنى الجمع، و كيف يقدر العبد أن يحصي أمرا غير متناهي؟ لأنّ الشي ء إذا لم يتناهى لم تحص، كيف لا و ما من فرد من أفراد الناس و إن كان في أقصى مراتب الفقر و الإفلاس مبتلى بأنواع البلايا و الرزايا لو تأمّلته ألقيته منقلبا في نعم لا تحدّ و منن لا تحصى كأنّه قد اعطي كلّ ساعة و آن من اللّه لنعماء ما حواها حيطة الإمكان؟

و إن كنت في ريب من هذا فتأمّل في حال ملك ملك الأقطار و دانت له كافّة الأمم و أذعنت لطاعته السراة، و خضعت لهيبته رقاب العتاة، و نال كلّ منال و فاز بكلّ مراح و حاز جميع ما في الدنيا من أصناف الجواهر و الأموال و النفائس و الأغلاق، و صارت أحجار الجبال بأسرها يواقيت غالية و مدر الأرض درر نفيسة من غير ندّ يزاحمه، أو شريك يساهمه ثمّ اتّفق هذا الملك في فلاة قد نزل و فقد مشروب أو مطعوم في حالة بلغت نفسه الحلقوم فهل يشتري و هو في تلك الحال بجميع ماله من الدنيا بلقمة تنجيه عن جوعه؟ أو شربة ترويه من ظمائه أم يختار الهلاك؟ كلّا! بل يبذل لذلك كلّ ما يملك و ليس في صفقته شائبة الخسران فإذن تلك اللقمة و الشربة خير ممّا في الدنيا بألف رتبة. أو قدّر أنّ ذلك الملك احتبس عليه

ص: 121

النفس فلا دخل منه ما خرج و لا خرج منه ما ولج، و الحين حان و أتاه الموت من كلّ مكان أما يعطي ذلك كلّه بمقابلة نفس واحد؟ بل يعطيه و هو لرأيه حامد؛ فانظر حينئذ ذلك الفقير المبتلى يقدر أن يحصي نعم اللّه عليه؟ فكيف بغيره؟ على أنّ الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود و ما يتبعه من الكمالات اللائقة، بحيث لو انقطع ما بينه و بين العناية الإلهيّة من العلاقة لما استقرّ له القرار و لا اطمأنّت به الدار إلّا في مطمورة العدم، لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه في كلّ زمان يمضي و كلّ آن يمرّ و ينقضي من أنواع الفيوض المتعلّقة بقدرته المنيعة ما لا يحيط به نطاق التعبير و لا يعلم مقداره إلّا العليم الخبير.

و بالجملة قال طليق بن حبيب: إنّ حقّ اللّه تعالى أثقل من أن يقوم به العباد و نعمه أكثر من أن يحصيها الخلق، و لكن أصبحوا تائبين و أمسوا تائبين [إِنَّ الْإِنْسانَ كثير الظلم لنفسه كثير الكفران لنعم ربّه.

و النظم في الآية: لمّا ذكر ما هم عليه من اتّخاذ الأنداد بيّن في هذه الآية أنّ المستحقّ للعبادة واجب الوجود هو اللّه الّذي خلق السماوات، إلخ.

قوله: [سورة إبراهيم (14): الآيات 35 الى 41]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)

لمّا بيّن سبحانه في الآيات السابقة المنع عن عبادة غيره حكى عن نبيّه إبراهيم مبالغته في إنكار عبادة الأصنام:

و اذكر يا محمّد [إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ] يعني مكّة و حولها من الحرم.

ص: 122

و إنّما دعا إبراهيم بهذا الدعاء لمّا فرغ من بناء الكعبة، و إنّما ذكر البلد هنا معرّفا و في البقرة منكّرا، لأنّ النكرة إذا تكرّرت و أعيدت صارت معرفة، و مثله: «مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ» (1) فاستجاب اللّه دعاءه حتّى كان الإنسان يرى قاتل أبيه فيها فلا يتعرّض له و يدنو الوحوش فيها من الناس فيأمن منهم.

قوله: [وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَ أي و الطف لي و لبنيّ لطفا نجتنب به عن عبادة الأصنام و كان سؤاله مخصوصا بمن علم اللّه من حاله أن يكون مؤمنا لا يعبد إلّا اللّه و قد أذن له في الدعاء؛ لأنّ النبيّ لا يدعو بدعاء بغير إذن اللّه، و استجاب دعاءه فيهم.

[رَبِ إنّ الأصنام بسببهنّ و عبادتهنّ ضلّ كثير من الناس كما يقال فتنتي فلانة و فلان أضلّ بعيره أي ضلّ بعيره لأنّ أحدا لا يضلّ بعيره قاصدا إلى إضلاله [فَمَنْ تَبِعَنِي من ذرّيّتي الّذي أسكنتهم هذا البلد على ديني في عبادة اللّه و حاله كحالي [وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ ساتر على العباد معاصيهم [رَحِيمٌ بهم.

ثمّ قال إبراهيم: [رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ بعض أولادي أي إسماعيل مع امّه هاجر و هو أكبر ولده، و روي عن الباقر أنّه قال: نحن بقيّة تلك العترة، و قال عليه السّلام: كانت دعوة إبراهيم لنا خاصّة [بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ يريد وادي مكّة و هو الأبطح لأنّه يومئذ لم يكن بها زرع و لا ضرع [عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ لأنّ البيت قد كان قبل ذلك و قد خربه طسم و جديس أو رفعه اللّه إلى السماء أيّام الطوفان و إنّما سمّاه اللّه محرّما؛ لأنّه حرّم فيه ما احلّ في غيره من البيوت من الجماع و الملابسة بشي ء من الأقذار و الدماء. و قيل:

معناه: العظيم الحرمة.

[رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ] أي أسكنتهم هذا الوادي ليداوموا على الصلاة و يقيموا بشرائطها [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ هذا سؤال من إبراهيم أن يجعل اللّه قلوب الخلق تحنّ إلى ذلك الموضع ليكون ذلك انسا لذرّيّته بمن يرد عليهم من الوفود، إمّا للدين كالحجّ و العمرة و إمّا للتجارة، و روي عن مجاهد أنّه قال: إنّ إبراهيم لو قال: «أفئدة الناس» لازدحمت عليه فارس و الروم. قال سعيد بن جبير: لو قال: «أفئدة الناس» لحجّت اليهود

ص: 123


1- النور: 35.

و النصارى و المجوس و لكنّه قال: «مِنَ النَّاسِ» فهم المسلمون [وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لكي يشكروا لك و يعبدوك.

[رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ قال إبراهيم: لمّا طلب التيسير في المنافع لأولاده و تسهيلها عليهم ذكر أنّه لا يعلم عواقب الأمور أحد، و أنّك عالم بأحوالنا و مصالحنا من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني و بين إسماعيل و ما نعلن من البكاء، و ما نخفي من الحزن المتمكّن في القلب و «ما نُعْلِنُ» يريد ما جرى بينه و بين هاجر حيث قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى اللّه أكلكم، قالت: آللّه أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت:

إذن لا نخشى.

ثمّ قال إبراهيم: [وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ] قيل: هذا من كلام إبراهيم. و قيل: كلام اللّه تصديقا لإبراهيم.

ثمّ استحمد اللّه و قال: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ] و الشيخوخة [إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ فأمّا مقدار السنّ فغير معلوم من القرآن لكنّ الروايات تدلّ على أنّه لمّا ولد إسماعيل كان سنّ إبراهيم تسعا و تسعين، و لمّا ولد إسحاق كان سنّه مائة و اثنتي عشرة سنة، و إنّما ذكر هذا الاستحماد بعد مدّة من الدعاء و ما كان متّصلا هذا الكلام بالدعاء.

[رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ] و بعض [ذُرِّيَّتِي لأنّ «من» للتبعيض لأنّه علم بإعلام اللّه إيّاه أنّه يكون في ذرّيّته جمع من الكفّار و ذلك قوله: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (1) و لمّا دعا اللّه بهذا الدعاء فقال: [رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ] يريد أجب دعوتي فإنّ قبول الدعاء إنّما هو الإجابة و قبول الطاعة الإثابة.

[رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ و استدلّوا أصحابنا بهذه الآية على أنّ أبوي إبراهيم لم يكونا كافرين لأنّه إنّما يسأل المغفرة لهما ليوم القيامة فلو كانا كافرين لما سأل ذلك لأنّه يعلم أنّ اللّه لم يكن ليغفر الكافر أبدا؛ لأنّه قال: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (2) فصحّ أنّ أباه الّذي كان كافرا إنّما هو جدّه لأمّه أو عمّه على الخلاف فيه، و لا يمكن أن يكون حال أبويه مجهولا عنده و هو على سنّ الشيخوخة حتّى أنّه يقال:

ص: 124


1- البقرة: 124.
2- التوبة: 115.

إنّه بعد علمه تبرّأ منه [وَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي و اغفر للمؤمنين يوم [يقوم الخلق للحساب كما يقول: قامت السوق.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 42 الى 45]

وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45)

المعنى: قوله: [وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ في الآية دلالة على وجود القيامة لأنّه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون إمّا غافلا عن ذلك المظلوم و الظالم أو عاجزا عن الانتقام أو كان راضيا، و الثلاثة محال على اللّه؛ فامتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم، و لمّا كان امتناع هذه الغفلة معلوما لا جرم عدم الانتقام كان محالا، و هذا البيان تهديد للظالم و تعزية للمظلوم و لمّا ثبت الانتقام ثبت المعاد.

[و إنّما يؤخّر] عقابهم [لِيَوْمٍ تبقى عيونهم مفتوحة لا يطرفها لأجل الدهشة و الهول و مع شخوص أبصارهم مسرعين إلى نحو ذلك العذاب على ما يقتضي حال المدهوش أذلّاء خاشعين [مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعين رؤوسهم على خلاف ما يقتضي حال الذليل؛ لأنّه من يشاهد العذاب يطرق رأسه لكي لا يراه أحد و هؤلاء على خلاف ذلك يرفعون رؤوسهم شاخصة أبصارهم على الدوام، و قلوبهم خالية عن الشواغل حيث لا قوّة فيها و لا تشغلها الخواطر و الأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة، و من كلّ رجاء و أمل لما تحقّقوه من العذاب خوفا و فزعا و قيل: خالية من كلّ سرور و طمع في الخير كالهواء الّذي بين السماء و الأرض. و قيل:

معناه أنّ أفئدتهم زائلة عن مواضعها قد ارتفعت إلى حلوقهم لا تخرج و لا تعود إلى أماكنها بمنزلة الشي ء الذاهب في جهات مختلفة، المتردّد في الهواء.

قوله: [وَ أَنْذِرِ النَّاسَ معناه دم يا محمّد على شغلك و إنذارك الناس بتخوّفهم يوم القيامة [فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بارتكاب المعاصي [رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي ردّنا في الدنيا و اجعل ذلك مدّة قريبة [نُجِبْ دَعْوَتَكَ فيها [وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما يدعوننا

ص: 125

إليه فيقول اللّه مخاطبا لهم أو يقول الملائكة بأمره:

[أَ وَ لَمْ تَكُونُوا] حلفتم [مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا [ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ أي كنتم تعتقدون أنّه ليس لكم انتقال من الدنيا إلى الآخرة، و تكذّبون بها.

قوله: [وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ كذّبوا رسلهم من قبلكم فأهلكهم اللّه و عرفتم ما أنزل بهم من البلاء و العذاب المعجّل لقوم عاد و ثمود، و المقتولون ببدر، و بيّنّا لكم أخبار الماضين قبلكم لتعتبروا بها [وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ في القرآن فلم تتّعظوا و هي الأمثال المنبّهة على الطاعة و الزاجرة عن المعصية.

و في هذه الآية دلالة على أنّ الإيمان من فعل العباد و لو كان من فعل اللّه لم يكن لتمنّي العود إلى الدنيا معنى.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 46 الى 52]

وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)

المعنى: ثمّ أبان سبحانه عن مكر الكفّار و دفعه عن رسله تسلية لنبيّه فقال:

[وَ قَدْ مَكَرُوا] بالأنبياء قبلك ما أمكنهم من المكر كما مكروا بك فعصمهم اللّه كما عصمك [وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم، و حذف المضاف كما حذف من قوله: «تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ» (1) أي جزاؤه واقع بهم [وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ قرأ بعض بفتح اللام الاولى و رفع اللام الاخرى و الأكثر بكسر الاولى و نصب الثانية؛ أمّا القراءة الاولى فمعناها أنّ مكرهم كان مكرا عظيما معدّا لأن تزول منه الجبال، و ليس المراد الإخبار عن وقوعه بل المبالغة في الشدّة و التهويل أي إنّهم مكروا في إبطال الحقّ و إثبات الباطل مكرهم العظيم الّذي ينبغي من عظمه أن تزول الجبال عن مقارّها.

ص: 126


1- الشورى: 22.

فحينئذ تكون «إن» وصليّة و هو كقوله: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» (1) و أمّا القراءة الثانية و هي أن تكون اللام الاولى مكسورة و الثانية مفتوحة، فحينئذ «إن» إن النافية بمعنى «ما» و الجبال مثل لأمر الدين و الحجج الإلهيّة أي لم يكن مكرهم ليبطل أمرك يا محمّد الّذي هو كالجبال في الثبات و أثبت من الجبال.

[فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ من النصر و الظفر بالكفّار [إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ] غالب على أمره ينتقم من أعدائه.

قوله: [يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ بيّن سبحانه زمان انتقامه، و عظّم في البيان حال ذلك اليوم؛ لأنّ تعبير السماوات و الأرض أمر عظيم في العقول و النفوس و ليس أمر بأعظم منه، يقال: بدّلت الحلقة خاتما إذا أذبتها و سوّيتها و نقلتها من شكل إلى شكل. و روي عنه قال:

تبدّل آكامها و آجامها و جبالها و أشجارها و الأرض تبقى أرضا نقيّة بيضاء كالفضّة لم يسفك عليها دم و لم يعمل عليها خطيئة، و تبدّل السماوات فيذهب بشمسها و قمرها و نجومها. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: يبدّل اللّه الأرض غير الأرض فيبسطها و يمدّها مدّ الأديم العكاظيّ فلا ترى فيها عوجا و لا أمتا، ثمّ يزجر اللّه الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدّلة مثل مواضعهم من الاولى.

و قيل: إنّ المعنى تبدّل الأرض و تنشأ أرض غيرها و السماوات كذلك تبدّل بغيرها و تفنى هذه. و في تفسير أهل البيت بالإسناد عن زرارة و محمّد بن مسلم و حمران بن أعين عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، قالا: تبدّل الأرض خبزة نقيّة يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب. و روى سهل بن ساعدة عن النبيّ أنّه قال: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء كقرصة النقيّ، ليس فيها معلم لأحد. و روي عن ابن مسعود أنّه قال:

تبدّل الأرض بنار فتصير الأرض كلّها يوم القيامة نارا و الجنّة من ورائها ترى كواعبها و أكوابها، و بلجم الناس العرق، و لم يبلغ الحساب بعد. و قال كعب: تصير السماوات أجنانا و يصير مكان النحر النار، و تبدّل الأرض غيرها.

و روى أبو أيّوب الأنصاريّ قال: أتى النبيّ حبر من أحبار اليهود فقال: أ رأيت إذ

ص: 127


1- مريم: 91.

يقول اللّه تعالى في كتابه: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ» فأين الخلق عند ذلك؟

فقال: أضياف اللّه فلن يعجزهم ما لديه. و قيل: تبدّل الأرض لقوم بأرض الجنّة، و لقوم بأرض النار و قال الحسن: يحشرون على الأرض الساهرة و هي أرض غير هذه و هي أرض الآخرة و فيها تكون جهنّم. و تقدير الكلام: و تبدّل السماوات غير السماوات، إلّا أنّه حذف لدلالة الكلام.

[وَ بَرَزُوا لِلَّهِ أي يظهرون من أرض قبورهم للمحاسبة لا يسترهم شي ء للّه الغالب الّذي لا يقهره شي ء، و لمّا وصف ذاته سبحانه بالقدرة و القهر بيّن عجزهم و ذلّتهم أي المجرمين يومئذ بصفات:

الاولى كونهم [مُقَرَّنِينَ في القبور يقال: قرنت الشي ء بالشي ء إذا شددته و وصلته و «القرآن» اسم للحبل الّذي يشدّ به الشيئان أي كلّ كافر مع شيطان. و قيل: قرنت أيديهم بها إلى أعناقهم أو يقرن بعضهم إلى بعض، و هو المراد بقوله: «وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» (1).

و الثانية [سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ أي قميصهم من قطران و هو ما يطلى به الإبل شي ء أسود لزج منتن يطلّون به كالقميص عليهم، ثمّ يرسل النار فيهم ليكون أسرع عليهم و أبلغ في الاشتعال و أشدّ في العذاب. و قيل: نحاس أو صفر مذاب قد انتهى حرّه. و حوّزوا على المعنيين أن يسربلوا سربالين أحدهما من القطران، و الآخر من القطران الآني. و «القطران» بمعنى الأوّل شي ء يتجلّب من شجر اسمه الأبهل، فيطبخ و يطلى به الإبل الجربيّ فيحرق الجرب بحرارته و حدّته و قد تصل حرارته إلى داخل الجوف، و من شأنه أن يتسارع فيه اشتعال النار و هذا أسود اللون منتن الرائحة فتطلى به جلود أهل النار حتّى تصير ذلك الطلى كالسرابيل فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب: لذع القطران و حرقته و إسراع النار في جلودهم و اللون الوحش و نتن الريح، و التفاوت بين قطران القيامة و قطران الدنيا كالتفاوت بين النارين، و إذا كان القطران معناه الصفر المذاب و الآني المتناهي حرّه و تلك النار لا تبطل ذلك القطران و لا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم و الأغلال الّتي كانت عليهم.

ص: 128


1- التكوير: 7.

و الثالثة [وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ] و إنّما خصّ الذكر لأنّ في هذا العضو تبين الأثر أكثر من سائر الأعضاء كما أنّ القلب كذلك. و معنى «تغشى» أي تتغشّى قوله: [لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ المراد أنفس الكفّار لأنّ ما سبق لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان، و يمكن إجراء اللفظ على عمومه لأنّ الجزاء لائق بالعمل و الكسب.

ثمّ قال: [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ و لا يزيد على عقابهم الّذي يستحقّونه. قوله:

[هذا بَلاغٌ إشارة إلى القرآن أي هذا القرآن عظة [لِلنَّاسِ بالغة كافية أو إشارة إلى الوعيد المذكور [وَ لِيُنْذَرُوا] و ليبلّغوا غيرهم بما فيه.

[وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ] لا شريك له [وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ و أهل النهى و العقل، و في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كاف في جميع ما يحتاج إليه الناس في أمر الدين جملها و تفاصيلها يعلم بالقرآن إمّا بنفسه و إمّا بواسطة؛ فيجب على المؤمن المجتهد لأمور الدين أن يشمّر عن ساق الجدّ في طلب فهم القرآن و يصرف عنايته بمعرفته مكتفيا به عمّا سواه، لينال السعادة.

و في قوله: «وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» دلالة على أنّه أراد عن الناس علم التوحيد خلافا لأهل الجبر في قولهم: إنّه سبحانه أراد من النصارى التثليث و من المجوس التشبيه و الاثنينيّة، تعالى اللّه عن ذلك.

تمّت السورة بحمد اللّه.

ص: 129

سورة الحجر

اشارة

مكّيّة إلّا آيتين.

فضلها أبيّ بن كعب عن النبيّ قال: من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين و الأنصار و المستهزئين بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و لمّا ختم اللّه السورة أي سورة إبراهيم بأنّ القرآن بلاغ و كفاية لأهل الإسلام افتتح هذه السورة بذكر القرآن و أنّه مبيّن للأحكام فقال:

ص: 130

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحجر (15): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (5)

المعنى: قد تقدّم الكلام في [الر] كرارا. قوله: [تِلْكَ أي هذه السورة تلك الآيات [الْكِتابِ الموعود به محمّد صلّى اللّه عليه و آله [وَ قُرْآنٍ عطف على الكتاب و إن كان هو الكتاب باعتبار اختلاف اللفظين و وصفه بالقرآن لأنّه ممّا يؤلّف و يجمع بعض حروفه إلى بعض.

و «ربّ» لا يدخل على الفعل إلّا إذا فصلت كلمة «ما» بينها و بين الفعل، و يقال: لم جاز «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» و الكفّار كثيرون و هي للتقليل؟

و جوابه على وجهين: أحدهما أنّه أبلغ في التهديد كما يقول: ربّما ندمت على هذا، و أنت تعلم أنّه يندم ندما طويلا أي يكفيك قليل الندم، فكيف كثيره؟ و الثاني أنّه يشغلهم العذاب عن تمنّي ذلك إلّا في أوقات قليلة لأنّهم يتمنّون الإسلام إذا صار المسلمون إلى الجنّة و الكفّار إلى النار.

و روي عن ابن عبّاس قال: ما يزال اللّه يدخل الجنّة و يرحم و يشفع حتّى يقول:

من كان من المسلمين فليدخل الجنّة فحينئذ [يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ و قال الصادق عليه السّلام: ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق: إنّه لا يدخل الجنّة إلّا مسلم فثم يودّ سائر الخلق أنّهم كانوا مسلمين. و روي مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: اجتمع أهل النار في النار و معهم من يشاء اللّه من أهل القبلة، قال الكفّار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم و قد صرتم معنا في النار؟ قالوا:

كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيسمع اللّه ما قالوا فأمر من كان في النار من أهل الإسلام فاخرجوا

ص: 131

منها، فحينئذ يقول الكفّار: يا ليتنا كنّا مسلمين! قوله تعالى: [ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا] أي دعهم يأكلوا في دنياهم أكل الأنعام و يستلذّوا حالا بعد حال و يشغلهم آمالهم الكاذبة عن اتّباع الدين و القرآن [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وبال ذلك حين يحلّ بهم العذاب يوم القيامة، و في هذه الآية دلالة على أنّ الإنسان يجب أن يكون مستعدّا للموت مسارعا إلى التوبة و لا يأمل الآمال المؤدّية إلى الصدّ عنها؛ قال أمير المؤمنين: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى و ملول الأمل؛ فإنّ اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ و طول الأمل ينسي الآخرة».

قوله: [ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ] أي لم تكن امّة فيما مضى تسبق أجلها قبل ذلك و لا تأخّر عن أجلها الّذي قدّر لها، بل إذا استوفت أجلها أهلكها اللّه.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 6 الى 18]

وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)

وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18)

المعنى: و قال المشركون للنبيّ: [يا أَيُّهَا الَّذِي بزعمه أنّه [نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن [إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ و فيه احتمالان: الأوّل أنّه عليه السّلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فزعموا أنّها جنون. أو أنّهم (1) كانوا يستبعدون منه كلاما يسمعون منه كترك العبادة للآلهة و أمثاله فنسبوه إلى الجنون لبعد ما يذكره من طريقتهم.

قوله: [لَوْ ما تَأْتِينا] و لو ما و هلّا و لو لا للتحريض بمعنى واحد أي هلّا تأتينا الملائكة

ص: 132


1- هذا تأنى الوجهين.

يشهدون بصدق نبوّتك [إِنْ كُنْتَ صادقا في دعواك، و يحتمل أن يكون المعنى أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله كان يخوّفهم بالعذاب النازل؛ فكانوا يقولون و يطالبوه بالعذاب: لو ما تأتينا بالملائكة ينزلون علينا بذلك العذاب الّذي تخوّفنا به.

فأجاب سبحانه [ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ الّذي هو الموت لا يقع فيه تقديم و تأخير أو هو عذاب الاستئصال، و نحن ما حكمنا عليهم بعد بعذاب الاستئصال للإمهال بهم و علمنا من إيمان بعضهم و من إيمان أولاد الباقين [وَ] إذا أنزلنا الملائكة [ما كانُوا] ممهلين و مؤخّرين أي لا يمهلون ساعة.

ثمّ زاد سبحانه في البيان [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ] أي القرآن [وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عن الزيادة و النقصان و التحريف و مثله «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ» عليه متكفّل يحفظه إلى آخر الدهر عصرا بعد عصر لقيام الحجّة به. و يحتمل أن يكون الهاء راجعة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لدلالة حافظون للنبيّ عن كيد المشركين. و في هذا دلالة على حدوث القرآن إذ المحفوظ المنزّل لا يكون إلّا حادثا.

[وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمّد رسلا- فحذف المفعول لدلالة الكلام عليه- في فرق الأوّلين و الأمم السابقين عليك [وَ ما] كان [يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا] كانت الأمم [بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و هنا تسلية للنبيّ و استهزاؤهم استنكارهم لهم.

قوله: [كَذلِكَ نَسْلُكُهُ و في إرجاع الضمير قولان:

الاول يرجع إلى الشرك و الاستهزاء و الكفر و هو قول علماء الجبريّة، و هذا كلام بديهيّ البطلان؛ لأنّه تعالى لو كان هو الّذي يسلك الكفر و الشرك في قلب الكافر و يخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفّار، و لكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمّهم في الدنيا و أن يعاقبهم في الآخرة عليه و لكان الكفّار محمود بن إذا كانوا لا يؤمنون، و لا خلاف في أنّ الآية وردت على سبيل الذمّ لهم و لو كان اللّه قد سلك الكفر في قلوبهم لسقط عنهم الذمّ و لما جاز أن يقول لهم: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ ... لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» (1) «و كيف ينكر عليهم هذا الإنكار و هو الواضع 0،

ص: 133


1- مريم: 90،

في قلوبهم ذلك الكفر؟ و كيف يأمرهم بإخراجه من حيث وضعه فيه؟ تعالى عن ذلك.

و القول الثاني- و هو الصحيح- أنّ الضمير في «نَسْلُكُهُ» عائد إلى الذكر و هو القرآن أي هكذا نسلك القرآن أي نسمعهم و نخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن كما سلكنا دعوة الرسل في قلوب من سلف من الأمم.

و بعبارة أوضح كما سلكنا كتب رسل ممّن تقدّم دعوتهم في قلوب أممهم كذلك سلكنا القرآن و الذكر في قلوب قومك يا محمّد و مع ذلك [لا يُؤْمِنُونَ بِهِ و ماضين على سنّة الجهل في تكذيبهم أنبياءهم و قد مضت [سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ على هذه الطريقة.

قوله: [وَ لَوْ فَتَحْنا] على هؤلاء المشركين، اعلم أنّ هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام «وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (1) و هذه الآية في قوله: «وَ لَوْ فَتَحْنا» وقعت عن قوم مخصوصين سألوا الرسول إنزال الملائكة فبيّن اللّه في هذه الآية أنّه إنّا لو فتحنا عليهم [باباً مِنَ السَّماءِ] ينظرون إليه [فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يعني لو يرون الكفّار أنّ الملائكة تصعد و تنزل من ذلك الباب، أو المعنى أنّ هؤلاء المشركين يعرجون إلى السماء من ذلك الباب و شاهدوا ملكوت السماء [لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ و شدّت و غطّيت و عميت [أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ سحرنا محمّد فيخيّل الأشياء إلينا على خلاف حقيقتها.

ثمّ ذكر سبحانه دلالات التوحيد فقال: [وَ لَقَدْ] هيّأنا و [جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً] أي منازل الشمس و القمر [وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ بالكواكب النيّرة، و هي اثنا عشر برجا [و حفظنا] السماء [مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مرجوم مرميّ بالشهب أو ملعون مشؤوم، و حفظ الشي ء عبارة عن نفي تطرّق الفساد فيه، و حفظ السماء من الشيطان المنع من ورود الشياطين إليها لاستراق السمع، و المراد بالسمع المسموع [إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي حاول أخذ المسموع من السماء في خفية فلحقه شعلة نار ظاهرة لأهل الأرض بيّن لمن رآه.

و روى ابن عبّاس أنّه كان في الجاهليّة كهنة و مع كلّ واحد شيطان، فكان يقعد من السماع مقاعد للسمع فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض فينزل و يخبر به الكاهن

ص: 134


1- الانعام: 7.

فيفشيه الكاهن إلى الناس، فلمّا بعث اللّه عيسى منعوا من ثلث من السماوات و لمّا بعث محمّدا منعوا من الكلّ و حرست السماوات بالنجوم، فالشهاب من معجزات نبيّنا لأنّه لم ير قبل زمانه و المارد من الشياطين يعلو فرمى بالشهاب فيحرقه و لا يقتله، و منهم من يخبله فيصير غولا يضلّ الناس في البراري.

قوله: [سورة الحجر (15): الآيات 19 الى 25]

وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ (19) وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ (23)

وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

لمّا تقدّم ذكر السماء و ما فيها من الأدلّة و النعم أتبعه بذكر الأرض فقال: [وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها] أي بسطناها و جعلنا لها طولا و عرضا [وَ أَلْقَيْنا] و طرحنا [فِيها] جبالا ثابتة [وَ أَنْبَتْنا] في الأرض [مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ مقدّر معلوم، و قيل: يعني من كلّ شي ء يوزون في العادة كالذهب و الفضّة و الصفر و نحوها، أو ما يخرج من الأرض و إنّما خصّ الموزون بالذكر دون المكيل لأنّ غاية المكيل تنتهي إلى الوزن.

[وَ جَعَلْنا لَكُمْ في الأرض مَعايِشَ من زرع و نبات و مطاعم و مشارب تعيشون، و قيل:

هي التصرّف في أسباب الرزق. قال ابن عبّاس: لمّا بسط اللّه الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها اللّه بالجبال الثقال لكي لا تميل و الضمير في قوله: «وَ أَنْبَتْنا فِيها» الضمير إلى الأرض، و قيل: إلى الجبال الرواسيّ لأنّ المعادن إنّما تتولّد من الجبال.

و اعلم أنّ هذا العالم عالم الأسباب و اللّه تعالى إنّما يخلق المعادن و النبات و الحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم فلا بدّ و أن يحصل من الأرض قدر مخصوص و من الماء و الهواء كذلك و من تأثير الشمس و الكواكب في الحرّ و البرد مقدار مخصوص، و لو قدّرنا حصول الزيادة على القدر المخصوص أو النقصان لم تتولّد المعادن و النبات و الحيوان فكأنّه تعالى وزنها بميزان الحكمة.

ص: 135

قوله: [وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أي و جعل لكم من لستم له برازقين من العبيد و الدوابّ يرزقهم اللّه و لا ترزقونهم. و ليس [مِنْ شَيْ ءٍ] ينزل من السماء و ينبت في الأرض [إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ و نحن مالكوه و قادرون عليه، و خزائن اللّه مقدوراته. و قيل: المراد به الماء الّذي منه النبات و هو مادّة كلّ شي ء [وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ ملقحة للسحاب محملة بالمطر [فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً] أي مطرا فأسقيناكم ذلك الماء [وَ ما أَنْتُمْ أيّها الناس لذلك الماء [بِخازِنِينَ و حافظين بل اللّه يحفظه ثمّ يرسله من السماء ثمّ يحفظه في الأرض ثمّ يخرجه من العيون بقدر الحاجة.

قوله: «وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» المطر و قادرين على تحفّظه بأن تنزلوه على وفق الحاجة موقع الاحتياج لأنّه هو السبب الأتمّ لمعايش الخلق و الأرزاق لبني آدم و غيرهم.

قوله: [وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ هذه الآية من دلائل التوحيد أنّه لا يقدر أحد على الإحياء و الإماتة و أنّه إذا مات جميع الخلايق يزول ملك كل أحد أي تزول هذه الملكيّة العارية عن جميع الخلق و يكون اللّه باق المالك للكلّ وحده فكان هذا الأمر شبيها بالإرث فكان وارثا من هذا الوجه.

و أمّا قوله: [وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ يريد أهل الطاعة [و الْمُسْتَأْخِرِينَ يريد المتخلّفين عن طاعة اللّه، و قيل: أراد بالمتقدّمين الصفّ الأوّل من أهل الصلاة و بالمستأخرين الصفّ الآخر. روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله رغّب في الصفّ الأوّل في الصلاة فازدحم الناس عليه فأنزل اللّه هذه الآية. و المعنى أنّا نجزيهم على قدر نيّاتهم. و قيل: المراد في صفّ القتال. و قيل:- و القائل ابن عبّاس- قال في رواية أبي الجوزاء: كانت امرأة حسناء تصلّي خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان قوم يتقدّمون إلى الصفّ الأوّل لئلّا يروها و آخرون يتخلّفون و يتأخّرون ليروها و إذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فأنزل اللّه هذه الآية. و قيل: المراد بالمستقدمين الأموات و بالمستأخرين الأحياء. و قيل: المراد بالمستقدمين الأمم السالفة و بالمستأخرين امّة محمّد. و قيل: المستقدمين من خلق و المستأخرون من لم يخلق، يعنى لا يخفى على اللّه خافية منهم في الحدوث و الوجود و الطاعة و المعصية [وَ إِنَّ رَبَّكَ عالم بأحوالهم و [هُوَ يَحْشُرُهُمْ فيثيبهم و يعاقبهم، و [حَكِيمٌ في أفعاله [عَلِيمٌ باستحقاقهم.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 26 الى 35]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)

إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)

ص: 136

لمّا ذكر سبحانه عالم الحياة و الموت و البعث في الآية السابقة عقّبه ببيان النشأة الأولى فقال:

[وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم من طين يابس متصلصل أي له صوت يسمع عند النقر و يقعقع. و قيل: طين صلب يخالطه الكثيب. و قيل: منتن [مِنْ حَمَإٍ] متغيّر إلى السواد [مَسْنُونٍ أي مصبوب كأنّه افرغ كما يصبّ الذهب و الفضّة.

و اعلم أنّه ثبت بالدلائل و البراهين أنّه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوّل لها و إذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أوّل هو أوّل الحوادث، و إذا كان كذلك فلا بدّ انتهاء الناس إلى إنسان هو أوّل الإنسان، فذلك الإنسان الأوّل غير مخلوق من الأبوين فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة اللّه.

فقوله: «خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» إشارة إلى ذلك الإنسان الأوّل، و المفسّرون أجمعوا على أنّ المراد منه هو آدم عليه السّلام و نقل حديث عن محمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام أنّه قال: قبل آدم الّذي هو أبونا قد انقضى ألف ألف آدم أو أكثر. و هذا لا يقدح في حدوث العالم بل الأمر كيف كان فلا بدّ من الانتهاء إلى إنسان أوّل هو أوّل الناس. و اعلم أنّ الجسم محدث فوجب القطع بأنّ آدم و غيره من الأجسام يكون مخلوقا عن عدم محض، فحينئذ بيّن أنّه خلقه أوّلا من تراب ثمّ من طين ثمّ من حمأ مسنون ثمّ من صلصال يتصلصل و هو غير مطبوخ و إذا طبخ فهو فخار.

قال المفسّرون خلق اللّه آدم من طين فصوّره و تركه في الشمس أربعين سنة، فصار صلصالا يتقرقع كالخزف مصوّر بهذه الصورة الحسنة إلى أن نفخ فيه الروح فكانت الريح

ص: 137

إذا مرّت به سمع له صلصلة.

و قوله: «حَمَإٍ مَسْنُونٍ» و هو الطين الأسود المنتن، و المسنون المتغيّر من قوله: «لَمْ يَتَسَنَّهْ» (1) أي لم يتغيّر و لا تناقض؛ لأنّ هذه الأمور مراتب من الترابيّة إلى الطينيّة إلى التصلصل إلى الحمئيّة إلى نفخ الروح.

قوله: [وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل خلق آدم [مِنْ نارِ] لها ريح حارّة تقتل.

قيل: هي نار لا دخان لها، و الصواعق تكون منها. و الجانّ، قيل: إنّه إبليس. و قيل: هو أب الجنّ و سمّي جانّا لتواريه عن أعين الناس كما يسمّى الجنين جنينا لهذا السبب. فالجانّ يمكن أن يكون بمعنى الفاعل لأنّه تستر نفسه عن الأعين، و يمكن أن يكون بمعنى المفعول كماء دافق و عيشة راضية.

و اختلفوا في الجنّ فقيل: إنّهم جنس غير الشيطان. و الأصحّ أنّ الشياطين قسم من الجنّ فكلّ من كان منهم مؤمنا يسمّى الجنّ و كلّ من كان كافرا يسمّى الشياطين و ليس فيهم نتاج إنّما يبيض و يفرخ و ولده ذكور و ليس فيهم إناث.

و القميّ قال: الجنّ من ولد الجانّ منهم مؤمنون و كافرون يهود و نصارى، و يختلف أديانهم، و الشياطين من ولد إبليس، و ليس فيهم مؤمن إلّا واحد اسمه هام بن هيم بن لا قيس ابن إبليس، جاء إلى رسول اللّه فرآه جسيما عظيما و أمرا مهوّلا، فقال له: من أنت؟ قال:

أنا هام بن هيم كنت يوم قتل قابيل هابيل غلاما أبا أعوام، أنهى عن الاعتصام و امر بإفساد الطعام. فقال رسول اللّه: بئس لعمري الشباب المؤمّل و الكهل المؤمّر فقال: دع عنك هذا يا محمّد فقد جرت توبتي على يد نوح، و لقد كنت معه في السفينة، فعاتبته على دعائه على قومه، و لقد كنت مع إبراهيم حيث القي في النار فجعلها اللّه بردا و سلاما، و لقد كنت مع موسى حين غرق اللّه فرعون و نجّى بني إسرائيل، و لقد كنت مع هود حين دعا على قومه فعاتبته، و لقد كنت مع صالح فعاتبته على دعائه على قومه، و لقد قرأت الكتب فكلّها يبشّرني بك و الأنبياء يقرءونك و السلام، و يقولون: أنت أفضل الأنبياء و أكرمهم.

فعلّمني ممّا أنزل اللّه إليك شيئا فقال رسول اللّه لأمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: علّمه. فقال هام: إنّا

ص: 138


1- البقرة: 259.

لا نطيع إلّا الأنبياء أو وصيّ نبي فمن هذا؟ قال: هذا أخي و وصيّي و وزيري و وارثي عليّ ابن أبي طالب. قال هام: نعم نجد اسمه في الكتب إليا. فعلّمه أمير المؤمنين فلمّا كانت ليلة الهرير جاء إلى أمير المؤمنين عليه السّلام.

قوله تعالى: [وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ] و اذكر يا محمّد إذ قال ربّك: [إِنِّي سأخلق [بَشَراً] أي آدم، و سمّي بشرا لأنّه ظاهر الجلد غير متوار بشعر و صوف و نحوه [مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قال سيبويه: المسنون هو المصوّر بصورة، مرّ معناه [فَإِذا سَوَّيْتُهُ بإتمام الخلقة و تعديل صورته و أجريت فيه الروح فخرّوا [لَهُ ساجِدِينَ و أضاف الروح إلى نفسه تكرمة له كسبة البيت إليه للتعظيم كإضافة الملك إليه.

[فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تأكيد بعد تأكيد، و قيل: إنّ «أَجْمَعُونَ» تأكيد للسجود بأنّ السجود وقع في حالة واحدة دفعة و كلمة «كلّهم» تأكيد للساجدين [إِلَّا إِبْلِيسَ امتنع أن يسجد معهم [قالَ يا إِبْلِيسُ و هذا خطاب من اللّه أي أيّ شي ء وقع لك في امتناعك عن السجود كما سجدوا؟ و الخطاب وقع على لسان بعض رسله لأنّه لا يصحّ أن يكلّمه اللّه بلا واسطة في زمان التكليف [قالَ إبليس مجيبا [لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ] و لا ينبغي أن [أسجد لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ لأنّي أشرف أصلا منه. و لم يعلم الخبيث أنّ التفاضل بالدين و الامتثال لا بالبنية و الأصل.

[قالَ اللّه [فَاخْرُجْ مِنْها] من الجنّة [فَإِنَّكَ مطرود ملعون، و قوله تعالى: «فَاخْرُجْ مِنْها» قيل: المراد أي من جنّة عدن. و قيل: من السماوات قيل: من زمرة الملائكة. و قوله:

[وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ مشعر بأنّ اللعن ثابت له إلى يوم القيامة أي انتهاء الغاية يوم القيامة و عند القيامة يزول اللعن، و أجابوا بأنّ ذكر الغاية للتأبيد و ذكر القيامة لأنّها أبعد غاية يذكرها الناس في كلامهم كقولهم «ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ»* أو المراد أنّك مذموم ملعون إلى ذلك اليوم من غير عذاب فإذا جاء ذلك اليوم يفنى اللعن و يأتي العذاب و بسبب شدّة العذاب يذهل اللعن.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 36 الى 44]

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)

قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

ص: 139

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه ما سأله إبليس عند إياسه من الآخرة فقال: ربّي فأمهلني و أخّرني [إِلى يَوْمِ يحشرون للجزاء، استنظره لئلّا يموت إلى يوم القيامة فلم يجبه اللّه إلى ذلك بل [قالَ له [فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ و غرض إبليس أن لا يموت أبدا لأنّه إذا أنظره سبحانه إلى يوم القيامة فحينئذ لا يموت أبدا لأنّ يوم القيامة لا يموت أحد و لذا لم يجبه اللّه إلى مسؤوله.

و إنّما أنظره إلى الوقت المعلوم عنده سبحانه و لا يعلم ذلك العلم غيره و هو وقت النفخة الاولى حين يموت جميع الخلائق و قيل: الوقت المعلوم يوم القيامة أنظره اللّه في رفع العذاب عنه إلى يوم القيامة. و قيل: هو الوقت الّذي قدّر اللّه أجله فيه.

قوله تعالى: [رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ قيل فيه أقوال:

أحدها أنّ الإغواء الأوّل و الثاني بمعنى الإضلال أي كما أضللتني لأضلّنّهم.

و هذا لا يجوز لأنّ اللّه سبحانه لا يضلّ عن الدين لأنّ هذه الصفة لو كان في إنسان لكان قبيحا عنه فكيف باللّه الغنيّ؟ إلّا أن يحمل على أنّ إبليس كان معتقده معتقد من فسّر هذه الآية بهذا المعنى و هو الجبر.

و ثانيها بمعنى التخيّب أي بما خيّبتني من رحمتك لأخيّبنّهم بالدعوة إلى معصيتك كما قال الجبّائيّ.

و ثالثها أنّ معناه بما أضللتني عن طريق جنّتك لأضلّنّهم بالدعاء إلى معصيتك، و رابعها بما كلّفتني السجود لآدم الّذي غويت عنده فسمّي ذلك غواية كما قال: «فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ (1)، وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ» (2) و الباء في قوله «بِما أَغْوَيْتَنِي» للقسم و قيل: بمعنى السبب أي بكوني غاويا لأزيّننّ كما يقال: بطاعته لتدخل الجنّة و بمعصيته

ص: 140


1- التوبة: 126.
2- الشورى: 40.

لتدخل النار، و مفعول التزيين محذوف أي لأزيّننّ الباطل لهم.

و اعلم أنّ إمهال اللّه إبليس هذه المدّة ما أجبر الخلق على الكفر و المعاصي و ما نفى الاختيار عن المكلّف، و إنّما للمكلّف الاختيار فإطاعته لإبليس من سوء اختيار المكلّف و حكم إمهال إبليس كحكم خلق السمّ و إنّما خلق السمّ لمصلحة اخرى فأنت إذا شربته و هلكت فهل على خالق السمّ بأس فالشيطان كذلك و إنّما أمهله جزاء على عبادته و منعك أيّها المكلّف عن إطاعته و أكّد البيان لك بأنّه عدوّ مبين فهلّا أطعت مولاك و خالفت عدوّك فتسعد؟

ثمّ إنّ الشيطان يعترف بأنّه ما كان له عليكم من سلطان و قدرة قاهرة. و إنّما يأتيكم بالوسوسة، و الكافر و العاصي بسبب ميله إلى ذلك الأمر يقبل تلك الوسوسة نهاية الأمر أنّ عدم الوسوسة أسهل حالا من الوسوسة، و التكليف لا بدّ فيه من صعوبة و لا يمنع الحكيم من فعله.

قوله: [إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ و هم الّذين أخلصوا عبادتهم للّه و امتنعوا عن إطاعة الشيطان و انتهوا عمّا نهاهم اللّه عنه، و من قرأ بصيغة المفعول فهم الّذين أخلصهم اللّه و وفّقهم لذلك ليس للشيطان عليهم سبيل.

قوله: [قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قيل: في تفسيره وجوها: الأوّل أنّ إبليس لمّا قال: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» فقوله «هذا» إشارة إلى الإخلاص، و المعنى أنّ الإخلاص طريق عليّ و إليّ و يؤدّي إلى كرامتي و هو طريق مستقيم: و قيل: «عَلَيَّ» بمعنى «إليّ» و قيل:

معناه هذا الإخلاص صراط من مرّ عليه فكأنّه مرّ عليّ و على رضواني و هو كقولك: طريقك عليّ. و قيل: «عليّ» بالتنوين بمعنى الصفة يعني صراط عال رفيع مستقيم لا عوج فيه. و قيل:

معناه أنّ هذا صراط حقّ عليّ أن اراعيه مستقيم و هو أن لا يكون لك سلطان على المخلصين. و قيل: «صراط عليّ» بالإضافة، عن السجّاد، أي صراط عليّ أمير المؤمنين مستقيم، قاله العيّاشيّ و جماعة.

قوله: [إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ لأنّ من قبل منه صار له عليه سلطانا يعدله عن الهدى فاستثنى من الّذين ليس له عليهم سلطة فصار متّصلا. و قيل: إنّ الاستثناء متقطع و المراد:

ص: 141

لكن من اتّبعك من الغاوين جعل لك على نفسه سلطانا.

[وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي موعد الإبليس و من تبعه [لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ فيه قولان: أحدهما ما روي عن أمير المؤمنين أنّ جهنّم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض، و وضع إحدى يديه الشريفة على الاخرى فقال: هكذا، و إنّ اللّه وضع الجنان على العرض، و وضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها «جهنّم» و فوقها «لظى» و فوقها «الحطمة» و فوقها «السقر» و فوقها «الجحيم» و فوقها «السعير» و فوقها «الهاوية». و في رواية الكلبيّ أسلفها «الهاوية» و أعلاها «جهنّم».

و قيل: سبعة أدراك بعضها فوق بعض فأعلاها لأهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم و أعمارهم في الدنيا، ثمّ يخرجون. و الثاني فيه اليهود، و الثالث فيه النصارى، و الرابع فيه الصابئون، و الخامس فيه المجوس، و السادس فيه مشركو العرب، و السابع فيه المنافقون و ذلك قوله: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» (1). [لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ أي من الغاوين [جُزْءٌ مَقْسُومٌ و نصيب مفروض و ذلك أنّ مراتب الكفر مختلفة بالشدّة و الخفّة.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 45 الى 50]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)

وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)

لمّا ذكر سبحانه عبادة المخلصين عقّبه بذكر حالهم في الآخرة فقال: [إِنَّ الْمُتَّقِينَ الّذين يتّقون عقاب اللّه باجتناب معاصيه في بساطين خلقت لهم [وَ عُيُونٍ من ماء و خمر و عسل تفور من الفوّارة ثمّ تجري في مجاريها يقال لهم: [ادخلوا] الجنّات بسلامة من الآفات و المكاره [آمِنِينَ من الإخراج منها ساكني النفس، و أزلنا عن صدور أهل الجنّة ما فيها من أسباب الحسد و العداوة و التنافس حال كونهم [إِخْواناً] متوادّين، فيصفو لذلك عيشهم كائنين [عَلى سُرُرٍ] متواجهين ينظر بعضهم إلى وجه بعض حتّى قيل: إنّ أهل الجنّة لا يرى الرجل قفا زوجته، و لا ترى زوجته قفاه لأنّ الأسرّة تدور بهم كيف ما شاؤوا حتّى يكونوا

ص: 142


1- النساء: 144.

متقابلين في عموم أحوالهم [لا يَمَسُّهُمْ في الجنّة عناء و تعب و يبقون فيها مؤبّدين.

[نَبِّئْ عِبادِي ثمّ أمر سبحانه نبيّه أن يخبر عباده بكثرة رحمته لأوليائه و شدّة عذابه لأعدائه. قال الرازيّ: و اعلم أنّه قد ثبت في اصول الفقه أنّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علّة لذلك الحكم ففي الآية وصفهم بكونهم عبادا له ثمّ ذكر بعد هذا الوصف بكونه غفورا رحيما، و من خالف عبادته و أنكر كان مستوجبا للعقاب الأليم.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 51 الى 60]

وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)

قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)

لمّا ذكر سبحانه الوعد للمتّقين و الوعيد للعاصين و شرح أحوال السعداء و الأشقياء أتبعه بذكر قصص الأنبياء ليكون سماعها مرغّبا في الطاعة و محذّرا عن المعصية فبدأ بقصّة إبراهيم عليه السّلام، و الضمير في قوله: «وَ نَبِّئْهُمْ» عائد إلى قوله: «عِبادِي» و الضيف الوارد إلى غيره لطلب القرى و هو في الأصل مصدر يقع على الواحد و الاثنين و الجمع وصف به، و قد تجمع على الضيفان و الضيوف و الأضياف.

قوله: [إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ يعني الملائكة لأنّهم وردوا بصورة الضيف [فَقالُوا سَلاماً] أي سلّموا عليه سلاما على وجه التحيّة و بشّروه بالولد و بإهلاك قوم لوط [قالَ إبراهيم [إِنَّا مِنْكُمْ خائفون و إنّما خاف منهم لأنّهم وردوا بغير إذنه و لم يأكلوا [قالُوا] لا تخف [إِنَّا نُبَشِّرُكَ و نخبرك بما يسرّك بولد يكون غلاما و يكون عليما إذا بلغ.

[قالَ إبراهيم: [أَ بَشَّرْتُمُونِي بالمولود في حال الكبر الّذي يوجب اليأس [فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أ بأمر اللّه فأثق به أم من جهة أنفسكم؟ و معنى «مَسَّنِيَ الْكِبَرُ» أي غيّرني الكبر

ص: 143

[قالُوا بَشَّرْناكَ على وجه الحقيقة بأمر اللّه [فَلا تَكُنْ مِنَ الآيسين فأجابهم إبراهيم: [وَ مَنْ يَقْنَطُ] أي و من الّذي ييئس [مِنْ رَحْمَةِ] اللّه [إِلَّا الضَّالُّونَ عن الحقّ الجاهلون بقدرته. و قولهم لإبراهيم: «فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ» لا يدلّ على أنّ إبراهيم كان قانطا و نهي الإنسان عن الشي ء لا يدلّ على كون المنهيّ فاعلا للمنهيّ عنه كما في قوله: «وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ»* (1).

ثمّ قال بعد ذلك للملائكة: [فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي ما شأنكم؟ و سمّاهم مرسلين لأنّه عليه السّلام علم أنّهم ملائكة [قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ و أخبروه بهلاكهم [إِلَّا آلَ لُوطٍ] و هم خاصّته و إنّما استثناهم و ما كانوا مجرمين من حيث إنّهم كانوا من قوم لوط [إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ لأنّها كانت كافرة [قَدَّرْنا إِنَّها] و قضينا و حكمنا بحكم اللّه أنّها من الباقين في المدينة مع المهلكين.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 61 الى 72]

فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)

وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)

قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)

ثمّ لمّا خرجوا من عند إبراهيم أتوا لوطا يخبرونه بهلاك قومه [فَلَمَّا جاءَ] المرسلون إلى لوط بهيئة حسنة و جمال لم ير مثلهم أنكر شأنهم و هيئتهم و ما عرفهم [قالَ إِنَّكُمْ غير معروفين عندي عرّفوني أنفسكم قالت الملائكة: [قالُوا بَلْ جِئْناكَ بأمر كانوا يشكّون في وقوعه إذا كنت تخوّفهم و لا يصدّقون بقولك [وَ أَتَيْناكَ بالعذاب المستقين به [وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك.

[فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ الإسراء سير الليل أي سر بأهلك بعد ما يمضي أكثر الليل و تبقى

ص: 144


1- الأحزاب: 1.

قطعة منه و اقتف آثار أهل بيتك و كن وراءهم لتكون عينا عليهم فلا تتخلّف أحد منهم [وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ] إلى ما خلّف وراءه في المدينة أي لا ينظر منكم وراءه لئلّا يرون العذاب فيفزعوا [وَ امْضُوا حَيْثُ أمركم اللّه بالذهاب إليه و هو الشام، و حاصل المعنى: إذا بقي من متاعكم شي ء في المدينة فلا ترجعوا إليه و امضوا حيث تؤمرون، لأنّ جبرئيل أمر لوطا أن ينزل قرية معيّنة لم يعملوا عمل قوم لوط [أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ أي آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح و مستأصلون بالعذاب على وجه لا يبقى منهم أثر و لا نسل و لا عقب.

[وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ] يبشّرون بعضهم بعضا بنزول من هو في صورة الأضياف بلوط طمعا في أن ينالوا الفجور منهم [قالَ لوط لهم: [إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي و لا تخزون في ضيفي [قالُوا] له: [أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ أن تجير أحدا؟ و إنّما قال لوط لهم هذا الكلام قبل أن يعلم أنّهم الملائكة بعثوا لإهلاك قومه [قالَ لوط لقومه لمّا قصدوا السوء: [هؤُلاءِ بَناتِي فتزوّجوهنّ لكم إن كان لكم رغبة و تطلبون التزويج، قيل: إنّه عرض بنات قومه عليهم و قد كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر، أو بناته من صلبه لرئيسهم حتّى يسلم من شرّهم.

[لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي لعمرك قسمي أي و حياتك يا محمّد و مدّة بقائك و قال المبرّد: هو دعاء و معناه أسأل عمرك. قال ابن عبّاس: ما خلق اللّه عزّ و جلّ و لا ذرأ و لا برأ نفسا أكرم عليه من محمّد و ما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد إلّا بحياته. لفي غفلتهم يتحيّرون و يتردّدون فلا يبصرون طريق الرشد.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 73 الى 77]

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

[فَأَخَذَتْهُمُ صيحة جبرئيل أو مطلق الصيحة [مُشْرِقِينَ أي وقت بزوغ الشمس و طلوعها و عذّبوا بثلاثة أنواع من العذاب: أحدها الصيحة الهائلة المنكرة، و الثاني أنّه جعل عاليها سافلها، و الثالث أنّه أمطرنا عليهم حجارة من سجّيل [إِنَّ فِي ذلِكَ الأمور الواقعة دلالات للمتفرّسين المتدبّرين، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسم. قال الصادق عليه السّلام: نحن المتوسّمون، و السبيل فينا مقيم و السبيل طريق الجنّة. و الوسم العلامة.

ص: 145

قوله: [وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ و الضمير عايد إلى مدينة قوم لوط أي هذه القرى و ما ظهر فيها من آثار قهر اللّه و غضبه لبطريق مسلوك ثابت يسلكها الناس في حوائجهم و يرونها، لأنّ آثارها باقية و هي مدن أربعة، أكبرها سدوم بين المدينة و الشام، و هي عبرة [لِلْمُؤْمِنِينَ و أمّا الّذين لا يؤمنون فإنّهم يحملونها على حوادث العالم و وقائع القرانات الكوكبيّة و الاتّصالات الفلكيّة.

قوله: [سورة الحجر (15): الآيات 78 الى 84]

وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)

هذه القصّة الثالثة، الاولى قصّة إبليس و آدم، الثانية قصّة إبراهيم و لوط، و هذه قصّة أصحاب الأيكة، و هم قوم شعيب كانوا أصحاب غياض فكذّبوا شعيبا فأهلكهم اللّه بعذاب يوم الظلّة، و الأيكة الشجر الملتفّ يقال: أيكة و أيك كشجرة و شجر. و قيل: الأيك شجرة المقلّ. و قيل: الأيكة الغيض.

[وَ إِنْ كانَ «إن» هي المخفّفة أي إنّ الشأن كان [أَصْحابُ شعيب أهل [الْأَيْكَةِ] فكانوا ظالمين و متجاوزين عن الحدّ [فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالعذاب من الطائفتين من قوم شعيب و من قوم لوط و الانتقام نقيض الإنعام [وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي و إنّ مدينتي قوم لوط و شعيب بطريق يؤمّ و يتّبع و يهتدى به، و سمّي الطريق إماما لأنّ الإنسان يؤمّه. و قيل: معناه أنّ حديث مدينتيهما لمكتوب مذكور في اللوح المحفوظ نظير قوله: «وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» (1) و المبين الظاهر.

قوله: [وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ هذا هو القصّة الرابعة و هي قصّة صالح، الحجر اسم واد كان بسكنها ثمود. قوله: «الْمُرْسَلِينَ» المراد صالح وحده. لعلّ القوم كانوا براهمة منكرين لكلّ الرسل [وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا] يريد الناقة و كان في الناقة آيات كثيرة [فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أو المعنى أنّ المراد من تكذيب صالح تكذيب تمام المرسلين لأنّ تكذيب

ص: 146


1- يس: 12.

نبيّ واحد تكذيب الأنبياء لأنّهم بأجمعهم يدعون الناس إلى توحيد اللّه و ليس فيهم اختلاف.

و كان قوم صالح أقوياء [يَنْحِتُونَ لمساكنهم [مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً] و كانوا [آمِنِينَ من خرابها [فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ] في وقت الصبح [فَما أَغْنى و نفع و دفع ما كانوا جامعين من الأولاد و المال و أنواع الملاذّ.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 85 الى 91]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)

كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)

النظم: تصبير النبيّ على سفاهة قومه فإنّه إذا سمع مكرّرا أنّ الأمم السالفة يعاملون أنبياءهم بمثل هذه المعاملات الفاسدة سهل عليه تحمّل تلك السفاهات. و لمّا ذكر في الآيات السابقة الإهلاك و التعذيب فكأنّه قيل: الإهلاك و التعذيب كيف يليق بالرحيم الكريم؟ فأجاب عنه بأنّي إنّما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة و الطاعة فإذا تركوها وجب في الحكمة إهلاكهم و تطهير وجه الأرض منهم فقال:

[وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ أي إنّا ما خلقنا خلقا عبثا بل لما اقتضته الحكمة و ما خلقنا أمرا باطلا، بل خلقناهم، ثمّ نجازيهم بما عملوا [وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ] و جائية للمجازاة و إنّ اللّه لينتقم ممّن خالف دين الحقّ. ثمّ صبّره و أمره أن يعرض عنهم في موضع الإعراض و يتحلّم و يعفو عنهم عفوا جميلا و يعظهم. قال أمير المؤمنين:

إنّ الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب و توبيخ و تعنيف.

[إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ للأشياء عليم بمصالح الأمور و هو يعلم المصالح فتارة يأمرك بالعفو و تارة يأمرك بالسيف، و هذه الآية صريحة على أنّ اللّه لم يخلق الباطل و الكفر أبدا و لا يرضى به و ما أبقى حجّة للجبريّة و نقضت غزلهم.

ص: 147

قوله: [وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي و لمّا أمر بالصفح و التجاوز أتبع بذكر النعم العظيمة الّتي خصّ اللّه محمّد بها فقال: «وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي» و المثاني جمع واحدته مثناه، و المثناة كلّ شي ء ينثى أي يجعل اثنين من قولك: ثنّيت الشي ء إذا عطفته أو ضممت إليه آخرا، و منه يقال لمرفقي الدابّة: مثاني، لأنّها تثنّى بالعضد، فمفهوم سبع المثاني سبعة أشياء من جنس الأشياء الّتي تثنّى.

و بالجملة للناس فيه أقوال:

الاول عن عليّ عليه السّلام و جمع من الصحابة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرأ الفاتحة و قال: هي السبع المثاني، و السبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة أنّها سبع آيات تثنّى في كلّ صلاة و يقرأ مرّتين و لأنّها قسّمت قسمان ثناء و دعاء يقول اللّه: قسّمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين: نصف حقّ الربوبيّة و نصف حقّ العبوديّة و هو الدعاء. أو لأنّ كلماتها مثنّاة مثل الرحمن الرحيم إيّاك نعبد و إيّاك نستعين.

ثمّ هاهنا تحقيق و هو أنّ إفرادها بالذكر مع كونها جزءا من أجزاء القرآن بقوله:

«سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» يدلّ على مزيّة فضل و شرف في هذه السورة، ثمّ إنّه لمّا رأينا أنّ رسول اللّه واظب على قراءتها في جميع الصلوات و ما أقام سورة غيرها مكانها في شي ء من الصلوات و قوله: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب و لا يجوز الإبدال دلّ على خصوصيّة شرافتها، هذا هو القول الأوّل من الأقوال.

الثاني: هي البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف، و الأنفال و التوبة معا قالوا: و سمّيت هذه السور بالمثاني لأنّ الفرائض و الحدود و الأمثال و العبر ثنّيت فيها.

و أنكروا هذا القول و قالوا: هذه الآية مكّيّة و أكثر هذه السور السبعة مدنيّة فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها؟

و أجابوا بأنّ اللّه تعالى أنزل القرآن كلّه إلى السماء الدنيا ثمّ أنزله نجوما فلمّا أنزله إلى السماء الدنيا فهو من جملة ما أتاه و إن لم ينزل عليه بعد. و أجابوا عن هذا الجواب بأن الإتيان إنّما يصدق إذا وصل إلى محمّد فأمّا الّذي أنزله إلى السماء الدنيا و هو لم يصل إليه بعد لا يصدق عليه الإتيان.

ص: 148

و قيل أقوال آخر ذكرها يوجب التطويل.

قوله: [وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يعني و آتيناك القرآن العظيم لأنّه يتضمّن جميع ما يحتاج إليه من امور الدين بأوجز لفظ و أحسن نظم.

قوله: [لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تنظر و لا ترفع عينيك من هؤلاء الكفّار إلى ما متّعناهم و أنعمنا عليهم من زهرات الدنيا فإنّها في معرض الزوال و الفناء مع ما يتبعها من الحساب و الجزاء به [أَزْواجاً مِنْهُمْ منصوبا على الحال و المراد به أشباها و أمثالا من النعم يشبه بعضها بعضا، و قيل: أزواجا منهم يعني أصنافا من الكفّار، و الزوج في اللغة الصنف.

و بالجملة فالمراد أنّه لا تنظر إلى ما متّعناهم من النعم، فإنّ ما أنعمنا عليك و على من اتّبعك من أنواع النعم خير و أحسن كالإسلام و القرآن و النبوّة و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا، و منه الحديث: ليس منّا من لم يستغن بالقرآن و من اوتي القرآن فرأى أنّ أحدا اوتي من الدنيا أفضل ممّا اوتي فقد صغّر عظيما و عظّم صغيرا.

و قيل: وافت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود بني قريظة و النضير فيها أنواع البزّ و الطيب و الجواهر و سائر الأمتعة فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها و لأنفقناها في سبيل اللّه، فقال اللّه لهم: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع.

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله نظر إلى نعم بني المصطلق و قد عبست في أبو الها و أبعارها فتقنع في ثوبه و قرأ هذه الآية. و «عبست في أبوالها» المراد سمنها و كثرة شحومها و لحومها. الخطاب و إن كان له إلّا أنّ المراد أمّته.

قوله: [وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكفّار إن لم يؤمنوا أو نزل بهم العذاب و بما يصيرون إليه من عذاب النار بكفرهم و لما أنعمت عليهم دونك [وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي و ألن لهم جانبك و ارفق بهم، و فلان خافض الجناح إذا كان وقورا حليما، و أصله أنّ الطائر إذا ضمّ فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثمّ خفضه، أي تواضع للمؤمنين لكي يتّبعك الناس في دينك.

ص: 149

[وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي أنا المعلم بموضع المخافة، فيدخل تحت كونه نذيرا كونه مبلّغا لجميع التكاليف؛ لأنّ كلّ ما كان واجبا ترتّب على تركه عقاب و كلّ ما كان حراما ترتّب على فعله عقاب، فكان الإخبار بحصول العقاب داخلا تحت لفظ النذير.

قوله: [كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قيل: هم الّذين اقتسموا طرق مكّة يصدّون الناس عن الإيمان برسول اللّه و يقرب عددهم من أربعين. و قيل: كانوا ستّة عشر رجلا بعثهم الوليد ابن مغيرة أيّام الموسم فاقتسموا عقبات مكّة يقولون لمن يسلكها: لا تغترّوا بالخارج منّا يدّعي النبوّة؛ فإنّه مجنون. و كانوا ينفّرون الناس عنه بأنّه ساحر أو كاهن أو شاعر فأنزل اللّه عليهم خزيا فماتوا شرّميتة. و المعنى أنذرتكم مثل ما نزل على المقتسمين. و في بعض الروايات أنّ المقتسمين هم اليهود و النصارى و اختلفوا في أنّ اللّه لم سمّاهم مقتسمين؟ لأنّهم [جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ آمنوا بما وافق التوراة و كفروا بالباقي، و قيل: لأنّهم اقتسموا القرآن استهزاء به كقسمة الجزور، فقال بعضهم: سورة كذا لي و سورة كذا لي. أو قال بعضهم: سحر. و قال بعضهم: شعر. و قال بعضهم: أساطير الأوّلين، و أنزل اللّه على المقتسمين عذابا فرمتهم الملائكة بالحجارة حتّى ماتوا شرّ ميتة، فالتشبيه يرجع إلى هذا.

المعنى: و قل إنّي أنا النذير المبين عذابا كما أنزلنا على المقتسمين، أو المعنى إنّا آتيناك السبع المثاني كما آتينا العذاب على المقتسمين، و الجملة المعترضة بقوله: «وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» وقعت بين المشبّه و المشبّه به للتسلية من حال الرسول. و مفرد «العضين» عضة مثل ثبة، و أصلها عضوة أي قطعة و التعضية التجزية فالمعنى جزّءوا القرآن أجزاء متفرّقه.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 92 الى 99]

فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

لمّا بيّن سبحانه كفرهم بالقرآن عقّبه بأنّهم المسؤولون أجمعون و أقسم بنفسه أنّهم المسؤولون أو جميع الخلق مسؤولون عن الكفر و غيره من عامّة أفعالهم [فَاصْدَعْ و فرّق بين

ص: 150

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 199

الحقّ و الباطل و أبن ما أمرتك لهم، و تكلّم جهارا لهم، و تأويل الصدع في الزجاج بتباين بعض عن بعض [وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ و لا تلتفت إلى لومهم و لا تبال بهم.

[إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ و شرّهم بأن أهلكناهم، و بيان إهلاكهم أنّ جبرئيل أتى النبيّ و المستهزئون يطوفون بالبيت فأشار جبرئيل إلى بعض منهم بساقه و إلى بعض برأسه و بعينه فمرضوا في برهة قليلة من الزمان و ماتوا شرّميتة.

قوله: [وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ من سفاهة قومك و استهزائهم لك فقل: سبحان اللّه و بحمده و احمد ربّك على نعمه إليك، و كن من المصلّين، قال ابن عبّاس: كان رسول اللّه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة [وَ اعْبُدْ رَبَّكَ إلى أن [يَأْتِيَكَ الموت و هذا أمر بالإقامة على العبادة أبدا ما دام حيّا، و الفائدة في هذا التوقيت أنّ الإنسان يكون مادام عمره لا بدّ أن لا يخلو عن النظر في عبوديّته بلحظة واحدة.

تمّت السورة.

ص: 151

سورة النحل

اشارة

بعضها مكّيّة و بعضها مدنيّة.

فضلها أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها لم يحاسبه اللّه على النعم الّتي أنعمها عليه في الدنيا و اعطي من الأجر كالّذي مات و أحسن الوصيّة و إن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالّذي مات و أحسن الوصيّة.

و روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ سورة النحل في كلّ شهر كفي المغرم في الدنيا و سبعين نوعا من أنواع البلاء أهونه الجنون و الجذام و البرص، و كان مسكنه في جنّة عدن و هي وسط الجنان.

و اعلم لمّا ختم سورة الحجر بوعيد الكفّار افتتح هذه السورة بوعيدهم أيضا فقال:

ص: 152

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النحل (16): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

البيان: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخوّف المشركين بعذاب الدنيا، تارة بالقتل و الاستيلاء عليهم كما حصل، و تارة بعذاب يوم القيامة و هو الّذي يحصل عند قيام الساعة، ثمّ إنّ القوم لمّا لم يشاهدوا شيئا من ذلك أقاموا على تكذيبه و طلبوا منه الإتيان بالعذاب و قالوا له: ائتنا به.

في معنى الآية أقوال:

أحدها أنّ معناه قرب أمر اللّه و كلّما هو آت قريب أي قرب عقاب هؤلاء المشركين المقيمين على التكذيب.

و ثانيها أنّ أمر اللّه أحكامه و فرائضه.

و ثالثها أنّ أمر اللّه يوم القيامة فيكون «أَتى بمعنى «يأتي» و مستقبل هو محقّق الوقوع يأتي بلفظ الماضي فصار بمنزلة ما مضى لأنّ اللّه سبحانه قرّب أمر الساعة و قال: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» (1).

و بالجملة قال الكفّار فيما بينهم: إنّ محمّدا يزعم أنّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتّى ننظر ما هو كائن، فلمّا امتدّت الأيّام قالوا: يا محمّد ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به، فنزلت:

[أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رفع الناس رؤوسهم فنزل: [فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى هذه كلمة تنزيه عمّا لا يليق به و بصفاته من أن يكون له شريك في العبادة

ص: 153


1- القمر: 1.

[يُنَزِّلُ اللّه الملائكة بالوحي أو بالقرآن [مِنْ أَمْرِهِ لأنّه حياة القلوب بسبب الإرشاد إلى حسن العاقبة و الدين [عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ممّن يصلح للنبوّة و السفارة بينه و بين خلقه [أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ هذا تفسير للروح المنزل و بدل منه. أي أيّها الأنبياء مروهم بتوحيدي و اتّقوا مخالفتي. و بيّن سبحانه أنّ الحال حال التكليف لا حال نزول العذاب و أنّه لا يأخذ أحدا حتّى يحتجّ عليه بالإنذار و بيان الأدلّة.

ثمّ شرع في ذكر الدليل فقال:

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 3 الى 7]

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)

المعنى: خلقهما على سبيل الحقيقة فيستدلّ بهما على معرفته و يتوسّل بالنظر إليهما إلى العلم بكمال قدرته و ينتفعون بهما في الدين و الدنيا فليعمل العامل [بِالْحَقِ تقدّس من أن يكون له شريك. ثمّ بيّن دليلا آخر فقال: [خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ] و «النطفة» اسم للماء القليل ثمّ في العرف صار اسما لماء الفحل، حتّى صارت هذه النطفة في تقلّب الأحوال إنسانا يخاصم عن نفسه؛ فبيّن أضعف أحواله و أنقصها و أكملها منها على كمال قدرته، أو المعنى مجادل بالباطل مبين ظاهر الخصومة، و فيه تعريض لفاحش ما ارتكبه من تضييع حقّ نعمة اللّه عليه.

ثمّ بيّن سبحانه نعمته في خلق الأنعام فقال: [وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها] أكثر ما يتناول الأنعام الإبل و البقر و الغنم، و في اللغة هي ذوات الأخفاف و الأظلاف دون ذوات الحوافر [لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ] أي لباس و ما يستدفأ به ممّا يعمل من صوفها و وبرها و شعرها و منافع أخر من الحمل و الركوب و إثارة الأرض و الزرع و النسل [وَ مِنْها تَأْكُلُونَ من لحومها.

[وَ لَكُمْ فِيها] حسن منظر و زينة حين تردّونها من سراحها و حيث تأوي إليه ليلا

ص: 154

[وَ حِينَ تَسْرَحُونَ أي حين ترسلونها بالغداة إلى مراعيها و الجمال حين الإراحة أكثر من حين التسريح لأنّها تقبل ملائي البطون و الضروع مع الثغاء و الرغاء و يعظم موقعها عند الناظر [وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إلى البلاد و لم تكونوا تبلغون لولاها إلّا بالمشقّة، و الشقّ نصف الشي ء و المشقّة، و المعنيان مناسبان. ثمّ عطف علي الأنعام:

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 8 الى 13]

وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)

وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

لمّا ذكر في الآية السابقة منافع الحيوانات الّتي ينتفع بها الإنسان من المنافع الضروريّة و الحاجات الأصليّة ذكر في هذه الآية المنافع الغير الضروريّة فقال:

[وَ] خلق [الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ] للركوب و للزينة، و نصب «زينة» على المفعول له.

و احتجّ القائلون بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية فقالوا: منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلو كان الأكل جائزا لكان هذا المعنى أولى بالذكر و حيث لم يذكر علمنا أنّه يحرم أكله، ثمّ إنّه سبحانه قال في صفة الأنعام: «وَ مِنْها تَأْكُلُونَ» و هذه الكلمة تفيد الحصر فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعام فوجب أن يحرم أكل لحم الخيل بمقتضى هذا الحصر.

و أجابوا بأنّه لو كان الأمر كذلك لكان قول عامّة المفسّرين و المحدّثين: «إنّ لحوم الحمير الأهليّة حرّمت عام خيبر» باطلا لأنّ التحريم لمّا كان حاصلا قبل هذا اليوم لم يبق لتخصيص هذا التحريم فائدة. و قد روى البخاريّ في الصحيح مرفوعا إلى أسماء بنت أبي بكر قالت: أكلنا لحوم الفرس على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله.

ص: 155

قوله: [وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ من أنواع الحيوان و النبات و الجماد لمنافعكم [وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي واجب على اللّه في عدله بيان الطريق المستقيم و الهداية من الضلالة ليتّبع الهداية و يترك الضلالة [وَ مِنْها جائِرٌ] أي و من السبيل ما هو جائر أي مائل عن الحقّ و هو أنواع الكفر، و السبيل يذكّر و يؤنّث [وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ على طريق الإلجاء و لكنّه ينافي التكليف، و الإيمان مقدور للمكلّفين.

و حاصل المعنى من هذه الآيات بيان فوائد نعم اللّه من النعم المفيدة لدينكم و لمعايشكم كخلق الأنعام للفوائد الّتي تحتاجونها لدنياكم و ترون فوائدها و خلق ما لا تعلمون فوائدها و هو مفيدة لكم، و قد ذكره بطريق الإجمال لأنّ أصنافها و أنواعها خارجة عن الإحصاء و لو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور في المجلدّات الكثيرة كالقطرة في البحر.

قال ابن عبّاس: إنّ على يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع و مثل الأرضين السبع و البحار السبعة، يدخل فيه جبرئيل كلّ سحر و يغتسل فيزداد نورا إلى نوره و جمالا إلى جماله ثمّ ينتفض فيخلق اللّه من كلّ نقطة تقع من ريشه كذا و كذا ألف ملك يدخل منهم كلّ يوم سبعون ألفا البيت المعمور، و في الكعبة سبعون ألفا ثمّ لا يعودون إلى أن تقوم الساعة «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» (1).

و في الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يضلّ أحدا و لا يغويه و لا يصدّه عن الحقّ لأنّه لو كان فاعلا للضلال لقال: «و على اللّه قصد السبيل و عليه جائرها».

قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اعلم أنّه أشرف أجسام العالم السفلى بعد الحيوان النبات فاستدلّ سبحانه به، و مادّة النبات الماء، و المنزل المنزل من السحاب أو من السماء و [لَكُمْ من ذلك الماء [شَرابٌ تشربونه أي منه لشربكم [وَ مِنْهُ لشرب الشجر و سقيه و حذف المضاف كقول زهير: «أ من امّ أوفى دمنة لم تكلّم» أي أمن ناحية أمّ أوفى دمنة لم تكلّم [تُسِيمُونَ أي ترعون أنعامكم، و السوم الرعي، من غير كلفة و التزام مؤونة لعلفها.

ص: 156


1- ابراهيم: 34. السورة: 18.

قال ابن قتيبة: المراد في هذه الآية من «الشجر» الكلاء و في حديث عكرمة: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنّه سحت» يعني الكلاء. و قيل: النجم ما ينجم من الأرض ممّا ليس له ساق و من الشجر ما له ساق، و عطف الجنس على النوع و النوع على الجنس شايع، و لفظ الشجر مشعر بالاختلاط يقال: تشاجر القوم إذا اختلط أصواتهم.

قوله: [يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ فذكر بعد ما ينفع للحيوان ما ينفع للإنسان، ينبت بالماء المنزل من السماء ما هو غذاء للإنسان و الغذاء للإنسان حيوانيّ و قد ذكر في خلق الأنعام، و نباتيّ و هو الحبوب و الفواكه من [الزَّيْتُونَ وَ ... الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من أنواعها و منافعها لا تعدّ و لا تحصى، مثلا العنب قشرة و عجمه باردان يابسان كثيفان و لحمه و ماؤه حارّان رطبان لطيفان و نسبة الطبائع السفليّة إلى هذا الجسم متشابهة و نسبة التأثيرات الفلكيّة و الكوكبيّة إلى الكلّ متشابهة و مع التشابه ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع و الطعم و اللون و لصفة و ليس ذلك إلّا لتقدير فاعل حكيم قادر [إِنَ في هذه الأمور لآيات لمن تفكّر و اعتبر.

قوله: [وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ في حركاتها المختلفة بأوقاتها و هي مقهوره بنسق لا يختلف بأمره القاهر فلو فرضنا أنّ حدوث الحوادث في العالم السفلى مستندة إلى الاتّصالات الفلكيّة و التشكّلات الكوكبيّة إلّا أنّه لا بدّ لحركاتها من أسباب، و أسباب تلك الحركات إمّا ذواتها و إمّا امور مغايرة لها و الأوّل باطل لأنّ ذات الجسم لو كانت علّة لحصول هذه الجزء من الحركة لوجب دوام هذا الجزء من الحركة بدوام تلك الذات و لو كان كذلك لوجب بقاء الجسم على حالة واحدة من غير تغيّر أصلا و عدم التغيّر يوجب كونه ساكنا لذاته و يمتنع من كونه متحرّكا فالقول بأنّ الجسم متحرّك لذاته يوجب كونه ساكنا لذاته، و ما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلا.

و بعبارة اخرى أوضح من هذا: إنّ الأجسام متماثلة في الجسميّة فلو كان جسم علّة لصفة لكان كلّ جسم واجب الاتّصاف بتلك الصفة و هو محال فثبت أنّ تخصّص ذلك المخصّص بغيره لا بذاته و لا بدّ من أن ينتهي لبطلان التسلسل؛ فثبت أنّ الغير قادر عليه مباين له متصرّف فيه كيف يشاء و هو اللّه [إِنَّ فِي ذلِكَ لدلالات للعقلاء.

ص: 157

[وَ ما ذَرَأَ] و خلق [لَكُمْ فِي الْأَرْضِ لقوام أبدانكم من المطاعم و الملابس و المناكح من الحيوان و النبات و المعادن [مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و أشكاله لا يشبه بعضها بعضا فيها دلالات للمتذكّرين و المتدبّرين. و اختلاف الألوان دليل قاهر على أنّ المؤثّر غير الطبيعة لأنّ الطبيعة الواحدة في المادّة الواحدة يجب أن يكون متشابها و متشاكلا مثلا إذا وضعت الشمعة فإذا استضاء ذراع من جوانب الشمع وجب أن يكون الضوء في هذا الذراع متساويا و لا يمكن أن يكون الضوء مختلقا في الفضاء من الذراع بحسب النور.

إذا ثبت هذا فنقول: إنّ نسبة الشمس و القمر و الأنجم و الأفلاك و الطبائع بالنسبة إلى ورقة لطيفة من الورد نسبة واحدة و متى كانت نسبة المؤثّر واحدة لا بدّ و أن يكون الأثر متشابها و نحن نرى أنّ الأثر غير متشابه فنصفه في غاية السواد و نصفه في غاية البياض فاختلاف الأثر دليل قاهر على أنّ الطبيعة بنفسها ليست مؤثّرة بل هي أيضا متأثّرة و المؤثّر غيرها و هو اللّه.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 14 الى 18]

وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)

ثمّ عدّد نوعا آخر من النعم فقال: [وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ] و إنّما عبّر بالتسخير لأنّه تعالى لمّا دبّر الأمور على طريقة مطابقة لمصالح العباد صارت شبيهة بالعبد المنقاد المطاع فلذا أطلق على هذا النوع من التدبير لفظ التسخير.

و اعلم أنّ علماء الهيئة قالوا: ثلاثة أرباع الأرض غائصة في الماء و ذاك هو المحيط و هو كلّيّة عنصر الماء و حصل في هذا الربع المسكون سبعة من البحار كما قال سبحانه: «وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ» (1) و البحر الّذي سخّره اللّه تعالى للناس هو هذه البحار السبعة و معنى التسخير جعلها بحيث يتمكّن الإنسان من الانتفاع بها إمّا بالركوب أو بالغوص، و

ص: 158


1- لقمان: 27.

منافع البحر كثيرة لكن ذكر سبحانه ثلاثة أنواع في الآية:

الاول [لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا] و هو السمك مع أنّه خرج من البحر الملح الزعاق (1) مثل هذا الحيوان الّذي لحمه في غاية العذوبة فعلم أنّه إنّما حدث لا بحسب الطبيعة بل بقدرة اللّه حيث أظهر الضدّ من الضدّ.

و الثاني من منافع البحر قوله: [وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها] و المراد اللؤلؤ و المرجان و تزيّنون بها.

المنفعة الثالثة [وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ مخر السفينة شقّ الماء بصدرها؛ قال ابن عبّاس،: مواخر أي جواري لتركبوها للتجارة فتطلبوا الربح من فضل اللّه بسفر البحر و تحصيل التجارة فيه فلعلّكم إذا وجدتم فضل اللّه و إحسانه تقدمون بالشكر له.

قوله: [وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبال عاليات ثابتات لئلّا تميد و تتحرّك و تضطرب و جعل فيها أنهارا و طرقا لكم قوله: [أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كقوله: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (2) أي كراهة أن تضلّوا و معنى الإلقاء الجعل و الخلق كقوله تعالى: «وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» (3) و جعل في الأرض [سُبُلًا] و طرقا لكي تهتدوا و أظهر فيها [عَلاماتٍ حتّى يتمكّن الإنسان من الاستدلال بها فيصل بواستطها إلى مقصوده، و هذه العلامات هي الجبال و الرياح حتّى قيل: إنّ جماعة كانوا يشمّون التراب و يتعرّفون الطرق.

قوله: [وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ و قرئ بضمّتين و المراد بالنجم، قيل: المراد بالنجم الثريّا و الفرقدان و بنات النعش و الجدي. قال ابن عبّاس: سألت رسول اللّه عن النجم فقال: الجدي علامة قبلتكم و به تهتدون في برّكم و بحركم. و قال أبو عبد اللّه: نحن العلامات و النجم رسول اللّه. و قال: إنّ اللّه جعل النجوم أمانا لأهل السماء و جعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض.

قوله تعالى: [أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ لمّا ذكر الدلائل على وجود القادر و شرح أنواع النعم أتبعه بذكر إبطال عبادة غيره و كيف يحسن في العقول الاشتغال بعبادة ما سواه؟

فقال: [أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ و لا يقدر؟ أفلا تنبّهون و تلتفتون!

ص: 159


1- ما كثر ملحه.
2- النساء: 175.
3- طه: 39.

[وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ أي إنّكم لا تعرفونها على سبيل التمام و الكمال، و إذا لم تعرفوها امتنع منكم الشكر كاملا و لذلك قال: [إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ] للتقصير الصادر عنكم في القيام بالشكر و [رَحِيمٌ بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم بسبب تقصيركم.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 19 الى 23]

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (19) وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)

لمّا تقدّم سبحانه الدعاء إلى عبادته بذكر نعمه عقّبه بذكر علمه بسريرة كلّ أحد و علانيته و ذكر بطلان الإشراك في عبادته فقال: [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ و ما تظهرونه فيجازيكم على أفعالكم.

[وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ غيره، المراد به الأصنام الّتي لا يمكنها خلق شي ء بل هي مخلوقة منحوتة من الحجر و الخشب و نحوهما، ثمّ قال:

هي [أَمْواتٌ ثمّ أكّد بقوله: [غَيْرُ أَحْياءٍ] و نفى الحياة عنها على الإطلاق فإنّ من الأموات من سبقت له الحياة أو من الأشياء ما له حالة منتظرة في الحياة بخلاف الأصنام فإنّه ليس له حياة سابقة و لا منتظرة. و قيل: إنّ المراد إنّ الّذين يعبدون الأصنام أموات و في حكم الكفّار لذهابهم عن الدين و الحياة الأبديّة.

قوله: [وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ قيل: المراد الكفّار لا يعلمون متى يبعثون. و قيل: المراد الأصنام. و الضمير في «وَ ما يَشْعُرُونَ» عائد إلى الأصنام، و الضمير في «يبعثون» إلى الكفّار يعني أنّ الأصنام لا يشعرون متى تبعث عبدتهم و لا تعلم وقت بعث عبدتهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبدتهم؟ و قيل: إنّ ناسا كانوا يعبدون الملائكة فقال اللّه: إنّهم أموات أي سيموتون و غير باقية حياتهم و ما يشعرون الملائكة متى يبعثون و لا علم لهم بموتهم و بعثهم.

ثمّ قرّر بأنّ [إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] أي الّذين يؤمنون

ص: 160

بالآخرة يرغبون في الفوز بالثواب الدائم و يخافون الوقوع في العذاب الدائم إذا سمعوا الدلائل و الترغيب و الترهيب، و أمّا الّذين لا يؤمنون بالآخرة و ينكرونها فيبقون منكرين لكلّ كلام يسمعونها و يخالف قولهم و يستكبرون عن الرجوع من كفرهم فلا [جَرَمَ و هذه الكلمة بمنزلة اليمين أي حقّا. و معنى الجرم الكسب يعني لا يحتاج علم هذا الأمر إلى اكتساب علم، بل هو معلوم [أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سرّهم و علنهم و إنّه لا يحبّ الّذين يأنفون أن يكونوا أتباعا للأنبياء و يتكبّرون.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 24 الى 29]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

[وَ إِذا قِيلَ لمشركي قريش [ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على محمّد؟ أجابوا هذا المنزل في زعمكم هو عندنا أحاديث الأوّلين الكاذبين، و روي أنّها نزلت في المقتسمين إذا سألهم الناس عمّا أنزل اللّه على رسول اللّه [قالُوا] أحاديث [الْأَوَّلِينَ ليصدّون الناس عن رسول اللّه، على كلّ عقبة على طريق مكّة أيام الحجّ أربعة منهم.

[لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ و اللام للعاقبة أي كان عاقبة أمرهم حين فعلوا ذلك أن حملوا أوزار كفرهم تامّة [يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي يحملون بعض أوزار الّذين أضلّوهم عن الحقّ و أغووهم و هو وزر الإضلال، و لم يحملوا وزر غوايتهم و ضلالهم و على هذا ما روي عن النبيّ أنّه قال: أيّما داع دعى إلى الهدى فاتّبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا و أيّما داع دعى إلى ضلالة فاتّبع عليه فإنّ عليه مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا [أَلا ساءَ] أي بئس الوزر و الحمل حملهم.

ص: 161

[قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قبل هؤلاء المشركين بأنبيائهم من جهة التكذيب. [فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ أمر اللّه الّتي بنوها من أطراف قواعد بنيانهم فهدمها، عن ابن عبّاس: المراد منهم نمرود بن كنعان، بنى صرحا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع- و قيل: فرسخان- و رام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فأرسل اللّه ريحا فألقت رأس الصرح في البحر و خرّ عليهم الباقي، هو (1) البناء الّذي بناه بخت النّصر. و قيل: هو مثل لبناء الكفر. فحينئذ المعنى: عاد ضرر الكفر على الكافرين.

قوله: [فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ و إنّما قال: [مِنْ فَوْقِهِمْ مع أنّ السقف لا يكون إلّا من فوق لأحد وجوه: منها أنّه للتوكيد كقولهم: «مشيت برجلي» و منها أنّما قال ذلك ليدلّ على أنّهم كانوا تحتهم [وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي جاءهم عذاب الاستئصال من حيث لا يعلمون و لا يتوقّعون العذاب.

[ثُمَ مع ذلك [يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ و يفضحهم يوم القيامة [وَ يَقُولُ اللّه [أَيْنَ شُرَكائِيَ في زعمكم و اعتقادكم [تُشَاقُّونَ و تعادّون المؤمنين أو تعادّوني و تشاركونهم معي.

[قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ باللّه و بدينه من المؤمنين- و قيل: هم الملائكة-: [إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ و الجاحدين لنعم اللّه [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي يقبض ملك الموت و أعوانه أرواحهم ففارقوا الدنيا و هم ظالمون لأنفسهم [فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي استسلموا و انقادوا حين لا ينفعهم الانقياد و يقولون عند الموت أو عند القيامة: [ما كُنَّا نَعْمَلُ من شرك، و المراد بالسوء الشرك فقالت الملائكة ردّا عليهم.

ثمّ اختلفوا فالّذين جوّزوا الكذب على أهل القيامة قالوا: هذا القول منهم على سبيل الكذب لغاية الخوف. و الّذين لا يجوّزون الكذب قالوا: معنى «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» باعتقادنا و عند أنفسنا.

فردّ عليهم [بَلى عملتم السوء و الشرك [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بعملكم [فَادْخُلُوا] طبقات [جَهَنَّمَ و دركاتها حال كونكم مؤبّدين فيها [فَلَبِئْسَ المثوى [مَثْوَى المتعظّم عن قبول الحقّ، و اللام للتأكيد.ل.

ص: 162


1- كذا في الأصل.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 30 الى 34]

وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)

لمّا ذكر حال الكافرين و أقوالهم عقّبه بذكر أقوال المؤمنين فقال:

[وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا] الشرك و المعاصي و هم المؤمنون [ما ذا] أي أيّ شي ء [أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا]: أنزل اللّه [خَيْراً] لأنّ القرآن كلّه هدى و شفاء و خير. قوله تعالى: [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا] بجوز أن يكون هذه جملة مستأنفة ابتداء كلام من اللّه للمحسنين [فِي هذِهِ الدُّنْيا] حسنة و مكافاة لهم، و هي الثناء و المدح على ألسنة المؤمنين و التوفيق للإحسان.

[وَ لَدارُ الْآخِرَةِ] أي و ما يصل إليهم من ثواب الآخرة [خَيْرٌ] ممّا يصل إليهم في الدنيا، و يجوز أن يكون من كلام المتّقين [وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أي و الآخرة نعم دار المتّقين الّذين اتّقوا عقاب اللّه.

و الظاهر أنّ هذا الكلام كان في أيّام الموسم يأتي الرجل مكّة فيسأل من المشركين عن محمّد صلى اللّه عليه و آله و أمره فيقولون: إنّه ساحر و كاهن و كذّاب. و يأتي المؤمنين و يسألهم عن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ما أنزل اللّه عليه فيقولون: خيرا. و قيل: المراد «وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» المراد الدار الدنيا للمتّقين لأنّهم نالوا فيها الثواب الجزيل و الجزاء الحسن.

و قيل: المعنى: و لنعم دار المتّقين [جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها] عدن دائم يدخلونها [تَجْرِي مِنْ تحت الجنات [الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ و يشتهون من النعم [كَذلِكَ يجازي اللّه الّذين اتّقوا الشرك و المعاصي و هم [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ الأعمال صالحين طاهرين القلوب من دنس المعاصي طيّبة نفوسهم لعلمهم بمالهم عند اللّه من الثواب يقول الملائكة لهم:

سلامة لكم من كلّ سوء [ادْخُلُوا الْجَنَّةَ] أي حصلت لكم الجنّة، و قيل: إنّما يقولون ذلك عند خروجهم عن قبورهم.

ص: 163

قوله: [هَلْ يَنْظُرُونَ أي إنّ هؤلاء المكذّبين بنبوّتك، و لا يزجرون عن الكفر و لا يقبلون القرآن [إِلَّا] إذا جاءتهم [الْمَلائِكَةُ] يشهدون على صدق نبوّتك أو يأتيهم عذاب الاستئصال [كَذلِكَ فَعَلَ القوم [الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بالأنبياء فأصابهم العذاب المعجّل.

[وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ و لكن هم ظلموا أنفسهم و استوجبوا ما نزل بهم [فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ أعمالهم [وَ حاقَ و نزل بهم على وجه الإحاطة بجوانبهم عقاب استهزائهم.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 35 الى 37]

وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)

[وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا] مع اللّه إلها آخر [لَوْ شاءَ اللَّهُ و أراد [ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ شيئا] من الأصنام و الأوثان [نَحْنُ وَ لا آباؤُنا] الّذين اقتدينا بهم كما تقوله الجبريّة [وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ من البحيرة و السائبة و غيرهما بل شاء منّا ذلك.

فأنكر اللّه سبحانه هذا القول عليهم و قال: [كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفّار كذّبوا رسل اللّه و قالوا مثل قولهم و فعلوا مثل فعلهم [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الظاهر، و هذا الإنكار من اللّه ردّ صريح على مذهب الجبريّة حيث وبّخهم على هذا القول.

[وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِ جماعة و قرن [رَسُولًا] كما بعثناك ليقول الرسول لهم [أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ و يعني بالطاغوت الشيطان و كلّ داع إلى الضلالة [فَمِنْهُمْ مَنْ هداه [اللَّهَ بأن لطف له بما علم أنّه يؤمن عنده فآمن فسمّي ذلك اللطف هداية، و يجوز أن يريد: فمنهم من هداه اللّه إلى الجنّة بإيمانه. و لا يجوز أن يكون المعنى (1). و يريد بالهداية هنا نصب الأدلّة كما في قوله: «وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ» (2) لأنّه سبحانه سوّى في ذلك بين المؤمن و الكافر و سوّى التوفيق بين الضعيف و الشريف.

ص: 164


1- كذا في الأصل.
2- حم السجدة: 17.

قوله: [وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ] أي و منهم من أعرض عمّا دعا إليه الرسول فخذله اللّه فثبت عليه الضلالة و لزمته فلا يؤمن و وجبت عليه الضلالة و هي العذاب، و قد سمّى اللّه العقاب ضلالا بقوله: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ» (1) قوله: [فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الّذين عاقبهم اللّه إن لم تصدّقوني و انظروا كيف صارت عاقبتهم.

[إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ أي على أن يؤمنوا [فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ هذا تسلية للنبيّ في دعائه لمن لا يفلح بالإجابة لأنهما كه في الكفر. و في هذا البيان إعلام للنبيّ بأنّهم لا يؤمنون أبدا و إذا كان الأمر كذلك فإنّ اللّه لا يهديهم بل يضلّهم على المعنى الّذي فسّرناه أي يعاقبهم، و ليس المراد ما فسّره أهل الجبر.

قوله: [سورة النحل (16): الآيات 38 الى 40]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

النزول: قالوا: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه فوقع في كلامه:

و الّذي أرجوه بعد الموت إنّه لكذا. فقال المشرك: و إنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت و اقسم باللّه «لا يبعث اللّه من يموت» فأنزل اللّه الآية، عن أبي العالية. أي حلفوا باللّه مجتهدين في أيمانهم و بلغوا في القسم كلّ مبلغ [لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ و لا يحشرهم يوم القيامة و لا يحيي من يموت بعد موته.

فكذّبهم اللّه بقوله: [بَلى يحشرهم اللّه وعدهم به و عليه سبحانه إنجازه و تحقيقه [حَقًّا] ذلك الوعد ليس فيه خلف إذ لو لا البعث لما حسن التكليف لأنّ التكليف إنّما يحسن لإثابة أو لعقوبة [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صحّة ذلك و وجه الحكمة فيه؛ لأنّ اللّه إنّما يحشر الخلائق [لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الحقّ فيما كانوا فيه يختلفون [وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في الدنيا.

ص: 165


1- القمر: 47.

و إنّما أنكروا البعث بزعمهم يدّعون بالعلم الضروريّ بأنّ الشي ء إذا فنى و صار عدما محضا و نفيا صرفا فإنّه بعد العدم لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئا آخر، و الحال في أمر القدرة أنّ البنية ليست شرطا في الإيجاد و أنّه تعالى كونه موجدا للأشياء و مكوّنا لها لا يتوقّف على سبق مادّة و لا مدّة و لا آلة و إنّما يكوّنها بمحض مشيئته و قدرته فقال:

[إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ يكون [نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ و لا يتعذّر عليه سبحانه شي ء.

و لو قال قائل: إنّ قوله: «كُنْ» إن كان خطابا مع المعدوم فهو محال و إن كان خطابا مع الموجود كان أمرا بتحصيل الحاصل.

فالجواب أنّ هذا تمثيل لنفي الكلام من تعقّلاتهم و ليس خطابا للمعدوم لأنّ ما أراد اللّه كائن، و الغرض من الإيجاد الإسراع بالإرادة كقوله: «وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» (1).

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 41 الى 44]

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

نزلت الآية الاولى في المعذّبين بمكّة مثل صهيب و عمّار و بلال و خباب و غيرهم مكّنهم اللّه بالمدينة، و ذكر أنّ صهيبا قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم و إن كنت عليكم لم يضرّكم فخذوا مالي و دعوني فأعطاهم ماله و سار إلى رسول اللّه فقال له بعض أصحاب النبيّ: ربح البيع يا صهيب.

المعنى: [وَ الَّذِينَ فارقوا أوطانهم و ديارهم فرارا بدينهم و اتّباعا لنبيّهم في سبيله [مِنْ بَعْدِ ما] ظلمهم المشركون و عذّبهم الكافرون و بخسوا حقوقهم [لَنُبَوِّئَنَّهُمْ و ننزلنّهم بلدة [حَسَنَةً] بدل أوطانهم و هي المدينة أو لنعطينّهم حالة حسنة [وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ] ممّا أعطيناهم في الدنيا. و هذا صهيب هو الّذي قال عمر في حقّه: نعم الرجل صهيب لو لم يخف اللّه

ص: 166


1- القمر: 50.

لم يعصه. و هو ثناء عظيم يريد: لو لم يخلق اللّه النار لأطاعه و ما خالفه. و الضمير في قوله تعالى:

«يَعْلَمُونَ» عائد إلى الكفّار أو المستضعفين أو المهاجرين.

قوله: [الَّذِينَ صَبَرُوا] بدل من قوله: «الَّذِينَ هاجَرُوا» أي صبروا على الشدائد في طاعة اللّه و توكّلوا في أمورهم على اللّه.

[وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ من الأمم الماضية [إِلَّا رِجالًا] من البشر، و ذلك أنّ مشركي قريش كانوا ينكرون أن يرسل إليهم بشر مثله فبيّن اللّه سبحانه أنّه لا يصلح من يكون رسولا إلّا و أن يكون من جنسهم حتّى يخاطبهم و يخاطبونه و يباشرون و يعاشرون معه.

[فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ و في أهل الذكر أقوال:

أحدها أنّ المقصود بأهل العلم العلماء بأخبار من مضى من الأمم سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، و سمّي العلم ذكرا لأنّ الذكر هو ضدّ السهو فهو بمنزلة السبب المؤدّي إلى العلم فحسن أن يقع موقعه.

و ثانيها أنّ المراد بأهل الذكر أهل الكتاب و يخاطب مشركي قريش و أنّهم كانوا يصدّقون أخبار اليهود و النصارى من كتبهم.

و ثالثها أنّ المراد بأهل الذكر أهل القرآن لأنّ الذكر هو القرآن، و يقرب منه ما رواه جابر و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر أنّه قال: نحن أهل الذكر، و قد سمّى اللّه رسوله ذكرا في قوله: «ذِكْراً. رَسُولًا» (1).

و احتجّ نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: المكلّف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس و إن لم يكن عالما بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالما بها لظاهر هذه الآية، و لو كان القياس حجّة لما وجب عليه سؤال العالم لأجل أنّه يمكنه استنباط الحكم بواسطة القياس فتجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية، فوجب أن لا يجوز.

و أجاب مثبتو القياس كالرازيّ بأنّ جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة و الإجماع أقوى.

ص: 167


1- الطلاق: 10.

قوله: [بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ] متعلّق بأرسلنا أي أرسلنا الرسل. و أرسلناك بالبشرى و الكتب، أو أرسلناهم بالبيّنات و الكتب [وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ القرآن [لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من الأحكام و الدلائل على توحيد اللّه و الشرائع [وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ بالنظر المؤدّي إلى المعرفة.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 45 الى 50]

أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ (48) وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)

يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)

المكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، و التقدير في الآية: المكرات السيّئات. و المراد الّذين كانوا يسعون في إيذاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على سبيل الخفية فهدّدهم اللّه بأمور أربعة:

الاول [أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون.

و الثاني أن [يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يعلمون و يفجؤهم بغتة كما فعل بقوم لوط.

و الثالث أن [يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ في أسفارهم و يهلكهم و هم لا يعجزون اللّه بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم حيث كانوا أو يأخذهم بالليل و النهار في إقبالهم و إدبارهم و ذهابهم و مجيئهم.

و الرابع [أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ و قرئ بالحاء المهملة من الحافة إذا تنقّصته من حافاته. و قوله: «عَلى تَخَوُّفٍ» أي يعذّب أهل قرية و يخوّف به أهل قرية اخرى فيخافون أن ينزل بهم العذاب كما نزل بتلك أو بأن ينقص من أموالهم و أنفسهم بالبلايا و الأسقام إن لم يعذّبهم بعذاب الاستئصال. و إنّما أمهلكم لتتوبوا و ترجعوا [فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ بكم و [رَحِيمٌ عليكم.

ص: 168

قوله: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا] و ينظروا هؤلاء الكفّار الّذين جحدوا وحدانيّة اللّه و كذّبوا نبيّه [إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ] له ظلّ من شجر و جبل و بناء و جسم فإذا يتميّل [ظِلالُهُ عَنِ جانب [الْيَمِينِ و جانب اليسار كالشمس مثلا إذا طلعت و أنت متوجّه إلى القبلة كان الظلال قدّامك و إذا ارتفعت الشمس كان الظلال عن يمينك فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك فهذا تفيّؤ الشي ء، و معنى سجود الظلّ دورانه من جانب إلى جانب لانقياده بالتسخير [وَ هُمْ داخِرُونَ و مسخّرون و ذليلون.

فإن قيل: الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو و النون؟ لأنّه لمّا وصفهم بالانقياد و الطاعة أشبهوا العقلاء.

و السجود على قسمين: سجود على سبيل الحقيقة كسجود المسلمين للّه تعالى، و سجود هؤلاء عبارة عن الانقياد و يرجع حاصل هذا السجود إلى أنّها تذلّ بانقيادها بأنّها ممكنة الوجود و العدم قابلة لهما و أنّه لا يترجّح أحد الطرفين إلّا لمرجّح.

و بالجملة فمن الناس من قال: المراد بالسجود المذكور في الآية السجود بمعنى الانقياد و التواضع و الدليل عليه أنّ اللائق بالدابّة ليس إلّا هذا السجود. و منهم من قال:

المراد بالسجود هو المعنى الحقيقيّ، أو يكون السجود في حقّ الملائكة و المسلمين على سبيل الحقيقة و في الباقي بمعنى الانقياد الحقيقيّ، و قد صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ للّه تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم اللّه إلى يوم القيامة يرعد فرائصهم من مخافة اللّه لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم و قالوا:

ما عبدناك حقّ عبادتك.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 51 الى 55]

وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

لمّا بيّن في الآية الأولى أنّ كلّ ما سوى اللّه سواء كان من عالم الأرواح أو من

ص: 169

عالم الأجسام منقاد خاضع لجلال اللّه أتبعه في هذه الآية بالنهى عن الشرك بقوله:

[لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أي لا تعبدوا مع اللّه إلها آخر فتشركوا بالعبادة بينهما و ذكر اثنين- كما يقال: فعلت ذلك الأمرين اثنين- للتأكيد [فَإِيَّايَ فارهبوا عقابي وسطواتي و لا تخشوا غيري، و هذا رجوع من الغيبة إلى الحضور للالتفات، و يفيد الكلام الحصر لأنّ الموجود إمّا قديم و إمّا محدث فالقديم هو الإله فهو واحد فما سواه محدث، و حدث بتخليق ذلك القديم و إذا كان كذلك فلا رغبة إلّا إليه و لا رهبة إلّا منه.

ثمّ قال: و بتخليقه خلقت السماوات و الأرض و له الطاعة دائمة واجبة على الدوام أي إنّه يعبد دائما و غيره إنّما يعبد في وقت دون وقت. و قيل: معنى «واصبا» أي خالصا [أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تخشون؟ استفهام بمعنى التوبيخ أي كيف تعبدون غيره و لا تتّقونه؟

[وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ] و لكم من الصحّة و الرزق فكلّ من جهة اللّه [ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ] من المرض و البلاء و سوء الحال [فَإِلَيْهِ تتضرّعون و تستغيثون لصرفه [ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ و رفع ما حلّ بكم من الضرّ و الشدّة عاد طائفة منكم إلى الشرك بربّهم في العبادة جهلا منهم، و يقابلون النعمة بالكفران، و هذا عجب من فعل العاقل المميّز.

قوله: [لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قيل: إنّ اللام للعاقبة أي آل أمرهم في مقابلة إنعامنا عليهم إلى الكفر. و قيل: اللام للأمر على وجه التهديد أي ليفعلوا ما شاؤوا فإنّ اللّه يجازيهم جزاءهم و تمتّعوا أيّها الكفّار في الدنيا قليلا [فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما يحلّ بكم في العاقبة من العقاب و أليم العذاب.

قوله: [سورة النحل (16): الآيات 56 الى 60]

وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

ثمّ ذكر سبحانه فعلا آخر من أفعال المشركين فقال: [وَ يَجْعَلُونَ المشركون

ص: 170

[لِما لا يَعْلَمُونَ و لا يفهمون و لا يضرّون و لا ينفعون [نَصِيباً] من أموالهم من الحرث و الزرع و غيره بقولهم: هذا للّه و هذا لشركائهم، و ربّما اعتقدوا في بعض الأشياء أنّه إنّما حصل بإعانة بعض الأصنام كما أنّ المنجّمين يوزّعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة فيقولون بزعمهم: لزحل كذا من المعادن و النبات، و للمشتري كذا، فكذا هاهنا.

فأقسم اللّه سبحانه بنفسه أنّه يسألهم، و هذا تهديد شديد. قيل: هذا السؤال يقع عند الموت و معاينة ملائكة العذاب. و قيل: عند عذاب القبر. و قيل: في الآخرة.

[وَ] من كلماتهم الفاسدة أنّهم [يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ و هم خزاعة و كنانة الّذين يقولون: الملائكة بنات اللّه. و يضيفون إليه ما يكرهونه و يجعلون لأنفسهم ما يحبّونه و يشتهونه لأنّهم كانوا يكرهون البنات و يحبّون البنين، فنزّه نفسه عن هذه المقالة. و إنّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لأنّهم لمّا كانوا مستورين عن العيون أشبهوا النساء في الاستتار، كما أنّ قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر فأطلقوا عليه لفظ التأنيث.

قوله: [وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بأنّه قد ولد لهم بنت [ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار وجهه متغيّرا إلى السواد لما يظهر فيه أثر الكراهة و الكأبة و هو ممتلئ غيظا و كراهة، و الكظيم المغموم الّذي يطبق فاه لا يتكلّم من الغيظ و الحزن، مأخوذ ممّا يشدّ به فم القربة.

قوله: [يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يستخفي من القوم الّذين يستخبرونه عمّا ولد له استنكافا منه و خجلا و حياء [مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من الأنثى، و قبحه عنده و بنظره يميل نفسه و يتدبّر في أمر البنت المولود له أ يمسك المولود على ذلّ و تحمّل العار؟ أم يخفيه في التراب و يدفنه حيّا؟ و هو الوئد الّذي كان من عادتهم دفنه [أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ في ارتكاب هذا الأمر الشنيع و كانوا يفعلون هذا الفعل خوفا من الفقر و خوفا من لحوق العار.

و كان الرجل في الجاهليّة إذا ظهر آثار الطلق بامرأته اختفى من القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكرا انبسط روح قلبه و وصل إلى الأطراف لا سيّما الوجه فأشرق الوجه و تلألأ و استنار و ظهر الفرح في بشرته من تلك البشارة، و إن كان أنثى احتبس الروح في

ص: 171

باطن القلب فاغبرّ و اسودّ وجهه و بشرته و كمد.

و روي أنّ قيس بن عاصم قال: يا رسول اللّه إنّي واريت ثماني بنات في الجاهليّة، فقال عليه السّلام: أعتق عن كلّ واحدة منهنّ رقبة. و قال صلّى اللّه عليه و آله: ما كان في الجاهليّة فقد هدمه الإسلام و ما في الإسلام يهدمه الاستغفار. و كانوا مختلفين في قتل البنات: فمنهم من يحفر الحفيرة و يدفنها حيّا فيها إلى أن تموت، و منهم من يرميها من شاهق جبل، و منهم من يغرقها، و منهم من يذبحها فبئس الحكم حكمهم.

ثمّ قال سبحانه: [لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] أي إنّ لهؤلاء الكفّار الّذين وصفهم اللّه [مَثَلُ السَّوْءِ] و هي الصفة القبيحة كسواد الوجه و الحزن و الجهل و الاحتياج و الخوف من الفقر [وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى و الصفة الحسنة من السلطنة و القدرة و الاستغناء عن الولد و الصاحبة.

فلو قيل: كيف يمكن الجمع بين قوله: «وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى و قوله: «فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ»؟ (1) الجواب أنّ المراد بالأمثال الأشباه أي لا تشبّهوا اللّه بشي ء، و المراد بالمثل الأعلى الوصف الأعلى و هو كونه قادرا عالما حيّا قيّوما و أمثاله، و هو الغالب المقتدر على حكمه.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 61 الى 65]

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

احتجّ الطاعنون بعصمة الأنبياء بقوله: [وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ فأضاف الظلم إلى كلّ الناس و لا شكّ أنّ الظلم من المعاصي و هذا يقتضى كون كلّ إنسان آتيا بالذنب و المعصية.

ص: 172


1- السورة: 74.

و الجواب أنّه ثبت بالدليل و النصّ أنّ كلّ الناس ليسوا ظالمين لأنّه تعالى قال:

«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ» (1) و لو كان المقتصد و السابق ظالما لفسد ذلك التقسيم، فعلم أنّ المقتصدين و السابقين ليسوا ظالمين، و لا يجوز أن يقال: كلّ الخلق ظالمون.

و بالجملة المعنى: أخبر سبحانه أنّه لو كان يؤاخذ الكفّار و العصاة و يعاجلهم بالعقوبة لما ترك على ظهر الأرض من الظالمين من أحد و لكن يمهلهم و يؤخّرهم إلى وقت معلوم مسمّى و هو يوم القيامة أو وقت لا يكون في بقائهم مصلحة كما إذا كان يعرف أنّهم لا يؤمنون و لا يخرج من نسلهم مؤمن، و إنّما يؤخّرهم تفضّلا منه سبحانه ليراجعوا التوبة أو لما في ذلك من المصلحة.

قالت المعتزلة: إنّ الآية صريحة على أنّ الظلم و المعاصي ليست فعلا للّه بل يكون أفعال العباد لأنّه تعالى أضاف ظلم العباد إليهم و ما أضافه إلى نفسه؛ فلو كان خلقا للّه لكانت مؤاخذتهم لها ظلما من اللّه تعالى، و لمّا منع اللّه الظلم عن العباد فبأن يكون سبحانه منزّها عن الظلم أولى.

و يدلّ أيضا دليل آخر على هذا المعنى و هو أنّ أعمالهم مؤثّرة في وجوب الثواب و العقاب.

و هاهنا مسألة: و هي أنّ الّذي معلوم من حاله أنّه لا يؤمن فيما بعد هل يجوز اخترامه (2) أولا؟ فقال بعض: يجوز لأنّ التكليف تفضّل فلا تجب التبقية، و هو قول أبي هاشم و إليه ذهب المرتضى قدّس روحه. و قال آخرون: لا يجوز اخترامه و يجب تبقيته، و هو قول البلخيّ و أبي عليّ الجبّائيّ و إليه ذهب الشيخ المفيد أبو عبد اللّه.

فلو قيل: إنّ الظالم يستحقّ العقوبة بظلمه فما بال الحيوانات تؤخذ بغير جرم كزمان نوح مثلا؟ لأنّ الظالم يظلم نفسه و غيره حتّى أنّ الحبارى تهلك في أو كارها بظلم الظالم.

فالجواب أنّه لها كالأمراض النازلة بالأولياء و غير المكلّفين فيعوّضون عنها، ثمّ إنّهاك.

ص: 173


1- فاطر: 32.
2- الاخترام: الإهلاك.

خلقت للمكلّفين فإذا هلك المكلّف فلا فائدة في بقائها بعدهم.

قوله تعالى: [فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ سبق معناه كرارا.

قوله: [وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ حكى عن الكفّار أنّهم يجعلون ما يكرهون لأنفسهم للّه أي البنات الّتي يكرهونها يصفون اللّه بذلك و يحكمون به له [وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ و هو ما يقولون: [أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي لهم البنون، و قيل: معناه أنّهم مع قبح قولهم يزعمون أنّهم فازوا برضوان اللّه بسبب هذا القول القبيح و أنّهم يعتقدون بأنّهم على الدين الحقّ و المذهب الحسن و يحكمون لأنفسهم بالجنّة و الثواب من اللّه.

فإن قيل: كيف يحكمون بهذا الحكم و هم كانوا منكرين للقيامة و الحشر؟

قلنا: كلّهم ما كانوا منكرين للقيامة و كان في العرب جمع يقرّون بالبعث، و كذلك كانوا يربطون البعير النفيس و الفرس الجواد على قبر الميّت و يتركونه إلى أن يموت و يقولون:

إنّه يحشر فيكون معه مركوبه. و كان بعضهم يقول: إن كان محمّد صادقا فيما يقول من أمر البعث و الآخرة فنحن أهل الجنّة، و هذا القول منهم كذب ألسنتهم.

و قرئ «الكذب» بضمّ الذال و الباء (1) على معنى الصفة للألسنة جمع كاذب.

فردّ سبحانه قولهم، فقال: [لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ] أي ليس الأمر على ما وصفوا و كسب فعلهم و قولهم حقّا أنّ لهم النار أو لا بدّ أنّ لهم النار [وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ قرئ بصيغة الفاعل أي إنّهم مفرطون على أنفسهم بالذنوب و الافتراء على اللّه، أو المعنى أي صاروا ذوي فرط و سبقة و عجلة إلى النار، كأنّهم أرسلوا من يهيّئ مواضع في النار. و أمّا بصيغة المفعول المعنى أنّهم متروكون في النار؛ قال الكسائيّ: ما أفرطت أي ما تركت أو مفرطون أي معجّلون.

ثمّ أقسم سبحانه بأنّ هذا الصنع الّذي يصدر من مشركي قريش قد صدر عن سائر الأمم قبلك [فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ تسويلاتهم و كفرهم [فَهُوَ] أي الشيطان [وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ في الدنيا و يتّبعون إغواءه فأمّا يوم القيامة فيتبرّأ بعضهم من بعض. و قيل: المراد باليوم يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم [وَ لَهُمْ أي التابع و المتبوع [عَذابٌ أَلِيمٌ موجع.

قالت المعتزلة: الآية تدلّ على فساد قول المجبّرة من وجوه:ظ.

ص: 174


1- بضم الكاف و الذال. ظ.

الاول: لو لا كان خالق أعمالهم هو اللّه فلا فائدة في التزيين.

و الثاني أنّ ذلك التزيين لمّا كان بخلق اللّه لم يجز ذمّ الشيطان بسببه.

و الثالث أنّ التزيين هو الّذي يدعو الإنسان إلى الفعل، و إذا كان حصول الفعل فيه بخلق اللّه كان ضروريّا فلم يكن التزيين داعيا.

الرابع أنّ على قولهم، الخالق لذلك العمل أجدر أن يكون وليّهم من الداعي لهم.

و الخامس أنّه تعالى أضاف التزيين إلى الشيطان، و لو كان ذلك المزيّن هو اللّه لكانت إضافته إلى الشيطان كذبا.

قوله: [وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ثمّ بيّن أنّه ما أنزلنا عليك القرآن [إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ بواسطة بيانات هذا القرآن الأشياء الّتي اختلفوا فيها، و ما اختلفوا فيه هو الدين مثل التوحيد و الشرك و الطاعة و المعصية و اثبات المعاد و نفيه و مثل الأحكام من الواجب و الحرام و غيره، و أنزلناه [هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ثمّ أخبر عن بعض نعمه فقال: [وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ] غيثا و مطرا فأحيا بذلك الماء الأرض بعد موتها أي أحياها بالنبات بعد جدوبها و قحطها و يبسها [إِنَّ فِي ذلِكَ الإنزال لحجّة و آية [لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ الأدلّة بعين الإنصاف و التدبّر.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 66 الى 70]

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

اعلم أنّ المقصود الأعظم من القرآن العظيم الإلهيّات و النبوّات و المعاد و الأحكام فلا جرم يذكر في الأدلّة نفي الإلهيّات بالأجرام الفلكيّة و الإنسان و الحيوان و النبات و عجائب الأرض و البحار و أمثالها فعطف هذه الآية على ما تقدّم فقال:

ص: 175

[وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ أي الأنعام الثلاثة من الإبل و البقر و الغنم لعظة و اعتبارا و دلالة على قدرة اللّه [نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي من بعض ما في بطونه، قال الكسائيّ:

لفظ «الأنعام» مفرد و معناه جمع كالرهط و القوم فيجوز أن يؤتى الضمير بالتذكير و التأنيث كما قال في سورة المؤمنين «فِي بُطُونِها» (1) [مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ قال ابن عبّاس: إذا استقرّ العلف في الكرش صار أسفله و ثفله فرثا أي سرجينا و أعلاه دما و أوسطه لبنا فيجري الدم في العروق و اللبن في الضرع و يبقى الفرث و هو السرجين فذلك قوله: «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً» لا يشوبه الدم و لا الفرث [سائِغاً] مريئا في حلوقهم، و إنّ من قدر على إخراج لبن أبيض من بين الفرث و الدم من غير أن يختلط بهما قادر على إخراج الموتى من الأرض و أيضا لكم طريق استدلال و عظة فيما أخرج لكم.

[وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ ما [تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً] و ماء الموصولة مضمرة في الكلام كقوله سبحانه: «وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً» (2) و التقدير: ما ثمّ رأيت نعيما، كذلك هاهنا.

و في تفسير السكر وجوه: الأوّل الخمر سمّيت بالمصدر من سكر سكرا و سكرا نحو رشدا و رشدا.

فإن قيل: الخمر محرّمة فكيف ذكرها اللّه في معرض الإنعام؟ فأجابوا أنّ هذه السورة مكّيّة و تحريم الخمر نزل في سورة المائدة فكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر.

و قيل: لا حاجة إلى إلزام النسخ لأنّه خاطب المشركين و عدّ أنعامه عليهم من الثمرات، و الخمر من أشربتهم فكانت نعمة عليهم.

و قيل: المراد بالسكر ما يشرب من أنواع الأشربة ممّا يحلّ و الرزق الحسن ممّا يؤكل فالمعنى حينئذ: تتّخذون منها أصنافا من الأشربة و الأطعمة.

و قال ابن عبّاس: السكر ما حرّم من ثمرها و الرزق الحسن ما احلّ من ثمرها و أنّه نبّه سبحانه في هذه الآية على تحريمها لأنّه ميّز بينهما و بين الرزق، فوجب أنّ الرجوع عن كونه حسنا بحسب الشريعة و هذا إنّما يكون كذلك إذا كانت محرّمة.

ص: 176


1- الآية ال: 21.
2- الدهر: 20.

قال الطبرسيّ: و قد أخطأ من تعلّق بهذه الآية في تحليل النبيذ لأنّه سبحانه إنّما أخبر أنّه خلق هذه الثمار لينتفعوا بها فاتّخذوا منها ما هو محرّم عليهم، و لا فرق بين قوله هذا و بين قوله: «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» (1).

[إِنَّ فِي ذلِكَ و هذه الأحوال لا يقدر عليها إلّا إله، فيحصل بالتفكّر فيها حجّة لمن تفكّر و تعقّل.

و هاهنا تحقيق و هو أنّه أنّ اللبن و الدم يتولّدان في الكرش بمادّتهما و لذلك ما ترى في كرشها دما و لا لبنا و لكنّ الحيوان إذا تناول الغذاء وصل ذلك الغذاء إلى معدته إن كان إنسانا و إلى كرشه أن كان من الأنعام فإذا طبخ و حصل الهضم الأوّل فما كان صافيا انجذب إلى الكبد، و ما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء، ثمّ ذلك المجذوب منه في الكبد ينضج و ينطبخ في الكبد و يصير دما، و ذلك هو الهضم الثاني، و يكون ذلك الدم مخلوطا بالصفراء و السوداء و زيادة المائيّة، فما كان من الصفراء فيذهب إلى المرارة، و ما كان من السوداء فيذهب إلى الطحال، و ما كان من الماء فيذهب إلى الرئة و الكلية و منها إلى المثانة و ما صفى من الدم فإنّه يدخل في الأوردة و هي العروق النابتة من الكبد و هناك يحصل الهضم الثالث، و بين الكبد و الضرع عروق كثيرة فيصبّ الدم من تلك العروق إلى الضرع، و الضرع لحم غدديّ رخو أبيض فيقلّب اللّه الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الأبيض الغدديّ الرخو من صورة الدم إلى صورة اللبن.

فإن قيل: هذه المعاني حاصلة في الحيوان الذكر، فلم لم يحصل منه اللبن؟ لأنّ مزاج الذكر من كلّ حيوان يجب أن يكون حارّا يابسا و مزاج الأنثى باردا رطبا و الحكمة فيه أنّ الأنثى لا بدّ من مزيد الرطوبة و رطوبة كثيرة لتولّد الولد و لو لا الرطوبة الكثيرة غالبة لما كان بدن الأمّ قابلا لتمدّد الولد و ما كان يحصل الاتّساع لأن يكبر الولد، ثمّ إنّ الرطوبات تصير مادّة لنموّ بدن الجنين فحينئذ عند انفصال الجنين تنصبّ إلى الثدي و الضرع لتصير مادّة لغذاء الطفل فالسبب الّذي لأجله يتولّد اللبن من الدم في الأنثى غير حاصل في الذكر فظهر الفرق. فالمراد من قوله: «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ» يعني هذه الثلاثة

ص: 177


1- السورة: 92.

تتولّد في موضع واحد و بداهة العقل يحكم بأنّ هذه الكيفيّات المختلفة المتفاوتة المتضادّة، لا تحصل إلّا بتدبير الفاعل الحكيم و المدبّر الرحيم.

قوله: [وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي ألهمها، و الوحي على وجوه: منها وحي النبوّة، و منها الإلهام كقوله: «وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى (1) و منها الإشارة كقوله: «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا» (2) و أصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالإخفاء و الاستتار. و المعنى: ألهم اللّه النحل اتّخاذ المنازل و المساكن و الأوكار و البيوت في الجبال و الشجر بيوتا [وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ و يسقفون من الكروم و أمثالها لأجل الخلايا الّتي تعسل فيها. و إنّما أتى بلفظ الأمر و إن كانت النحل ممّا لا يعقل الأمر اتّساعا.

قوله: [ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فانظر أيّها الإنسان إلى هذه الدلائل كيف يهديك إلى معرفة الخالق؟! لأنّه سبحانه بيّن إخراج الألبان من النعم بذلك الترتيب المذكور، ثمّ إخراج السكر و الرزق الحسن من الأثمار، ثمّ إخراج العسل من هذا الحيوان الضعيف بهذا الترتيب الّذي ينبّه بأنّها تبني البيوت من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض، و العقلاء من البشر لا يمكنهم مثل تلك البيوت إلّا بآلات و أدوات كالمسطر و الفرجار.

و قد ثبت في الهندسة أنّ تلك البيوت لو كانت مشكّلة بأشكال سوى المسدّسات فإنّه كان يبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة، فإهداء هذا الضعيف ألى هذه الحكمة الخفيّة ليس إلّا بإلهام الخالق الحكيم.

ثمّ إنّ النحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرئيس للبقيّة و هو عظيم الجثّة و نافذ الحكم على البقيّة و هم يخدمونه و يحملونه عند الطيران، و ذلك من الأعاجيب، ثمّ إنّها قد تنفر من و كرها و تذهب مع الجمعيّة إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى و كرها ضربوا الطنبور و الآلات الموسيقيا و بواسطة تلك الألحان يقدرون على عودها، و هذه حالة عجيبة فمعنى الوحي بالنسبة إلى الموحى إليه معنى خاصّ.

ص: 178


1- القصص: 7.
2- مريم: 11.

و إنّما سمّي هذا الحيوان نحلا لأنّ اللّه سبحانه نحل الناس العسل الّذي يخرج منها، و النحل يذكّر و يؤنّث، و بلغة أهل الحجاز مؤنّثة و كذلك كلّ جمع ليس بينه و بين واحده إلّا الهاء.

و بالجملة قوله: «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» اعلم أنّ اللّه تعالى دبّر هذا العالم على وجه لطيف كلّه، مثلا يحدث في الهواء أحيانا طلّ لطيف في الليالي و يقع ذلك الطلّ على أوراق الأشجار و أزهارها و تكون تلك الأجزاء الطلّيّة صغيرة متفرّقة على الأزهار و الأوراق بحيث لا يرى، و قد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة كالترنجبين و المنّ، و القسم الأوّل من الطلّ فهو الّذي ألهم اللّه هذا النحل حتّى تلتقط تلك الذرّات غير المرئيّة في الأزهار بأفواهها و تأكلها و تغتذي بها فإذا شبعت التقطت مرّة اخرى من تلك الأجزاء و ذهبت بها إلى بيوتها و وضعتها هناك مدّخرة لنفسها غذاءها فإذا اجتمعت المدّخرة فذاك هو العسل.

و من الناس من يقول: إنّ النحل يأكل من تلك الأجزاء الطلّيّة من الأزهار و الأوراق العطيرة أشياء ثمّ إنّه تعالى يقلّب المأكول في داخل بدنها عسلا ثمّ إنّها تقي ء مرّة اخرى فذاك هو العسل، و القول الأوّل أقوى لأنّ طبيعة الترنجبين أقرب من العسل لأنّا نشاهد أنّ هذا النحل إنّما يتغذّى بالعسل، و لذلك أنّا إذا استخرجنا العسل من بيوت النحل نترك لها بقيّة من ذلك لأجل أن يتغذّى بها.

فقوله: «كُلِي» معناه ثمّ كلي من كلّ ثمرة تشتهينها من هذه الأجزاء الطلّيّة على الأزهار فإذا أكلتها فاسلكي في طريق الّذي ألهمك اللّه و ذلّل ذلك الطريق و سخّره لك.

و قيل: إنّ «ذُلُلًا» حال عن النحل لا عن الطريق أي فاسلكي منقادة و مقهورة لأمر ربّك هذا، و إنّ اللّه سبحانه جعل لنظم العالم لكلّ فئة و جماعة يعسوبا هو آمرها يقدّمها و يحامي عنها و يسوسها، و الجماعة تتبعه و تقتفي أثره و متى فقدته انحلّ نظامها و تفرّقت شذر مذر، و إلى هذا المعنى أشار عليّ عليه السّلام و قال: أنا يعسوب المؤمنين.

ثمّ قال: [يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها] و هذا الكلام رجوع من الخطاب إلى الغيبة للالتفات

ص: 179

لأنّ الغرض من هذا البيان أن يحتجّ المكلّف به على قدرة اللّه و حسن تدبيره فكأنّه عدل عن خطاب النحل بما سبق ذكره و خاطب الإنسان أي إنّا ألهمنا النحل بذلك الترتيب لأجل أن يخرج من بطونها [شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ و المراد من بطونها أي من أفواهها و كلّ تجويف في داخل البدن فإنّه يسمّى بطنا أ لا ترى أنّهم يقولون: بطون الدماغ. هذا على معنى القسم الأوّل و على معنى القسم الثاني بكونها تقي ء، فالمعنى على سبيل الحقيقة و كونه شراب معلوم لأنّه تارة يشرب وحده و تارة يتّخذ منه الأشربة، و كونه مختلف اللون منه أحمر و أصفر و أبيض.

و المقصود من هذا الكلام إبطال القول بالطبع لأنّ هذا الجسم مع كونه متساوي الطليعة لمّا حدث على الألوان المختلفة دلّ على أنّ حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار لا لأجل الطبيعة لأنّ الطبيعة الواحدة لا تختلف. (1) قوله: [فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ و فيه قولان: الأوّل- و هو الصحيح- أنّه صفة للعسل، فإن قيل: كيف يكون شفاء للناس و هو يضرّ بالصفراء و يهيّج المرار؟ قلنا: إنّه لم يقل لكلّ الناس و لمّا كان شفاء للبعض صلح بأن يوصف. و القول الثاني أنّ الضمير عائد إلى القرآن و على هذا المعنى فقصّة النحل تمّت عند قوله: «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» ثمّ ابتدأ و قال: «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» أي في هذا القرآن ما هو شفاء للناس من الكفر و البدعة.

و يؤيّد قول من قال: إنّ الضمير عائد إلى العسل ما روي عن أبي سعيد الخدريّ أنّه جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ أخي يشتكي بطنه فقال صلّى اللّه عليه و آله: اسقه عسلا.

فذهب الرجل و رجع و قال: قد سقيته فلم يغن عنه شيئا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: اذهب و اسقه عسلا.

فذهب فسقاه فكأنّما نشط من عقال فقال صلّى اللّه عليه و آله: صدق اللّه و كذب بطن أخيك. و حملوا قوله صلّى اللّه عليه و آله: على قوله تعالى: «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ».

قوله: [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي إنّ في تلك الدقائق و المعارف دلالات على وجود الواحد الأحد المدبّر للأمور لمن تفكّر و اعتبر.ت.

ص: 180


1- اختلاف الألوان ناش عن صغر النحل و كبرها. و الدليل على اللّه اظهر من ان نحتاج الى هذه التكلفات.

قوله: [وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ] أي أوجدكم و أنعم عليكم بضروب النعم الدينيّة و الدنيويّة، ثمّ يميتكم و يفنيكم و منكم من يبقيه حتّى يصير إلى أدون العمر و يصل إلى حال الهرم و الخرف فيظهر النقصان في جوارحه و حواسّه، و رووا عن عليّ عليه السّلام أنّ أرذل العمر خمس و سبعون سنة. و قيل: تسعون سنة.

قوله: «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ» أي ليرجع إلى حال الطفوليّة بنسيان ما كان يعلم لأجل الكبر فيصير كأنّه لا يعلم شيئا ممّا كان علمه، إنّ اللّه عليم بمصالح عباده قدير على تغيير أحوالهم.

و هاهنا تحقيق شريف: و هو أنّ الطباعيّين قالوا: إنّ بدن الإنسان مخلوق من المنيّ و من دم الطمث، و المنيّ و الدم جوهران رطبان حارّان و الحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قلّلت رطوبته و أفادته نوع يبس فلا يزال ما في هذين الجوهرين من قوّة الحرارة يقلّل ما فيه من الرطوبة حتّى تتصلّب الأعضاء فإذا تمّ تكوّن البدن و كمل بتفصّل الجنين.

ثمّ إنّ ما في البدن من الحرارة يعمل في الرطوبة و يقلّلها و تحصل للبدن ثلاثة أحوال:

الاولى أن تكون رطوبة البدن زائدة على حرارته و حينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدّد و النماء و الازدياد، و ذلك هو سنّ النشوء و النماء و ذلك نهايته إلى ثلاثين أو خمس و ثلاثين سنة.

الحالة الثانية أن تصير رطوبات البدن أقلّ ما كانت فتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزيّة إلّا أنّها لا يكون زائدة على قدر الرطوبة و هذا هو سنّ الوقوف و غايته خمس سنين، و عند تمامه يتمّ الأربعون.

الحالة الثالثة أن تقلّ الرطوبات و تصير بحيث لا تكون وافية بحفظ الحرارة الغريزيّة و عند ذلك يظهر النقصان، ثمّ هذا النقصان قد يكون خفيّا و هو سنّ الكهولة، و تمامه إلى ستّين سنة، ثمّ يكون ظاهرا و هو سنّ الشيخوخية و تمامه إلى مائة و عشرين سنة. هذا تمام القول منهم.

ص: 181

قال الرازيّ: و هذا القول ضعيف جدّا لأنّا نقول: إنّ الحرارة الغريزيّة في بدن الإنسان الكامل إمّا أن يكون هي عين ما كان حاصلا في جوهر النطفة أو صارت أزيد ممّا كانت و الأوّل باطل، لأنّ الحارّ الغريزيّ الحاصل في جوهر النطفة كان بمقدار جرم النطفة و لا شكّ أن جرمها كان قليلا صغيرا فهذا البدن بعد كبره لو لم يحصل فيه من الحرارة الغريزيّة إلّا ذلك القدر كان في غاية القلّة و لم يظهر فيه أثر في هذا البدن أصلا، و أمّا الثاني بأنّ الحرارة الغريزيّة تتزايد بحسب تزايد الجثّة و البدن و إذا تزايدت الحرارة الغريزيّه ساعة فساعة و ثبت أنّ تزايدها موجب تزايد القوّة و الصحّة ساعة فساعة فوجب أن يبقى البدن الحيوانيّ أبدا في التزايد و التكامل، و حيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنّ ازدياد حال البدن الحيوانيّ و انتقاصه ليس بحسب الطبيعة بل بسبب الفاعل المختار.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 71 الى 74]

وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)

و هذا بيان آخر من أحوال الإنسان حال حياته و ذلك أنّا نرى أكيس الناس و أكثرهم فهما و عقلا يفنى عمره في طلب القدر القليل من المال و لا يتيسّر له ذلك، و نرى أجهل الناس و أقلّهم عقلا تنفتح عليه أبواب الدنيا، و كلّ شي ء خطر بباله فإنّه يحصل له في الحال و لو كان السبب جهد الإنسان و عقله لوجب أن يكون الأعقل أغنى و أفضل، لكنّ الأمر ليس كذلك؛ قال المتنبّي:

بالجدّ لا بالمساعي يدرك الشرف تمشي الجدود أقوام و إن قعدوا

و قال ابن الراونديّ:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

ص: 182

فلمّا رأينا أنّ الأعقل أقلّ نصيبا و الأخسّ و الأجهل أوفر نصيبا علمنا أنّ ذلك بقسمة القسّام كما قال سبحانه: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا». (1) قال الشافعيّ:

و من الدليل على القضاء و كونه بؤس اللبيب و طيب عيش الأحمق

و هذا التفاوت غير مختصّ بالمال بل في الذكاء و البلادة، و الحسن و القبح، و العقل و الحمق، و الصحّة و السقم، و بالجملة وسّع سبحانه على بعض و قتر على بعض على حسب المصلحة.

قوله: [فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي أي بجاعلي [رِزْقِهِمْ في المعنى قولان:

أحدهما أنّ الخلق لا يشركون عبيدهم و أزواجهم في أموالهم حتّى يكونوا سواء، و يرون ذلك نقصا فلا يرضون لأنفسهم هذا الأمر فكيف يشركون عبدي و مخلوقي في ملكي و سلطاني، و يوجّهون العبادة إليهم؟ و كيف أنتم أيّها النصارى تشركون عيسى عبدي معي شريكا في العبادة؟ قيل: نزلت في نصارى نجران.

و المعنى الثاني أنّ الّذين فضّلهم اللّه في الرزق من الأحرار لا يرزقون مماليكهم، بل اللّه رازق المالك و المملوك؛ لأنّ الّذي ينفقه المولى على المملوك إنّما ينفقه ممّا رزقه اللّه فاللّه رازقهم جميعا.

[فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ] أي المالك و المملوك في ذلك الرزق. و لمّا كان المعطي لكلّ الخيرات و الرزق هو اللّه فمن أثبت شريكا للّه فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات فكان جاحدا لكونها من عند اللّه كما أنّ أهل الطبائع و أهل النجوم يضيفون أكثر هذه النعم إلى الطبائع و إلى النجوم و هذا معنى [أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ .

قوله: [وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً] و هذا نوع آخر في تعداد نعم اللّه على عبيده، المراد أنّه سبحانه خلق حوّاء ابتداء ثمّ الحكم عامّ في جميع الذكور و الإناث أي إنّه خلق النساء من أنفسكم و أصلكم و سنخكم ليتزوّج بهنّ الذكور، و من أنفسكم أي بعضكم من بعض.

قال الطبيعيّون: إنّ المنيّ إذا انصبّ إلى الحصّة اليمنى من الذكر و انصبّ منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان النسل ذكرا تامّا في الذكورة، و إن انصبّ إلى الحصّة

ص: 183


1- الزخرف: 32.

اليسرى من الرجل و انصبّ منها إلى الجانب الأيسر من الرحم، كان النسل أنثى تامّا في الأنوثيّة، و إن انصبّ إلى الحصّة اليمنى، ثمّ انصبّ إلى جانب الأيسر من الرحم كان الولد ذكرا في طبيعة الإناث، و إن انصبّ إلى الحصّة اليسرى، ثمّ انصبّ منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان النسل أنثى في طبيعة الذكور، و كلّها بتقدير العزيز العليم.

قوله: [وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً] و الحفيد من يسرع في العمل بطاعتك و الأعوان و الخدام و المراد أنّه يحصل لكم من نسائكم لكم بنين و أعوان. و قيل:

الحفيد قوم المرأة.

[وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من المطعومات اللذيذة سواء كانت من النبات أو من الحيوان، و مع ذلك يصدّقون الباطل أنّ لي شريكا و صاحبة و ولدا، و يكفرون بنعمة اللّه أي يحرّمون ما أحلّ اللّه و يحلّلون ما حرّم اللّه [وَ يَعْبُدُونَ غير [اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ و لا يقدر على قليل و لا كثير [وَ لا يَسْتَطِيعُونَ و ذكر الجمع بالواو و النون، و هو مختصّ بأهل العلم لأنّه سبحانه عبّر على عقيدتهم كما أنّه سبحانه عبّر «بما» كما هو الحقيقة في نفس الأمر.

[فَلا] تجعلوا [لِلَّهِ الأشباه و الأمثال في العبادة [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ضرر عبادتكم للغير و إثبات الشريك [وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

قوله تعالى: [سورة النحل (16): آية 75]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)

. أكّد إبطال مذهب عبدة الأصنام بهذا المثل، المراد أنّا لو فرضنا [عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ] و فرضنا حرّا كريما غنيّا كثير الإنفاق سرّا و جهرا فصريح العقل يحكم بأنّه لا يجوز التسوية بينهما في الإجلال و التعظيم فلمّا لم يجز التسوية بينهما مع أنّهما مستويان في البشريّة فكيف يجوز للعاقل أن يسوّي بين اللّه القادر على الرزق و الحياة و بين الأصنام الّتي لا تملك و لا تقدر؟ و قيل: إنّ هذا المثل للكافر و المؤمن لأنّ الكافر لا خير عنده و المؤمن يكسب الخير.

قوله: [وَ مَنْ رَزَقْناهُ يريد حرّا ملّكناه مالا و نعمة [فَهُوَ يُنْفِقُ من ذلك المال [سِرًّا

ص: 184

وَ جَهْراً] لا يخاف من أحد، و إنّما قيّد العبد بالمملوك احترازا عن المكاتب، أو المراد عباد اللّه لأنّهم أيضا عبيد.

و احتجّ الفقهاء بهذه الآية على أنّ العبد لا يملك شيئا، فإن قيل: ظاهر الآية تدلّ على أنّ عبدا من العبيد لا يقدر على شي ء، فلم قلتم: كلّ عبد كذلك؟ لأنّه ثبت في اصول الفقه أنّ الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بالعلّيّة لذلك الحكم فكونه عبدا وصف مشعر بالمقهوريّة و الذلّة.

و قوله: «لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ» حكم مذكور عقيبه؛ فهذا يقتضي أنّ العلّة- لعدم القدرة على شي ء- كونه موصوفا بالعبديّة فثبت العموم.

و هاهنا دليل آخر و هو أنّه تعالى قال بعده: «وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً» فميّز هذا القسم الثاني عن القسم الأوّل و هو العبد بهذه الصفة فوجب أن لا يحصل هذا الوصف للعبد حتّى يحصل الفرق بين القسم الثاني و القسم الأوّل، و لو ملك العبد لكان اللّه قد ملّكه رزقا حسنا.

ثمّ قال: [هَلْ يَسْتَوُونَ على سبيل الإنكار أي لا يستوون.

قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ المعنى: حقيقة الحمد للّه، و ليس الحمد للأصنام. أو قل يا محمّد:

الحمد للّه. و لكن مع هذه البيانات [أَكْثَرُهُمْ لا يفهمون.

قوله: [سورة النحل (16): الآيات 76 الى 77]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (77)

ثمّ [ضَرَبَ سبحانه [مَثَلًا] آخر لإبطال عبدة الأصنام و هو أنّ الأبكم العاجز العيّ المعجم المقطوع اللسان، أو معنى «الأبكم» المطبق الّذي لا يسمع و لا يبصر مع أنّه غير قادر على أمر من الأمور حقيرا كان الأمر أو جليلا، الصفة الثانية [وَ هُوَ كَلٌ و ثقيل على مولاه.

الصفة الثالثة [أَيْنَما] يرسل [مَوْلاهُ لأمر يرجع خائبا [هَلْ يَسْتَوِي مثل هذا الرجل مع

ص: 185

رجل فصيح [يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ و الحقّ و يدعو إلى الخير و الرشد [وَ هُوَ عَلى صِراطٍ] و دين قويم لا يستوون البتّة.

و حاصل المعنى أنّ الأبكم العاجز أذا لا يكون مساويا في الفضل مع الناطق الكامل مع استوائهم في البشريّة فلأن يحكم بأنّ الجماد لا يكون مساويا لربّ العالمين في المعبوديّة كان أولى.

قوله: [وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ و لمّا مثّل المؤمن بالّذي يأمر بالعدل، و الكافر بالأبكم وصف نفسه سبحانه أنّه المختصّ بعلم الغيب و هو ما غاب عن جميع الخلائق. ثمّ قال بعد ذكر العلم ذكر القدرة: و ما أمرنا في الساعة إلّا كطرف العين أو كردّ البصر و لا يقتدر عليه شي ء. قيل: معنى «أو» بل هو في الأمر أقرب من ذلك؛ لأنّ اللّه على كلّ شي ء قدير.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 78 الى 80]

وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (80)

المعنى: ثمّ عدّد نعما بقوله تعالى: [وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ منعما عليكم بذلك و أنتم [لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً] من منافعكم و مضارّكم، و تفضّل عليكم بالحواسّ الصحيحة الّتي هي طرق المدركات، و أنعم عليكم بالقلوب الّتي تفقهون بها الأشياء لتعقلوا عظمة اللّه.

و الأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة و غراب و لم يجمع فؤاد على أكثر العدد و إنّما جمع على القلّة لأنّ السمع و البصر كثيران و إنّ الفؤاد قليل؛ لأنّ الفؤاد خلق للمعارف الإلهيّة و أكثر الخلق ليسوا كذلك بل مشغولون بالأفعال البهيميّة و الصفات السبعيّة فكأنّ فؤادهم ليس بفؤاد و لهذا أتى بجمع القلّة.

ص: 186

قوله: [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروه و تحمدوه.

قوله: [أَ لَمْ يَرَوْا] و قرئ بالتاء، ألم يتفكّروا و ينظروا [إِلَى الطَّيْرِ] مذلّلات للطيران من غير أن يعتمد على شي ء [ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ من السقوط على الأرض من الهواء فيمسك الهواء تحت الطير حتّى لا تقع كإمساك السابح في الماء حتّى لا ينزل فيه فخلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران و أعطاه جناحا يبسطه مرّة و يكسره مرّة مثل ما يسبح السابح في الماء، و خلق الهواء خلقة لطيفة رقيقة يسهل بسببها خرقه و النفاذ فيه، و جسد الطير جسم ثقيل و الجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجوّ معلّقا من غير دعامة تحته و لا علاقة فوقه فحينئذ الممسك هو اللّه.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لدلالات للمؤمنين لأنّهم المنتفعون به.

ثمّ عدّد نعمة اخرى بقوله: [وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً] أي موضعا تسكنون فيه ممّا تتّخذون من الحجر و المدر و الخشب و الآلات و هذا القسم من البيوت لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه، و القسم الثاني القباب و الخيام و الفساطيط و إليها الإشارة بقوله: [وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ حركتكم [وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ و يمكن نقله و تحويله من مكان إلى مكان و كانت العرب تعمل البيوت من الأدم و الشعر [وَ مِنْ أَصْوافِها] و الصوف الغليظ منها و الوبر اللطيف منها للأكسية و الشعر منها للجول و أثاث البيت أو الصوف من الضأن، و الوبر من الإبل، و الشعر من المعزى، و المتاع ما يفرش و يزيّن به في البيت إلى زمان.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 81 الى 83]

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)

ثمّ عدّد نعما أخر أضافها إلى ما عدّده فقال: [وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الأشجار و الأبنية أشياء تستظلّون بها في الحرّ و البرد [وَ جَعَلَ لَكُمْ ... أَكْناناً] أي مواضع تسكنون بها من كهوف و ثقوب و تأوون إليها.

ص: 187

[وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ أي ما تلبسونه من قميص و كساء من القطن و الكتّان و غيرهما [تَقِيكُمُ الْحَرَّ] و لم يقل: و تقيكم البرد لأنّ ما يقي الحرّ من شأنه أن يقي البرد و الّذين خوطبوا بذلك أهل حرّ في بلادهم فحاجتهم إلى وقاية الحرّ أكثر و ذكر أحد الضدّين تنبيه على الآخر؛ لأنّ العلم بأحد الضدّين يستلزم العلم بالضدّ الآخر؛ لأنّ الإنسان متى خطر بباله الحرّ خطر بباله البرد [وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ شدّة الطعن و الضرب و يدفع عنكم سلاح أعدائكم يوم البأس و الشدّة.

[كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أي مثل ما جعل لكم هذه الأشياء و أنعمها عليكم.

[لَعَلَّكُمْ يا أهل مكّة تعلمون و تدبّرون أنّ أحدا لا يقدر على هذا غيره فتوحّدوه و تصدّقوا رسله.

[فَإِنْ تَوَلَّوْا] و أعرضوا عن الإيمان و التصديق بك يا محمّد [فَإِنَّما عَلَيْكَ التبليغ و البلاغ اسم و التبليغ المصدر مثل الكلام و التكليم.

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفار أنّهم [يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها] أي يعرفون نعم اللّه عليهم بما يجدونه من خلق نفوسهم و إكمال عقولهم و خلق المنافع الّتي ينتفعون بها، و مع ذلك ينكرون أنّها من جهة اللّه خاصّة بل يضيفونها إلى أوثان و يشكرون و يشركون الأوثان عليها و يقولون: رزقنا بشفاعة آلهتنا.

و قيل: المعنى أنّهم يعرفون محمّدا أنّه من نعم اللّه لهم ثمّ يكذّبونه و يجحدون نبوّته [وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ لأنّ منهم من لم تقم الحجّة عليه إذ لم يبلغ حدّ التكليف لصغره، أو كان ناقص العقل أو لم تبلغه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر أو لأنّه علم سبحانه أنّ فيهم من يؤمن و يصدّق نبوّته. و قيل: إنّه من الخاصّ في الصيغة و العامّ في المعنى و أراد جميعهم الكافرون.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 84 الى 85]

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)

لمّا بيّن حال منكري النعمة و كفرهم عقّبه بوعيدهم فقال: و اذكر يا محمّد حين

ص: 188

[نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً] و هم الأنبياء و العدول من كلّ عصر يشهدون على الناس بأعمالهم، قال الصادق عليه السّلام: لكلّ زمان و امّة إمام، تبعث كلّ امّة بإمامهم. و فائدة الشهادة مع علم اللّه بذلك أنّ ذلك أهول للنفس و أعظم للعذاب و الخزي و الفضيحة بحضرة الملأ مع جلالة الشهود و لأنّ الناس إذا علموا أنّ العدول يشهدون عند اللّه بين يدي الخلائق فإنّ ذلك يكون زجرا لهم عن المعاصي.

[ثُمَّ لا يُؤْذَنُ للكفّار بالكلام و الاعتذار و لا يسمع لهم العذر و لا يسمع لهم [وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا عتاب هناك لهم لأنّه إنّما يقع العتاب إذا كان الأمر على طريق أنّه إذا عاتبه رجع إلى الرضا. و هذا دليل على أنّه سبحانه راسخ في غضبه و سطوته.

[وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا] أنفسهم بالكفر و العذاب، و وصلوا إليه فعند ذلك لا [يُخَفَّفُ عَنْهُمْ و هم لا يمهلون و تحقيقه ما يقوله المتكلّمون من أنّ العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع.

قوله: [سورة النحل (16): الآيات 86 الى 90]

وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

المعنى أنّه تعالى يبعث الأصنام الّتي كان يعبدها المشركون، و المقصود من إعادتها أنّ المشركين يشاهدونها في غاية الذلّة و الحقارة، و كلّ ذلك ممّا يوجب زيادة الغمّ و الحسرة و تكميل العذاب لهم و إنّما وصفهم بالشركاء لأنّهم جعلوها شركاء في العبادة مع اللّه، و جعلوا لها نصيبا من أموالهم فحكى اللّه عن المشركين أنّهم إذا رأوا تلك الشركاء. [قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ و المقصود من هذا القول من المشركين إحالة هذا الذنب على الأصنام و ظنّوا أنّ هذا القول ينجيهم من عذاب اللّه

ص: 189

او ينقص من عذابهم فعند ذلك تكذّبهم الأصنام.

[فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ يعني أنّ اللّه يخلق الحياة و العقل و النطق في تلك الأصنام حتّى تقول هذا القول، و يقولون للمشركين: إنّا ما أمرناكم بعبادتنا و لكنّكم اخترتم الضلال لأنفسكم و أنّكم لكاذبون في قولكم: إنّا آلهة.

و قوله: [وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ يعني استسلم المشركون و ما عبدوهم من دون اللّه لأمر اللّه في ذلك اليوم، و انقادوا لحكمه قسرا لا اختيارا و اعترفوا بما ينكرونه من توحيد اللّه، و بطل ما كانوا يأملونه و يتمنّونه من الأمانيّ الكاذبة من أنّ آلهتهم تشفع لهم.

قوله: [الَّذِينَ كَفَرُوا] و أعرضوا غيرهم عن اتّباع الحقّ أو المراد صدّوا المسلمين عن البيت الحرام [زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ على صدّهم عن دين اللّه زيادة على كفرهم.

قيل: زدناهم الأفاعي و العقارب في النار لها أنياب كالنخل الطوال، عن ابن مسعود. و قيل:

هي أنهار من صفر مذاب كالنار يعذّبون بها أو زيدوا على عذاب الكفر حيّات كأمثال الفيلة و البخت و عقارب كالبغال الدلم تلسع إحداهنّ فيجد صاحبها سمّها أربعين خريفا.

و قيل: يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدّة عذاب البرد إلى النار بصدّهم عن دين اللّه.

[وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من أمثالهم من البشر و يجوز أن يكون ذلك الشهيد نبيّهم الّذي أرسل إليهم و يمكن أن يكون المؤمنون يشهدون عليهم بما فعلوه من المعاصي [وَ جِئْنا بِكَ يا محمّد [شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ] أي قومك و امّتك و تمّ الكلام.

ثمّ قال: [وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن بيانا لكلّ أمر مشكل و كلّ ما يحتاجون إليه فإنّه ما من شي ء يحتاج الخلق إليه في أمر دينهم إلّا و هو بيّن في الكتاب إمّا بالتنصيص عليه أو من بيان النبيّ الّذي يستنبطه منه و يستنبطه الحجج القائمون

ص: 190

مقامه بنصّه [وَ هُدىً وَ رَحْمَةً] أي القرآن هدى و رحمة و بشارة لهم بالنعيم المقيم.

[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ و هو الإنصاف بين الخلق الّذي ليس فيه ميل و لا اعوجاج و قوله: [الْإِحْسانِ أي الإحسان إلى الناس و التفضّل و البذل في السعي الجميل لأمورهم.

و قيل: المراد من العدل التوحيد و من الإحسان أداء الفرائض. و قيل: العدل في الأفعال و الإحسان في الأقوال. و يأمركم بإعطاء الأقارب حقّهم و صلتهم، و قيل: المراد بذي القربى قرابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الّذين أرادهم اللّه بقوله: «فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى (1) و هو المرويّ عن أبي جعفر قال عليه السّلام: نحن هم.

و هذه الآية و هي «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ، إلخ» أجمع آية في القرآن من الفرائض و السنن و مكارم الأخلاق.

روي عن ابن عبّاس أنّ عثمان بن مظعون الجمحيّ قال: ما أسلمت أوّلا إلّا حياء من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لم يتقرّر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم، فبينما هو يحدّثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء، ثمّ خفضه عن يمينه، ثمّ عاد لمثل ذلك؛ فسألته فقال: بينما أنا احدّثك إذا بجبرئيل نزل عن يميني فقال: يا محمّد إنّ اللّه يأمر بالعدل و الإحسان العدل شهادة أن لا إله إلّا اللّه و الإحسان القيام بالفرائض و إيتاء ذي القربى أي صلة ذي القربى [وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ] الزنى [وَ الْمُنْكَرِ] ما لا يعرف في شريعة و لا سنّة [وَ الْبَغْيِ الاستطالة قال عثمان: فوقع في قلبي الإسلام.

و عن ابن مسعود هي أجمع آية في القرآن، و ليس من خلق سيّئ إلّا نهى اللّه عنه في هذه الآية و ليس من خلق حسن كان يعمل و يستحبّ إلّا أمر اللّه به في هذه الآية.

و قال القاضي في تفسيره، عن ابن ماجة عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: أمر اللّه نبيّه أن يعرض نفسه على قبائل العرب فخرج صلّى اللّه عليه و آله و أنا معه و أبو بكر فوقفنا على مجلس عليهم الوقار فقال أبو بكر: ممّن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فدعا هم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الشهادتين و إلى أن ينصروه، فإنّ قريش كذّبوه، فقال يقرون بن عمر و الشيبانيّ إلى م تدعونا أخا قريش؟ فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ إلخ» فقال يقرون بن

ص: 191


1- الأنفال: 42.

عمرو: دعوت و اللّه إلى مكارم الأخلاق و محاسن الأعمال و لقد أفك قوم كذّبوك و ظاهروا عليك.

و عن عكرمة أنّه صلّى اللّه عليه و آله تلا هذه الآية على الوليد بن مغيرة فاستعاده، ثمّ قال:

و إنّ عليه لطلاوة و أنّ له لحلاوة.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كتب الإحسان على كلّ شي ء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة و ليحدّ أحدكم شفرته و ليرح ذبيحته.

و قيل: معنى قوله تعالى: «وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ» كلّ الذنوب سواء كانت صغيرة أو كبيرة و سواء كانت في القول أو في الفعل. و قيل في المنكر: إنّه الكفر. و قيل في البغي:

البغي مطلق الظلم.

و اعلم أنّ اللّه لمّا أمرك بالعدل فهو أحقّ بالعدل و أن لا يظلم أحدا بل يتفضّل.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 91 الى 94]

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)

المعنى: لمّا أمر اللّه سبحانه بالعدل و الإحسان و نهى عن المنكر و العدوان أمر في هذه الآية الأمر بالوفاء بالعهد و النهي عن نقض الإيمان فقال: [وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ قال ابن عبّاس: الوعد من العهد. و قال المفسّرون: العهد الّذي يجب الوفاء به و الوعد هو الّذي يحسن فعله و إذا عاهد اللّه ليفعلنّه فانّه يصير واجبا عليه.

[وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها] هذا نهي عن حنث الأيمان و حنث الأيمان هو أن ينقضها بمخالفة موجبها و ارتكاب ما يخالف عقدها. و المراد بقوله: «بَعْدَ تَوْكِيدِها»

ص: 192

أي بعد عقدها و إبرامها و توثيقها باسم اللّه و تشديدها بالعزم و العقد على اليمين بخلاف لغو اليمين.

قوله: [وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا] أي جعلتم اللّه حسيبا فيما عاهدتموه عليه و ذلك أنّ من حلف باللّه فكأنّه أكفل اللّه بالوفاء بما حلف [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من نقض العهد و الوفاء به.

و هذه الآية نزلت في الّذين بايعوا النبيّ على الإسلام فقال سبحانه للمسلمين الّذين بايعوه: لا يحملنّكم قلّة المسلمين و كثرة المشركين على نقض البيعة أي أثبتوا على ما عهدتم عليه الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: نزلت في قوم حالفوا قوما فجاءهم قوم آخر و قالوا: نحن أكثر عددا و أقوى، فنقضوا ذلك العهد.

قوله: [وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها] أي لا تكونوا كالمرأة الّتي غزلت ثمّ نقضت غزلها [مِنْ بَعْدِ] فتلها و إصرارا و إبراما. و هي امرأة حمقاء مشهورة بالحمق كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار، ثمّ تأمرهنّ أن ينقضن ما غزلن و لا يزال دأبها، و اسمها ريطة بنت عمر بن كعب، و كانت تسمّى خرقاء مكّة. و [أَنْكاثاً] أي جعلت غزلها أنكاثا و أقطاعا و أجزاء أي ردّت المغزولة بعد الغرل بحالة الصوفيّة و «أَنْكاثاً» إمّا مفعول ثان لنقضت أو حال.

و قوله [تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي تجعلون يمينكم خيانة و مكرا لأنّهم كانوا حين يعاهدون و يحلفون يضمرون الخيانة و الناس يسكنون إلى عهدهم.

و قوله: [أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ] أي لا تنقضوا العهد بسبب أن تكونوا أعلى و أقوى و أكثر من قوم، أي لا تجعلوا أيمانكم سببا لخديعة و مكر في أموركم لمداراة مقاصدكم بل عليكم الوفاء بالعهد و اليمين و [إِنَّما] يختبركم [اللَّهُ بالأمر بالوفاء. و الهاء في «به» على الأمر بالوفاء و هذا الاختبار ليقع الجزاء بحسب العمل. و ليفصّلنّ [لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ في صحّته [تَخْتَلِفُونَ .

[وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ كلّكم مهتدين، و يعني بالمشيئة القدرة على سبيل الإلجاء [وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ] بالخذلان و بالحكم على الضلال بسبب سوء اختيارهم و استحقاقهم

ص: 193

[وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ] بالتوفيق و الحكم عليه بالهداية بسبب الإطاعة و الاستحقاق؛ و الدليل على أنّ المراد من المشيئة الإلجاء أنّه تعالى قال: بعده [لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و لو كانت أعمال العباد بخلق اللّه لكان سؤالهم عنها عبثا.

قوله: [وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا] نهى سبحانه عن إضمار الخلف و الحنث في العهد و اليمين فتضلّوا عن الرشد بعد أن كنتم على هدى من الإيمان [وَ تَذُوقُوا] العذاب بما منعتم الناس عن دين اللّه.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: نزلت هذه الآية في ولاية عليّ عليه السّلام، و ما كان من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: صلّى اللّه عليه و آله سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين. و روي عن سلمان أنّه قال: تهلك هذه الامّة بنقض مواثيقها.

[سورة النحل (16): الآيات 95 الى 100]

وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)

إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

ثمّ أكّد هذا التحذير بقوله تعالى:

النزول: قال ابن عبّاس: إنّ رجلا من حضرموت يقال له: «عبدان الأسوع» قال: يا رسول اللّه إنّ امرأ القيس الكنديّ جاورني في أرضي فاقتطع من أرضي فذهب بها منّي و القوم يعلمون أنّي لصادق و لكنّه أكرم عليهم منّي، فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله امرأ القيس عنه فقال: لا أدري ما يقول. فأمره أن يحلف فقال عبدان: إنّه لفاجر لا يبالي أن يحلف. فقال: إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه، فلمّا قام يحلف أنظره فانصرفا فنزل قوله تعالى: «وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ الآيتان» فلمّا قرأهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال امرأ القيس:

أمّا ما عندي فينفد و هو صادق فيما يقول، لقد اقتطعت أرضه و لم أدركم هي، فليأخذ من

ص: 194

أرضي ما شاء و مثلها معها بما أكلت من ثمرها، فنزل فيه: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً».

المعنى: [وَ لا تَشْتَرُوا] أي لا تخالفوا عهد اللّه بسبب شي ء يسير تنالوه من حطام الدنيا فتكونوا قد بعتم عظيم ما عند اللّه بالشي ء الحقير، إنّ الّذي عند اللّه من الثواب على الوفاء بالعهد [خَيْرٌ لَكُمْ و أشرف ممّا تأخذونه من عرض الدنيا فإنّ القليل الّذي يبقى خير من الكثير الّذي يفنى، فكيف بالكثير الّذي يبقى في مقابلة القليل الّذي يفنى؟ [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و تميّزون بين الخير و الشرّ [ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ] و يفنى [وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا] علي الطاعات [أَجْرَهُمْ و ثوابهم.

و إنّما قيّد سبحانه بقوله: [بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنّ الجزاء يترتّب بالطاعات من الواجبة و المندوبة و أمّا المباحة لا تقع عليه الجزاء و لذا قال: «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».

و قوله: [مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى سواء كان العامل ذكرا أو أنثى.

فإن قيل: إنّ لفظة «مَنْ عَمِلَ صالِحاً» تفيد العموم فما الفائدة في ذكر الذكر و الأنثى؟

الجواب أنّ الآية في الوعد للخيرات و المبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم و الرحمة، و إثباتا للتأكيد و دفعا لإزالة و هم التخصيص.

و قوله: [وَ هُوَ مُؤْمِنٌ يفيد أنّ العمل الصالح يفيد الأثر بشرط الإيمان، و ظاهر قوله: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» (1) يفيد العموم و يدلّ على أنّ العمل الصالح يفيد الأثر، سواء كان مع الإيمان أو مع عدم الإيمان.

فالجواب أنّ إفادة العمل الصالح للحياة الطيّبة الباقية الدائمة مشروطة بالإيمان، و أمّا الجزاء المنقطع أو تخفيف العذاب و أمثاله، فيقع أيضا للكافر و المؤمن.

[فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً] قيل: المراد الرزق الحلال. و قيل: القناعة و الرضا بما قسم اللّه. و قيل: إنّها الجنّة لأنّه لا يطيب لأحد حياة إلّا في الجنّة و قيل: رزق يوم بيوم و قيل: حياة طيّبة في القبر.

قوله: [فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي إذا أردت يا محمّد أن تقرأ القرآن [فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ

ص: 195


1- الزلزلة: 7.

[مِنَ شرّ [الشَّيْطانِ المرجوم المطرود. و الاستعاذة استدفاع الأدنى بالأعلى على وجه الخضوع و التذلّل و تأويله: استعذ باللّه من وسوسة الشيطان عند قراءتك لتسلم عند قراءتك من الزلل و الخلل و الوسواس.

[إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ يعني أنّ الشيطان ليس له قدرة قاهرة [عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا] باللّه و المتوكّل عليه، أي لا يقدر على أن يكرههم على المعاصي [إِنَّما] سلطته [عَلَى الَّذِينَ يطيعونه و يقبلون دعاءه و يتّبعون إغواءه [وَ الَّذِينَ هُمْ بسبب طاعة الشيطان [مُشْرِكُونَ باللّه و يشاركون غير اللّه مع اللّه في العبادة. و إنّما خصّ القرآن لأنّ القرآن هو العمدة في امور الدين.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 101 الى 105]

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)

النزول: قال ابن عبّاس: كان إذا نزلت آية فيها شدّة ثمّ نزلت آية فيها لين قالت كفّار قريش: إنّ محمّدا يسخر بأصحابه يأمر هم اليوم بأمر و غدا يأمر بأمر و إنّه لكاذب و يقول من عند نفسه، فأجاب سبحانه عن شبهتهم بأنّ اللّه أعلم بمصالحهم و ينزّل ما ينزّل على ما توجب المصلحة و هم [لا يَعْلَمُونَ سبب و رود النسخ.

المعنى: ثمّ أخبر عن حال الكفّار [وَ إِذا] نسخنا [آيَةً] و آتينا آية اخرى مكانها.

[قُلْ يا محمّد [نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ أي أنزل الناسخ جبرئيل [مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ الصحيح الثابت [لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا] بما فيه من الحجج و البيّنات فيزدادوا يقينا، و معنى تثبيته سبحانه معونته و توفيقه عزّ و جلّ إلى الثبات على الإيمان و الطاعة [وَ هُدىً وَ بُشْرى أي و هو أي النازل هدى و بشارة بالجنّة و الثواب.

قوله: [وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ] ثمّ أجاب سبحانه عن شبهة

ص: 196

اخرى من المشركين أي إنّا نعلم أنّ الكفّار يناقشون و يقولون: إنّ القرآن ليس من عند اللّه و إنّما يعلّم النبيّ إنسان.

و اختلفوا في ذلك الإنسان قيل: هو عبد لبني عامر بن لؤي اسمه «يعيش» و كان يقرأ الكتب. و قيل: «عداس». و قيل: كان بمكّة نصرانيّ أعجميّ اللسان اسمه بلقام يتكلّم بالروميّة.

و قيل: سلمان الفارسيّ. و قال عبد اللّه بن سلام: كان غلامان نصرانيّان من أهل عين التمر كانا يقرءان كتابا لهما بلسانهم و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ربّما مرّ بهما و استمع لقراءتهما فقالت قريش: إنّما يتعلّم منهما.

فألزمهم اللّه الحجّة و أكذبهم بهذه الآية بأن قال: [لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ و يضيفون إليه التعليم و يميلون و ينسبون إليه القول [أَعْجَمِيٌ و لم يقل سبحانه: عجميّ لأنّ العجميّ هو المنسوب إلى العجم و إن كان فصيحا، و الأعجميّ هو الّذي لا يفصح و إن كان عربيّا. فردّ سبحانه قولهم بأنّ لسان هذا البشر الّذي يزعمون أنّه يعلمك أعجميّ لا يفصح و لا يتكلّم صحيحا و فصيحا، فكيف يتعلّم منه من هو في أعلى طبقات الفصاحة و البيان؟

[وَ هذا] القرآن [لِسانٌ عَرَبِيٌ ظاهر و قد عجز جميعهم عن الإتيان بسورة و آية مثله، و هو بلغتهم فكيف يأتي الأعجميّ الخارج عن الفصاحة بمثله؟ ثمّ إنّ أمر التعليم و التعلّم لا يتأتّى بجلسة و لا جلستين و لا يتمّ بالخفية بل التعليم و التعلّم يحتاج إلى أزمنة متطاولة، و لو كان كذلك لاشتهر فيما بين الخلق، ثمّ الاحتجاج بهذه الكلمات الركيكة دلالة على نبوّته صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ أتبع بالوعيد لهم على ما قالوه بقوله: [إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ و معجزات القرآن [لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى طريق الجنّة بسبب عدم الإيمان و القابليّة، و المراد بالهداية الهدى الّذي يكون ثوابا على الإيمان.

ثمّ قال: [إِنَّما يَفْتَرِي و يخترع [الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يصدّقون [بِآياتِ اللَّهِ دون من آمن لأنّ الإيمان يحجز عن الكذب [وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ لا أنت يا محمّد، فحصر سبحانه فيهم الكذب بمعنى أنّ الكذب لازم لهم و من عادتهم و هذا كقولك للكاذب:

ص: 197

كذبت و أنت كاذب. زيادة في الوصف بالكذب كما قال: إنّما يفتري الكذب.

و في الحديث مرفوعا أنّه قيل: يا رسول اللّه المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك، قيل:

يا رسول اللّه المؤمن يسرق؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: قد يكون ذلك، قيل: يا رسول اللّه المؤمن يكذب؟ قال:

لا، ثمّ تلا هذه الآية.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 106 الى 110]

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

في هذه الآية بيان من يكفر بلسانه و قلبه و من يكفر بلسانه دون قلبه.

النزول: قيل: نزل قوله: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» في جماعة اكرهوا و هم عمّار و ياسر أبوه و امّه سميّة و صهيب و بلال و خباب عذبوا و قتل ياسر و امرأته و أعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه، فأخبر سبحانه بذلك رسول اللّه، فقال قوم: كفر عمّار! فقال: كلّا إنّ عمّارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه، و اختلط الإيمان بلحمه و دمه.

و جاء عمّار إلى رسول اللّه و هو يبكي، فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما وراءك يا عمّار؟ فقال شرّ يا رسول اللّه، ما تركت حتّى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير. فجعل رسول اللّه يمسح عينيه و يقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت الآية.

و قيل: نزلت في ناس من أهل مكّة آمنوا و خرجوا يريدون المدينة فأدركهم قريش و فتنوهم فتكلّموا بكلمة الكفر كارهين. و قيل: إنّ ياسرا و سميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام.

و جواب الشرط في قوله: «مَنْ كَفَرَ» قوله: «فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ» بمعنى أنّه جواب من قوله: «مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» و هذا الجواب الثاني يغني عن جواب قوله: «مَنْ

ص: 198

كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ» مثل قولهم: «من يأتينا فمن يحسن نكرمه» فجواب الأوّل محذوف.

و قوله: [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا] نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الرضاعة و أبي جندل بن سهيل بن عمرو و الوليد بن مغيرة و غيرهم من أهل مكّة فتنتهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا، ثمّ إنّهم هاجروا بعد ذلك و جاهدوا، فنزلت الآية.

و بالجملة فتلخيص المعنى أنّ من كفر باللّه و ارتدّ بعد الإسلام و شرح بالكفر صدرا، أي فتحه و وسّعه لقبول الكفر.

فلو قيل: إنّ المكره ليس بكافر فكيف صحّ الاستثناء؟ لأنّ المكره لمّا ظهر منه الكفر كرها و الكافر طوعا فصحّ المشاكلة فصحّ الاستثناء.

و هؤلاء المكرهين قد عذّبوا و أخذوا و البسوا الدروع الحديد و اجلسوا في الشمس، فبلغ منهم الجهد بحرّ الحديد و الشمس، و أتاهم أبو جهل يشمتهم و يوبّخهم و يشتم سميّة، ثمّ طعن الحربة في عضوها. و قيل: ما نالوا غير بلال فإنّهم جعلوا يعذّبونه فيقول: أحد أحد حتّى ملّوا فكتفوه و جعلوا في عنقه حبلا من ليف و دفعوه إلى صبيانهم يلعبون به حتّى ملّوه فتركوه، قال عمّار: كلّنا نكلّم بالّذي أرادوا غير بلال، فهانت عليه نفسه. قال خباب: لقد أوقدوا لي نارا على ودك ظهري.

قوله: [إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على وجه التقيّة خوف الإتلاف مكرها و قوله: [وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ساكن ثابت بالإيمان، و هذا يدلّ على أنّ محلّ الإيمان هو القلب إمّا الاعتقاد و إمّا كلام النفس.

قوله: [ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ] و التلذّذ فيها و الركون إليها طلبا لها دون الآخرة [وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ و ختم [عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ بسوء اختيارهم الكفر، و أنّهم بمنزلة الغافلين.

ثمّ قال: [لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ و هذا تأكيد لحكم الخسار عليهم لأنّهم المحرومون من الجنّة و عذّبوا بالنار. ثمّ قال سبحانه: [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا] و عذّبوا في اللّه فأعطوا بعض ما أرادوا الكفّار ليسلموا من شرّهم، [ثُمَّ جاهَدُوا] مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [وَ صَبَرُوا] على الدين و الجهاد [إِنَّ رَبَّكَ من بعد] تلك الفتنة

ص: 199

و الفعلة الّتي فعلوها من التفوّه بكلمة الكفر [لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 111 الى 115]

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

الظرف إمّا متعلق بقوله: «إِنَّ رَبَّكَ ... لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» أو الكلام على سبيل العظة و التذكير أي اذكر [يَوْمَ تَأْتِي و المراد باليوم يوم القيامة [تُجادِلُ و تخاصم الملائكة [عَنْ نَفْسِها] كلّ نفس و يقول: «وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» (1) و يحتجّ بما ليس فيه حجّة و [تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء [ما عَمِلَتْ من خير و شرّ [وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ في ذلك [وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا] و المراد أنّ مثلكم يا أهل مكّة كمثل تلك القرية، أي مثل قرية [كانَتْ آمِنَةً] مأمون أهلها لا يقارّ عليهم قارّة ساكنة لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق يحمل إليه الرزق الواسع [مِنْ كُلِ بلد [فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي كفر أهل تلك القرية، و لم يؤدّ شكرها فأخذهم اللّه بسوء صنيعهم بالخوف و الجوع، و سمّي أثر الجوع و الخوف لباسا لأنّ أثر المشقّة يظهر على الإنسان كما يظهر اللباس و الزيّ على الإنسان، و يشملهم المشقّة كما يشمل اللباس البدن. و قيل:

المراد بالقرية مكّة فعذّبهم اللّه بسوء صنيعهم بالجوع سبع سنين حتّى أكلوا القدّ و العلهز و الجيف و هو الوبر يخلط بالدم و هم مع ذلك خائفون وجلون من أصحاب النبيّ، و ذلك حين دعا عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: اللهمّ اشدد وطأتك على مضر و اجعل عليهم سنين كسني يوسف عليه السّلام.

و نقل: أنّ ابن الراوندي الزنديق المعروف قال لابن الأعرابيّ الأديب: هل

ص: 200


1- الانعام: 32.

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 249

يذاق اللباس؟ فقال ابن الأعرابيّ: لا بأس أيّها النسناس هب أنّك تشكّ أنّ محمّدا ما كان نبيّا أمّا كان عربيّا؟ و كان مقصود ابن الراونديّ الطعن في الآية، و هذا الأحمق كأنّه ما قرع سمعه الاستعارة أمّا سمع قول الشاعر الأعرابيّ حيث قال:

و من يذق الدنيا فإنّي طعمتهاو سيق إلينا عذبها و عذابها

و العذاب ليس من المذوقات و قد استعمل كثيرا، فالمراد بهذه الاستعارة أنّ الجوع أحاط بهم من الجهات و أشملهم فأشبه اللباس.

قوله [وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ لمّا ذكر سبحانه المثل ذكر الممثّل فقال: «وَ لَقَدْ جاءَهُمْ» يعني أهل مكّة «رَسُولٌ مِنْهُمْ» أي من سنخهم يعرفونه بأصله و نسبه [فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ قيل: القتل يوم بدر. و قيل: المجاعة المعروفة الّتي أكلوا الجيف و العظام. و ذلك بسبب ظلمهم و كفرهم فاتركوا الكفر و الشرك حتّى تأكلوا فلهذا السبب قال: [فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً] و خاطب المؤمنين و الراجعين عن الكفر، و المراد من الأمر الإباحة أي كلوا من الغنائم و ما رزقكم اللّه و أحلّها لكم [وَ اشْكُرُوا] عليه [إِنْ كُنْتُمْ ... [تَعْبُدُونَ اللّه.

قوله: [إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الآية] أي إنّكم لمّا آمنتم و تركتم الكفر فكلوا الحلال الطيّب و اتركوا الخبائث و هي [الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ] و ما لم يذكر اسم اللّه عليه حين الذبح، و ذكر اسم الآلهة عليه- و التفصيل و ذكر في سورة البقرة- إلّا حين الاضطرار، فإنّه يجوز حين الاضطرار من غير تعدّ في حدود اللّه و بغي فحينئذ [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 116 الى 117]

وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)

أكّد سبحانه بهذه الآية أن لا يخالفوا الأوامر و النواهي في التحليل و التحريم، أي [لا تَقُولُوا لِما] أحللتموه بلسانكم [الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ كالميتة تقولون: هذا حلال، و كالصائبة تقولون: هذا حرام، لتكذبوا [عَلَى اللَّهِ في إضافة التحليل و التحريم إليه،

ص: 201

[إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ و «الكذب» وصف للألسنة بمعنى الكاذب أو بمعنى الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذّاب أي المفترين على اللّه لا ينجون من عذاب اللّه و لا ينالون خيرا [مَتاعٌ قَلِيلٌ ينتفعون به أيّاما قلائل [وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

قوله: [سورة النحل (16): الآيات 118 الى 119]

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

لمّا بيّن ما يحلّ و يحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما خصّ به اليهود من المحرّمات فقال: [وَ عَلَى اليهود [حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ في سورة الأنعام بقوله: «وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» (1) إلى آخر الآية و هي نزلت قبل [وَ ما ظَلَمْناهُمْ و لكن ظلموا بالكفر و العصيان و الجحود بأنبياء اللّه و استحقّوا بذلك تحريم هذه الأشياء عليهم.

ثمّ ذكر حال التائبين فقال: [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ الّذي خلقك [لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ] و المخالفة لأمر اللّه لا يمنعهم من التوبة و حصول المغفرة و الرحمة [بِجَهالَةٍ] السيّئات أو بجهالتهم العاقبة و عدم التدبّر بعقابه لغلبة الشهوة [ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ] ما عملوا و علموا [وَ أَصْلَحُوا] أعمالهم أو دخلوا في الصلاح و أصلحوا أحوالهم و أفعالهم [إِنَّ رَبَّكَ من بعد التوبة و الجهالة أو المعصية [لَغَفُورٌ رَحِيمٌ و أعاد قوله: «إِنَّ رَبَّكَ» للتأكيد، و الضمير في «بعدها» يعود إلى الفعلة و المقصود التأكيد و المبالغة بأنّ ربّك من بعد الرجوع عن السوء و التوبة لغفور لذلك السوء، رحيم يثيب على طاعته، و الغرض إظهار العناية من حضرته الكريم، و التعريض لوصف الحال و الربوبيّة، و الإضافة إلى ضميره عليه السّلام مع ظهور الأثر في التائبين للإيماء إلى أنّ إفاضة آثار الربوبيّة من المغفرة و الرحمة عليهم بتوسّطه عليه السّلام، و كونهم من أتباعه و امّته.

و حاصل الكلام أنّ الإنسان و إن كان قد أقدم على المعاصي دهرا دهيرا و أمدا مديدا فإذا تاب عنه و آمن و أتى بالأعمال الصالحة فهو غفور له و رحيم به، و يخلصه من العذاب.

ص: 202


1- آية: 146.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 120 الى 124]

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

المعنى: [إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً] أي قدوة و معلّما للخير، قال ابن الأعرابيّ:

يقال للرجل العالم: امّة- أو المعنى إمام هدى. و قيل: سمّاه امّة لأنّ قوام الامّة كان به و قام بأمر الأمّة و انفرد في دهره بالتوحيد فكان مؤمنا و الناس كلّهم كانوا كفّارا. و إنّ إبراهيم حاز من الفضائل البشريّة ما لا تكاد توجد في أحد بزمانه حسبما قيل. ليس على اللّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد فكيف لا و هو رئيس أهل التوحيد و قدوة أهل التحقيق، جادل أهل الشرك و ألقمهم الحجر ببيّنات باهرة لا تبقي و لا تذر و أبطل مذاهبهم الزائفة بالبراهين القاطعة.

[قانِتاً] و مطيعا و دائما على عبادة اللّه [حَنِيفاً] مستقيما غير مائل عن الحقّ و هو الإسلام [وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً] لأنعم اللّه معترفا بها [اجْتَباهُ اللّه و اختاره [وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو الإسلام و التوحيد.

[وَ آتَيْناهُ و أعطيناه [فِي الدُّنْيا حَسَنَةً] و نعمة سابقة في نفسه و في أولاده و هو قول الامّة: كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم. أو النبوّة و الرسالة. و قيل: المراد بالنعمة هي أنّه ليس من أهل دين إلّا و هو يرضاه و يتولّاه.

و قد اجتهد في تقرير دلائل التوحيد مع ملك زمانه بقوله: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ» (1) ثمّ أبطل عبادة الأصنام و الكواكب بقوله: «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» (2) ثمّ كسر الأصنام حتّى آل الأمر إلى أن ألقوه في النار [وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ و لم يقل في أعلى منازل الصالحين مع اقتضاء حاله ذلك ترغيبا في الصلاح و درجة الصالحين، و ناهيك بهذا الترغيب في الصلاح و بهذا المدح لإبراهيم.

قوله: [ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي أمرناك باتّباع [مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً] أي مائلا إلى

ص: 203


1- الحج، 256.
2- الانعام: 76.

الحقّ و خلع الأنداد، و متى قيل: إنّ نبيّنا كان أفضل منه فكيف أمر الفاضل باتّباع المفضول؟ فالجواب أنّ إبراهيم سبق إلى اتّباع الحقّ لسبقة زمانه و لا يكون في سبق المفضول إلى متابعة الحقّ نقص الفاضل في اتّباعه، و لمّا وصف سبحانه بأنّ إبراهيم [ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فيقتضي أن يكون محمّد صلّى اللّه عليه و آله مأمورا بهذا الأمر و ليس المعنى أنّه صلّى اللّه عليه و آله مأمور بجميع شريعة إبراهيم.

قوله: [إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ و بيان الآية أنّ موسى عليه السّلام أمر اليهود أن يجعلوا في الأسبوع يوما واحدا للعبادة، و أن يكون ذلك اليوم الجمعة، فأبوا عليه و قالوا: نريد اليوم الّذي فرغ اللّه فيه من خلق السماوات و الأرض و هو السبت، إلّا شرذمة منهم رضوا بالجمعة، فأذن اللّه لهم في السبت و ابتلاهم بتحريم الصيد فيه، ثمّ جاءهم عيسى بالجمعة أيضا فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، و اتّخذوا الأحد.

فالمراد من قوله: «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» على نبيّهم موسى حين أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيّهم موسى في ذلك اليوم.

و ليس المعنى أنّ اليهود اختلفوا فيه، فمنهم من قال بالسبت، و منهم من لم يقل به؛ لأنّ اليهود اتّففوا على ذلك.

و في العقل وجه يدلّ على أنّ الجمعة أفضل من السبت، و ذلك لأنّ أهل الملل اتّفقوا على أنّه تعالى خلق العالم في ستّة أيّام، و بدأ بالخلق و التكوين من يوم الأحد و تمّ في يوم الجمعة و هو يوم الكمال و التمام، و حصول الكمال يوجب الفرح الكامل و السرور العظيم، فحينئذ جعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من غيره.

و في الآية قول آخر في معنى اختلافهم بأنّهم أي اليهود أحلّوا الصيد في السبت تارة و حرّموه تارة و كان الواجب عليهم أن يتّفقوا في تحريمه على كلمة واحدة.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي سيحكم للمحقّين بالثواب و للمبطلين بالعقاب.

ص: 204

و النظم أنّه لمّا أمر سبحانه باتّباع الحقّ حذرا من وقوع الاختلاف ذكر في هذه الآية مفاسد الاختلاف الّذي وقع لليهود في اختلاف السبت، و آل أمرهم بأن مسخوا قردة و خنازير.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 125 الى 128]

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

المعنى: أمر اللّه نبيّه بالدعوة إلى الخلق فقال: [ادْعُ الخلق إلى دين اللّه لأنّه الطريق إلى مرضاته [بِالْحِكْمَةِ] أي بالقرآن، و سمّي القرآن حكمة لأنّه يتضمّن الأمر بالحسن و النهي عن القبيح، و أصل الحكمة معناه المنع، و إنّما قيل لها: حكمة، لأنّها بمنزلة المانع عن الفساد و ما لا ينبغي أن يختار، و قوله: [وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] أي الوعظ الحسن و تليين القلوب بما يوجب القبول و الخشوع [وَ جادِلْهُمْ و ناظرهم بالقرآن و بأحسن ما عندك من الحجج، و الكلمة الّتي [هِيَ أَحْسَنُ و التقدير: أن ادع الناس بأحد هذه الطرق الثلاث بالقرآن و بالموعظة الحسنة و المجادلة بالطريق الأحسن.

و لمّا كان سبحانه عالما بأنّ جواهر النفوس البشريّة مختلفة فبعضها مشرقة صافية قليل التعلّق بالجسمانيّات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيّات و بعضها مظلمة كدرة قويّة التعلّق بالجسمانيّات عديمة الالتفات إلى الروحانيّات، و يمتنع زوالها فقال:

اشتغل أنت بالدعوة و لا تطمع في حصول الهداية للكلّ فإنّه تعالى أعلم بضلال النفوس الضالّة الجاهلة، و بإشراق النفوس المشرقة الصافية المهتدية.

قوله: [وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي و إن أردتم معاقبة غيركم على وجه المكافاة، فعاقبوا بقدر ما عوقبتم به و لا تزيدوا عليه.

قيل: إنّ المشركين لمّا قتلوا حمزة و مثّلوا بقتلى احد و بحمزة عليه السّلام فشقّوا بطنه و أخذت هند بنت عتبة بن أبي سفيان كبد فجعلت تلوكه، و جدعوا أنفه و اذنه، قال

ص: 205

المسلمون: لئن أمكننا اللّه منهم لنمثّلن بالأحياء فضلا عن الأموات، فنزلت الآية. و قيل:

نزلت الآية قبل أن يؤمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقتل المشركين على العموم و امر بقتال من قاتله في هذه الآية.

قوله: [وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ و تركتم المكافاة و القصاص و جرعتم مرارته [لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ و أنفع لهم، و ليس يا محمّد إلّا بتوفيق اللّه و تيسيره [وَ لا تَحْزَنْ يا محمّد على المشركين في إعراضهم عنك؛ فإنّه يكون الظفر لك عليهم. [وَ لا تَكُ صدرك [فِي ضَيْقٍ من مكرهم بك و بأصحابك، فإنّ اللّه يردّ كيدهم في نحورهم و يحفظكم من شرورهم [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا] الشرك و الفواحش و الكبائر بالنصرة و الحفظ، و مع الّذين أحسنوا بالقيام فيما فرض عليهم.

ص: 206

سورة بنى إسرائيل

اشارة

مكّيّة إلّا خمس آيات أو ثمان آيات، عدد آيها مائة آية و عشر آيات.

روي ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة بني إسرائيل ثمّ رقّ قلبه عند ذكر الوالدين اعطي من الجنّة قنطارين من الأجر، و القنطار ألف أوقية و مائتا أوقية، و الأوقية منها خير من الدنيا و ما فيها. و روي الحسن بن أبي العلا عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: من قرأ سورة بني إسرائيل في كلّ ليلة جمعة لم يمت حتّى يدرك القائم و يكون من أصحابه.

ص: 207

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإسراء (17): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

. «سبحان» منصوب على المصدر أي اسبّح اللّه تسبيحا و سبحانا، فالتسبيح هو المصدر و «سبحان» علم للتسبيح كعثمان للرجل، و حيث كان المسمّى معنى لا عينا و جنسا لا شخصا لم تكن إضافته مثل حاتم طيّ. و انتصابه بفعل محذوف من جنسه و معنى التسبيح التباعد و التنزّه.

نزلت الآية في إسرائه، و كان ذلك بمكّة صلّى المغرب في المسجد الحرام، ثمّ اسري به في ليلته ثمّ رجع فصلّى الصبح في المسجد الحرام. فأمّا الموضع قيل: اسري به من المسجد بعينه، و هو الّذي يدلّ عليه القرآن، و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم و اليقظان إذا أتاني جبرئيل بالبراق. و قيل: اسري به من دار أمّ هاني بنت أبي طالب. فعلى هذا القول المراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد.

و عن ابن عبّاس: الحرم كلّه مسجد لالتباسه به. و لمّا وصل صلّى اللّه عليه و آله إلى الدرجات العالية في المعارج أوحي اللّه عزّ و جلّ يا محمّد بم اشرّفك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: بأن تنسبني إلى نفسك بالعبوديّة فأنزل اللّه سبحانه فيه:

[سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ و قوله [لَيْلًا] مع أنّ الإسراء لا يكون إلّا بالليل أراد بالتنكير تقليل مدّة الإسراء أي بعض الليل؛ فإنّ قولك: سرت ليلا، كما يفيد بعضيّة زمان سيرك من الليالي يفيد بعضيّة من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت: سرت الليلة، فإنّه يفيد استيعاب السير له جميعا.

و القول بمعراج الروح دون الجسد باطل جدّا من وجوه:

ص: 208

الأوّل تصدير الآية بالتنزيه و ما يتضمّن من التعجّب فإنّ الروحانيّ ليس بمثابة الاستنكار و الاستبعاد و المعجزة، و لو لم يكن مستبعدا ما كذّبت قريش.

و اختلفوا في ذلك الليل، قيل: كان قبل الهجرة بسنة و قبل البعثة. و المسجد الأقصى البيت المقدّس، و إنّما قال: «الْأَقْصَى» لبعد المسافة بين المسجد الحرام و بينه مسيرة أربعين ليلة.

و قوله: [بارَكْنا حَوْلَهُ بالثمار و الأزهار و الخصب و الفواكه، أو بسبب أنّه مقرّ الأنبياء و مهبط الملائكة.

و قد وردت روايات كثيرة في عروج نبيّنا إلى السماء، رواها كثير من الصحابة، مثل ابن عبّاس، و ابن مسعود، و أنس، و جابر بن عبد اللّه، و حذيفة، و عائشة، و امّ هانئ و غيرهم، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و زاد بعضهم و نقص بعض و ينقسم جملتها إلى أربعة أوجه:

أحدها: ما يقطع على صحّته لتواتر الأخبار به و إحاطة العلم بصحّته.

و ثانيها: ما ورد في ذلك ممّا يجوّزه العقول و لا تأباه الأصول فنحن نجوّزه، ثمّ نقطع على أنّ ذلك كان في يقظته دون منامه.

و ثالثها: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول إلّا أنّه يمكن تأويلها علي وجه يوافق المعقول، فالاولى أنّ نأوّله على ما يطابق الحقّ.

و رابعها: ما لا يصحّ ظاهره و لا يمكن تأويله إلّا على التعسّف فالأولى أن لا نقبله، و لكنّ الكلّ متّفقون على الجملة أنّه صلّى اللّه عليه و آله عرج بجسده إلى السماوات، إنّما الاختلاف في بعض الكيفيّات.

أمّا الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة المقطوع به أنّه اسري به على الجملة.

و أمّا الثاني فمنه ما روي أنّه أطاف في السماوات و رأي الأنبياء و العرش و السدرة المنتهى و الجنّة و النار، و نحو ذلك و ذلك أيضا مقبول. و أمّا الثالث فنحو ما روي أنّه رأي قوما في الجنّة يتنّعمون فيها و قوما يعذّبون فيها، فيحمل على أنّه صلّى اللّه عليه و آله رأي صفتهم أو أسماءهم. و أمّا الرابع الغير المقبول فنحو ما روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كلّم اللّه سبحانه جهرة و رآه

ص: 209

و قعد معه على سريره، و نحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه و التجسّم و اللّه تعالى تقدّس عن ذلك، و كذلك ما روي أنّه شقّ بطنه و غسل إلّا أنّه كان طاهرا مطهّرا من كلّ سوء و عيب، و كيف يطهر القلب و ما فيه من الاعتقاد بالماء؟ و لو أنّ هذه الفقرة أي شقّ البطن ممكن التأويل.

و بالجملة فمن جملة ما روي في قصّة المعراج أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أتاني جبرئيل و أنا بمكّة فقال: قم يا محمّد فقمت معه، و خرجت إلى الباب فإذا جبرئيل و معه ميكائيل و إسرافيل فأتى جبرئيل بالبراق و كان فوق الحمار دون البغل خدّه كخدّ الإنسان و ذنبه كذنب البقر و عرفه كعرف الفرس، و قوائمه كقوائم الإبل، عليه رحل من الجنّة، و له جناحان من فخذيه، فقال لي جبرئيل: اركب، فركبت و مضيت حتّى انتهيت إلى بيت المقدس.

ثمّ ساق الحديث إلى أن قال صلّى اللّه عليه و آله: فلمّا انتهيت إلى بيت المقدس إذا بملائكة من السماء نزلت بالبشارة و الكرامة من عند ربّ العزة و صلّيت في بيت المقدس. و في بعض الروايات بشّرني إبراهيم في رهط من الأنبياء ثمّ وصف موسى و عيسى، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي إلى الصخرة فأقعدني عليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا و جمالا، فصعدت إلى السماء الدنيا و رأيت عجائبها و ملائكتها يسلّمون عليّ، ثمّ صعد بي جبرئيل إلى الثانية فرأيت فيها عيسى بن مريم و يحيى بن زكريّا، ثمّ صعد بي إلى الثالثة فرأيت فيها يوسف، ثمّ إلى الرابعة فرأيت فيها إدريس، ثمّ إلى الخامسة فرأيت فيها هارون، ثمّ صعد بي إلى السادسة فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض و فيها الكرّوبيّين، ثمّ إلى السماء السابعة رأيت إبراهيم. قال: ثمّ جاوزناها متصاعدين إلى أعلى علّيّين و وصف صلّى اللّه عليه و آله ذلك إلى أن قال: ثمّ كلّمني ربّي و كلّمته، و رأيت الجنّة و النار و العرش و السدرة، ثمّ رجعت إلى مكّة فلمّا أصبحت حدّثت به الناس فكذّبني أبو جهل و المشركون، و قال مطعم ابن عديّ: أ تزعم أنّك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنّك كاذب، ثمّ قالت قريش:

أخبرنا عمّا رأيت، فقال صلّى اللّه عليه و آله: مررت بعير بني فلان و قد ضلّوا بعيرا لهم و هم في طلبه و في رحلهم قعب مملوء من ماء فشربت الماء ثمّ غطّيته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح؟

ص: 210

قالوا: هذه آية، قال صلّى اللّه عليه و آله: مررت بعير بني فلان فنفر بكرة فلان فانكسرت يدها فاسألوهم عن ذلك، فقالوا: هذه آية اخرى، ثمّ خرجوا يشتدّون نحو الثنيّة، و هم يقولون: لقد قضى محمّد بيننا و بينه قضاء بيّنا و جلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذّبوه، فقال قائل:

و اللّه إنّ الشمس قد طلعت. و قال الآخر: و اللّه هذه الإبل قد طلعت يقدمها أورق فبهتوا و لم يؤمنوا.

و في تفسير العيّاشيّ عن أبي عبد اللّه قال: لما اسري برسول اللّه إلى السماء الدنيا لم يمرّ بأحد من الملائكة إلّا استبشر، قال: ثمّ مرّ بملك حزين كئيب، فلم يستبشر به فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل ما مررت بأحد من الملائكة إلّا استبشربي إلّا هذا الملك فمن هذا؟ فقال:

هذا مالك خازن جهنّم و هكذا جعله اللّه، فقال له النبيّ: يا جبرئيل اسأله أن يرينا، قال:

فقال جبرئيل: يا مالك هذا محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد شكا إليّ فقال: ما مررت بأحد من الملائكة إلّا استبشربي إلّا هذا فأخبرته أنّ هكذا جعله اللّه و قد سألني أن أسألك أن تريه جهنّم، قال: فكشف له عن طبق من أطباقها، قال: فما رئي بعد ذلك رسول اللّه ضاحكا حتّى قبض.

و عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه الصادق أنّ جبرئيل احتمل رسول اللّه حتّى انتهى به إلى مكان من السماء، ثمّ تركه و قال له: ما وطئ نبيّ قطّ مكانك.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم القميّ عن الباقر عليه السّلام أنّه عليه السّلام- أي الباقر- كان جالسا في المسجد الحرام فنظر إلى السماء مرّة و إلى الكعبة مرّة و قال: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» و كرّر ذلك ثلاث مرّات ثمّ التفت إلى إسماعيل الجعفيّ فقال: أيّ شي ء يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقيّ؟ قال:

يقولون: اسري به من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، فقال عليه السّلام: ليس كما يقولون و لكنّه اسري من هذه إلى هذه- و أشار بيده إلى السماء- و قال: ما بينهما حرم.

و العيّاشيّ عن الصادق أنّه سئل عن المساجد الّتي لها الفضل فقال: المسجد الحرام و مسجد الرسول. قيل: و المسجد الأقصى؟ فقال: ذلك في السماء اسري إليه رسول اللّه. فقيل

ص: 211

له: إنّ الناس يقولون: إنّه بيت المقدس. فقال: مسجد الكوفة أفضل منه.

و في الكافي عنه عليه السّلام أنّه سئل: كم عرج برسول اللّه؟ فقال: مرّتين.

و في العيون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه سخّرلي البراق و هي من دوابّ الجنّة فلو أنّ اللّه أذن لها لجالت الدنيا و الآخرة في جرية واحدة.

و القميّ عن الصادق: جاء جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل بالبراق إلى رسول اللّه فأخذ واحد بالركاب و سوّى الآخر ثيابه عليه فتضعضعت البراق فلطمها جبرئيل ثمّ قال: اسكني يا براق فما ركبك نبيّ قبله و لا يركبك بعده، فرفعته ارتفاعا ليس بالكثير و معه جبرئيل يريه الآيات في السماوات و الأرض قال صلّى اللّه عليه و آله: فبينا أنا في سيري إذ نادى مناد عن يميني:

يا محمّد، فلم اجبه و لم ألتفت اليه، ثمّ نادى مناد عن يساري: يا محمّد، فلم اجبه و لم ألتفت إليه، ثمّ استقبلني امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا فقالت: يا محمّد انظرني حتّى اكلّمك.

فلم ألتفت إليها ثمّ سرت فسمعت صوتا أفزعني فجاوزت فنزل بي جبرئيل فقال: صلّ، فصلّيت، فقال: تدري أين صلّيت؟ فقلت: لا، فقال: صلّيت بطيبة و إليها مهاجرك.

ثمّ ركبت فمضينا ما شاء اللّه، ثمّ قال لي: انزل فصلّ، فنزلت و صلّيت، فقال: أ تدري أين صلّيت؟ قلت: لا، قال: صلّيت بطور سينا حيث كلّم اللّه موسى تكليما. ثمّ ركبت فمضينا ما شاء اللّه ثمّ قال لي: انزل فصلّ، فنزلت و صلّيت، فقال: أ تدري أين صلّيت؟ قلت: لا، قال:

صلّيت ببيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم.

ثمّ ركبت فمضينا حيث انتهينا إلى بيت المقدس فربطت البراق بالحلقة الّتي كانت الأنبياء تربط بها فدخلت المسجد و جبرئيل إلى جنبي فوجدنا إبراهيم و موسى و عيسى فمن شاء من أنبياء اللّه فقد جمعوا إليّ و أقيمت الصلاة فلمّا اصطفّوا و استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدّمني و أمّمتهم و لا فخر، ثمّ أتاني الخازن بثلاث أوان: إناء فيه لبن و إناء فيه ماء و إناء فيه خمر، و سمعت قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق و غرق امّته و إن أخذ الخمر غوى و غوت امّته و إن أخذ اللبن هدي و هديت امّته، قال: فأخذت اللبن و شربت منه فقال جبرئيل:

هديت و هديت امّتك، ثمّ قال جبرئيل: ماذا رأيت في مسيرك؟ فقلت: ناداني مناد عن يميني، فقال: أو أجبته؟ قلت: لا، فقال: ذاك داعي اليهود و لو أجبته لتهوّدت امّتك من بعدك. ثمّ

ص: 212

قال: ماذا رأيت؟ قلت: ناداني مناد عن يساري، فقال: أو أجبته؟ قلت: لا، فقال: ذاك داعي النصارى و لو أجبته لتنصّرت امّتك من بعدك. ثمّ قال: ماذا استقبلك؟ قلت: رأيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا، و قالت لي: انظرني اكلّمك يا محمّد. فقال لي:

أ و كلّمتها؟ قلت: لا، فقال: تلك الدنيا و لو كلّمتها لاختارت امّتك الدنيا على الآخرة.

ثمّ سمعت صوتا أفزعني فقال جبرئيل: هذه صخرة قذفتها في جهنّم منذ سبعين عاما فهذا حين استقرّت- قالوا: فما ضحك رسول اللّه حتّى قبض- قال: فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى سماء الدنيا و عليها ملك يقال له: إسماعيل و هو صاحب الخطفة الّذي قال اللّه: «إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» (1) و تحت حكمه سبعون ألف ملك، فقال إسماعيل: يا جبرئيل من هذا معك؟ فقال: محمّد، قال: أو قد بعث؟ قال: نعم، ثمّ فتح الباب فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي و قال لي: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح.

و تلقّتني الملائكة حتّى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك إلّا ضاحكا مستبشرا حتّى لقيني ملك من الملائكة لم أر خلقا أعظم منه كريه المنظر ظاهر الغضب، فقال لي مثل ما قالوا من التحيّة إلّا أنّه لم أر فيه الاستبشار فيمن رأيت من البشارة من الملائكة، فقلت:

من هذا يا جبرئيل؟ فإنّي قد فزعت منه، فقال جبرئيل: ينبغي أن تفزع منه فكلّنا نفزع منه، إنّ هذا مالك خازن النار لم يضحك قطّ و لم يزل منذ ولّاه اللّه جهنّم يزداد غيظا و غضبا على أعداء اللّه فينتقم اللّه به منهم، و لو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك، و لكنّه لا يضحك، فقلت لجبرئيل- و جبرئيل بالمكان الّذي وصفه اللّه «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (2)- أ لا تأمره أن يريني النار؟ فقال جبرئيل: أر محمّدا النار، فكشف عنها غطاء و فتح منها بابا و خرج لهيب ساطع في السماء و فارت فارتفعت حتّى ظننت لتناولني ممّا رأيت، فقلت: يا جبرئيل: قل له فليردّ عليها غطاءها، فأمرها: ارجعي فرجعت إلى مكانها الّذي خرجت منه.

ثمّ مضيت فرأيت رجلا آدم جسيما فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أبوك آدم، فإذا هو يعرض عليه ذرّيّته، فيقول: روح طيّب و ريح طيّبة من جسد طيّب، ثمّ تلا

ص: 213


1- الصافات: 10.
2- التكوير: 21.

رسول اللّه سورة المطفّفين على رأس سبع عشر آية: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» (1) إلى آخرها، قال: فسلّمت على أبي آدم و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي و قال: مرحبا بالابن الصالح و النبيّ الصالح و المبعوث في الزمن الصالح.

ثمّ مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس، و إذا جميع الناس بين ركبتيه و بيده لوح من نور ينظر فيه، مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتف يمينا و شمالا مقبلا عليه كهيئة الحزين، فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح.

فقلت: يا جبرئيل ادنني منه حتّى اكلّمه فأدناني منه فسلّمت عليه، فقال له جبرئيل:

هذا محمّد نبيّ الرحمة الّذي أرسله اللّه إلى العباد فرحّب بي و حيّاني بالسلام، و قال: ابشر يا محمّد فإنّي أرى الخير كلّه في امّتك، فقلت: الحمد للّه المنّان ذي النعم على عباده، ذلك من فضل ربّي و رحمته عليّ. فقال جبرئيل: هو أشدّ الملائكة عملا. فسألت منه أ كلّ من مات أو يموت فيما بعد هذا يقبض روحه؟ قال: نعم، قلت: و يراهم حيث كانوا و يشهدهم بنفسه؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلّها عندي فيما سخّرها اللّه لي و مكّنني عليها إلّا كالدرهم في كفّ الرجل يقلّبه كيف يشاء و ما من دار إلّا و أنا أتصفّحه كلّ يوم خمس مرّات و أقول إذا بكى أهل الميّت على ميّتهم: لا تبكوا عليه فإنّ لي فيكم عودة و عودة حتّى لا يبقى منكم أحد. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كفى بالموت طامّة يا جبرئيل، فقال جبرئيل: إنّ ما بعد الموت أطمّ و أطمّ من الموت.

قال: ثمّ مضيت فإذا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيّب و لحم خبيث يأكلون اللحم الخبيث و يدعون الطيّب، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون الحرام و يدعون الحلال و هم من امّتك.

فقال رسول اللّه: ثمّ رأيت ملكا من الملائكة جعل اللّه أمرا عجيبا نصف جسده النار و نصف الآخر ثلجا فلا النار يذيب الثلج، و لا الثلج يطفئ النار، و هو ينادي بصوت رفيع: سبحان الّذي كفّ حرّ هذه النار و كفّ برد هذا الثلج، اللّهمّ مؤلّف بين الثلج و

ص: 214


1- آية: 18- 21.

النار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك و كلّه اللّه بأكناف السماء و أطراف الأرض و هو أنصح ملائكة اللّه لأهل الأرض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق. و ملكان يناديان في السماء أحدهما يقول: اللهمّ أعط كلّ منفق خلفا. و الآخر يقول: اللّهمّ أعط كلّ ممسك تلفا.

ثمّ مضيت فإذا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل يقرضون اللحوم من جنوبهم و يلقون في أفواههم، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام يرضخ رءوسهم بالصخر، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الّذين ينامون عن صلاة العشاء ثمّ مضيت فإذا بأقوام تقذف النار في أفواههم و تخرج من أدبارهم، فقلت: من هؤلاء؟

قال: هؤلاء «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (1).

ثمّ مضيت بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه فقلت: من هؤلاء؟

قال: هؤلاء الّذين يأكلون الربى لا يقومون إلّا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، و إذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوّا و عشيّا يقولون: ربّنا متى تقوم الساعة؟

قال: ثمّ مضيت فإذا بنسوان معلّقات بثديهنّ فقلت: من أولات؟ فقال: النساء اللواتي يورثن أموال أزواجهنّ أولاد غيرهم، ثمّ قال النبيّ: و اشتدّ غضب اللّه على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطّلع على عورتهم و أكل خزائنهم.

ثمّ مررنا بملائكة اللّه خلقهم اللّه كيف شاء و وضع وجوههم كيف شاء ليس من أطباق أجسادهم إلّا و هو يسبّح اللّه و يحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتحميد و البكاء من خشية اللّه، فسألت جبرئيل عنهم، فقال: كما ترى خلقوا إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلّمه قطّ و لا رفعوا رءوسهم إلى ما فوقها و لا خفضوها إلى ما تحتها خوفا للّه و خشوعا.

فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برءوسهم لا ينظرون إليّ من شدّة الخشوع فقال لهم جبرئيل:

ص: 215


1- النساة: 9.

هذا محمّد نبيّ الرحمة أرسله اللّه على العباد رسولا و نبيّا، و هو خاتم النبوّة أفلا تكلّموه؟ فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام و أكرموني و بشّروني بالخير لي و لأمّتي.

ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت: من هذان؟ قال: أبناء الخالة يحيى و عيسى فسلّمت عليهما و سلّما عليّ و استغفرت لهما و استغفرا لي و قالا: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح.

ثمّ صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل قمر ليلة البدر على سائر النجوم، فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك يوسف، فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي و قال: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح و المبعوث في الزمن الصالح. و إذا فيها ملائكة عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الاولى و الثانية، و قال لهم جبرئيل في أمري مثل ما قال للآخرين و صنعوا لي مثل ما صنعوا.

ثمّ صعدنا إلى السماء الرابعة و إذا فيها رجل فقلت: من هذا؟ قال: هذا إدريس رفعه اللّه مكانا عليّا، فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة مثل ما في السماوات فبشّروني بالخير لي و لأمّتي، ثمّ رأيت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون ألف ملك تحت يد كلّ ملك سبعون ألف ملك فوقع في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه هو فصاح به جبرئيل و قال: قم، فهو قائم إلى يوم القيامة.

ثمّ صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم أر كهلا أعظم منه حوله ثلّة من امّته فأعجبني كثرتهم فقلت: من هذا؟ فقال: هذا هارون بن عمران، فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و كذلك.

ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة و إذا فيها رجل آدم طويل عليه سمرة و لو لا أنّ عليه قميصين لنفذ شعره فيهما. و سمعت يقول: يزعم بنو إسرائيل أنّي أكبر ولد آدم على اللّه و هذا رجل أكبر على اللّه منّي، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا أخوك موسى بن عمران، فسلّمت عليه و سلّم عليّ و كذلك من الملائكة مثل ما في السماوات.

ثمّ صعدنا إلى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة إلّا قالوا: يا محمّد احتجم

ص: 216

و أمر امّتك أن يحتجموا. و إذا فيها رجل أشمط الرأس و اللحية جالس على كرسيّ فقلت:

يا جبرئيل من هذا الّذي في السماء السابعة؟ فقال: هذا أبوك إبراهيم و هذا محلّك و محلّ من اتّقى من امّتك، ثمّ قرأ «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (1) فسلّمت عليه و سلّم عليّ و قال: مرحبا بالنبيّ الصالح و الابن الصالح و المبعوث في الزمن الصالح. و إذا فيها من الملائكة الخشّع مثل ما في السماوات فبشّروني بالخير لي و لأمّتي.

قال رسول اللّه: و رأيت في السماء السابعة بحار من نور يتلألأ يكاد تلألؤها يخطف بالأبصار، و فيها بحار مظلمة فكلّما فزعت و رأيت سألت جبرئيل فقال: ابشر يا محمّد و اشكر كرامة ربّك و اشكر اللّه ما صنع إليك، قال: فثبّتني اللّه بعونه و قوّته حتّى كثر قولي لجبرئيل و يعجبني فقال جبرئيل: يا محمّد تعظم ما ترى؟ إنّما هذا خلق من خلق ربّك فكيف بالخالق الّذي خلق ما ترى و ما لا ترى أعظم من هذا من خلق ربّك إنّ بين اللّه و بين خلقه تسعين ألف حجاب و أقرب الخلق إلى اللّه أنا و إسرافيل بيننا و بينه أربعة حجب: حجاب من نور و حجاب من ظلمة و حجاب من الغمام و حجاب من ماء.

قال صلّى اللّه عليه و آله: و رأيت من العجائب الّذي خلقه اللّه و سخّر به على ما أراد ديكا و رجلاه في تخوم الأرضين السابعة و رأسه عند العرش و له جناحان إذا نشرهما جاوزا المشرق و المغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه و خفق بهما و صرخ بالتسبيح يقول: سبحان الملك القدّوس سبحان اللّه الكبير المتعال لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، فإذا قال ذلك صاح ديك الأرض كلّها، و لذلك الديك زغب (2) أخضر و ريش أبيض كأشدّ بياض. و بالجملة فالحديث طويل فأسقطت منه بعضا إلى أن ينتهي الحديث:

قال رسول اللّه: فلمّا انتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا الورقة منها تظلّ امّة من الأمم فكنت منها كما قال اللّه: «قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (3) فناداني «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ» (4) و قد مضى شرحه في سورة البقرة؛ ثمّ سمعت الأذان فإذا ملك يؤذّن فقال:

ص: 217


1- آل عمران: 68.
2- الزغب: صغار الشعر.
3- النجم: 9.
4- البقرة: 285.

اللّه أكبر اللّه أكبر، فقال اللّه: صدق عبدي. فقال: أشهد أنّ لا إله إلّا اللّه، فقال اللّه: صدق عبدي أنا اللّه لا إله غيري، فقال: أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، فقال اللّه: صدق عبدي، إنّ محمّدا عبدي و رسولي أنا بعثته و انتجبته، فقال: حيّ على الصلاة، فقال: صدق عبدي دعا إلى فريضتي فمن مشى إليها راغبا فيها محتسبا كانت كفّارة لمّا مضى من ذنوبه، فقال: حيّ على الفلاح، فقال اللّه: هي الصلاح و النجاح و الفلاح.

ثمّ أمّمت الملائكة في السماء كما أمّمت الأنبياء في بيت المقدس.

ثمّ غشيني ضبابة (1) فخررت ساجدا فناداني ربّي أنّي قد فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على امّتك فقم بها أنت في امّتك. فقال النبيّ: فانحدرت إلى إبراهيم فلم يسألني عن شي ء حتّى انتهيت إلى موسى، فقال: ما صنعت يا محمّد؟ فقلت: قال ربّي:

فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على امّتك. فقال موسى: إنّ امّتك آخر الأمم و أضعفها و إنّ ربّك لا يردّك شيئا فارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف لأمّتك فرجعت إلى ربّي حتّى انتهيت إلى السدرة فخررت ساجدا، ثمّ قلت: فرضت عليّ و على امّتي خمسين صلاة فخفّف عنّي، فوضع عنّي عشرا فرجعت إلى موسى فأخبرته، قال:

ارجع و اسأل التخفيف، و هكذا في كلّ رجعة أفعل حتّى وصلت إلى خمس فرجعت إلى موسى و أخبرته فقال: لا تطيق امّتك، فقلت: قد استحيت من ربّي و لكن أصبر عليها، فناداني مناد كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين كلّ صلاة بعشر و من همّ من امّتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشرا و إن لم يعمل كتبت له واحدة، و من همّ بسيّئة من امّتك فعملها كتبت عليه واحدة و إن لم يعملها لم أكتب عليه. فقال الصادق صلّى اللّه عليه و آله: جزى اللّه موسى عن هذه الامّة خيرا.

فهذا مختصر تفسير قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا، الآية» فكلمة «سبحان» معناه إبراء اللّه و تنزيهه عمّا لا يليق به من الصفات، و قد يراد به التعجيب يعني سبحان الّذي سيّر عبده محمّدا! و هذا الأمر من عجيب قدرة اللّه، تعجيب ممّن لم يقدّر اللّه حق قدرته و أشرك في عبادته غيره، و لمّا كان هذا الأمر مشاهدة العجب حسن التسبيح.ض.

ص: 218


1- الغمام الرقيق يغشى الأرض.

قال أكثر المفسّرين: اسري برسول اللّه من دار امّ هانئ اخت عليّ بن أبي طالب و زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزوميّ و كان صلّى اللّه عليه و آله نائما تلك الليلة في بيتها، و إنّ المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة و الحرم، و مكّة كلّها مسجد. و قيل: الإسراء من نفس المسجد الحرام.

[إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أي بعيد المسافة و قد بورك حوله من الأثمار و الأشجار و الزرع و النبات و الأمن، أو لأنّه مقرّ الأنبياء و معبد لهم و مقدّس عن الشرك، و اجتمع فيه بركة الدين و الدنيا [لِنُرِيَهُ مِنْ عجائب حججنا لأنّ كلّما رآه صلّى اللّه عليه و آله في تلك اللّيل آيات باهرات [إِنَّهُ تعالى [سميع بأقوال من صدق بذلك أو كذب، البصير فيما فعل من الإسراء و المعراج.

و هاهنا تحقيق للرازيّ و هو إثبات الجواز العقليّ لأنّ الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحدّ ممكنة في نفسها و اللّه قادر على جميع الممكنات و الدليل على أنّ الحركة الواقعة إلى هذا الحدّ من السرعة ممكنة أنّ الفلك الأعظم يتحرّك من أوّل الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور فعلى هذا أن يقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ارتفع من مكّة إلى ما فوق الفلك الأعظم فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر، فلمّا حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور، فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان؛ فهذا برهان قاطع على أنّ الارتقاء من مكّة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه، و إذا كان كذلك كان حصوله في كلّ الليل أولى بالإمكان.

ثمّ إنّه ثبت في الهندسة أنّ قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة و ستّين و كذا مرّة و إنّا نشاهد أنّ طلوع الشمس و القمر يحصل في زمان سريع أقلّ من دقيقة، فذلك يدلّ على أنّ بلوغ الحركة في السرعة إلى الحدّ المذكور أمر ممكن في نفسه.

و هاهنا وجه آخر و بيان أوضح و هو أنّه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الثقيل من مركزه إلى ما فوق العرش فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحانيّ الخفيف من فوق العرش إلى مركز الأرض، فإن كان القول بمعراج محمّد صلّى اللّه عليه و آله في الليلة الواحدة ممتنعا في العقل كان القول بنزول جبرئيل من العرش إلى مكّة في اللحظة الواحدة ممتنعا و لو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوّة جميع الأنبياء و طعنا في أصل النبوّة فثبت أنّ القائلين بامتناع

ص: 219

حصول حركة سريعة إلى هذا الحدّ يلزمهم القول بامتناع نزول جبرئيل في اللحظة الواحدة من العرش إلى مكّة، و لمّا كان ذلك باطلا كان ما ذكروه باطلا.

فإن قالوا: نحن لا نقول: إنّ جبرئيل جسم ينتقل من مكان إلى مكان و إنّما نقول: المراد من نزول جبرئيل هو زوال الحجب الجسمانيّة عن روح محمّد صلّى اللّه عليه و آله حتّى يظهر في روحه من المكاشفات و المشاهدات بعض ما كان حاضرا متجلّيا في ذات جبرئيل.

قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء و أمّا جمهور أهل الإسلام مطلقا فهم مقرّون أنّ جبرئيل جسم و أنّ نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكّة كما أنّ الّذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس مع حجمه من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر، و إذا كان هذا ممكنا كان ذاك ممكنا؛ على أنّ الأمور الإعجازيّة لا بدّ و أن يكون خارجة عن الطبيعة العاديّة و إلّا لم يكن معجزة كما في عصا موسى، فلمّا صحّ حصول مثل هذه الحركة السريعة في بعض الأجسام صحّ إمكانها في سائر الأجسام و الأجسام متماثلة في تمام الماهيّات، و إذا كانت الرياح تسير بسليمان إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة كما قال سبحانه: «غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ» (1) فكيف لا يتعقّل أنّ البراق مع أمر اللّه أقلّ قوّة من الهواء المتموّج.

و على قول من يقول: الحيوان إنّما يبصر المبصرات لأجل أنّ الشعاع يخرج من عينيه و يتّصل بالمبصر في لحظة واحدة و هذا الأمر من الحسّيّات فالّذي أودع في إنسان العين هذه القوّة السريعة أسرى بعين الإنسان أعني أحمد صلّى اللّه عليه و آله هذا السرى، و في هذا المقدار من البيان كفاية لمن أسلم وجهه لقدرة اللّه؛ فثبت أنّ هذا الأمر ممكن الوجود في نفسه و قد نطق به الكتاب و السنّة و أقصى ما في الباب أنّه من العجائب فانقلاب عصى صغيرة ثعبانا يبلع سبعين ألف حبلا و خروج الناقة العظيمة من الجبل الأصمّ أيضا عظيم، فيلزم للمنكر بفساد القول بجميع المعجزات و النبوّات.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 2 الى 3]

وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)

ص: 220


1- سبا: 12.

لمّا ذكر في الآية السابقة إكرامه محمّدا بالإسراء ذكر في هذه الآية إكرام موسى بالكتاب يعني التوراة، و جعلنا بواسطة التوراة خروج بني إسرائيل من ظلمات الجهل إلى هداية الإيمان، و قلنا لهم: لا تتّخذوا غيري ربّا، و قرئ «يتّخذوا» بالياء. و في هذه الآية صنعة الالتفات و صنعة الالتفات كقوله تعالى: «وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا» (1) فكذلك الصرف من الغيبة إلى الخطاب و النهي بقوله: «أَلَّا تَتَّخِذُوا» و حاصل الكلام من ذكر تشريف محمّد بالإسراء و من تشريف موسى بالتوراة و حاصل هذا التشريفات و الهدايات التمحّض في التوحيد و النهي عن الاتّكال بغير اللّه.

ثمّ قال سبحانه: [ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ و في نصب ذرّيّة قولان: قيل:

منصوب على النداء يعني لا تتّخذوا يا ذريّة من حملنا مع نوح في السفينة؛ لأنّ الناس كلّهم ذرّيّته لأنّه كان معه في السفينة سام و حام و يافث كقوله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ»* (2). و قيل:

النصب على المفعوليّة و التقدير: لا تتّخذوا ذرّيّة نوح من دوني تكلون إليهم أموركم أي لا تكلون أموركم إلى غير اللّه.

ثمّ وصف نوحا بالشكر و قال: [إِنَّهُ كانَ عَبْداً] كثير الشكر، و روي أنّه عليه السّلام كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإن وجده محتاجا آثره به، و روي أنّه عليه السّلام كان إذا أكل قال: الحمد للّه الّذي أطعمني و لو شاء أجاعني، و إذا شرب قال: الحمد للّه الّذي أسقاني و إن شاء أظمأني، و إذا اكتسى قال: الحمد للّه الّذي كساني و لو شاء أعراني، و إذا احتذى قال: الحمد للّه الّذي حذاني و لو شاء أحفاني.

و وجه ملاءمة الآية لما قبله تفسير لما قال تعالى: «أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» و وحّدوني، و أنّ العبد لو يرى حصول نعمة و شكر ربّه و لا يرى تلك النعمة إلّا من فضل اللّه فوحّده فقال: اقتدوا به و وحّدوني و لا تشركوا بي شيئا.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 4 الى 6]

وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)

ص: 221


1- ص: 6.
2- الحج: 1.

القضاء فصل الأمر على إحكام و بمعنى الخلق و الإحداث قال: «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» و بمعنى الإيجاب كما قال: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» (1) و بمعنى الإعلام و الإخبار بما يكون من الأمر و هو المعني هاهنا.

أي أوحينا إليهم و أخبرناهم في التوراة أنّ أنتم يا بني إسرائيل [لَتُفْسِدُنَ و ستفسدون في البلاد الّتي تسكنونها و هي بيت المقدس كرّتين، و المراد بالفساد الظلم و أخذ المال و سفك الدماء و قتل الأنبياء. و فسادهم الأوّل: قتل زكريّا، و الثاني: قتل يحيى.

و تستعلون على الناس استعلاء عظيما.

[فَإِذا جاءَ] وقت انتقام فساد الأوّل [بَعَثْنا عَلَيْكُمْ قوما [أُولِي بَأْسٍ و نجدة أي خلّينا بينكم و بينهم و غلبوكم و خذلوكم. و اختلف أنّهم من هم؟ فقيل: شابور ذو الأكتاف من ملوك فارس في قتل زكريّا و سلّط عليهم في قتل يحيى بخت نصّر. و قيل: الفساد الأوّل قتل شعيا و الثاني قتل يحيى و أنّ زكريّا مات حتف أنفه. و قيل: كان الأوّل داود قتل جالوت، و الثاني بخت نصّر.

قوله: [فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ] أي فطافوا وسط الديار يتردّدون و ينظرون هل بقي منهم أحد لم يقتلوه؟ و كان موعود اللّه كائنا لا خلف فيه.

قوله: [ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ] يا بني إسرائيل و عاد ملككم على ما كان [وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ و أكثرنا لكم أموالكم و أولادكم و رددنا لكم الكرّة و العدّة و القوّة [وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ] عددا و أنصارا من عدوّكم، قالوا: إنّ في الفساد الأوّل سلّط اللّه عليهم بخت نصّر فقتل منهم أربعين أو سبعين ألفا ممّن يقرأ التوراة و ذهب بالبقيّة إلى بابل فبقوا هناك في الذلّ إلى أنّ قيّض اللّه ملكا آخر فغزا أهل بابل و اتّفق أن تزوّج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يردّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل و بعد مدّة قامت فيهم الأنبياء و رجعوا إلى أحسن ما كانوا فهو قوله: «ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ». و قيل:

ص: 222


1- السورة: 23.

إنّ اللّه ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلمّا كثرت معاصيهم أزال الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم و بالغوا في قتلهم و إهلاكهم.

و حاصل الكلام أنّ إضافة هذا الفعل من حيث الأمر جزاء على فعلهم و المراد من هذا البعث التخلية و عدم المنع و هذه التخلية بسبب إقدامهم على الفساد و سوء اختيارهم، فوقع الأمر جزاء أو عقوبة.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 7 الى 8]

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)

شرح اللّه في الآية بأن إذا أطعتم فقد أحسنتم إلى أنفسكم و إن أصررتم على المعصية و الكفر فقد أسأتم على أنفسكم، أي إذا أطعتم يفتح اللّه لكم أبواب الخيرات و البركات و إذا خالفتم يفتح اللّه لكم أبواب العقوبات. و معنى «فلها» أي فإليها و عليها، و حروف الإضافه و النسبة يقوم بعضها مقام بعض كقوله: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» (1) أي أوحى إليها. و إنّما قال: «فَلَها» للتقابل و ذكر الإحسان في الآية مرّتان و الإساءة مرّة إشعارا بأنّ جانب الرحمة غالب على جانب العقوبة.

قوله: [فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ] معناه وعد المرّة الأخيرة و هي إقدامهم على قتل يحيى [لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ و إنّما عزّ الإساءة إلى الوجوه لأنّ آثار الأعراض النفسانيّه الحاصلة في القلب إنّما تظهر على الوجه، فحسنت النسبة إلى الوجوه، لأنّ المبعوثين هم الّذين يسوءونهم بالقتل و الأسر فتبيّن أوّلا هذا الأثر في الوجه. و قرئ «ليسوء» بفتح الهمزة، و قرئ بالنون «لنسوء» و القراءة المشهورة «ليسوءوا» بقرينة «وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ» أي مسجد بيت المقدس و نواحيه.

أي و ليستولوا على البلد لأنّه لا يمكنهم دخول المسجد إلّا بعد الاستيلاء على البلد [كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ] أولئك [وَ لِيُتَبِّرُوا] و يدمّروا ما غلبوا و يهلكوا من بلادكم

ص: 223


1- الزلزلة: 5.

تدميرا، مدّة علوّهم و غلبتهم [عَسى رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل [أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد انتقامه منكم إن تبتم و رجعتم إلى طاعته [وَ إِنْ عُدْتُمْ إلى الفساد [عُدْنا] بكم إلى العقاب لكم و التسليط عليكم كما فعلنا فيما مضى. قيل: إنّهم عادوا بعد الاولى و الثانية فسلّط اللّه عليهم المؤمنين يقتلون و يأخذون منهم الجزية.

[وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ سجنا، و محبسا، و كان بين الفساد الأوّل و الثاني الّذي قتل في الفساد الثاني يحيى مائة سنة، و قتل بخت النّصر من بني إسرائيل مائة ألف و ثمانين ألفا و خرّب بيت المقدس إلى أن بناه أصحاب رسول اللّه.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 9 الى 12]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)

النظم: لمّا بيّن في الآية السابقة إنّا آتينا موسى الكتاب كذلك آتيناك يا محمّد القرآن [إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي إلى الأحسن الأقوم من جميع الأديان و الكتب، و يرشد إلى الكلمة الّتي هي أعدل الكمالات و هي كلمة التوحيد و الإيمان به و برسله و العمل بطاعته [وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ بأنّ لهم ثوابا عظيما على طاعتهم و يبشّر أيضا بأنّ [الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] هيّأنا لهم عذاب النار الموجع و إنّما سمّي الثواب الأجر؛ لأنّه يستحقّ في مقابلة العمل كالاجرة الّتي في مقابلة العمل.

قوله: [وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ] أي إنّ الإنسان ربّما يدعو في حال الغضب و الزجر على نفسه و أهله و ولده بما لا ينبغي أن يستجاب له فيه كما يدعو لنفسه بالخير فلو أجاب إليه دعاءه لأهلكه لكنّه لا يجيب دعاءه بفضله و رحمته، و قيل: معناه أنّ الإنسان قد يطلب الشرّ لاستعجاله المنفعة المتصوّرة عند نفسه و يدعو في طلب المحظور كدعائه في طلب المباح [وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا] بالدعاء في الشرّ عجلته بالدعاء في الخير أي إنّ

ص: 224

الإنسان ضجر لا صبر له لا على ضرّاء و لا على سرّاء، و روي عنه أنّه أراد به آدم عليه السّلام لمّا انتهت النفخة إلى سرّته أراد أن ينهض فلم يقدر فشبّه اللّه ابن آدم بأبيه في الاستعجال و طلب الشي ء قبل وقته، و القياس في «يدع» بالواو إلّا أنّه حذف في المصحف عن الكتابة لكن لم يحذف في المعنى لأنّها في موضع الرفع و نظيره «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» (1) و نظير «وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ» (2) و نظير «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ» (3) و لو كان بالواو لكان صوابا أيضا، هذا كلام الفرّاء.

[وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ] و لمّا ذكر في الآية السابقة النعمة الدينيّة من القرآن و الرسول أتبعه بذكر النعم الدنيويّة، أي كما أنّ القرآن ممتزج من المحكم و المتشابه، فكذلك الدهر مركّب من الليل و النهار، فالمحكم كالنهار، و المتشابه كالليل، و أردف بذكر الدلائل التوحيديّة و هو عجائب العالم العلويّ و السفليّ أي جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين و الدنيا، أمّا الدين فمن تغييرهما يستنبط الإنسان على وجود الإله القادر المقدّر لأنّ كونهما متعاقبين على الدوام و متغيّرين أقوى دليل على أنّهما غير موجودين لذاتهما، و لا بدّ لهما من فاعل، و أمّا في الدنيا فلأنّ مصالح الدنيا لا تتمّ إلّا بالليل و النهار.

[فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ بالنهار و آية النهار بالليل يعني طمسنا آية الليل و هي القمر و محونا نورها [وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ] أي الشمس [مُبْصِرَةً] و نيّرة مضيئة للأبصار يبصر أهل النهار بها، و المراد من المحو ما لا يبصر كالشي ء الممحوّ من الكتاب و آية الليل نفسه و ظلمته و آية النهار ضوؤه.

ثمّ بيّن سبحانه الغرض في ذلك فقال: [لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ و لتسكنوا و تستريحوا بالليل و تطلبوا المعاش في النهار بأنواع الأمور المباحة، و هذا الاختلاف فيه فائدة اخرى و هي أنّه تعلمون منه عدد أشهركم و سنينكم و حسابكم بعضكم بعضا لأوقات معاملاتكم و صومكم و صلاتكم و حجّكم و سائر الأمور المتعلّقة بالأوقات.

ص: 225


1- العلق: 18.
2- النساء: 145.
3- ق: 41.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 13 الى 15]

وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)

المعنى: الإنسان يقع على المذكّر و المؤنّث و إذا أردت الفصل قلت: رجل و امرأة.

و كذلك فرس يقع على المذكّر و المؤنّث، و اشتقاقه من الإنس، و هو فعلان عند البصريّين، و عند الكوفيّين هو من النسيان حذفت الياء تخفيفا، و الطائر هاهنا عمل الإنسان شبّه بالطائر الّذي يسنح و يتبرّك به، و الطائر الّذي يبرح فيتشاءم به، و عند العرب أنّه إذا كان الطير سانحا أمكن الرأي و إذا كان بارحا لا يمكنهم بزعمهم، قال الكميت:

و لا أنا ممّن يزجر الطير همّه أصاح غراب أم تعرّض ثعلب

و إنّما خصّ العنق بالذكر أي لازم و لاصق العمل بالعنق كلزوم القلادة للعنق، و العرب يقيم هذا العضو مقام الذات يقال: أعتقت الرقبة، أي كلّ العبد. يريد أنّ الطوق يزين المحسن و الغلّ يشين المسي ء فعمل الإنسان شبه الطائر الميمون و الطائر المشئوم.

[وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً] كتبه الحفظة من أعمالهم يرى ذلك الكتاب مفتوحا [مَنْشُوراً] عليه ليقرأه و يعلمه، و الهاء في «له» عائد إلى العامل أو العمل يقال له: [اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ أن جعل نفسك محاسبا لنفسك و ذلك اليوم يقرأ من لم يكن في الدنيا قارئا.

[مَنِ اهْتَدى في الدنيا إلى دين اللّه و طاعته فمنفعته اهتدائه راجعة إليه [وَ مَنْ ضَلَ عن الدين في الدنيا فإنّما ضرره و ضرر ضلاله راجع إلى نفسه، و لا تحمل نفس حاملة حمل اخرى و ثقل ذنوب غيره أي لا يعاقب أحد بذنوب غيره، و في هذه الآية دلالة على بطلان قول من يقول: إنّ أطفال الكفّار يعذّبون مع آبائهم في النار.

[وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ أي ما نعذّب قوما بعذاب الاستئصال إلّا بعد الإعذار إليهم و الإنذار لهم بأبلغ الوجوه و هو إرسال الرسل إليهم مظاهرة في العقل و إن كان يجوز مؤاخذتهم على العقليّات معجّلا كالإيمان باللّه.

ص: 226

و بالجملة قال بعض: إنّ الآية عامّة في العقليّات و السمعيّات، و قال الأكثرون من المفسّرين- و هو الأصحّ-: إنّ المراد من الآية أنّه لا يعذّب أحدا في الدنيا و لا في الآخرة إلّا بعد البعثة. فتكون الآية خاصّة فيما يتعلّق بالسمع في الشرعيّات، و أمّا ما كانت الحجّة فيه من جهة العقل و هو الإيمان باللّه فإنّه يجوز العقاب بتركه و إن لم يبعث الرسول عند من قال: التكليف العقليّ ينفكّ من السمعيّ. على أنّ المحقّقين منهم يقولون: إنّه و إن جاز التعذيب عليه قبل بعثة الرسل لكنّه سبحانه لا يفعل ذلك و لا يعاقب أحدا حتّى ينفذ المنبّهين إلى الحقّ الهادين إلى الرشد تقوية للحجّة و زوالا للريبة، و قد أخبر سبحانه في هذه الآية عن هذا الأمر و هذا لا يدلّ على أنّه لو لم يبعث رسولا لم يحسن منه أن يعاقب العبد إذا ارتكب القبائح العقليّة.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 16 الى 22]

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)

اللغة: قرئ «آمرنا» بالمدّ و «أمّرنا» بالتشديد، و على القراءة المشهورة يكون المعنى [إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ أهل [قَرْيَةً أَمَرْنا] رؤساءهم و متنعّميهم و متموّليهم بالطاعة و الإيمان و اتّباع الرسل أمرا بعد أمر تكريرا عليهم، و بيّنة بعد بيّنة إعذارا لهم و توكيدا للحجّة عليهم [فَفَسَقُوا فِيها] بالخلاف و التمادي في العصيان [فَحَقَّ عَلَيْهَا] الوعيد [فَدَمَّرْناها] و أهلكناها إهلاكا.

و إنّما خصّ المترفين بالذكر لأنّ غيرهم تبع لهم فيكون الأمر لهم أمرا لأتباعهم فيكون حينئذ قوله: «أَمَرْنا مُتْرَفِيها» جوابا لإذا، و إليه يؤول ما روي عن ابن عبّاس و سعيد

ص: 227

ابن جبير أنّ معناه: أمرناهم بالطاعة فعصوا و فسقوا، كقولك: أمرتك فعصيتني. و يشهد بصحّة هذا المعنى الآية المتقدّمة و هي قوله: «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ إلى قوله- وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» على أنّه لم يجز في العقول تقديم إرادة العذاب على المعصية لأنّه عقوبة عليها و يستحقّه لأجلها، فمتى لم توجد المعصية لم يحسن فعل العقاب، و إذا لم يحسن فعله لم يحسن إرادته.

و قد ذكروا وجوها أخر و هو أنّ قوله: «أَمَرْنا مُتْرَفِيها» من صفة القرية و تقديره:

و إذا أردنا أن نهلك قرية صفتها أنّا كنّا قد أمرنا مترفيها ففسقوا فيها. فلا يكون لإذا جواب ظاهر في اللفظ للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه، و نظيره «حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها- إلى قوله- وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» (1) فلم يأت لإذا جواب في طول الكلام للاستغناء عنه.

و وجه آخر أنّ الآية محمولة على التقديم و التأخير و تقديرها: إذا أمرنا في قرية بالطاعة فعصوا أردنا إهلاكهم. و ممّا يمكن أن يكون شاهدا لهذا الوجه قوله: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» (2) و الطهارة إنّما تجب قبل القيام إلى الصلاة، و الأصحّ القول الأوّل.

قال الكعبيّ: إنّ سائر الآيات دلّت على أنّه لا يبتدئ بالتعذيب و الإهلاك لقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ الآية» (3) و قوله: «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ» (4) و قوله: «وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ» (5) و قوله:

«مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» (6) و من المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض فيجب حمل هذه الآية على تلك الآيات، و لأنّه تعالى لا يعذّب أحدا بما يعلمه منه ما لم يعمل به.

قوله: [فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي وجب حينئذ على أهلها الوعيد و الهلاك.

قوله: [وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ و الأمم الماضية المكذّبة [مِنْ بَعْدِ] زمان [نُوحٍ إلى

ص: 228


1- الزمر: 73.
2- المائة: 7.
3- الرعد. 12.
4- النساء: 146.
5- القصص: 59.
6- الأسراء: 15.

زمانك هذا، لأنّ «كم» للتكثير كما أنّ «ربّ» للتقليل. و القرن مائة و عشرون سنة، و قيل: مائة سنة. و قيل: أربعون سنة. و قيل: ثمانون سنة. و [كَفى ربّك عالما [بِذُنُوبِ خلقه [بَصِيراً] بها يجازيهم عليها.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يدبّر عباده بحسب ما يراه من المصلحة فقال: [مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ] أي النعم العاجلة و هي الدنيا فعبّر عنها بصفتها [عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ] من البسط و التقتير، و علّق ذلك بمشيئته لا بمشيئة العبد و قد يشاء العبد ما لا يشاؤه اللّه فلا يعطيه لكونه مفسدة لمن يريد إعطاءه بحسب المصلحة [ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها] و يحترق بنارها [مَذْمُوماً مَدْحُوراً] مبعّدا من الرحمة.

قوله: [وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ] بشرط أن ينبغي لها بالأعمال الصالحة و النيّات الصادقة لأنّ الأعمال بالنيّات و أنّ استفادة القلب بمعرفة اللّه لا تحصل إلّا بعد الخلوص، و بكون السعي و العمل بموجب ما اقتضته الشريعة النبويّة من غير تبديل و تحريف كعبدة الأوثان، فهؤلاء الموصوفون بهذه الصفات يصير [سَعْيُهُمْ مقبولا و مبرورا و يكونون مشكورون على طاعتهم.

قوله: [كُلًّا نُمِدُّ] التنوين عوض عن المضاف إليه أي كلّ واحد من الفريقين ممّن يريد الدنيا و ممّن يريد الآخرة أيّ البرّ و الفاجر، و المؤمن و الكافر نعطيهم في الدنيا من المال و النعمة، و أمّا الآخرة فللمتّقين خاصّة [وَ ما كانَ رزق [رَبِّكَ ممنوعا عن الكافر لكفره و عن الفاجر لفسقه.

فإن قيل: هل يجوز أن يريد المكلّف بعمله العاجل و الآجل؟ نعم إذا جعل العاجل تبعا للآجل كالمجاهد في سبيل اللّه يقاتل لإعزاز دين اللّه و يجعل الغنيمة تبعا و لكن بالعكس لا يجوز.

[انْظُرْ] يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله [كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن جعلنا بعضهم أغنياء و بعضهم فقراء و بعضهم موالي و بعضهم عبيدا و بعضهم أصحّاء و بعضهم مرضى حسب ما علمناه من المصلحة [وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ أي درجات الآخرة و مراتبها أعلى و أفضل و هي مستحقّة على قدر الأعمال فينبغي أن يكون سعيهم لها أكثر.

ص: 229

و [لا تَجْعَلْ أيّها الإنسان [مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] في عملك و اعتقادك و في رغبتك و رهبتك فإنّك إن فعلت ذلك بقيت ما عشت [مَذْمُوماً] على لسان العقلاء و الأنبياء و الملائكة و [مَخْذُولًا] في الآخرة و لا ينصرك اللّه و يكلك اللّه إلى ما أشركت به. و معنى القعود الذلّ و الخزي و الخسران.

و النظم في الآية مربوط بعضه ببني إسرائيل و ما فعل بهم في الكرّة الاولى و الثانية فبيّن سبحانه أنّه من عادته أنّ من يستحقّ العذاب و يريد إهلاكه فإنّما يهلك القرى بعد أن أمر مترفيها بالطاعة ففسقوا، فيكون إهلاكهم بالاستحقاق لا على الابتداء.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 23 الى 25]

وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)

لمّا ذكر في الآية السابقة ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه بذكر ما هومن شعائر الإيمان فقال سبحانه: [وَ قَضى رَبُّكَ أي أمر ربّك أمرا باتّا و ألزم و أوجب [أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فإن قيل: إنّ الأمر لا يكون أمرا بأن لا يكون الشي ء؛ لأنّ الأمر يقتضي إرادة المأمور به و الإرادة لا تتعلّق بأن لا يكون الشي ء و إنّما تتعلّق الإرادة بحدوث الشي ء. فالجواب أنّه أراد منكم عبادته على وجه الإخلاص و كره عبادة غيره و عبّر من ذلك بقوله:

أمر أن لا تعبدوا إلّا إيّاه [وَ] قضى و أمر [بِالْوالِدَيْنِ و أوصى لهما [إِحْساناً] لأنّ الوصيّة أمر، و أردف هذا الأمر بالأمر الأوّل لأنّ السبب الحقيقيّ في وجود الإنسان هو تخليق اللّه و إيجاده و السبب الصوريّ و الظاهريّ هو الأبوان، و الشكر للمنعم الحقيقيّ واجب و المنعم الحقيقيّ في كلّ النعم هو اللّه، و قد يكون أحد من المخلوق منعما عليك بالسببيّة و شكره حسن لقوله صلّى اللّه عليه و آله: من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه.

فإن قيل: الوالدان إنّما طلبا تحصيل اللذّة لنفسهما فلزم منه دخول الولد في

ص: 230

الوجود و حصوله في عالم الآفات فأيّ إنعام للأبوين على الولد؟

حكي أنّ واحدا من المتّسمين بالحكمة كان يضرب أباه و يقول: هو الّذي أدخلني في عالم الكون و الفساد و عرض للموت و الفقر، و أظنّ أنّه أخ لأبي العلاء المعرّى في طريقة الزندقة؛ لأنّ أبا العلاء لمّا مات أوصى أن يكتب على قبره: هذه جناة أبي عليّ و ما جنيت على أحد:

و ليت شعري كيف نطق هذا الجاهل في الدين؟ حيث اعتقد هذا الإعتقاد الرجس، فهو عارض اللّه في ملكه و أمره؛ لأنّ الروح من أمره. فالجواب من هذه المناقشة الملعونة أنّه هب أنّهما في أول الأمر طلبا اللذّة إلّا أنّ الاهتمام بإيصال الخيرات و دفع الآفات من أوّل دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه أو أكثر أليس إنّه أعظم و أشدّ من جميع ذلك.

و الحاصل أنّ المعنى أمر ربّك أن تحسنوا إلى الوالدين. و أتى بكلمة «إحسانا» منكّرا ليدلّ على العموميّة في الإحسان.

و قوله: [إِمَّا يَبْلُغَنَ و «إن» كلمة شرطيّة و «ما» أيضا شرطيّة كقوله: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ» (1) فلمّا جمع هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط إلّا أنّ علامة الجزم لم تظهر مع نون التأكيد لأنّ الفعل مبنيّ مع نون التأكيد أي إن عاش [عِنْدَكَ أيّها الإنسان [أَحَدُهُما] من الوالدين حتّى يكبر، يريد أن يبلغ [أَوْ] يبلغا [كِلاهُما] في السنّ مبلغا يصيران في السنّ بمنزلة الطفل الّذي يحتاج إلى متعهّد و خصّ بحال [الْكِبَرَ] و إن كان من الواجب إطاعة الوالدين على كلّ حال لأنّ الحاجة في تلك الحالة أكثر إلى التعهّد و الخدمة. و قيل: إنّ الكبر في الآية راجع إلى المخاطب أي أنت إذا بلغت الكبر و قد بقي معك أبواك أو أحدهما [فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ قال الصادق عليه السّلام: لو علم اللّه لفظة أو جز في عقوق الوالدين لأتى به. و في خبر آخر: أدنى العقوق افّ و لو علم اللّه شيئا أيسر منه و أهون منه لنهى عنه، فليعمل العاقّ ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنّة. و قيل:

معنى قوله: بلغا من الكبر ما يبولان و يحدثان فلا تتقذّر منهما و أمط عنهما كما كانا يميطان عنك في صغرك. و كلمة افّ فيها سبع لغات: كسر الفاء و فتحها، و ضمّها منوّنا و غير

ص: 231


1- البقرة: 106.

منوّن فهذه ستّة، و السابعة بالياء «افّي» بالإضافة إلى نفسه، و هي كلمة تدلّ على الضجر و كلمة كراهة.

قوله: [وَ لا تَنْهَرْهُما] أي لا تزجرهما بصياح و غلظة و لا تمتنع من شي ء أراداه كما قال: «وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ» (1) و خاطبهما بقول رقيق حسن بعيد عن اللغو و القبيح. و قيل:

معناه: قل لهما قول العبد المذنب للسيّد و المولى [وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ أي بالغ لهما في التواضع و الخضوع قولا و فعلا و شفقة عليهما، من خفض الطائر جناحه إذا ضمّ فرخه إليه كأنّه قال تعالى: ضمّ أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك و أنت صغير. قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: معناه لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برأفة و رحمة و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يديك فوق يديهما و لا تتقدّم قدّامهما و ادع لهما بالمغفرة و الرحمة في حياتهما و بعد مماتهما جزاء لتربيتهما إيّاك في صباك و هذا إذا كانا مؤمنين.

و [رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ تضمرون من البرّ و العقوق [إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ و طائعين للّه ممّن بدرت منه نادرة، و هو لا يضمر عقوقا فإنّ اللّه للراجع عن دينه غفور.

و روى هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: صلاة أربع ركعات يقرأ في كلّ ركعة خمسين مرّة سورة التوحيد هي صلاة الأوّابين. و قيل: الّذين يصلّون بين المغرب و العشاء.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 26 الى 30]

وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)

قيل في تفسير العامّة: وصّى سبحانه لغير الوالدين من القرابات و المساكين و أبناء السبيل بأن توفّى حقوقهم بعد أن وصّى للوالدين. و قيل: المراد بذي القربى قرابة

ص: 232


1- الضحى: 11.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و القميّ: عنى قرابة رسول اللّه خاصّة فاطمة و نزلت الآية فيها فجعل لها فدك، و المراد بالمسكين من ولد من فاطمة و ابن السبيل من ذرّيّتها. و سنورد قصّة فدك مفصّلة في سورة الروم إن شاء اللّه.

و في الكافي عن الكاظم عليه السّلام في حديث له مع المهديّ العبّاسيّ: إنّ اللّه لمّا فتح على نبيّه فدك و ما والاها لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب فأنزل اللّه هذه الآية على النبيّ «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» و لم يدر رسول اللّه من هم، فراجع في ذلك جبرئيل و راجع جبرئيل ربّه فأوحى اللّه إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة فدعاها رسول اللّه و قال: يا فاطمة إنّ اللّه أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه و منك، الحديث.

و في العيون عن الرضا في حديث له مع المأمون، و الآية الخامسة قول اللّه: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى خصوصيّة خصّهم اللّه العزيز الجبّار بها و اصطفاهم على الامّة فلمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ادعوا لي فاطمة فدعيت له فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا فاطمة، قالت:

لبّيك، فقال: هذه فدك هي ممّا لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب و هي لي خاصّه دون المسلمين فقد جعلتها لك لمّا أمرني اللّه به، فخذيها لك و لولدك. و بالجملة فالأخبار في هذا المعنى مستفيضة.

قوله تعالى: [وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً] قيل: إنّ المبذّر الّذي ينفق المال في غير حقّه و التبذير في اللغة إفساد المال و إنفاقه في السرف، قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف في المسجد مع مجاهد فرفع رأسه إلى أبي قبيس و قال: لو أنّ رجلا أنفق مثل هذا في طاعة اللّه لم يكن سرفا و لو أنفق درهما واحدا في معصية اللّه كان من المسرفين، و أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقيل له: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.

ثمّ قال تعالى: [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ و المراد من هذه الاخوّة التشبّه بهم في هذا الفعل القبيح أي قرناؤهم في الدنيا و الآخرة، كما قال سبحانه: «وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (1) قوله: [وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً] أي كان الشيطان من قديم مذهبه كثير الكفر يكفر مرّة بعد اخرى. قال بعض العلماء:

ص: 233


1- الزخرف: 36.

خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب و ذلك لأنّهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب و الغارة، ثمّ كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء و التفاخر و كان المشركون ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام و توهين أهله، فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أعمالهم.

قوله: [وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها] أي إنّك إن اعتراك الاضطرار بأن تعرض عنهم حياء فلا تعرض عنهم و قل لهم إلخ؛ لأنّه صلّى اللّه عليه و آله إذا سئل و لم يكن له شي ء يعرض حياء. إنّك إن أعرضت عن ذي القربى و المسكين و ابن السبيل حياء من التصريح بالردّ بسبب الفقر و القلّة [فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا] سهلا ليّنا و قوله: «ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ» كناية عن الفقر لأنّ فاقد المال يطلب إحسان اللّه فلمّا كان فقد المال سببا لهذا الطلب أطلق اسم السبب على المسبّب فسمّي الفقر بابتغاء رحمة اللّه، و الحاصل أنّ عند حصول الفقر لا تترك تعهّدهم بالقول الجميل و الكلام الحسن بل تعدهم بالوعد الجميل و الردّ بالطريق الأحسن في القول.

قوله: [وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً] لمّا أمر سبحانه رسوله بالإنفاق في الآية المتقدّمة علّمه أدب الإنفاق نظير ما وصف عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال في السورة:

«وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» (1) فهنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال: «وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ» أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيّق على نفسك و أهلك في وجوه صلة الرحم و سبيل الخيرات للفقراء كالمغلولة الممنوعة من الانبساط كالّذي يداه مشدودة و لا تتوسّع توسّعا مفرطا بحيث لا يبقى في كفّك شي ء و تعطي جميع ما عندك [فَتَقْعُدَ] من العمل و تلوم نفسك و تلام [مَحْسُوراً] كالبعير المنقطع له وسط الطريق، و تبقى متحسّرا مغموما.

روي أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت: قل له: إنّ امّي تستكسبك درعا فإن قال: حتّى يأتينا شي ء، فقل له: إنّها يطلب قميصك، فأتاه و قال له ما قالت له، فنزع صلّى اللّه عليه و آله قميصه و دفعه إليه و لم يجد صلّى اللّه عليه و آله شيئا يلبسه و لم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار، و قالوا: إنّ محمّدا اشتغل بالنوم و اللهو عن الصلاة.

ص: 234


1- الفرقان: 67.

[إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ و يوسّع تارة [وَ يَقْدِرُ] اخرى بحسب المصلحة مع سعة خزائنه إنّه عليم بأحوالهم بصير بمصالحهم.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 31 الى 35]

وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (32) وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)

النظم: لمّا ذكر سبحانه في الآية السابقة أنّه المتكفّل بالرزق حيث قال: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ» و علّم البرّ بالوالدين أتبعه في هذه الآية كيفيّة البرّ بالأولاد و عدم الخوف من الفقر بقوله: [وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خوف الفقر لأنّ العرب كانوا يئدون البنات خوف الفقر لعجز البنات عن الغزو و الكسب و عدم قدرتهنّ على النهب و الغارة و يخافون أنّ فقرها ينفّر كفاءها عن الرغبة فيها، فيحتاجون و يضطرّون إلى إنكاحها بغير كفوها فيلحقهم بذلك عار فقال تعالى: «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ» و الولد وصف مشترك بين الذكور و الإناث، ثمّ قال: [نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ و أخبر سبحانه بأنّه متكفّل برزقهم و رزق آبائهم [إِنَّ قَتْلَهُمْ في الجاهليّة [كانَ إثما عظيما عند اللّه و هو اليوم كذلك.

قوله: [وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى و هو وطي المرأة حراما بلا عقد و لا شبهة عقد [إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً] و معصية كبيرة عظيمة و بئس الطريق الزنى. و فيه إشارة إلى أنّ العقل يقبّح الزنى من حيث إنّه لا يكون للولد نسب معلوم إذ ليس بعض الزناة أولى به من بعض فيؤدّي ذلك إلى قطع الأنساب و إبطال المواريث وصلة الرحم و حقوق الآباء على الأولاد و ذلك مستنكر في العقول.

قال عثمان بن الخطّاب المعروف بأبي الدنيا: سمعت عليّا أمير المؤمنين يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: في الزنى ستّ خصال ثلاث في الدنيا، و ثلاث في الآخرة؛ فأمّا اللواتي

ص: 235

في الدنيا فيذهب بنور الوجه، و يقطع الرزق، و يسرع الفناء، و أمّا اللواتي في الآخرة فغضب الربّ، و سوء الحساب، و الدخول في النار، أو الخلود في النار.

قوله: [وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ و هو أن يجب عليه القتل إمّا لكفره أو لردّته أو لأنّه قتل نفسا بغير حقّ أو زنى و هو محصن [وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً] بغير حقّ [فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] أي آتينا لوليّه سلطان القود على القاتل أو الدية أو العفو، و أكبر الكبائر بعد الكفر باللّه القتل قال صلّى اللّه عليه و آله: الآدميّ بنيان الربّ، ملعون من هدم بنيان الربّ. و الوليّ من يلي أمره بعد وفاته. سلطانا أي تسلّطا بالقصاص و المؤاخذة، و ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص دون الزيادة.

و في الكافي عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية قيل: ما هذا الإسراف الّذي نهى اللّه عنه؟ قال عليه السّلام: نهى أن يقتل غير قاتله أو يمثّل بالقاتل، قيل: فما معنى «إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» قال: و أيّ نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى أولياء المقتول فيقتله و لا تبعة تلزمه من قتله في دين و لا دنيا.

و في الكافي و العيّاشيّ عنه عليه السّلام إذا اجتمع العدّة على قتل رجل واحد حكم الوليّ أن يقتل أيّهم شاء و ليس له أن يقتل أكثر من واحد، إنّ اللّه يقول: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً» إلى قوله: «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ».

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام نزلت في الحسين عليه السّلام لو قتل أهل الأرض به ما كان مسرفا.

قوله تعالى: [وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ هذا هو النوع الثالث من المنهيّات، الأوّل الزنى لأنّه كان يوجب انقطاع النسل و ذلك يوجب المنع من دخول الناس في الوجود لأنّ اختلاط الأنساب موجب لمنع الاهتمام بتربية الأولاد و ذلك يوجب انقطاع النسل فثبت أنّ الزنى و القتل يرجع حاصله إلى النهي عن إتلاف النفوس فلمّا ذكر اللّه هذين الأمرين أتبعه بالنهى عن إتلاف الأموال و أحقّ الناس بالنهى عن إتلاف أموالهم هو اليتيم لأنّه لصغره و كمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله لأنّه لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه فلهذا خصّهم بالنهي عن إتلاف أموالهم.

ص: 236

و في تفسير قوله: [إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و جهان: الأوّل إلّا بالتصرّف الّذي ينميه و يكثره. الثاني إذا احتاج احتياجا شديدا أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه كما قال سبحانه: «وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ» (1) و اعلم أنّ الوليّ تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشدّه و هو بلوغ النكاح كما بيّنه في آية اخرى قال: «وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (2) و المراد بالأشدّ بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله و رشده القيام بمصالح ماله و عند ذلك تزول ولايته عن اليتيم.

قوله تعالى: [وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ] و اعلم أنّ كلّ عقد يقدم لأجل توثيق الأمر و توكيده فهو عهد، و بالجملة مقتضى الآية أنّ كلّ عقد و عهد مشروع جرى بين إنسانين فإنّه يجب عليهما الوفاء بمقتضاه كعقود البيع و الشركة و اليمين و الصلح و النكاح إلّا ما خرج بدليل منفصل فإنّه غير مشروع.

و يؤكّد هذا النص أيضا آيات أخر دالّة على الوفاء بالعهود و العقود كقوله:

«وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» (3) و قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ»* (4) فالأصل في العقود الصحّة و وجوب الالتزام به نعم لو وجدنا نصّا أخصّ من هذه النصوص يدلّ على البطلان و الفساد قضينا به تقديما للخاصّ على العام و بهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها مضبوطة معلومة و يكون الإنسان مطمئنّ القلب في العمل، ثمّ قال سبحانه: [إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا] يراد صاحب العهد كان مسئولا عنه.

[وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ و المقصود منه إتمام الكيل و ذكر الوعيد الشديد في نقصانه في موضع آخر بقوله: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» (5) [وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ و هو الميزان صغر أم كبر و المستقيم الّذي لا بخس فيه و لا غبن و هو العدل أي ما يكال و ما يوزن فلا بدّ و أن يكون بالتمام من دون نقص، و [ذلك خَيْرٌ ثَواباً] و أقرب إلى اللّه [وَ أَحْسَنُ عاقبة و مرجعا،

ص: 237


1- النساء: 5.
2- النساء: 5.
3- البقرة: 177.
4- المؤمنون: 8. المعارج: 32.
5- المطفّفين: 1.

و القسطاس في معنى الميزان. و قيل: القبّان. و قيل: إنّه بالروميّة و استعملته العرب و الأصحّ أنّه لغة العرب و مأخوذ من القسط و الاستقامة و الاعتدال الّذي لا يميل إلى أحد الجانبين.

قوله: [سورة الإسراء (17): آية 36]

وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)

. قوله: [وَ لا تَقْفُ مأخوذ من القفا أي لا تتبّع و لا تقف ما لا علم لك به من قول أو فعل و حاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما و هذه قضيّة كلّيّة يندرج تحتها أنواع كثيرة. و فيه وجوه و كلّ واحد من المفسّرين حمله على واحد من تلك الأنواع:

الاول نهى المشركين عن المذاهب الّتي كانوا يقلّدون آباءهم في الإلهيّات فقال:

«إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ» (1).

و القول الثاني نقل عن محمّد بن الحنفيّة أنّ المراد منه شهادة الزور. قال ابن عبّاس:

لا تشهدوا إلّا بما رأته عيناك و سمعته اذناك و وعاه قلبك.

و القول الثالث المراد منه النهي عن القذف و رمي المحصنين و المحصنات بالأكاذيب.

و القول الرابع المراد منه النهي عن الكذب أي لا تقل: سمعت و لم تسمع و علمت و لم تعلم.

و القول الخامس أنّ القذف هو البهت أي لا تقل في قفا غيرك كلاما يسوؤه، و هو معنى الغيبة.

و احتجّ نفاة القياس بهذه الآية قالوا: القياس لا يفيد إلّا الظنّ، و الظنّ مغاير للعلم فالحكم في دين اللّه بالقياس حكم بغير المعلوم فوجب أن لا يجوز لقوله: «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ».

و أجاب مثبتو القياس بأنّ الحكم في الدين بمجرّد الظنّ جائز بإجماع الامّة في صور كثيرة: أحدها أنّ العمل بالفتوى عمل بالظنّ و هو جائز، و العمل بالشهادة عمل

ص: 238


1- النجم: 23.

بالظنّ و إنّه جائز، و الاجتهاد في طلب القبلة لا يفيد إلّا الظنّ و أنّه جائز، و قيم المتلفات و اروش الجنايات لا سبيل إليها إلّا بالظنّ و هو جائز، و كون هذه الذبيحة ذبيحة المسلم مظنون لا معلوم و بناء الحكم عليه جائز. و قوله عليه السّلام: «نحن نحكم بالظاهر» تصريح بأنّ الظنّ معتبر في مثل هذه الأنواع.

قوله: [إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ] يسأل عمّا سمع و البصر عمّا رأى و القلب عمّا عزم عليه؛ إنّ أصحابها مسؤولون و كلّ أولئك الجوارح و أصحابها مسؤولون.

و روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يزول قدم عبد يوم القيامة بين يدي اللّه حتّى يسأل عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته و جسدك فيما أبليته؟ و مالك من أين كسبته؟ و أين وضعته؟ و عن حبّنا أهل البيت.

قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 37 الى 40]

وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)

«المرح» شدّة الفرح أي [لا تَمْشِ على وجه البطر و الخيلاء و التكبّر [إِنَّكَ أيّها الإنسان [لَنْ تشقّ [الْأَرْضِ من تحت قدمك بكبرك [وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ بتطاولك، فما وجه هذه المنابزة؟ لأنّ من الناس من يمشي في الأرض بطرا يدقّ قدميه عليها ليرى بذلك قدرته و قوّته و يرفع رأسه و عنقه، فبيّن سبحانه أنّه ضعيف لا يقدر أن يخرق الأرض بدقّ قدميه على الأرض حتّى ينتهى إلى آخرها و أنّ طوله كلّما يتطاول لا يبلغ طول الجبال، فعلّم اللّه عباده التواضع و الوقار.

قوله: [كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى جميع ما تقدّم من المنهيّات كان معصيته عند اللّه [مَكْرُوهاً] لا يريدها و لا يرضاها، و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان قول المجبّرة بأنّه تعالى يكره السيّئات و إذا كرهها فكيف يريدها و يخلقها؟ و هذا أمر ممتنع.

ص: 239

قوله: [ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ] إشارة إلى جميع ما تقدّم في هذه الآيات من الأوامر و النواهي و هي تقرب من واحد و عشرين حكما:

فأوّلها قوله: «وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» و قوله: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» فهذا اثنان و الثالث قوله: «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» و الرابع «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» و الخامس «وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» و السادس «وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ» و السابع «وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما» و الثامن و التاسع و العاشر «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ» و الحادي عشر «وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» و الثاني عشر «وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً» و الثالث عشر «وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ» و الرابع عشر «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ» و الخامس عشر «وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» و السادس عشر «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» و السابع عشر «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» و الثامن عشر «وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ» و التاسع عشر «وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ» و العشرون «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» و الواحد و العشرون «وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً».

و بالجملة هذه الأمور ممّا أوحى اللّه من الحكمة المؤدّية إلى المعرفة بالحسن و القبيح.

[وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] في إقرارك و اعتقادك و فعلك، و الخطاب للنبيّ و المراد به الامّة فإنّك إذا فعلت ذلك طرحت [فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً] مبعدا عن رحمة اللّه.

قوله: [أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً] هذا خطاب لمن جعل الملائكة بنات اللّه. قوله: «أَ فَأَصْفاكُمْ» أي أخلصكم اللّه بالبنين و خصّكم بهم و اتّخذ لنفسه البنات، و أضفتم إلى اللّه ما لم ترضوا لأنفسكم؟ نظير قوله: «أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى (1) و نظير قوله: «أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ» (2) و في جعل الشريك جعلوا الأرفع لأنفسهم و الأدون له أي اختصّ الاتّخاذ بالبنين لكم و اتّخذ لنفسه البنات و الإناث، و جعلها مشتركة بينه و بينكم أي اختصّ لنفسه الأدون و لكم الأرفع [إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً]

ص: 240


1- النجم: 21.
2- الطور: 39.

كثير الإثم و هو جعل الشريك و الجزء للّه سبحانه.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 41 الى 44]

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)

التصريف عبارة عن صرف الشي ء من جهة إلى جهة نحو تصريف الرياح و تصريف الأمور ثمّ تستعمل لفظ التصريف كناية عن التبيين لأنّ من حاول بيان شي ء فإنّه يصرف كلامه من نوع إلى نوع، و من مثال إلى مثال ليقوى و يوضح البيان.

قوله: [وَ لَقَدْ صَرَّفْنا] أي بيّنّا [فِي هذَا الْقُرْآنِ ضروبا من كلّ بيان و مثل.

و مفعول «صرّفنا» محذوف [لِيَذَّكَّرُوا] و يتفكّروا فيها فيعلمون الحقّ و ليؤمنوا و لكنّهم يعكسون الأمر [وَ ما يَزِيدُهُمْ تصريف البيان [إِلَّا] تباعدا عن الحقّ. و شبّههم اللّه بالدوابّ النافرة.

قوله: [قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ] أي لو فرضنا وجود آلهة مع اللّه لغلب بعضهم بعضا و حاصله، يرجع إلى دليل التمانع و لطلبوا الآلهة سبيلا إلى مغازة مالك العرش و مغالبة و منازعته و الكفويّة معه ليصفو له الملك.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه من أن يكون له شريك في الإلهيّة فقال: [سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عن قولهم [عُلُوًّا كَبِيراً] و ليس المراد من هذا التعالي العلوّ المكافي بل التعالي عن النظير و الشريك و جعل مصدرا مكان مصدر كقوله: «أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (1) و كقوله: «وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا» (2).

قوله: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ معنى التسبيح هاهنا الدلالة على توحيد اللّه و عدله و جرى ذلك مجرى التسبيح باللفظ و ربّما يكون التسبيح من طريق الدلالة أقوى لأنّه يؤدّي إلى العلم و ليس في شي ء من الموجودات إلّا و يسبّح بحمد اللّه من جهة خلقته إذ كلّ موجود سوى القديم حادث، و حدوثه يدعو إلى صانع غير مصنوع و قيل: إنّ كلّ شي ء

ص: 241


1- نوح: 17.
2- المزمّل: 8.

على العموم من الحيوان و النبات و الجماد يسبّح اللّه حتّى صرير النبات و خرير الماء [وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ حيث لم تنظروا فتعلموا كيف دلالتها على توحيده [إِنَّهُ كانَ حَلِيماً] يمهلكم على كفركم [غَفُوراً] لكم إذا تبتم.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 45 الى 48]

وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)

نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا قرأ القرآن على الناس: روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان كلّما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان و عن يساره آخران من ولد قصيّ يصفقون و يصفرون و يخلطون عليه بالأشعار.

و عن أسماء أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان جالسا و معه رجل من أصحابه إذا أقبلت امّ جميل امرأة أبي لهب و بيدها فهر تريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي تقول: مذمّما أتينا، و دينه قلينا، و أمره عصينا، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه معها حجر أخشاها عليك، فتلا صلّى اللّه عليه و آله هذه الآية فجاءت و ما رأت رسول اللّه.

و روي ابن عبّاس أنّ أبا سفيان و النضر بن الحرث و أبا جهل و غيرهم كانوا يجالسون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يستمعون إلى حديثه فقال النضر يوما: ما أدري أنّ محمّدا ما يقول، غير أنّي أرى شفتيه يتحرّك بشي ء. و قال أبو جهل: هو مجنون. و قال أبو لهب: هو كاهن.

و قال حويطب بن عبد العزّى: هو شاعر، فنزلت هذه الآية.

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاث آيات و هي قوله في سورة الكهف: «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً» (1) و في النحل «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» (2) و في حم الجاثية «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» (3) إلى

ص: 242


1- آية: 58.
2- آية: 108.
3- آية: 22.

آخر الآية، فكان اللّه يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين و هو المراد من قوله:

[جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً].

فلو قيل: يقتضي أن يقال: حجابا ساترا، الجواب: حجاب يخلقه اللّه في عيونهم بحيث يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبيّ و ذلك الحجاب شي ء لا يراه أحد فكان مستورا من هذا الوجه، أو كما يجوز أن يقال: لابن و تامر يعني ذو لبن و ذو تمر فكذلك يقال:

مستور معناه ذو ستر، و الدليل عليه قولهم: مرطوب أي ذو رطوبة، و لا يقال: رطيبة. و يقال:

جارية مغنوجة أي ذات غنج. و قال الأخفش: هاهنا المستور بمعنى الساتر، فإنّ الفاعل قد يجي ء بلفظ المفعول كما يقال: مشؤوم و ميمون و إنّما هو شائم و يامن.

[وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ... وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً] و سترا بسبب عدم قبولهم قول الحقّ و شدّة امتناعهم عن قبول نبوّته، و إنّما نسب اللّه ذلك الكنّ و الحجاب إلى نفسه لأنّه لمّا خلّاهم مع أنفسهم و ما منعهم بطريق الإلجاء صارت تلك التخلية كأنّها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة، كما أنّ السيّد إذا لم يراقب حال عبده بسوء فعله فإذا ساءت سيرته فيقول السيّد: أنا الّذي ألقاك في هذه الحالة بسبب أنّه ما رقبت حالك. لكنّ السبب الواقعيّ هو سوء فعل العبد و اختياره، فلذلك صحّت الإضافة.

قوله: [وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي و إذا ذكرت اللّه بالتوحيد و أبطلت الشرك تركوا ذلك المجلس و [وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً] نافرين فيكون المصدر بمعنى الفاعل أو «نفور» جمع نافر مثل شهود جمع شاهد و قعود جمع قاعد.

ثمّ قال سبحانه: [نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي ليس يخفى علينا حال هؤلاء المشركين و غرضهم من الاستماع إليك بل معلوم عندنا و نعلم حال ما يصغون إلى سماع قراءتك و حال ما يقومون من عندك و يتناجون فيما بينهم و يستهزءون، و يقولون: هو شاعر و كاهن و مجنون.

قوله: [وَ إِذْ هُمْ نَجْوى أي ذوي نجوى و يقولون: ما [تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا] قد سحر و اختلط عليه أمره و إنّما كانوا يقولون ذلك للتنفير عنه. و قيل: المسحور هاهنا بمعنى

ص: 243

الساحر. و قيل: المسحور الفاسد المخدوع المعلّل. ثمّ قال سبحانه: على وجه التعجّب من قبيح فعالهم:

[انْظُرْ] يا محمّد [كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي شبّهوا لك الأشباه بقولهم: شاعر و ساحر. و ضلّوا بهذه الأقوال عن قبول الحقّ [فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا] أي لا يجدون حيلة و طريقا إلى بيان تكذيبك إلّا البهت الصريح و ضلّوا عن الطريق المستقيم و هو دين الإسلام.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 49 الى 52]

وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)

قال المنكرون للبعث من المشركين: إنّا إذا متنا و انتشر لحومنا و صرنا عظاما و ترابا و غبارا أ نبعث بعد ذلك [خَلْقاً جَدِيداً]؟ و إنّما قالوا ذلك على وجه الإنكار بصورة الاستفهام [قُلْ لهم يا محمّد [كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً] أي اجهدوا في أن تكونوا حجارة أو حديدا في الشدّة و القوّة [أَوْ خَلْقاً] هو أعظم من ذلك عندكم و أصعب فإنّكم لا تفوتون اللّه و سيحييكم بعد الموت.

و قال ابن عبّاس: المراد بقوله: [أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ هو الموت و المقصود المبالغة أي لو صارت أبدانكم نفس الموت فاللّه يعيدها فضلا عن التراب و الرفات مثل أن يقال: لو كنت عين الموت فاللّه يحييك.

و حاصل المعنى أنّ القوم استبعدوا أن يردّهم إلى حال الحياة بعد أن صاروا عظاما و رفاتا، لأنّها صفات منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر فبيّن اللّه سبحانه بأنّه قدّروا أنّ انتهاء أجسامكم بعد الموت إلى صفة اخرى أشدّ منافاة لقبول الحياة من التراب و العظام مثل أن تصير حجارة أو حديدا فإنّ المنافاة بين الحجريّة و الحديديّة و بين قبول الحياة أشدّ من المنافاة بين العظميّة و الترابيّة و بين قبول الحياة؛ فبتقدير أن تصير

ص: 244

أبدان الناس موصوفة بالحديديّة بعد الموت أو أكبر فاللّه تعالى يعيد الحياة إليها و يجعلها حيّا عاقلا كما كان.

قوله: [فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا] أي إنّك يا محمّد إذا قلت لهم: البعث، سيقولون لك من بحيينا؟ [قُلِ الَّذِي خلقكم [أَوَّلَ مَرَّةٍ] فإنّ من قدر على ابتداء الشي ء كان على إعادته أقدر، و إنّما قال ذلك لهم لأنّهم كانوا يقرّون بأنّ النشأة الاولى خلقها اللّه [فَسَيُنْغِضُونَ أي يتحرّكون [إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ تحريك المستهزئ المستخفّ المستبطئ و يقولون: [مَتى يكون البعث؟ [قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً] لأنّ ما هو آت قريب، قال الحسن:

و كأنّك بالدنيا لم تكن و كأنّك بالآخرة لم تزل.

قوله: [يَوْمَ يَدْعُوكُمْ معناه عسى أن يكون بعثكم قريبا أيّها المشركون يوم يدعوكم من قبوركم إلى الموقف على ألسنة الملائكة فيقولون: أيّها العظام النخرة و الجلود البالية عودي كما كنت [فَتَسْتَجِيبُونَ مضطرّين معترفين بأنّ الحمد للّه هناك لأنّ المعارف يومئذ ضروريّة، قال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم يقولون: سبحانك و بحمدك، لكن لا ينفعهم الحمد في ذلك اليوم، لأنّ إبليس ذلك اليوم موحّد.

قوله: [وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا] أي تظنّون أنّكم لبثتم قليلا في الدنيا لسرعة انقلاب الدنيا إلى الآخرة و إنّما استقصروا لبثهم في الدنيا لعلمهم بطول مكثهم في الآخرة. و قيل: إنّ معنى الآية من قوله: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ إلخ» خطاب للمؤمنين لأنّهم يستجيبون اللّه و يحمدونه على إحسانه و يستقلّون مدّة لبثهم في البرزخ لكونهم في قبورهم منعّمين غير معذّبين، و أيّام السرور و الرخاء قصار.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 53 الى 55]

وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)

المراد من العباد في الآية المؤمنون لأنّ لفظ العباد في أكثر الآيات مختصّ بالمؤمنين

ص: 245

كقوله: «فَبَشِّرْ عِبادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» (1) و قال: «فَادْخُلِي فِي عِبادِي» (2) و قال:

«عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» (3).

و لمّا ذكر سبحانه الحجّة اليقينيّة في إبطال الشرك بقوله: «لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» (4) بدليل التمانع و ذكر الحجّة اليقينيّة في صحّة المعاد بقوله: «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» قال في هذه الآية بقوله: [وَ قُلْ لِعِبادِي إذا أردتم إيراد الحجّة على المخالفين فاذكروا الدليل بالطريق الأحسن و هو أن لا يكون ذكر الحجّة بالشتم و السبّ، و ذلك لأنّ ذكر الحجّة لو اختلط به شي ء من السبّ و الشتم لقابلوكم بمثله كما قال: «وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» (5) و يزداد الغضب و تتكامل النفرة، و يمتنع حصول المقصود [إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي متى صارت الحجّة ممزوجة بالبذائة صارت سببا لثوران الفتنة، ثمّ قال سبحانه: [إِنَّ الشَّيْطانَ عداوته مع الإنسان قديمة.

و سبب النزول أنّ المشركين كانوا يؤذون النبيّ و أصحابه و كان الأصحاب يقولون للنبيّ: ائذن لنا في قتالهم. فأنزل اللّه هذه الآية، ثمّ قال سبحانه: [رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بإخراجكم من مكّة و تخليصكم من إيذائهم [أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بتسليطهم عليكم و هو أعلم بالمصلحة. و قيل: معناه إن يشأ يرحمكم بفضله و إن يشأ يعذّبكم بعدله، فيكون الخوف منه و الرجاء إليه.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: [فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً]* لأعمالهم بل إنّا أرسلناك داعيا لهم إلى الإيمان شاءوا أم أبوا فإن أجابوك، و إلّا فلا شي ء عليك فإنّ عقاب ذلك يحلّ بهم. و قيل: إنّ المراد من قوله: «وَ قُلْ لِعِبادِي» هاهنا الكفّار و لا يبعد في هذا الخطاب ليكون سببا لجذب قلوبهم و ميل طباعهم إلى الدين.

قوله: [وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لمّا ذكر «ربّكم أعلم بكم» ذكر أنّ علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلّق بجميع الموجودات السماويّة و الأرضيّة و لهذا

ص: 246


1- الزمر: 17، 18.
2- الفجر: 31.
3- الدهر: 6.
4- السورة: 42.
5- الانعام: 108.

السبب فضّل بعض الناس على بعض و بعض النبيّين على بعض.

و إنّما خصّ داود بالذكر لوجوه:

الاول أنّ داود كان ملكا عظيما، ثمّ إنّه لم يذكر ما آتاه من الملك تنبيها على أنّ التفضيل الّذي ذكره التفضيل بالعلم لا بالمال.

و الوجه الثاني في التخصيص أنّه كتب في الزبور أنّ محمّدا خاتم النبيّين و أنّ امّته خير الأمم كما قال سبحانه: «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» (1) و هم محمّد و امّته، و الزبور عبارة عن المزبور.

و الوجه الثالث أنّ كفّار قريش ما كانوا أهل نظر بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات، و اليهود كانوا يقولون: إنّه لا نبيّ بعد موسى و لا كتاب بعد التوراة، فنقض اللّه كلامهم بإنزال الزبور على داود.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 56 الى 57]

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)

النزول: كان بعض المشركين يقولون: نحن نعبد بعض المقرّبين من عباد اللّه فقوم عبدوا الملائكة، و قوم عبدوا عزيرا، و قوم عبدوا المسيح، و قوم عبدوا نفرا من الجنّ؛ فنزلت الآية: إنّ [الَّذِينَ تزعمونهم آلهة لا [يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ و جلب النفع لكم [وَ لا تَحْوِيلًا] للحالة الّتي تكرهونها إلى حالة تحبّونها و من كان بهذه الصفة فإنّه لا يصلح للإلهيّة و لا يستحقّ العبادة.

ثمّ رجع سبحانه إلى ذكر الأنبياء و الموحّدين في الآية الاولى فقال: [أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ إلى اللّه و يطلبون القربة و [الْوَسِيلَةَ] بالعبادة إليه [أَيُّهُمْ أفضل و [أَقْرَبُ و ذكر ذلك حثّا على الاقتداء بهم و ترك هذه الطريقة الخبيثة. فليكن الإنسان يرجو رحمة اللّه و يخاف عذابه [إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ يجب أن يحذر منه.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 58 الى 60]

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

ص: 247


1- الأنبياء: 105.

ثمّ أرشد سبحانه الخلق فقال: [وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها] بإماتة أهلها [أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً] و هو عذاب الاستئصال فيكون هلاك الصالحين بالموت و هلاك الطالحين بالعذاب في الدنيا فإنّه يفنى الناس و يخرب البلاد قبل يوم القيامة ثمّ يقوم القيامة. و قيل: المراد بذلك قرى الكفر و الضلال دون قرى الإيمان و المراد بالهلاك التدمير.

[كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً] و ذلك كائن البتّة و هذا الحكم في الكتاب الكبير مكتوب و واقع لا محالة.

قوله: [وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ الّتي يقترحونها المشركون منك كقولهم: «اجعل لنا الصفا ذهبا» و أمثاله، إلّا تكذيب الأمم المتقدّمة لأنّهم اقترحوا من أنبيائهم و آتيناهم الآيات الّتي اقترحوها و لم يؤمنوا مع ذلك فاستحقّوا معاجلة العذاب فعذّبناهم بعذاب الاستئصال فحال قومك كذلك لو نأتيهم ما يقترحون لوجب أن نعذّبهم بعد الإتيان و عدم إيمانهم و الحكمة اقتضت إمهالهم فلذلك السبب منعنا بإتيان الآيات المقترحة كما أنّه [آتينا قوم [ثمود] آية المقترحة و هي [النَّاقَةَ] و ما آمنوا فعذّبناهم لأنّهم ظلموا بالآية و أنكروها، لكنّ الحكمة اقتضت أن تكون شريعتك مؤبّدة إلى يوم القيامة و هذا ينافي عذاب الاستئصال.

و قوله: [مُبْصِرَةً] أي آية يستدلّ بها على صدق الرسول [فَظَلَمُوا] و جحدوا بأنّها من عند اللّه و ظلموا أنفسهم بوقوع العذاب عليهم [وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا] زجرا و [تَخْوِيفاً] لهم من عذاب اللّه.

ثمّ خاطب نبيّه فقال: و اذكر الوقت الّذي [قُلْنا لَكَ يا محمّد [إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ علما بأحوالهم و بما يفعلون من الطاعة و المعصية أي إنّ حكمته و قدرته محيطة بالناس فهم

ص: 248

في قبضته و المقصود أنّهم لا يقدرون على أمر من الأمور في إيذائك و نحن ننصرك حتّى تبلغ رسالتك و تظهر ديني كما قال في موضع: «وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» (1) و قيل: معنى قوله:

«إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» المراد بالناس في هذه الآية أهل مكّة و إحاطة اللّه بهم هو أنّه يفتحها للمؤمنين و يظهر دولتك عليهم.

قوله: [وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا] فيه أقوال:

أحدها أن المراد بالرؤيا رؤية العين و هي ما ذكره في أوّل السورة من إسراء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مكّة إلى بيت المقدس و إلى السماوات في ليلة إلّا أنّه لمّا رأى ذلك ليلا و أخبر بها حين أصبح سمّاها رؤيا و سمّاها فتنة لأنّه أراد بالفتنة الامتحان ليعرض للمصدّق بذلك جزيل ثوابه و المكذّب به أليم عقابه.

و ثانيها أنّها رؤيا نوم رآها صلّى اللّه عليه و آله أنّه سيدخل مكّة و هو بالمدينة فقصدها فصدّها المشركون في الحديبيّة عن دخولها حتّى شكّ قوم منهم عمر، و دخلت عليهم الشبهة فقالوا:

يا رسول اللّه أليس قد أخبرتنا أنّا ندخل المسجد الحرام آمنين؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: أو قلت لكم أنّكم تدخلونها العام؟ قالوا: لا؛ فقال: لندخلنّها إن شاء اللّه، و رجع ثمّ دخل مكّة في العام القابل فنزل: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» (2) و إنّما كان ذلك فتنة و امتحانا.

و ثالثها أنّ ذلك رؤيا رآها النبيّ في منامه أنّ قرودا تصعد منبره و تنزل، فساءه ذلك و اغتمّ به، و لم ير بعد ذلك ضاحكا حتّى مات صلّى اللّه عليه و آله و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قالوا: إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو اميّة. و روي عن منهال ابن عمرو قال: دخلت على عليّ بن الحسين فقلت له: كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟ فقال:

أصبحنا بمنزلة بني إسرائيل من آل فرعون يذبّحون أبناءهم و يستحيون نساءهم و أصبح خير البريّة بعد رسول اللّه يلعن على المنابر و أصبح من يحبّنا منقوصا و مغصوبا حقّه بحبّه إيّانا، ثمّ بكى و قال عليه السّلام: وا ذلّاه لامّة قتل ابن دعيّها ابن بنت نبيّها.

ص: 249


1- المائدة: 70.
2- الفتح: 27.

و ممّا يؤكّد هذا المعنى قول عائشة لمروان: لعن اللّه أباك و أنت في صلبه فأنت بعض من لعنه اللّه.

فلو قيل: إنّ رسول اللّه ما كان له منبر بمكّة. فالجواب أنّه رأى أنّ له بالمدينة منبرا يتداوله بنو اميّة.

و قيل: إنّ الشجرة الملعونة في القرآن أي الزقّوم و إنّما سمّي فتنة لأنّ المشركين كانوا يقولون: إنّ محمّدا يوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثمّ يزعم أنّه تنبت فيها الشجرة.

و قوله: [فِي الْقُرْآنِ معناه: الّتي ذكرت في القرآن، قوله: [وَ نُخَوِّفُهُمْ أي نرهبهم بما نقصّ عليهم في هلاك الأمم الماضية و بما نرسل من الآيات [فَما يَزِيدُهُمْ ذلك [إِلَّا طُغْياناً] و عتوّا في الكفر عظيما لأنّهم لا يرجعون عن كفرهم.

قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 61 الى 65]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)

النظم: لمّا وصفهم بقوله: «فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» و إنّ القوم نازعوا رسول اللّه و أنكروا رسالته لأجل الكبر و الحسد شرح في هذه الآية أنّ الّذي حملهم على هذا الأمر و هو الكبر حمل إبليس على ما حمل.

قوله: [وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ] قد مرّ تفسيره في سورة البقرة [قالَ إبليس [أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً] و هو استفهام بمعنى الإنكار، استكبر عن السجود نظر بأصله حيث إنّه من نار و أصل آدم من طين، و لم يعرف أنّ الأصل ليس بالبنية بل بالإطاعة، و إنّما جاز أن يأمرهم بالسجود لأنّ السجود يترتّب من التعظيم و ليس كذلك العبادة، و العبادة خاصّة للّه.

ص: 250

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 299

ثمّ قال اللعين: أخبرني عن هذا الّذي فضّلته عليّ؛ لم فضّلته عليّ و أنا خير منه؟

و اختصر الكلام لكونه مفهوما من سياق الكلام، و الكاف لتأكيد الخطاب لا محلّ لها من الإعراب، أي أخبرني أنت عن هذا الّذي كرّمته عليّ و أمرتني بالسجود له، لم كرّمته عليّ و مقصوده الاستصغار و الاستحقار أي أ هذا من الّذين كرّمته عليّ؟ و حذف حرف الاستفهام من هذا استغناء عنه بسبب الاستفهام الأوّل في «أَ رَأَيْتَكَ».

[لَئِنْ أَخَّرْتَنِ حيّا [إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] و اللام توطئة للقسم، و جوابه [لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لأستأصلهم [إِلَّا قَلِيلًا] مأخوذ من احتنك الجراد الأرض إذا جرّد ما عليها، أو المعنى لأقودنّهم، من حنكت الدابّة و احتنكتها إذا جعلت في حنكها الأسفل حبلا تقودها به، و إنّما ادّعى اللعين هذا الأمر لأنّه قد جرت بوسوسة آدم فلم يجد له عزما فعلم أنّ أولاده أضعف منه.

[قالَ تعالى [اذْهَبْ يا إبليس [فَمَنْ تَبِعَكَ من ذرّيّته و اقتفى أثرك و قبل منك [فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً] كاملا [وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ أي استزلّ من اقتدرت [مِنْهُمْ بوسوستك و أضلّهم بدعوتك و هذا تهديد بصورة الأمر [بِصَوْتِكَ أي بالغناء و المزامير و الملاهي أو كلّ صوت يدعا به إلى الفساد فهو من صوت الشياطين.

[وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ أي اجمع عليهم من مكائدك و أتباعك و أعوانك، و كلّ راكب أو ماش في معصية اللّه من الإنس و الجنّ فهو من جند إبليس من خيله و رجله. و «الباء» زائدة و قوله: «وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ» أي استعن على إغوائهم بخيلك و رجلك، و قرئ بكسر الجيم و بضمّها و على هذا المعنى يكون الباء غير زائدة [وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ] أمّا المشاركة في الأموال عبارة عن كلّ تصرّف قبيح في المال سواء كان ذلك التصرّف بسبب أخذه من غير حقّه أو وضعه في غير حقّه فيدخل فيه المعاملات الفاسدة كالربى و الغصب و السرقة و غيرها و البحيرة و السائبة و تبتّك آذان الأنعام و جعل المال لغير اللّه، و أمّا المشاركة في الأولاد الدعاء إلى الزنى و تسمية أولادهم بعبد اللات و العزّى و ترغيب أولادهم في الأديان الباطلة

ص: 251

و قتل الأولاد و وأدهم و كلّ تصرّف في الأولاد على وجه يؤدّي ذلك إلى ارتكاب منكر أو قبيح.

[وَ عِدْهُمْ بالأمانيّ الكاذبة و طول الأمل [وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً] أي يزيّن لهم الخطاء أنّه صواب [إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ يعني الّذين يطيعونني لا نفاذ لك [عليهم وَ كَفى بِرَبِّكَ حافظا لعباده من الشرك إن أطاعوه.

قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 66 الى 69]

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)

لمّا تقدّم ذكر الشيطان و عبدته من المشركين احتجّ في هذه الآية بدلائل التوحيد؛ فقال:

[رَبُّكُمُ أي خالقكم الّذي يجري لكم السفن في البحر بما خلق على وجه يمكن جري السفن على الماء لتطلبوا من فضل اللّه بركوب السفن لصلاح دنياكم من التجارة و الأمن من الغرق [إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً] حيث أنعم عليكم بهذه النعمة.

[وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ] و الخوف الشديد من الغرق فسد [مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ أي في تلك الحالة لا يتضرّع إلى الصنم و الشمس و القمر و إنّما يتضرّع إلى اللّه [فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من المهلكة و الغرق و أخرجكم [إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ من اللّه و الإخلاص [وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً] لنعم اللّه بسبب أنّه عند الشدّة يتمسّك برحمته و عند الراحة يعرض عنه و يتمسّك بغيره.

قوله تعالى: [أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ] و المراد أنّه كما هو قادر على أن يغيبهم و يغرقهم من جانب البحر تحت الماء كذلك قادر على أن يغيبكم في الأرض تحت التراب أي هبوا أنّكم نجوتم من هول الغرق فكيف أمنتم من هول البرّ؟ فمن جانب البحر إذا حصل الهلاك فبالغرق، و من جانب البرّ يحصل بالخسف فكيف تأمنون أن يأتيكم من جانب الفوق بإمطار الحجارة عليكم؟ و «الحاصب» التراب الّذي فيه حصباء و الحاصب كاللابن و التامر أي ذو الحصباء [ثُمَّ لا تَجِدُوا] ناصرا ينصركم و يصونكم من عذاب اللّه أو يرسل عليكم ريحا كاسرا قويّا تكسركم و تكسر أشجاركم بسبب

ص: 252

كفركم، ثمّ لا تجدوا لكم من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم و يؤاخذنا و يطالبنا بدمائكم و يقول: لم فعلت هذا بهم؟ و ليس لكم ثائر و ناصر.

و قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 70 الى 72]

وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (72)

لمّا تقدّم قول «إبليس هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ» ذكر في هذه الآية تكرمة بني آدم بأنواع الإكرام و فنون الإنعام فقال: [وَ لَقَدْ كَرَّمْنا] بأمور بالقوّة المدركة و النطق و امور عديدة منها تسليطهم على غيرهم و تسخير الحيوانات لهم و جعل محمّد صلّى اللّه عليه و آله من البشر و أنّهم يعرفون اللّه و يأتمرون بأمره اختيارا و أشياء كثيرة لا تعدّ، بها فضّل اللّه بني آدم على غيره، و الأناس يذكر بعضها.

اعلم أنّ الإنسان جوهر متركّب من النفس و البدن فالنفس الإنسانيّ أشرف النفوس السفليّة و بدنه أشرف الأجسام السفليّة و للإنسان و الحيوان قوى متشاركة كالاغتذاء و النموّ و التوليد و الحسّاسيّة و الحركة فهذه القوى الخمسة متشاركان.

ثمّ إنّ الإنسان اختصّ بقوّة اخرى و هي القوّة العاقلة المدركة للكلّيّات و حقائق الأشياء كما هي و هذه القوّة من تلقيح الجواهر القدسيّة الإلهيّة فهذه القوّة لا نسبة لها في الشرف إلى تلك القوى الخمسة النباتيّة و الحيوانيّة؛ فظهر أنّ الإنسان أشرف النفوس الموجودة في عالم السفليّ.

و أمّا شرافة الّتي تتعلّق بالبدن الإنسانيّ بالنسبة إلى أبدان غيره من الشرف أحدها: روى ميمون بن مهران عن ابن عبّاس في تفسير قوله: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا» قال: كلّ شي ء يأكل إنّما يأكل بقيه غير ابن آدم فإنّه يأكل بيده. قيل: إنّ الرشيد أحضرت عنده أطعمة فدعا بالملاعق و عنده أبو يوسف فقال له: قد جاء في التفسير عن جدّك في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فردّ الرشيد الملاعق و أكل بعد ذلك بيده و أصابعه.

ثمّ إنّ الإنسان فضّل بالكلام و قادر على بيان مقصوده كاملا من بيان حاجة أو

ص: 253

ألم أو لذّة فيستريح نفسه بالبيان و إن كان أخرسا فبالإشارة يريح نفسه و يظهر مقصوده بخلاف سائر الموجودات. ثمّ فضّل الإنسان بحسن الصورة و الدليل عليه قوله تعالى:

«وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ*، (1) فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» (2).

و الخامس من الفضائل المختصّة للإنسان أن آتاه اللّه الخطّ لأن يتمكّن أن يودع معلوماته في الكتاب و لا يضيع علمه المستنبط، و إلى هذه الفضيلة الكاملة أشار سبحانه «اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» (3).

و الفضيلة السادسة أنّ أجسام هذا العالم من البسائط و المركّبات مسخّرة و خادمة للإنسان، أمّا البسائط كالأرض و الماء و الهواء و النار مسخّرة لفوائد الإنسان و هو دائما ينتفع بها فالأرض كالامّ المربّية و المهد و تربية المنافع للإنسان، و أمّا الماء فمعلوم نفعه للزرع و الضرع، و أمّا الهوى فهو مادّة حياتنا و لو لا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة، و أمّا النار ففيها طبخ الأغذية و قائمة مقام الشمس و القمر في ليالي مظلمة، و الدافعة لضرر البرد، و أمّا المركّبات فهي أيضا مسخّرة لهذا العالم الّذي ينتفع منه الإنسان من المعادن و آثار العلويّة و النبات و الحيوان و أمثالها فهذا العالم بأسره جار مجرى قرية معمورة و جميع منافعها مصروفة و معدّة للإنسان، فهو كالرئيس المخدوم و الملك المطاع و الباقي كالخدم و كلّ ذلك يدلّ على كونه مخصوصا من عند اللّه بمزيد التكريم و التفضيل. بقي القول في أفضليّته من الملك أم لا فهو على القول بالاختلاف.

و السابعة أنّ الموجودات إمّا أن يكون أزليّا و أبديّا معا و هو اللّه سبحانه، و إمّا أن يكون لا أزليّا و لا أبديّا و هو عالم الدنيا مع كلّ ما فيه من النبات و الحيوان و الجماد و هذا أخس الأقسام، و إمّا أن يكون أزليّا لا أبديّا و هو ممتنع الوجود؛ لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه، و إمّا أن لا يكون أزليّا و لكنّه أبديّ و هو الإنسان و الملك و لا شكّ أنّ هذا القسم أفضل من القسم الثاني و الثالث فثبت أنّ الإنسان أشرف أكثر المخلوق.

و الثامن أنّ العالم العاويّ أشرف من العالم السفليّ و روح الإنسان من جنس

ص: 254


1- التغابن: 3.
2- المؤمنون: 14.
3- اقرأ: 3- 5.

الأرواح العلويّة و الجواهر القدسيّة و ليس في موجودات العالم السفليّ شي ء حصل فيه شي ء من العالم العلويّ إلّا الإنسان؛ فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفليّ.

و التاسع أنّ أشرف الكلّ من الموجودات هو اللّه و كلّ موجود كان قربه من معرفة اللّه أتمّ وجب أن يكون أشرف فلا شكّ أنّ الإنسان إذا كان قلبه مستنيرا بمعرفة اللّه و لسانه مشرّفا بذكر آلاء اللّه و جوارحه مكرّمة بطاعة اللّه أشرف من غيره من الموجودات السفليّة. و لمّا ثبت أنّ الإنسان موجود ممكن لذاته و الممكن لذاته لا يوجد إلّا بإيجاد الواجب لذاته فكلّما حصل للإنسان من المراتب العالية فهي حصلت بإحسان اللّه إليه و إنعامه تعالى فلهذا المعنى قال: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ».

قوله: [وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ] على الخيل و البغال و الحمير و الإبل [وَ] في [الْبَحْرِ] على السفن و هذا من مؤكّدات التكريم لأنّه تعالى سخّر هذه الدوابّ له حتّى يركبها و يغزو و يحمل عليها و كذلك تسخير السفن و المياه له [وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لأنّ الأغذية إمّا حيوانيّة و إمّا نباتيّة و كلا القسمين إنّما يتغذّى الإنسان منها بألطفها و أطيبها بعد التنقية الكاملة و النضج التامّ البالغ بخلاف غيره [وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا] بأمور خلقيّة ذاتيّة كالعقل و اكتساب المعارف الإلهيّه.

و الّذين توقّفوا على أفضليّة البشر من الملك كابن عبّاس و الزجّاج استدلّوا بهذه الآية؛ لأنّ قوله تعالى: «وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» يدلّ على أنّه قد حصل في مخلوقات اللّه شي ء لا يكون الإنسان مفضّلا عليه و كلّ من أثبت هذا القسم قال:

إنّه هو الملائكة فيقتضي أنّ الملك أفضل من البشر. و أجابوا عن هذا القول و قالوا: إنّ المراد بالتفضيل ما فضّلهم اللّه من فنون النعم الّتي عددنا بعضها، و قالوا: إنّ المراد بالكثير في الآية الجميع بوضع الكثير موضع الجميع، ثمّ إنّه إذا سلّم أنّ المراد بالتفضيل زيادة الثواب و أنّ لفظة «من» في قوله: «مِمَّنْ خَلَقْنا» يفيد التبعيض فلا يمتنع أن يكون جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم و الفضل من بني آدم يختصّ بالأنبياء بقليل من كثير

ص: 255

فعلى هذا غير منكر أن يكون الأنبياء أفضل من الملائكة و إن كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم.

و احتجّوا في تفضيل بني آدم بما روي عن زيد بن أسلم أنّه قال: قالت الملائكة ربّنا إنّك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها و يتنعّمون و لم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة فقال اللّه: و عزّتي و جلالي لا أجعل ذرّيّة من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان.

قوله تعالى: [يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ و قرئ بالياء و النون أي أن ينادي يوم القيامة هاتوا متّبعي إبراهيم هاتوا متّبعي موسى هاتوا متّبعي محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيقوم أهل الحقّ الّذين اتّبعوا أنبياءهم فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثمّ ينادي هاتوا متّبعي الشيطان و هاتوا متّبعي رؤساء الضلال. و روي عن عليّ عليه السّلام: إنّ الأئمّة إمام هدى و إمام ضلالة.

و قيل: معناه المراد من الإمام كتابهم الّذي انزل عليهم من أوامر اللّه و نواهيه فيقال يا أهل القرآن و يا أهل الإنجيل و هكذا. و قيل: معناه: بمن يأتمّون به عن علمائهم و أئمّتهم.

و يجمع هذه الأقوال ما روي عن الرضا عليّ بن موسى عليهما السّلام بالأسانيد الصحيحة أنّه روى عن آبائه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: يدعى كلّ أناس بإمام زمانهم و كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم. و روي عن الصادق أنّه قال: ألا تحمدون اللّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ قوم إلى من يتولّونه و دعينا إلى رسول اللّه و دعيتم إلينا قال: فإلى أين ترون يذهب بكم؟ إلى الجنّة و ربّ الكعبة قالها ثلاثا. و قيل: يعني بكتابهم الّذي فيه أعمالهم. و قيل: بامّهاتهم صونا عن افتضاح أولاد الزنى و رعاية لشرف عيسى و الجنين، فحينئذ إمام جمع أمّ.

[فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ و اعطي كتاب عمله الّذي فيه طاعاته بيمينه [فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا] فرحين مسرورين لا يستنكفون عن قراءته لما يرون فيه الجزاء من الثواب و لا ينقصون ثواب أعمالهم مقدار فتيل و هو المفتول الّذي في شقّ النواة، و الفتيل الّذي في بطن النواة و النقير في ظهرها و القطمير قشر النواة، و إعطاء الكتاب باليمين علامة الرضا و الخلاص، و باليسار و من وراء الظهر علامة الهلاك.

ص: 256

قوله: [وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى هذه إشارة إلى ما تقدّم من النعم أي و من كان من هذه النعم و العبر أعمى [فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى و قيل: إشارة إلى الدنيا أي من كان في الدنيا عن آيات اللّه أعمى ضالًّا عن الحقّ ذاهبا عن الدين فهو في الآخرة أشدّ تحيّرا عن طريق الجنّة؛ فإنّ من ضلّ عن معرفة اللّه في الدنيا يكون يوم القيامة منقطع الحجّة فالأوّل اسم و أعمى الثاني أفعل التفضيل من العمى. و قيل: المعنى من كان في الدنيا أعمى القلب فإنّه في الآخرة يحشر أعمى العين عقوبة له على ضلالته في الدنيا. و قيل: من كان في الدنيا ضالًّا فهو في الآخرة أضلّ لأنّه لا يقبل توبته، و التأويل أنّه إذا عمي في الدنيا و قد عرّفه اللّه الهدى و جعل له التوبة وصلة فعمي عن رشده فلم يتب فهو في الآخرة أشدّ عمى و أضلّ سبيلا.

قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 73 الى 75]

وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)

سبب النزول فيه أقوال:

الاول: أنّ قريشا قالت للنبيّ: لا ندعك تستلم الحجر حتّى يستلم بآلهتنا فحدّث نفسه و قال: ما عليّ في أن ألمّ بها و اللّه يعلم أنّي لكاره لها و يدعو إلى استلام الحجر، فنزلت و هذا قول سعيد بن جبير.

و ثانيها: أنّهم قالوا: كفّ عن آلهتنا و شتمها و اطرد هؤلاء السقاط الّذين رائحتهم رائحة الصنان حتّى نجالسك و نسمع ما تقول، فطمع صلّى اللّه عليه و آله في إسلامهم فنزلت.

و ثالثها: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخرج الأصنام من المسجد فطلبت قريش منه أن يترك صنما كان على المروة فهمّ بتركه ثمّ أمر بعده بكسره فنزلت. رواه العيّاشيّ بأسناده.

و رابعها: أنّها نزلت في وفد ثقيف قالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال:

ص: 257

لا ننحني أي لا نصلّي، و نكسر أصنامنا بأيدينا و تمتّعنا باللات سنة فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا خير في دين ليس فيها ركوع و لا سجود، فأمّا كسر أصنامكم بأيديكم فذاك لكم و أمّا الطاعة للّات فإنّي غير ممتّعكم بها. و قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و توضّأ فقال عمر بن الخطّاب: ما بالكم آذيتم رسول اللّه إنّه لا يدع الأصنام في أرض العرب؟ فما زالوا به حتّى أنزل اللّه هذه الآية، عن ابن عبّاس.

و خامسها: أنّ وفد ثقيف قالوا: أجّلنا سنة حتّى نقبض ما يهدى لآلهتنا فإذا قبضنا ذلك كسرناها و أسلمنا. فهمّ صلّى اللّه عليه و آله بتأجيلهم، فنزلت، عن الكلبيّ عن عطيّة عن ابن عبّاس.

المعنى: «إن» مخفّفة و اللام هي الفارقة بينها و بين النافية أي إنّ الشأن قاربوا أن يفتنوك و يخدعوك فاتنين فيوقعوك في الفتنة و يصرفونك عمّا [أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي القرآن و حكمه لأنّ إعطاءهم ما سألوا مخالف لحكم القرآن [لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا] غير ما اوحي إليك [وَ إِذاً] لو فعلت ما يريدون [لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا].

[وَ لَوْ لا] و لو لا عصمتنا لك و تثبيتنا إيّاك على الحقّ [لَقَدْ كِدْتَ تميل [إِلَيْهِمْ ركونا [قَلِيلًا] أي لقد قاربت بسبب سكوتك عن جوابهم طمعا في إيمانهم أن تعطيهم بعض سؤالاتهم و لم تفعله، و لو فعلته لعذّبناك العذاب المتضاعف ألمه، لأنّ الذنب منك أعظم، أو المراد عذاب الدنيا و عذاب الآخرة، و لا شكّ أنّ مراده سبحانه تخويف امّته لئلّا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شي ء من امور الدين و أحكام اللّه، و إنّ رسول اللّه معصوم، و لو أنّه لو حدثت نفسه لهذا الأمر أيضا ليس معصية لأنّه رفعت عن امّته ما حدثت به نفسهم ما لم تعمل به، أو تتكلّم به.

قوله: [ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا] ناصرا ينصرك، فلمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

اللّهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 76 الى 77]

وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)

ص: 258

النزول: نزلت في أهل مكّة لمّا همّوا بإخراج النبيّ من مكّة، و قيل: نزلت في اليهود بالمدينة لمّا قدم رسول اللّه المدينة قالوا: إنّ هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء و إنّما أرض الأنبياء الشام فامض إلى الشام.

المعنى: أرادوا و قربوا أن يزعجوك من أرض مكّة بالإخراج. و قيل: «لَيَسْتَفِزُّونَكَ» معناه ليقتلوك، و إنّهم لو أخرجوك لكانوا لا يلبثون بعد خروجك [إِلَّا قَلِيلًا] من الزمان و مدّة يسيرة. و قيل: المراد إلّا ناسا قليلا منهم، يريد من انفلت منهم يوم بدر و أسلموا. و الّذين سعوا في إخراجه من مكّة قتلوا يوم بدر و ما لبثوا. كما أنّه [سُنَّةَ] من قبلك من الأمم الّذين فعلوا بأنبيائهم كذلك و أخرجوا أنبياءهم عذّبناهم و استأصلناهم و هذه عادتنا من قبل في الأمم [وَ لا تَجِدُ] لعادتنا تغييرا.

قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 78 الى 81]

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)

النظم: لمّا قال سبحانه: «وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ» أخرج الكلام في مخرج هذا المعنى أنّك يا محمّد لا تبال بسعيهم في إخراجهم إيّاك من بلدك و لا تلتفت إليهم و اشتغل بعبادة اللّه و داوم على الصلاة؛ فإنّه يدفع عنك شرّهم و يجعل دينك غالبا على أديانهم نظير قوله: «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها» (1).

و اختلفوا في معنى الدلوك قيل: معناه دلوكها أي غروبها، و سمّي الغروب دلوكا لأنّ الناظر يدلّك عينيه ليتبيّنها. و قيل: الدلوك زوالها و ميلها إلى غروبها لأنّ الناظر إليها أيضا يدلّك عينيه لشدّة شعاعها و عليه الأكثرون؛ فعلى هذا يتعلّق الحكم بميلها عن كبد السماء إلى وقت الظلمة. و غسق الليل هو أوّل بدء الظلمة و سواده. و قيل: غسق

ص: 259


1- طه: 130.

الليل انتصاف الليل، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. فحينئذ المراد من الآية بيان الصلوات الخمس لا بيان صلاة واحدة بأنّ اللّه جعل من دلوك الشمس الّذي هو الزوال إلى غسق الليل وقتا للصلوات الأربع إلّا أنّ الظهر و العصر اشتركا في الوقت من الزوال إلى الغروب و المغرب و العشاء الآخرة اشتركا في الوقت من الغروب إلى الغسق أي شدّة سواد الليل و انتصافه.

ثمّ أفرد سبحانه صلاة الصبح بالذكر و عطف على قوله: [وَ] أقم [قُرْآنَ الْفَجْرِ] فهذا بيان وجوب الصلوات الخمس و بيان أوقاتها، و يؤيّد ذلك ما رواه العيّاشيّ بالإسناد عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه قال في هذه الآية: إنّ اللّه افترض أربع صلوات أوّل وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل إلّا أنّ هذه قبل هذه. و إلى هذا ذهب المرتضى في أوقات الصلاة، و قال في قوله تعالى: «وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ» يدلّ على أنّ الصلاة لا يكون إلّا بقراءة لأنّ قوله: أقم الصلاة و أقم قرآن الفجر قد امر فيه أن يقيم الصلاة بالقراءة حتّى سمّيت الصلاة قرآنا فلا يكون الصلاة إلّا بقراءة.

قوله: [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً] أي إنّ صلاة الصبح تشهدها ملائكة الليل و ملائكة النهار.

و اعلم أنّ منشأ الاختلاف في الآية أنّ قوله: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» هل بيان أوقات الصلوات الأربع أو الثلاث راجع إلى اختلاف معنى الدلوك و الغسق كما عرفت؛ فإن حملت معنى الغسق على أوّل دخول الظلام لم يدخل فيه إلّا الظهر و العصر و المغرب، و إن حملت معنى الغسق على اشتداد الظلمة و انتصاف الليل دخلت فيه الصلوات الأربع كما هو الصحيح، فعلى هذا بأن يكون الزوال وقتا و الغسق وقتا و الفجر وقتا و هذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر و العصر فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين و أن يكون أوّل المغرب وقتا للمغرب و العشاء، فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين؛ فهذا يقتضي جواز الجمع على الترتيب أي بين الظهر و العصر و بين المغرب و العشاء مطلقا.

و سئل عن الصادق عليه السّلام عن أفضل المواقيت في صلاة الفجر فقال: مع طلوع الفجر

ص: 260

إنّ اللّه يقول: «وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» يعني صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل و النهار. و معنى الفجر انكشاف ظلمة الليل عن نور الصباح، و هذا يدلّ على أنّ التغليس أفضل من التنوير و الفقهاء بيّنوا أنّ السنّة أن يكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في غيرها و لعلّ معنى قوله: «حتّى يعرف الصديق من العدوّ» لا ينافي كون التغليس أفضل من التنوير لطول القراءة فينتهي إلى التنوير؛ لأنّ الإنسان إذا شرع في الصلاة في الظلمة و امتدّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة و تكثيرها زالت الظلمة و ظهر الضوء و حضرت الملائكتان و عرجت و نزلت و شهدت لهم عند اللّه بصلاتهم فيقول اللّه للملائكة:

اشهدوا أنّي قد غفرت لهم. و هذا معنى قوله: «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً».

قوله: [وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ الهجود في اللغة النوم، و قال ابن الأعرابيّ:

هجد الرجل إذا نام، و هجد الرجل إذا صلّى من الليل. فعند هذا يكون من الأضداد.

و قيل: الهجود لغة النوم و شرعا لمن قام من النوم إلى الصلاة يقال له: المتهجّد؛ فحينئذ يحمل على إلقاء الهجود عن نفسه للصلاة يقال: رجل متحرّج متأثّم و متحوّب أي ملقي الحرج و الإثم و الحوب عن نفسه.

و قال الحجّاج بن عمر المازنيّ: أ يحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلّى حتّى يصبح أنّه قد تهجّد إنّما تهجّد الصلاة بعد الرقاد ثمّ صلاة اخرى بعد رقده هكذا كانت صلاة رسول اللّه. إذا عرفت هذا فلا يبعد أنّه سمّي تهجّدا لهذا السبب. و قوله: «من» في قوله: «وَ مِنَ اللَّيْلِ» لا بدّ له من متعلّق، و الفاء في قوله: «فَتَهَجَّدْ» لا بد له من معطوف عليه، و التقدير قم: من الليل أي في بعض الليل فتهجّد بالصلاة المشتملة على القرآن.

و معنى النافلة زيادة على الأصل.

و اختلفوا بأنّ صلاة الليل هل كانت واجبة على النبيّ أم لا؟

في التهذيب عن الصادق عليه السّلام فقال: فريضة على رسول اللّه.

و في الخصال فيما أوصى به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّا: يا عليّ ثلاث فرحات للمؤمن في الدنيا: لقاء الإخوان و الإفطار من الصيام و التهجّد في آخر الليل. و في العلل عن

ص: 261

الصادق عليه السّلام: عليكم بصلاة الليل فإنّها سنّة نبيّكم و دأب الصالحين قبلكم، و مطردة الداء من أجسادكم.

و عن السجّاد عليه السّلام أنّه سئل ما بال المتهجّدين بالليل من أحسن الناس وجها؟

قال: لأنّهم خلوا باللّه فكساهم اللّه من نوره.

و بالجملة في أخبارنا أنّ اللّه أوجب على نبيّه صلاة الليل له نافلة و لأمّته غير واجبة، و لهم كفّارة و فضيلة؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن له ذنب حتّى تكون له كفّارة بل زيادة الدرجات و لأمّته كفّارة الذنوب. و وجوب صلاة الليل عليه صلّى اللّه عليه و آله من خصائصه من الخلق و تبيّن من قوله: «نافِلَةً لَكَ» أنّ وجوب التهجّد مخصوص به، و وجوب الصلوات الخمس به و بامّته لتقييد الأمر بالتهجّد بهذا القيد و إلّا لم يكن لهذا القيد فائدة في الكلام.

ثمّ قال: [عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً] قال أهل المعاني «عسى» كلمة من اللّه واجب لأنّها يفيد الإطماع و من أطمع إنسانا ثمّ حرّمه كان عارا. و في معنى المقام قيل: إنّه الشفاعة. قال المفسّرون: على أنّه مقام الشفاعة كما قال صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية:

هو المقام الّذي أشفع لأمّتي فيه، و قالوا: إنّ الحمد إنّما يكون على الإنعام و هذه الشفاعة أنعم اللّه رسوله فحمدوه على الإنعام. و ممّا يؤكّد هذا المعنى الدعاء: و ابعثه المقام المحمود الّذي يغطبه به الأوّلون و الآخرون، و اتّفقوا على أنّ المراد منه الشفاعة، و قيل- و القائل حذيفة-: يجمع الناس في صعيد فلا تتكلّم نفس؛ فأوّل مدعوّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيقول صلّى اللّه عليه و آله:

لبّيك و سعديك و الشرّ ليس إليك، و المهديّ من هديت و عبدك بين يديك و بك و إليك لا ملجأ و لا منجا منك إلّا إليك تباركت و تعاليت سبحانك ربّ البيت؛ فهذا هو المراد من المقام.

و في التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث يذكر فيه أهل المحشر: ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هو المقام المحمود؛ فيثني على اللّه بما لم يثن عليه أحد قبله، ثمّ يثني على كلّ مؤمن و مؤمنة يبدأ صلّى اللّه عليه و آله بالصدّيقين و الشهداء ثمّ بالصالحين فيحمد أهل السماوات و أهل الأرض فذلك قوله عزّ و جلّ: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ إلخ» فطوبى لمن كان له في ذلك اليوم حظّ و نصيب، و ويل لمن لم يكن له حظّ و نصيب.

ص: 262

و في روضة الواعظين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هو المقام الّذي أشفع لأمّتي، قال: و قال صلّى اللّه عليه و آله:

إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكبائر من امّتي فيشفّعني اللّه فيهم و اللّه لا تشفّعت فيمن آذى ذرّيّتي.

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن شفاعة النبيّ يوم القيامة فقال: يلجم الناس يوم القيامة العرق فيقولون انطلق بنا إلى آدم يشفع لنا، فيأتون آدم فيقولون له: اشفع لنا عند ربّنا، فيقول: إنّ لي ذنبا و خطيئة فعليكم بنوح؛ فيأتون نوحا فيردّهم إلى من يليه حتّى ينتهوا إلى عيسى عليه السّلام فيقول: عليكم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، فيعرضون أنفسهم عليه فيقول: انطلقوا.

فينطلق بهم إلى باب الجنّة و يستقبل باب الرحمن و يخرّ ساجدا، فيمكث ما شاء اللّه فيقول:

ارفع رأسك و اشفع تشفّع، و سل تعط، و ذلك قوله: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» و هو المقام الّذي يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفّه و يجتمع تحته الأنبياء و الملائكة فيكون أوّل شافع و أوّل مشفّع.

قوله تعالى: [وَ قُلْ يا محمّد [رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي أدخلني في جميع ما أرسلتني به إدخال صدق [وَ أَخْرِجْنِي منه إخراج [صِدْقٍ أي أعنّي على الوحي و الرسالة.

و قيل: معناه أدخلني المدينة و أخرجني منها إلى مكّة للفتح. و قيل: إنّه امر بهذا الدعاء إذا دخل في أمر أو خرج من أمر. و قيل: أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق و أخرجني منه عند البعث مخرج صدق ما يحمد عاقبته. و قيل: أدخلني في الصلاة مع الصدق و الإخلاص و أخرجني مع الإخلاص و القبول.

[وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً] أي اجعل لي عزّا أمتنع به ممّن يحاول صدّي عن إقامة أمرك أو حجّة على أن أتقوّى بها على من عاداني فيك أقهر بها العصاة فنصر صلّى اللّه عليه و آله بالرعب حتّى خافه العدوّ على مسيرة شهر.

[وَ قُلْ يا محمّد [جاءَ الْحَقُ و هو الإسلام [وَ زَهَقَ الْباطِلُ و هو الكفر و الشرك.

و قيل: الحقّ القرآن و الباطل الشيطان. روي عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: دخل النبيّ مكّة و حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما فجعل يطعنها و يقول: جاء الحقّ و زهق الباطل،

ص: 263

فجعل الصنم ينكبّ لوجهه حين يقرأ صلّى اللّه عليه و آله هذه الآية، و يقولون أهل مكّة: ما رأينا رجلا أسحر من محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 82 الى 84]

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)

المعنى: اعلم أنّ «مِنَ» في الآية للجنس لا للتبعيض أي [وَ نُنَزِّلُ مِنَ هذا الجنس من الكلام الّذي هو القرآن [ما هُوَ شِفاءٌ] من الأمراض الروحانيّة و العقائد الفاسدة و الأخلاق المذمومة؛ لأنّ أشدّ المفاسد فساد العقائد الفاسدة في الإلهيّات و النبوّة و البعث، و القرآن مشتمل على رفع هذه المفاسد بالدلائل الواضحة و يدفع العيوب الباطنة فكان شفاء من هذا النوع من المرض.

و أمّا كونه شفاء من الأمراض الجسمانيّة فلأنّ التبرّك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض و اعترف الجمهور من الفلاسفة و أصحاب الطلسمات بأنّ لقراءة الرقيّ المجهولة و العزائم الّتي لا يفهم منها شي ء آثار عظيمة في تحصيل المنافع و دفع المضارّ فلأن تكون القراءة من القرآن سببا لحصول المنافع و دفع المضارّ كان أولى، على أن وردت أخبار في بعض الآيات لأمور، و يؤيّد هذا المعنى ما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه اللّه.

و أمّا كونه رحمة للمؤمنين و نعمة لهم لأنّهم المنتفعون من القرآن، و لكنّ الظالمين لا يزدادون عنده إلّا الخسار و العقاب لكفرهم به و لعلّ المعنى أنّ القرآن يظهر ما هم فيه من الكيد و المكر فيفتضحون بذلك.

قوله: [وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ و كثرت نعمته [أَعْرَضَ عن ذكرنا و ولّى و بعد بنفسه و جانبه عن القيام بحقوق إنعامنا و شكرنا و تباعد عنّا عن الشكر و الدعاء و تكبّر [وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ] و أسباب المحنة و أصابه الفقر لم يصبر و يكون قنوطا و مأيوسا من رجاء

ص: 264

الفرج بخلاف المؤمن فإنّه يرجو الفرج و الروح على هذا، فيكون المراد بالآية خاصّا و إن كان اللفظ عامّا.

[قُلْ يا محمّد لهم: [كُلٌّ يَعْمَلُ على طبيعته و طريقته الّتي تخلّق بها من المؤمن و الكافر حسب عادته و لهذا قال: [فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا] أي يعلم أيّ الفريقين على الهدى و أيّهما على الضلالة. و قال بعض أرباب اللسان: هذه الآية أرجى آية في كتاب اللّه؛ لأنّ الأليق بكرمه العفو عن عبادة فهو يعمل به.

[سورة الإسراء (17): الآيات 85 الى 89]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)

اختلف في الروح المسئول عنه قيل: إنّهم سألوا عن الروح الّذي في بدن الإنسان و هو سبب الحياة ما هو؟ و السائلين هم اليهود. و قيل: إنّهم سألوا عن قدمها و حدوثها أ هي مخلوقة محدثة أم قديمة؟ و قيل: سألوا عن جبرئيل أو عن ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكلّ وجه سبعون ألف لسان يسبّح اللّه بجميع ذلك على ما روي عن عليّ عليه السّلام، أو عيسى فإنّه سمّي بالروح. و قيل: سألوا عن الروح الّذي هو القرآن كيف يتلقّن منه بالملك؟ و كيف صار نظمه و ترتيبه مخالفا لأنواع كلامنا من الخطب و الأشعار، و قد سمّى اللّه تعالى القرآن روحا في قوله: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» (1) فقال سبحانه: [قُلِ يا محمّد: إنّ [الروح الّذي هو القرآن [مِنْ أَمْرِ رَبِّي أنزله عليّ دلالة على نبوّتي و ليس من فعل المخلوقين و لا ممّا يدخل في إمكانهم الإتيان بمثله كالخطب و الأشعار الّتي يأتون بها فعلى هذا القول فقد وقع الجواب موقعه.

و أمّا على معنى سؤالهم من حدوث الروح أم قدمه أيضا فقد وقع الجواب أيضا موقعه

ص: 265


1- الشورى: 52.

فقال: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» أي من فعله و خلقه أي حادث و ليس بقديم، و معنى الأمر الفعل و لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال: «وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» (1) و أمّا على كون سؤالهم عن ماهيّة الروح الّذي تتعلّق الحياة بها و هي سارية في البدن فقد عدل عن جوابهم لعلمه بعدم فهمهم هذا الأمر، و أدعى إلى الصلاح لأنّهم لا يستفيدون من الجواب شيئا فكلّمهم في معرفة الروح إلى ما في عقولهم فقال: من أمر «كن» و تعلّق القدرة بإيجادها.

و بالجملة اختلف العلماء في ماهيّة الروح فقيل: إنّه جسم رقيق هوائيّ متردّد في مخارق الحيوان و هو مذهب أكثر المتكلّمين، و اختاره الأجلّ المرتضى قدّس سرّه.

و قيل: جسم هوائيّ على بنية حيوانيّة في كلّ جزء منه حياة عن عليّ بن عيسى، قال:

فلكلّ حيوان روح و بدن إلّا أنّ فيهم من الأغلب عليه الروح و منهم من الأغلب عليه البدن.

و قيل: إنّ الروح عرض، ثمّ اختلف فيه فقيل: هو الحياة الّتي يتهيّأ به المحلّ لوجود القدرة و العلم و الاختيار، و هو مذهب الشيخ المفيد أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان و البلخيّ و المعتزلة البغداديّة.

و قال بعض العلماء: إنّ اللّه خلق الروح من ستّة أشياء من جوهر النور و الطيب و البقاء و الحياة و العلم و العلوّ أ لا ترى أنّه مادام في الجسد كان نورانيّا يبصر بالعينين و يسمع بالأذنين و يكون طيّبا فإذا خرج عن الجسد نتن الجسد، و يكون باقيا فإذا فارقه الروح بلى و فنى، و يكون حيّا و بخروجه يصير ميّتا، و يكون عالما فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئا، و يكون علويّا لطيفا توجد به الحياة بدلالة قوله في صفة الشهداء: «بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (2).

قوله: [وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا] قيل: هو خطاب للنبيّ و غيره أي ما أوتيتم العلم، المنصوص عليه شي ء يسير بالنسبة إلى غير المنصوص عليه؛ فإنّ معلومات اللّه لا نهاية لها. و قيل: الخطاب لليهود الّذين سألوا عن الروح فقالت اليهود عند ذلك: قد أعطانا

ص: 266


1- هود: 98.
2- آل عمران: 169.

اللّه التوراة؛ فقال صلّى اللّه عليه و آله: التوراة في علم اللّه قليل.

و اعلم أنّ للناس في حقيقة الإنسان مذاهب فجمهور المتكلّمين يقولون: إنّ الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة و عن هذا الجسم المحسوس، و يقولون: إنّ الإنسان يحتاج تعريفه إلى ذكر حدّ أو رسم. و بعض أنكروا هذا القول، و يقولون: إنّ العلم الضروريّ يحكم بأنّ هاهنا شيئا غير الإنسان بقوله: أنا، و علمت، و سمعت، و فرحت، و غضبت فالمشار إليه بقوله: أنا إمّا جسم أو عرض أو مجموع الجسم و العرض أو شي ء مغاير للجسم و العرض.

و الّذي يدلّ على أنّه لا يمكن أن يكون الإنسان هو هذا الجسم المحسوس وجوه:

الوجه الاول: أنّ العلم البديهيّ حاصل بأنّ أجزاء هذه الجثّة متبدّلة بالزيادة و النقصان تارة بحسب النموّ و الذبول و تارة بحسب السمن و الهزال، و المتبدّل المتغيّر غير الثابت الباقي.

الثاني أنّ الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر نحو أمر معيّن مخصوص فإنّه في تلك الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه و أعضائه و أبعاضه مجموعها و مفصّلها و هو مع ذلك غير غافل عن نفسه المعيّنة بدليل أنّه في تلك الحالة قد يقول: غضبت و اشتهيت و أبصرت، و تاء الضمير كناية عن نفسه فهو في تلك الحالة عالم بنفسه و غافل عن جملة بدنه و عن كلّ من أعضائه و المعلوم غير ما هو غير معلوم فالإنسان يجب أن يكون مغايرا لجملة هذا البدن.

الوجه الثالث أنّ الإنسان قد يكون حيّا حال ما يكون البدن ميّتا فوجب كون الإنسان مغايرا لهذا البدن؛ قال اللّه: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (1) فهذا النصّ صريح في أنّ أولئك المقتولين أحياء و الحسّ يدلّ على أنّ هذا الجسد ميّت و كذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله: أنبياء اللّه لا يموتون و لكن ينقلون من دار إلى دار. و كذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله: من مات فقد قامت قيامته. و كلّ هذه النصوص

ص: 267


1- آل عمران: 169.

تدلّ على أنّ الإنسان يبقى بعد موت الجسد، و إذا ثبت أنّ الإنسان حيّ و كان الجسد ميّتا لزم أنّ الإنسان شي ء غير هذا الجسد، و قوله صلّى اللّه عليه و آله في خطبة طويلة له: «حتّى إذا حمل الميّت على نعشه رفرف روحه فوق النعش، و يقول: يا أهلي و يا ولدي جمعت المال من حلّه و غير حلّه» و معلوم أنّ الّذي كان الأهل أهلا له ليس إلّا ذلك الإنسان و هذا الأمر في وقت كان الجسد ميّتا محمولا و ذلك الإنسان حيّا باقيا.

الوجه الرابع أنّ الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإنّ ذلك الإنسان يجد من قلبه و عقله أنّه هو عين ذلك الإنسان و لم يقع في ذلك الإنسان تفاوت؛ حتّى أنّه يقول: أنا ذلك الإنسان الّذي كنت موجودا قبل ذلك إلّا أنّهم قطعوا يدي و رجلي، و ذلك برهان يقينيّ على أنّ ذلك الإنسان شي ء مغاير لهذه الأعضاء و ذلك يبطل قول من يقول: الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة، و أنت إذا تكلّمت مع زيد و قلت له: افعل كذا و لا تفعل كذا، فالمخاطب و المأمور و المنهيّ ليس هو جبهة زيد و لا أنفه و لا عينه و المأمور شي ء مغاير لهذا البدن.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: المأمور جملة هذا البدن لا شي ء من أعضائه؟

قلنا: توجّه التكليف على الجملة إنّما يصحّ لو كانت الجملة فاهمة عالمة؛ فلو كانت الجملة فإمّا أن يقوم بمجموع البدن علم واحدأ و يقوم بكلّ واحد من الأجزاء علم على حدة، و الأوّل يقتضي قيام العرض بالمحالّ الكثيرة و هو محال. و الثاني يقتضي أن يكون كلّ واحد من أجزاء البدن عالما مدركا على سبيل الاستقلال و العلم الضروريّ يحكم بأنّ الجزء المعيّن من البدن ليس فاهما عالما على سبيل الاستقلال فيسقط السؤال.

قوله: [وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لمّا بيّن سبحانه في الآية الاولى أنّه ما آتاهم من العلم إلّا قليلا بيّن في هذه الآية أنّه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل لقدر عليه أي إنّي أقدر أن آخذ ما أعطيتك كما منعته غيرك لكن دبّرت لك بالرحمة فأعطيتك ما تحتاج إليه من العلم و منعت ما لا تحتاج إليه، و أثبت القرآن في قلبك و قلوب المؤمنين و لو شئنا لمحونا هذا القرآن من صدرك و صدر امّتك حتّى لا يوجد له أثر [ثمّ لا تجد له حفيظا يحفظه عليك و يحفظ ذكره على قلبك.

ص: 268

و في هذه الآية دلالة على أنّ السؤال عن الروح وقع عن القرآن.

و احتجّ القائلون بحدوث القرآن و أنّه مخلوق و ليس بقديم قالوا: و الّذي يقدر على إزالته و الذهاب به يستحيل أن يكون قديما.

قوله: [إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ على الاستثناء المنقطع يعني لكن رحمة ربّك تركته لك و ما ذهب به و هذه منّة من اللّه عليه [إِنَّ فَضْلَهُ و امتنانه بسبب إبقاء القرآن و العلم [عَلَيْكَ كَبِيراً] بسبب إنزال القرآن عليك و جعلك سيّد ولد آدم و ختم بك النبيّين و أعطاك المقام المحمود.

قوله تعالى: [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُ قل يا محمّد لهؤلاء الكفّار: لئن اجتمعت الإنس و الجنّ متعاونين متعاضدين [عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ و جامعيّته وجودة المعاني و الخلوّ من التناقض، و كونه من الطبقة العليا [لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ معينا مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه، و للناس فيه قولان:

منهم من قال: القرآن في نفسه معجز. و منهم من قال: إنّه ليس في نفسه معجزا إلّا أنّه تعالى لمّا صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته مع أنّ تلك الدواعي كانت قويّة فكانت هذه الصرفة و المنع معجزة.

و البيان في هذه المسألة: أنّ القرآن إمّا في نفسه يكون معجزا أو لا يكون؛ فإن كان معجزا فقد حصل المطلوب و إن لم يكن معجزا بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته و كانت الدواعي متوفّرة على الإتيان بهذه المعارضة و ما كان لهم عنها صارف و مانع، و على هذا التقدير فإنّ الإتيان بمعارضته عندهم واجب فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضا للعادة فيكون مع التحدّي معجزا فثبت الإعجاز.

و في هذه الآية أيضا دلالة على أنّ السؤال بالروح وقع عن القرآن لأنّه من تمام الآية و من تمام ما أمر اللّه نبيّه أن يجيبهم.

[وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ أي و لقد أخبرناهم و بيّنّا لهم في هذا القرآن من كلّ ما يحتاجون إليه في دينهم و دنياهم ليتفكّروا فيها [فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ من القبول و زادوا جحودا للحقّ كأنّه قيل: فلم يرضوا [إِلَّا كُفُوراً] لأنّ لفظ «أبى» معناه النفي.

ص: 269

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 90 الى 96]

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)

قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)

النزول: قال ابن عبّاس: إنّ جماعة من قريش و هم عتبة و شيبة ابنا ربيعة و أبو سفيان بن الحرب و النضر بن الحارث و الأسود بن المطّلب و زمعة بن الأسود و الوليد بن مغيرة و أبو جهل بن هشام و عبد اللّه بن هشام و عبد اللّه بن اميّة و اميّة بن خلف و العاص بن الوائل و بنيه و منبّه ابنا الحجّاج و أبو البحتريّ بن هشام اجتمعوا عند الكعبة و قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله فكلّموه و خاصموه؛ فبعثوا إليه أنّ أشراف قريش قومك قد اجتمعوا لك، فبادر إليهم ظنّا منه صلّى اللّه عليه و آله أنّهم بدا لهم في أمره و كان حريصا على رشدهم فجلس إليهم فقالوا: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله إنّا دعوناك لنعذر إليك فلا نعلم قوما أدخل على قومه ما أدخلت على قومك: شتمت الآلهة و عبت الدين و سفّهت الأحلام و فرّقت الجماعة فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا أعطيناك و إن كنت تطلب الشرف سوّدناك علينا و إن كانت علّة غلبت عليك طلبنا لك الأطبّاء. فقال صلّى اللّه عليه و آله: ليس شي ء من ذلك بل بعثني اللّه إليكم رسولا و أنزل كتابا فإن قبلتم ما جئت به فهو حظّكم في الدنيا و الآخرة و إن تردّوه أصبر حتّى يحكم بيننا. قالوا: فإذن بلدتنا مكّة ضيّقة فاسأل ربّك أن يسيّر هذه الجبال و يجري لنا أنهارا كأنهار الشام و العراق و أن يحيي و يبعث من مضى و ليكن فيهم قصيّ فإنّه شيخ صدوق لنسألهم عمّا تقول أ حقّ أم باطل؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما بهذا بعثت.

قالوا: فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربّك أن يبعث ملكا يصدّقك و يجعل لنا جنّات و كنوزا و قصورا من ذهب. فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما بهذا بعثت و قد جئت بما بعثني اللّه به فإن قبلتم و إلّا فهو يحكم بيني و بينكم. قالوا: فأسقط علينا السماء كما زعمت إنّ ربّك إن شاء فعل ذلك. قال:

ص: 270

ذاك إلى اللّه إن شاء فعل. و قال قائل منهم: لا نؤمن لك حتّى تأتي باللّه و الملائكة قبيلا.

فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قام معه عبد اللّه بن اميّة المخزوميّ ابن عمّته عاتكة بنت عبد المطّلب فقال: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ثمّ سألوك لأنفسهم أمورا فلم تفعل، ثمّ سألوك أن تجعل ما تخوّفهم به فلم تفعل فو اللّه لا أؤمن بك أبدا حتّى تتّخذ سلّما في السماء و ترقى فيه و أنا أنظر و يأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك و كتابا يشهد لك. و قال أبو جهل بن هشام المخزوميّ: إنّه أبى إلّا سبّ الآلهة و شتم الآباء و أنا أعاهد اللّه لأحملن حجرا فإذا سجد ضربت رأسه فانصرف رسول اللّه حزينا لما رأى من قومه، فنزلت الآية.

المعنى: لمّا بيّن إعجاز القرآن عقّب البيان بأنّهم أبوا إلّا الكفر و الطغيان و اقترحوا من الآيات ما ليس لهم ذلك و قالوا: [لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ و نصدّقك [حَتَّى تشقّق [لَنا] من أرض مكّة علينا ينبع منه الماء في وسط مكّة [أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ] تجنّها و تسترها الأشجار [مِنْ نَخِيلٍ و أعناب [فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ] من الماء وسطها تشقيقا حتّى يجري الماء تحت الأشجار [أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ] علينا قطعا قد تركّب بعضها على بعض.

و قوله: [كَما زَعَمْتَ أي كما كنت تخوّفنا من انشقاق السماء و انفطارها بزعمك [أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ] قبيلة قبيلة أو متقابلين حتّى نشاهدهم و يشهدون بأنك نبيّ و دعوتك حقّ و هذا يدلّ على أنّ القوم كانوا مشبّهة مع شركهم [أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ من ذهب و نقوش أو تصعد [فِي السَّماءِ] و إذا صعدت لم نصدّقك [حَتَّى تُنَزِّلَ على كلّ واحد منّا [كِتاباً] من اللّه شاهدا بصحّة نبوّتك [نَقْرَؤُهُ و هو مثل قوله: «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» (1).

[قُلْ يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله تنزيها للّه من كلّ قبيح و براءة من كلّ سوء، لأنّهم لمّا قالوا:

تأتي باللّه أو ترقى في السماء إلى عند اللّه لاعتقادهم أنّ اللّه جسم قال: قل: [سُبْحانَ رَبِّي عن كونه بصفة الأجسام و تعظيما له و طيّبا عن أن يحكم عليه عبيده حتّى يفعل المعجزات باقتراحاتكم و يجوز عليه المقابلة و النزول [هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا] أي هذه الأشياء

ص: 271


1- المدثر: 52.

ليس في طاقة البشر أن يأتي بها فلا أقدر بنفسي أن آتي بها كما لم يقدر من كان قبلي من الرسل فلا تطالبوني بما لا يطالب به البشر.

قوله: [وَ ما مَنَعَ النَّاسَ بيان الآية أنّ القوم استبعدوا أن يكون الرسول من جنس البشر بل كانوا يقولون: إنّ اللّه لو أرسل رسولا فينبغي أن يكون من الملائكة، فأجاب عن قولهم: و ما يمنعهم أن يؤمنوا بمن أرسلنا من البشر إذ معه الهدى و المعجزة، و المعجزة سواء أظهرت على يد البشر أو على يد الملك لا بدّ و أن يصدّقوا و وجب الإقرار برسالته؟ فهذا القول منهم تحكّم فاسد.

و الجواب الثاني عن استبعادهم و هو أنّ أهل الأرض لو كانوا ملائكة لكان من الواجب أن يكون رسولهم من الملائكة لأنّ الجنس إلى الجنس أميل و كذلك لو كانوا بشرا لكان رسولهم بشرا.

ثمّ بعد نقض شبهاتهم هدّدهم سبحانه بقوله: [قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً]* في صدقي و ادّعائي و حاكم بيني و بينكم [إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً] أخبر و أبصر بظواهرهم و بواطنهم و يعلم أنّهم إنّما يوردون هذه الشبهات لمحض الحسد و العناد و حبّ الدنيا و الاستنكاف عن الانقياد للحقّ. و قيل: معنى الآية أنّ العرب قالوا: كنّا ساكنين مطمئنّين فجاء محمّد فأزعجنا و شوّش علينا أمرنا. فبيّن سبحانه قل لهم: لو كانوا ملائكة مطمئنّين لأوجبت الحكمة إرسال الرسل إليهم فكذلك أهل الأرض لا بدّ و أن يرسل إليهم رسولا منهم للهداية و إنّهم أحوج إلى الرسول من الملائكة.

و هاهنا سؤال: إذا جاز أن يكون الرسول إلى النبيّ ملكا ليس من جنسه فجاز أن يكون الرسول إلى الناس أيضا ملكا ليس من جنسهم.

فالجواب أنّ النبيّ و صاحب الرسالة و المعجزة قد اختير من بينهم للنبوّة فصارت حاله مقاربة حال الملك و ليس كذلك غيره من الناس و يجوز له أن يرى الملائكة كما يرى بعضهم بعضا بخلاف الامّة و له مزيّة على الامّة و اختصاصات دون غيره. و أيضا فإنّ النبيّ بنفسه يحتاج إلى معجزة يعرف بها رسالة نفسه كما احتاجت الامّة إلى معجزة فجعل اللّه موجب يقينه و معجزة نفسه رؤيته للملك.

ص: 272

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 97 الى 100]

وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)

لمّا أجاب سبحانه عن شبهاتهم و اقتراحاتهم و أردفها بالوعيد الإجماليّ و هو قوله:

«إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» ذكر في هذه الآية الوعيد الشديد على سبيل التفصيل بقوله: [وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ و الأشاعرة فسّروا الآية بسبق حكم اللّه عليهم بالهداية و الضلال تعالى اللّه عن هذه النسبة و إنّما المعنى و المراد: من يحكم اللّه له بسبب قبوله الإيمان و إطاعته أمره على الحقيقة [فَهُوَ الْمُهْتَدِ] و من يحكم اللّه عليه بسبب جحوده و إنكاره ليس له وليّ و لا ناصر. و المعتزلة فسّروا الإضلال و الضلال في مطلق أمثال هذه الآيات الإضلال عن طريق الجنّة و على منع الألطاف لعدم الاستحقاق و على التخلية و عدم التعرّض بالمنع عن الكفر كما هو الحقّ في مذهب أهل الحقّ و العدليّة.

قوله: [وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يسحبون على وجوههم في النار، أو المعنى يمشون حقيقة من وجوههم.

روى أبو هريرة أنّه قيل: يا رسول اللّه كيف يمشون على وجوههم؟ قال: إنّ الّذي يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم [عُمْياً] عمّا يسرّهم [وَ بُكْماً] لا ينطقون بحجّة تنفعهم [وَ صُمًّا] عمّا يمتّعهم كأنّهم عدموا هذه الجوارح لأنّهم لا يسمعون و لا يرون و لا يتكلّمون لأنّ اللّه يقول: «وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ» (1) و قال: «سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً» (2) و قال: «دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً» (3) و قيل: على الحقيقة يحشرون على هذه

ص: 273


1- الكهف: 54.
2- الفرقان: 12.
3- الفرقان: 13.

الصفة عميا كما عموا عن الحقّ في الدنيا، بكما كما سكتوا عن كلمة الإخلاص و الحقّ، صمّا لتركهم سماعهم القرآن و إصغائهم الباطل. و لا ينافي الأمرين لأنّ مواقف القيامة كثيرة.

[مَأْواهُمْ و مستقرّهم [جَهَنَّمُ كُلَّما] سكن التهابا [زِدْناهُمْ اشتعالا فيكون كذلك دائما سرمدا.

[ذلِكَ الّذي تقدّم ذكره من العذاب [جَزاؤُهُمْ استحقّوه [بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا] و جحدوا و كذّبوا بآيات اللّه، و من تكذيبهم أنّهم قالوا: إذا صرنا مترضرضين مثل هذا التراب نبعث و نحيى ثانيا؟ ليس الأمر كذلك من مات فات.

[أَ وَ لَمْ يَرَوْا] و يعلموا [أَنَّ اللَّهَ الَّذِي يقدر على [خَلَقَ ما هو أعظم و هو [السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يخلقهم ثانيا بعد الفناء. و عبّر بالمثل أي الإعادة مثل الابتداء و الإعادة أسهل و أهون من الإنشاء، و إذا كان قادرا على أمثالهم كان قادرا على إعادتهم بأعيانهم إذ البنية و المادّة ليس شرطا في القدرة. و أراد بمثلهم إيّاهم عينا؛ لأنّ مثل الشي ء مساوله في جهاته و يعبّر بالمثل عن الشي ء نفسه يقال: مثلك لا يفعل كذا أي أنت لا تفعل كذا.

ثمّ قال: [وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ أي جعل لإعادتهم وقتا لا شكّ في وقوعه كائن لا محالة، أو جعل لهم أجلا يعيشون في الأجل ثمّ يخترمون عنده [فَأَبَى الظَّالِمُونَ لأنفسهم بفعل المعاصي [إِلَّا] جحودا بآيات اللّه و نعمه.

ثمّ قال: [قُلْ لهم يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله: [لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ أرزاق اللّه و ملكتم مقدورات نعمة [رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ عن البذل و الإسخاء خشية الفقر و الفاقة [وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً] شحيحا بخيلا، و لمّا كان الأكثر في طباعهم البخل جاز الإطلاق و لو أن يكون بعضهم أجوادا كرماء.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 101 الى 104]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)

ص: 274

المقصود من هذا الكلام الجواب عن اقتراحاتهم عن قولهم: «لن نؤمن لك حتّى تأتينا بهذه المعجزات الّتي اقترحناها» فجاوبهم سبحانه بأنّا [آتَيْنا مُوسى معجزات مساوية لما طلبتموها بل أعظم منها؛ فلو حصل في علمنا أنّها مصلحة لفعلناها كما فعلنا في حقّ موسى. و قد ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه السّلام منها: إزالة العقدة من لسانه و ذهبت العجمة و صار فصيحا، و انقلاب العصا ثعبانا، و تلقّف الحيّة حبالهم و عصيّهم مع كثرتها، و اليد البيضاء، و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم، و شقّ البحر و الحجر و إظلال الجبل و إنزال المنّ و السلوى عليه و على قومه، و أخذهم بالسنين و نقص من الثمرات، و الطمس على أموالهم من الأطعمة و الدقيق و الدراهم و الدنانير.

روي أنّ عمر بن عبد العزيز سأل محمّد بن كعب عن الآيات لموسى؛ فقال: منها حلّ عقدة اللسان و الطمس ثمّ قال: يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا فيه بيض مكسور و جوز مكسور و فول و حمّص و عدس كلّها حجارة. و تخصيص التسعة بالذكر لا يقدح ثبوت الزائد عليه.

و قد قيل في الآيات التسع: الأحكام التسع، كما روى صفوان بن غسّال أنّه قال:

إنّ يهوديّا قال لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبيّ نسأله عن تسع آيات، فذهبا إلى النبيّ و سألاه عنها فقال صلّى اللّه عليه و آله: هنّ أن لا تشركوا باللّه شيئا و لا تسرقوا و لا تزنوا و لا تقتلوا و لا تسحروا و لا تأكلوا الربى و لا تقذفوا المحصنة و لا تولّوا الفرار يوم الزحف، و عليكم خاصّة اليهود أن لا تعتدوا في السبت. فقام اليهوديّان فقبّلا يديه و رجليه و قالوا: نشهد أنّك نبيّ و لو لا نخاف القتل لاتّبعناك.

قوله: [فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ و المراد من الأمر عن هذا السؤال ليس للاستفادة من العلم بالآيات و إنّما المقصود أن يظهر لعامّة اليهود صدق ما ذكره الرسول فالسؤال سؤال استشهاد و قرئ «فسأل» بصيغة الماضي. روي عن ابن عبّاس أنّه قرأ فسأل بني إسرائيل أي فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أن يرسلهم معه.

فقال له فرعون لمّا جاءه موسى: [إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً] أي ساحرا و وضع المفعول موضع الفاعل كما يقال: مشئوم و ميمون في معنى شائم و يامن. و قيل: معناه أنّه سحر بك و أنت مخدوع فقال له موسى: [لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون أنّه [ما أَنْزَلَ هذه الآيات

ص: 275

[إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الّذي خلقهنّ أنزلها [بَصائِرَ] و حججا و براهين للناس يبصرون بها امور دينهم، و أدلّة على نبوّتي لأنّك تعلم أنّها ليست من السحر. و روي أنّ عليّا عليه السّلام قال: إنّ الضمير في «علمت» للمتكلّم، قال: و اللّه ما علم عدوّ اللّه و لكن موسى هو الّذي علم.

[وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ هالك لكفرك و ينادى لك بالويل و الثبور، و المراد بالظنّ هاهنا الظنّ لا العلم.

[فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي أراد فرعون أن يزعج موسى و من معه من أرض مصر و فلسطين و اردنّ بالنفي عنها، و قيل: أراد بأن يقتلهم [فَأَغْرَقْناهُ و جنوده [جَمِيعاً] بحيث لم ينج منهم أحد و لم يهلك من بني إسرائيل أتباع موسى أحد [و قلنا من بعد] هلاك فرعون و قومه [لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا] أرض مصر و الشام [فَإِذا جاءَ وَعْدُ] الكرّة [الْآخِرَةِ] أو نزول عيسى [جِئْنا بِكُمْ من القبور إلى الموقف الحساب مختلطين التفّ بعضكم ببعض لا تتعارفون و قيل: معناه جميعا أوّلكم و آخركم.

و النظم في الآية أن قوم موم موسى لمّا اقترحوا الآيات و آتيناهم و لم يؤمنوا فعذّبناهم بعذاب الاستئصال فلو نأتي لقومك ما اقترحوا و لم يؤمنوا يجب أن نعذّبهم أيضا و الحكمة لا تقتضي ذلك.

[سورة الإسراء (17): آية 105]

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (105)

. أي القرآن عليك [أَنْزَلْناهُ بالصواب و يكون أن يعمل به. و يؤمن به و قيل: الضمير في أنزلناه إلى موسى كقوله: «وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» [وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً] بالجنّة لمن أطاعك و منذرا بالنار لمن عصاك.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 106 الى 111]

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)

وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

ص: 276

المعنى ثمّ عطف على «وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ» أي و أنزلنا عليك: [قُرْآناً فَرَقْناهُ بالتشديد و التخفيف أي فضّلناه سورا و آيات، أو المعنى فرقنا به الحقّ عن الباطل، أو بعضه خبرا و بعضه أمرا و نهيا و بعضه وعدا و وعيدا فأنزلناه متفرّقا لم ننزله جميعا إذ كان بين أوّله و آخره نيّف و عشرون سنة [لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى تؤدة و تثبّت ليكون أمكن في قلوبهم و يكونوا أقدر على التأمّل فيه و العمل به و لا تعجل في تلاوته فلا يفهم عنك و تقرأه عليهم شيئا فشيئا [وَ نَزَّلْناهُ على حسب الحوائج و وقوع الحوادث، قال ابن عبّاس: لئن أقرأ سورة البقرة و ارتّلها أحبّ إليّ من أقرأ القرآن. و عن عبد اللّه بن مسعود قال: لا تقرءوا القرآن في أقلّ من ثلاث و اقرءوا في سبع.

[قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين: [آمِنُوا بِهِ أي بالقرآن [أَوْ لا تُؤْمِنُوا] فإنّ إيمانكم ينفعكم و لا ينفع غيركم و ترككم الإيمان يضرّكم و لا يضرّ غيركم [إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي الّذين اعطوا علم التوراة من قبل نزول القرآن كعبد اللّه ابن سلام و أمثاله و علموا و عرفوا صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل مبعثه [إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن يسقطون على الوجوه ساجدين. و إنّما خصّ الذقن لأنّ من سجد كان أقرب شي ء من جبهته إلى الأرض الذقن. و الذقن مجمع اللحيتين، ثمّ إنّ الإنسان إذا استولى عليه الخوف من اللّه أو الشوق فربّما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشيّ عليه و متى كان كذلك كان خروره على الذقن فقوله: [يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ كناية عن غاية ولهه و خوفه و خشيته، و العرب يقول إذا خرّ الرجل و وقع على وجهه: فلان خرّ للذقن، و لا يقال:

خرّ على الذقن.

قوله: [وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا] أي يقولون في سجودهم:

سبحان ربّنا، أي ينزّهونه و يعظّمونه إنّه كان وعد ربّنا حقّا يقينا أي وعد الّذي وعدنا بإرسال محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إنزال القرآن حقّ و ثبت. و هذا يدلّ على أنّ هؤلاء كانوا من أهل الكتاب لأنّ الوعد ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله سبق في كتابهم؛ فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد.

ثمّ قال: [وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ و الفائدة في هذا التكرار اختلاف الحالتين و هما خرورهم للجسود و خرورهم حال كونهم باكين عند استماع القرآن

ص: 277

و يدلّ عليه قوله: [وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً] و المقصود من بيان الآية تحقير الكفّار و عدم الاعتناء بشأنهم و الاكتراث بإيمانهم و امتناعهم بأنّهم إن لم يؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منهم و هم الموصوفون.

قوله: [قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا] المراد الاسم لا المسمّى، و الواو للتخيّر بمعنى ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن سمّوا بهذا الاسم أو بهذا الاسم. و التنوين في «أيّ» عوض عن المضاف إليه أي هذا الاسمين سمّيتم فللمسمّى [الْأَسْماءُ الْحُسْنى و هو ذاته عزّ و جلّ.

و «ما» موصولة كرّرت مع «أيّ» لاختلاف اللفظين تأكيدا كما قالوا: ما رأيت كاللّيلة ليلة، و تقديره: أيّ شي ء و اسم من أسمائه تدعونه به جائز.

و «أو» معناه الإباحة؛ فإنّ أسماءه تنبئ عن صفات حسنة أو أفعال حسنة فأمّا أسماؤه المنبئة عن صفات ذاته فهو القادر العالم الحيّ السميع البصير القديم. و أسماؤه المنبئة عن صفات أفعاله الحسنة فنحو الخالق و الرازق و العدل و المحسن و المجمل و المنعم و الرحمن و الرحيم.

و أمّا ما أنبأ عن المعاني الحسنة فنحو الصمد فإنّه يرجع إلى أفعال عباده و هو أنّهم يصمدونه في الحوائج و نحو المعبود و المشكور. بيّن اللّه في هذه الآية أنّه واحد و إن اختلف أسماؤه و صفاته.

و في الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يفعل القبائح مثل الظلم و غيره لأنّ أسماءه حينئذ لا تكون حسنة فإنّ الأسماء قد تكون مشتقّة من الأفعال فلو فعل الظلم لاشتقّ منه اسم كالظالم كما اشتقّ من العدل العادل.

و احتجّ الجبّائيّ بهذه الآية فقال: لو كان هو الخالق للظلم يصحّ أن يقال:

يا ظالم، و صدق عليه هذا الاسم و حينئذ يبطل ما ثبت من هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة.

و ذكروا في سبب نزول هذه الآية قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان ساجدا ذات ليلة بمكّة يدعو: يا رحمن يا رحيم. فقال المشركون: هذا يزعم أنّ له إلها واحدا و هو يدعو مثنى مثنى، عن ابن عبّاس.

ص: 278

و ثانيها أنّ المشركين قالوا: أمّا الرحيم فنعرفه و أمّا الرحمن فلا نعرف إلّا رحمن اليمامة. و قيل: إنّ اليهود قالوا: إنّ ذكر الرحمن في القرآن قليل و هو في التوراة كثير. و قد شرحنا هذا البيان في سورة الأعراف.

قوله تعالى: [وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها] اختلف في معناه: روي أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله كان إذا صلّى جهر في صلاته و المشركون يسمعونه فشتموه و آذوه فأمره سبحانه بترك الجهر و كان ذلك بمكّة في أوّل الأمر، روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه. و قيل: إنّ معناه:

لا تجهر بإشاعة صلاتك عند من يؤذيك و لا تخافت بها عند من يلتمسها منك. و قيل: المراد بالصلاة الدعاء و المسألة، لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعيّر بها؛ فالجهر بالدعاء منهيّ عنه و المبالغة في الإسرار غير جائزة و المستحبّ التوسّط و هو أن يسمع نفسه؛ قال ابن مسعود: لم يخافت من أسمع أذنيه. و قيل: معنى [وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا] بأن تجهر بصلاة الليل و تخافت بصلاة النهار. و قيل: معناه لا تجهر جهرا يشتغل به من يصلّي بقربك و لا تخافت بها حتّى لا تسمع نفسك. و قريب من هذا المعنى ما رواه أصحابنا عن أبي عبد اللّه أنّه قال: الجهر بها رفع الصوت شديدا و المخافة ما لم تسمع أذنيك.

[وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً] فيكون الولد هو الشي ء المتولّد من جزء من أجزاء شي ء آخر؛ فكلّ من له ولد فهو مركّب من الأجزاء و المركّب محدث- و اللّه سبحانه قديم- فلا يستحقّ الربوبيّة؛ فهذا المنفيّ من صفة السلوب [وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ بدليل التمانع و هذا أيضا من السلوب [وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌ و ناصر لأنّه حينئذ محتاج إلى الغير و لا يستحقّ خصوص الحمد له [وَ كَبِّرْهُ عن النقائص و القبائح فكبّره و نزّهه عنها تنزيها.

و هذه الآية ردّ على اليهود و النصارى حين قالوا: اتّخذ اللّه ولدا. و على مشركي العرب حيث قالوا: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك. و على الصابئين و المجوس حين قالوا:

لو لا أولياء اللّه لذلّ اللّه.

و في كيفيّة تكبير اللّه و تعظيمه اختلاف شديد بين الأشاعرة أي الجبريّة و المعتزلة أي العدليّة فقال: أهل الجبر و السنّة: إنّا نحمد اللّه و نكبّره عن أن يجري في سلطانه شي ء لا على وفق حكمه و إرادته؛ فالكلّ واقع بقضاء اللّه. و قالت المعتزلة: إنّا نكبّر اللّه

ص: 279

عن أن يكون فاعلا لهذه الأمور القبيحة بل نعتقد أنّ حكمته يقتضي التنزيه عنها و عن إرادتها.

قيل: إنّ الأستاذ أبا إسحاق الإسفراينيّ كان جالسا عند الصاحب بن عباد الوزير فدخل القاضي عبد الجبّار بن أحمد الهمدانيّ فلمّا رآه قال: سبحان من تنزّه عن الفحشاء. فقال الأستاذ أبو إسحاق: سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء. أقول:

بداهة العقل يحكم بأنّ قائل هذا الكلام لا ينبغي أن يقال له: الأستاذ؛ لأنّ قوله ما أقربه إلى الشعوذة! لأنّه سبحانه إذا أراد و خلق الكفر و شاء له القبيح فبما ذا يعاقبه؟

فلو صدر مثل هذا الأمر من عبد أسود لقبّحه جميع أهل الدنيا؛ على أنّ التنزيه و التكبير لا بدّ و أن يكون بصفات مقدّسة عالية من جلاله و لطفه و عدله و أين هذا الأمر من العدل؟ هيهات!

ألقاك في اليمّ مكتوفا و قال لك إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

و كثرة الذكر و التعظيم للّه من خصائص المؤمنين و لهذا شرّفوا بالتشريفات المخصوصة.

تمّت السورة

ص: 280

سورة الكهف

اشارة

مكيّة إلّا آية «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ» فإنّها نزلت في المدينة.

عدد آيها مائة و إحدى عشر.

فضلها: ابيّ بن كعب قال: من قرأها فهو معصوم ثمانية أيّام من الفتن فإن خرج الدجّال حتّى في تلك الثمانية عصمه اللّه من فتنته و من قرأ الآية الّتي في آخرها و هي «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ» حين يضجع في منامه كان له نور يتلألأ إلى الكعبة حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يقوم من مضجعه فإن كان في مكّة فتلاها كان له نور يتلألأ إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يستيقظ.

عن سمرة بن جندب قال: من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم يضرّه فتنة الدجّال، و من قرأ السورة كلّها دخل الجنّة.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ألا أدلّكم على سورة شيّعها سبعون ألف ملك حين نزلت عظّمتها ما بين السماوات و الأرض؟ قالوا: بلى. قال صلّى اللّه عليه و آله: سورة أصحاب الكهف، من قرأها يوم الجمعة غفر اللّه له إلى الجمعة الاخرى و زيادة ثلاثة أيّام و اعطي نورا يبلغ السماء و وقي فتنة الدجّال.

و روى الواقديّ بإسناده عن أبي الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف ثمّ أدرك الدجّال لم يضرّه و من حفظ سورة البقرة كانت له نورا يوم القيامة.

و روى أيضا بالإسناد عن سعيد بن محمّد المجرميّ عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ستّة أيّام من كلّ فتنة يكون فإن خرج الدجّال عصم منه.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة الجمعة لم يمت إلّا شهيدا أو بعثه اللّه مع الشهداء و وقف يوم القيامة مع الشهداء.

ص: 281

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكهف (18): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)

ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)

ختم اللّه سورة بني إسرائيل بالتحميد و بدأ اللّه هذه السورة بالتحميد لاتّصال الجنس بالجنس.

المعنى: يقول اللّه لخلقه: قولوا و اعتقدوا أنّ كلّ [الْحَمْدُ] و حقيقته [لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمّد صلّى اللّه عليه و آله القرآن حال كون القرآن قيّما معتدلا مستقيما لا تناقض فيه. و جعله قيّما لأمور الدين يلزم الرجوع إليه كقيّم الدار الّذي يرجع إليه في أمرها.

و قيل: قيّما أي قائما دائما. يدوم و يثبت إلى يوم القيامة لا ينسخ.

[وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً] و ملتبسا لا يفهم و معوجا لا يستقيم و لم يجعل فيه اختلافا كما قال سبحانه. «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (1) و معنى العوج في الكلام أن يخرج من الصحّة إلى الفساد و من الحقّ إلى الباطل.

[لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ معناه ليخوّف العبد الّذي أنزل عليه الكتاب الناس عذابا شديدا و أنكالا و سطوة من عند اللّه إن لم يؤمنوا [وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ و المصدّقين بآيات اللّه العاملين بالطاعات و المنتهين عن المعاصي [أَنَّ لَهُمْ ثوابا [حَسَناً] في الآخرة على إيمانهم و ذلك الأجر هو الجنّة [ماكِثِينَ فِيهِ و لابثين في ذلك الثواب مؤبّدين لا ينتقلون عنه.

[وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً] أي ليحذر الّذين قالوا: الملائكة بنات اللّه

ص: 282


1- النساء: 81.

و هم قريش أو اليهود و النصارى. و الإنذار في الآية الاولى يعمّ جميع الكفّار و في هذه الآية القائلين باتّخاذ الولد و ليس لهؤلاء القائلين بهذا القول الشنيع علم و مأخذ إلّا التقليد لآبائهم الجهلة من غير حجّة.

[كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ قرئ بالرفع على الفاعليّة و بالنصب على التميز، و النصب أبلغ لأنّ فيه معنى التعجّب كأنّه قيل: ما أكبرها كلمة! و معنى التميز أنّك إذا قلت:

كبرت الكلمة أو المقالة، يتوهّم أنّها كبرت كذبا أو جهلا فلمّا قلت: كلمة، ميّزتها من محتملاتها فانتصب على التميز. و وصف الكلمة بالخروج من الأفواه توسّع و مجاز و إن كانت الكلمة عرضا لا يجوز عليه الدخول و لا الخروج و الحركة و السكون و لكن لمّا كانت الكلمة قد تحفظ و تثبت و تقرأ فجاز وصفها بالخروج، و ذكر الأفواه تأكيدا و تصريحا في القبح [إِنْ يَقُولُونَ أي ما يقولون [إِلَّا كَذِباً] و افتراء على اللّه.

[فَلَعَلَّكَ مهلك [نَفْسَكَ يا محمّد [على آثار] قومك إن لم يصدّقوا [بِهذَا الْحَدِيثِ أي القرآن الّذي انزل عليك تلهّفا و حزنا. و قيل: معنى «عَلى آثارِهِمْ» أي بعد موتهم لشدّة شفقتك عليهم، و هذه معاتبة من اللّه لرسوله على شدّة وجده و كثرة حرصه على إيمان قومه حتّى بلغ ذلك به مبلغا يقرّبه إلى الهلاك. و إطلاق القرآن على الحديث يدلّ على حدوثه و يدلّ على فساد القول بالقدم.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 7 الى 8]

إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)

ثمّ بيّن سبحانه ابتداء خلقه بالنعم [إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأنهار و الأشجار و أنواع المخلوقات من الحيوان و النبات و الجماد حلية و زينة للأرض و لأهلها لنختبرهم أنّ أيّهم [أَحْسَنُ عَمَلًا] بطاعة اللّه و الأطوع له ليظهر المطيع و العاصي، و إنّا لمخربون الأرض بعد عمارتها و جاعلون ما على الأرض مستويا يابسا لا نبات عليها بلقع.

فتبيّن بهذا التقرير أنّ اللّه سبحانه أراد من الخلق العمل الصالح و على أنّ أفعالهم هي الصادرة من جهتهم و لو لا ذلك لما صحّ الابتلاء، و في ذلك بطلان قول أهل الجبر.

ص: 283

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 9 الى 12]

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)

«الكهف» المغارة في الجبل إلّا أنّه واسع فإذا صغر فهو غار، و الرقيم الكتابة و العلامة و النقش للتعرفة.

النزول: عن ابن عبّاس و جماعة: أنّ النضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن معيط أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة و قالوا لهما: سلاهم عن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفا لهم وصفه و أخبراهم بقوله؛ فإنّهم أهل الكتاب الأوّل و عندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتّى أتيا المدينة فسألا أحبار اليهود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قالا ما قالت قريش فقال لهما أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل و إن لم يخبر فهو رجل متقوّل:

سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم فإنّه قد كان لهم حديث عجيب، و سلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها ما كان نبأه؟ و سلوه عن الروح ما هو؟ و في رواية اخرى فإن أخبركم عن الثنتين و لم يخبركم بالروح فهو نبيّ. فانصرفا إلى مكّة فقالا: يا معاشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم و بين محمّد و قصّا عليهم القصّة، فجاءوا إلى النبيّ فسألوه فقال: أخبركم بما سألتم عنه غدا و لم يستثن فانصرفوا عنه فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث إليه في ذلك وحيا و لا يأتيه جبرئيل، حتّى أرجف أهل مكّة و تكلّموا في ذلك فشقّ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يتكلّم أهل مكّة عليه ثمّ جاءه جبرئيل عن اللّه بسورة الكهف و فيها ما سألوه من أمر الفتية و الرجل الطوّاف و أنزل عليه «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الآية.

و بالجملة قوله: [أَمْ حَسِبْتَ أحسبت [أَنَ قصّة [أَصْحابَ الْكَهْفِ كان أمرا عجيبا [مِنْ آياتِنا] فلا تحسبنّ ذلك فإنّ من كان قادرا على تخليق السماوات و الأرض كيف يستبعدون من قدرته حفظ طائفة مدّة ثلاثمائة سنة أو أكثر في النوم؟ و المراد بالكهف

ص: 284

كهف الجبل الّذي آوى إليه القوم الّذين قصّ اللّه أخبارهم. و اختلف في معنى الرقيم، فقيل: إنّه اسم الوادي الّذي كان فيه الكهف. و قيل: الكهف هو الغار في الجبل، و الرقيم نفس الجبل. و قيل: الرقيم القرية الّتي خرج منها أصحاب الكهف. و قيل: هو لوح من حجارة كتبوا فيه قصّة أصحاب الكهف ثمّ وضعوه على باب الكهف.

و قيل: جعل ذلك اللوح في خزائن الملوك لأنّه من عجائب الأمور. و قيل: إنّ أصحاب الرقيم هو النفر الثلاثة الّذين دخلوا في الغار فانسدّ عليهم. و قيل: إنّ الناس رقموا حديثهم نقرا في جانب الجبل. و قيل: الرقيم اسم الكلب. «و العجب» مصدر بمعنى المعجوب منهم.

قوله: [إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي اذكر لقومك إذا التجؤوا أولئك الشّباب إلى المغارة الوسيعة و جعلوها مأواهم هربا بدينهم إلى اللّه [فَقالُوا] حين آووا إليه [رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً] أي نعمة ننجو بها عن قومنا و فرّج عنّا ما نزل بنا [وَ هَيِّئْ و أصلح [لَنا مِنْ أَمْرِنا] ما نصيب به الرشد و مخرجا من الغار بسلامة من ديننا و يسّر لنا من أمرنا ما نصل به رضاك. و كان هؤلاء الفتية آمنوا باللّه تعالى و كانوا يخفون الإسلام خوفا من ملكهم، و كان اسم الملك دقيانوس و اسم مدينتهم أقسوس و كان ملكهم يعبد الأصنام و يقتل من خالفه. و قيل: إنّه كان مجوسيّا يدعوا إلى دين المجوس و الفتية كانوا على دين المسيح. و قيل: كان الفتية من خواصّ الملك و كان يستر كلّ واحد منهم إيمانه عن صاحبه ثمّ اتّفق أنّهم اجتمعوا و أظهروا أمرهم و هربوا بدينهم إلى الكهف خوفا من الملك. و قيل:

إنّهم كانوا قبل بعث عيسى.

[فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً] أي أجبنا دعاءهم و سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن نفوذ الأصوات إليها سنين كثيرة؛ لأنّ النائم إنّما ينتبه بسماع الصوت. و بيّن سبحانه بهذه العبارة على أنّهم لم يموتوا و كانوا نياما في أمن و راحة، و هذا من فصيح لغات القرآن الّتي لا يمكن أن يترجم بمعنى أحسن من هذا المعنى، و كناية عن الإنامة الثقيلة الشبيهة بالموت من دون الموت. و المفعول في قوله: «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ» محذوف أي فضربنا حجابا على آذانهم سنين ذات عدد كثيرة.

ص: 285

[ثُمَّ بَعَثْناهُمْ و أيقظناهم من نومهم [لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً] معناه: ليظهر معلومنا بموجب علمنا و لننظر أيّ الحزبين من المؤمنين و الكافرين من قوم أصحاب الكهف عدّ أمد لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بيتهم. و قيل: المراد بالحزبين لمّا استيقظوا اختلفوا في مقدار لبثهم. و قرئ ليعلم على البناء للمجهول و على هذا التقدير لا يلزم محذور تجدّد العلم.

و النظم في الآية للحثّ على الاقتداء بهم و لبيان أنّه لا يضرّك كفر قومك و اللّه ناصرك و حافظك من أعدائك كما حفظ أصحاب الكهف. و قيل: اتّصل بقوله: «وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ» أي و ينصر المؤمنين كما نصر أصحاب الكهف.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 13 الى 16]

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13) وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (16)

شرح سبحانه قصّة أصحاب الكهف أي نتلو عليك يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله خبرهم بالصدق و الصحّة.

[إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ] شباب أحداث [آمَنُوا] باللّه [وَ زِدْناهُمْ نصرة في الدين و رغبة في الثواب و الثبات بالألطاف المقوّية لدواعيهم بحسن اختيارهم. و عبّر عنهم بالفتية لأنّ أصل الفتوّة الإيمان باللّه و المراد بالفتوّة بذل الندى و ترك الأذى و الشكوى و اجتناب المحارم و استعمال المكارم.

قوله: [وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي قوّينا قلوبهم بالتوفيق و الألطاف حتّى وطّنوا أنفسهم على إظهار الحقّ و الصبر على المشاقّ و مفارقة الوطن [إِذْ قامُوا] بين يدي ملكهم الجبّار العاتي دقيانوس الّذي كان يفتن أهل الإيمان عن دينهم [فَقالُوا] بين يديه [رَبُّنا

ص: 286

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الّذي نعبده [لَنْ نَدْعُوَا] غيره و إن دعونا غيره و عبدنا إلها آخر فقد [قُلْنا] حينئذ قولا مجاوزا للحدّ غاية في البطلان [هؤُلاءِ قَوْمُنَا] و أهل بلدنا اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونها [لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ أي هلّا يأتون هؤلاء الّذين يعبدون غير اللّه بحجّة ظاهرة و دليل على إلهيّة آلهتهم [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] و زعم أنّ له شريكا في العبادة و الإلهيّة.

قوله: [وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ و هذا القول من قول تمليخا و هو رئيس أصحاب الكهف قال لهم أي لأصحابه: و إذا تنحّيتم و اعتزلتم و برأتم عن عبدة الأصنام و عن أصنامهم فإنّكم لن تتركوا عبادة اللّه فأووا و صيروا [إِلَى الْكَهْفِ و اجعلوا مأواكم هناك [يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ من نعمته و يبسط لكم رحمته [وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً] أي يسهّل عليكم ما تخافون من الملك و ظلمه و يأتيكم باليسر و الرفق.

و كلّما ارتفقت به فهو مرفق، و في هذا دلالة على عظم منزلة الهجرة في الدين و على قبح المقام في دار الكفر إذا لا يمكن المقام فيها إلّا بالمتابعة لأهل الكفر.

و إيّاك و مجالسة الجليس السوء الأحمق الفاجر فإنّك تكتسب منه الشرّ و القساوة و عدم المبالات بالمعاصي و قلّة الخوف الّذي هو سوط اللّه و إذا قلّ الخوف كثر المعاصي.

[سورة الكهف (18): الآيات 17 الى 18]

وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه حالهم في الكهف أي لو رأيتها لترى [الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تميل وقت طلوعها عن كهفهم إلى جهة اليمين [وَ إِذا غَرَبَتْ الشمس أي وقت غروبها تعدل و تجاوز عنهم جهة [الشِّمالِ من الكهف أي لا تدخل كهفهم و تجاوزهم منحرفة عنهم [وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ من الكهف أي في فضاء منه بحيث لا يراهم من كان ببابه و ينالهم نسيم الريح.

و قوله: [ذاتَ الْيَمِينِ و أصله أنّ ذات صفة أقيمت مقام الموصوف لأنّها تأنيث «ذو»

ص: 287

في قوله: «رجل ذو مال و امرأة ذات مال» و التقدير كأنّه قيل: «تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ» جهة موصوفة باليمين. و المقصود من هذا البيان أنّ الشمس إذا طلعت منع اللّه ضوء الشمس من الوقوع على أبدانهم حتّى تفسد أبدانهم و إذا غربت كانت على شماله فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف.

و [ذلِكَ الحفظ في هذه المدّة الطويلة [مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالّة على عجائب قدرته و بدائع حكمته، و كان رغبتهم في الإيمان بإعانة اللّه و لطفه مع وجود قدرة دقيانوس الكافر و أصحابه و كذلك قال: [مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ] بحسن إيمانه و اختياره مثل أصحاب الكهف [و من يضلله عن طريق الجنّة و الخير بسبب عدم قبوله الإيمان مثل دقيانوس و أصحابه فلا يوجد له ناصر و مرشد.

[وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ] يعني لو رأيتهم حسبتهم منتبهين و هم في الحقيقة نائمون لأنّهم مفتّحة العيون يتنفّسون كأنّهم يتكلّمون و لا يتكلّمون و ينقلبون أحيانا كما ينقلب اليقظان.

قوله: [وَ نُقَلِّبُهُمْ تارة عن اليمين إلى الشمال و تارة عن الشمال إلي اليمين كما ينقلب النائم؛ لأنّهم لو لم ينقلبوا لأكلتهم الأرض و لبليت ثيابهم لطول مكثهم على جانب واحد.

و قيل: كانوا يقلّبون كلّ عام مرّتين. و قيل: مرّة.

قوله: [وَ كَلْبُهُمْ قال ابن عبّاس و أكثر المفسّرين: إنّهم هربوا من ملكهم ليلا فمرّوا براع معه كلب فتبعهم الراعي على دينهم و معه كلبه. و قيل: إنّهم مرّوا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا فقال لهم الكلب: ما تريدون منّي لا تخشوا خيانتي فأنا احبّ أولياء اللّه فناموا حتّى أحرسكم. و قيل: كان ذلك الكلب كلب صيدهم أصفر اللون. و قيل: أنمر و اسمه قطمير و مكث معهم ثلاث مائة و تسع سنين بغير طعام و لا شراب و لا نوم و لا قيام.

[باسِطٌ ذِراعَيْهِ كافتراش السبع بالفناء من الكهف أو من الفجوة؛ لأنّ الكفّار خرجوا إلى باب الكهف في طلبهم ثمّ انصرفوا و لو رأوا الكلب على باب الغار لدخلوه.

ص: 288

و لمّا انصرف الكفّار آيسين عنهم و لم يجدوا أحدا سدّوا باب الغار بالحجارة فجاء رجل بماشية إلى باب الغار و أخرج الحجارة و دفعها و اتّخذ لماشيته كنّا عند باب الغار و هم كانوا في فجوة من الغار.

قوله: [لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ يعني لو أشرفت عليهم أيّها الناظر عليهم و رأيتهم في كهفهم لفررت عنهم هربا لاستيحاشك الموضع و لملئ قلبك روعا لأنّ اللّه منعهم بالرعب لئلّا يصل إليهم أحد حتّى يبلغ الكتاب أجله، كما نصر نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالرعب مسيرة شهر أو شهرين. و لا يمتنع أنّ الكفّار لمّا أتوا باب الكهف فزعوا من وحشة المكان حيث جعل اللّه هذه الوحشة في قلوبهم فسدّوا باب الكهف ليهلكوا فيه و جعل سبحانه هذا الأمر لطفا لهم لئلّا ينالهم مكروه من سبع و غيره و ليكونوا محروسين من كلّ سوء.

و قيل: إنّه قد طالت أظفارهم و شعورهم و لذلك يأخذ الرعب منهم. و هذا لا يصحّ لقوله سبحانه: حكاية عنهم «لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ».

و روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: غزوت مع معاوية نحو الروم فمرّوا بالكهف الّذي فيه كان أصحاب الكهف فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم.

فقلت له: ليس هذا لك فقد منع ذلك من هو كان خير منك قال اللّه: «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» فقال معاوية: لا أنتهي حتّى أعلم علمهم؛ فبعث رجالا فلمّا دخلوا الكهف أرسل اللّه عليهم ريحا فأحرقتهم.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 19 الى 20]

وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)

المعنى: كما فعلنا بهم الأمور العجيبة و حفظناهم تلك المدّة المديدة بعثناهم من تلك الرقدة و أيقظناهم من تلك النومة الّتي أشبهت الموت ليكون بينهم مساءلات و حكايات في اختلاف مدّة لبثهم فينبّهوا بذلك على معرفة صانعهم و يزدادوا يقينا إلى يقينهم.

ص: 289

[قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ في نومكم؟ [قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال المفسّرون:

إنّهم هربوا في الليل و دخلوا الكهف غدوة و بعثهم اللّه آخر النهار فلذلك قالوا: يوما، فلمّا رأوا الشمس قالوا: أو بعض يوم، و كان قد بقيت من النهار بقيّة [قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ و هذا القائل تمليخا و هو رئيسهم ردّ علم ذلك إلى اللّه.

[فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ و الورق الدراهم من الفضّة، و كان معهم دراهم عليها صورة الملك الّذي كان في زمانهم [إِلَى الْمَدِينَةِ] أي المدينة الّتي خرجوا منها [فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً] أي أطهر و أحلّ ذبحه. قال ابن عبّاس: لأنّ عامّتهم كانت مجوسا و فيهم شرذمة مؤمنون يحفظون إيمانهم و قيل أطيب طعاما أو أكثر [فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ يعني فليأتكم بما ترزقون أكله [وَ لْيَتَلَطَّفْ و ليدقّق النظر و يتحيّل حتّى لا يطّلع عليه أحد أو يتلطّف في الشراء فلا يماكس البائع و لا ينازعه [وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ و لا يخبر بكم و لا بمكانكم [أَحَداً] من أهل المدينة.

[إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا] و يطّلعوا [عَلَيْكُمْ و بمكانكم يقتلوكم بالرجم و هو من أخبث القتل. أو المعنى: يرجموكم باللسان و يشتموكم أو يردّوكم إلى [مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً] إذا رددتم عن دينكم.

فإن قيل: من اكره على الكفر فأظهره فإنّه يفلح فكيف يصحّ الآية؟ فالجواب:

أنّ «يعيدوكم» دون الإكراه و يمكن أن يكون ذلك الوقت ما كان يجوز التقيّة في إظهار الكفر.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 21 الى 24]

وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)

ص: 290

أعثر على غيره أي أعلمه و عثر اطّلع. و دخل الواو في قوله «وَ ثامِنُهُمْ» و لم يدخل في الأوّلين لأنّ هاهنا عطف جملة على جملة و بيانه: أنّ الجملتين الملتبسة إحداهما بالأخرى و هي أن تكون إحداهما غير أجنبيّة مع الاخرى فهو على ضربين: إحداهما أن تعطف بحرف العطف و الآخر أن توصل بها بغير حرف العطف مثل أن تكون إحدى الجملتين صفة و الاخرى حالا أو الثانية تفسير الاولى فما كان من قبيل هذه الجمل المذكورة يؤتى بغير حرف العطف مثل الجملتين الأوليين في الآية فإنّ «رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» وصف لثلاثة و كذلك «سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ» صفة لخمسة و لا وجه لإدخال حرف العطف لأنّ الصفة تبيّن الموصوف و تخصّصه؛ فلو عطفت لخرجت بالعطف من أن يكون صفة و الصفة هو الموصوف في المعنى و لذلك لا يدخل العطف بين الحال و ذي الحال الّتى تكون تفسيرا لما قبلها و نحو قوله: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» (1). ثمّ قال: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ» فالمغفرة تفسير الوعد الّذي وعدوا. و بحرف العطف نحو قوله [وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ أي هم سبعة و ثامنهم كلبهم. و قيل: إنّ الأصل في المبالغة في العدد السبعة لأنّ جلائل الأمور سبعة سبعة فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظا يدلّ على الاستيناف فقالوا: و ثمانية. و هذه الواو تسمّى واو الثمانية كقوله: «وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (2) لأنّ هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدّمة. و ردّ القفّال هذا القول و الدليل عليه قوله: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ» (3) و لم يذكر الواو في النعت الثامن و لكن على موجب التقرير الّذي قرّرناه من أنّ مثل هذه الجمل يجوز إتيان حرف العطف و تركه ففي الآية من مواضع الّذي اتي بحرف العطف، انتهى.

قوله: [وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ المعنى: أي كما أعنّاهم و ربطنا على قلوبهم و قلّبناهم و بعثناهم عن نومهم لما فيها من الحكم و الاعتبار فكذلك أعثرنا و اطّلعنا غيرهم على أحوالهم

ص: 291


1- المائدة: 10.
2- التوبة: 113.
3- الحشر: 24.

فكان الإعثار سببا لحصول العلم للغير.

و السبب في ذلك أنّ الرجل منهم لمّا ذهب إلى السوق ليشتري الطعام و أخرج الدراهم لثمن الطعام قال صاحب الطعام: هذه النقود غير موجودة في هذا اليوم و إنّها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدّة طويلة و دهرا داهرا فلعلّك وجدت كنزا، و اختلف الناس فيه و حملوا ذلك الرجل إلى الملك؛ فقال الملك: من أين وجدت هذه الدراهم؟ فقال: بعت بها أمس شيئا من التمر و خرجنا فرارا من الملك دقيانوس فعرف الملك أنّه ما وجد كنزا و أنّ اللّه بعثه بعد موته.

و لنعيد شطرا من أحوالهم و هو أنّه لمّا هرب أصحاب الكهف على اختلاف عددهم من الملك دقيانوس المجوسيّ و كانوا وزراء الملك قيل: ثلاثة عن يمينه و أربعة عن يساره.

فهربوا بدينهم إلى الكهف. قيل: إنّه استحضر دقيانوس بأمرهم في الكهف بعد مدّة فأمر أن يسدّ عليهم باب الكهف و يدعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشا و جوعا ليكن كهفهم الّذي اختاروه قبرا لهم، و هو يظنّ أنّهم أيقاظ. ثمّ إنّ الرجلين المؤمنين كتبا شأن الفتية و أنسابهم و أسماءهم و خبرهم في لوح من رصاص و جعلاه في تابوت من نحاس و جعلا التابوت في البنيان الّذي بنيا على باب الكهف حين بنيا و قالا: لعلّ يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة ليعلموا خبرهم حين يقرءون هذا اللوح. ثمّ انقرض أهل ذلك الزمان و خلقت بعدهم قرون و ملوك كثيرة و ملك تلك البلاد ملك صالح يقال له «ندليس» و قيل «بندوسيس» فتحزّب الناس في زمانه أحزابا منهم من يعلم أنّ الساعة حقّ و يؤمن، و منهم من يكذّب؛ فكبر ذلك على الملك الصالح و بكى إلى اللّه و تضرّع و قال: أي ربّ قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبيّن بها أنّ البعث حقّ و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها؛ فألقى اللّه في نفس رجل من أهل ذلك البلد الّذي فيه الكهف أن يهدم بنيان الّذي على فم الكهف فيبنى به حظيرة لغنمه و كان راعيا ففعل ذلك و بعث اللّه الفتية من نومهم فأرسلوا أحدهم ليطلب طعاما لهم ففعل؛ فاطّلع الناس على أمرهم من الدراهم القديمة و اتي به الملك الصالح فلمّا بلغه الخبر استحمد اللّه و ركب الملك هو و أهل

ص: 292

مدينته حتّى أتوا الكهف فدلك قوله:

[وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث و الثواب و العقاب [حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ] كذلك [آتية لا رَيْبَ فِيها] لأنّ من قدر على أن يقيم جماعة تلك المدّة المديدة أحياء ثمّ يوقظهم قدر على أن يميتهم ثمّ يحييهم بعد ذلك.

قوله تعالى: [إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي أعثرنا عن هؤلاء حين يتنازعون بينهم أمرهم.

و اختلف في المراد بهذا التنازع فقيل: يتنازعون في صحّة البعث فالقائلون به استدلّوا بهذه الواقعة على صحّة البعث و الحشر.

و قيل: إنّ الملك و قومه لمّا رأوا أصحاب الكهف و وقفوا على أحوالهم عادوا إلى كهفهم فأماتهم اللّه؛ فعند هذا اختلف الناس فقال قوم: إنّهم نيام كالكرّة الاولى. و قال آخرون: الآن ماتوا، فهذا أمر التنازع على هذا القول الثاني.

و القول الثالث في التنازع أنّ بعضهم و هم الكفّار قال: الأولى أن يسدّ باب الكهف لئلّا يدخل عليهم أحد و لا يقف على أحوالهم إنسان و قال آخرون و هم المسلمون: بل الأولى أن يبنى على باب الكهف مسجد. و هذا القول يدلّ على أنّ القائلين بهذا القول كانوا عارفين بتوحيد اللّه و معترفين بالعبادة.

و القول الرابع أنّهم تنازعوا في قدر مكثهم و عددهم و أسمائهم؛ و ذلك أنّه لمّا دخل الملك عليهم مع الناس سقطوا ميّتين دفعة، فقال الملك: إنّ هذا الأمر عجيب فما ترون؟

فاختلفوا فيما يرون فقال بعضهم: ابنوا عليهم بنيانا و استروهم في البنيان كالقبر. و قال غيرهم غيره. فقال سبحانه: «رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ» و يمكن هذا الكلام من كلام المتنازعين لمّا لم يهتدوا إلى حقيقة الأمر قالوا: ربّهم أعلم بهم. و يمكن أن يكون من كلامه سبحانه ردّا للخائضين في حديثهم.

ثمّ [قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ أي الملك المسلم أو رؤساء البلد [لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً] نعبد اللّه و نستبقي آثارهم بسبب ذلك المسجد فيعبد الناس فيه ببركاتهم.

و روي أنّ أصحاب الكهف لمّا دخل صاحبهم إليهم و أخبرهم بما كانوا عنه غافلين في مدّة

ص: 293

مقامهم سألوا اللّه أن يعيدهم إلى حالتهم الاولى فأعادهم إليها و حال بين من قصدهم و بين الوصول إليهم بأن أضلّهم عن الطريق إلى الكهف فلم يهتدوا إليه.

ثمّ بيّن تنازعهم في عددهم فقال: [سَيَقُولُونَ أي سيقول من المختلفين في عددهم [ثَلاثَةٌ] أي هم ثلاثة [رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ و روي أنّ السيّد و العاقب و أصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجرى ذكر أصحاب الكهف؛ فقال السيّد- و كان يعقوبيّا-: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم أي جاعلهم أربعة كلبهم. و قال العاقب- و كان نسطوريّا-: كانوا [خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ .

و قال المسلمون: كانوا [سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قال أكثر المفسّرين: هذا الأخير هو الحقّ و يدلّ عليه وجوه:

الاول أنّ الواو في قوله «وَ ثامِنُهُمْ» هي الواو الّتي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الجملة الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل و معه آخر. و فائدتها توكيد ثبوت الصفة للموصوف فكانت هذه الواو دالّة على صدق الّذين قالوا: إنّهم كانوا سبعة و ثامنهم كلبهم. و يدلّ بالتأكيد على أنّ قول الآخر قول ثابت متقرّر عن ثبات و علم.

الوجه الثاني: أنّه خصّ هذا القول بهذا الحرف الزائد و هو الواو فوجب أن يحصل به فائدة زائدة و هذه الفائدة تخصيص هذا القول بالإثبات و التصحيح.

الوجه الثالث أنّه تعالى أتبع القولين الأوّلين بقوله: «رَجْماً بِالْغَيْبِ» و تخصيص الشي ء بالوصف يدلّ على أنّ الحال في الباقي بخلافه فوجب أن يكون المخصوص بالظنّ و الرجم هذان القولان الأوّلان و أن يكون القول الثالث مخالفا لهما في كونهما رجما بالغيب.

الوجه الرابع أنّه تعالى قال: [قُلْ يا محمّد [رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ و القائل بالقول الأخير كان المسلمون و هم كانوا قليلين فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء المسلمون؛ قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: كانوا سبعة و أسماؤهم تمليخا، مكسلمينا، مسلثينا، و هؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك؛ و كان عن يساره مرنوس، و دبرنوس و سبادنوس، و كان الملك يستيشر هؤلاء الستّة في مهمّاته، و السابع هو الراعي الّذي وافقهم لمّا هربوا من ملكهم و اسم كلبهم قطمير. و كان ابن عبّاس يقول: أنا من

ص: 294

أولئك العدد القليل و كان يقول: إنّهم سبعة و ثامنهم كلبهم.

قوله تعالى: [فَلا تُمارِ فِيهِمْ أي لا تجادل الخائضين في عددهم و شأنهم [إِلَّا مِراءً ظاهِراً] أي جدالا بحجّة مختصرة من دون خصومة و جدل بيّن، و هو أن تقول لهم:

أثبتهم عددا و خالفكم غيركم و العلم عند اللّه [وَ لا تَسْتَفْتِ في عدد أهل الكهف من أهل الكتاب و من جهتهم [أَحَداً] و الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المراد غيره.

[وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلّا أن تقول: إن شاء اللّه، و هذا معنى الاستثناء [وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ الاستثناء أي إذا حلفت مثلا و قلت: و اللّه لأفعلنّ كذا. و لم تستثن فمتى ما ذكرت فاستثن و إن كان قد تذكّرت بعد أربعين صباحا. و في الفقيه عن الصادق عليه السّلام: للعبد أن يستثن ما بينه و بين أربعين يوما متى ما ذكر.

و أصل القصّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاه ناس من اليهود فسألوه عن ثلاث مسائل فقال لهم: تعالوا غدا أجيبكم و لم يستثن فاحتبس عنه جبرئيل أربعين يوما ثمّ أتاه فقال: «وَ لا تَقُولَنَ الآية».

و في الكافي عن الباقر في قول اللّه: «وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» (1): إنّ اللّه لمّا قال لآدم و زوجته: «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ»* (2) و لا تأكلا منها، فقالا: نعم لم نقربها و لم نأكل منها، و لم يستثنيا في قولهم: نعم، فوكلهما اللّه في ذلك إلى أنفسهما.

في المجمع إذا استثنى الإنسان بعد النسيان فإنّه يحصل له ثواب المستثنى إن يؤثّر الانفصال في الاستثناء و إبطال الحنث و سقوط الكفّارة.

و في الكافي عن الصادق أنّه أمر بكتاب في حاجة فكتب ثمّ عرض عليه و لم يكن فيه استثناء فقال عليه السّلام: كيف رجوتم أن يتمّ هذا و ليس فيه استثناء؟ انظروا في كلّ موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه. و في التهذيب ما يقرب منه و زاد: ثمّ دعا

ص: 295


1- طه: 115.
2- البقرة: 35. الأعراف: 18.

بالدواة و قال: الحق فيه إن شاء اللّه.

قوله تعالى: [وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي أي أرجو أن يأتيني بالآيات و الحجج و العلوم المستورة أقرب رشدا و كمالا من قصّة أصحاب الكهف، و قيل: معنى الآية أنّه إذا وعد بشي ء و قال معه: إن شاء اللّه، فيقول: عسى أن يهدين ربّي بشي ء أحسن و أكمل ممّا وعدتكم به كما فعل اللّه به حيث آتاه من العلوم و البيّنات و قصص الأنبياء و الأخبار المغيبة ما هو أعظم من قصّة الكهف.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 25 الى 27]

وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)

المعنى: قيل: إنّ هذا من كلام القوم و تتمّة كلامهم حيث قال: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» و كذا إلى أن قال: [وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ أي إنّ أولئك الأقوام قالوا:

ذلك، و يؤكّده أنّه تعالى قال بعده: [قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا] و قيل: و هو من كلام اللّه لأنّ قوله: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» هو كلام قد تقدّم و تخلّل بينه و بين هذا الكلام ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر و هو قوله: «فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً» و كذلك قوله:

«قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» يفيد أنّكم ارجعوا إلى خبر اللّه دون ما يقوله أهل الكتاب.

و هاهنا بحث و هو أنّ حمزة و الكسائيّ قرءا بثلاثمائة سنين بغير تنوين بطريق الإضافة و جعلوا سنين عطف بيان أو التميز لقوله: ثلاثمائة؛ لأنّ ثلاثمائة لم يعرف أنّها أيّام أم شهور أم سنون؟

فلمّا قال: سنين، صار هذا بيانا لقوله: «ثَلاثَ مِائَةٍ». فلو قيل: إنّ الواجب في الإضافة أن يقال:

ثلاثمائة سنة على الإفراد. فالجواب أنّه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله:

«بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا» (1) أي عملا على أنّ هذا الضرب من العدد الّذي يضاف إلى الأجساد

ص: 296


1- السورة: 104.

غالبا نحو ثلاثمائة رجل و أربعمائة ثوب، فقد جاء كثيرا مضافا إلى الجمع قال أبو العلاء:

«يد بخمس مئين عسجد اوديت» و في نصب سنين على البدليّة أو عطف البيان أو التمييز و يجوز بالجرّ فيكون نعتا للمائة.

قوله تعالى: [وَ ازْدَادُوا تِسْعاً] فإن قيل: لم لم يقل سبحانه: ثلاثمائة و تسع سنين، و ما الفائدة في قوله: «وَ ازْدَادُوا تِسْعاً»؟ قيل: إنّه حكاية كلام أهل الكتاب و اختلافهم في المدّة فقال بعضهم: ثلاثمائة و ازدادوا بعضهم تسعا و قيل: هو من كلام اللّه؛ روي عن عليّ عليه السّلام أنّه قال عند أهل الكتاب أنّهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسيّة و اللّه تعالى ذكر السنة القمريّة، و التفاوت بينهما في كلّ مائة سنة ثلاث سنين فيكون العدد ثلاثمائة و تسع سنين و إذا كان المراد هذا المعنى فوجب أن يكون سوق الكلام كما سبق.

ثمّ اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف قيل: إنّهم كانوا قبل موسى عليه السّلام و إنّ موسى ذكرهم في التوراة و بهذا السبب سألوا أهل التوراة عن النبيّ هذا السؤال. و قيل:

إنّهم دخلوا الكهف بعد المسيح.

و بالجملة و [اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا] و أخبر بغيبه و هو الحقّ و الصدق. [لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ هذا لفظ التعجّب كقولك: ما أحسنه أي كثر تعجّب بصيرة اللّه و علمه و لا يخفى عليه شي ء فيعلم ما غاب في السماوات و الأرض فليس لأهل السماوات و الأرض من دون اللّه من ناصر يتولّى نصرتهم [وَ لا يُشْرِكُ سبحانه [فِي حُكْمِهِ أَحَداً] و لا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم اللّه، أو المعنى أنّه سبحانه لا يشرك في حكمه بما يخبر به من الغيب أحدا، و على قراءة الخطاب معناه: و لا تشرك أنت أيّها الإنسان في حكمه أحدا.

قوله تعالى: [وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ أي اقرأ و اتّبع ما اوحي إليك من هذا القرآن و الزم العمل به لأنّ التلاوة يتناول القراءة و المتابعة.

ثمّ قال سبحانه: [لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي يمتنع تطرّق التبديل إليه؛ فلو قيل:

على هذا فيجب أن لا يتطرّق النسخ إليه، قلنا: النسخ ليس تبديلا؛ لأنّ المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت الناسخ فالناسخ الغاية فكيف يكون تبديلا؟ [وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً]

ص: 297

أي إن لم تتبّع القرآن فلن تجد من دون اللّه ملجأ و حرزا و جانبا تميل إليه، مأخوذ من اللحد و هو الميل.

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 28 الى 29]

وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)

النزول: نزلت في سلمان و أبي ذرّ و عمّار و صهيب و خباب و غيرهم من فقراء الأصحاب و بيان ذلك أنّ بعض الأشراف من قريش و المؤلّفة قلوبهم جاءوا إلى رسول اللّه مثل عيينة الحصن و الأقرع بن حابس و ذويهم و قالوا: يا رسول اللّه إن جلست في صدر المجلس و نحّيت عنّا هؤلاء و أرواح صنائهم- و كانت عليهم جبّات الصوف- جلسنا نحن إليك و أخذنا عنك فلا يمنعنا من الدخول عليك إلّا هؤلاء، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حريصا على إيمان عظماء المشركين طمعا في إيمان أتباعهم و لم يمل إلى الدنيا و زينتها قطّ و لا إلى أهلها و إنّما كان بليّن في بعض الأحايين للرؤساء لهذه الجهة فخوطب بهذه الآية.

[وَ اصْبِرْ] أي احبس [نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يداومون على الدعاء و الصلاة عند الصباح و المساء لا شغل لهم غيره و يستفتحون يومهم بالدعاء و يختمونه بالدعاء [يُرِيدُونَ وَجْهَهُ و رضاه و رضوانه و تعظيمه و القربة إليه من دون السمعة و الرياء.

[وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ أي لا تتجاوز عيناك عنهم بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا [تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا] أي مريدا مجالسة أهل الشرف. و الغرض بيان أنّ الإقبال يكون على فقراء المؤمنين و أن لا يرفع نظره عنهم، و الخطاب له لئلّا يكترث للأغنياء من الكفّار و يكون عذرا له لكنّ المراد الامّة.

[وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي و لا تطع من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا بسبب تعرّضه للغفلة و سوء اختياره المعصية على الطاعة و لهذا قال سبحانه: [وَ اتَّبَعَ هَواهُ و مثله: «فَلَمَّا

ص: 298

زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» (1) أو يكون معنى «أغفلنا» نسبنا قلبه إلى الغفلة كما يقال: أكفره أي نسبه إلى الكفر قال الكميت:

و طائفة قد أكفروني بحبّكم و طائفة قالوا مسي ء و مذنب

أو معنى «أغفلنا قلبه» أي جعلنا غفلا و لم نسمّه بسمة قلوب المؤمنين لتعرفه الملائكة بتلك السمة تقول العرب: فلان أغفل ماشيته، إذا لم يسمّها بسمة تعرف أو المعنى: لا تطع من تركنا قلبه و خلّينا بينه و بين الشيطان بتركه أمرنا و بسبب ترك الأمر أعرضنا عنه قوله: «وَ اتَّبَعَ هَواهُ» في شهواته [وَ كانَ أَمْرُهُ سرفا و إفراطا و تجاوزا عن الحدّ.

[وَ قُلِ يا محمّد لهؤلاء الّذين أمروك بتنحية الفقراء: [الْحَقُ هذا القرآن و الحكم [مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ و يقبل [وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ] و يأبى له الاختيار، و هذا تهديد و وعيد بصورة الأمر و لذلك عقّبه بقوله سبحانه:

[إِنَّا أَعْتَدْنا] و هيّأنا للكافرين [الظالمين أنفسهم بعبادة غير اللّه و مخالفة أو امره [ناراً أَحاطَ بِهِمْ سرادق و حائط من نار يحيط بهم، و السرادق هو الحجرة الّتي تكون حول الفسطاط تحيط من جميع الجهات. و المراد أنّه لا مخلص من النار، و قيل: المراد من هذا السرادق الدخان الّذي وصفه اللّه في قوله: «انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ» (2) و قالوا:

هذه الإحاطة بهم إنّما يكون قبل دخولهم النار فيغشاهم و يحيط بهم كالسرادق.

و صفة اخرى لهذه النار و هي قوله: [وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ و اختلف في معنى المهل قيل: إنّه درديّ الزيت، عن ابن مسعود. و قيل: كلّ شي ء أذبته من ذهب أو نحاس أو فضّة فهو المهل. و قيل: إنّه الصديد و القيح. و قيل: إنّه ضرب من القطران.

و هذه الاستغاثة لأجل العطش فيعطون هذا المهل.

ثمّ قال سبحانه: [بِئْسَ الشَّرابُ هذا الماء الّذي هو المهل [يَشْوِي الْوُجُوهَ يذهب بفروة الرأس [وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً] أي ساءت النار منزلا و مجتمعا للرفقاء لأنّ أهل النار يجتمعون رفقاء كأهل الجنّة و الرفقاء فهم الكفّار و الشياطين. و قيل: المراد من قوله: «مُرْتَفَقاً» أي

ص: 299


1- الصف: 5.
2- المرسلات: 30.

متّكئا لأنّ الاتّكاء يكون بالمرفق و المرتفق موضع الاستراحة.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 30 الى 31]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)

لمّا ذكر الوعيد للكفّار أردفه بوعد المؤمنين فقال: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الطاعات [إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا] أي لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا بل نجازيهم و نوفّيهم من غير بخس.

و الآية تدلّ على أنّ العمل شرط لحصول هذه المثوبات لأنّ العطف يدلّ على المغايرة، و كذلك تدلّ على أنّ المؤمن يستوجب بحسن عمله، و لكن عند أهل السنّة أنّ الاستيجاب يحصل بحكم الوعد، و عند المعتزلة لذات الفعل. و تكرير كلمة «إنّ» لبيان تأكيد تحقّق الوعد و العمل كقول الشاعر:

إنّ الخليفة إنّ اللّه سربله سربال ملك به ترجى الخواتيم

و لمّا أثبت الأجر لهم أردفه بالتفصيل: الأوّل صفة مكانهم و هو قوله: [أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ و «العدن» عبارة عن الثبوت و الإقامة أي دار الإقامة لأنّهم يبقون فيها ببقاء اللّه دائما. و قيل: المراد بالعدن بطنان الجنّة و وسطها و هي جنّة من الجنان، و إنّما جمع لسعتها و كلّ ناحية منها تصلح أن تكون جنّة تجري من تحتها الأنهار لأنّهم على غرف فيها و الأنهار تجري في أخاديد من الأرض فلذلك قال: مِنْ تَحْتِهِمُ ... [يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أي يجعل لهم فيها حليّ من أساور: سوار من فضّة و سوار من ذهب و سوار من لؤلؤ و ياقوت يحلّيهم اللّه أو تحلّيهم الملائكة؛ فالسوار من الذهب في هذه الآية و من فضّة لقوله تعالى: «وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ» (1) و سوار من لؤلؤ لقوله: «وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ»* (2) و هذه الثلاثة لباس الزينة و أمّا لباس التستّر فقوله: [وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ

ص: 300


1- الدهر: 21.
2- الحج: 25، الفاطر: 31.

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 339

و هو الديباج الرقيق اللطيف. و الثاني الإستبرق فارسيّ معرّب «استبره» بالفارسيّة أي غليظ. و الحاصل أنّ ملبوسهم على قسمين رقيق غاية، و غليظ منسوج بالذهب.

تراهنّ يلبسن المشاعر مرّةو إستبرق الديباج طورا لباسها

[مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ الأريكة السرير و الفرش في الحجال، و إنّما خصّ الاتّكاء في الذكر لأنّه يفيد معنى الأمن و الراحة و السلامة قوله: [نِعْمَ الثَّوابُ أي طاب ثوابهم و عظم [وَ حَسُنَتْ الأرائك موضع ارتفاق و مجتمعا و منزلا.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 32 الى 44]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً (34) وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)

قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)

وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)

النزول: إنّ الكفّار افتخروا على المسلمين بثروتهم و أموالهم فبيّن اللّه في هذه الآية أنّه ذلك ممّا لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الغنيّ فقيرا و الفقير غنيّا، و أمّا الّذي يوجب الافتخار بطاعة اللّه و تقواه، و ضرب مثلا لهذا المعنى في الآية فقال:

ص: 301

[وَ اضْرِبْ يا محمّد [لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أي مثل حال الكافرين و المؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل: أحدهما كافر اسمه براطوس و الآخر مؤمن اسمه يهوذا ورثا من أبيهما ثمانية ألف دينار فأخذ كلّ واحد منهما النصف و اشترى الكافر أرضا بألف دينار فقال المؤمن: اللهمّ إنّي أشتري منك أرضا في الجنّة بألف دينار فتصدّق به ثمّ بنى أخوه دارا بألف دينار فقال المؤمن: اللهمّ إنّي أشتري منك دارا في الجنّة بألف فتصدّق به ثمّ تزوّج أخوه امرأة بألف دينار فقال المؤمن: اللهمّ إنّي جعلت ألفا لصداق حور العين، ثمّ اشترى أخوه خدما و ضياعا بألف فقال المؤمن: اللهمّ إنّي اشتريت منك الولدان بألف، فتصدّق به ثمّ أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمرّ به أخوه في حشمة فتعرّض له فطرده و وبّخه على التصدّق بما له.

قوله تعالى: [جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ وصف سبحانه تلك الجنّة بصفات كونها جنّة أي مستترة بظلّ الأشجار، و أصل الكلمة من الستر و التغطية و الصفة الثانية [وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي جعلنا النخل محيطا بالجنّتين نظير قوله: «حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» (1) أي محيطين به و المحافّة جانب الشي ء [وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً] المقصود أنّ تلك الأراضي جامعة لأقسام المنافع من الأقوات و الفواكه.

و قوله: [كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً] أي كلّ واحدة من البستانين آتت ثمرتها و غلّتها، و سمّاه أكلا لأنّه مأكول «و لم تظلم» أي و لم تنقص منه شيئا بل تثمر على التمام و الكمال [وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما] و وسطهما شققنا [نَهَراً] يسقيهما من غير كدّ و تعب بدوام الماء فيهما.

[وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ] قرئ بفتح الثاء أي كان للرجل ثمر ملكه، أو الضمير راجع إلى النخل أي كان للنخل ثمر. و قرئ بضمّ الثاء و الميم و المعنى كان للرجل الذهب و الفضّة مع هذين البستانين [فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أي قال الكافر لصاحبه المؤمن و هو يخاطبه و يراجعه في الكلام من الحور و هو الرجوع: [أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً] و المسلم كان يحاوره بالوعظ

ص: 302


1- الزمر: 75.

و الدعوة بالإيمان و البعث و قال الكافر: أنا أكثر منك مالا و عشيرة و أصحابا و ترفّع عليه بجاهه و ماله.

ثمّ أخبر اللّه عن حاله فقال: [وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ لجحوده الإيمان و البعث و أفرد الجنّة بعد التثنية و أضافها إليه لأنّ المراد ملكه و لم يقصد الجنّة و لا الجنّتين. ثمّ حكى سبحانه عن الكافر أنّه قال: و [ما أَظُنُّ أَنْ تفني هذه الجنّة لإعجابه بها و غروره ببهجتها و المراد أنّها لا تبيد مدّة حياته لكثرة ثمارها و حسن بهجتها ثمّ قال الكافر: [وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي كما تزعم أنت و بعثت بعقيدتك لا بعقيدتي؛ لأنّي ما أظنّ أنّ الساعة تقوم فعلى زعمك لئن قامت [لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً] أي كما أعطاني هنا يعطيني هناك لكرامتي كما أكرمني في الدنيا، و ظنّ جهلا أنّه اوتي ما اوتي لكرامته على اللّه.

[قالَ لَهُ صاحِبُهُ المؤمن و هو يخاطبه و يرشده [أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا] و إنّما كفّره لأنّه أنكر القيامة حيث قال: «وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» و هذا يدلّ على أنّ منكر البعث كافر باللّه. و قوله: «خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ» إشارة إلى بدو خلق الإنسان و قوله: «ثُمَّ سَوَّاكَ» أي هيّأك هيئة تعقل و تصلح للتكليف.

ثمّ قال المؤمن: [لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي قال أهل اللغة: لكنّا، أصله لكن أنا فحذفت الهمزة و ألقيت حركتها على نون لكن فأجمعت النونان فأدغمت نون لكن في نون البعد و تحذف الألف في الوصل و تثبت في الوقف و إثبات الألف في لكنّا عوض عن الهمزة من أنا، و يمكن أنّ هذه الألف تلحق للوقف مثل الهاء في قوله: «ما هِيَهْ ...، حِسابِيَهْ»* (1) قوله: «هُوَ اللَّهُ» الضمير ضمير الشأن تقديره: لكن أنا أقول: هو اللّه ربّي و خالقي [وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً] في عبادتي، و إنّما استحال الشرك في العبادة لأنّها لا تستحقّ إلّا بأصول النعم و ذلك لا يقدر عليه أحد إلّا اللّه فلا يجوز أن يعبد غير المنعم.

قوله: [وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ و قال له: هلّا حين دخلت بستانك فرأيت تلك الثمار و النعمة و الزرع شكرت اللّه و قلت: الّذي شاء اللّه كان و حصل و إنّي و إن تعبت جمعه و ليس ذلك إلّا بقدرة اللّه و تيسيره، و لو شاء فحال بيني و بين ة.

ص: 303


1- سورة الحافة و القارعة.

ذلك و لنزع عنّي هذه النعمة.

ثمّ رجع إلى نفسه و قال: [إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَ وَلَداً. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ أي إن كنت تراني اليوم فقيرا و أقلّ منك فلعلّ اللّه أن يؤتيني بستانا في الآخرة أو في الدنيا و الآخرة [وَ يُرْسِلَ على جنّتك عذابا أو نارا من السماء فيحرقها، و ذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك. و حسبان مثل غفران و بطلان أي مقدار ما قدّره اللّه.

و قيل: معنى الحسبان مرامي من عذابه إمّا برد و إمّا حجارة أو غيرهما من أنواع العذاب [فَتُصْبِحَ جنّتك أرضا مستوية لا نبات عليها تزلق عنها القدم فتصير أضرّ أرض بعد أن كانت أنفع أرض [أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها] غائرا ذاهبا في باطن الأرض [فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لطلب الماء إذا غار في الأرض أثرا تطلبه و لن تستطيع ردّه. و بالجملة إلى هنا انتهى مناظرة الصاحبين.

ثمّ قال سبحانه: [وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي أهلك الأشجار و نخيله فهلكت عن آخرها في الخسر، إنّ اللّه أرسل عليها نارا فأهلكها و غار ماؤها [فَأَصْبَحَ هذا الكافر [يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ تحسّرا و تأسّفا [عَلى ما أَنْفَقَ في الجنّة من المال، و تقلّب الكفّين عبارة عن شدّة الندم و التحسّر [وَ هِيَ أي الجنّة ساقطة على سقوفها و ما عرش لكرومها و ما بني من البناء فيها و ندم على الكفر لفناء ما له لا لوجوب الإيمان فلم ينفعه، و لو ندم على الكفر فآمن باللّه تحقيقا لانتفع به.

[وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ أي لهذا الكافر جماعة يدفعون عذاب اللّه عنه أو جند ينفعونه [وَ ما كانَ مُنْتَصِراً] و ممتنع و روى هشام بن سالم و أبان بن عثمان عن الصادق عليه السّلام: عجبت لمن خاف أمر أ كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ» (1)؟ فإنّي سمعت اللّه عزّ و جلّ يقول بعقبها: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ» (2) و عجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ»؟ (3) فإنّي سمعت اللّه يقول بعقبها: «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» (4) و عجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: «وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ

ص: 304


1- آل عمران: 173.
2- آل عمران: 175.
3- الأنبياء: 87.
4- الأنبياء: 88.

بِالْعِبادِ»؟ (1) فإنّي سمعت اللّه يقول بعقبها: «فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا» (2) و عجبت لمن أراد الدنيا و زينتها كيف لا يفزع إلى قوله: «ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»؟ فإنّي سمعت اللّه يقول: بعقبها «فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ» و «عسى» موجبة من اللّه.

قوله: [هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ هنالك أي يوم القيامة و ذلك الموضع الولاية و النصرة للّه ينصر بها أوليائه على أعداءه هذا كقوله: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (3) و بعض القرّاء قرءوا الولاية بالفتح قالوا: لأنّ الكسر في فعالة يجي ء فيما كان صنعة كالكتابة و الإمارة و الخلافة و أشباهها و ليس هنا تولّي أمر بل إنّما هو الولاية من الدين و كذلك الّتي في الأنفال.

قوله: [ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ] ففي هذين الموضعين يفتح الواو، و أيضا الحقّ قرئ بكسر القاف صفة للّه، و قرئ بالرفع صفة للولاية، و كذلك «عقبا» قرئ بسكون القاف كفعلى، و بضمّ القاف و كليهما بمعنى العاقبة.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): آية 45]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً (45)

. المقصود ضرب مثل آخر لحقارة الدنيا و زينتها فقال سبحانه: [وَ اضْرِبْ يا محمّد لهؤلاء المفتخرين بأموالهم على فقراء المؤمنين أنّ مثل الحياة الدنيا [كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ] فنبت بسبب ذلك الماء نبات الأرض و التفّ بعضه ببعض بروق حسناء و غضاضة، و بعد مدّة قليلة يصبح هذا النبات كسيرا مفتّتة [تَذْرُوهُ الرِّياحُ و تنقله من موضع إلى موضع و الذرو و التذرية يطير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة أي انقلاب الدنيا بأهلها كانقلاب هذا النبات [وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً] قادرا لا يجوز عليه المنع. ثمّ قال:

ص: 305


1- المؤمن: 44.
2- المؤمن: 45.
3- المؤمن: 16.

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 46 الى 49]

الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46) وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)

قوله: [الْمالُ وَ الْبَنُونَ أي إنّ الإنسان يتفاخر بهما و يتزيّن بهما في الدنيا و لا ينتفع منهما في الآخرة، و إنّما سمّا هما زينة لأنّ في المال جمالا و في البنين قوّة و دفعا فصارا زينة لكن لا يبقيان [وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ و العبادات الدينيّة و الطاعات و الحسنات [خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً] و أصدق [أَمَلًا] لأنّها غير فانية و سائر زهرات الدنيا و الآمال الكاذبة المنقطعة فانية، و من المعلوم أنّ الباقي خير من الفاني.

روى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لجلسائه: خذوا جنّتكم، قالوا: أحضر عدوّ يا رسول اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: جنّتكم من النار، قولوا: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فإنّهن المقدّمات و هنّ المجيبات و هنّ المعقّبات و هنّ الباقيات الصالحات.

و رواه أصحابنا عن أبي عبد اللّه عن آبائه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: و لذكر اللّه أكبر، قال:

ذكر اللّه عند ما أحلّ أو حرّم.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إن عجزتم عن اللّيل أن تكابدوه و عن العدوان تجاهدوه فلا تعجزوا عن قول سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر؛ فإنّهن من الباقيات الصالحات. و قيل: هي الصلوات الخمس، عن ابن مسعود و جماعة، و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و روي عنه أيضا أنّ من الباقيات لقيام الليل. و قيل: إنّ الباقيات الصالحات هنّ النيّات الصالحة. و الأولى حملها على العموم فيدخل فيها جميع الخيرات و الطاعات. و في كتاب ابن عقدة أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام قال للحصين بن عبد الرحمن: يا حصين لا تستصغر مروّتنا فإنّها من الباقيات الصالحات، قال: يا ابن رسول اللّه ما أستصغرها و لكن أحمد اللّه عليها.

ص: 306

قوله تعالى [وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ قيل: ابتداء كلام: و اذكر يوم نسيّر الجبال، يعني يوم القيامة، و تسيير الجبال قلعها عن أماكنها فإنّ اللّه يجعلها هباء منثورا. و قيل:

يسيّرها على وجه الأرض كما يسيّر السحاب في السماء ثمّ يجعلها كثيبا مهيلا ثمّ يصيّرها هباء منثورا في الهواء. و قيل: متعلّق قوله: «وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ» ما قبله و تقديره: الصالحات خير ثوابا في هذا اليوم.

قوله: [وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً] أي ظاهرة ليس عليها شي ء من جبل أو بناء أو شجر يسترها عن عيون الناظرين. و قيل: معناه و ترى باطن الأرض ظاهرا قد برز من كان في بطنها فصاروا على ظهرها فهو مثل قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ترمي الأرض بأفلاذ كبدها [وَ حَشَرْناهُمْ و بعثناهم من قبورهم و جمعناهم في الموقف [فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً] أي لم نترك منهم أحدا إلّا حشرناه.

[وَ عُرِضُوا] أي المحشورين يعرضون على اللّه يوم القيامة [صَفًّا] أي مصفوفين صفّا بعد صفّ كالصفوف في الصلاة. و قيل: صفّا واحدا جميع أهل الدنيا لا يحجب بعضهم بعضا و يقال لهم:

[لَقَدْ جِئْتُمُونا] فرادى [كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ] عراة حفاة بغير أموال و لا أعوان؛ قالت عائشة بعد الحديث: أما يستحيي بعضهم من بعض؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (1). ثمّ قال: [بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً] أي كنتم مع التعزّز على المؤمنين بالأموال و الأنصار تنكرون البعث و القيامة.

[وَ وُضِعَ الْكِتابُ أي وضع الكتب فإنّ الكتاب اسم جنس يعني وضعت الصحائف من بني آدم في أيديهم، و قيل: وضع الحساب فعبّر عن الحساب بالكتاب [فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ خائفين [مِمَّا فِيهِ من الأعمال السيّئة [وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا] احضري هذه لفظة يقولها الإنسان إذا وقع في شدّة فيدعو على نفسه بالويل و الثبور، يحصل لهم خوف العقاب من الحقّ و خوف الفضيحة عند الخلق [ما لِهذَا الْكِتابِ و صحيفة العمل [لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها] لا يترك الصغيرة و لا الكبيرة، و انّث الصغيرة و الكبيرة مع أنّه وصف الذنب لمعنى الفعلة و الخصلة.

ص: 307


1- عبس: 37.

قوله: [وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً] أي مكتوبا مثبتا و يجدون جزاء ما عملوا حاضرا فجعل وجود الجزاء كوجود الأعمال توسّعا [وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً] أي لا ينقص ثواب ما عملوا من الحسنات و لا يزيد في عقاب مسي ء. و في هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يعاقب الأطفال لأنّه إذا كان لا يزيد في عقوبة المذنب فكيف يعاقب من ليس بمذنب؟

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 50 الى 52]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52)

المقصود من ذكر الآيات المتقدّمة أنّ المشركين كانوا يتكبّرون و يفتخرون على فقراء المؤمنين بأموالهم و شرفهم فذكر أنّ الكبر طريقة إبليس و أنتم لا تقتدوا به و لا تتولّوه، و بيان ما أورث الكبر للشيطان من سوء العاقبة حتّى تحترزوا من هذه الطريقة السيّئة. و التكرّر في القرآن في هذه المسألة و أشباهها لأجل أهمّيّة الأمر؛ فإن الاستكبار إشراك و معارضة مع الربوبيّة.

اذكر يا محمّد [إِذْ قُلْنا] و أمرنا [لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قد مرّ تفسيره فيما تقدّم.

قوله: [كانَ مِنَ الْجِنِ و مجمله أنّ للناس في هذه المسألة أقوال:

الأوّل أنّه من الملائكة و كونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنّ و لهم فيه وجوه: الأوّل أنّ قبيلة من الملائكة يسمّون بذلك لقوله: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» (1) «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ» (2) لقولهم: الملائكة بنات اللّه. الثاني: الجنّ سمّوا جنّا للاستتار و الملائكة كذلك فهم لهذا المعنى داخلون في الجنّ. الثالث: أنّه كان ملكا خازن الجنّة و نسب إلى الجنّة كنسبة البصريّ و الكوفيّ و الشاميّ. و عن سعيد بن جبير

ص: 308


1- الصافات: 157.
2- الانعام: 100.

أنّه كان من الجنانين الّذين يعلمون في الجنان حيّ من الملائكة يصوغون حلية أهل الجنّة مذ خلقوا؛ رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبير.

و القول الثاني من الأقوال الثلاثة: أنّه من الجنّ الّذين هم الشياطين الّذين خلقوا من نار و هو أبوهم.

و القول الثالث من الأقوال الثلاثة كان من الملائكة فمسخ.

و دليل من قال: إنّه ليس من الملائكة، أنّه تعال أثبت له ذرّيّة و نسلا في هذه الآية و هو قوله: «أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي» و الملائكة ليس لهم ذرّيّة و لا نسل فوجب أن لا يكون إبليس من الملائكة. بقي أن يقال: إنّ اللّه أمر الملائكة بالسجود فلو لم يكن من الملائكة فكيف تناوله ذلك الأمر؟ و أيضا لو لم يكن من الملائكة كيف يصحّ استثناؤه منهم؟ و قد شرّح هذه المسألة في سورة البقرة. و في كيفيّة ذرّيّة إبليس قيل:

يتولّدون كما يتوالد بنو آدم. و قيل: يدخل ذنبه في دبره فيبيض و تنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين.

قوله: [فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي خرج بترك السجود عن طاعة ربّه.

ثمّ خاطب اللّه الكافرين فقال: [أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ] و ذرّيّته أعداء لكم و العاقل حقيق بأن يتّهم عدوّه على نفسه و لا يتولّاه. بئس البدل طاعة الشيطان عن طاعة الرحمن، و ولاية الشيطان عن ولاية الرحمن، و تقدير الآية: بئس البدل من اللّه إبليس. و المخصوص بالذمّ مضمر فسّر بقوله: «بدلا» على البدليّة.

قوله: [ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ معناه ما أحضرت إبليس و ذرّيّته حين خلقت السماوات و الأرض مستعينا بهم أو ما أحضرت المشركين وقت خلق السماوات و لا استعنت ببعضهم على خلق بعضهم و لم يكونوا موجودين وقت خلق السماوات فمن أين جعلوا لي شريكا، و نسبوا أنّ الملائكة بنات اللّه، و من أين ادّعوا ذلك؟ [وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ أي الشياطين الّذين يضلّون الناس أو ما اتّخذت المضلّين من الشيطان و الإنسان عونا لي على خلقتهم و ما كانوا فمن أين لهم قابليّة الولاية و الإطاعة منكم إليهم؟ و الولاية للّه.

ص: 309

قوله: [وَ يَوْمَ يَقُولُ يريد يوم القيامة يقول اللّه للمشركين و عبدة الأصنام: [نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ في الدنيا أنّهم شركائي ليدفعوا عنكم العذاب [فَدَعَوْهُمْ المشركون أي يدعونهم أي يدعون الأصنام فلا يستجيبون لهم و لا ينفعونهم.

[وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي المؤمنين و الكافرين [مَوْبِقاً] و هو اسم واد عميق فرّق اللّه به بين المؤمنين و الكافرين و أهل الهدى و أهل الضلالة، و قيل: معناه جعلنا حاجزا بين المعبودين و عبدتهم و أدخلنا من كان من المعبودين مثل الملائكة و المسيح الجنّة و أدخلنا العابدين النار. و قيل «موبقا» أي عداوة مهلكة.

و عن أنس بن مالك أنّه قال: الموبق واد في جهنّم من قيح و دم، و المقصود من هذه الآية إلزام المشركين بالحجج الظاهرة و بيان أنّه المتفرّد بالحقّ و الابتداع لا شريك له فيه، و يوم خلق السماوات و الأرض ما كنتم و لا كان إبليس؛ فلا ينبغي أن تشركوا معه في العبادة غيره إلها.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 53 الى 56]

وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلاً (54) وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)

ثمّ بيّن سبحانه حال المجرمين يعني المشركين أو هو عامّ في أصحاب الكبائر، لمّا رأوا النار و هي تتلظّى عليهم حيفا و إحاطة [فَظَنُّوا] أي علموا [أَنَّهُمْ داخلون فيها و واقعون في عذابها [وَ لَمْ يَجِدُوا] بدّا و معدلا ينصرفون إليه ليتخلّصوا منها. و قيل: معنى «مواقعوها» أي مخالطوها.

[وَ لَقَدْ صَرَّفْنا] و بيّنّا [فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ و تصريفها ترديدها من نوع واحد و أنواع مختلفة ليفكّروا فيها و مع ذلك يكون [الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا] قيل: المراد بالإنسان في الآية الكافر و يدلّ عليه قوله: «وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 310

بِالْباطِلِ». و قيل: المراد بالإنسان النضر بن الحارث لأنّه كان كثير الجدل في آيات النبيّ. و قيل: يريد ابيّ بن خلف، و هو كان كذلك قوله: [وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي ما منعهم من الإيمان بعد مجي ء الدلالة [وَ] من أن [يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ على ما سبق من معاصيهم إلّا أن تطلب أن [تَأْتِيَهُمْ عذاب الاستئصال، و تأتيهم من حيث لا يشعرون كالأمم المتقدّمة [أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ عيانا مقابلة يرونها حتّى يؤمنوا إلجاء، أو هذا كقول القائل لغيره: ما منعك أن تقبل قولي إلّا أن تضرب. و «قبلا» قرئ بضمّ القاف و الباء و بفتح القاف و سكون الباء، و المعنى على قراءة الضمّتين معنى المقابلة، و بالفتح و السكون معنى القبل و السابق.

قوله: [وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ أي لم نرسل الرسل إلى الخلق [إِلَّا مُبَشِّرِينَ إذا أطاعوا و مخوّفين لهم بالنار إذا عصوا [وَ يُجادِلُ الكفّار دفعا عن مذاهبهم و يخاصم [الَّذِينَ كَفَرُوا] و أتوا بالباطل و غرضهم أن يزيلوا الحقّ عن مقرّه؛ قال ابن عبّاس: يريد المستهزئين و المقتسمين، و جدالهم [بِالْباطِلِ اقتراحاتهم الآيات على أفواههم ليبطلوا ما جاء به محمّد. يقال: أدحضت حجّته إذا أبطلتها، فإذا [اتَّخَذُوا آياتِي أي القرآن [وَ ما أُنْذِرُوا] و تخوّفوا به من البعث و النار [هُزُواً] به.

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 57 الى 59]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَ تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

لمّا حكى عن الكفّار جدالهم بالباطل شرح في بيان مخازيهم و ظلمهم فقال:

[وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ترد عليه الحجج و الآيات الواضحة و وعظ بالقرآن و أدلّة التوحيد [فَأَعْرَضَ عَنْها] جانبا [وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ من الأعمال المنكرة الّتي صدرت منه؛ و المراد من

ص: 311

النسيان التشاغل و التغافل عن كفره و عصيانه استخفافا به.

ثمّ قال: [إِنَّا] بسبب إعراضهم عن الآيات استحقّوا أن نجعل [عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً] و أغطية أن تفقه [وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً] أن تسمع [وَ إِنْ تَدْعُهُمْ أنت يا محمّد [إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا] ما داموا معرضين عن الحق [أَبَداً] و قد خرج مخبره موافقا لخبره لأنّهم ماتوا على كفرهم.

[وَ رَبُّكَ الساتر على عباده الغافر لذنوب المؤمنين و الإفضال على خلقه، و قيل: معناه [الْغَفُورُ] للتائب و [ذُو الرَّحْمَةِ] للمصرّ بأن يمهل و لا يعجل. و قيل:

الغفور لا يؤاخذهم عاجلا، ذو الرحمة يؤخّرهم ليتوبوا. قوله: [لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ في الدنيا [بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ] و هو يوم القيامة و البعث [لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا] أي ملجأ و محرزا. و قيل: منجأ ينجيهم؛ يقال: لا وألت نفسه أي لا نجت.

قوله: [وَ تِلْكَ الْقُرى إشارة إلى قرى عاد و ثمود و غيرهما [أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا] بتكذيب أنبياء اللّه و جحود آياته [وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ أي لوقت إهلاكهم [مَوْعِداً] معلوما يهلكون فيه لمصلحة اقتضت تأخيره إليه، و إنّما قال: «تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ» و لم يقل:

أهلكناها؛ لأنّ القرية لا يستحقّ الهلاك و إنّما يستحقّ الهلاك أهلها.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 60 الى 64]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)

النزول: القميّ: لمّا سأل اليهود النبيّ عن قصّة أصحاب الكهف و أجابهم صلّى اللّه عليه و آله سألوا و قالوا: أخبرنا من العالم الّذي أمر اللّه موسى أن يتبعه و ما قصّته فأنزل اللّه الآية.

ص: 312

و كان سبب ذلك أنّه لمّا كلّم اللّه موسى تكليما و أنزل عليها الألواح كما قال اللّه: «وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» (1) و رجع موسى إلى بني إسرائيل صعد المنبر فأخبرهم أنّ اللّه قد أنزل التوراة و كلّمه، قال في نفسه: ما خلق اللّه خلقا أعلم منّي! فأوحى اللّه إلى جبرئيل: أدرك موسى فقد هلك و أخبره أنّ عند ملتقى البحرين عند الصخرة رجل أعلم منك فسر إليه و تعلّم من علمه، فنزل جبرئيل على موسى و أخبره فذلّ موسى في نفسه و علم أنّه أخطأ و دخله الرعب فقال لوصيّه يوشع ابن نون: إنّ اللّه قد أمرني أن أتبع رجلا عند ملتقى البحرين و أتعلّم منه فتزوّد يوشع حوتا مملوحا و خرجا.

و العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام قال: بينا موسى قاعد في ملأ من أصحابه بني إسرائيل إذ قال له رجل: ما أرى أحدا أعلم باللّه منك! قال موسى: ما أرى؛ فأوحى اللّه إليه: بل عبدي الخضر فتوجّه إليه، فكان له آية الحوت أن افتقده، و كان من شأنه ما قصّ اللّه في هذه الآية.

المعنى: [وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ أكثر المفسّرين على أنّه موسى بن عمران و فتاه يوشع بن نون و سمّاه فتاه لأنّه صحبه و خدمه و لازمه سفرا و حضرا و تلمّذه كما خاطبه «آتنا غداءنا» و يوشع ابن نون بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، لكنّ اليهود يقولون:

إنّ موسى الّذي طلب الخضر هو موسى بن ميثا بن يوسف و كان قبل موسى بن عمران إلّا أنّ الجمهور على أنّه موسى بن عمران، لأنّ إطلاقه يوجب صرفه إلى موسى بن عمران.

قال عليّ بن إبراهيم: حدّثني محمّد بن عليّ بن بلال، قال: اختلف يونس و هشام بن إبراهيم في العالم الّذي أتاه موسى أيّهما كان، و هل يجوز أن يكون على موسى حجّة في وقته و هو حجّة اللّه على خلقه؟ فكتبوا إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام يسألونه عن ذلك فكتب عليه السّلام في الجواب: أتى موسى إلى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر، فسلّم عليه موسى فتعجّب من السلام إذ كان بأرض ليس بها هذه التحيّة، قال: من أنت؟ قال:

ص: 313


1- الأعراف: 144.

أنا موسى بن عمران إلى خضر، قال له خضر: أنت موسى بن عمران الّذي كلّم اللّه موسى تكليما؟ قال: نعم، قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلّمني ممّا علّمت رشدا، قال: إنّي و كلت بأمر لا تطيقه و وكلت أنت بأمر لا أطيقه، الخبر بطوله.

قوله: [لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ معناه لا أزال ثابتا أمضي و أمشي و لا أسلك طريقا آخر حتّى أبلغ ملتقى البحرين: بحر الروم و بحر فارس، و ممّا يلي المغرب بحر الروم و ممّا يلي المشرق بحر فارس. و قيل: هو طنجة و إفريقيّة و كان وعد أن يلقى الخضر بذلك المكان.

قوله: [أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً] أي دهرا طويلا. و قيل: «الحقب» سبعون سنة. و قيل:

ثمانون سنة [فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما] أي الموضع الّذي يجتمع فيه رأس البحرين [نَسِيا حُوتَهُما] أي تركاه. و قيل: إنّه ضلّ الحوت عنهما حين [اتّخذ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً] أي مسلكا يذهب فيه، و ذلك أنّ موسى و فتاه تزوّدا حوتا مملوحا أو طريّا- على قول- ثمّ انطلقا يمشيان على شاطئ البحر حتّى انتهيا إلى صخرة على ساحل البحر فأويا إليها.

و قيل: عنده ماء تسمّى عين الحياة فجلس يوشع بن نون و توضّأ من ذلك العين فانتضح على الحوت شي ء من ذلك الماء فعاش و وثب في الماء و جعل يضرب بذنبه الماء فكان لا يسلك طريقا في البحر إلّا صار ماء جامدا فذلك معنى قوله: «فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً».

و قيل: إنّ موسى عليه السّلام سأل ربّه أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال: الّذي يذكرني و لا ينساني، قال: فأيّ عبادك أقضى؟ قال: الّذي يقضي بالحقّ و لا يتّبع الهوى. قال:

فأيّ عبادك أعلم؟ قال: الّذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى أو تردّه عن ردى، فقال موسى: إن كان في عبادك من هو أعلم منّي فادللني عليه.

فقال: أعلم منك الخضر. قال: فأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة، قال: يا ربّ كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني، فذهبا يمشيان و رقد موسى و اضطرب الحوت و طفر إلى البحر فلمّا جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوع الحوت في البحر فرجع موسى من ذلك الموضع إلى الموضع الّذي طفر الحوت في البحر فإذا رجل مسجّى بثوبه فسلّم عليه موسى فقال: و أنّى بأرضك السلام؟ فعرّفه نفسه، فقال: يا موسى أنا على علم علّمني اللّه لا تعلمه أنت، و أنت

ص: 314

على علم علّمك اللّه لا أعلمه أنا. فلمّا ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقب هذا العصفور من هذا البحر، مقدار علمي و علمك بالنسبة إلى علم اللّه أقلّ و أقلّ من هذه القطرة.

و بالجملة لمّا بلغ موسى و فتاه مجمع بينهما و موضع الموعود به طفرت السمكة إلى البحر و سارت.

و في كيفيّة طفرها أقوال:

قيل: إنّ الفتى كان يغسل السمكة لأنّها كانت مملحة فحين الغسل طفرت و سارت.

و قيل: إنّ يوشع توضّأ في ذلك المكان فنضح الماء على الحوت المالح فعاش و وثب في الماء «فاتّخذ سبيله في البحر سربا» أي سلكا كالسرب و هو النفق.

قيل: أمسك اللّه جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه معجزة لموسى أو لخضر.

[فَلَمَّا جاوَزا] مجمع البحرين الّذي كان الموعد هناك و أدلجا و سارا الليل كلّه و الغد إلى الظهر و جاع موسى عليه السّلام فعند ذلك قال لتلميذه يوشع: [آتِنا غَداءَنا] أي ما نتغدّى به و هو الحوت [لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا] تعبا و إعياء. قيل: إنّه عليه السّلام لم ينصب و لم يجع قبل ذلك.

[قالَ فتاه: [أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ] و استرحنا عندها [فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ و قوله: «أَ رَأَيْتَ» الهمزة للاستفهام؛ و «رأيت» على معناه الأصليّ و مراده تعجيب الأمر و غرابته، و هذا أسلوب معتاد بين الناس يقول أحدهم لصاحبه- إذا نابه أمر غريب-: أ رأيت و شاهدت ما وقع لي من الأمر؟ و هذا التعجّب لأجل أنّ هذه كانت علامة لوصولهم إلى العالم و أنّ موسى كان يعلم هذه العلامة لكن يوشع ما كان يعلم هذه العلامة لكن استغرابه من نسيانه هذا الأمر العظيم و عدم ذكره لموسى. و لعلّ نسبة النسيان إليهما في أمر الحوت بالنسبة إلى موسى عدم بيان هذه العلامة ليوشع.

و بالجملة إنّ موسى لمّا طلب الغداء من يوشع تذكّر يوشع قصّة الحوت، و ذكر

ص: 315

لموسى أنّه لمّا نزلنا إلى الصخرة تركت الحوت و فقدته. و قيل: معناه نسيته أن أذكر لك قصّة الحوت عند الصخرة.

ثمّ اعتذر فقال: [وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ لأنّه لو ذكرها لموسى لما جازها موسى و لما نالهما النصب الّذي أشكاه.

قوله: [وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً] أي سبيلا عجبا، و اتّخاذا عجيبا و «عجبا» صفة لمصدر محذوف و هو اتّخاذا عجبا و هو انقلابه من المكتل و إلقاء نفسه في البحر على الغفلة و هو مملوح، بل مأكول منه على قول.

و قيل: إنّ «عجبا» من كلام موسى تعجّبا منه و من نسيانه من هذا الأمر. و يمكن أن يكون هذا النسيان يكون الإنساء من اللّه فإنّه لمّا استعظم علم نفسه بالوحي و التكلّم و العلم بالتوراة و أحكامها أزال اللّه عن قلبه هذا العلم الضروريّ تنبيها لموسى على أنّ العلم لا يحصل إلّا بتعليمه و حفظه على القلب و الخاطر.

قوله تعالى: [قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى: ذلك الأمر ما كنّا نطلب من العلامة [فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما] أي آثار نفسهما و عادا عودهما على بدئها في الطريق الّذي جاءا منه يقتصّان آثار المسير [قَصَصاً] و يتبعانها- و يوشع أمام موسى- حتّى انتهيا إلى مدخل الحوت.

قال ابن عبّاس: دخل موسى الكوّة على أثر الحوت و في الطاق الّذي وقع في الماء بقدرة من ورود السمكة فيه فلقي الخضر هناك. قوله: «نَبْغِ» أصله نبغي حذفت الياء تخفيفا لدلالة الكسرة و كان القياس عدم الحذف لأنّ الحذف مع الساكن بعده لا المتحرّك كقوله: «ما نبغى اليوم» فلمّا حذفت مع الساكن حذفت مع غير الساكن.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 65 الى 70]

فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)

قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)

ص: 316

المعنى [فَوَجَدا] موسى و فتاه و هو يوشع و صادفا [عَبْداً مِنْ عِبادِنا] قائما على الصخرة يصلّي و هو الخضر و اسمه بنيا بن ملكان، و إنّما سمّي خضرا لأنّه إذا قعد أو نزل في مكان اخضرّ ما حوله. و روي مرفوعا أنّه قعد على فروة بيضاء فصارت تحته خضراء.

و قيل: إنّه رآه على طنفسة خضراء فسلّم عليه فقال: و عليك السلام يا نبيّ اللّه نبيّ بني إسرائيل، فقال له موسى: و ما أدراك من أنا؟ و من أخبرك أنّي نبيّ؟ قال: من دلّك عليّ.

و اختلف في هذا العبد فقيل: إنّه كان ملكا أمر اللّه موسى أن يأخذ عنه ما حمله إيّاه من بواطن الأشياء و علومها. و قال الأكثرون: إنّه من البشر، ثمّ اختلفوا فقال جماعة: إنّه كان نبيّا لأنّه لا يجوز أن يتّبع النبيّ غير النبيّ. و متى قيل: كيف يكون نبيّ أعلم من موسى في وقته؟ قلنا: يجوز أن يكون الخضر خصّ بعلم ما لا يتعلّق بالأداء فاستعلم موسى من جهته ذلك العلم فقط و إن كان موسى أعلم منه في العلم الّذي يؤدّيه من قبل اللّه.

و قال الأكثرون: إنّه كان نبيّا و استدلّوا بوجوه:

الاول: قوله تعالى: «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا» و الرحمة هي النبوّة بدليل قوله تعالى: «أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» (1) و قوله: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» (2) و المراد من هذه الرحمة النبوّة. و لقائل أن يقول: سلّمنا أنّ النبوّة رحمة أمّا لا يلزم أن يكون كلّ رحمة نبوّة.

الوجه الثاني: قوله: «وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» و هذا يقتضي أنّه تعالى علّمه لا بواسطة تعليم البشر بل علّمه بالوحي من اللّه و هذا معنى النبوّة.

الوجه الثالث: أنّ ذلك العبد أظهر الترفّع على موسى حيث قال له: «وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» و أمّا موسى فإنّه أظهر التواضع له حيث قال: «لا أَعْصِي

ص: 317


1- الزخرف: 32.
2- القصص: 86.

لَكَ أَمْراً» و هذا يدلّ على أنّ ذلك العالم كان فوق موسى و من لا يكون نبيّا لا يكون يتفوّق على النبيّ.

و الوجه الرابع: في أثناء القصّة يقول: «وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي» معناه فعلته بوحي اللّه و هو يدلّ على النبوّة.

و بالجملة قوله تعالى: [آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا] هي الوحي [وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً] قيل: علّمناه ممّا يختصّ بنا من العلم و هو بعض علم الغيب قال الصادق عليه السّلام:

كان عنده علم لم يكتب لموسى في الألواح. و كان موسى يظنّ أنّ جميع الأشياء في تابوته و أنّ جميع العلم كتب له في الألواح.

قوله: [قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] فعظّم موسى عليه السّلام خضرا بهذا القول غاية التعظيم حيت أضاف العلم إليه و رضي باتّباعه لجلالة العلم و لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى نجيّ اللّه موسى، و يدلّ على أن لا ينبغي لأحد أن يترك العلم و طلبه و إن كان قد بلغ نهايته، و أنّه يجب أن يتواضع لمن هو أعلم منه.

قوله: [قالَ إِنَّكَ أي قال خضر لموسى: يثقل عليك الصبر و لا يخفّ عليك تحمّله، و لم يرد أنّه لا يقدر على الصبر لأنّ خضر كان يعلم أنّ موسى يأخذ الأمور على ظواهرها و هو مأمور بذلك و الخضر كان يحكم بما أعلمه اللّه من بواطنها، فلا يسهل على موسى مشاهدة ذلك.

ثمّ قال: [وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً] أي كيف تصبر على ما ظاهره عندك منكر و أنت لم تعرف باطنه؟ و المراد بالخبر هاهنا العلم.

فقال موسى عليه السّلام: و هو خاضع له يستلطفه على نفسه كي يقبله [سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً] و لا أخالفك في أمر بشرط المشيئة.

القميّ: عن أحدهما عليهما السّلام في حديث: و لم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسى إلى العالم و سأله الصحبة ليتعلّم منه العلم و يرشده. قال الصادق: كان موسى أعلم من الخضر.

و في الكافي عنه عليه السّلام: لو كنت بين موسى و الخضر لأخبرتهما أنّي أعلم منهما و

ص: 318

أنبأتهما بما ليس في أيديهما لأنّ موسى و الخضر أعطيا علم ما كان و لم يعطيا علم ما يكون و ما هو كائن حتّى تقوم الساعة و قد ورثناه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

[قالَ خضر لموسى: [فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي و اقتفيت أثري [فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ] و لا يخفى أنّ هذا الخضوع من موسى لخضر عليهما السّلام لا يستلزم أن يكون خضر أعلى شأنا من موسى لأنّ الخضر إمّا أن يقال: كان من بني إسرائيل أو ما كان؛ فإن قلنا: كان من بني إسرائيل كان من امّة موسى و تابعا له، و الامّة لا تكون أعلى حالا من النبيّ. و إن قلنا: إنّ خضر ما كان من بني إسرائيل، لم يجز أن يكون أفضل من موسى لقوله لبني إسرائيل: «وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ»* (1) و بالجملة فلا تسألني عن شي ء أفعله ممّا تنكره حتّى افسّره لك.

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 71 الى 75]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)

[فَانْطَلَقا] يمشيان في الساحل يعني موسى و الخضر و لم يذكر يوشع و لعلّ أنّ موسى عليه السّلام بعثه لأمر و لذلك تأخّر عنهما.

فانطلقا على الساحل و أرادا أن معبرا في البحر إلى أرض اخرى فأتيا معبرا، فعرف صاحب السفينة الخضر فحملهما فلمّا ركبا في السفينة خرق الخضر السفينة حتّى دخلها الماء. و قيل: إنّ خضر قلع لوحين ممّا يلي الماء فحشاهما موسى بثوبه و قال منكرا عليه: [أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها] و ما قال: لنغرق؛ لأنّه أشفق على القوم أكثر من إشفاقه على نفسه جريا على عادة الأنبياء.

ثمّ قال: بعد إكباره هذا الأمر [لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً] أي منكرا عظيما؛ يقال:

أمر الأمر إمرا إذا كبر و عظم.

ص: 319


1- البقرة: 47، 122.

فقال له الخضر عليه السّلام: [أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً] أي ألم أقل لك حين رغبت في اتّباعي: إنّ نفسك لا تطاوعك على الصبر معي؟ فتذكّر موسى ما بذل له الشرط.

ثمّ قال معتذرا مستقيلا: [لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أي غفلت عن التسليم لك و ترك الإنكار عليك. قيل: المراد من النسيان معناه الحقيقيّ و هو ضدّ الذكر. و قيل: المراد ترك العهد لا بمعنى الغفلة و السهو. و قال موسى: [وَ لا تُرْهِقْنِي و تكلّفني [عُسْراً] و مشقّة و لا تضيّق عليّ الأمر في صحبتي إيّاك.

[فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ فخرجا من البحر و انطلقا يمشيان في البرّ فلقيا غلاما يلعب مع الصبيان، و كان من أحسن الغلمان و أصبحهم و أجملهم، و قيل: كان شابّا بالغا حتّى يستحقّ القتل، و الرجل يسمّى غلاما قالت ليلي الأخيليّة:

شفاها من الداء العضال الّذي بهاغلام إذا هزّ الفتاة شفاها

فذبحه بالسكّين. و قيل: صرعه و نزع رأسه من جسده.

[قالَ موسى للخضر [أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً] بريئة من الذنوب [بِغَيْرِ] قتل [نَفْسٍ تريد القود [لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً] منكرا فظيعا غاية و إنّما قال ذلك لأنّ قلبه صار كالمغلوب عليه حين رأى قتله [قالَ العالم: [أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً].

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 76 الى 82]

قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً (80)

فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81) وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

ص: 320

المعنى: قال له موسى جوابا له: [إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ] بعد هذه المرّة فلا تتركني أصحبك أو اصاحبك فقد وجدت من عند نفسي عذرا و المانع حينئذ من قبلي لا من قبلك لأنّه خالفتك ثلاث مرّات. روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: رحم اللّه أخي موسى استحى قال ذلك و لو لم يقل ذلك و لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب.

[فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ] و هي أنطاكية. و قيل: ايلة. و قيل: ناصرة.

و هو المرويّ عن الصادق. سألاهم الطعام [فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما] و لم يضيّفهما أحد من أهل القرية، و عن النبيّ كانوا أهل قرية لئام. و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و لا يضيّفون بعدهما أحدا إلى أن تقوم الساعة. يقال: ضافه إذا كان له ضيفا و حقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض.

قيل: إنّ أهل تلك القرية لمّا سمعوا نزول هذه الآية استحيوا من هذا العار و جاءوا إلى رسول اللّه بحمل من الذهب و قالوا: يا رسول اللّه نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء في الآية تاءا حتّى تصير القراءة هكذا «فأتوا أن يضيّفوهما» أي أتوا أن يضيّفوهما و كان إتيان أهل القرية إليهما لأجل الضيافة و قالوا: غرضنا منه أن يندفع عنّا هذا اللؤم. فامتنع رسول اللّه و قال: تغيّر النقطة الواحدة يوجب دخول الكذب في كلام اللّه و ذلك يوجب القدح في العبوديّة بالنسبة إلى الربوبيّة.

و الحاصل [فوجدا جدارا] في القرية مائلا، و نسبة الإرادة إلى الجدار استعارة كقول الشاعر:

يريد الرمح صدر أبي براءو يرغب عن دماء بني عقيل

مع أنّ الإرادة و الرغبة من صفة الأحياء. و قوله: [يَنْقَضَ إذا أسرع سقوطه من انقضاض الطائر. أو المعنى: انشقّ طولا [فَأَقامَهُ خضر قيل: رفع الجدار بيده و سوّاه [قالَ موسى إنّهم لمّا بخلوا بالطعام [لَوْ شِئْتَ لعملت هذا بأجر تأخذه منهم حتّى كنّا نسدّ به جوعنا

ص: 321

[قالَ خضر: [هذا] وقت [فِراقُ اتّصالنا أو هذا الّذي قلته سبب الفراق [بَيْنِي وَ بَيْنِكَ .

ثمّ قال: سأخبرك بتفسير الأشياء الّتي لم تستطع على الإمساك عن السؤال عنها [صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ] أي السبب في خرق السفينة فهو أنّها كانت لفقراء لا شي ء لهم ما يكفيهم قدر معاشهم [يَعْمَلُونَ بهذه السفينة [فِي الْبَحْرِ] و يتعيّشون بها [فَأَرَدْتُ أَنْ أحدث عيبا فيها و كان قدّامهم و قصدهم [مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ] صحيحة [غَصْباً] و الوراء كما يطلق على الخلف يطلق على بين أيديهم و يمكن أن يكون المعنى الخلف أي يتعاقبهم ملك يأخذ السفائن الصحيحة، و لم يعلم أصحاب السفينة و علم به الخضر ففعل ذلك للمصلحة.

[وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ و أمّا الغلام فكان كافرا و إنّما قتلته لكفره و لعلمي بأنّه لو بقي برهق أبويه طغيانا فكرهت أن يرهق الغلام الكافر أبويه إثما و ظلما و هذا من كلام الخضر [فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً] أي ولدا خيرا منه دينا و طهارة و صلاحا [وَ أَقْرَبَ رُحْماً] أي أقرب عطفا على والديه و رحمة في الكافي و الفقيه و المجمع عن الصادق عليه السّلام و العيّاشيّ عن أحدهما عليهما السّلام: أنّهما ابد لا عن الغلام المقتول ابنة فولد منها سبعون نبيّا. و قيل: لو عاش كان فيه مهلكتهما و معلوم أنّ رضى المرء بما قسّم اللّه له خير له ممّا رضي لنفسه؛ في الحديث: ما قضي لك يا ابن آدم فيما تكره خير لك ممّا قضي و أنت تحبّ فاستخر اللّه و ارض بقضائه.

و في قتل الغلام دلالة على وجوب اللطف على ما نذهب إليه لأنّ المفهوم من الآية أنّه بتدبير اللّه لم يكن يجوز خلافه، و أنّه إذا علم من حال الإنسان أنّه يفسد عند شي ء يجب عليه في الحكمة أن يذهب بذلك الشي ء حتّى لا يقع هذا الفساد.

و متى قيل: إنّه لو حصل لنا العلم بذلك كما حصل لذلك العالم هل كان يحسن منّا القتل؟

قلنا: إنّ هذا العلم لا يحصل إلّا للأنبياء و عند حصول العلم به يحسن ذلك.

و متى قيل: إنّ اللّه كان قادرا على إزالة الحياة من الغلام بالموت من غير ألم

ص: 322

فيزول التبقية الّتي هي المفسدة من غير إدخال إيلام عليه بالقتل فلم أمر بالقتل؟

فجوابه أنّ اللّه قد علم أنّ أبويه لا يثبتان على الإيمان إلّا بقتل هذا الغلام فتعيّن وجه وجوب القتل و أنّ تبقية الغلام إذا كانت مفسدة فاللّه مخيّر في إزالتها بالموت من غير ألم و بالقتل لأنّ القتل و إن كان فيه ألم يلحق المقتول كان بإزائه أعواضا كثيرة يوازي ذلك الألم فيصير القتل في مقابلة المنافع العظيمة كأنّه ليس بألم و يدخل في قبيل الإحسان.

[وَ أَمَّا] سبب بناء [الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تحت الجدار [كَنْزٌ] لليتيمين [وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما] و اختلف في هذا الكنز:

فقيل: المراد بالكنز المال. و قيل: العلم.

في المعاني عن أمير المؤمنين، و القميّ عن الصادق عليهما السّلام: كان ذلك الكنز لوحا من ذهب فيه مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه؛ عجبت لمن يعلم أنّ الموت حقّ كيف يفرح؟ عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ عجبت لمن يذكر النار كيف يضحك؟ عجبت لمن يرى الدنيا و تصرّف أهلها حالا بعد حال كيف يطمئنّ إليها؟

و في الكنز روايات أخر بزيادة و نقيصة.

و العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام: إنّ اللّه ليحفظ ولد المؤمن إلى ألف سنة و إنّ الغلامين كان بينهما و بين أبويهما سبعمائة سنة.

و عنه عليه السّلام: إنّ اللّه ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده و ولد ولده و يحفظ في دويرته و دويرات حوله فلا يزالون في حفظ اللّه لكرامة المؤمن على اللّه ثمّ ذكر الغلامين و قال عليه السّلام:

ألم تر أنّ اللّه شكر صلاح أبويهما لهما؟

و في العوالي عنه عليه السّلام: لمّا أقام العالم الجدار أوحى اللّه إلى موسى إنّي مجازي الأبناء بسعي الآباء إن خيرا فخير إن شرّا فشرّ، لا تزنوا فتزني نساؤكم، من وطئ فراش مسلم وطئ فراشه كما تدين تدان فبيّن سبحانه حفظ الكنز للغلامين بصلاح أبيهما و لم يذكر منهما صلاحا.

ص: 323

و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه كان بين ذلك الأب الصالح و بينهما سبعة آباء.

[فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ ينتهيا إلى الوقت الّذي يعرفان فيه نفع أنفسهما و يكبرا و يعقلا [وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما و ما] فعلت ذلك من قبل نفسي و إنّما فعلته من قبل اللّه يريد أنّه انكشف لي علم من اللّه [ذلِكَ بيان ما ثقل عليك يا موسى مشاهدته و وقوعه و استنكرته، و نسب هذه الأمور إلى أمر اللّه و هناك نسب الإرادة في قوله: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» إلى نفسه.

في العلل عن الصادق عليه السّلام: و إنّما نسبها إلى نفسه لعلّة ذكر التعييب. تأمّل في حسن المحاورة و حفظ الأدب في الكلام.

و قال أبو عليّ الجبّائيّ: لا يجوز أن يكون الخضر حيّا إلى وقتنا هذا لأنّه لو كان لعرفه الناس و لم يخف مكانه و لأنّه لا نبيّ بعد نبيّنا.

قال صاحب المجمع: و هذا القول غير صحيح؛ لأنّ تبقيتة في مقدرة اللّه و يمكن أن يكون و الناس يشاهدونه و لا يعرفونه و يكون هذه خرق العادة و مثل هذه الأمور الغريبة بالنسبة إلى الأنبياء و الأولياء غير مستبعد، و قوله: «لا نبيّ بعد نبيّنا» مسلّم و لكن نبوّة الخضر كانت قبل نبوّة نبيّنا و أمّا شرعه- لو كان له شرع خاصّ- فإنّه منسوخ بشريعة نبيّنا و لو كان داعيا إلي شريعة من تقدّمه من الأنبياء فإنّ شريعة نبيّنا ناسخة لها فلا يؤدّي إلى ما قاله الجبّائيّ، انتهى كلامه.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 83 الى 87]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)

المعنى: قد بيّنّا أنّ اليهود أمروا المشركين أن يسألوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن قصّة أصحاب الكهف و عن الروح و عن قصّة ذي القرنين.

فالمراد من قوله: [وَ يَسْئَلُونَكَ هو ذلك السؤال و يسألونك بصيغة الاستقبال للدلالة

ص: 324

على إصرارهم على السؤال إلى ورود الجواب.

و في ذي القرنين أقوال:

الاول هو الإسكندر بن فيلقوس اليونانيّ و الدليل عليه أنّ القرآن دلّ على أنّ الرجل المسمّى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله: «حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» و أيضا بلغ ملكه إلى أقصى المشرق بدليل قوله:

«حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ» و أيضا بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أنّ يأجوج و مأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال، و بدليل أنّ السدّ المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ: إنّه مبنيّ في أقصى الشمال فهذا الإنسان المسمّى بذي القرنين في القرآن قد دلّ القرآن على أنّ ملكه بلغ أقصى المغرب و المشرق و الشمال، و هذا هو تمام القدر المعمور في الأرض.

و الملك الّذي اشتهر بهذا العنوان من بسط الملك و القدرة ليس مذكور في التاريخ و الدنيا إلّا الإسكندر. و ذلك- على ما قيل- لمّا مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ثمّ جمع ملوك المغرب و قهرهم و أيعن حتّى انتهى إلى البحر الأخضر، ثمّ عاد إلى مصر فبنى الإسكندريّة و سمّاها باسم نفسه، ثمّ دخل الشام و قصد بني إسرائيل و ورد بيت المقدس و ذبح في مذبحه، ثمّ انعطف إلى أرمينيّة و باب الأبواب و دانت له العراقيّون و و القبط و البربر ثمّ توجّه نحو دارا بن دارا و هزمه مرّات إلى أن قتله صاحب حرسه فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس.

ثمّ قصد الهند و الصين و غزا الأمم البعيدة و رجع إلى خراسان و بنى المدن الكثيرة و رجع إلى العراق و مرض بشهر زور و مات بها.

فلمّا ثبت بالقرآن أنّ ذا القرنين كان رجلا ملك الأرض بالكلّيّة أو ما قرب منها و ثبت بعلم التواريخ أنّ الّذي هذا شأنه ما كان إلّا الإسكندر وجب القطع بأنّ المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس اليونانيّ.

و ذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم وجوها: الأوّل لأجل بلوغه قرني الشمس مطلعها

ص: 325

و مغربها كما لقّب أردشير بن بهمن بطول اليدين لنفوذ أمره حيث أراد و إلّا ما كان طول في يديه.

و قيل: اسمه مرزبان بن مرزويه بن يافث بن نوح.

و قيل: من أحفاد كهلان سبأ بن يعرب بن قحطان.

و قيل: هو تبّع الأكبر أوّل التبايعة.

و قيل: إنّه أفريدون بن النعمان الّذي قتل الضحّاك.

و ذكر أبو الريحان المنجّم البيرونيّ في كتابه المسمّى بالآثار الباقية من القرون الخالية أنّ ذا القرنين هو أبو كرب الحميريّ و أنّ ملكه بلغ مشارق الأرض و مغاربها و هو الّذي افتخر به التبّع اليمانيّ حيث قال:

قد كان ذا القرنين جدّي تبّعاملكا علا في الأرض غير مفنّد

بلغ المشارق و المغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد

و يمكن أن يكون هذا القول قريبا من الصحّة لأنّ الأذواء كانوا من اليمن مثل ذي المنار و ذي نواس و ذي النون و ذي رعين و ذي يزن و ذي جدن.

و لكنّ القول الصحيح الأوّل الّذي بيان سعة ملكه في القرآن حسبما يستفاد من التاريخ إنّما هو الإسكندر الروميّ، و روي: أهل النجوم قالوا له: إنّك لا تموت إلّا على أرض من حديد و تحت سماء من خشب. و كان يدفن كنز كلّ بلدة فيها و يكتب ذلك بصفته و موضعه فبلغ بابل و سقط عن دابّته فرعف فبسطت له دروع فنام عليها فآذته الشمس فأظلّوه بترس فقال: هذه أرض من حديد و سماء من خشب، فأيقن بالموت فمات و هو ابن ألف و ثمانية سنة. و قيل: ثلاثة آلاف سنة.

و اختلف في نبوّته بعد الاتّفاق على إسلامه و ولايته فقيل: كان نبيّا لقوله تعالى:

«إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» و ظاهر أنّه متناول للتمكين في الدين و كماله بالنبوّة و لقوله «وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً» و جملة الأشياء النبوّة.

و الصحيح أنّه ما كان نبيّا و لا ملكا بل كان ملكا عادلا صالحا كما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن ذي القرنين أ نبيّا كان أم ملكا؟ فقال عليه السّلام:

ص: 326

لا نبيّا و لا ملكا بل هو عبد أحبّ اللّه فأحبّه اللّه و نصح للّه فنصح له فبعثه إلى قومه فضربوه على قرنه الأيمن فغاب عنهم ما شاء اللّه أن يغيب ثمّ بعثه اللّه ثانية فضربوه قرنه الأيسر فغاب عنهم ثمّ بعثه الثالثة فمكّن اللّه له في الأرض، و لعلّ البعثة الولاية لا النبوّة، ثمّ قال أمير المؤمنين: و فيكم مثله، يعني نفسه الشريفة.

و معنى قوله: [إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا له مكنة و قدرة على التصرّف في الأرض من حيث التدبير و الرأي و الأسباب حيث سخّر له السحاب و مدّ له في الأسباب و بسط له النور و كان الليل و النهار عنده سواء و سهل عليه المسير في الأرض و ذلّل له طريقها حتّى تمكّن منها أنّى شاء.

قوله: [وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً] أي أعطيناه من كلّ شي ء علما يتسبّب به إلى إرادته و بلوغ حاجته و يستعين به الملوك على فتح البلاد و الغلبة عليهم [فَأَتْبَعَ سَبَباً] أي كلّما أراد حصوله أتبع سببا من الأسباب الّتي اوتي في المسير من بلد إلى بلد و من قوم إلى قوم حتّى يفوز بمرامه و مقصده.

[حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي انتهى إلى آخر العمارة من جانب المغرب من الشمس و بلغ قوما لم يكن وراءهم أحد إلى موضع غروب الشمس و لم يرد بذلك أنّه بلغ إلى موضع الغروب لأنّه لا يصل إليه أحد أي تراءى له كأنّ الشمس تغرب في عين كما أنّ من كان في البحر رأى الشمس كأنّها تغرب في الماء و من كان في البرّ يراها كأنّها تغرب في الأرض الملساء لأنّ الشمس لا تزايل الفلك و لا تدخل عين الماء [وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً] أي إذا بلغ منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يتمكّن أحد من بلوغه فضلا عن مجاوزته و وقف على حافّة البحر المحيط الغربيّ المسمّى باقيانوس الّذي فيه جزائر الخالدات وجد الشمس تغرب في عين ذات طين أسود ذات حمئة و ماء حارّ، و قرئ «حامية» أي حارّة و لا تنافي. و وجد عند العين أو الشمس أناسا.

[قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ و استدلّ الذاهبون بنبوّته بهذا الخطاب لأنّ الوحي و الخطاب لا يجوز إلّا على الأنبياء. و كانوا قوما لباسهم جلود الوحوش و طعامهم من البحر و ما لفظه البحر و كانوا كفّارا فخيّر اللّه ذا القرنين بين أن يعذّبهم بالقتل إن أقاموا على كفرهم و

ص: 327

بين المنّ عليهم و العفو عنهم. و هذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح الأمرين كما خيّر محمّدا بين المنّ على المشركين و بين قتلهم.

و قال الأكثرون: التعذيب هو القتل و أمّا اتّخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء و الدعوة إلى الإسلام بالإرشاد إلى الشرائع، هذا على قول من قال بنبوّته و من لم يقل بنبوّته قال: ذلك الخطاب بواسطة نبيّ ذلك العصر أو كان ذلك إلهاما لا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبيّ.

و قيل: إنّ ذا القرنين خيّر بين القتل و الأسر. و قيل: «إمّا» و «أمّا» للتوزيع دون التخيير أي ليكن شأنك إمّا التعذيب و إمّا الإحسان فالتعذيب لمن بقي على الكفر و أمّا الإحسان لمن تاب فقضى ذو القرنين فيهم بقضاء اللّه.

و [قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ و بقي على كفره [فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل و فعل، و عن قتادة:

أنّه كان يطبخ من كفر في القدور و لم يؤمن بالقدر، و من آمن فأعطاه و كساه، فقال ذو القرنين: من لم يؤمن اعذّبه و بعد عذابي [ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة [فَيُعَذِّبُهُ في الآخرة [عَذاباً نُكْراً] فظيعا و هو عذاب النار، و فيه دلالة ظاهرة على أنّ الخطاب لم يكن بطريق الوحي و أنّ مقاولته كانت مع نبيّ عصره أو مع من كان بحضرته.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 88 الى 92]

وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)

المعنى: فقضى ذو القرنين بأن [مَنْ آمَنَ منهم [وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ المثوبة [الْحُسْنى جزاء [وَ سَنَقُولُ و نأمر له بأمر سهل ميسور من الخراج و الزكاة و غيرهما أي أمرا ذا يسر.

قوله: [ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً] أي قصد طريقا آخر ليؤدّيه ذلك السبب إلى [مَطْلِعَ الشَّمْسِ كما أنّ السبب الاولى أدّاه إلى مغرب الشمس فأراد أن يصل أقصى شرق الأرض فبلغ موضع ابتداء العمارة من الجانب الّذي تطلع من ذلك الجانب الشمس [ف وَجَدَها] أي الشمس [تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً] أي لم يكن في تلك الأرض جبل

ص: 328

و لا شجر و لا بناء يسترهم و لم يعلموا صنعة البناء و لا صنعة اللبوس.

العيّاشيّ عن أمير المؤمنين: هم قوم قد أحرقهم الشمس و غيّرت أجسادهم و ألوانهم حتّى صيّرتهم كالظلمة. قال في المجمع: كانوا إذا طلعت الشمس يغورون في المياه و الأتراب و إذا غربت تصرّفوا في أمورهم فيكون عند طلوع الشمس يتعذّر عليهم التصرّف في المعاش و عند غروبها يشغلون بتحصيل مهمّات المعاش حالهم بالضدّ من حال الناس.

و قيل: معنى قوله: «لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» أنّه لا ثياب على جلودهم و أبدانهم كسائر الحيوانات عراة أبدا كما قيل: إنّ حال أكثر من يسكن البلاد القريبة من خطّ الاستواء كذلك. و قد ذكر في بعض كتب التواريخ أنّ ذا القرنين مع أنّ اللّه هيّأ له الأسباب و ذلّل له السحاب للسير قطع هذه المسافة في اثني عشرة سنة حتّى بلغ مطلع الشمس.

و ذكر في التفسير: أنّ بعضهم قال: سافرت سنين حتّى جاوزت الصين غاية فسألت عن هؤلاء القوم فقيل لي: بينك و بينهم مسيرة يوم و ليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش اذنه الواحدة و يلبس الاخرى، و لمّا قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي عليّ ثمّ أفقت و هم يمرخوني و يمسحوني بالدهن فلمّا طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلوني سربا لهم فلمّا ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك و يطرحونه في الشمس فينضج و إنّما لم يكن لهم بناء قيل: لأنّه لا يثبت لهم بناء.

قوله: [كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً] أي حكم هؤلاء الّذين في المطلع حكم أولئك الّذين في المغرب. و قيل: معنى «كذلك» أي أتبع سببا لبلوغ المشرق مثل ما أتبع سببا لبلوغ المغرب. و ثمّ الكلام عند قوله: «كذلك» ثمّ ابتدأ سبحانه فقال: و قد علمنا ما كان عند ذي القرنين من العدّة و العدد و الآلات و السياسة.

أو المعنى: قد علمنا بصلاحه و استقلاله بما ملّكناه قبل أن يفعله كما علمناه بعد فعله و لم يخف علينا حاله. و «كذا» إشارة إلى حسن صنيع ذي القرنين و على المعنى الثاني «كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً» جملة واحدة.

ص: 329

قوله تعالى: [ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً] أي ثمّ أتبع مسلكا ثالثا ممّا يبلغه قطرا من أقطار الأرض و أخذ في طريق آخر.

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 93 الى 98]

حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)

قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

اعلم لمّا بلغ المشرق و المغرب أتبع مسلكا ثالثا [حَتَّى إِذا بَلَغَ موضع [السَّدَّيْنِ قرئ بالضمّ و الفتح و قيل: بالضمّ ما فعله اللّه و بالفتح ما أحدثه الناس.

و اختلف في موضع السدّين قيل: في ناحية الشمال. و قيل: جبلان بين أرمينيّة و آذربايجان. و قيل: هذا الموضع في مقطع أرض الترك. و حكى محمّد بن جرير الطبريّ في تاريخه: أنّ صاحب آذربايجان أيّام فتحها وجّه إنسانا أتى إليه من ناحية الخزر فشاهده و وصف أنّه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع.

و ذكر ابن خرداد في كتاب المسالك و الممالك: أنّ الواثق باللّه رأى في المنام كأنّه فتح هذا الردم فبعث الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتّى و صلوا إليه و شاهدوه و وصفوا أنّه بناء من لبن من حديد مشيود بالنحاس المذاب و عليه باب مقفّل.

ثمّ إنّ ذلك الإنسان لمّا حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند.

قال أبو الريحان البيرونيّ المنجّم: مقتضى هذا البيان أنّ موضعه في الربع الشماليّ الغربيّ من المعمورة.

و بالجملة لمّا بلغ ذو القرنين موضع السدّين [وَجَدَ] بقربهما أو ورائهما و مجاوزا عنهما امّة من الناس [لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ و قرئ يفقهون من باب المتعدّي، أي قوما لا يعرفون

ص: 330

غير لغة أنفسهم و ما كانوا يفقهون لسان ذي القرنين، و على معنى تعدية الفعل أي لا يقدرون إفهام غيرهم قولا.

فإن قيل: إذا كانوا لا يعرفون لغة غير لغتهم أو لا يقدرون إفهام غيرهم كيف قالوا «يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» و كيف فهم منهم ذو القرنين هذا المعنى؟

الجواب أنّ قوله «لا يَكادُونَ» أنّه لا يدلّ على أنّهم لا يفهمون شيئا أبدا بل كلمة «كاد» يدلّ على أنّهم يفهمون و يفهمون لكن على صعوبة و مشقّة أي لا يكادون يفهمونه و يفتهمون إلّا بعد مشقّة و صعوبة شديدة كالإشارة و القرينة و نحوها.

و في اشتقاق يأجوج و مأجوج و أنّهما من أيّ الطائفة اختلاف قيل: إنّهما اسمان أعجميّان موضوعان بدليل منع الصرف. و قيل: مشتقّان: فيأجوج مشتقّ من تأجّج النار و تلهّبها فلسرعتهم في الحركة سمّوا بذلك و مأجوج من موج البحر. و قيل: من تأجّج الملح لمناسبة الشدّة. و قيل: من أجّ الظليم إذا هرول و سمعت حفيفه في عدوه. و أمّا أنّهم من أيّ الأقوام فقيل: إنّهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح. و قيل: يأجوج من الترك و مأجوج من جيل. و قال الضحّاك: هم جيل من الترك. و قال السدّيّ: الترك سريّة من يأجوج و مأجوج، خرجت لأمر فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجة عن السدّ فجميع الترك منهم.

و عن قتادة: أنّ يأجوج و مأجوج اثنتان و عشرون قبيلة سدّ ذو القرنين على إحدى و عشرين قبيلة منهم و بقيت واحدة فسمّوا الترك لأنّهم تركوا خارجين. قال أهل التاريخ:

أولاد نوح ثلاثة: سام و حام و يافث؛ فسام أبو العرب و العجم و الروم، و حام أبو الحبشة و الزنج و النوبة، و يافث أبو الترك و الخزر و الصقالبة و يأجوج و مأجوج.

و الحاصل [قالُوا] بواسطة مترجمهم على قول، أو بالذات على قول، فكان فهم ذو القرنين كلامهم من الأسباب الّتي آتاه اللّه [يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ خلف هذين الجبلين يفسدون أرضنا لأنّهم إذا كان أبان زرعنا و ثمارنا خرجوا علينا من هذين الجبلين و يأكلون زروعنا حتّى لا يبقون منها شيئا.

ص: 331

و قيل في كيفيّة إفسادهم لهؤلاء الساكنين في موضع السدّين: إنّ يأجوج و مأجوج يقتلونهم و يأكلون لحومهم فضلا عن زروعهم، و هم أقسام.

ثمّ من الناس من وصفوهم بقصر القامة و صغر الجثّة لكن لكثرتهم لا يتمكّنون هؤلاء منهم.

و من الناس وصفهم بطول القامة و كبر الجثّة و أثبتوا لهم مخاطب في الأظفار و أضراسا كأضراس السباع.

فحكى اللّه مقول قولهم لذي القولين أنّهم قالوا له: [فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا] و المراد بالخرج الخرج الّذي يأخذه السلطان. و قيل: معناه الجعل. و الخرج و الخراج معناه واحد. و قيل: الخرج الجزية و الخراج في الأرض كالزكاة.

فقال ذو القرنين: [ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ] أي ما أعطاني من المال و السعة و الأسباب خير ممّا تبذلون لي من الخراج فلا حاجة بي إليه [فَأَعِينُونِي و امددوني برجال و آلة أبني بها سدّا بينكم و بينهم، و الردم هو السدّ؛ ردمت الباب أي سددته و ردمت الثوب بالرقعة أي سددت خرقه [آتُونِي بقطع كبار من الحديد فأتوه بالزبر و القطع الكبيرة فوضعوا بعضها على بعض حتّى صارت بحيث تسدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثمّ وضع المنافخ عليها حتّى صارت الزبر كالنار ثمّ صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض و صار جبلا صلدا.

و هذا الأمر خارق على العادة بل كرامة قاهرة باهرة لأنّ هذه الزبر الكثيرة الّتي تسدّ بين الجبلين من الأسفل إلى أعلاهما إذا نفخ عليها بحيث تصير مثل النار كيف يقدر الإنسان على القرب منها و النفح عليها فكأنّه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة من أبدان النافخين عليها و الملتزمين بأفعالها.

قال صاحب الكشّاف الزمخشريّ: قيل: بعد ما بين السدّين مائة فرسخ، و الصدفان بفتحتين جانبا الجبل لأنّهما يتصادفان و يتقابلان. و القطر النحاس المذاب و تقدير الآية:

آتوني قطرا افرغ عليه قطرا، و سمّي قطرا لأنّه يقطر من شدّة ميعانه.

ص: 332

[فَمَا اسْطاعُوا] فحذف التاء لقرب المخرج من الطاء أي فما قدروا بعد على الصعود لملاسته و ارتفاعه و ما قدروا على تخريبه و نفيه لأجل صلابته و ثخانته.

ثمّ حمد اللّه ذو القرنين و [قالَ هذا] إشارة إلى السدّ أي هذه النعمة من اللّه عليّ بإتمامه و على عباده براحتهم من شرّ المفسدين [فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أي القيامة و دنت جعل السدّ [دَكَّاءَ] بالمدّ أي مدكوكا و مسوّى بالأرض و كلّ ما انبسط بعد الارتفاع فقد اندكّ؛ و قرئ بغير المدّ [وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا] هذا آخر قول ذي القرنين و حكايته.

القميّ: إذا كان قبل يوم القيامة في آخر الزمان انهدم ذلك السدّ و خرج يأجوج و مأجوج إلى الناس و أكلوا الناس و هو قوله: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: ليس منهم رجل يموت حتّى يولد له من صلبه ألف ولد ذكر، ثمّ قال: هم أكثر خلق خلقوا بعد الملائكة.

في الخصال عن الصادق عليه السّلام: الدنيا سبعة أقاليم يأجوج و مأجوج و الروم و الصين و الزنج و قوم موسى و إقليم بابل.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّه عدّ من الآيات الّتي يكون قبل الساعة خروج يأجوج و مأجوج.

و عن النبيّ: سئل عن يأجوج و مأجوج فقال: يأجوج و مأجوج امّتان و كلّ امّة أربعمائة امّة لا يموت الرجل منهم حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّ قد حمل السلاح، قيل: يا رسول اللّه صفهم لنا، قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم مثل الأرز- و الأرز شجر بالشام طويل- و صنف منهم طولهم و عرضهم سواء، و صنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه و يلتحف بالأخرى و لا يمرّون بفيل و لا جمل و لا وحش و لا الخنزير إلّا أكلوه و من مات منهم أكلوه و مقدّمتهم بالشام و ساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق و بحيره طبريّة.

و قيل: إنّ آدم عليه السّلام احتلم ذات يوم و امتزجت نطفته بالتراب فخلق اللّه من ذلك

ص: 333


1- الأنبياء: 96.

الماء يأجوج و مأجوج، فهم متّصلون بنا من جهة الأب.

و جاء في الحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله في الأمالي: أنّهم لينقرون بمعاولهم دائبين فإذا كان الليل قالوا: غدا نفرغ، فيصبحون و هو أقوى منه بالأمس حتّى يسلم رجل منهم حين يريد اللّه أن يبلغ أمره فيقول ذلك الّذي أسلم: غدا نفتحه إن شاء اللّه، فيصبحون ثمّ يغدون عليه فيفتحه اللّه، فو الّذي نفسي بيده فيخرجون على الناس، إلخ.

و في حديث آخر: فيخرجون على الناس فيشربون المياه و يتحصّن الناس في حصونهم منهم فيرمون سهامهم إلى السماء فترجع السهام و فيها كهيئة الدماء فيقولون: قد قهرنا أهل الأرض و علونا أهل السماء! فيبعث اللّه بققا- و في نسخة نققا بالنون، و بالباء جمع البقّ، و بالنون جمع النق و هو العقرب أو الضفادع- في أقفائهم فيدخل البقق في آذانهم فيهلكون بها.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ دوابّ الأرض لتسمن و تسكر من لحومهم سكرا، قيل له:

يا رسول اللّه متى كان كذلك؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: حين لا يبقى من الدنيا إلّا مثل صبابة الإناء.

و العيّاشيّ: عن الصادق عليه السّلام في تأويل قوله تعالى: «أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً» قال في تأويل الآية: الردم التقيّة «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» قال:

إذا عملت بالتقيّة لم يقدروا لك على حيلة، و العمل به هو الحصن الحصين صار بينك و بين أعداء اللّه سدّ لا يستطيعون له نقبا. «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ» مدكوكا قال: رفع التقيّة عند الكشف فينتقم من أعداء اللّه.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 99 الى 106]

وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً (106)

ص: 334

المعنى: الضمير في «تَرَكْنا بَعْضَهُمْ» قيل: راجع إلى الخلق من الجنّ و الإنس. و قيل:

راجع إلى يأجوج و مأجوج يوم انقضاء السدّ يموجون في الدنيا بين الناس مختلطين لكثرتهم كحال الموج في البحر باضطراب أمواجه و ذلك لقرب الساعة.

ثمّ ذكر سبحانه فقال: [وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ] لأنّ خروج يأجوج و مأجوج من أشراط الساعة.

و اختلف في الصور قيل: هو قرن ينفخ فيه. و قيل: صور جمع صورة فإنّ اللّه يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في الأرحام ثمّ ينفخ فيهم كما نفخ و هم في أرحام امّهاتهم. و قيل:

إنّه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات؛ فالنفخة الاولى نفخة الفزع و الثانية نفخة الّتي يصعق من في السماوات و الأرض بها فيموتون، و الثالثة نفخة القيام لربّ العالمين فيحشر الناس بها من قبورهم.

[فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً] أي حشرناهم يوم القيامة كلّهم في صعيد واحد [وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ و أبرزناها لهم حتّى شاهدوها و رأوا ألوان عذابها قبل دخولها.

ثمّ وصف سبحانه الكافرين فقال: [الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ذكر السبب الّذي استحقّوا به النار أي الّذين غفلوا عن الاعتبار بقدرتي الموجب لذكري و التفكّر في آياتي و دلائل توحيدي فصاروا بمنزلة من يكون في عينه غطاء يمنعه عن الإدراك [وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً] أي من كثرة الغفلة كان يثقل عليهم سماع القرآن و ذكر اللّه كما يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إليك و لا يتمكّن من استماع كلامك و يثقل عليه ذلك.

القميّ: عن الصادق في هذه الآية قال عليه السّلام: يعني بالذكر ولاية عليّ عليه السّلام قال:

كانوا لا يستطيعون إذا ذكر عليّ عليه السّلام عندهم أن يسمعوا ذكره لشدّة بغضهم له و لأهل بيته. و على هذا فتمام الآية يؤول معناه في حقّ المنكرين للولاية.

قوله: [أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ جحدوا، و قرئ «أ فحسب» بسكون السين و رفع الباء بقراءة أمير المؤمنين عليه السّلام أي أ فكافيهم الّذين اتّخذوا و عبدوا إلها غيري، أو أ فظنّوا الّذين اتّخذوا عبادا غيري عبدوهم كالمسيح و الملائكة الّذين عبدوهم و اتّخذوهم أربابا ينصرونهم و يدفعون

ص: 335

عقابي عنهم ليس الأمر كذلك بل هم براء منهم و من كلّ مشرك باللّه [إِنَّا أَعْتَدْنا] و هيّأنا لهم [جَهَنَّمَ معدّة مهيّاة منزلا لهم كما يهيّؤ النزل للضيف و هو ما يقام للضيف ممّا حضر من الطعام.

[قُلْ لهم يا محمّد: [هَلْ نخبركم [بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا] و الجمع في صيغة المتكلّم للإيذان بمعلوميّة الخبر عند المؤمنين و إنّما أتى بصيغة الجمع في العمل و قال: «أَعْمالًا» للإيذان بتنوّعها من أعمالهم الحسنة بزعمهم الباطل، و هم كفّار أهل الكتاب اليهود و النصارى [الَّذِينَ يظلّ و [ضَلَّ سَعْيُهُمْ و اجتهادهم [فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بفعلهم محسنون و أنّ أفعالهم طاعة و قربة.

القميّ: نزلت في اليهود و جرت في الخوارج. و عن الباقر عليه السّلام: هم النصارى و القسّيسون و الرهبان و أهل الشبهات و الأهواء من أهل القبلة و الحروريّة و أهل البدع.

و في الاحتجاج عن امير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: كفرة أهل الكتاب اليهود و النصارى و قد كانوا في زمانهم على الحقّ فابتدعوا في أديانهم و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.

ثمّ قال عليه السّلام: و ما أهل النهروان منهم ببعيد. و العيّاشىّ عنه عليه السّلام مثله. و في الجوامع عنه عليه السّلام: هي كقوله: «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» (1) و قال: منهم أهل حرورا من الخوارج.

قوله: [أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أي أولئك جحدوا بحجج اللّه و بيّناته. و المراد باللقاء لقاء جزائه في الآخرة فبطلت و ضاعت [أَعْمالُهُمْ الّتي عملوها لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه الّذي أمرهم اللّه به فلا قيمة لعملهم عندنا و لا قدر و لا وزن لها.

[ذلِكَ أي حبوط الأعمال و خيبة القدر. و الإشارة إلى هذه الأمور المذكورة ثمّ ابتدأ سبحانه فقال: [جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بسبب كفرهم و اتّخاذهم آياتي من الرسل و القرآن مهزوءا به فقوله تعالى «فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» من شواهد

ص: 336


1- الغاشية: 3.

القائلين بالحبط و التكفير حبوطا كلّيّا لعلّ لا ينصب لعملهم ميزان لانحباط أعمالهم و الميزان إنّما يوضع لأهل الحسنات و السيّئات ليتميّز به مقادير الطاعات و المعاصي و ذلك في الموحّدين بطريق الكمّيّة و أمّا الكفر و إنكار آيات اللّه و رسله و أوليائه فإحباطه للعمل بحسب الكيفيّة دون الكمّيّة، فحينئذ لا يوضع لهم الميزان لأنّها قد حبطت.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين في حديث يذكر فيه أهل الموقف و أحوالهم: و منهم أئمّة الكفر و قادة الضلالة فأولئك لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا و لا يعبأ بهم لأنّهم لم يعبئوا بأمره و نهيه و هم في جهنّم خالدون تلفح وجوههم النار و هم فيها كالحون.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام فيما كتبه للمأمون: و يجب البراءة من أهل المتقدّمين من غير مقدّم و من أبي موسى الأشعريّ و أهل ولايته الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا أولئك الّذين كفروا بآيات ربّهم بولاية أمير المؤمنين، و لقائه أي كفروا بأن لقوا اللّه بغير إمامته فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا فهم كلاب أهل النار.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 107 الى 110]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

لمّا تقدّم ذكر حال الكافرين عقّبه بذكر حال المؤمنين فقال: [إِنَّ الَّذِينَ صدقوا اللّه و رسله [وَ عَمِلُوا] الأعمال الصالحة من أداء الفرائض و السنن، و العطف يدلّ على المغائرة [كانَتْ لَهُمْ جنّة [الْفِرْدَوْسِ قيل: الفردوس وسط الجنّة و أفضلها. و عن كعب: ليس في الجنان أعلى من جنّة الفردوس، و فيها الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر. و عن مجاهد: «الفردوس» هو البستان بالروميّة. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: الجنّة مائة درجة ما بين كلّ درجتين مسيرة مائة عام و الفردوس أعلاها درجة و منها الأنهار الأربعة و الفردوس من فوقها فإذا سألتم اللّه الجنّة فاسألوه الفردوس فإنّ فوقها عرش الرحمن و منها يتفجّر أنهار الجنّة.

ص: 337

قوله: [نُزُلًا] على المعنيين يمكن عبارة عن المأوى أو عبارة عمّا يحضر للضيف من الطعام و التشريفات. دائمين في تلك الجنّات لا يطلبون عن تلك الجنات تحوّلا إلى موضع آخر لطيبتها و حصول مرادهم فيها.

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه فقال: [قُلْ يا محمّد لجميع المكلّفين بعد ما ذكر في هذه السورة من أنواع الدلائل و البيّنات و شرح بعض أقاصيص الأوّلين: إنّ البحار كيف ما فرضت في الاتّساع و العظمة لو جعلت بمنزلة المداد- و المداد اسم لما تمدّ به الدواة من الحبر و لما يمدّ به السراج من السليط- و أردت أن تكتب كلمات اللّه و حكمه و علمه لنفدت، و معلوم أنّ المتناهي لا يفي البتّة لغير المتناهي.

روي أنّ حييّ بن أخطب قال: في كتابكم «وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (1) ثمّ تقرءون «وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» (2) فنزلت هذه الآية يعني أنّ ذلك خير كثير و لكنّه قطرة من بحر كلمات اللّه.

و روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: لمّا نزل «وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» قالت اليهود:

أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة و فيها علم كثير؛ فأنزل اللّه هذه الآية. ثمّ علّم اللّه نبيّه التواضع فأمره أن يقرّ على نفسه بأنّه مع أنّه مخاطب الوحي و مكرّم بالقرآن و النزول عليه فإنّه آدميّ كغيره.

و [أَنَا] في البشريّة [مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ] لا شريك له و لا فضل إلّا بالدين و النبوّة و لا علم إلّا ما علّمنيه اللّه [فَمَنْ كانَ يطمع في [لِقاءَ] ثواب [رَبِّهِ و يأمل الوقوف بين يديه و يخشى لقاء عقابه؛ لأنّ الرجاء يشتمل المعنيين الخوف و الأمل قال الشاعر:

فلا كلّ ما ترجو من الخير كائن و لا كلّ ما ترجو من الشرّ واقع

[فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً] خالصا للّه يتقرّب به و لا يجعل بعبادة اللّه أحدا شريكا من ملك أو نبيّ أو بشر أو حجر أو شجر، لا يرائي في عبادته أحدا.

عن سعيد بن جبير و غيره: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّي أتصدّق و أصل

ص: 338


1- البقرة: 269.
2- الإسراء: 75.

الرحم و لا أصنع ذلك إلّا للّه فيذكر ذلك منّي و احمد عليه فيسرّني ذلك و اعجب به، فسكت رسول اللّه و لم يقل شيئا فنزلت الآية.

قال عطا عن ابن عبّاس: أنّ اللّه تعالى قال: «وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» و لم يقل:

«و لا يشرك به» لأنّه أراد العمل الّذي يعمل للّه و يحبّ أن يحمد عليه، قال: و لذلك يستحبّ للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها كيلا يعظّمه من يصله بها.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال اللّه عزّ و جلّ: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بري ء فهو الّذي أشرك.

و روي عن عبادة الصامت و شدّاد بن أوس قالا: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من صلّى صلاة يرائي بها فقد أشرك و من صام صوما يرائي به فقد أشرك، ثمّ قرأ هذه الآية.

و روي أنّ أبا الحسن الرضا عليه السّلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضّأ للصلاة و الغلام يصبّ على يده الماء فقال: لا تشرك بعبادة ربّك أحدا فصرف المأمون الغلام و تولّى إتمام وضوئه بنفسه.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: العمل الصالح المعرفة بالأئمّة و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا التسليم لعليّ و لا يشرك معه بالخلافة من ليس ذلك لها أهل.

و القميّ عنه: و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا، قال: لا يتّخذ مع ولاية آل محمّد غير ولايتهم، و العمل الصالح ولايتهم.

و قيل: إنّ هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن. و في الكافي: آخر سورة نزلت «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» و أوّل ما نزلت بسم اللّه «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ».

و روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه بإسناده عن عيسى بن عبد اللّه عن جدّه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: ما من عبد يقرأ «قُلْ إِنَّما أَنَا» إلى آخره إلّا كان له نور في مضجعه إلى بيت اللّه الحرام فإن كان من أهل البيت الحرام كان له نور إلى بيت المقدس.

و قال أبو عبد اللّه الصادق: ما من عبد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلّا تيقّظ في الساعة الّتي يريدها.

ص: 339

هنا ينتهي الجزء السادس من الكتاب مشتملا على سور يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، النحل، الإسراء و الكهف. و بهذا الجزء ينتصف القرآن الكريم، وفّقنا اللّه لإتمامه

ص: 340

المجلد 7

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

اشارة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

سورة مريم

اشارة

(هي مكية)

فضلها

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأها اعطي من الأجر بعدد من صدّق بزكريّا و كذّب به و يحيى و مريم و عيسى و موسى و هارون و إسحاق و يعقوب و إسماعيل عشر حسنات و بعدد من دعا للّه ولدا و من لم يدع له ولدا. و قال الصادق عليه السّلام:

من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتّى يصيب منها ما يغنيه في نفسه و ماله و ولده و كان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم و أعطي من الأجر في الآخرة بمقدار ملك سليمان بن داود في الدنيا.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة مريم (19): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3)

في الإكمال عن الحجّة القائم عليه السّلام في حديث أنّه عليه السّلام سئل عن تأويلها فقال: هذه الحروف من أنباء الغيب اطّلع اللّه عبده زكريّا عليها ثمّ قصّها على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و ذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة الطيّبة فأهبط اللّه جبرئيل فعلّمه إيّاها؛ فكان زكريّا إذا ذكر محمّدا و عليّا و فاطمة و الحسن صلوات اللّه عليهم أجمعين سري عنه همّه و انجلى كربه و إذا ذكر الحسين عليه السّلام خنقته العبرة و وقعت عليه البهرة و الحيرة فقال ذات يوم: إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسلّيت بأسمائهم من الهموم و إذا ذكرت الحسين تدمع عيني و تثور زفرتي؟ فأنبأه تعالى عن قصّته فقال:

[كهيعص] فالكاف اسم كربلا و الهاء هلاك العترة و الياء يزيد لعنه اللّه و هو ظالم الحسين و العين عطشه و الصاد صبره؛ فلمّا سمع بذلك زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام و منع فيها من الدخول عليه الناس و أقبل على البكاء و النحيب و كانت ندبته:

إلهي أ تفجع خير خلقك بولده؟ أ تنزل بلوى هذه الرزيّة بفنائه؟ إلهي أ تلبس عليّا و فاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أ تحلّ كرب هذه الفجيعة بساحتهم؟ ثمّ كان يقول: إلهي ارزقني ولدا تقرّ به عيني عند الكبر و اجعله وارثي و وصيّي و اجعل محلّه منّي محلّ الحسين فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ثمّ فجّعني به كما تفجع محمّدا حبيبك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بولده، فرزقه يحيى و فجّعه به؛ و كان حمل يحيى ستّة أشهر و حمل الحسين عليهما السّلام كذلك. و في المناقب عنه عليه السّلام مثله.

و في معاني الأخبار عن الصادق معنى «كهيعص»: أنا الكافي الهادي الوليّ العالم الصادق الوعد و عنه عليه السّلام: كاف لشيعتنا هاد لهم وليّ لهم عالم بأهل طاعتهم صادق لهم

ص: 3

وعده حتّى يبلغ بهم المنزلة الّتي وعدهم إيّاها في بطن القرآن.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال في دعائه: يا كهيعص.

[ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا] أي هذا ذكر رحمة ربّك و بيان رحمته لزكريّا؛ و يعني بالرحمة إجابته إيّاه حين سأله الولد.

و قد اختلف العلماء في حروف المعجم الّتي في القرآن من فواتح السور و قد شرح مفصّلا في سورة البقرة لكنّ الّذي يختصّ بهذا الموضع ما ذكر في حديثين قبيل هذا عن الحجّة عليه السّلام.

و قد روى ابن عبّاس أنّ هذه الكلمات ثناء من اللّه على نفسه؛ و كلّ حرف ينبئ عن معنى مثلا «الكاف» كفاية اللّه عبده مثلا و هكذا. و بعض أنكروا هذا القول و يقولون:

لا يجوز أن يودع في معاني الألفاظ ما لا تدلّ عليه اللغة لا بالحقيقة و لا بالمجاز و يقولون:

ليست دلالة الكاف على الكافي أولى من دلالته على الكريم أو على الكبر فيكون حمله بعضا دون البعض تحكّما إلّا أن يكون ورد هذا المعنى و التأويل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو المعصوم فذلك دليل صحيح قاهر.

و بالجملة ففي كلمة «ذكر» أربعة أوجه و بالوجوه يختلف الاعراب و المعنى في الجملة «ذكر» بصيغة المصدر و بصيغة الماضي مخفّفة أو مشدّدة و بصيغة الأمر، أمّا صيغة المصدر فلا بدّ من ذكر رحمة ربّك على الإضافة و أمّا صيغة الماضي مشدّدة فلا بدّ من نصب رحمة على المفعوليّة و رفع زكريّا على الفاعليّة، و أمّا بصيغة الماضي المخفّف رفع الباء في ربّك على الفاعليّة و نصب زكريّا على المفعوليّة و أمّا صيغة الأمر فلا بدّ من نصب رحمة.

و الحاصل بناء على أنّ «كهيعص» اسم للسورة فالمعنى هذا المعلوم مسمّى «ب كهيعص» فهذه الحروف مرفوعة على الخبريّة تقديره: هذا كهيعص؛ و إنّما صحّت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنّه على جناح الذكر فصار في حكم الحاضر كقولك: هذا ما اشترى فلان و الحال أنّه بعد ما اشترى؛ أو على أنّه مبتدأ و خبره «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ» أي المسمّى به ذكر رحمة ربّك و لكنّ الأوّل أولى؛ و عليك بتعبير

ص: 4

المعنى على الوجوه الأربعة المذكورة؛ فرحمته سبحانه لعبده زكريّا حين دعا ربّه دعاء خافيا سرّا غير جهر في نفسه لا يريد به رياء، و في هذا دلالة على أنّ المستحبّ في الدعاء الإخفاء و أنّ ذلك أقرب للإجابة كما في الحديث: خير الدعاء الخفيّ و خير الرزق ما يكفي.

و قيل: إنّما أخفى دعاءه لئلّا يهزأ به الناس فيقول: انظروا إلى هذا الشيخ الكبير يسأل الولد. و قيل: أسرّه خوفا من مواليه. و قيل: خفي صوته قهرا لضعفه و هرمه كما جاء في صفة الشيخ: صوته خفات و سمعه تارات.

و إن قيل: من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء و خفيّا؟

فالجواب أنّه أتى بندائه أقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلّا أنّ الصوت كان ضعيفا بسبب الكبر؛ فكان نداء بحسب قصده و خفيّا بحسب الواقع.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 4 الى 6]

قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

و قد ذكرنا في الحديث السبب في دعوته الولد و سؤاله من اللّه قال زكريّا في دعائه حال الصلاة: ربّ إنّ عظمي ضعيف. و إنّما أضاف الوهن إلى العظم؛ لأنّ العظم مع صلابته إذا ضعف فكيف باللحم و العصب، و البطش إنّما يكون بالعظم دون غيره [وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً] أي عمّ الرأس البياض من الشعر و هو نذير الموت، و تلألأ الشيب لكثرة بياضه؛ و غرضه إظهار عجزه و تذلّله لا تعريفا.

[وَ لَمْ أَكُنْ] بدعائي إيّاك فيما مضى من الأيّام مخيبا محروما؛ و إنّك عوّدتني بحسن الإجابة و ما خيّبتني فيما سألتك بل استجبت لي و لم أكن محروما؛ يقال:

شقي فلان بحاجته إذا تعب و لم يحصل مطلوبه.

[وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي] الموالي هم الكلالة؛ و قيل: العصبة؛ و قيل:

العمومة و بنو العمّ عن أبي جعفر عليه السّلام و قيل: بنو العمّ و كانوا أشرار بني إسرائيل و قيل:

ص: 5

الورثة و هم الّذين يلونه في النسب. و الموالي يراد به الّذين يخلفون بعده إمّا في السياسة و الدّين أو في المال الّذي كان له. قيل: إنّه خاف منهم بعده على إفساد الدين. و قيل:

خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في ماله لأنّهم ما كانوا صالحين.

[وَ كانَتِ امْرَأَتِي] أي امرأتي في الحال ذا عقر لا تحول ولودا؛ ففي الإخبار عنها بلفظ الماضي لتقادم العهد و إشعارا بهذا المعنى.

[فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا] أي ولدا يلي أمري و يكون أولى بميراثي [يَرِثُنِي] قرئ مجزوما أي إن تهبه لي يرثني؛ و إن قرأته مرفوعا جعلته صفة «لوليّ» و المعنى اجعل لي وليّا وارثا لي غير هؤلاء الموجودين و قيل: طلب من يقوم مقامه ولدا كان أو غيره، و الأقرب هو الأوّل يرثني من مالي [وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ] النبوّة و يرث منّي النبوّة. «يعقوب» هو يعقوب بن ماثان و أخوه عمران بن ماثان أبو مريم امّ عيسى عليه السّلام. و قيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لأنّ زكريّا كان متزوّجا باخت مريم و نسبها يرجع إلى يعقوب؛ لأنّ نسبها من ولد سليمان بن داود و هو من ولد يهودا بن يعقوب. و زكريّا من ولد هارون و هو من لاوي بن يعقوب.

و استدلّ أصحابنا بالآية على أنّ الأنبياء يورّثون المال و أنّ المراد بالإرث المذكور في الآية المال دون العلم و النبوّة؛ لأنّ لفظ الميراث في اللغة و الشريعة لا يطلق إلّا على ما ينتقل من الورّاث إلى الوارث كالأموال و لا يستعمل في غير المال إلّا على سبيل التوسّع و المجاز، و لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة.

و أيضا فإنّ زكريّا عليه السّلام قال في دعائه: [وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا] أي اجعل يا ربّ ذلك الوليّ الّذي يرثني مرضيّا عندك ممتثلا لأمرك؛ و متى حملنا الإرث على النبوّة لم يكن لذلك معنى و كان هذا الكلام لغوا أ لا ترى أنّه لا يحسن أن يقول أحد:

اللّهمّ ابعث لنا نبيّا و اجعله صالحا عاقلا مرضيّا في أخلاقه و إنّ زكريّا كان يخاف الموالي بسبب عدم استحقاقهم بوراثة المال و إلّا فهو أعلم باللّه أنّه سبحانه لا يبعث من ليس بأهل النبوّة.

فإن قيل: إنّ هذا الخوف إضافة الظنّة و البخل إليه.

ص: 6

قلنا: معاذ اللّه لا يمتنع أن يأسي على بني عمّه و أقاربه إذا كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي بل في ذلك غاية الحكمة.

فإذا كان و ثبت أنّ الأنبياء يتوارثون و يتورّثون فمن أين ثبت هذا الخبر المطعون فيه حيث حرموا من حرموا؟ و على أن يكون خوف زكريّا من وراثة النبوّة و العلم و المال فالآية صريحة أيضا بوراثة الأنبياء.

و العجب أنّ الرازيّ استدلّ بأنّ لفظ الإرث يستعمل في وجوه: المال و المنصب و النبوّة و السيرة الحسنة كلّها أمّا في المال لقوله تعالى: «أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ» (1) و أمّا في العلم فلقوله: «وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ» (2) و قوله تعالى: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» (3) و هذا وراثة الملك و النبوّة و العجب من الفاضل أنّه كيف خالط البعض في البعض و الحالة أنّ العلم و السيرة و النبوّة لا تورّث بل يجعلها اللّه حيث يشاء و يكمل بالاكتساب فوجب حمل الإرث على المال و إذا استعمل في غير المال فذلك توسّع و الّذي حمله على هذا المعنى الركيك المخلّ لإيراد ذلك المجعول في مورد الحديث فتأمّل.

و في الصافي في قوله تعالى: «وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» أي ترضاه قولا و فعلا.

القميّ: لم يكن يومئذ لزكريّا ولد يقوم مقامه و يرثه و كانت هذا يا بني إسرائيل و نذورهم للأحبار و كان زكريّا رئيس الأحبار و خوف زكريّا كان من أخلاقهم و فعالهم و إنفاقهم ماله في معصية اللّه.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 7 الى 11]

يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (11)

ص: 7


1- الأحزاب: 27.
2- المؤمن: 53.
3- النمل: 16.

المعنى هاهنا حذف و تقديره: فاستجاب اللّه دعاء زكريّا و أوحى إليه يا زكريّا إنّا نخبرك على ألسنة الملائكة بخبر يرى السرور بذلك الخبر في وجهك و هو أن يولد لك ابن اسمه يحيى، و لم يسمّ أحد قبله باسمه.

و في هذا الكلام تشريف له من وجهين:

أحدهما أنّ اللّه سبحانه تولّى تسميته و لم يكلها إلى الأبوين.

و الثاني باسم لم يسبق إلى ذلك الاسم أحد قبله؛ قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام:

و كذلك الحسين عليه السّلام لم يكن له من سميّ و لم تبك السماء إلّا عليهما أربعين صباحا قيل له: و ما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء و كان قاتل يحيى ولد زنا و قاتل الحسين ولد زنا.

و روى سفيان بن عيينة عن عليّ بن زيد عن عليّ بن الحسين قال: خرجنا مع الحسين عليه السّلام، فما نزل منزلا و لا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريّا و قال يوما: و من هو ان الدنيا على اللّه عزّ و جلّ أنّ رأس يحيى اهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل! و قيل: إنّ معنى قوله: [لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] لم تلد العواقر مثله ولدا و هو كقوله: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» (1) أي مثلا.

و اختلفوا في المنادى فقيل: هو اللّه و ذلك لأنّ ما قبل الآية يدلّ على أنّ زكريّا إنّما كان يخاطب اللّه و يسأله بقوله: «رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ» و قوله: «وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا» و قوله: «فَهَبْ لِي» فما بعد الآية و ما قبلها يدلّ على أنّه كان يخاطب اللّه فيلزم أن يكون النداء من اللّه للترتيب و النظم.

و قيل: هذا نداء الملك و الدليل قوله تعالى في سورة البقرة: «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى» (2) و كذلك أنّ زكريّا قال: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ» و هذا لا يجوز أن يكون كلام اللّه فوجب أن يكون كلام الملك.

لكن يمكن الجمع بان يقال: حصل النداء أنّ نداء اللّه نداء الملائكة.

ص: 8


1- آل عمران: 39.
2- آل عمران: 39.

و في وجه تسميته عليه السّلام بيحيى ذكر الثعلبيّ وجوها: أحدها عن ابن عبّاس لأنّه أحيا عقر امّه و قيل: أحيا قلبه بالطاعة و الإيمان و اللّه سبحانه سمّى المطيع حيّا و العاصي ميّتا بقوله تعالى: «أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ» (1) و قال: «إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» (2) و إحياؤه بالطاعة حتّى لم يعص و لم يهمّ بمعصية و قيل: استشهد و الشهداء أحياء عند ربّهم و قيل: إنّ يحيى أوّل من آمن بعيسى فصار قلبه حيّا بذلك الأمر و ذلك أنّ امّ يحيى كانت حاملا به فاستقبلها مريم و قد حملت بعيسى فقالت لها امّ يحيى: يا مريم أ حامل أنت؟ فقالت: لما ذا تقولين؟ فقالت: إنّي أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. و لكن هذه الوجوه استحسانات ضعيفة لأنّ أسماء الألقاب لا يطلب فيها وجه الاشتقاق و لهذا قالوا: أسماء الألقاب قائمة مقام الإشارات و هي لا تفيد في المسمّى صفة البتّة.

قوله تعالى: [قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً] قال زكريّا:

من أين لي غلام؟

فلو قيل: كيف تعجّب مع أنّه هو الّذي طلب الغلام و بشّر به فكيف يتعجّب؟

فالجواب أنّه قال ذلك لا على وجه الاستعجاب بل مقصوده الاستخبار عن كيفيّة وقوع الأمر لا أنّه تعجّب من قدرة اللّه أو كان شاكّا في وقوع الأمر بل مقصوده أن يستعلم هل يعادان شابّان أم يرزقان الولد شيخين؟

قوله: «عاقر» لأنّ ما كان على فاعل من صفة خاصّة بالتأنيث ممّا لم يكن للمذكّر أبدا فإنّه لا تدخل فيه الهاء نحو حائض قال الخليل: هذه صفات مذكّرة وصفت بها المؤنّث كما و صفوا المذكّر بالمؤنّث حين قالوا: رجل ملحة و ربعة و غلام بقعة.

قوله: [وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا] و العاقر هو الّذي غيّره طول الزمان إلى اليؤس و ليل عاقر أي طويل و قد بلغت الكبر حال اليبوس و الجفاف. قيل: كان له عليه السّلام تسع و تسعون سنة.

قوله تعالى: [قالَ كَذلِكَ] أي قال اللّه سبحانه: الأمر على ما أخبرتك من هبة

ص: 9


1- الانعام: 122.
2- الأنفال: 24.

الولد على الكبر و ردّ قوّتك [عَلَيَ] أمر [هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً] أي أوجدتك و لم تك شيئا موجودا فإزالة عقر زوجتك و إرجاع قوّتك أيسر في الاعتبار من ابتداء الإنشاء.

[قالَ] زكريّا: [رَبِّ اجْعَلْ لِي] علامة استدلّ بها على وقت كونه قال اللّه:

علامتك [أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ] و أنت سويّ صحيح سالم من غير علّة قال ابن عبّاس: اعتقل لسانه من غير مرض ثلاثة أيّام. قالوا: اعتقل لسانه ثلاثة أيّام من غير بأس و لا خرس فإنّه كان يقرء الزبور و يدعو إلى اللّه و يسبّحه و لكنّه لا يمكنه أن يكلّم الناس. و اختلفوا في معنى «سويّا» فقال بعضهم: هو صفة لليالي الثلاث و لكنّ الأكثر قالوا: صفة لزكريّا.

قوله: [فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا] فخرج زكريّا على قومه قيل: كان له موضع ينفرد فيه بالصلاة و العبادة و لمّا يفرغ من عبادته ينتقل إلى قومه فعند ذلك أوحى و أشار إليهم. و قيل: كان موضعا يصلّي فيه هو و غيره إلّا أنّهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلّا بإذنه و أنّهم اجتمعوا ينتظرون خروجه للإذن فخرج إليهم و هو لا يتكلّم فأوحى إليهم. و المراد بالوحي هاهنا لا يمكن أن يحمل على الكلام بل المراد الرمز و الإشارة لأنّ الكلام كان عليه ممتنعا فعلم يومه أن قد كان ما بشّر به فكما حصل السرور له حصل لهم و ظهر لهم إكرام اللّه تعالى لزكريّا بالإجابة فأشار إليهم و أومأ بيده و قيل: كتب لهم على الأرض أن صلّوا صلاة الفجر و صلاة العصر و يحتمل أن يكون أنّهم كانوا يأتمّون به محرابه في هاتين الصلاتين فلما اعتقل لسانه خرج على عادته و أذن لهم من غير كلام فعرفوا ذلك و إنّما سمّي المحراب محرابا لأنّ المتوجّه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته و الأصل فيه مجلس الأشراف الّذي يحارب دونه ذبّا عن أهله.

و بالجملة فسكت ثلاثة أيّام و السبحة استعملت في الصلاة. و عن عائشة في صلاة الضحى: إنّي لأسبّحها.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 12 الى 15]

يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا (13) وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

ص: 10

وصف سبحانه يحيى في هذه الآية و شرّفه بتشريفات أوّلها كونه مخاطبا من اللّه بقوله:

[يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ] و هذا تشريف عظيم و الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة الّتي أنعم اللّه بني إسرائيل بها و يحتمل أن يكون كتابا خصّ اللّه يحيى به كما خصّ اللّه كثيرا من الأنبياء بذلك و لكن أطبق المفسّرون أنّ المراد بالكتاب التوراة، و معنى بقوّة أي أنت قادر على أخذه قويّ العمل به و خذه بجدّ و صحّة عزيمة على القيام بما فيه.

[وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا] و المراد من الحكم قيل: الحكم و هو الفهم في التوراة و الفقه في الدين. و قيل: المراد العقل. لكنّ القول الصحيح: المراد من الحكم النبوّة فإنّ اللّه أحكم عقله في حال صباه و أوحى إليه.

و قد بعث سبحانه يحيى و عيسى نبيّا و هما صبيّان و بعث موسى و محمّدا و قد بلغا الأشدّ. و الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره على الإطلاق و ذلك لا يكون إلّا بالنبوّة.

فإن قيل: كيف يعقل حصول العقل و الفطنة و النبوّة حال الصبا.

قيل: إنّ بناء النبوّات على المعجزات فإنّه ليس استبعاد صيرورة الصبيّ عاقلا نبيّا أشدّ من استبعاد انشقاق القمر و انفلاق البحر.

قوله تعالى: [وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا] الحنان أصله من الحنين و هو الجزع للفراق كما يقال: حنين الناقة و هو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها و منه حنّت خشبة الجذع لمّا اتّخذوا له المنبر و تحوّل إلى المنبر فاستعمل التحنّن على التعطّف و الرحمة و الحنان في الآية إمّا صفة للّه أو صفة ليحيى فإن كان صفة للّه فالتقدير: و آتيناه الحكم حنانا و رحمة منّا عليه و قيل: معناه تحنّنا منه على العباد و رقّة قلب عليهم. و هذه صفة يحيى ليدعوهم إلى الطاعة. و قيل: معنى تحنّن اللّه عليه كان كلّما كان يحيى

ص: 11

يقول: يا اللّه، قال اللّه: لبّيك يا يحيى. و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام.

[وَ زَكاةً] أي و آتيناه عملا مزكّى صالحا مهذّبا بحسن الثناء عليه أو العمل لمن قبل دينه زكاة و مقبولا أو وجود يحيى صدقة تصدّق اللّه به على أبويه. و قيل: معناه هو بركة و نماء كما قال عيسى: «وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ» (1).

قوله: [وَ كانَ تَقِيًّا] أي كان يحيى مطيعا متّقيا لما نهى اللّه عنه قالوا: و من تقواه أنّه لم يعمل خطيئة قطّ و لم يهمّ بها و إنّما أضاف اللّه كونه زكاة إلى نفسه و هو كان زكيّا و مطيعا بفعله لأنّه إنّما صار عليه السّلام كذلك في حال الصغر بألطاف اللّه و لذا نسبه إلى نفسه.

قوله: [وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ] أي بارّا محسنا إليهما مطيعا لهما طالبا مرضاتهما [وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً] متكبّرا متطاولا على الخلق و إنّما وصفه بالبرّ بالوالدين لأنّه لا عبادة بعد تعظيم اللّه مثل تعظيم الوالدين كما قال سبحانه: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (2) و إنّما نزّهه عن التجبّر لأنّ رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذلّ و معرفة ربّه بالعظمة فإنّ إبليس لمّا تجبّس تمرّد و صار مبعدا عن الرحمة و الجبّار هو الّذي يعاقب على غضب نفسه من غير حقّ و لا يرى لأحد حقّا على نفسه عن أن يلزمه قضاءه.

و قوله: [عَصِيًّا] مبالغة من العاصي كما أنّ العليم أبلغ من العالم.

قوله: [وَ سَلامٌ عَلَيْهِ] أي سلام عليه منّا قيل: و سلامة و أمان له [يَوْمَ وُلِدَ] من عبث الشيطان و إغوائه إيّاه [وَ يَوْمَ يَمُوتُ] من بلاء الدنيا و من عذاب القبر [وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا] من هول المطّلع و عذاب النار و قوله: «حيّا» تأكيد لقوله: «يبعث» و قيل: يعني أنّه يبعث مع الشهداء لأنّهم و صفوا بأنّهم أحياء.

قال سفيان بن عيينة: أوحش ما تكون الإنسان في ثلاثة مواطن: يوم ولد فرأى نفسه خارجا ممّا كان فيه و يوم يموت فيرى قوما لم يكن رآهم و أحكاما ليس له بها عهد

ص: 12


1- مريم: 31.
2- الإسراء: 23.

و يوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فخصّ اللّه سبحانه يحيى بالكرامة و السلامة في المواطن الثلاثة و السلام الأوّل يوم الولادة بفضل و تشريف و الثاني و الثالث على وجه الثواب و الجزاء و هذا السلام و البشارة يمكن أن يكون من اللّه و أن يكون من الملائكة و على التقديرين فدلالة شرفه و فضله ثابتة لأنّ الملائكة لا يسلّمون إلّا عن أمر اللّه.

و في هذه الآية دلالة على آداب الدعاء أحدها: نداء خفيّا و هو يدلّ على أنّ أفضل الدعاء ما هذا حاله و يؤكّده قوله: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً» (1) و لأنّ رفع الصوت مشعر بالقوّة و إخفاء الصوت مشعر بالانكسار و عجز النفس.

و كذلك يستفاد من الآية أن يذكر في مقدّمة الدعاء عجز النفس و ضعفها كما في قوله تعالى عنه: «وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً».

ثمّ يستفاد من آداب الدعاء أنّه أن يكون الدعاء لأجل شي ء متعلّق بالدين لا لمحض الدنيا كما قال: «وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي» و كذلك أن يكون بلفظ يا ربّ.

و أيضا في هذه القصّة دلالة على أنّ البنية ليست شرطا في الإيجاد و القدرة و الوسائط عند القدرة ملغاة. و أيضا ردّ على الطباعيين.

و في الكافي عنهم عليهم السلام فيما و عظ اللّه عيسى عليه السّلام: و نظيرك يحيى من خلقي و هبته لأمّه بعد الكبر من غير قوّة بها أردت بها بذلك أن يظهر لها سلطاني و تظهر فيك قدرتي.

و في تفسير الإمام في سورة البقرة عند قوله تعالى: «وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» (2) قال: ما ألحق اللّه صبيّا برجال كاملي العقول إلّا هؤلاء الأربعة: عيسى ابن مريم و يحيى بن زكريّا و الحسن و الحسين عليهم السلام.

قوله تعالى:

ص: 13


1- الأعراف: 154.
2- البقرة: 282.

[سورة مريم (19): الآيات 16 الى 20]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)

هذه قصّة ثانية خارجة عن مناهج العادات و إنّما قدّم قصّة يحيى على قصّة عيسى لأنّ خلق الولد من شيخين فانيين أقرب من تخليق الولد من غير أب و أحسن الطريق إلى بيان الأمر الأخذ من الأقرب فالأقرب ثمّ إلى الأصعب فالأصعب فعطف قصّة عيسى على يحيى عليهما السّلام فقال سبحانه:

و لينته علمك يا محمّد في قرآنك هذا حديث [مريم] و ولادتها عيسى و صلاحها في الدين ليقتدي الناس بها و ليكون علمك بأحوالها من غير تعليم معلّم معجزة لك [إِذِ انْتَبَذَتْ] و انفردت [مِنْ أَهْلِها] إلى جهة المشرق و قعدت ناحية منهم و لذا اتّخذت النصارى المشرق قبلة، و فلان خلّى نبذة من الناس أي ناحية أي اتّخذت مكانا للعبادة متباعدة لئلّا تشتغل بكلام الناس، أو تباعدت عن قومها للعبادة حتّى لا يروها.

ثمّ إنّها مع ذلك اتّخذت و جعلت بينها و بينهم [حِجاباً] و حائلا أي جعلت بين نفسها و بينهم سترا. و قيل: إنّها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد المعدّ للعبادة لكي تنتظر الطهر فتغتسل ثمّ تعود إلى مكانها فلمّا طهرت جاءها جبرئيل.

و قيل: قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بستر تستر بها. و قيل: إنّ زكريّا زوج أختها كان رتّب لها محرابا على حدة تسكنه بقربه و تعبد فيه و كان زكريّا إذا خرج أغلق عليها فأرادت مريم أن تجد خلوة في الجبل لتمشط رأسها فانفجر السقف لها فخرجت من المكان إلى المفازة فجلست في المشرقة فتمنّت وراء الجبل فأتاها الملك و المكان الشرقيّ هو الّذي يلي شرقيّ بيت المقدس.

و لمّا جلست ذاك المكان [فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا] يعني جبرئيل و سمّاه اللّه روحا لأنّه روحانيّ و أضافه إلى نفسه تشريفا له كبيتي و عبدي. و قرئ روحنا بالفتح لأنّه سبب لما فيه روح العباد و لا شكّ أنّه من المقرّبين «فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ

ص: 14

وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ» (1) و لا يلزمنا هذه التكلّفات و قد سمّاه اللّه تعالى الروح قال:

«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» (2) ثمّ إنّه قال: «إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا» و لا يليق ذلك لجبرئيل.

و اختلفوا في أنّه كيف ظهر لها أي بصورة أيّ إنسان. قيل: إنّه ظهر لها بصورة شابّ أمرد حسن الوجه سويّ الخلق. و قيل: ظهر لها بصورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس و لا دلالة في اللفظ على التعيين فانتصب بين يديها جبرئيل بصورة آدميّ صحيح لم ينقص منه شي ء فلمّا رأته مريم أنكرته فاستعاذت باللّه منه.

[قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا] أرادت إن كان يرجى منك أن تتّقي اللّه فإنّي عائذة باللّه منك لأنّها علمت أنّ الاستعاذة تؤثّر في التقى كقوله «وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (3) أي شرط الإيمان يوجب هذا. و قيل: معناه إن النافية أي ما كنت تقيّا حيث استحللت النظر إليّ و خلوت في منزلي. و قيل: إنّه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه تقيّ يتبع النساء فظنّت مريم عليها السّلام أنّه هو ذلك التقيّ.

و هاهنا بحث و هو أنّه جاء في الأخبار أنّ جبرئيل عليه السّلام شخص عظيم الجثّة فذلك الشخص العظيم كيف بصر بدنه في مقدار جثّة الإنسان أ بأن تساقطت أجزاؤه و تفرّقت بنيته فحينئذ لا يبقى جبرئيل أو بأن تداخلت أجزاؤه و ذلك توجب تداخل الأجزاء و الأجسام و هو محال فكيف الأمر؟

و الجواب أنّه لا يمتنع أن يكون جبرئيل له أجزاء أصليّة و أجزاء فاضلة و الأجزاء الأصليّة قليلة فيكون متمكّنا من التشبّه بصورة الإنسان و هذا إذا جعلناه جسمانيّا أمّا إذا جعلناه روحانيّا فأيّ استبعاد في أن يبدو تارة بالهيكل العظيم و اخرى بالهيكل الصغير.

و الحاصل فلمّا سمع جبرئيل عليه السّلام منها هذه الاستعاذة [قالَ] لها:

ص: 15


1- الواقعة: 88، 89.
2- الشعراء: 193.
3- البقرة: 278.

[إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ] ولدا طاهرا من الأدناس ناميا في أفعال الخير. و قيل:

يريد نبيّا.

[قالَتْ] مريم: [أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ] و كيف يكون لي ولد؟ [وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ] على وجه الزوجيّة و لم أكن زانية، و إنّما قالت ذلك لأنّ العادة أن يكون الولد من إحدى هاتين الجهتين. و إنّما يقال: للفاجرة بغيّ لأنّها تطلب و تبغي الزنا.

و في هذه الآيات دلالات على جواز إظهار المعجزات لغير الأنبياء خلافا لمن قال:

إنّ المعجزة خاصّة بالنبوّة لأنّ من المعلوم أنّ مريم ليست نبيّة و أنّ رؤية الملك على صورة البشر و بشارة الملك إيّاها و ولادتها من غير وطء من الآيات الّتي آتاها اللّه من أكبر المعجزات.

و أجاب الّذي أنكر المعجزة لغير النبيّ و قالوا: إنّها معجزات لزكريّا.

و ردّ هذا القول: لأنّ المعجز إذا كان مفعولا للنبيّ أو لأجل النبيّ فأقلّ ما فيه أن يكون عليه السّلام عالما به و زكريّا ما كان عنده علم بهذه الوقائع فكيف يجوز جعلها معجزا له؟ بل يمكن إرهاصا لعيسى عليه السّلام أو كرامة لمريم.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 21 الى 30]

قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25)

فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (30)

المعنى: [قالَ] لها جبرئيل حين سمع تعجيبها من هذه البشارة: الأمر [كَذلِكِ] و كما وصفت لك و إحداث الولد من غير زوج للمرأة سهل منّا لا يشقّ عليّ [وَ لِنَجْعَلَهُ

ص: 16

آيَةً] و علامة ظاهرة و آية باهرة [لِلنَّاسِ] و على نبوّته و براءة على فعل مريم و لنجعله نعمة [مِنَّا] على الخلق يهتدون بسببه [وَ كانَ] خلق عيسى [أَمْراً] كائنا لا محالة محتوما قضى اللّه بأنّه يكون.

فحملت مريم بعيسى في الحال. قيل: أخذ جبرئيل ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها و وجدت حسّ الحمل. و قيل: نفخ في كمّها فحملت. و روي عن الباقر عليه السّلام أنّ جبرئيل تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحمّ و هي حامل مثقل فنظرت خالتها فأنكرتها و مضت مريم على وجهها مستحيية من خالتها و من زكريّا و خالتها زوجة زكريّا [فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا] تنحّت بالحمل إلى مكان بعيد حياء من أهلها و خوفا من أن يتّهموها بسوء.

و اختلفوا في مدّة حملها؛ فقيل: ساعة. قال ابن عبّاس: لم يكن بين الانتباذ و الحمل إلّا ساعة واحدة لأنّه تعالى لم يذكر فصلا لأنّه قال: فحملته فانتبذت به فأجاءها المخاض، و الفاء للتعقيب. و قيل: كانت مدّة حملها تسع ساعات و هذا مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و قيل: ستّة أشهر. و قيل: ثمانية أشهر و هذا القول: بعيد. قال ابن عبّاس: نظرت مريم إلى أكمة فصعدت مسرعة إليها فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس بها سعف.

فلمّا ولدت قالت: [يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا] و في التهذيب عن السجّاد عليه السّلام خرجت من دمشق حتّى أتت كربلا في موضع قبر الحسين ثمّ رجعت من ليلتها.

قوله: [فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ] أي ألجأها وجع الولادة إلى جذع النخلة لتستند إليها فلمّا ولدت [قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا] أي شيئا متروكا لم أك في الذكر. قيل: و إنّما تمنّت الموت كراهية أن يظنّوا بها سوءا.

و في علّة الانتباذ قالوا وجوها: أحدها ما رواه الثعلبيّ في العرائس عن وهب قال:

إنّ مريم لمّا حملت بعيسى و كانت ثلاثة عشر سنة أو عشرين سنة و كان قد رأت حيضتين و كان مع مريم ابن عمّ لها يقال له: «يوسف النجّار» و هو يعبد في المسجد الّذي كان

ص: 17

تعبد فيه مريم قرب جبل صهبون و لا يعلم في أهل زمانها أحد أشدّ اجتهادا و عبادة منهما.

و أوّل من عرف حمل مريم يوسف فتحيّر في أمرها فكلّما أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها و عبادتها و أنّها لم يغب عنه ساعة قطّ و أنّها ما فترت عن العبادة وقتا و إذا أراد أن يبرأها رأى الّذي ظهر بها من الحمل فتكلّم يوما و قال: إنّه وقع في نفسي من أمرك يا مريم شي ء أخبريني يا مريم هل نبت الزرع بغير بذر و هل تنبت شجرة من غير غيث و هل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم ألم تعلم أنّ اللّه أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر و هذا البذر إنّما حصل من الذرع الّذي أنبته من غير بذر ألم تعلم أنّ اللّه أنبت الشجرة من غير غيث و بالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كلّ واحد منهما على حدة أو تقول: إنّ اللّه لا يقدر على أن ينبت الشجرة و يخلق الزرع حتّى استعان بالماء و البذر و لو لا ذلك ما كان قادرا؟ فقال يوسف: لا أقول هذا، و لكنّي أقول:

إنّ اللّه قادر على ما يشاء فيقول: كن فيكون. فقالت له مريم: ألم تعلم أنّ اللّه خلق آدم و امرأته من غير ذكر و لا أنثى؟ فعند ذلك البيان زالت الشبهة عن قلب يوسف و كان ينوب عنها في خدمة المسجد بسبب الحمل.

فلمّا دنا نفاسها أوحى اللّه إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلّا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على جماز له فلمّا بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة و ذلك في زمان برد فوضعت عندها.

و الحديث الصحيح أنّها خرجت بأمر اللّه إلى كربلا في ليلة واحدة و وضعت و رجعت في ليلتها.

و قيل: السبب في خروجها أنّها كانت مشهورة في بني إسرائيل بالزهد و تشاحّ الناس في تربيتها ثمّ تكفّل زكريّا بها و لأنّ الرزق يأتيها من عند اللّه و هذه الأمور و المزايا كلّها في نهاية الشهرة استحت من هذه الواقعة فذهبت إلى مكان بعيد لا يراها زكريّا. و هذه الوجوه كلّها محتملة و ليس في القرآن ما يدلّ على شي ء من السبب.

و معنى المخاض تمخّض الولد في البطن و حركته للولادة.

قال في الكشّاف: جذع نخلة يا بسة كانت في الصحراء على اختلاف الصحراء و ليس

ص: 18

لها رأس و لا ثمر و لا خضرة و كان الوقت شتاء و إنّ اللّه أرشدها إلى هذه النخلة ليطعمها منها الرطب و النخلة لا تثمر إلّا عند اللقاح و لا تلقح و لا تطلع إلّا في الربيع و إذا قطع رأسها لم تثمر قطّ و تموت فاللّه سبحانه أرشدها إلى هذه النخلة ليدلّ على جواز ظهور الولد من غير حياة و لقاح و أب كما أنّ الرطب حصل من جذع النخلة.

و بالجملة فلو قيل: لم قالت: «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» مع أنّها كانت تعلم أنّ اللّه بعث جبرئيل إليها و وعد بأن يجعلها و ابنها آية للعالمين؟

الجواب قيل: أنساها كربة الغربة. و قيل: إنّ عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا، قال أمير المؤمنين يوم الجمل: يا ليتني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة.

و عن بلال: ليت بلالا لم تلده امّه. و كذا قال عليّ بن الحسين عليه السّلام يوم ورد إلى الشام.

و قوله: «نسيا» قرئ بكسر النون أيضا قيل: معناه خرقة ملقاة من خرق الطمث.

قال صاحب الكشّاف: النسي ما من حقّه أن يطرح و يلقى كالذبح اسم لما شأنه أن يذبح. و قيل: الحليب المخلوط بالماء الكثير ينساه أهله لإعراضهم عنه.

و بالجملة قال ابن عباس: فسمع جبرئيل كلامها و عرف جزعها [فَناداها مِنْ تَحْتِها] و كان أسفل منها تحت الأكمة [أَلَّا تَحْزَنِي] و هذا قول جماعة: إنّ المنادي جبرئيل ناداها من سفح الجبل. و قيل: المنادي المولود عيسى: لا تغتمّي [قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ] أي تحت قدميك نهرا تشربين منه شديد الجري تطهّرين به، قالوا: و كان نهرا قد انقطع الماء عنه فأرسل اللّه الماء فيه لحاجة مريم و أحيا ذلك الجذع حتّى أثمر و أورق. و قيل:

ضرب جبرئيل برجله فظهر ماء عذب. و قيل: بل ضرب عيسى عليه السّلام برجله فظهر عين ماء يجري و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و قيل: السريّ عيسى و معناه الشريف الرفيع.

قوله: [وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ] أي اجذبي إلى نفسك جذع النخلة و الباء زائدة [تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً] طريّا [جَنِيًّا] و قرئ بالكسر من الجيم للإتباع فقال الباقر عليه السّلام: لم يستشف النفساء بمثل الرطب. و هذه معجزات تنوف على عشرة متوالية معجزة إثر معجزة.

قوله: [فَكُلِي] يا مريم من هذا الرطب [وَ اشْرَبِي] من هذا الماء أو من عصيره

ص: 19

[وَ قَرِّي عَيْناً] أي طيّبي نفسا و برّدي عينيك سرورا بهذا الولد الّذي عندك لأنّ دمعة السرور باردة و دمعة الحزن حارّة.

قوله: [فَإِمَّا تَرَيِنَ] أصله ترأيين و الاستعمال بغير الهمزة، و الياء ضمير المؤنّث و إنّما حرّكت الياء لالتقاء الساكنين و هما الياء و النون الاولى و النونان أحدهما نون الرفع و الآخر التأكيد كما تقول: ارضينّ زيدا للمرأة. و إن شرطيّة أي إذا رأيت آدميّا كان من كان فقولي: ان استنطقك و سألك عن ولدك:

[إِنِّي نَذَرْتُ] للّه و أوجبت على نفسي صمّا و الصوم على هذا القول: معناه الصمت، و قيل: الصوم في ذلك الزمان كان يلزمه الصمت و كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلّم الصائم حتّى يمسي.

[فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا] و كان قد أذن لها أن يتكلّم بهذا القدر ثمّ تسكت و لا تتكلّم بشي ء آخر. قيل: كان اللّه أمرها أن تنذر للّه الصمت و الصوم و إذا كلّمها أحد تؤمي بأنّها نذرت صمتا لأنّه لا يجوز أن تخبر بالكذب.

قوله: [فَأَتَتْ] مريم بعيسى و ذلك أنّها لفّته في خرقة و حملته إلى [قَوْمَها] راجعة إليهم حاملة لعيسى [قالُوا] موبّخين لها: [يا مَرْيَمُ] لقد فعلت أمرا عظيما بديعا منكرا فرى الجلد إذا قطعه. و قيل: إنّ يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يوما ثمّ أتت بعد أن طهرت من النفاس و كلّمها عيسى في الطريق و قال: يا امّاه ابشري فانّي عبد اللّه و مسيحه.

و الحاصل لمّا رأوه القوم وبّخوا مريم و أكّدوا توبيخهم ثانيا بقولهم [يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ] فيه أقوال:

أحدها أنّ هارون هذا كان رجلا صالحا في بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، عن جماعة هذا المعنى مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى قيل: إنّه لمّا مات شيّع جنازة هذا الصالح أربعون ألفا كلّهم يسمّى هارون تبرّكا باسمه فحينئذ المعنى: يا شبيهة بهارون في الصلاح ما كان هذا الأمر معروفا عنك.

و ثانيها أنّ هارون كان أخاها لأبيها ليس امّها و كان معروفا بحسن الطريقة.

ص: 20

و ثالثها أنّ هارون المراد أخو موسى عليه السّلام و نسبت إليه لأنّها من ولده و أعقابه و إنّما قيل: يا اخت كما يقال: يا أخا همدان أي يا واحدا منهم.

و الرابع أنّ هارون كان رجلا معلنا بالفسق فنسبت إليه تشبيها لا نسبة.

و بالجملة جاء بنو إسرائيل و رأوها أنّ عيسى في صدرها و أقبلن مؤمنات بني- إسرائيل يبزقن في وجهها فلن تكلّمهنّ حتّى دخلت في محرابها فجاء إليه زكريّا و قالت:

بنو إسرائيل ما قالت.

[فَأَشارَتْ] و أومأت مريم إلى عيسى أي هذا الّذي يجيبكم. روي أنّه لمّا أشارت إليه غضبوا غضبا شديدا و قالوا: لسخريّتها بنا أشدّ من زناها.

و في ذلك الوقت كان عيسى يرضع فلمّا سمع ذلك ترك الرضاع و أقبل عليهم بوجهه و اتّكأ على يساره و أشار بسبّابته و كلّمهم بذلك ثمّ لم يتكلّم حتّى بلغ مبلغا يتكلّم فيه الصبيان. و قيل: إنّ زكريّا عليه السّلام لمّا رأى مناظرة اليهود إيّاها فقال لعيسى:

انطق بحجّتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عند ذلك: إنّي عبد اللّه.

و المراد بالمهد قيل: هو حجرها لما روي أنّها أخذته في خرقة فلمّا رأوها وقعت هذه المحاورات و لم يكن بعد له منزل و مهد معدّ و المراد الّذي من شأنه النوم في المهد كيف نكلّمه؟

فوصف عيسى نفسه بصفات عديدة لأنّ الكلام مثل ذلك الوقت من الرضيع موهم بعض الأمور فابتدأ عليه السلام ابتداء بما يرفع ذلك الوهم فقال: [إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ] فنصّ على نفسه بالعبوديّة و جعل إزالة هذه الشبهة أولى من إزالة التهمة عن الزنا مع أنّ اللّه أعطاه هذه القوّة لإزالة تهمة الزنا عن امّه.

الصفة الثانية قوله: [آتانِيَ الْكِتابَ] و اختلف الناس فيه الجمهور على أنّه قال هذا الكلام حال ما تكلّم، و قال البلخيّ: إنّما قال حين كان كالمراهق الّذي يفهم.

و قيل: إنّه كان في ذلك الصغر نبيّا. و قيل: إنّ مراده حال صغره، قال: بأنّه سيبعثني نبيّا.

و احتجّ من نصّ على فساد القول بنبوّته حال صغره بأمور:

ص: 21

أحدها أنّه لو كان نبيّا في هذا الصغر لكان كمال عقله مقدّما على ادّعائه للنبوّة إذا النبيّ لا بدّ و أن يكون كامل العقل و كمال عقله ذلك الوقت خارق للعادة فيكون المعجز متقدّما على التحدّي و إنّه غير جائز.

الثاني أنّه لو كان نبيّا في ذلك الوقت لوجب أن يشتغل ببيان الأحكام و تعريف الشرائع و لو وقع ذلك لاشتهر و لنقل فحيث لم يحصل ذلك علمنا أنّه ما كان نبيّا في ذلك الوقت.

و أجابوا عن الوجه الأوّل بأنّه إذا أكمل اللّه عقله قبل دعواه يكون معجزة لزكريّا أو إرهاصا لنبوّته أو كرامة لمريم. و عن الوجه الثاني أنّه يجوز تجرّد بعثته إليهم من غير بيان شي ء من الشرائع ثمّ بعد البلوغ أخذ في شرح الشرائع فحينئذ لا يمتنع نبوّته في صغره.

و اختلفوا في الكتاب قيل: هو التوراة لأنّ الألف و اللام في الكتاب تنصرف للمعهود و الكتاب المعهود لهم هو التوراة. و قيل: المراد الإنجيل لأنّ الألف و اللام للجنس يعني آتاني من هذا الجنس.

الصفة الثالثة قوله: [وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا].

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 31 الى 35]

وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)

الصفة الرابعة [وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ] و البركة في اللغة الثبات و أصله من بروك البعير أي جعلني ثابتا مستقرّا على دين اللّه و يعلّم الناس دينهم و يدعوهم إلى طريق فإن ضلّوا فمن قبل أنفسهم.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أسلمت مريم عيسى إلى المعلّم و قالت: أدفعه إليك على أن لا تضربه. فقال له المعلّم: اكتب. قال عيسى: أيّ شي ء أكتب؟ فقال: اكتب أبجد

ص: 22

فرفع عيسى رأسه و قال: هل تدري ما «أبجد» فعلاه المعلّم بالدرّة ليضربه فقال: يا مؤدّب لا تضربني إن كنت لا تدري اسألني أنا اعلّمك: الألف من آلاء اللّه و الباء من بهاء اللّه و الجيم من جمال اللّه و الدال من أداء الحقّ إلى اللّه.

«وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً» أي مادمت في الدنيا صغيرا أكون أو كبيرا مستعليا بالحجّة و إذا جاء وقت المفارقة عن الكون في الدنيا يكر مني اللّه بالرفع إلى السماء أو جعلني مباركا على الناس بحيث يحصل بسبب دعائي إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص. روي أنّه رأته امرأة و هو يحيي الموتى و يبرأ الأكمه و الأبرص فقالت: طوبى لبطن حملتك و ثدي أرضعتك، فقال عيسى عليه السّلام مجيبا لها: طوبى لمن تلا كتاب اللّه و اتّبع ما فيه و لم يكن جبّارا شقيّا.

الصفة الخامسة: [وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ] فإن قيل: كيف امر بالصلاة و الزكاة مع أنّه كان طفلا صغيرا و القلم مرفوع عنه؟ فالجواب أنّ الكلام لا يدلّ على كون الصلاة و الزكاة عليه في الحال بل بعد البلوغ أو أنّ اللّه جعله لمّا انفصل عن امّه بالغا كاملا في العقل مكلّفا بالأحكام كخلقة آدم تامّا كاملا مكلّفا دفعة. و قوله:

[ما دُمْتُ حَيًّا] يؤيّد هذا المعنى فإنّه يفيد أنّ هذا التكليف متوجّه عليه في جميع زمان حياته و لم يتغيّر حين كان في الأرض و حين رفع إلى السماء و حين ينزل إلى الأرض مرّة اخرى.

الصفة السادسة قوله تعالى: [وَ بَرًّا بِوالِدَتِي] أي جعلني بارّا و محسنا بها اؤدّي شكرها في ما قاسته بسببي.

الصفة السابعة: و ما جعلني متكبّرا بل متواضعا لها و لو كنت جبّارا لكنت عاصيا شقيّا قال عيسى: قلبي ليّن و أنا صغير في نفسي. قال بعض أهل المعرفة: لا تجد العاقّ إلا جبّارا شقيّا.

الصفة الثامنة [وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا] أي السلامة عليّ من اللّه في هذه الأحوال الثلاث و قد مرّ بيانه في أحوال يحيى. و قيل: اللام لام التعريف في السلام للعهد يعني السلام الموجّه إلى يحيى في المواطن الثلاث موجّه إليّ أيضا، و قال

ص: 23

صاحب الكشّاف: اللام للاستغراق أي و كلّ السلام عليّ و على أتباعي و إنّما قال هذا القول تعريضا باللعن على من اتّهم مريم امّه بالزنا و كان يليق به في هذا المقام مثل هذا التعريض إزالة للشبهة نظير قول موسى عليه السّلام: «وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى» (1) بمعنى أنّ العذاب على من كذّب و تولّى، فكأنّه سأل ربّه السلامة و طلب منه ما أخبر اللّه فعله بيحيى.

و في هذه الآيات دلالة على أنّه يجوز أن يصف الإنسان نفسه إذا أراد أن يعرّفها إلى غيره لا على وجه الافتخار بل على وجه حاجة لا تنقضي تلك الحاجة إلّا ببيان ذلك الوصف أو في مقام زوال التهمة عن نفسه و أمثال هذه الموارد فإذا لا بأس بأن يصف الإنسان نفسه و يعرّف غيره بنفسه كما أنّ عيسى لمّا كلّمهم بهذه الكلمات علموا براءة مريم.

و اعلم أنّ اليهود و النصارى ينكرون أنّ عيسى تكلّم في زمان الطفوليّة و احتجّوا عليه بأنّ هذا من الوقائع العجيبة الّتي تتوفّر الدواعي على نقله فلو وجدت لنقلت إلينا بالتواتر و لعرفه النصارى و هم أشدّ الناس بحثا و غلوّا في عيسى.

فالجواب أوّلا أنّ عدم الوجدان عند نقلهم و أخبارهم لا يستلزم عدم الوجود و العقل يحكم على أنّه تكلّم فإنّه لو لا كلامه الّذي دلّهم على براءة امّه من الزنا لما تركوا في ذلك الزمان إقامة الحدّ على امّه و لما سكتوا عن مثل هذا الأمر الفظيع و لما استسلموا الأمر لمريم و ما عظّموها هذا التعظيم الوافر بحيث يعرفون لها بالتثليث، و القرآن مصرّح ناطق بنطقه و الإجماع من قاطبة المسلمين، و السنّة مشحونة بهذا الأمر ثمّ إنّه يمكن أن كان الحاضرون حينئذ عند كلام عيسى قليلين و غالط اليهود وقتئذ لعداوتهم و لذلك لم يشتهر عند النصارى و لم يبلغ إلى حدّ التواتر فانقطع الخبر عن الطبقات كما حصل مثل هذا في قصّة شقّ القمر.

قوله تعالى: [ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ] أي ذلك الّذي قال هذه الكلمات و الموصوف بهذه الصفات الّتي منها إقراره بأنّي عبد اللّه، عيسى بن مريم و ولده هذه المرأة الموصوفة لا أنّه ابن اللّه و أنّ كلامه هذا لهو الحقّ المبين، أو المعنى

ص: 24


1- طه: 47.

أنّ نفس عيسى قول لأنّ الحقّ اسم اللّه فالمعنى أنّ عيسى كلمة اللّه و لا فرق بين الكلمة و بين القول في هذا المقام.

و هذا البيان لأجل شبهات النصارى حيث بعض أثبتوا الألوهيّة و بعض جعلوا فيه جزءا من الألوهيّة، و بعض اليهود إنّهم أضافوا إليه عليه السّلام أمورا قبيحة فهذا البيان ردّ لعقائدهم الفاسدة و هو معنى قوله: «الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» و يشكّون في حقيقته فكذّبهم اللّه بقوله:

[ما كانَ لِلَّهِ] اتّخاذ الولد و لا ينبغي له لأنّ الولد لا بدّ و أن يكون من جنس الوالد و مشابه و متشاكل له و اللّه تعالى ليس كمثله شي ء و قوله: [مِنْ وَلَدٍ] هذه أي كلمة «من» هذه هي الّتي تدلّ على نفي الواحد و الجماعة.

ثمّ بيّن سبحانه السبب في كون عيسى من غير أب فقال: السبب في تكوين عيسى لا يلزم أن يكون من أب بل السبب إذا قضى أمرا كان و لا يتعذّر عليه شي ء إذا أراد حصل بغير سببيّة الأبوّة بل يحصل بسببيّة الإرادة المحضة فقوله: «ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ» كقولنا: ما كان للّه أن يظلم أي لا يليق بإلهيّته و هو أمر ممتنع الحصول و بيان جهة امتناعه غير واحد و لا عشرة.

و احتجّ الأشاعرة بقوله: [إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] على قدم كلام اللّه قالوا: لأنّ الآية تدلّ على أنّه إذا أراد إحداث شي ء «قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فلو كان قوله: «كن» محدثا لافتقر حدوثه إلى قول آخر و لزم التسلسل و كأنّه خلق مخلوق مخلوقا.

و أجاب المعتزلة بالآية على حدوث الكلام من وجوه:

أحدها أنّه أدخل عليه كلمة «إذا» و هذه الكلمة دالّة على الاستقبال فوجب أن لا يحصل القول إلّا في الاستقبال و هذا هو الحدوث.

و الثاني: الفاء في الكلام للتعقيب و الفاء في قوله: «فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ» يدلّ على تأخّر ذلك القول عن القضاء و المتأخّر عن غيره محدث.

و الثالث الفاء في قوله: «فيكون» يدلّ على حصول ذلك الشي ء عقيب ذلك

ص: 25

القول من غير فصل فيكون قول اللّه متقدّما على حدوث الحادث تقدّما بلا فصل و المتقدّم على المحدث تقدّما بلا فصل يكون محدثا فقول اللّه محدث.

و بالجملة قال الرازيّ: فقوله: «كُنْ فَيَكُونُ» من الناس من أجرى الآية على ظاهرها فزعم أنّه تعالى إذا أحدث شيئا قال له: «كن» و هذا ضعيف لأنّه إمّا أن يقول له «كن» قبل حدوثه أو حال حدوثه فإن كان قبل حدوثه كان ذلك خطابا مع المعدوم و هو عبث و إن كان الثاني فهو حال حدوثه قد وجد بالقدرة و الإرادة فأيّ تأثير لقوله:

«كن» و قال آخرون: «كن» عبارة عن نفاذ قدرة اللّه و مشيّته في الممكنات فإنّ وقوعها بتلك القدرة و الإرادة يجري مجرى العبد المسخّر المطيع لمولاه فعبّر اللّه عن ذلك المعنى بهذه العبارة على سبيل الاستعارة.

و هاهنا بيان مختصر للرازيّ في أقوال النصارى فاعلم أنّ مذهب النصارى متخبّط جدّا.

روي أنّ عيسى عليه السّلام لمّا رفع إلى السماء بعد أن صلبوه بزعمهم حضر أربعة من أكابر علمائهم فقيل للأوّل: ما تقول في عيسى؟ فقال: هو إله و اللّه إله و امّه إله فتابعه على ذلك جملة من الناس و هم الإسرائيليّة أهل التثليث. و قال العالم الثاني: هو اللّه و هم اليعقوبيّة. و قال الثالث: هو ابن اللّه و هم النسطوريّة. و قال الرابع: هو عبد اللّه و هم المسلمون منهم. و أظنّ أنّ الّذين نسبوا الابنيّة تشريفا لا حقيقة هم النسطوريّة ثمّ قالوا: بالابنيّة حقيقة بجهلهم بعد مدّة قليلة.

و قد اتّفقوا على أنّه سبحانه ليس بجسم و لا متحيّز و مع ذلك فإنّا نذكر تقسيما حاصرا يبطل مذهبهم لأنّهم إمّا أن يعتقدوا كونه متحيّزا أولا فإن اعتقدوا كونه متحيّزا فيفسد قولهم حدوث الأجسام و حينئذ يبطل كلّ ما فرّعوا عليه و إن اعتقدوا أنّه ليس بمتحيّز فحينئذ يبطل ما يقوله بعضهم من أنّ الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر و إسراج النار بالفحم و ذلك لا يعقل إلّا في الأجسام فإذا لم يكن جسما استحال ذلك، و من النصارى قالت: عيسى ابن اللّه و هم النسطوريّة و منهم قالت:

هو اللّه هبط إلى الأرض ثمّ صعد إلى السماء و هم اليعقوبيّة و منهم الملكانيّة هو عبد اللّه

ص: 26

و نبيّه معتقدهم.

ثمّ للناس في الإنسان قولان: منهم من يقول: هو هذه البنية أو جسم موجود في داخلها، و منهم من يقول: إنّه جوهر مجرّد عن الجسميّة و الحلول يكون في الأجسام.

فنقول: هؤلاء النصارى إمّا أن يعتقدوا أنّ اللّه أو صفة من صفاته اتّحد ببدن المسيح أو بنفسه أو يعتقدوا أنّ اللّه أو صفة من صفاته حلّ في بدن المسيح أو في نفسه أو يقولوا: لا نقول بالاتّحاد و لا بالحلول و لكن إنّه تعالى أعطاه القدرة على خلق الحياة و الأجسام و القدرة و كان لهذا السبب إلها، أو لا يقولوا بشي ء من ذلك و لكن قالوا: إنّه على سبيل التشريف اتّخذه ابنا كما اتّخذ إبراهيم على سبيل التشريف خليلا.

فهذه الوجوه المنقولة في هذا الباب و الكلّ باطل:

أمّا القول الأوّل بالاتّحاد فهو باطل قطعا لأنّ الشيئين إذا اتّحدا فهما حال الاتّحاد إمّا أن يكونا موجودين أو معدومين أو يكون أحدهما موجودا و الآخر معدوما فإن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فالاتّحاد باطل و إن عدما و حصل ثالث فهو أيضا لا يكون اتّحادا بل يكون قولا بعدم ذينك الشيئين و حصول شي ء ثالث و إن بقي أحدهما و عدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتّحد بالموجود لأنّه يستحيل أن يقال:

المعدوم بعينه هو الموجود فظهر من هذا البرهان الباهر أنّ الاتّحاد محال.

و أمّا الحلول ففيه مقامان فلا بدّ من البحث عن ماهيّة الحلول حتّى يمكننا أن نعلم أنّه هل يصحّ على اللّه أولا يصحّ فذكروا للحلول تفسيرات ثلاثة:

أحدها: كون الشي ء في غيره ككون ماء الورد في الورد و الدهن في السمسم و النار في الفحم؛ و اعلم أنّ هذا باطل لأنّ هذا إنّما يصحّ لو كان اللّه جسما و هم وافقونا على أنّه ليس بجسم.

و ثانيها: حصوله في شي ء على مثال حصول اللون في الجسم فنقول: المعقول من هذه التبعيّة حصول اللون الّذي هو تابع لذلك الحيّز لحصول محلّه فيه و هذا القسم إنّما يعقل في الأجسام لا في حقّ اللّه.

و ثالثها: حصوله في الشي ء على مثال حصول الصفات الإضافيّة للذوات و هذا

ص: 27

أيضا باطل لأنّ المعقول من هذه التبعيّة الاحتياج فلو كان سبحانه حلّ في شي ء بهذا المعنى لكان محتاجا و مفتقرا إلى المؤثّر و ذلك محال و لا يتصوّر من الحلول غير هذه الأقسام الثلاثة.

ثمّ احتجّ الأصحاب في المقام الثاني على نفي الحلول مطلقا بطريق آخر بأن قالوا:

لو حلّ سبحانه لحلّ إمّا مع وجوب أن يحلّ أو مع جواز أن يحلّ و القسمان باطلان لأنّه مع فرض وجوب أن يحلّ يقتضي إمّا حدوث اللّه أو قدم المحلّ و كلاهما باطلان لأنّا دلّلنا على أنّ اللّه قديم و الجسم محدث.

ثمّ أنّه لو كان حلوله واجبا لكان محتاجا إلى المحلّ و المحتاج إلى الغير ممكن لذاته و الممكن لا يكون واجبا و لو قلنا بجواز أن يحلّ و ذلك أيضا لا يجوز لأنّه لمّا كانت ذاته واجبة الوجود لذاتها و حلوله في المحلّ أمر جائز و الموصوف بالوجوب غير ما هو موصوف بالجواز فيلزم أن يكون حلوله في المحلّ أمرا زائدا على ذاته.

و ذلك محال لوجهين و بيان الوجهين أعرضنا عن تفصيله و من أراد فليراجع المفاتيح للرازيّ في تفسير الآية.

و ذكروا في إبطال قول النصارى وجوها أخر: أحدها أنّهم وافقونا على أنّ ذاته سبحانه لم تحلّ في ناسوت عيسى عليه السّلام بل قالوا: الكلمة حلّت فيه و المراد من الكلمة العلم، فنقول: العلم لمّا حلّ في عيسى ففي تلك الحالة إمّا أن يقال: إنّه بقي في ذات اللّه أو ما بقي فيها فإن كان الأوّل لزم حصول الصفة الواحدة في محلّين و ذلك غير معقول و إن كان الثاني لزم أن يقال: إنّ اللّه لم يبق عالما بعد حلول علمه و ذلك ممّا لا يقوله عاقل.

قال الرازيّ: و قد جرت مناظرة بيني و بين بعض النصارى فقلت له: هل تسلّم أنّ عدم الدليل لا يدلّ على عدم المدلول أم لا فإن أنكرت لزمك أن لا يكون اللّه قديما لأنّ دليل وجوده هذا العالم فإذا لزم من عدم الدليل عدم المدلول لزم من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل و إن سلّمت أنّه لا يلزم و من عدم الدليل عدم المدلول فنقول: إذا جوّزت اتّحاد اللّه بعيسى أو حلولها فيه فكيف عرفت أنّ كلمة اللّه ما حلّت

ص: 28

في زيد و عمر بل ما حلّت في هذه الهرّة.

فقال النصرانيّ: إنّ هذا الكلام لا يليق بك لأنّا أثبتنا ذلك الاتّحاد و الحلول بناء على ما ظهر على يد عيسى من إحياء الأموات و إبراء الأكمه و الأبرص فإذا لم نجد شيئا من هذه الآيات على يد غيره فكيف نثبت الاتّحاد أو الحلول؟

فقلت له: قد عرفت أنّك ما عرفت أوّل الكلام لأنّك سلّمت لي أن عدم الدليل لا يدلّ على عدم المدلول فإذا كان هذا الحلول غير ممتنع في الجملة فأكثر ما في الباب أنّه وجد ما يدلّ على حصوله في حقّ عيسى و لم يوجد ذلك الدليل في حقّ زيد و عمر و السنّور و لكن عدم الدليل لا يدلّ على عدم المدلول و لا يلزم من عدم ظهور هذه الخوارق على يد زيد و الهرّة عدم ذلك الحلول فثبت أنّك مهما جوّزت القول بالاتّحاد و الحلول لزمك تجويز حصولهما في حقّ كلّ واحد منهم بل في حقّ كلّ حيوان و نبات و المذهب الّذي يسوق قائله إلى هذا القول الركيك يكون باطلا قطعا.

ثمّ قلت له: و كيف دلّ إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص على ما قلت؟ أليس انقلاب العصا ثعبانا أبعد من انقلاب الميّت حيّا؟ فإذا ظهر ذلك على يد موسى و لم يدلّ على إلهيّته فبأن لا يدلّ هذا على إلهيّة عيسى أولى.

ثمّ تحقيق آخر هاهنا و هو أنّا نقول: دلالة أحوال عيسى على العبوديّة أقوى من دلالتها على الربوبيّة لأنّه كان مجتهدا في العبادة و العبادة لا تليق إلّا بالعبيد و أنّه كان عليه السّلام في نهاية البعد عن الدنيا و في نهاية الوحشة عنها حتّى زعمت النصارى أنّ اليهود قتلوه و من كان في الضعف هكذا فكيف يليق به الربوبيّة؟

ثمّ أيّها الّذي تدّعي لعيسى الربوبيّة هل المسيح قديم أو حادث و القول بقدمه باطل بالضرورة لأنّا نعلم أنّه ولد و كان طفلا ثمّ صار شابّا و كان يأكل و يشرب و يعرض له ما يعرض البشر و إن كان محدثا كان مخلوقا و لا معنى للعبوديّة إلّا ذلك.

فإن قيل: المعنيّ بإلهيّته أنّه حلّت صفة الإلهيّة فيه.

قلنا: هب إنّه كان كذلك لكنّ الحالّ هو صفة الإله و المسيح هو المحلّ و المحلّ مخلوق محدث و المحلّ غير الحال فمن أين له الربوبيّة، النهاية أنّ اللّه منحه بصفة يجري

ص: 29

على يده بقدرة اللّه و هذا الأمر سار و جار في سائر الأنبياء الأكمل فالأكمل على قدر درجاتهم بل في الأولياء أين التراب و ربّ الأرباب؟

الخامس أنّ الولد لا بدّ و أن يكون من جنس الوالد فإن كان للّه ولد فلا بدّ أن يكون من جنسه فإذا اشتركا في بعض الوجوه فإن لم يتميّز أحدهما عن الآخر بأمر مّا فكلّ واحد منهما هو الآخر و إن حصل الامتياز فما به الامتياز غير ما به الاشتراك فلزم وقوع التركيب في ذات اللّه و كلّ مركب من ممكن فالواجب ممكن و هذا خلف محال.

هذا كلّه على الحلول و الاتّحاد. أمّا الاحتمال الآخر و هو أن يقال: معنى كون عيسى إلها أنّ اللّه خصّ نفس عيسى و بدنه بالقدرة على خلق الأجسام و فعل ما يريد و التصرّف في هذا العالم و المراد من الألوهيّة هذا المعنى.

قلنا: هذا أيضا باطل لأنّه لو كان قادرا على التصرّف في هذا العالم مطلقا أو كان قادرا على خلق الأجسام لما قدر اليهود على صلبه و كان يذبّ عن نفسه و يخلق لنفسه عسكرا و يعارضهم. بقي احتمال آخر و هو أنّه سبحانه اتّخذه ابنا لنفسه على سبيل التشريف كما قاله قوم من النصارى يقال لهم: الارميوسيّة، و هذا القول و لو كان فيه خطاء إلّا أنّه ليس فيه خطاء كثير لكنّه قول قبيح و سوء أدب في اللفظ.

فهذا جملة الكلام على النصارى و بهذا البيان ثبت قوله: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ».

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 36 الى 40]

وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)

قرئ إنّ بكسر الهمزة و الواو عطف على قول عيسى. تقدير الآية: قال: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ و إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ» كأنّه أخبر قومه عن بعثه و مولده و وصف ربّه بقوله: «إِنَّ اللَّهَ رَبِّي» و يجوز أن يكون إنّ مفتوحة عطفا على قوله:

ص: 30

«وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ» و أوصاني بأن لا تعبد و أغير ربّكم لأنّ اللّه ربّي و ربّكم، و يجوز أن يكون ابتداء كلام من اللّه أمر نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يقول لهم:

[إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ] و هذا الكلام يدلّ على أنّ مدبّر الناس و مصلح امور هم هو اللّه خلاف قول المنجّمين حيث يقولون: إنّ مدبّر الناس و مصلح أمورهم في السعادة و الشقاوة هي الكواكب و يدلّ على أنّ الإله واحد لأنّ لفظ «اللّه» اسم علم له سبحانه.

أمّا قوله: «فَاعْبُدُوهُ» فقد ثبت في اصول الفقه أنّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلّيّة أي مشعر بعلّيّة ذلك الوصف للحكم فههنا الأمر بالعبادة وقع مرتّبا على ذكر وصف ذات متّصف بصفة الربوبيّة فدلّ على أنّه إنّما تلزمنا عبادته لكونه ربّا لنا و منعما على الخلايق بأصول النعم و فروعها.

قوله: [هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ] يعني القول بالتوحيد و نفي الولد و الصاحبة و التثليث و التشريك طريق مستقيم لا اعوجاج فيه و مؤدّ إلى الحقّ و الجنّة إن شاء اللّه.

[فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ] أي تحزّبوا أهل الكتاب، و الحزب المنقطع في رأيه عن غيره فصاروا حزبا حزبا كما ذكرنا من اختلاف علمائهم من اليعقوبيّة و النسطوريّة و المثلّثة و غيرهم و إنّما قال سبحانه: [مِنْ بَيْنِهِمْ] لأنّ منهم من ثبت على طريق الحقّ و قيل: «من» زائدة.

[فَوَيْلٌ] أي فشدّة عذاب و هي كلمة وعيد [لِلَّذِينَ كَفَرُوا] بقولهم الباطل [مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ] أي حضورهم ذلك اليوم العظيم و هو يوم القيامة لشدّة أهو اله و عظم خوفه.

[أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا] و كلمة «بهم» جارّ و مجرور في موضع رفع و فاعل أسمع أي ما أبصرهم و أسمعهم يوم القيامة و إن كانوا في الدنيا صمّا و بكما و التقدير هؤلاء الكفار صاروا ذوي سمع و بصر غاية و للتعجّب صيغتان: ما أفعله و أفعل به و التعجّب من اللّه غير واقع معناه أن هذا الأمر لو صدر من الخلق لكان في موضع العجب كثيرا و بهذا

ص: 31

المعنى يضاف إليه المكر و الاستهزاء و ما لا يليق إلى اللّه.

قوله: [لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ] في الدنيا جاهلون و في الآخرة عارفون حيث لا ينفعهم معرفتهم هذا على أن يكون «أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ» كلمة التعجّب و على قول:

الأمر أي اسمع الناس يا محمّد بهولاء الأنبياء و بيّن لهم فيعرفوهم فيؤمنوا بهم و لا يضلّوا و القول الأوّل أوجه و أظهر.

[وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ] الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله أي خوّف يا محمّد كفّار مكّة يوم يتحسّر المسي ء هلّا أحسن العمل؟ و المحسن هلّا ازداد العمل؟ و هو يوم القيامة و روى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا دخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار قيل: يا أهل الجنّة فيشرفون و ينظرون فيجاء بالموت كأنّه كبش أملح فيقال لهم: أ تعرفون فيقولون: هذا هذا و كلّ قد عرفه قال: فيقدّم فيذبح ثمّ يقال: يا أهل الجنّة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت قال: و ذلك قوله: «وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ» و رواه أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام ثمّ جاء في آخر الحديث فيفرّح أهل الجنه فرحا لو كان أحد يومئذ ميّتا لماتوا فرحا و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميّتا لماتوا.

[إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ] و انقطعت الآمال و ادخل قوم النار و قوم الجنّة و قيل: حكم بين الخلايق معناه أي قضي على أهل الجنّة الخلود و قضي على أهل النار بالخلود [وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ] في الدنيا عن ذلك و مشغولون اليوم بما لا يغنيهم و لا يصدّقون بذلك.

ثمّ أخبر سبحانه عن نفسه فقال: [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها] أي نميت سكّانها و نرثها و من عليها من العقلاء يعني نميت من يعقل و من لا يعقل و نهلك الجميع فلا يبقي فيها مالك و متصرّف [وَ إِلَيْنا] يردّون بعد الموت إلى حيث لا يملك الأمر و النهي غيرنا.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 41 الى 50]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)

قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

ص: 32

النظم: هذه هي القصّة الثالثة بعد قصّة زكريّا و عيسى و الغرض بيان التوحيد و النبوّة و الحشر.

و أعلم أنّ المشركين فريقان فمنهم من أثبت معبودا سوى اللّه حيّا عاقلا فاهما و هم النصارى و منهم من أثبت معبودا غير اللّه جمادا ليس بحيّ و لا عاقل و لا فاهم و هم عبدة الأوثان. و الفريقان و إن اشتركا في الضلال إلّا أنّ ضلال فريق الثاني أعظم و أقبح فلمّا بيّن تعالى الفريق الأوّل بيّن ضلال فريق الثاني و هم عبدة الأوثان فقال:

[وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ] و الواو عطف على قوله «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» أي بعد ذكر حال زكريّا و عيسى فاذكر حال إبراهيم و إنّما أمر بذكره لأنّه عليه السّلام ما كان هو و قومه و لا أهل بلدته مشتغلين بمطالعة الكتب فإذا أخبر عن هذه القصّة من غير زيادة و نقصان كان ذلك إخبارا عن الغيب و معجزا قاهرا على نبوّته.

و لأنّه كان إبراهيم أب العرب فكأنّه قال: إن كنتم مقلّدين لآبائكم على قولكم «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» (1) فأشرف آبائكم و أجلّهم إبراهيم فقلّدوه أيضا في ترك عبادة الأوثان فإن كنتم من المستدلّين فانظروا في هذه الدلائل الّتي ذكرها إبراهيم لتعرفوا فساد عبادتكم و إمّا تقليدا له لأنّ كثيرا من قومه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في زمانه كانوا يقولون: كيف نترك دين آبائنا و أجدادنا.

ص: 33


1- الزخرف: 23.

أو المراد أنّكم اتركوا التقليد على قولكم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ»* (1) و قالوا: «وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» فحكى اللّه سبحانه عن إبراهيم هذه الطريقة الاستدلاليّة تنبيها لهم على سقوط طريقتهم و حثّا على طريقة الاستدلال مثل إبراهيم.

قوله: [إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا] و الصدّيق الكثير الصدق و الّذي عادته الصدق أو الّذي يكون كثير التصديق بالحقّ حتّى يصير مشهورا به فيرجع أيضا إلى المعنى الأوّل.

«نبيّا» أي عليما برسالة اللّه تعالى. و ظهر لك مرتبة الصدق حيث اقترن بالذكر مع النبوّة.

و وقعت جملة «إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا» معترضة بين «إبراهيم» و بين كلمة:

[إِذْ قالَ] نظير قولك: رأيت زيدا و نعم الرجل أخاك [يا أَبَتِ] و التاء عوض عن ياء الإضافه و لا يقال: يا أبتي لأنّه لا يجمع بين العوض و المعوّض عنه و كذلك الهاء في يا «أبه» عوض عن ياء المتكلّم و لكن في النداء كذلك و لا يقال: أبتي بغير حرف النداء بل يقال: أبي و قد يقال: يا أبتا.

و بالجملة اذكر إذ قال إبراهيم: يا أبي [لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ] دعاء من يدعوه [وَ لا يُبْصِرُ] من يتقرّب إليه و يعبده [وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً] من امور الدنيا من نفع أو ضرّ.

[يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ] و المعرفة [ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي] على ذلك و اقتد بي فيه و إنّ هذا الّذي تعبده لا يحسّ و لا يعقل و أنت إنسان و تعقل و تبصر و أشرف فكيف يليق بالأشرف أن يعبد الأخسّ؟ فاتّبع علمي و نظري [أَهْدِكَ صِراطاً] مستويا من غير اعوجاج مستقيم.

[يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ] و لا تطعه فيما يدعوك إليه لأنّك إذا أطعت الشيطان فتكون بمنزلة من عبده، و من هذا البيان تبيّن حال مطيعي الشيطان لأنّه لا شبهة أنّ الكافر لا يعبد الشيطان بل هو أيضا يلعنه و لكن من أطاع شيئا فقد عبده [إِنَّ الشَّيْطانَ] لا ينبغي أن يطاع لأنّه [كانَ لِلرَّحْمنِ] عاصيا.

ص: 34


1- الزخرف: 22.

ثمّ إنّ من المعلوم أنّ عمّ إبراهيم الّذي عبّر بالأب للإطلاق ما كان يعتقد أنّ تلك الأوثان آلهة بمعنى أنّها خالقة قادرة مختارة موجدة للناس و الحيوانات لأنّه كان عاقلا لأنّ العلم بأنّ هذا الخشب المنحوت في ساعته لا يمكن أن يكون خالقا للسماوات و الأرض و المجنون لا يزعم هذا الأمر الفاسد فضلا عن العاقل فلو كان كذلك لا يجوز إيراد الحجّة عليه و المناظرة معه بل كان يعتقد أنّها تماثيل الكواكب و الكواكب هي الآلهة المدبّرة لهذا العالم فتعظيم تماثيل الكواكب بموجب تعظيم الكواكب.

أو كان يعتقد أنّ هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظّمة عند اللّه من البشر فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند اللّه.

أو كان يعتقد أنّ تلك الأوثان طلسمات ركّبت بحسب اتّصالات مخصوصة للكواكب قلّما يتّفق مثلها و إنّها بسبب تلك الاتّصالات و التركيبات شفع لها و تنجح أمورهم بسببها و هذه جملة عقائد أهل الأصنام و الأوثان فلذلك أورد إبراهيم عليه السّلام حجّته بهذا الطريق فقال: أما إنّها لا تسمع و لا تبصر و لا تنفع و لا تضرّ فلا تحسن عبادتها.

و خوّفه و قال: [يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ] من جهة اللّه أن تبقى على كفرك و شركك فتكون موكولا إلى الشيطان و وليّه و هو لا يغنيك عن عذاب اللّه و تلحق به و اللاحق هو الّذي يلي الشي ء فتكون له قرينا في النار و لم يقل: فيكون الشيطان وليّك؛ لأنّه أبلغ في الفضيحة و هذا الخطاب من إبراهيم إليه لإطلاق الجدّ و العمّ على الأب و أنّه كان عمّه أو جدّه لأمّه و أنّ أباه الّذي ولده كان اسمه تارخ لإجماع الطائفة على أنّ آباء نبيّنا إلى آدم كلّهم مسلمون موحّدون و لما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:

لم يزل ينقلني اللّه من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتّى أخرجني في عالمكم.

و الكافر غير موصوف بالطهارة لقوله: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (1).

و الحاصل [قال] آزر مجيبا لإبراهيم حين دعاه إلى الإسلام: [أَ راغِبٌ أَنْتَ] و معرض [عَنْ] عبادة [آلِهَتِي] الّتي هي الأصنام و تارك لها [لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ] و تمتنع عن هذا

ص: 35


1- البراءة: 29.

الأمر [لَأَرْجُمَنَّكَ] بالحجارة و قيل: لأرمينّك بالذنب و العيب و الشتم، و قيل: معناه لأقتلنّك.

فانظر أيّها الإنسان كيف راعى إبراهيم قضاء حقّ القرابة و الإرشاد إلى الدين الّذي من أعظم أنواع الإحسان و أورد كلامه باللطف و مراعاة حسن الأدب، و ما أورد معروفه بالخشونة و الغلظة حتّى يصير ذلك سببا لإعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعيا في الإغواء؛ فقد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أوحى اللّه إلى إبراهيم أنّك خليلي فحسّن خلقك و لو مع الكفّار تدخل مداخل الأبرار فإنّ كلمتي سبقت لمن حسّن خلقه أن اظلّه تحت عرشي و أن اسكنه حظيرة قدسي و ادنيه من جواري.

ثمّ بعد أن هدّد آزر إبراهيم بالرجم قال: إن بقيت بقربي و ما بعدت عنّي لأرجمنّك [وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا] أي دهرا طويلا أو سليما سويّا عن عقوبتي، و أتى على فلان ملاوة من الدهر أي زمان بعيد.

[قالَ] إبراهيم: [سَلامٌ عَلَيْكَ] سلام توديع و هجر و متاركة و هذا مصداق قوله تعالى: «وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» (1) و يمكن أن يكون: دعا له بالسلامة استمالة له ألا ترى أنّه وعده بالاستغفار و قال: [سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي].

و احتجّ الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية و تقريره قالوا: إنّ إبراهيم عليه السّلام فعل ما لا يجوز لأنّه استغفر له و هو كافر و الاستغفار للكافر لا يجوز و إنّه استغفر لأبيه لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي» و قوله: «وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» (2) و أمّا أنّه كافر فذاك بنصّ القرآن و بالإجماع و أمّا أنّ الاستغفار لا يجوز للكافر لقوله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» (3) و لقوله تعالى في سورة الممتحنة: «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ- إلى قوله- إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ» (4) فأمر الناس بالاقتداء به إلّا في هذا الفعل فهذا فعل منهيّ عنه.

ص: 36


1- هود: 69.
2- الشعراء: 86.
3- البراءة: 114.
4- الممتحنة: 4.

و الجواب أنّ القطع على أنّ اللّه يعذّب الكافر لا يعرف إلّا بالسمع فلعلّ إبراهيم ما كان في شرعه ما يدلّ على القطع بعذاب الكافر.

أو أنّ الاستغفار قد يكون بمعنى الاستماحة كما في قوله: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» (1) و على هذا المعنى قال إبراهيم: سأسأل ربّي أن لا يخزيك بكفرك مادمت حيّا بعذاب الدنيا المعجّل.

الثالث أنّه عليه السّلام إنّما استغفر له لأنّه عليه السّلام كان يرجو منه الإيمان فلمّا أيس منه ترك الاستغفار و لعلّ في شرعه جواز الاستغفار للمرجوّ منه الإيمان و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (2) فبيّن سبحانه أنّ المنع من الاستغفار إنّما يحصل بعد أن يعرفوا أنّهم من أصحاب الجحيم ثمّ قال: بعد ذلك «وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (3) فدلّت الآية على أنّه وعده بالاستغفار لو آمن فلمّا لم يؤمن لم يستغفر له بل تبرّأ منه و المنع من التأسّي به في ذلك لا يدلّ على أنّ ذلك كان منه معصية.

قوله: [إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا] من بقيّة كلام إبراهيم أي إنّ ربّي كان بارّا لطيفا رحيما و عوّدني بإحسانه و مكرما لي و بما أبتغيه لعلّه يهديك.

[وَ أَعْتَزِلُكُمْ] و أتنحّى منكم جانبا [وَ] عبادة [ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] من الأصنام و أعبد [رَبِّي] و أدعوه [عَسى] و قريب [أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي] و دعوته [شَقِيًّا] محروما كما شقيتم بعبادة الأصنام و إنّما ذكر «عسى» على وجه الخضوع أو المعنى: لعلّه يقبل طاعتي و عبادتي و لا أشقي بالردّ فإنّ المؤمن بين الخوف و الرجاء.

قوله: [فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا] و فارقهم من أرض بابل و هاجرهم إلى الأرض المقدسة، قيل:

إنّه عليه السّلام لمّا قصد الشام أتى أوّلا حرّان و تزوّج بسارة و اختار الهجرة إلى ربّه حيث

ص: 37


1- الجاثية: 13.
2- البراءة: 114.
3- «: 115.

أمره اللّه لم يضرّه ذلك دينا و دنيا بل نفعه فعوّضه أولادا أنبياء و ليس حالة للبشر أرفع من أن يجعل له رسولا إلى خلقه و يلزم الخلق إلى طاعته و الانقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مع ذلك لهم من رحمته مع النبوّة وهب له ما وهب من المال و الجاه و الأتباع و النسل الطاهر و الذّرّيّة الطيّبة كيف لا و قد حصل من الذّرّيّة له من خلق اللّه العرش بسبب وجوده و هو أحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ قال: [وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا] و استجاب اللّه دعوته حيث قال: «وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» (1) فصيّره قدوة للعالم كلّه حيث قال عزّ و جلّ «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» (2) و قوله: «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» (3) و فدى ابنه بذبح عظيم و أسلم نفسه عليه السّلام للّه حيث قال: «أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (4) فجعل اللّه تعالى النار عليه بردا و سلاما فقال: «قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» (5) و أشركه اللّه في الصلوات الخمس حيث تقول هذه الامّة: كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم، و جعل موطأ قدميه مباركا حيث يقول اللّه عزّ و جلّ: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» (6) و عادى كلّ الخلق في اللّه فقال: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» (7) لا جرم اتّخذه اللّه خليلا حيث قال عزّ و جلّ: «وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» (8).

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 51 الى 55]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)

ص: 38


1- الشعراء: 84.
2- الحج: 78.
3- النحل: 122.
4- البقرة: 131.
5- الأنبياء: 69.
6- البقرة: 125.
7- الشعراء: 77.
8- النساء: 124.

و اذكر يا محمّد في القرآن الّذي هو كتابك و كتاب الخلق إلى يوم القيامة موسى [إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً] بالقراءتين بفتح اللام و كسرها أي كان ذا خلوص أو أخلصه اللّه بالنبوّة و الرسالة إلى فرعون و قومه.

قيل: إنّ النبوّة و الرسالة و صفان مختلفان لكنّ المعتزلة يقولون: إنّها متلازمان و على كونهما و صفين مختلفين يكون النداء من جانب الطور تشريفا ثالثا لموسى حيث يقول: [وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ] أي من ناحية اليمين من الطور أو من موسى و رابعها قوله: [وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا] و المراد قرب المنزلة أي أسمعه كلامه و قيل: المراد قربه حتّى سمع صرير القلم الّذي كتبت به التوراة و على المعنيين المراد قرب الكرامة و الاصطفاء لا قرب المسافة و هو سبحانه لا يوصف بالحلول في مكان فيكون أحد أقرب إليه من حيث المكان من غيره.

و أنعمنا عليه بأخيه هارون و أشركناه في أمره و شددنا به أزره.

[وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ] الّذي هو القرآن [إِسْماعِيلَ] بن إبراهيم [إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ] إذا وعد بشي ء وفى به و لم يخلف و قد وصفه اللّه بهذا الخلق الشريف لأنّه روي عن ابن عبّاس أنّه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة و قيل: ثلاثة أيّام أو المعنى وعد من نفسه الصبر على الذبح حيث قال: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» (1) و سئل بعض العلماء عن الرجل يعد ميعادا إلى أيّ وقت ينتظره فقال: إن واعده نهارا فكلّ النهار و إن واعده ليلا فكلّ الليل.

[وَ كانَ] إسماعيل [رَسُولًا نَبِيًّا* وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ] فإن كان المراد بالصلاة و الزكاة المفروضتين فالمراد بالأهل هنا الامّة أجمع و إن حمل على الصلاة

ص: 39


1- الصافات: 102.

و الزكاة المندوبتين فالمراد أهله خاصّة و من كان في داره و قربه.

و قيل: إنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه و أنّ هذا هو إسماعيل بن حزقيل بعثه اللّه إلى قومه فسلخوا جلدة وجهه و فروة رأسه فخيّره اللّه فيما شاء من عذابهم فاستعفاه و رضي بثوابه و فوّض أمرهم إلى اللّه في العفو و العقاب رواه أبو عبد اللّه عليه السّلام ثمّ قال في آخر الحديث: أتاه ملك من ربّه يقرء السلام و يقول: اللّه قد رأى ما صنع بك و قد أمرني بطاعتك فأمرني بما شئت فقال إسماعيل: يكون لي بالحسين أسوة.

و بالجملة فالنبيّ مأمور بما امر به من طاعة ربّه أن يبلّغ إلى امّته و الصلاة و الزكاة من دعائم الدين النهاية أنّ الكيفيّة تختلف باختلاف الأمم و الأنبياء و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا كان مأمورا بأن يأمر أهله بالصلاة كما قال اللّه سبحانه: «وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها» (1) و لا بدّ أن يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال اللّه: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (2).

و الصلاة بآدابها و شرائطها من فوائدها أنّها تحقّق معنى العبوديّة و صورتها و تمنع المصلّي عن ارتكاب الفحشاء و المنكر و لذلك صارت عمود الدين.

و من آدابها الأذان و الإقامة قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّك إذا أذّنت و أقمت صلّى خلفك صفّان من الملائكة و إن أقمت و لم تؤذّن صلّى خلفك صفّ واحد. و عن محمّد بن مروان عن الصادق قال: المؤذّن يغفر له مدّ صوته، لعلّ المعنى أنّ أذانه يغفر له ذنوبا تملأ مدّ صوته و وقعت الذنوب في هذا المقدار من الفضاء في الأرض و يشهد له كلّ شي ء يسمعه و قال رسول اللّه في ذيل حديث: إنّه يأتي على الناس زمان يطرحون الأذان على ضعفائهم و تلك لحوم حرّمها اللّه على النار، و من أذّن سبع سنين احتسابا جاء يوم القيامة و لا ذنب له، و أوّل من يدخل الجنّة بلال.

قال شيخ الطائفة: و لا يجوز الأذان لشي ء من الصلوات قبل دخول وقتها و لا بأس أن يؤذّن و هو على غير وضوء و لا بأس للمؤذّن إذا أذّن قبل الفجر لأنّ ذلك ينفع الجيران لقيامهم إلى الصلاة لكنّ السنّة فإنّه ينادى مع طلوع الفجر و لا بأس على

ص: 40


1- طه: 132.
2- الشعراء: 214.

المؤذّن أن يتكلّم في الأذان إذا عرض له حاجة و لكن في الإقامة مع الاختيار فلا يجوز، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا با هارون الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلّم و لا تؤم بيدك و ليتمكّن في الإقامة كما يتمكّن في الصلاة فإنّه إذا أخذ في الاقامة فهو في صلاة و عن يونس الشيبانيّ عن الصادق عليه السّلام قلت: اؤذّن و أنا راكب فقال: نعم قلت: فأقيم و أنا راكب قال: لا، و في رواية اخرى عنه عليه السّلام يؤذّن الرجل و هو قاعد قال: نعم و لا يقيم إلّا و هو قائم.

قال الشيخ: و ليس على النساء أذان و لا إقامة بل يتشهّدن شهادتين و لو أذّنّ و أقمن لم يكنّ مأزورات بل مأجورات.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا أذّنت فلا تخفينّ صوتك فإنّ اللّه يأجرك مدّ صوتك.

و عن أبي عبد اللّه قال: طول مسجد رسول اللّه قامة فكان عليه السّلام يقول لبلال إذا دخل الوقت: اعل يا بلال فوق الجدار و ارفع صوتك بالأذان فإنّ اللّه و قد و كل بالأذان ريحا ترفعه إلى السماء فإنّ الملائكة إذا سمعوا الأذان من أهل الأرض قالوا: هذه أصوات امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتوحيد اللّه و يستغفرون لامّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى يفرغوا من تلك الصلاة.

و شكا هشام بن إبراهيم إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام سقمه و أنّه لا يولد له فأمره أن يرفع صوته بالأذان في منزله قال: ففعلت فأذهب اللّه سقمي و كثر ولدي.

قال محمّد بن راشد: و كنت دائم العلّة ما أنفكّ منها في نفسي و جماعة خدمتي فلمّا سمعت من هشام عملت به فأذهب اللّه عنّي و عن عيالي السقم.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من جلس ما بين أذان المغرب و الإقامة كان كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه.

و أمّا الصلاة فقد سئل الصادق عليه السّلام عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم فقال: لا أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من الصلاة و قال رسول اللّه: لا يزال الشيطان زعرا من أمر المؤمن هائبا له ما حافظ على الصلوات الخمس فإذا ضيّعهنّ اجترى عليه.

و عن أبي بصير عن عبد اللّه قال: صلاة فريضة خير من عشرين حجّة و حجّه

ص: 41

خير من بيت مملوء من ذهب يتصدّق منه حتّى يفنى.

قال رسول اللّه: إنّ عمود الدين الصلاة و هي أوّل ما ينظر فيه من عمل ابن آدم فإن صحّت نظر في عمله و إن لم يصحّ لم ينظر في بقيّة عمله.

قال رسول اللّه: انتظار الصلاة بعد الصلاة كنز من كنوز الجنّة.

و عن الصادق قال: من قبل اللّه منه صلاة واحدة لم يعذّبه و من قبل منه حسنة لم يعذّبه.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من صلاة يحضر وقتها إلّا نادى ملك بين يدي اللّه أيّها الناس قوموا إلى نيرانكم الّتي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم.

و عن زرارة عن الباقر عليه السّلام قال: بينا رسول اللّه جالس في المسجد إذ دخل عليه رجل فقام فصلّى فلم يتمّ ركوعه و لا سجوده فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نقر كنقر الغراب لئن مات هذا و هكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني. و في حديث آخر: إنّ اللّه لا يقبل إلّا الحسن فكيف يقبل ما استخفّ به.

و قال الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» (1) هي الفريضة و في قوله: «الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» (2) هي النافلة.

و من موانع قبول الصلاة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من تمثّل ببيت شعر من الخنا أي الفحش لم يقبل منه صلاة في ذلك اليوم و من تمثّل بالليل لم يقبل منه الصلاة تلك الليلة.

و عن يونس بن يعقوب قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: حجّة أفضل من الدنيا و ما فيها و صلاة فريضة أفضل من ألف حجّة.

و قال الصادق عليه السّلام: إنّ الموتور أهله و ماله من ضيّع صلاة العصر قيل له: و ما الموتور؟

قال: لا يكون له أهل و لا مال في الجنّة قيل: و ما تضييعها؟ قال: يدعها حتّى تصفرّ الشمس و تغيب.

ص: 42


1- المعارج: 34.
2- المعارج: 23.

و الصلاة بالجماعة تعدل بخمسة و عشرين صلاة.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من سمع النداء فلم يجبه من غير علّة فلا صلاة له.

و عن أبي عبد اللّه قال: إنّ أناسا كانوا على عهد رسول اللّه أبطئوا عن الصلاة في المسجد فقال رسول اللّه: ليوشك قوم يتركون الصلاة في المسجد أن آمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم.

و عن أصبغ بن نباته عن عليّ عليه السّلام قال: كان يقول: من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخا مستفادا في اللّه أو علما مستطرفا أو آية محكمة أو يسمع كلمة تدلّه على هدى أو رحمة منتظرة أو كلمة تردّه عن ردى أو يترك ذنبا خشية أو حياء.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الاتّكاء في المسجد رهبانيّة العرب المؤمن مجلسه مسجده و صومعته بيته.

قال أبو عبد اللّه: من مشى إلى مسجد لم يضع رجلا على رطب و لا يابس إلّا سبّحت له الأرض إلى الأرضين السابعة.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من كان القرآن حديثه و المسجد بيته بنى اللّه له بنيانا في الجنّة.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: تعاهدوا نعالكم عند أبواب مساجدكم.

قال الصادق عليه السّلام: من وقّر بنخامته المسجد لقى اللّه يوم القيامة ضاحكا قد اعطي كتابه بيمينه و من تنخّع في المسجد ثمّ ردّها في جوفه لم تمرّ بداء في جوفه إلّا أبرأته.

و عن حكم بن الأنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أسرج في مسجد من مساجد اللّه سراجا لم يزل الملائكة و حملة العرش يستغفرون له مادام في ذلك المسجد ضوء من ذلك السراج.

قوله: [وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ] و هي واجبة في تسعة أشياء: الذهب و الفضّة و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الإبل و البقر و الغنم السائمة.

أمّا الذهب إذا بلغ في الوزن عشرين مثقالا بشرط أن يكون مضروبا ففيها نصف مثقال و ليس فيما دون العشرين شي ء.

و أمّا الفضّة إذا بلغت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم و ليس فيما دون المائتين، ليس

ص: 43

فيها حتّى تبلغ الأربعين و في الأربعين درهم و ليس في شي ء من المكسور شي ء و كذلك الدنانير بعد نصاب الأوّل ليس شي ء إلّا إذا بلغ أربعة و عشرين ثمّ على هذا الحساب.

و الذهب و الفضّة الّتي لا يعمل به و لا يقلّب في التجارة إذا كان مضروبا و حبس تلزمها الزكاة في كلّ سنة إلّا أن يسبك و ما كان منهما ركازا و عليه الحول فعليه الزكاة و لا زكاة على الحليّ و إن بلغ مائة ألف و زكاته أن يعار إلّا ما فرّ به من الزكاة إذا جعله حليّا بعد حلول وقت الزكاة عليه و أمّا إذا جعله حليّا في أوّل السنة أو قبل أن يحول الحول فالظاهر أنّه ليس عليه شي ء إذا لم يقصد الفرار.

و أمّا زكاة الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب إذا بلغت بخمسة أوساق وجبت فيها الزكاة و الوسق ستّون صاعا فذلك ثلاثمائة صاع فحينئذ عليه العشر إذا اشرب بالسيح و المطر و أمّا إذا يشرب بالدوالي و أمثالها فنصف العشر و يجب إخراج الخمس بعد إخراج الزكاة ما فضل منها بعد مؤونة السنة أيضا.

و أمّا زكاة الإبل قال الشيخ: و ليس فيما دون الخمسة من الإبل شي ء فإذا بلغت خمسا ففيها شاة ثمّ إلى عشره ففيها شاتان ثمّ إلى خمسة عشر ففيها ثلاث من الغنم و إلى عشرين ففيها أربع من الغنم ثمّ إلى خمس و عشرين ففيها خمس من الغنم فإذا زادت واحدة من خمس و عشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس و ثلاثين و إذا لم تكن ابنة مخاض فابن لبون فإذا زادت واحدة على خمس و ثلاثين ففيها ابنة لبون إلى خمس و أربعين و المراد من ابنة مخاض أي ما من شأنها أن تحمل و هي ما دخلت في السنة الثانية و المراد من بنت لبون أي ذات لبن و لو بالصلاحية و هي الّتي سنّها سنتان إلى ثلاث ثمّ نصاب الستّ و أربعين من الإبل حقّة بكسر الحاء و هي الّتي سنّها ثلاث سنين إلى أربع ثمّ إحدى و ستّون فجذعة بفتح الجيم و الذال سنّها أربع سنين إلى خمس ثمّ ستّ و ستّون فبنتا لبون ثمّ إحدى و تسعون ففيها حقّتان ثمّ إذا بلغت مائة و إحدى و عشرين ففي كلّ خمسين حقّة و كلّ أربعين بنت لبون قال الشهيد: و لو لم يطابق أحدهما يجزي أقلّهما عفوا و أمّا البقر فلها نصابان ثلاثون فتبيع و هو ابن سنة إلى سنين أو تبيعة يجز في ذلك و أربعون فمسنّة أنثى سنّها سنتين إلى ثلاث و هكذا أبدا يعتبر بالمطابق من العددين.

ص: 44

و أمّا الغنم لها خمسة نصب: أربعون فشاة ثمّ مائة و إحدى و عشرون فشاتان ثمّ مائتان و واحدة فثلاث شياة ثمّ ثلاث مائة و واحدة فأربع على الأقوى ثمّ إذا بلغت أربعمائة فصاعدا ففي كلّ مائة شاة و يشترط فيها الحول و السوم، و السخال و الأولاد إذا بلغت النصاب و بلغت حولا بإنفرادها من دون أن يتبعن امّهاتهنّ أيضا يجب الزكاة و ابتداء حول السخال و الأولاد غناؤها بالرعي و لو ثلم النصاب قبل تمام الحول فلا شي ء و يجزي في الشاة الواجبة في الإبل و الغنم من الضأن ما كمل سنّه سبعة أشهر و من المعز ما كمل سنّه سنة و لا يكفي إعطاء الشاة النفساء إلى خمسة عشر يوما عوضا عن الزكاة و إن رضي المالك و لا المعيبة و لا المريضة و لا الهرمة و ليس على الأكولة أي المعدّة للأكل زكاة و لا على فحل الضراب أيضا انتهى مبحث الصلاة و الزكاة.

رجعنا إلى التفسير؛ قوله تعالى: [وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ] قيل: كان يأمر أهله بصلاة الليل و صدقة النهار و كان إسماعيل عند ربّه بواسطة هذه الأعمال مرضيّا عند ربّه لأنّها كلّها طاعات فحصل له عند اللّه المنزلة العظيمة.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 56 الى 60]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)

ثمّ ذكر سبحانه حديث إدريس هو جدّ أبي نوح و اسمه أخنوخ سمّي إدريس لكثرة دراسته وصف اللّه بأنّه صدّيق و أنّه نبيّ و الوصف الثالث بأنّه رفيع المكانة أو المكان لأنّ اللّه رفع إلى السماء و إلى الجنّة و هو حيّ لم يمت و قيل: رفع إلى السماء و قبض روحه و قيل: و القائل ابن عبّاس: جاء خليل له من الملائكة فسأله حتّى يكلّم ملك الموت و يسأله هل يمكن أن يؤخّر قبض روحه فيؤخّر فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به إلى السماء فلمّا كان في السماء الرابعة فإذا ملك الموت يقول: بعثت و قيل لي: اقبض روح

ص: 45

إدريس في السماء الرابعة و أنا أقول: كيف ذلك و هو في الأرض فالتفت إدريس فرآه ملك الموت فقبض روحه هناك.

و بالجملة شرّفه اللّه بالنبوّة و أنزل عليه ثلاثين صحيفة و هو أوّل من خطّ بالقلم و نظر في علم النجوم و الحساب و أوّل من خاط الثياب و لبسها و كانوا يلبسون الجلود.

[أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ] و هو سبحانه أثنى على كلّ واحد ممّن تقدّم ذكره بما يخصّه من الثناء ثمّ جمعهم أخيرا فقال: «أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» بالنبوّة و الكرامة من لدن زكريّا إلى إدريس و جمعهم في كونهم [مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ] ثمّ خصّ بعضهم بأنّه من ذرّيّة من حمل مع نوح لأنّ بعضهم من ذرّيّة آدم و هو إدريس لأنّه كان قبل نوح و بعضهم من ذرّيّة من حمله مع نوح و هو إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و موسى و هارون و زكريّا و يحيى و عيسى من قبل الأمّ و هؤلاء كلّهم من أولاد إبراهيم و إبراهيم من أولاد سام بن نوح و قد فضّلوا بطهارة المولد و النسب كما فضّلوا بالأعمال الصالحة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم [ممن هديناهم و اجتبيناهم] بأعمالهم و هدايتنا و هم في حال و شأن [إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً] حالكونهم ساجدين باكين حذرا و خشوعا و خوفا و المراد [بآيات الله] كتبهم المنزلة بما تتضمّن الوعد و الوعيد و الترغيب و الترهيب لأنّ كلّ ذلك إذا تأمّل المتفكّر ينبغي أن يسجد عنده و أن يبكي و اختلف في هذه السجود فقيل: إنّه الصلاة و قيل: المراد سجود التلاوة [وَ بُكِيًّا] جمع باك وزنه فعول مثل قعود.

و عن رسول اللّه اتلوا القرآن و ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا و عن صالح المرّيّ قال: قرأت القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المنام فقال لي: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن نزل بحزن فاقرؤوه بحزن. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتّى تبكوا و عنه ما اغرورقت عين به بماء إلّا حرّم اللّه جسدها على النار و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يلج النار من بكى من خشية اللّه.

قوله تعالى: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ] هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات [خَلْفٌ] و الخلف

ص: 46

بسكون اللام البدل السيّئ أي قوم سوء قيل: المراد هم اليهود و من تبعهم لأنّهم من ولد إسرائيل و قيل: هم من هذه الامّة إلى قيام الساعة جماعة بعكسهم موصوفون بإضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات قيل: المراد: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن يتركوها عن ابن مسعود و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

قال ابن عبّاس: هم اليهود تركوا الصلوات المفروضة و شربوا الخمر و استحلّوا نكاح الاخت من الأب شرّابون للقهوات اللعّابون بالكعبات ركّابون للشهوات متّبعون للّذّات تاركون للجماعات و الجمعات فسوف هؤلاء يلقون مجازات الغيّ و الضلال و قيل:

يلقون شرّا و خيبة و قيل: الغيّ واد في جهنم.

[إِلَّا مَنْ] ندم و رجع إلى ما سلف و [آمَنَ] في مستقبل عمره [وَ عَمِلَ صالِحاً] و تدارك ما فات من الواجبات بل المندوبات [فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ] و يبخسون [شَيْئاً] من ثوابهم و في هذا دلالة على أنّ اللّه لا يمنع أحدا ثواب عمله و لا يبطله لأنّه سبحانه سمّى ذلك ظلما. و «يدخلون» قرئ مجهولا و معلوما.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 61 الى 65]

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

«جنّات» بدل عن الجنّة المذكورة في الآية السابقة.

و لمّا ذكر حال التائب أنّه يدخل الجنّة وصف الجنّة في هذه الآية بأمور.

أحدها قوله: [جَنَّاتِ عَدْنٍ] و العدن الإقامة وصفا على الدوام بخلاف جنّات الدنيا.

و معنى [وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ] أي وعدها و هي غائبة عنهم غير مشاهدة لهم أو المراد أنّها للّذين يؤمنون به بالغيب و يعبدونه في السرّ بخلاف المنافقين فإنّهم يعبدونه في الظاهر و لا يعبدونه في السرّ و الواقع.

ص: 47

ثمّ قال سبحانه: [إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا] يقينا و «مأتيّا» مفعول بمعنى فاعل و ما أتاك فقد أتيته و كلّ ما وصل إليك فقد وصلت إليه و المراد أنّ الوعد منه تعالى و إن كان بأمر غائب فهو كأنّه مشاهد.

و الوصف الثاني [لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً] و اللغو من الكلام ما من شأنه أن يلقى و يطرح أي لا يسمعون كلاما معرضا عنه. أمّا قوله: «إِلَّا سَلاماً» فإن قيل: إنّ السلام ليس من جنس اللغو فكيف استثنى السلام من اللغو؟ فالجواب أن يحمل على الاستثناء المنقطع أو من باب استثناء المدح بما يشبه الذمّ و هو عين المدح كقول النابغة:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

و السلام محتمل أن يكون تحيّة بعضهم على بعض أو من تسليم الملائكة أو من تسليم اللّه سبحانه كقوله: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (1).

الوصف الثالث من الجنّة و الرابع [وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا] و المراد دوام الرزق كما تقول: أنا عند فلان صباحا و مساء و بكرة و عشيّا تريد الدوام و لا تريد بيان الوقتين لأنّه لا صباح عند ربّك و لا مساء و ليس في الجنّة ليل و لا نهار و المراد أنّهم يأكلون عند مقدار الغداة و العشيّ و قد أراد اللّه سبحانه أن يرغّب كلّ قوم بما أحبّوه في الدنيا و لذلك ذكر أساور من الذهب و الفضّة و لبس الحرير الّتي كانت عادة العجم و الأرائك الّتي هي الحجال المضروبة على الأسرة و كانت من عادة أشراف العرب من اليمن و لا شي ء كان أحبّ إلى العرب من الغداء و العشاء.

قوله: [تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا] هذه الإشارة صحّت حيث إنّها غائبة [نُورِثُ] أي نبغي عليه كما نبغى على الوارث مال المورّث و هذا الإرث لمن أطاع من عبادنا و اتّقى و قيل: أورثهم اللّه من الجنّة المساكين الّتي كانت لأهل النار لو أطاعوا اللّه و أضاف العباد إلى نفسه أراد به المؤمنين.

قال بعض المعتزلة كالقاضي و أصحابه: إنّ في الآية دلالة على أنّ الجنّة يختصّ

ص: 48


1- يس: 58.

بدخولها من كان متّقيا و الفاسق المرتكب للكبائر لا يوصف بذلك. و الجواب: الآية تدلّ على أنّ المتّقي يدخلها و ليس فيها دلالة على أنّ غير المتّقي لا يدخلها و أيضا فصاحب الكبيرة متّق عن الكفر و من صدق عليه أنّه متّق عن الكفر صدق عليه أنّه متّق لأنّ المتّقي جزء من مفهوم قولنا المتّقي عن الكفر و إذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنّه متّق وجب أن يدخل تحته فدلالة الآية بأنّ صاحب الكبيرة يدخل الجنّة أولى من أن تدلّ على أن لا يدخلها انتهى.

قوله تعالى: [وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ] الآية النزول: قيل: إنّ هذه الكلمات من كلام جبرئيل. و قيل: من كلام أهل الجنّة حين يدخلونها فعلى كونها من كلام جبرئيل فالسبب في النزول أنّ قريشا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة و النصارى يسألونهم عن صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى فزعموا أنّهم لا يعرفونه و قالت اليهود: نجده في كتابنا و هذا زمانه و قد سألنا رحمن اليمامة عن ثلاث امور فلم يعرف فاسألوه عنهنّ فإن أخبركم بخصلتين منها فاتّبعوه فاسألوه عن أصحاب الكهف و عن ذي القرنين و عن الروح فجاءوا يسألوه عن ذلك فلم يدر كيف يجيبهم فوعدهم أن يجيبهم فأبطأ عليه جبرئيل قيل: خمسة عشر يوما فشقّ عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشقّة شديدة و قال بعض الناس: ودّعه ربّه و تركه فنزل جبرئيل فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبطأت عنّي و اشتقت إليك و شقّ ذلك عليّ قال جبرئيل: إنّي كنت أشوق إليك و لكنّي عبد مأمور إذا بعثت نزلت و إذا حبست احتبست و قال:

[وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ] و الغرض أنّ أمرنا موكول إلى اللّه [لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا] حالنا و مستقبلنا و ماضينا أو دنيانا و آخرتنا و ما بينهما و ما نساك و تركك ربّك و ما كان امتناع النزول للنسيان و ترك اللّه لك بل لامتناع الأمر به هذا إذا كان المحكيّ عن قول جبرئيل و أمّا إذا كان من قول أهل الجنّة بعد الورود فالمعنى إنّا ما نتنزّل الجنّة إلّا بأمر ربّك.

[لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا] مستقبلا في الجنّة و ما خلفنا ممّا كان في الدنيا و ما بين ذلك ما بين الوقتين و النفختين أو ابتداء خلقنا و مدّة آجالنا و ما كان ربّك نسيّا لشي ء ممّا

ص: 49

خلق فيترك و ما يعزب عن علمه مثقال ذرّة.

و قيل: [وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا] ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول.

و يتّصل به [رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ] فأمره بالعبادة و المصابرة على مشاقّ التكليف و الإبلاغ.

فإن قيل: إذا كان قوله: «وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» كلام غيره فكيف جاز عطف هذا على ما قبله و هو قوله: «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» من غير فصل؟

فالجواب إذا كانت القرينة ظاهرة لم يضرّ كما في قوله تعالى: «وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (1) هو كلام و قوله: «وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ» (2) كلام غير اللّه و أحدهما معطوف على الآخر.

و بالجملة ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [هَلْ تَعْلَمُ] لربّك [سَمِيًّا] أي من يكون مثلا و شبيها في القدرة و يكون له علامة مثله و يستحقّ أن يكون إلها إلّا هو؟ و هذا استفهام بمعنى النفي أي لا تعلم من يسمّى و يتّسم بصفة القدرة و الخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و الثواب و العقاب فإذا كان الأمر كذلك فالزم عبادته و اصطبر عليها.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 66 الى 70]

وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)

هذه الآية جواب لمنكري الحشر و يكذّبون القيامة و إذا كان كذلك فما فائدة العبادة و قد أمر بالعبادة؟ فلهذا حكى اللّه قول منكري الحشر.

و المراد بالإنسان نوع القائلين بعدم البعث و لو أنّ كلّ نوع الإنسان لا يقول بهذا القول: لأنّه لمّا كانت هذه المقالة موجودة في نوعهم صحّ إسنادها إلى جميعهم

ص: 50


1- البقرة: 118. آل عمران: 47 مريم: 35. المؤمن: 68.
2- آل عمران: 51.

كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا و إنّما كان القاتل رجل منهم أو أنّ هذا الاستبعاد ابتداء موجود في طبع كلّ إنسان إلّا أنّ بعضهم ترك الاستبعاد المبنيّ على الطبع بالدلالات القاطعة الّتي قامت على صحّة القول به.

هذا إذا كان المراد نوع الإنسان و إذا كان المراد شخص مخصوص كما قيل: إنّها نزلت في ابيّ بن الخلف الجمحيّ و ذلك أنّه أخذ عظما باليا فجعل يفتّته بيده و يذريه في الريح و يقول: يزعم محمّد أنّ اللّه يبعثنا بعد أن نموت و نصير عظاما مثل هذا إنّ هذا شي ء لا يكون أبدا و هذا استفهام بطريق الإنكار و الاستهزاء [أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا].

مجيبا لهذا الكافر: أولا يتذكّر هذا الإنسان القائل الجاحد حال ابتداء خلقه ليستدلّ بالابتداء على الإعادة كما بدأنا هم أوّل مرّة نعيدهم ثاني مرّة فحصول البدء من العدم يدلّ على إمكان العود فرضا من العدم.

قال بعض المتكلّمين: لو اجتمع كلّ الخلائق على إقامة حجّة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها إذ لا شكّ أنّ الإعادة ثانيا أهون من الإيجاد أوّلا و هذا معنى إعجاز القرآن.

أو لم يتذكّر و يتدبّر هذا الإنسان [لم يك من قبل شيئا] موجودا حيّا أي قدّرناه في العلم حيث كان اللّه و لم يك معه شي ء فكلّ يعلم هذا الأمر.

ثمّ أردف الدليل بالتهديد بالقسم و العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين و في هذا اليمين و الاضافة تفخيم لشأن الرسول و رفع لدرجته. و الواو في [وَ الشَّياطِينَ] يجوز أن يكون للعطف و أن يكون بمعنى «مع» و بمعنى مع أوقع أي أنّهم مع قرنائهم من الشياطين الّذين أغووهم يقرن كلّ كافر مع شيطان في سلسلة.

[ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا] باركين على ركبهم كصورة الذليل العاجز و هذا الإحضار يكون قبل إدخالهم جهنّم.

[ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ] كلّ جماعة و فرقة شايعت و تبعت غاويا من الشياطين و الغواة من كان أشدّ عتوّا و تمرّدا.

ص: 51

[ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى] بالنار [صِلِيًّا] عذابا و بلزوم النار الأعتى فالأعتى منهم و العتيّ من العتوّ.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 71 الى 75]

وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَ إِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً (75)

المعنى: لمّا بيّن سبحانه في الآية السابقة بيان الحشر فقال: و ما من أحد منكم إلّا وارد جهنّم.

و اختلف العلماء في معنى الورود فقال بعضهم: لا يجوز للمؤمنين أن يردو النار و الدليل على أنّ المراد بالورود القرب لا الدخول قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» (1) و المبعد عنها لا يوصف أنّه واردها. الثاني قوله تعالى: «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» (2) و لو وردوا جهنّم لسمعوا حسيسها. الثالث قوله:

«وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ» (3) فهذه الآيات تدلّ على أنّ المراد بالورود غير الدخول.

و احتجّوا أيضا على أنّ الورود قد يراد به القرب لقوله تعالى: «فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ» (4) و معلوم أنّ ذلك الوارد ما دخل الماء و قال تعالى: «وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ» (5) و أراد به القرب و يقال: وردت القافلة البلدة و إن لم تدخلها، فعلى هذا معنى الآية أنّ الإنس و الجنّ يحضرون حول جهنّم.

كان ذلك على ربّك حتما مقتضيّا واجبا. ثمّ ننجّي الّذين اتّقوا و نبعدهم عن جهنّم و هو المراد من قوله تعالى: «أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ».

ص: 52


1- الأنبياء: 101.
2- الأنبياء: 102.
3- النمل: 89.
4- يوسف: 19.
5- القصص: 22.

و قال الأكثرون: إنّ المراد بالورود الدخول و يدلّ عليه الآية و الخبر:

أمّا الآية فقوله: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» (1) و قال تعالى: «فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» (2) و يدلّ عليه قوله: «أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» و المبعد و هو الّذي لو لا التبعيد لكان في النار.

و قوله: [وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا] و هذا يدلّ على أنّهم قد دخلوا النار.

و أمّا الخبر فهو أنّ عبد اللّه بن رواحة قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أخبر اللّه عن الورود و لم يخبر عن الصدور فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا».

و ذلك يدلّ على أنّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما أنكر عليه في ذلك.

و عن جابر أنّه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: الورود الدخول لا يبقى برّ و لا فاجر إلّا دخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما حتّى أنّ للناس ضجيجا من بردها فحينئذ المؤمنون يدخلون النار من غير خوف و ضرر بل مع الغبطة و السرور لأنّ اللّه أخبر عنهم «أنّهم لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» (3) و لأنّ الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف، و إيصال الغمّ و الحزن إنّما يجوز في دار التكليف.

و قد وردت الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الملائكة يبشّر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنّة حتّى يرى مكانه في الجنّة و يعلمه.

ثمّ اختلفوا في أنّه كيف يندفع عنهم ضرر النار فقال بعضهم: البقعة الّتي سمّيت جهنّم لا يبعد أن يكون في خلالها ما لا نار فيه و يكون من المواضع الّتي يسلك فيها إلى دركات جهنّم و إذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكلّ في جهنّم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار و الكفّار يكونون في النار أو أنّ اللّه يخمد النار فيعبرها المؤمنون و تنهار بالكافرين.

ص: 53


1- الأنبياء: 98.
2- هود: 99.
3- الأنبياء: 103.

قال ابن عبّاس: يردونها كأنّها هالة أو أنّ حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفّار يجعلها اللّه عليهم موذية محرقة و الأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها اللّه بردا و سلاما كما في حقّ إبراهيم و كما أنّ الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطيّ فكان يصير دما و الإسرائيليّ يشربه فكان يصير ماء عذبا كما أنّه لا بدّ من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكّلين بالعذاب حتّى يكونوا في النار مع المعاقبين.

فان قيل: إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك؟

فيه وجوه: أحدها أنّ ذلك ممّا يزيدهم سرورا إذا علموا الخلاص منه و فيه مزيد غمّ للكافرين حيث يرون المؤمنين الّذين هم أعداؤهم يتخلّصون منها و هم يبقون فيها و أنّ المؤمنين كانوا يخوّفونهم من النار و الحشر و النشر و ما كانوا يقبلون منهم الدلائل فإذا دخلوا جهنّم معهم أظهروا لهم أنّهم صادقين و الغلبة على الخصم من اللذائذ لهم و مزيد العذاب عليهم، ثمّ إنّ المؤمنين إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سببا لمزيد التذاذ هم بنعيم الجنّة كما قيل: «و بضدّها تتبيّن الأشياء» فقوله تعالى: «أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» المراد: عن عذابها مبعدون؛ فلا ينافي الدخول.

قوله تعالى: [كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا] كائنا لا محالة واقعا قد قضى به و كلمة «على» معناه الوجوب و المحتوم و فيه دلالة على أنّه يجب عليه سبحانه أشياء من طريق الحكمة و اللطف خلافا لما ذهب إليه أهل الجبر.

[ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا] قال ابن عبّاس: أي الّذين اتّقوا الشرك و صدّقوا و آمنوا، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يرد الناس النار ثمّ يصدرون بأعمالهم فأوّلهم كالبرق اللامع ثمّ كمرّ الريح ثمّ كمحضر الفرس ثمّ كالراكب ثمّ كشدّ الرحل و عدوه ثمّ كمشيه.

و عن رسول اللّه مرفوعا: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.

[وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها] جاثين و في الاعتقادات روي أنّه لا يصيب أحدا من أهل التوحيد ألم من الدخول في النار إذا دخلوها و إنّما يصيبهم الألم عند الخروج منها فتكون تلك الآلام جزاء بما كسبت أيديهم «و ما اللّه بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»*.

و من المعتزلة من تمسّك في الوعيد بقوله: «وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» و لفظ

ص: 54

«الظالمين» لفظ جمع دخل عليه حرف التعريف فيفيد العموم انتهى.

قوله تعالى: [وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ] أي إذا تتلى على الكافرين آياتنا المنزلة في القرآن ظاهرات الحجج بحيث يمكن تفهّمها [قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا] لو كنتم أنتم على الحقّ و كنّا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن و أطيب من حالنا، و يوقعون هذه الشبهة في الناس و كانوا يقولون: إنّ الحكيم لا يليق به أن يوقع أوليائه المخلصين في الذلّ و الفقر و العذاب و أعداءه المعرضين عن خدمته في العزّ و الراحة و لمّا كان الأمر بالعكس و كان الكفّار في النعمة و الراحة و الاستعلاء و المؤمنون في ذلك الوقت في الخوف و الذلّ لبسوا على الضعفاء بأنّهم على الحقّ.

روي أنّهم كانوا يرجّلون شعورهم و يدّهنون و يتطيّبون و يتزيّنون بالزينة الفاخرة ثمّ يدّعون مفتخرين على فقراء المؤمنين أنّهم أكرم على اللّه، فأجاب اللّه عن شبهتهم بقوله:

[وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ] بأنواع العذاب فلو دلّ حصول النعمة على كونه محبوبا صاحبه عند اللّه لوجب أن لا يعذّبهم و لا يصل إليهم مكروها و أولئك الّذين أصابهم المكروه و العذاب منّا كانوا أجمل و أكثر مالا منكم و متاعا و مقاما [وَ رِءْياً] أي هيئة و منظرا. و قرئ «ريئا» على القلب و ريّا من النعمة و الترفّه، و قرئ بالزاي اخت الراء من الزيّ و المعنى: محاسن مجموعة و الشأن.

[قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا] هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة و تقريره أنّه نفرض أنّ هذا الضّالّ المتنعّم في الدنيا قد مدّ اللّه في أجله و أمهله مدّة مديدة فلا بدّ و أن ينتهي إلى العذاب إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة بعد ذلك.

[فَسَيَعْلَمُونَ] بعد ما رأوا العذاب أنّ الأمر بعكس ما زعموا و قوله: [مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً] مذكور في مقابلة «خير مقاما» و قوله: [أَضْعَفُ جُنْداً] في مقابلة قولهم:

«أَحْسَنُ نَدِيًّا» و الحاصل أنّهم و إن ظنّوا في الحال أنّ منزلتهم أفضل من حيث إنّه

ص: 55

فضّلهم اللّه بالمقام و النديّ فسيعلمون أنّهم شرّ مكانا لأنّه لا مكان شرّ من النار.

و قوله: «فليمدد» أمر معناه الخبر و تأويل المعنى أنّ من كان في الضلالة و اختارها على الهدى حقّه أن نمدّ له و نتركه فيها كقوله: «وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» (1) و لفظ الأمر يؤكّد معنى الخبر فكأنّ المتكلّم يقول: أفعل ذلك لأجل ذا.

و بالجملة اخرج الخبر بلفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك و وقوعه لقطع معاذيرهم و يقال لهم: أو لم نعمّركم لتتأمّلون و تنبّهون؟

و قوله: [حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ] قيل المراد عذاب الاستيصال. و قيل:

عذاب القبر. و قيل: عذاب السيف و الذلّ. و المراد من العذاب غير عذاب القيامة [وَ إِمَّا] عذاب [السَّاعَةَ] فهو أوّل عذاب القيامة فهذه معاملتنا مع الكفّار.

قوله: [سورة مريم (19): آية 76]

وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا (76)

في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: كلّهم كانوا في الضلالة الّذين لا يؤمنون بولاية عليّ حتّى إذا رأوا ما يوعدون بخروج القائم و ما ينزل بهم من العذاب فسيعلمون من هو إلخ. و أمّا مع المؤمنين [ف يَزِيدُ اللَّهُ] المهتدين بالإيمان و التصديق بالنبوّات [هُدىً] على هداهم مثلا الإيمان هدى و الإخلاص في الإيمان زيادة هدى.

هذا إذا فسّرنا الهداية على ظاهره و إذا فسّرنا الهداية على الثواب فواضح.

ثمّ شرح سبحانه أنّ المهتدين الّذين يعملون الأعمال الصالحة الباقية و تدوم و لا تبطل و هي الإيمان و الفرائض و السنن كالصلوات و الصلاة و التسبيح.

و عن أبى الدرداء قال: جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم و أخذ عودا فأزال الورق عنه ثمّ قال: إنّ قول لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر و سبحان يحطّ الخطا يا حطّا كما يحطّ ورق هذه الشجرة الريح خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك و بينهنّ، هنّ الباقيات الصالحات و هنّ من كنوز الجنّة. و كان أبو الدرداء يقول: لأعملنّ ذلك و لأكثرنّ منه حتّى إذا رآني جاهل حسب أنّي مجنون.

ص: 56


1- الانعام: 110.

و المراد أنّها خير ممّا ظنّه الكفّار بقولهم: «خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا» فأخبر أنّها خير ثوابا و خير مرجعا.

قوله: [سورة مريم (19): الآيات 77 الى 80]

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَ وَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً (80)

النزول: عن خباب بن الأرت قال: كان لي على عاص بن وائل دين فاقتضيته و كنت رجلا غنيّا فلمّا أتيته أتقاضاه قال لي: لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت له: لن أكفر به حتّى نموت و نبعث قال عاص: فإنّي لمبعوث بعد الموت فسوف أقضيك دينك إذا رجعت. فنزلت الآية.

لمّا ذكر سبحانه الدلائل على صحّة و شبهة المنكرين (1) ذكر ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعنا في القول بالحشر فقال:

[أَ فَرَأَيْتَ] و هذه الكلمة تستعمل في التعجّب و معناه: أ رأيت هذا الكافر الّذي كفر بأدلّتنا من القرآن و من هو مثله و بصفته في الكفر [قال] على سبيل الاستهزاء:

لأعطينّ [مالًا وَ وَلَداً] ألستم تزعمون أنّ في الجنّة الذهب و الفضّة و الحرير؟ قال خباب: بلى قال: فموعد ما بيني و بينك الجنّة فو اللّه لأوتينّ فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا فأنكر اللّه سبحانه عليه و قال:

[أَطَّلَعَ الْغَيْبَ] و بلغ شأنه إلى أن ارتقى إلى عالم الغيب حتّى ادّعى أنّه يؤتى في الآخرة مالا و ولدا و تألّى عليه [أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً] قيل: بعمل صالح أم عهد اللّه إليه أنّه يدخل الجنّة. و قيل: أم قال: لا إله إلّا اللّه فيرحمه اللّه بها.

[كلّا] و كلّا تستعمل بمعنى «لا» و هو معنى الإنكار و الردع، و تارة تستعمل بمعني «ألا» للتنبيه فقال سبحانه: ليس الأمر كذلك [سَنَكْتُبُ] أي سنأمر الحفظة بإثبات [ما يَقُولُ] لنجازيه عليه [وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا] أي نصل إليه بعض العذاب بالبعض و نزيد عذابا فوق العذاب دائما.

[وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ] أي نرث ما عنده من المال و الولد بإهلاكنا إيّاه لأنّه

ص: 57


1- كذا.

كان يقول: «لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً» فيقول اللّه: نحن نرث المال و الولد و يبقى في الآخرة وحيدا بلا عدّة و لا عدد يأتينا فنعدّ به.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 81 الى 95]

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)

وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90)

أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)

المعنى: حكى اللّه عن عبدة الأصنام أنّهم إنّما اتّخذوا آلهة لأنفسهم ليكونوا عزّا لهم حيث يكونون لهم شفعاء في الآخرة و ليصيروا بسببهم إلى العزّ أو ليمنعوهم منّي و ينقذوهم من المهالك فأجاب اللّه بقوله:

[كَلَّا] و هو ردعهم من هذا الاعتقاد و قرء ابن نهيك: كلّا أي كلّهم [سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ] أي ليس الأمر كما زعموا بل صاروا بهم إلى الذلّ و العذاب.

و اختلفوا في الضمير في «يكفرون» قيل: إلى المعبود و قالوا: إن اللّه يحيي هذه الأصنام يوم القيامة حتّى يوبّخوا عابديهم و يتبرّؤوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم.

و من الناس يقولون: إنّ الضمير يرجع إلى العابدين أي إنّ المشركين يوم القيامة ينكرون أنّهم عبدوا الأصنام.

أمّا قوله: [وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا] فذكر ذلك في مقابلة قوله: «لَهُمْ عِزًّا» أي يكونون عليهم ضدّ ما قصدوه. و الضدّ يكون واحدا و جمعا كالعدوّ.

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 99

و لمّا ذكر حال المشركين مع الأصنام ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا فإنّهم ينقادون للشياطين فقال: [أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ] أي خلّينا بينهم و بين الشياطين إذا وسوسوا إليهم.

ص: 58

قال القاضي: إذا حملنا لفظ الإرسال على الحقيقة فكان يجب في الكافر أن يكون بقبوله من الشيطان مطيعا للّه و ذلك كفر لأنّ الكافر لا يكون إلّا عاصيا متمرّدا، و هذه التخلية تسمّى إرسالا في سعة اللغة كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال: أرسل عليه كلبه، و إن لم يرد أذى جاره، و هذه التخلية و إن كان فيها تشديد للمحنة عليهم و لكنّهم متمكّنون من أن لا يقبلوا منهم و يكون ثوابهم على ترك القبول أعظم و الدليل عليه قوله: «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» (1) و ذلك مثل جعل قوّة الزنا في الإنسان لكنّه لا يضطرّ الإنسان بجعل القوّة إلى الزنا بحيث لم يتمكّن من تركه.

قوله تعالى: [تَؤُزُّهُمْ أَزًّا] أي تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية. الأزّ و الهزّ و الاستفزاز أخوات في معنى التهييج أي تغريهم و تحثّهم بالوساوس و التسويلات تقول لهم: امض امض لا يفوتك هذا الأمر، حتّى توقعهم في النار.

[فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا] معناه فلتطب نفسك يا محمّد و لا تستعجل لهم العذاب فإنّ مدّة بقائهم قليلة فإنّا نعدّ لهم الأيّام و السنين و الأنفاس و ما دخل تحت العدّ إلى الأجل الّذي أجّلناه لعذابهم. نزلت في المستهزئين بالقرآن و هم خمسة رهط، و كان ابن عبّاس إذا قرأ الآية بكى و قال: آخر العدد خروج نفسك آخر، العدد دخول قبرك، آخر العدد فراق أهلك. قال ابن السماك: إذا كانت الأنفاس بالعدد و لم يكن لها مدد فما أسرع ما نفد.

[يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً] ثمّ بيّن حال ما سيعدّ للمتّقين و المجرمين فقال:

«يَوْمَ نَحْشُرُ» أي اذكر يوم نحشر المتّقين إلى محلّ كرامة الرحمن و إلى دار ثوابه و فودا و جماعات؛ عن أمير المؤمنين قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفسي بيده إنّ المتّقين و هم الّذين اجتنبوا الشرك و المعاصي في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رجال من الذهب.

[وَ] كذلك [نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ] على المسير [إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً] عطاشا كالإبل الّتي

ص: 59


1- سورة ابراهيم: 22.

ترد عطاشا إلى الماء و هم يساقون بإهانة و استخفاف و «الورد» اسم للعطاش لأنّ من يرد الماء لا يرده إلّا للعطش و حقيقة الورود السير إلى الماء فسمّي به الواردون، ذكر السبب و أراد المسبّب.

فلو قيل: إنّ الكلام يستقيم في قوله: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ» إذا كان الحاشر غير الرحمن فالجواب أنّ التقدير: إلى كرامة الرحمن.

[لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ] قيل: فلا يشفّعون و لا يشفع لهم و لكنّ الظاهر أنّ أحدا لا يملك أن يشفع لهم لأنّ معنى الأوّل يجري مجرى إيضاح الواضحات و إذا ثبت ذلك دلّت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنّه قال عقيبة:

[إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً] و التقدير: إنّ هؤلاء لا يستحقّون أن يشفع لهم غيرهم إلّا إذا كانوا قد اتّخذوا عند الرحمن عهدا للتوحيد و النبوّة.

و ممّا يؤكّد قولنا ما روى ابن مسعود أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لأصحابه ذات يوم: أ يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا؟ قالوا: و كيف ذلك؟ قال: يقول كلّ صباح و مساء: اللّهم فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك و أنّ محمّدا عبدك و رسولك فإنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ و تبعّدني من الخير و إنّي لا أثق إلّا برحمتك فاجعل لي عهدا توفّيته يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع اللّه عليه بطابع و وضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الّذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنّة؟

فظهر بهذا الحديث أنّ المراد من العهد كلمة الشهادة و ظهر وجه دلالة الشفاعة في الآية لأهل الكبائر خلافا للقاضي عبد الجبّار المعتزليّ.

و في الآية قول آخر أنّ معنى «إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» أي إلّا من وعد له الرحمن بإطلاق الشفاعة كالأنبياء و الشهداء و العلماء و المؤمنين على ما ورد به الأخبار.

قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره: حدّثني أبي عن الحسن بن محبوب عن سليمان بن جعفر عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لم يحسن وصيّته عند الموت كان نقصانا في مروءته قيل: يا رسول اللّه و كيف يوصي الميّت؟

ص: 60

قال: إذا حضرته الوفاة و اجتمع الناس إليه قال: اللّهمّ فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم اللّهمّ إنّي أعهد إليك في دار الدنيا إنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك و أنّ محمّدا عبدك و رسولك و أنّ الجنّة حقّ و أنّ النار حقّ و أنّ البعث حقّ و الحساب حقّ و القدر حقّ و الميزان حقّ و أنّ الدين كما وضعت و أنّ الإسلام كما شرّعت و أنّ القول كما حدّثت و أنّ القرآن كما أنزلت و أنّك أنت اللّه الحقّ المبين جزى اللّه محمّدا عنّا خير الجزاء و حيّى اللّه محمّدا و آله بالسلام اللّهمّ يا عدّتي عند كربتي و يا صاحبي عند شدّتي و يا وليّ نعمتي إلهي و إله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فإنّك إن تكلني إلى نفسي أقرب من الشرّ و أبعد من الخير و آنس في القبر وحشتي و اجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا، ثمّ يوصي بحاجته و تصديق هذه الوصيّة في سورة مريم في قوله: «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» فهذا عهد الميّت و الوصيّة حقّ على كلّ مسلم و حقّ عليه أن يحفظ هذه الوصيّة و يعملها فقال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: علّمنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: علّمنيها جبرئيل.

و عن أبي حمزة عن أحدهما عليهما السّلام قال: إنّ اللّه يقول: تطوّلت عليك بثلاثة: سترت عليك ما لو علم به أهلك ما واروك و أوسعت عليك فاستقرضت منك لك فلم تقدّم خيرا و جعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدّم خيرا.

و عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان في وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها- ثمّ قال: اللّهمّ أعنه-:

أمّا الاولى فالصدق، لا يخرجنّ من فيك كذبة أبدا.

و الثانية الورع، لا تجتر على جناية أبدا.

و الثالثة الخوف من اللّه كأنّك تراه.

و الرابعة كثرة البكاء للّه يبنى بكلّ دمعة بيت في الجنّة.

و الخامسة بذلك مالك و دمك دون دينك.

و السادسة الأخذ بسنّتي في صلاتي و صيامي و صدقتي: فأمّا الصلاة فالخمسون

ص: 61

ركعة و أمّا الصوم فثلاثة في كلّ شهر خميس في أوّله و أربعاء في وسطه و خميس في آخره و أمّا الصدقة فجهدك حتّى تقول: قد أسرفت و لم تسرف، و عليك بصلاة الليل و عليك بصلاة الليل و عليك بصلاة الليل و عليك بصلاة الزوال و عليك بصلاة الزوال و عليك بصلاة الزوال و عليك بتلاوة القرآن على كلّ حال و عليك برفع يديك في صلاتك و تقلّبها و عليك بالسواك عند كلّ وضوء و عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها و مساوي الأخلاق فاجتنبها فإن لم تفعل فلا تلو منّ إلّا نفسك.

و عن سليم بن قيس الهلاليّ قال: شهدت وصيّة أمير المؤمنين حين أوصى إلى ابنه الحسن قال: أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن اوصي إليك و أن أدفع إليك كتبي و سلاحي كما أوصى إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دفع إليّ كتبه و سلاحه و أمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفع ذلك إلى أخيك الحسين.

قال: ثمّ أقبل على ابنه الحسين فقال: و أمرك رسول اللّه أن تدفعه إلى ابنك هذا ثمّ أخذ بيد ابن ابنه عليّ بن الحسين و هو صبيّ فضمّه إليه ثمّ قال لعليّ بن الحسين: يا بنيّ و أمرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن تدفعه إلى ابنك محمّد بن عليّ فاقرأه من رسول اللّه السلام.

ثمّ أقبل على ابنه الحسن فقال: بنيّ أنت وليّ الأمر و وليّ الدم فإن عفوت فلك و إن قتلت فضربة مكان ضربة و لا تأثم ثمّ قال: اكتب:

بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به عليّ بن أبي طالب أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمّدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون ثمّ إنّ صلاتي و نسكي و محياي و مماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له و بذلك أمرت و أنا من المسلمين.

ثمّ إنّي أوصيك يا حسن و جميع ولدي و أهل بيتي و من بلغه كتابي من المؤمنين بتقوى اللّه ربّكم و لا تموتنّ إلّا و أنتم مسلمون.

و اعتصموا بحبل اللّه جميعا و لا تفرّقوا فإنّي قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة و الصوم و إنّ البغضة خالقة الدين و فساد ذات

ص: 62

البين و لا قوّة إلّا باللّه انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن اللّه عليكم الحساب.

و اللّه اللّه في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم و لا يضيّعوا بحضرتكم فقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من عال يتيما حتّى يستغني أوجب اللّه له الجنّة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار.

و اللّه اللّه في القرآن فلا يسبقنّكم إلى العمل به غيركم.

و اللّه اللّه في بيت اللّه فلا يخلونّ منكم ما بقيتم فإنّه إن يترك لم تناظروا و أدنى ما يرجع به من امّة أن يغفر له ما قد سلف.

و اللّه اللّه في الصلاة فإنّها خير العمل و إنّها عمود دينكم.

و اللّه اللّه في الزكاة فإنّها تطفئ غضب الربّ.

و اللّه اللّه في شهر رمضان فإنّ صيامه جنّه من النار.

و اللّه اللّه في الفقراء و المساكين فشاركوهم في معيشتكم.

و اللّه اللّه في الجهاد في سبيل اللّه بأموالكم و أنفسكم فإنّما يجاهد في سبيل اللّه رجلان إمام هدى و مطيع له يقتدي بهداه.

و اللّه اللّه في ذرّيّة نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا يظلمون بين أظهركم و أنتم تقدرون على الدفع عنهم.

و اللّه اللّه في أصحاب نبيّكم الّذين لم يحدثوا حدثا و لم يرووا محدثا فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوصى بهم و لعن المحدث منهم و من غيرهم و المومئ للمحدث.

و اللّه اللّه في النساء و ما ملكت أيمانكم و لا تخافنّ في اللّه لومة لائم فيكفيكم اللّه من أرادكم و بغى عليكم و قولوا للناس حسنا كما أمركم اللّه.

و لا تتركنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولّي اللّه الأمر شراركم و تدعون فلا يستجاب لكم.

و عليكم يا بنيّ بالتواصل و التباذل و التبارر و إيّاكم و النفاق و التدابر و التقاطع و التفرّق و تعاونوا على البرّ و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان

ص: 63

و اتّقوا اللّه إنّ اللّه شديد العقاب حفظكم اللّه من أهل بيت و حفظ فيكم نبيّكم أستودعكم اللّه و أقرأ عليكم السلام.

ثمّ لم يزل يقول: لا إله إلّا أنت حتّى قبض عليه السّلام في أوّل ليلة من العشر الأواخر في شهر رمضان ليلة الجمعة سنة أربعين من الهجرة.

اللّهم إنّ كاتب هذه الأحرف في هذه الورقة و ناقلها عن التهذيب ينشدك و يقسم عليك بحقّ هذا الموصي و الموصى له و أهل بيته أن تغفر سيّئاته الّتي إذا حاسبته يوم المحاسبة بالمناقشة فهي أكثر من رمال عالج و لكنّه يعلم إنّ عفوك وسعة رحمتك لمن أحبّ عليّا أكثر و أعظم من رمال عالج يسألك العفو العفو العفو و الإصلاح فيما أفسده من دينه و دنياه انتهى.

قوله تعالى: [وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً] هذا إخبار عن اليهود و النصارى و مشركي العرب فإنّ اليهود قالوا: عزير ابن اللّه، و قالت النصارى: المسيح ابن اللّه، و قال مشركو العرب: الملائكة بنات اللّه.

[لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا] أي شيئا منكرا هو عظيم فظيع شنيع، و حذف الباء من «بشي ء» فنصبه بالفعل [تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ] أي أرادت السماوات أن تنشقّ لعظم فريتهم إعظاما لقولهم الفاسد و كادت الأرض تنشقّ و الجبال تسقط [هَدًّا] أي كسرا شديدا و هدما عظيما لأن [دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً] لأن أخرجوه من صفة الإلهيّة لأنّ اتّخاذ الولد يدلّ على الحاجة تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، و تكرّر لفظة الرحمن مرارا في الآية تنبيها على أنّ اصول النعم ليس إلّا منه.

و حاصل المعنى أنّه لو لا حلمي لكنت أفعل بالسماوات و الجبال و الأرض عند وجود هذه الكلمة فكيف بمن تفوّه بها و لكنّي لا أعجل العقوبة.

قوله تعالى: [إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً] أي ما كلّ من في السماوات و الأرض من الإنس و الجنّ و الملائكة إلّا و يأتي اللّه سبحانه عبدا مملوكا خاضعا ذليلا و هذا كقوله تعالى: «وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» (1) و النبوّة- بتقديم

ص: 64


1- النمل: 87.

الباء- و العبوديّة لا تجتمعان.

[لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا] أي علم تفاصيلهم و أعدادهم و لا يخفى عليه شي ء من أحوالهم [وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً] يأتي المحشر فردا وحيدا ليس له مال و لا ولد و لا ناصر، مشغول بنفسه لا يهمّه همّ غيره.

قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 96 الى 98]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

لمّا شرح في الآيات السابقة حال الكفّار ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال:

[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ] و الطاعات [سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا] و للمفسّرين في قوله: «ودّا» أقوال:

القول الأول- و هو الصحيح- أنّه خاصّة في عليّ بن أبي طالب فما من مؤمن إلّا و في قلبه محبّة لعليّ عليه السّلام عن ابن عبّاس، و في تفسير أبي حمزة الثماليّ قال:

حدّثني أبو جعفر الباقر قال: قال رسول اللّه لعليّ عليه السّلام: قل: اللّهم اجعل لي عندك عهدا و اجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا فقالها عليّ عليه السّلام فنزلت هذه الآية و روي مثلها عن جابر بن عبد اللّه.

القول الثاني أنّها عامّة في جميع المؤمنين يجعل اللّه في قلوبهم المحبّة و المقة (1) بعضهم بعضا، قال هرم بن حيّان: ما أقبل عبد بقلبه إلى اللّه إلّا أقبل اللّه بقلوب المؤمنين إليه حتّى يرزقهم مودّتهم و رحمتهم. قال الربيع بن الأنس: إنّ اللّه إذا أحبّ مؤمنا قال لجبرئيل: إنّي أحببت فلانا فأحبّه فيحبّه جبرئيل ثمّ ينادي في السماء ألا إنّ اللّه أحبّ فلانا فأحبّوه فيحبّه أهل السماء ثمّ يوضع له قبول في أهل الأرض من المؤمنين فعلى هذا يحبّهم اللّه و يحبّهم الناس.

القول الثالث أنّ اللّه سيجعل لهم ودّا في الآخرة فيحبّ بعضهم بعضا كمحبّة الوالدة للولد في ذلك أعظم السرور، و يؤيّد هذا القول ما صحّ عن أمير المؤمنين أنّه

ص: 65


1- مصدر قولك: ومق يمق.

قال: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني و لو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني و ذلك أنّه قضى على لسان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: لا يبغضك مؤمن و لا يحبّك منافق.

ثمّ قال: [فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ] أي يسّرنا القرآن بلسانك بأن أنزلناه بلسانك و هو لغة العرب ليسهل عليهم معرفته أو المعنى مكّنّاك من قراءته و حفظه [لِتُبَشِّرَ] بالقرآن الّذين يتّقون الشرك و الكبائر و تخبرهم بما أعدّه اللّه لهم و تخوّف و تنذر به قوما شديد الخصومة يعني قريشا ذوي جدل.

ثمّ أنذرهم سبحانه بقوله: [وَ كَمْ أَهْلَكْنا] قبل هؤلاء المخاصمين المجادلين [مِنْ قَرْنٍ] و جيل مكذّبين بالرسل، و الغرض تسلية النبيّ أي لا يهمّك كفرهم و نفاقهم فإنّ وبال ذلك راجع إليهم و أهلكنا قبلهم من كان مثلهم [هَلْ تُحِسُ] و تبصر [مِنْهُمْ] أحدا [أَوْ] هل [تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً] و صوتا فلم يغنهم مالهم و لا خصومتهم و قدرتهم فحكم هؤلاء من قومك كحكمهم «و الركز» الصوت الخفيّ و المراد بالإهلاك بالعذاب و بالموت و من ذلك المعنى الركاز لأنّ الركاز المال المدفون المخفيّ.

تمّت السورة بعون اللّه و الحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 66

سورة طه

اشارة

(مكية)

فضلها:

ابيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال من قرأها اعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين و الأنصار. أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ اللّه قرأ طه و يس قبل أن يخلق آدم عليه السّلام بألفي عام فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لامّة نزل هذا عليها طوبى لأجواف تحمل هذا و طوبى لألسن يتكلّم بهذا. و عن الحسن قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يقرأ أهل الجنّة من القرآن إلّا يس و طه.

و روى إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه السّلام لا تدعوا قراءة طه فإنّ اللّه تعالى يحبّها و من قرأها و أدمن على قراءتها أعطاه يوم القيامة كتابه بيمينه و لم يحاسبه ممّا عمل في الإسلام و اعطي من الأجر حتّى يرضى.

التفسير: ختم اللّه سورة مريم بالبشارة للمتّقين و الإنذار للكافرين و ابتدأ و افتتح هذه السورة بالسعادة و أنّه ما أنزل القرآن للمشقّة عليه فقال:

ص: 67

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة طه (20): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى (4)

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى (6) وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)

في لغات «طه» قراءات: بفتح الطاء و سكون الهاء على أنّ أصله طإ الأرض بقدميك جميعا فأبدلت الهمزة بالهاء لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه أو كان يقف على أصابع رجليه في الصلاة فأنزل اللّه عليه:

«طه» إلخ.

و يجوز أن يكون «طه» أمر من وطأ يطأ فالأمر على قول من لم يهمز «طه» فزيدت الهاء في الوقف، و قرأ أبو عمر و بفتح الطاء و كسر الهاء و أهل المدينة بين الفتح و الكسر و قرأ ابن عامر بفتح الطاء و الهاء و قرأ حمزة و الكسائيّ بكسر الطاء و الهاء.

و اعلم أنّ للمفسّرين في هذه الكلمة أقوالا:

الأوّل أنّه من حروف التهجّي و من المرموزات و قد تقدّم الكلام فيها في سورة البقرة.

و القول الآخرون: فيها معان قال الثعلبيّ: الطاء شجرة طوبى، و الهاء هاوية فكأنّه سبحانه أقسم بالجنّة و النار.

و الثاني: قال جعفر بن محمّد عليه السّلام: الطاء طهارة أهل البيت و الهاء هدايتهم.

الثالث: خطاب النبيّ يا مطمع الشفاعة للأمّة و يا هادي الخلق إلى الملّة.

الرابع: و هو قول سعيد بن جبير هو افتتاح اسمه المبارك بالطيّب الطاهر الهادي.

الخامس: الطاء من الطهارة و الهاء من الهداية و معناه: يا طاهرا من الذنوب و يا هاديا إلى علّام الغيوب، و هذا القول قريب من قول الثاني.

ص: 68

السادس: الطاء طول القرّاء و الهاء هيبتهم في قلوب الكفّار من قراءة القرآن.

السابع: الطاء تسعة في الحساب و الهاء خمسة تكون أربعة عشر و معناه: يا أيّها البدر أو الأئمّة الأربعة عشر المعصومون.

الثامن: طه بلغة الطي ء معناه يا محمّد، نزلت هذه الكلمة بلغة طي ء.

التاسع: معناه يا رجل بلغة النبطيّه، عن ابن عبّاس و الحسن و المجاهد و سعيد بن جبير و قتادة و عكرمة و الكلينيّ إلّا أنّه قال عكرمة: هي بلغة الحبشة، و قتادة قال: بلغة السريانيّة، و الكلبيّ قال: بلغة عكّ و استشهد بقول شاعرهم:

إنّ السفاهة طه في خلائقكم لا قدّس اللّه أرواح الملاعين

و إذا كان بهذا المعنى فلا يجوز الحمل إلّا بلغة عكّ لأنّ القرآن نزل بلغة العرب و يمكن أنّه يوافق في هذه الكلمة لغة العرب مع الحبشة و السريانيّة و إلّا لا يصحّ.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام قال: كان رسول اللّه عند عائشة ليلتها فقالت: يا رسول اللّه لم تتعب نفسك و قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟ فقال: يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا؟

و في الاحتجاج عن الكاظم عليه السّلام عن أمير المؤمنين لقد قام رسول اللّه عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه و اصفرّ وجهه يقوم الليل كلّه حتّى عوتب في ذلك بقوله سبحانه:

[طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى] بل لتسعد به، و الشقاء بمعنى التعب شائع و منه أشقى من رابض المهر، و سيّد القوم أشقاهم.

المعنى: سبب النزول قيل: سبب ما ذكرناه من أنّه كان صلّى اللّه عليه و آله يقوم على أصابعه، فنزلت الآية.

و قيل: كان إذا قام من الليل ربط و علق صدره بحبل حتّى لا ينام فقال له جبرئيل:

ابق على نفسك فإنّ لها حقّا عليك.

أي ما أنزلناه لتهلك نفسك بالعبادة و تذيقها المشقّة الشديدة و ما بعثت إلّا بالحنيفيّة السمحة.

ص: 69

و قيل: المعنى لا تشقّ على نفسك و لا تعذّبها بالأسف على كفر هؤلاء فإنّا إنّما أنزلنا عليك القرآن لتذكّر به فمن اتّقى و أصلح فلنفسه فمن كفر فلا يحزنك كفره فما عليك إلّا البلاغ كقوله. «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ، الآية» (1).

و قيل: إنّ الآية ردّ قول المشركين و ذلك أنّ أبا جهل و الوليد بن مغيرة و مطعم ابن عديّ و النضر بن الحارث قالوا لرسول اللّه: إنّك لتشقى حيث تركت دين قومك، فقال عليه السّلام: بل بعثت رحمة للعالمين، قالوا: بل أنت تشقى، فنزلت الآية.

و قيل: إنّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكّة و في ذلك الوقت كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مقهورا تحت ذلّ أعدائه فنزلت الآية أنّه لا تظنّ أنّك تبقى على هذه الحالة أبدا في العناء و التعب بل يعلو أمرك و يظهر قدرك و إنّا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقيّا بينهم بل تصير معظّما مكرّما.

و أمّا قوله: [إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى] قيل: «إِلَّا» هاهنا استثناء منقطع بمعنى لكن أو التقدير: ما أنزلنا عليك القرآن لتحمّل التعب و الأذيّة و ما أنزلنا إلّا ليكون تذكرة ليعتبر بك غيرك و إنّما خصّ من يخشى لأنّهم المنتفعون بهذه التذكرة و إن كان الحكم عامّا في الجميع و هو كقوله: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (2).

قوله تعالى: [تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى] تقديره: أنزلناه تنزيلا ممّن خلق الأرض و بدأ بالأرض ليستقيم رءوس الآي و السماوات الرفيع العالية، نبّه بذلك للدلالة على عظم خالقهما.

ثمّ أكّد بقوله: [الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى] أي هو الرحمن أقبل على خلق العرش، قال أحمد بن يحيى: الاستواء الإقبال على الشي ء و التوجّه و الاستيلاء.

[لَهُ] ملك [ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ] و تدبيرها و علمها [وَ ما بَيْنَهُما] من المخلوق و الهوى [وَ ما تَحْتَ الثَّرى] أي التراب الندى و ما وارى الثرى من كلّ شي ء و ما ضمّن من الكنوز و الأموات.

ص: 70


1- الكهف: 6. الشعراء: 2.
2- البقرة: 2.

[وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ] و ترفع صوتك أولا تجهر به [فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى] من السرّ، قالوا: السرّ ما حدّث به الإنسان غيره في خفية و أخفى منه ما أضمرت في نفسك و لم تحدّث به غيرك أو الوسوسة و حديث النفس.

قال الباقر و الصادق عليهما السّلام: السرّ ما أخفيته في نفسك و أخفى ما خطر ببالك ثمّ نسيته و اللّه هو العالم بجميع المعلومات؛ فهذه الآية إمّا نهي عن الجهر الفاحش في ذكر اللّه كقوله:

«وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» (1) و إمّا المراد أنّ الجهر ليس لاستماع اللّه و إنّما لفرض آخر و أنّه عالم لذاته في كلّ الأوقات بعلم واحد و ذلك العلم غير متغيّر لأنّه عين ذاته من غير أن يكون موصوفا بالحدوث و الإمكان و الخلق بأسره لا يشارك الربّ إلّا في السدس الأوّل و هو أصل العلم ثمّ هذا السدس بينه و بين خلقه أيضا نصفان فخمسة دوانيق و نصف منه مسلّم له و النصف الواحد لجملة خلقه ثمّ هذا الجزء الواحد مشترك بين الخلائق أجمعون من الملائكة الكرّوبيّة و الملائكة الروحانيّة و حملة العرش و سكّان السماوات و ملائكة الرحمة و العذاب و جميع الأنبياء أوّلهم آدم و آخرهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذا جميع الخلائق من البشر و الجنّ في علومهم الضروريّة و النظريّة و الحرف و الصناعات و التركيبات و جميع الحيوانات في إدراكاتها و شعوراتها و الاهتداء إلى مصالحها في معاشها و تغذيتها و مضارّها فكلّ على قدر رتبته يحصل له من ذلك الجزء و الحاصل لك من ذلك الجزء أقلّ من الذرّة المؤلّفة ثمّ إنّك إذا عرفت بهذه الذرّة صفاته الواجبة و الجائزة و المستحيلة فكيف يكون علمه بخمس دوانيق و نصف؟

أفلا يعلم أسرار عبوديّتك و خضوعك؟

فهذا تحقيق قوله: «وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى» بل الحقّ أنّ الدينار بتمامه له لأنّ الّذي تعلّمته بتعليمه، و لهذا التحقيق مثال و هو الشمس فإنّ ضوءها يجعل العالم منوّرا و لا ينتقص من ضوئها شي ء البتّة فكذا ههنا، انتهى.

قوله: [اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى] ثمّ ذكر الموصوف بالعلم المذكور و القدرة هو اللّه واحد لا شريك له و هو الّذي يستحقّ العبادة لا غيره.

ص: 71


1- الأعراف: 204.

و هاهنا تحقيق و هو أنّ مراتب التوحيد أربع: أحدها الإقرار باللسان و الثاني الاعتقاد بالقلب و الثالث تأكيد الاعتقاد بالحجّة و الرابع أن يصير العبد مغمورا في بحر التوحيد بحيث لا يدور في خاطره شي ء غير عرفان الأحد الصمد.

أمّا الإقرار باللسان إذا كان خاليا عن الاعتقاد بالقلب فذلك هو المنافق، و أمّا الاعتقاد بالقلب إذا وجد خاليا عن الإقرار باللسان ففيه صور:

الصورة الاولى أنّ من نظر و عرف اللّه و مات قبل أن يمضي عليه من الوقت ما يمكنه التلفّظ به فقال قوم: إنّه لا يتمّ إيمانه و الحقّ أنّه يتمّ لأنّه أدّى ما كلّف به و عجز عن التلفّظ.

قال الرازيّ: و رأيت في الكتب أنّ ملك الموت مكتوب على جبهته: لا إله إلّا اللّه، لكي إذا رآه المؤمن تذكّر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك التذكّر عن الذكر.

الصورة الثانية أنّ من عرف اللّه و مضى عليه من الوقت ما يمكنه التلفّظ بالكلمة و لكنّه قصّر فيه.

قال الشيخ الغزاليّ: يحتمل أن يقال: اللسان ترجمان القلب فإذا حصل المقصود في القلب كان امتناعه من التلفّظ جاريا مجرى امتناعه من الصلاة و الزكاة و كيف يكون من أهل النار و قد قال عليه السّلام: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان؟

و قلب هذا الرجل مملوّ منّ الإيمان. و قال آخرون: الإيمان و الكفر امور شرعيّة نحن نعلم أنّ الممتنع من هذه الكلمة كافر.

الصورة الثالثة من أقرّ باللسان و اعتقد بالقلب من غير دليل فهو مقلّد و الاختلاف في صحّة إيمانه مشهور.

أمّا المقام الثالث من المقامات الأربعة و هو إثبات التوحيد بالحجّة و قد شرح اللّه هذه الحجّة بقوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» (1) و هو دليل التمانع و قد شرحوا هذا البيان و المطلوب بالدلائل العقليّة و السمعيّة.

و أمّا المقام الرابع و هو الفناء في بحر التوحيد فقال المحقّقون: العرفان مبتدأ من

ص: 72


1- الأنبياء: 22.

تفريق و بغض و ترك و رفض ممكن في جميع صفات هي من صفات الحقّ للذات المريدة منته بالصدق إلى الواحد القهّار و حينئذ تكون الأسماء و الأذكار و التهليلات كاشفة عن هذا المعنى من القلب و حاكية عنه.

قال رسول اللّه: أفضل الذكر لا إله إلّا اللّه و أفضل الدعاء أستغفر اللّه ثمّ تلا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» (1).

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى خلق ملكا من الملائكة قبل أن خلق السماوات و الأرض و هو يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه مادّا بهذه الكلمة صوته لا يقطعها و لا تنفّس فيها و لا يتمّها فإذا أتمّها امر إسرافيل بالنفخ في الصور و قامت القيامة تعظيما للّه تعالى.

و روي عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: ما زلت أشفع إلى ربّي و يشفّعني حتّى قلت: يا ربّ شفّعني فيمن قال: لا إله إلّا اللّه قال: يا محمّد هذه ليست لك و لا لأحد و عزّتي و جلالي لا أدع أحدا في النار قال: لا إله إلّا اللّه.

قال الثوريّ: سألت جعفر بن محمّد عليه السّلام عن «حم عسق» قال: الحاء حكمه و الميم ملكه و العين عظمته و السين سناؤه و القاف قدرته يقول اللّه: جلّ ذكره بحكمي و ملكي و عظمتي و سنائي و قدرتي لا اعذّب بالنار من قال: لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه.

و عن عمر روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قام في السوق فقال: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد يحيى و يميت و هو حيّ لا يموت بيده الخير و هو هو على كلّ شي ء قدير، كتب اللّه له ألف ألف حسنة و محا عنه ألف ألف سيّئة و بنى له بيتا في الجنّة.

أقول: و لا تغفل أيّها الإنسان من شروط لا إله إلا اللّه و هي الولاية الولاية الولاية و لو أنّك طول عمرك بل عمر الدهر تقول: لا إله إلّا اللّه عن عقيدتك بقلبك و لسانك و توقّفت في ولايتهم و ليس معنى الولاية أنّك تحبّهم بل معنى الولاية أن تعتقد أنّ الأئمّة الاثني عشر خلفاء اللّه بعد النبيّ في أرضه و سمائه فلو توقّفت بهذا الأمر أو شككت أو تركت واحدا منهم فما ينفعك أمر قطّ لأنّ اللّه قرن طاعتهم بطاعته و قد جعلهم

ص: 73


1- محمد: 19.

اللّه من شروط لا إله إلّا اللّه.

و ينبغي لأهل هذه الكلمة التصديق و التعظيم و الحلاوة و الحرّيّة فمن ليس له التصديق فهو منافق و من ليس له التعظيم فهو مبتدع و من ليس له الحلاوة فهو مراء و من ليس له الحرّيّة فهو فاجر.

قال المفسّرون و المحقّقون في قوله: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» (1) أنّه لا إله إلّا اللّه، و قوله: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» (2) لا إله إلّا اللّه، و قوله: «وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ» (3) لا إله إلّا اللّه، و «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» (4) لا إله إلّا اللّه، و قيل: المراد بواحدة فاطمة، و قوله تعالى:

«وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» (5) عن قول لا إله إلّا اللّه، و قوله: «بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ» (6) هو لا إله إلّا اللّه «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ» (7) هو لا إله إلّا اللّه «وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» (8) عن قول لا إله إلّا اللّه.

و في الحديث أنّ موسى بن عمران عليه السّلام قال: يا ربّ علّمني شيئا أذكرك به قال اللّه تعالى: قل: لا إله إلّا اللّه، قال موسى: كلّ عبادك يقولون: لا إله إلّا اللّه، فقال اللّه:

قل: لا إله إلّا اللّه، قال موسى: إنّما أردت شيئا تخصّني به، قال: يا موسى لو أنّ السماوات السبع و من فيهنّ في كفّة و لا إله إلّا اللّه في كفّة لمالت بهنّ لا إله إلّا اللّه.

فائدة نحوية و هي أنّه من إعراب هذه الكلمة تبيّن معناه: قالوا: كلمة «لا» هاهنا دخلت على الماهيّة فانتفت الماهيّة و إذا انتفت الماهيّة انتفت كلّ أفرادها و أمّا كلمة «اللّه» فإنّه اسم علم للذات المعيّنة إذ لو كان اسما معيّنا لكان كلّها محتملا للكثرة فلم تكن مفيدة للتوحيد.

و كلمة «لا» نفي الماهيّة استحقّت عمل إنّ لمشابهتها لها من وجهين: أحدهما ملازمة الأسماء و الآخر تشاركهما في التأكيد فإنّ أحدهما لتأكيد الثبوت و الآخر

ص: 74


1- ابراهيم: 24.
2- فاطر: 10.
3- العصر: 4.
4- سبا: 46.
5- الصافات: 24.
6- يس: 52.
7- ابراهيم: 27.
8- ابراهيم: 27.

لتأكيد النفي و من عادتهم تشبيه أحد الضدّين بالأخرى في الحكم إذا ثبت هذا فقوله:

إنّ زيدا ذاهب كان يجب أن يقول: لا رجلا ذاهب حالة الإعراب منوّنا لكنّهم جعلوا مدخول «لا» مبنيّا أمّا البناء فلشدّة اتّصال حرف النفي بمدخوله فصارا كأنّهما اسم واحد و أمّا الفتح فللخفّة و للفرق بين حركة الإعراب و البناء.

ثمّ إنّ خبره محذوف و الأصل: لا إله في الوجود و هذا يدلّ على أنّ الوجود زائد على الماهيّة.

و لو قيل: تصوّر الثبوت مقدّم على تصوّر السلب فإنّ السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوّره فكيف قدّم هاهنا السلب على الثبوت؟ لأنّ هذا السلب من مؤكّدات الثبوت لا جرم قدّم عليه قوله تعالى: «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» (1) أي الأسماء الدالّة على توحيده و إنعامه على العباد و المعاني الحسنة بأيّها دعوتهم جاز.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ للّه تعالى تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنّة، تأويله من وحّد اللّه و ذكر هذه الأسماء يريد بها إعظامه دخل الجنّة. و قد جاء في الحديث: من قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا دخل الجنّة، فهذا لمن ذكر اسم اللّه موحّدا له به فكيف لمن ذكر أسماءه كلّها يريد بها توحيده و الثناء عليه.

و إنّما قال: «الحسنى» بلفظ المفرد و لم يقل: الأحاسن لأنّ الأسماء إذا كانت مؤنّثة فباعتبار الجماعة يقع مفردة مؤنّثة كأنّه اسم واحد للجمع كقوله: «حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ» (2) و «مَآرِبُ أُخْرى» (3).

و قال عليه السّلام: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيّها الناس أنا جعلت لكم نسبا و أنتم جعلتم لأنفسكم نسبا أنا جعلت أكرمكم عندي أتقاكم و أنتم جعلتم أكرمكم أغناكم فالآن أرفع نسبي و أضع نسبكم أين المتّقون الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.

و اعلم أنّ الأشياء في قسمة العقول على ثلاثة أقسام: كامل لا يحتمل النقصان فهو

ص: 75


1- طه: 8.
2- النمل: 60.
3- طه: 18.

اللّه و ذلك في حقّه بالوجوب الذاتيّ، ثمّ بعده الملائكة لكن بالوجود الإمكانيّ فإنّ من كما لهم أنّهم لا يعصون اللّه ما أمرهم و من صفاتهم أنّهم عباد مكرمون و من صفاتهم أنّهم يستغفرون للّذين آمنوا، و أمّا الناقص الّذي لا يحتمل الكمال فهو الجمادات و النبات و البهائم، و أمّا الّذي يقبل الأمرين جميعا فهو الإنسان فتارة يكون في الترقّي بحيث يخبر عنه بأنّه «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» (1) و تارة في التسفّل بحيث يقال: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» (2) و إذا كان الأمر كذلك فاستحال أن يكون الإنسان كاملا لذاته و ما لا يكون كاملا لذاته استحال أن يصير موصوفا بالكمال إلى أن يصير منتسبا إلى الكامل لذاته و الانتساب قسمان: قسم يعرض للزوال و قسم لا فالّذي يعرض للزوال فلا فائدة فيه كالجمال و المال و الصحّة و أمّا الّذي لا يعرض للزوال فعبوديّتك للّه فإنّه كما يمتنع زوال صفة الإلهيّة عنه يمتنع زوال العبوديّة عنك مادمت عبدا فهذه النسبة لا تزول ما دامت العبوديّة كما أنّ المنتسب إليه و هو الحقّ لا يقبل الخروج عن صفة الكمال.

و أنت أيّها الإنسان إذا كنت في بلدة نزهة أو كنت منتسبا إلى قبيلة شريفة فلا تزال تبالغ في مدح تلك البلدة و القبيلة بسبب ذلك الانتساب العرضيّ الزائليّ فأن تشتغل بذكر اللّه و نعوت كبريائه بسبب النسبة الدائميّ الغير الزائليّ كان أولى فلهذا قال: «وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (3) و قال: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» (4).

و جملة «لا إله إلّا هو» بيان أنّ ما ذكر من صفات الكمال من الخالقيّة و الرحمانيّة و المالكيّة و العالميّة أسماؤه و صفاته من غير تعدّد في ذاته فإنّه روي أنّ المشركين حين سمعوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «يا اللّه يا رحمن» قالوا: ينهانا أنّ نعبد إلهين و هو يدعو إلها آخر.

قال الرازيّ في المفاتيح: يقال: إنّ للّه أربعة آلاف اسم: ألف لا يعلمها إلّا اللّه و ألف لا يعلمها إلّا اللّه و الملائكة و ألف لا يعلمها إلّا اللّه و الملائكة و الأنبياء و أمّا الألف

ص: 76


1- القمر: 55.
2- التين: 5.
3- الأعراف: 179.
4- طه: 8.

الرابع فانّ المؤمنين يعلمونه فثلاثمائة منها في التوراة و ثلاثمائة في الإنجيل و ثلاثمائة في الزبور و مائة في القرآن تسع و تسعون منها ظاهرة و واحد مكتوم فمن أحصاها دخل الجنّة.

و الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناء و مدحا كقوله: «جاعل» و «فالق» فإذا قيل: «فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» (1) صار مدحا و منها ما هو مدح فإذا قرن بغيره صار أبلغ كقولنا: «حيّ» فإذا قيل: «الْحَيُّ الْقَيُّومُ»* (2) أو «الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ» كان أبلغ، و منها ما يكون اسم مدح مفردا أو مقرونا كقولنا:

«الرحمن الرحيم».

و ليس حسن الأسماء حسنا يتعلّق بالصورة و الخلقة فإنّ ذلك محال على من ليس بجسم بل حسن يرجع إلى معنى الإحسان مثلا اسم الستّار و الرحيم و الغفّار إنّما كانت حسناء لأنّها دالّة على معنى الإحسان.

قيل: إنّ حكيما ذهب إليه قبيح و حسن و التمسا الوصيّة و الموعظة منه فقال للحسن: أنت حسن و الحسن لا يليق به الفعل القبيح، و قال للآخر: أنت قبيح و القبيح إذا فعل القبيح عظم قبحه. فنقول: إلهنا يكفينا قبح أفعالنا و سيرتنا فلا تضمّ إليه بسبب استحقاقنا وحشة العذاب.

ذكر أنّ صيّادا كان يصيد السمك فصاد سمكة و كان له ابنة فأخذت السمكة و طرحها في الماء و قالت: إنّها ما وقعت في الشبكة إلّا لغفلتها. إلهنا تلك الصبيّة رحمت غفلة هاتيك السمكة و كانت تلقاها مرّة اخرى في البحر و نحن قد اصطادتنا وسوسة إبليس و أخرجنا من بحر رحمتك فارحمنا بفضلك، و ألقنا في بحار رحمتك مرّة اخرى.

و حكاية بشر الحافي و هي معروفة و أصلها أنّه رأى كاغذا مكتوبا فيه «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»* في الأرض فرفعه و طيّبه بالمسك و قيل: بلعه، فرأى في النوم قائلا يقول:

يا بشر طيّبت اسمنا فنحن نطيّب اسمك في الدنيا و الآخرة.

و قد ذكر اللّه سبحانه في الفاتحة من الأسماء خمسة و هي اللّه و الربّ و الرحمن

ص: 77


1- الانعام: 96.
2- البقرة: 257.

و الرحيم و المالك و من أراد الاستقصاء في الأسماء و الصفات فعليه بكتاب لوامع البيّنات في الأسماء و الصفات، انتهى.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 9 الى 16]

وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)

المعنى: خاطب اللّه نبيّه تسلية له ممّا ناله من أذى قومه و تثبيتا له بالصبر على أمر ربّه كما صبر موسى حتّى نال الفوز في الدنيا و الآخرة كما قال سبحانه: «وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» (1) و بدأ بموسى عليه السّلام لأنّ المشقّة الحاصلة له كانت أعظم فقال: و هل سمعت بخبر موسى إذ رأى نارا؟

عن ابن عبّاس قال: كان موسى رجلا غيورا لا يصحب الرفقة لئلّا ترى امرأته فلمّا قضى الأجل و فارق مدين خرج، و قيل: استأذن موسى شعيبا عليه السّلام في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج فولد له في الطريق ابن و كان معه غنم له و أهله على أتان و على ظهرها جوالق فيها أثاث البيت فأضلّ الطريق في ليلة مظلمة باردة و تفرّقت ماشيته و لم ينقدح زناده (2) كلّما قدح و امرأته في الطلق و بينا هو كذلك إذ نظر نارا من بعيد عن يسار الطريق فظنّ أنّها نار من نيران الرعاة و هي عند موسى عليه السّلام كانت نارا و عند اللّه نورا.

قيل: النار أربعة أقسام: نار تأكل و لا تشرب و هي نار الدنيا و نار تشرب و لا تأكل و هي نار الشجر كالمرخ و أمثاله لقوله تعالى: «جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً» (3) و نار تأكل و تشرب و هي نار المعدة و نار لا تأكل و لا تشرب و هي نار موسى عليه السّلام.

ص: 78


1- هود: 120.
2- العود الذي يقتدح به النار.
3- يس: 80.

و أيضا باعتبار آخر ينقسم إلى أربعة اخرى: نار لها نور بلا حرقة و هي نار موسى عليه السّلام و ثانيها حرقة بلا نور و هي نار جهنّم. و ثالثها الحرقة و النور و هي نار الدنيا و رابعها لا حرقة و لا نور نار الأشجار.

و بالجملة فلمّا أبصر موسى النار توجّه نحوها [فَقالَ لِأَهْلِهِ] و الخادم و أمثاله:

[امْكُثُوا] و أقيموا مكانكم و الفرق بين الإقامة و المكث أنّ الإقامة تدوم و المكث لا يدوم. قوله: [إِنِّي آنَسْتُ ناراً] أي أبصرت نارا و الإيناس الإبصار الّذي لا شبهة فيه. و منه إنسان العين فإنّه يتبيّن به الشي ء و يظهر. و الإنس يقال لظهورهم كما قيل الجنّ لاستتارهم و خفائهم و أيضا هو من مادّة الانس و الإيناس.

و لمّا كان الإيناس بالقبس مترقّبا و متوقّعا بنى الأمر فيه على الطمع و الرجاء فقال: [لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ] أي بجذوة أو برأس عود أو فتيلة منها [أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ] هاديا يدلّني على الطريق لأنّ النار لا تخلو من أهل لها و ناس عندها. و الهدى اسم مصدر لما يهتدى به.

[فَلَمَّا أَتاها] أي أتى النار فإذا النار في شجرة عنّاب فوقف متعجّبا من حسن ضوء تلك النار و شدّة خضرة تلك الشجرة فسمع النداء من الشجرة و هو قوله: [نُودِيَ يا مُوسى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ] كقولك: يا فلان أنا ربّك الّذي خلقك، فأجاب سريعا ما يدري من دعاه فقال: إنّي أسمع صوتك و لا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك و معك و أمامك و خلفك و أقرب إليك من نفسك فعلم موسى إنّ ذلك لا ينبغي إلّا لربّه و أيقن به.

و قيل: إنّه لمّا رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها يتوقّد فيها نار بيضاء و سمع تسبيح الملائكة و رأى نورا عظيما لم يكن الخضرة تطفئ النار و لا النار تحرق الخضرة تحيّر و علم أنّه خارق العادة و معجز و إنّه أمر عظيم فألقيت عليه السكينة و إنّما كرّر الكناية لتأكيد الدلالة و إزالة الشبهة و تحقيق المعرفة.

[فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ] و انزعهما و السبب في هذا الأمر قيل: إنّما كانتا من جلد حمار ميّت، عن كعب و عكرمة و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام. و قيل: كانتا زكيّة و لكنّه امر بخلعهما

ص: 79

ليباشر بقدميه الأرض فتصيبه بركة الوادي المقدّس. و قيل: لأنّ الحفاء من علامة التواضع [إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً] أي واد كثير البركة مطهّر و «طوى» اسم للوادي و قيل: «طوى» الوادي بالبركة.

[وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ] و اصطفيتك للرسالة [فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى] إليك من كلامي و أصغ إليه، و لمّا أمره باستماع الوحي فابتدأ سبحانه بالتوحيد فقال: [إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا] و لا يستحقّ العبادة غيري [فَاعْبُدْنِي] خالصا و لا تشرك في عبادتي غيري أحدا.

و هاهنا مسألة قال الأشعريّ: إنّ اللّه أسمعه الكلام القديم الّذي ليس بحرف و لا صوت و المعتزلة أنكروا وجود ذلك الكلام و قالوا: إنّ اللّه سبحانه خلق ذلك الصوت و النداء في جسم من الأجسام كالشجرة لأنّ النداء كلام اللّه و اللّه قادر عليه و متى شاء فعله.

و أمّا أهل السنّة من أهل ما وراء النهر فقد اعتقدوا بقدم الكلام إلّا أنّهم زعموا أنّ الّذي سمعه موسى صوت خلقه اللّه في الشجرة و احتجّوا بالآية على أنّ المسموع هذا النداء و الصوت المحدث و أنّه رتّب النداء على أنّه أتى النار و المرتّب على المحدث محدث فالنداء محدث.

و استدلّت المعتزلة بقوله: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» على أنّ كلام اللّه تعالى ليس بقديم إذ لو كان قديما لكان اللّه قائلا قبل وجود موسى: فاخلع نعليك يا موسى، و معلوم أنّ ذلك باطل فإنّ الرجل لا يقول و لا ينادي في الدار الخالية: يا زيد و إذا قال يحسب سفها فكيف يليق بالإله سبحانه؟ و لأنّ الأمر في ذلك الوقت ما كان له متعلّق.

و في قوله: «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي» دلالة على أنّ علم الأصول مقدّم على علم الفروع و الفاء في قوله: «فَاعْبُدْنِي» تدلّ على التعقيب.

[وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي] أي اذكرني في الصلاة بالتسبيح و التعظيم لأنّ الصلاة لا يكون إلا بذكر اللّه و قيل: معناه «أقم الصلاة» لأن أذكرك بالمدح و الثناء. و قيل:

معناه صلّ لي و لا تصلّ لغيري و لا تذكّر لغيري كما يفعله المشركون. و قيل: أقم الصلاة متى ذكرت أنّ عليك صلاة و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام و يؤيّده ما رواه أنس عن النبيّ

ص: 80

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من نسي فليصلّها إذا ذكرها.

ثمّ أخبر سبحانه لموسى بمجي ء الساعة فقال: [إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ] و جائية لا محالة [أَكادُ أُخْفِيها] أي أريد أن أخفيها عن الناس لئلّا تأتيهم إلّا بغتة قال ابن عبّاس: معناه المبالغة في الخفاء أي أكاد لا اظهر علمها أحدا حتّى من نفسي إذا كدت أن أخفيها من نفسي فكيف أظهرها لك؟ [لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى] و تعمل من خير و شرّ.

[فَلا يَصُدَّنَّكَ] عن الصلاة و لا يصرفنّك [مَنْ لا يُؤْمِنُ] بالساعة، و قيل: الضميران راجعة كلاهما إلى الساعة قوله: [وَ اتَّبَعَ هَواهُ] و لا يمنعك عن هذه الخصال من بنى أمره على متابعة الهوى دون الحقّ [فَتَرْدى] و تهلك حينئذ بسبب المخالفة و ترك التأهّب و الخطاب لموسى عليه السّلام و هو من سائر المكلّفين.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 17 الى 36]

وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)

وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)

وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)

وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36)

المعنى: كلمة «تلك» قيل: إشارة، و قيل: موصولة أي ما الّتي في يمينك؟

أو بالإشارة: ما تلك في يمينك؟ و السؤال إنّما يكون لطلب العلم و هو على اللّه محال لكنّه أراد أن ينبّهه على وقوع أمر عظيم لكي لا يدهش بسبب ذلك الأمر العظيم و يعلم أنّ هذا الأمر إنّما وقع بطريق المعجزة فلا يخاف أنّ الخشبة اليابسة تنقلب ثعبانا عظيما.

و لمّا تكلّم معه بهيبة الإلهيّة و ألزمه التكاليف الصعبة من علم المبدأ و المعاد و الوسط و ختمه بالتهديد العظيم حيث قال: «لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ» إلى آخر الآية،

ص: 81

تحيّر موسى و دهش من التحيّر بحيث كاد أن لا يعرف اليمين من الشمال.

فلو قيل: إنّ اللّه تعالى خاطب موسى من غير واسطة و لم يحصل ذلك لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمّد.

فالجواب أنّه كما خاطب سبحانه موسى فقد خاطب محمّدا في قوله تعالى: «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى» (1) و الفرق بينهما أنّ الّذي ذكره مع موسى أفشاه إلى الخلق و الّذي ذكره مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان سرّا لم يستأهل له أحد من الخلق و امّة محمّد يخاطبون اللّه مرّات في الليل و النهار كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المصلّي يناجي ربّه و في يوم القيامة يكلّم اللّه المتّقين من امّته بقوله تعالى: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (2).

و الصحيح أنّ «تلك» مبتدأ و «ما» خبره مقدّم عليه لما فيه من معنى الاستفهام.

فأجاب موسى [هِيَ عَصايَ] أعتمد عليها إذا مشيت و التوكّؤ التحامل على العصا في المشي و أخبت بها ورق الشجر لترعاه غنمي و قرئ «أهسّ» بالسين المهملة زجر الغنم [وَ لِيَ فِيها] فوائد اخرى و لم يقل: «أخر» بالجمع لتوافق رءوس الآي.

قال ابن عبّاس: كان يحمل عليها زاده و يركزها فيخرج منه الماء و يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل و يطرد بها السباع و إذا ظهر عدوّ حاربت و إذا أراد الاستسقاء من بئر طالت و صارت شعبتاها كالدلو و كان يظهر عليها كالشمعة فتضي ء بالليل و كان تحدّثه و تؤنسه و إذا طالت شجرة جناها بمحجنها و كانت هذه الفوائد لعصا بعد أن صار موسى موسى.

قال اللّه تعالى: [أَلْقِها يا مُوسى] و لعلّ التأويل أنّ من كان قلبه مشغولا بالعصا و منافعها و النعلين كيف يكون مستغرقا في بحر معرفة اللّه فألق هذه العلائق عنك و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا عرض عليه الجنّة و النار لم يلتفت إلى شي ء منها: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى» (3).

ص: 82


1- النجم: 11.
2- يس: 58.
3- الشعراء: 77.

و أيضا في تأويل إلقاء العصا أنّ كلّ ما سوى اللّه فالالتفات إليه شاغل و هو كالحيّة المهلكة لك كما قال الخليل: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» (1) و في الحديث: يجاء يوم القيامة بصاحب المال الّذي لم يؤدّ زكاته و يأتي ذلك المال على صورة شجاع أقرع الحديث.

و من قوله: «أَلْقِها يا مُوسى» يتبيّن أنّ الاستطاعة قبل الفعل لأنّ القدرة على إلقاء العصا إمّا يوجد و العصا في يده أو خارجة من يده فإن أتته القدرة و هي في يده فثبت المطلوب و أنّ اللّه ليس بظلّام للعبيد. و إذا أتته و ليست في يده و إنّما استطاع أن يلقي من يده ما ليس في يده فذلك محال.

فإن قيل: إنّ الثعبان و الجانّ بينهما تناف لأنّ الثعبان هو العظيم من الحيّات و الجانّ الدقيق منها و الصغير منها و أنّ وقت انقلاب العصا كانت حيّة صغيرة دقيقة ثمّ تورّمت و تزايد جرمها حتّى صارت ثعبانا.

فالجانّ (2) أوّل حالها و الثعبان مآلها على أنّها كانت في شخص الثعبان و سرعة حركة الجانّ و الدليل على هذا المعنى قوله تعالى: «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ»* (3) و أمّا صفتها: كان لها عرف كعرف الفرس و كان بين لحييها أربعون ذراعا و كانت تبتلع كلّ ما مرّت به من الصخور و الأحجار حتّى سمع موسى صرير الحجر في فمها و جوفها.

[قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى] لمّا نودي موسى و خصّ بتلك الكرامات العظيمة و علم أنّه مبعوث من اللّه إلى الخلق فلمّا خاف و كان ذلك الخوف من نفرة الطبع و مقتضى البشريّة و الخوف دليل لصحّة نبوّته و صدق ادّعائه لأنّ الساحر يعلم أنّ الّذي أتى به تمويه فلا يخافه البتّة.

فلمّا سمع: «خذها» أدخل يده بين أسنانها فانقلب خشبة و لمّا قال له ربّه:

«لا تخف» بلغ من ذهاب خوفه و طمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها و أخذ بلحييها

ص: 83


1- جواب لما أورد.
2- النمل: 10.
3- القصص: 31.

فعادت عصا و نصب «سيرتها» بنزع خافض أي إلى سيرتها و حالتها الاولى و على موسى يومئذ مدرعة من صوف قد خلّها بخلال فلمّا أمره سبحانه بقوله: «خذها» لفّ طرف المدرعة على يده فقال اللّه: يا موسى أ رأيت لو أذن اللّه ممّا تحاذر كانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال: و لكنّي ضعيف و من ضعف خلقت فكشف عن يده ثمّ وضعها في فم الحيّة فإذا يده في الموضع الّذي كان يضعها إذا توكّأ عليها بين الشعبتين.

و قيل: كانت العصا من اسّ الجنّة أخرجها آدم و توارثها الأنبياء إلى أن بلغ شعيبا فدفعها إلى موسى عليه السّلام و قيل: كانت من عوسج و كان طولها عشرة أذرع على مقدار قامة موسى و المراد من الذراع من المرفق إلى رءوس الأصابع لا الذراع الاصطلاحيّ.

قوله تعالى: [وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى] اعلم أنّه يقال: لكلّ ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه و جناحا الإنسان جنباه و الأصل المستعار منه جناحا الطائر لأنّه يجنحهما و يميل بهما إلى الحركة أي و اجمع يدك إلى ما تحت عضدك أو إلى جنبك أو إلى جيبك ادخل يدك تخرج بيضاء لها نور ساطع تضي ء بالليل و النهار أشدّ من نور الشمس و القمر من غير بياض كالبرص ففعل فخرجت يده كما قال اللّه ثمّ ردّها فعادت إلى لونه الّذي كانت عليه، آية اخرى زيادة على آية العصا.

[لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا] أي خذها لنريك بعض آياتنا [الْكُبْرى] و الكبرى بمناسبة الآية و نعت الآية فلو قيل: نعت الآيات فكقوله: «مَآرِبُ أُخْرى» و «الْأَسْماءُ الْحُسْنى»* و بالجملة لمّا أظهر سبحانه له هاتين الآيتين أمره بالذهاب [اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ] و بيّن العلّة في ذلك و قال: [إِنَّهُ طَغى] و تكبّر في كفره.

[قالَ] موسى عند ذلك [رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي] و وسّعه حتّى أ تحمّل و لا أخاف و سهّل عليّ إذا كلّفتني بالرسالة و أطلق عن لساني العقدة الّتي فيه حتّى يفهموا كلامي و كان في موسى رتّة لا يفصح معها بالحروف شبه التمتمة و سبب ذلك جمرة طرحها في فيه لمّا أراد فرعون قتله لأنّه أخذ بلحية فرعون و نتفها و هو طفل فقالت آسية بنت مزاحم: لا تفعل لأنّه صبيّ لا يعقل و علامة جهله أنّه لا يميّز الدرّة من الجمرة فأمر

ص: 84

فرعون حتّى احضر الدرّة و الجمرة بين يديه فأراد موسى أن يأخذ من الدرّة فضرب جبرئيل يده إلى الجمرة فأخذها و وضعها في فيه فاحترق لسانه.

و بالجملة فأجاب اللّه مسؤوله بقوله: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ» و مناك و من مسؤولاته:

[وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي] أتّقوى به و برأيه و كونه من أهله يوجب أن يكون له أولى ببذل النصح و كان هارون أخاه لأمّه و أبيه [وَ أَشْرِكْهُ] معي في الأمر و النبوّة و المراد من الشركة النبوّة و لو لا ذلك لكان يجوز له أن يستوزره من غير مسألة لأنّ الوزارة الإعانة و الاستعانة لا يلزم الرخصة و كان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين و أتمّ طولا و أبيض جسما و أفصح لسانا [كَيْ] ننزّهك عمّا لا يليق بك و إنّما سأل هذه الحاجات ليتوصّل بها إلى الطاعات لأنّها موجباتها لا للرياسة [وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً] بأحوالنا و عالما باحتياجنا بهذه الأمور.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإنّ موسى عليه السّلام خرج يقتبس لأهله نارا فكلّمه اللّه فعاد و هو نبيّ، و خرجت ملكة سبأ كافرة فأسلمت مع سليمان عليه السّلام، و خرج سحرة فرعون يطلبون العزّة و يعارضون الربّ فرجعوا مؤمنين.

فانظر في فضيلة التسبيح و الدعاء أنّ مثل هذا النبيّ المكرّم الّذي كلّمه اللّه تعالى و أنعم عليه بهذه النعم العظيمة من المعجزة و الرسالة و قبول مسؤولاته قابل هذه النعم بالذكر و الدعاء فقال: نسبّحك كثيرا.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 37 الى 44]

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)

اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)

المعنى: لمّا أخبر سبحانه بأنّه أتاه طلبته بقوله: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى»

ص: 85

عقّبه في هذه الآية بأنّ نعمتنا جارية عليك قديما و حديثا و عدّد تلك النعمة بقوله:

[وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى] قبل هذه المرّة «و المرّة» الكرّة الواحدة و ذلك حين ألهمنا امّك ما كان فيه نجاتك من القتل قيل: رأت بالمنام أن تفعل هكذا أو القي هذا الأمر في خاطرها أو أنّه سبحانه أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزّمان كشعيب عليه السّلام و غيره و ذلك النبيّ عرّفها.

ثمّ فسّر ذلك الإيحاء بقوله: [أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ] و اجعليه بأن ترميه فيه و اقذفي التابوت و الصندوق [فِي الْيَمِ] يراد به النيل روي أنّها اتّخذت تابوتا و جعلت فيه قطنا محلوجا و وضعت فيه موسى و قيّرت شقوقه و رأسه ثمّ ألقته في النيل و الّذي صنع التابوت قيل: حزقيل مؤمن آل فرعون.

[فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ] و الساحل بمعنى المسحول سمّي بذلك لأنّ الماء يسحله فكأنّه سبحانه أمر اليمّ كما أمر امّ موسى، و المعنى أنّها متى تلقيه في البحر يلقيه اليمّ في الساحل حتما و اليمّ اسم يقع على البحر و النهر العظيم [يَأْخُذْهُ] بعد إلقائه في اليمّ [عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ] يعني فرعون كان عدوّا للّه و لأنبيائه و عدوّا لموسى خاصّة لتصوّر أنّ ملكه ينقرض على يده لأنّ فرعون خوفا من هذا الأمر كان يقتل غلمان بني إسرائيل ثمّ خشي أن يفنى نسلهم فكان يقتل بعد ذلك في سنة و لا يقتل في سنة فولد موسى في السنة الّتي كان يقتل الغلمان فيها فنجاه اللّه فهذه المنّة الاولى.

[وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي] أي جعلتك بحيث يحبّك من يراك حتّى أحبّك عدوّك فرعون و أحبّتك امرأته آسية فربّتك في حجرها و أنّ البحر القى التابوت بموضع من الساحل فيه فوهة نهر قصر فرعون و أدّاه النهر إلى بركته فلما رآه أخذه قيل:

جعل اللّه موسى محبوبا إلى الناس فلا يلقاه أحد مؤمن و لا كافر إلّا أحبّه و قيل: كانت ملاحة في عين موسى فما رآه أحد إلّا أحبّه.

قوله: [وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي] أي و لتربّى و تغذّى بمرأى منّي و يجري أمرك على ما أريد من الرفاهة في غذائك و ذلك أنّ من صنع الإنسان شيئا و هو ينظر إليه صنعه كما يحبّ قال القفّال: معناه لترى على عيني و وفق إرادتي و المراد من العين العلم أي

ص: 86

ترى على علم منّي كما أنّ العالم بالشي ء يحرسه عن الآفات كما أنّ الناظر إليه يحرسه عن الآفات فالعين كأنّها سبب الحراسة فأطلق اسم المسبّب مجازا و قيل: المعنى أن تربّى و تغذّى بحياطتي و حفظي كما يقال: عليك عين اللّه و قوله: إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى امّك، فصار ذلك تفسيرا لحياطة اللّه.

و «لتصنع» قرئ بكسر اللام و جزم العين بصيغة الأمر و بفتح التاء و النصب أي و ليكون تصرّفك و عملك على علم منّي.

و بالجملة لمّا فشا الخبر بمصر أنّ آل فرعون أخذ وا غلاما في النيل و هو لا يرتضع من ثدي كلّ امرأة يؤتى بها لأنّ اللّه حرّم عليه المراضع غير امّه اضطرّوا إلى تتبّع النساء فلمّا رأت اخت موسى جاءت إليهم منكّرة فقالت: [هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ] ثمّ جاءت بالأمّ فقبل ثديها فرجع إلى امّها بلطف اللّه [فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ].

و من المنن قوله تعالى: [وَ قَتَلْتَ نَفْساً] خطاء و هو الّذي وكزه موسى و كان قبطيّا كافرا فخاف موسى أن يقتلوه به [فَنَجَّيْناكَ] من خوف الاقتصاص [وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً] و اختبرناك اختبارا و عاملناك معاملة المختبر حتّى خلصت للاصطفاء بالرسالة و هذه النعمة الأخيرة من أعظم النعم و قيل: امتحنّاك في تشديد المعاش حتّى رعيت لشعيب عشر سنين.

ثمّ شرح سبحانه في ذلك فقال: [فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ] حين كنت راعيا لشعيب [ثُمَ] بعد ذلك [جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى] أي في الوقت الّذي قدّر لإرسالك نبيّا قال الشاعر:

نال الخلافة إذ كانت له قدراكما أتى ربّه موسى على قدر

و قيل: جئت على الوقت الّذي يوحى فيه إلى الأنبياء و هو على رأس أربعين سنة.

[وَ اصْطَنَعْتُكَ] و اتّخذتك صنيعتي و أخلصتك لتشتغل بإرادتي و إقامة حجّتي و جعلتك بيني و بين خلقي.

[اذْهَبْ أَنْتَ] و هارون بحججي و آياتي [وَ لا تَنِيا] أي و لا تضعفا و لا تفترا في أمري و لا تقصّرا.

ص: 87

[اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ] كرّر الأمر بالذهاب للتأكيد و قيل: إنّ في الأوّل اختصّ موسى بالأمر و في الثاني أمرهما ليصيرا شريكين في الأمر [إِنَّهُ طَغى] و جاوز الحدّ في الطغيان.

[فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً] له أي ارفقا في الدعوة و القول و لا تغلظا له و قيل: معنا كنّياه و كنيته أبو الوليد و قيل: أبو العبّاس و قيل: أبو مرّة [لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ] ما أغفل عنه من عبوديّة نفسه و ربوبيّة اللّه سبحانه و يخشى العقاب و العذاب و قيل: إنّ هارون كان بمصر فلمّا أوحى اللّه إلى موسى أن تأتي مصر أوحى إلى هارون أن يتلقّى موسى فتلقّاه على مرحلة و ذهبا إلى فرعون.

و قال يحيى بن معاذ في قوله تعالى: «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» إلهي هذا رفقك بمن يدّعي الألوهيّة فكيف رفقك بمن أقرّ بالعبوديّة؟

قيل: إنّ موسى أتاه و قال له: تسلم و تؤمن لربّ العالمين على أنّ لك شبابك فلا تهرم و تكون ملكا لا تنزع الملك حتّى تموت و لا تنزع منك لذّة الطعام و الشراب و الجماع حتّى تموت فإذا متّ دخلت الجنّة فأعجبه ذلك و كان لا يقطع أمرا دون هامان و كان غائبا فلمّا أقدم هامان أخبره بالّذي دعاه إليه و أنّه يريد أن يقبل منه فقال هامان:

قد كنت أرى أنّ لك عقلا و أنّ لك رأيا بينا أنت ربّ تريد أن تكون مربوبا و بينا أنت تعبد تريد أن تعبد؟ فقلّبه عن رأيه و لا ينافي هذه التوصية من اللّه تعالى لموسى في قوله: «قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» مع علمه بأنّه لا يؤمن لأنّه أراد أن يتمّ الحجّة عليه لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 45 الى 56]

قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49)

قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54)

مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى (56)

ص: 88

لمّا أمر اللّه موسى و هارون أن يمضيا إلى فرعون و يدعواه إليه [قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا] و نخشى أن يسبقنا بعذاب و يعجل بعقوبة علينا.

[قالَ] سبحانه: [لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما] بالنصرة و الحفظ و [أَسْمَعُ] ما يسأله عنكما فألهمكما جوابه [وَ أَرى] ما قصده بكما فأدفعه عنكما قوله: [فَأْتِياهُ] أي فأتيا فرعون [فَقُولا]: أرسلنا إليك خالقنا بما ندعوك إليه [فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ] أي أطلقهم و لا تعذّبهم بالأعمال الشاقّة.

و احتجّ القائلون بعدم فوريّة الأمر بهذه الآية لأنّه لو كان يقتضي الفوريّة لما جاز لهم أن يسألوا ما يزيدهم الاطمينان و الثبات و لكانوا يمضون سريعا إلى حيث أمرهم اللّه خصوصا إذا ضمّت إليه ما يدلّ على أنّ المعصية غير جائزة على الرسل انتهى.

قوله: [قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ] و دلالة واضحة و لائحة من اللّه يشهد لنا بالصدق و النبوّة [وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى] قالوا: لم يرد بالسلام هنا التحيّة بل معناه أنّ من اتّبع الهدى سلم من عذاب اللّه و يدلّ على هذا المعنى بعده [إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى] أي إنّما يعذّب اللّه من كذّب بما جئنا به و أعرض عنه فأمّا من اتّبعه فإنّه يسلم من العذاب.

و في الكلام حذف و تقدير و هو فأتياه [قالَ فَمَنْ رَبُّكُما] قال لهما فرعون: فمن ربّكما يا موسى؟ و اكتفى بذكر موسى للتغليب و الشمول لهارون و لتسوية رءوس الآي.

و أراد فرعون من هذا الكلام أنّ ربّكما من أيّ جنس من الأجناس حتّى أفهمه.

فبيّن موسى أنّه تعالى ليس له جنس و إنّما يعرف بأفعاله فقال: [رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى] أي كلّ شي ء قدّره بالصورة فهداه إلى مطعمه و مشربه و منكحه و غير ذلك من ضروب الهداية الموجبة لبقاء وجوده و وجود نوعه من امور معاشه بعضا و امور معاشه و معاده بعضا كالإنسان ليتوصّل بها إلى الآخرة و نعيمها أو الآية

ص: 89

بالتقديم و التأخير أي أعطى خلقه كلّ شي ء يحتاجون إليه.

[قالَ] فرعون: [فَما بالُ الْقُرُونِ] الماضية فإنّها لم تقرّ باللّه و ما تدعو إليه كعبدة الأوثان و مثل قوم نوح و عاد و ثمود و أمثالها ف [قالَ] موسى: [عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي] أي أعمالهم محفوظة عند اللّه يجازيهم على أعمالهم و التقدير: علم أعمالهم عند ربّي [فِي كِتابٍ] أي في اللوح المحفوظ أو ما يكتبه الملائكة لا يخطئ ربّى [وَ لا يَنْسى] أي لا يغفل و لا يترك شيئا [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً].

و هاهنا مسألة و هي أنّه كيف يتصوّر أنّ الّذي يميّز أنّ العشرة أكثر عددا من الخمسة أن يعتقد نفسه أنّه إله العالمين و هو يدرك عجزه في تدبير بدنه و لكلّ أحد يحصل علم الضروريّ بأنّه ليس خالقا و موجدا للعالم فكيف جهل فرعون هذا الأمر و ادّعى الربوبيّة؟ فيحتمل أنّه كان دهريّا نافيا للمؤثّر أصلا و يحتمل أنّه كان فلسفيّا قائلا بالعلّة الموجبة و يحتمل أنّه كان من عبدة الكواكب و يحتمل أنّه كان من الحلوليّة المجسّمة و ادّعاؤه الربوبيّة لنفسه بمعنى أنّه يجب عليهم طاعته و الانقياد له في تمام الأمور و عدم الاشتغال بطاعة غيره و هذا من أقبح أقسام الشرك و الكفر لأنّه قد عرف أنّ ربّه و خالقه غيره و قد جحده و ادّعى الإطاعة و العبادة لنفسه.

و قيل: إنّ موسى عليه السّلام لمّا دعا فرعون إلى الإقرار بالبعث قال فرعون: [فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى] فلم لم يبعثوا؟ فجاوبه موسى: [لا يَضِلُّ رَبِّي] إذ لا يذهب عليه شي ء.

و بالجملة ثمّ زاد موسى في الإخبار عن اللّه و قال: [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً] و مقرّا [وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا] أي أدخل لأجلكم في الأرض طرقا تسلكونها و سهّل لكم فيها طرقا من الجبال و الأودية و البراري [وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً] يعني المطر، تمّ كلام موسى.

ثمّ أخبر اللّه عن نفسه [فَأَخْرَجْنا] بذلك الماء [أَزْواجاً] أي صنوفا و أقساما من النبات مختلفة الألوان و الطعم و الشكل فمنها ما يصلح لطعام الإنسان و منها ما يصلح لغير الإنسان [كُلُوا] ممّا أخرجنا لكم بالمطر من النبات و الثمار [وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ] و أسيموا مواشيكم و اللفظ بالأمر و المراد الإجابة و التذكير بالنعمة إِنَّ [فِي ذلِكَ] المذكورات

ص: 90

دلالات لأهل العقل و قيل. لذوي الورع و التقوى.

[مِنْها] أي من الأرض [خَلَقْناكُمْ] أباكم آدم و في الأرض [نُعِيدُكُمْ] إذا أمتناكم [وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ] دفعة اخرى إذا حشرناكم.

قوله: [وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ] أي فرعون [آياتِنا كُلَّها] يعني الآيات التسع [فَكَذَّبَ] فرعون بجميع ذلك [وَ أَبى] أن يؤمن به فجحد الدليل و إنّما أراد بالآيات الّتي أعطاها موسى.

فإن قيل: إنّ فرعون خاطب الاثنين بقوله: «فَمَنْ رَبُّكُما» ثمّ لم وجّه النداء إلى أحدهما و هو موسى؟ لأنّه لخبثه كان يعلم الرتّة الّتي في لسان موسى عليه السّلام فأراد استنطاقه للفضيحة كما أنّه لمّا قهره موسى بالحجّة بقوله: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ» خاف فرعون أن يزيد موسى بالحجّة و يظهر للناس صدقه و فساد طريقة فرعون فصرفه عن ذلك الكلام شغله بالحكايات بقوله: «فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى» فلم يلتفت إليه موسى جاوبه بقوله: «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ» أي لا يتعلّق غرضي بأحوالهم و عاد إلى تتميم كلامه الأوّل و إيراد الدلائل الباهرة كقوله: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى».

و هذا الدليل ذكره اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى» (1) و قال إبراهيم في حججه لنمرود: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ» (2) لأنّك إذا نظرت إلى أضعف الخلق مثلا كالبقّ و البعوضة كيف تهتدي إلى مصالح أنفسها من الميل إلى ما ينفعها و الإعراض عن ما يضرّها و كذا هداية الحيوانات من عطف الأمّهات إلى الأولاد و هدى الأولاد لثدي الأمّهات لبقاء النوع و دوام التناسل و ضروب الانتفاعات من الجوارح لعرفت أنّ ذلك لا يمكن إلّا بإلهام من مدبّر عالم بجميع ما يحتاج يكون من غير سنخها و شبهها من جميع جهات المخلوقيّة.

ص: 91


1- الأعلى: 1- 3.
2- الشعراء: 77، 78.

و بيانه أنّ دلالة هذه الأشياء و الأمور على وجود المدبّر الصانع القديم المختار بسبب أنّ اتّصاف كلّ جسم من هذه الأجسام بتلك الصفة المخصوصة من التركيب و الشكل و القوّة و الهداية إمّا أن يكون واجبا أو جائزا و الأوّل باطل لأنّا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكّة عن تلك التراكيب و القوى فدلّ على أنّ ذلك جائز و الجائز لا بدّله من مرجّح و ليس ذلك المرجّح هو الإنسان و لا أبواه لأنّ فعل ذلك يستدعي قدرة عليه و علما بما فيه من المصالح و المفاسد و كلاهما نائيان عن الإنسان لأنّه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة و بعد البحث الشديد عن كتب التشريح لا يعرف من منافع الأعضاء و مصالحها إلّا القدر القليل فلا بدّ أن يكون المتولّي لتدبيرها موجودا آخر و ذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسما لأنّ الأجسام متساوية في الجسميّة فاختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثّريّة لا بدّ و أن يكون جائزا فلمّا صار جائزا افتقر إلى سبب آخر و الدور و التسلسل محالان فلا بّد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى موجود مؤثّر و مدبّر ليس بجسم و لا جسمانيّ. ثمّ تأثير ذلك المؤثّر إمّا أن يكون بالذات أو بالاختيار و الأوّل محال لأنّ الموجب لا يميّز مثلا عن مثل و هذه الأجسام متساوية في الجسميّة فلم اختصّ بعضها بالصورة الفلكيّة و بعضها بالصورة العنصريّة و بعضها بالنباتيّة و بعضها بالحيوانيّة فثبت أنّ المؤثّر و المدبّر قادر و أن يكون واجب الوجود بالذات و إلّا لا فتقر إلى مدبّر آخر و يلزم التسلسل و هو محال. انتهى.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 57 الى 66]

قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61)

فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66)

ص: 92

ثمّ حكى سبحانه عن فرعون أنّه نسب موسى إلى السحر تلبيسا على قومه [قالَ] فرعون: [أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ] أرض مصر لنأتينّك مثل ما أتيتنا فاجعل. و إنّما قال اللعين: «لتخرجنا» لإلقاء الشبهة في مسامع أهل مصر ما يصيرون مبغضين لموسى جدّا لأنّ هذه الأمر صعب نهاية بحيث جعله اللّه تعالى مساويا للقتل في قوله: «أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ» (1) ثمّ أورد الشبهة الطاعنة لنبوّته حيث نسبه إلى السحر لا المعجز.

قوله: [فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ] و الموعد يمكن أن يكون مصدرا و يجوز أن يكون اسما لمكان الوعد كقوله: «وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ» (2) و يجوز أن يكون اسم زمان الوعد كقوله «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ» (3) و الّذي في هذه الآية بمعنى المصدر أي اجعل بيننا وعدا لأنّ الوعد هو الّذي يصحّ وصفه بالخلف.

قوله: [سُوىً] قرئ بضمّ السين و بكسرها لغتان مثل طوى و طوى و قرئ منوّنا و غير منوّن قيل: المراد مكانا مستويا لا يحجب العين ما فيه من الارتفاع و الانخفاض أي لا يكون فيه ارتفاع و انخفاض حتّى يشاهد كلّ الحاضرين ما يجري أو المعنى مكانا يستوي حالنا في الرضا و الانتصاف و يكون نصفا بيننا و بينك. و قيل:

متساوي المسافة على الفريقين.

[قال] موسى: [مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ] و كان يوم عيد لهم يسمّى يوم الزينة لأنّ الناس كانوا يتزيّنون فيه و يزيّنون أسواقهم و يوم [يُحْشَرَ النَّاسُ] حال اجتماعهم في الضحى. و قيل: يوم الزينة كان عيدهم يوم النيروز. و قيل: يوم سوق لهم و قيل: يوم عاشورا و إنّما وعدهم ذلك اليوم موسى لتكون كلمة اللّه هي العليا و يظهر الحقّ من الباطل على الرءوس في المجمع العامّ ليحدّثوا بذلك الأمر العجيب.

ص: 93


1- النساء: 65.
2- الحجر: 43.
3- هود: 81.

[فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ] و انصرف و فارق موسى على هذا الموعد ثمّ جمع حيلته و مكره و ذلك جمع السحرة [ثُمَّ أَتى] و حضر الموعد في الموضع بالسحرة و بالقوم و بالآلات.

قال ابن عبّاس: كانوا اثنين و سبعين ساحرا مع كلّ واحد منهم حبل و عصا.

و قيل: كانوا أربعمائة. و قيل: أكثر من ذلك. ثمّ ضربت قبّة لفرعون فجلس فيها ينظر إليهم و كان طول القبّة سبعين ذراعا.

ثمّ بيّن موسى عليه السّلام قبل كلّ شي ء الوعيد و الموعظة ممّا قالوه و حذّرهم فقال: [وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى] و أنّ الّذي تزعمون ليس بحقّ و أنّه سحر و لا يمكنكم أيّتها السحرة معارضتي. و معنى «ويلكم» أي ألزمكم اللّه الويل و يجوز على النداء و قوله: «فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» و السحت استقصاء الشعر في الحلق أي يستأصلكم العذاب و يهلككم.

قوله: [فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ] أي تشاوروا و تفاوضوا في حديث موسى و هارون و فرعون أو تشاورت السحرة في ما هيّئوه للمعارضة مع موسى فيمن يبتدي في الإعمال و الإلقاء.

[وَ أَسَرُّوا النَّجْوى] يعني أنّ السحرة أخفوا كلامهم و تناجوا في ما بينهم سرّا من فرعون فقالوا: إن غلب علينا موسى اتّبعناه لأنّ موسى لمّا قال لهم: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً» قال السحرة بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر.

[قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ] و في رفع «هذان» ذكروا وجوها:

الأوّل أنّ كلمة «إن» ضعيفة في العمل لأنّها تعمل بسبب المشابهة للفعل لا بالأصالة و إذا كان عملها بالمشابهة لا بالأصالة فهي ضعيفة في العمل فجاز بقاء المبتداء على حاله.

و قيل: «إن» في الآية وقعت موقع نعم أي نعم هذان لهما ساحران و اللام دخلت على المبتدأ و هو ضميرهما لا على الخبر و ذكروا و قالوا: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ» مثل «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى» (1) و مثل قوله:

ص: 94


1- المائدة: 72.

«لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ- إلى قوله:- وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» (1).

و قيل: [إِنْ هذانِ لَساحِرانِ] بالتخفيف أي ما هذان إلّا ساحران.

و قال الأخفش: [إِنْ هذانِ لَساحِرانِ] خفيفة في معنى ثقيلة لغة يرفعون بها و يدخلون اللام ليفرّقوا بينهما و بين الّتي تكون في معنى «ما».

و قيل: و هو الأقوى إنّ هذه لغة لبعض العرب لغة لحارث بن كعب و كنانة و خثعم و بعض بني عذرة و بنى ربيعة، و استشهد الفرّاء بقولهم:

تزوّد منّا بين أذناه ضربةدعته إلى هاتي التراب عقيم

و قال الجاهليّ من بني ضبّة:

أعرف منه الجيد و العيناناو منخرين أشبها ظبيانا

و قال الآخر:

كان يمينا سجل و مضيفه يراق دم لن يبرح الدهر ثاويا

و أنشدوا:

إنّ أباها و أبا أباهاقد بلغا في المجد غايتاها

و قال ابن جنّيّ: عن قطرب صاحب كتاب مثلّث:

هناك أن تبكي بشعشعان رحب الفؤاد طائل اليدان

و أمثاله كثيرة: و بالجملة قالوا: إن هذان لساحران [يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ] من ملك مصر [وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى] الشريفة قال الفرّاء: الطريقة الرجال الأشراف الّذين هم قدوة لغيرهم يقال: هم طريقة قومهم و للواحد هو طريقة قومه.

و حاصل المعنى أنّهم أظهروا بأنّ موسى و هارون يريدان أن يذهبا بأشراف قومكم و أكابركم و هم بنو إسرائيل لقول موسى: «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» و بنو إسرائيل كان يومئذ أكثر عددا و أموالا

ص: 95


1- النساء: 161.

و من المفسّرين من فسرّ الطريقة المثلى بالدين و كان عندهم دينهم الطريقة المثلى الأمثل الأشبه بالحقّ و منهم من فسّر الطريقة بالمال و الجاه و غرضهم من هذا البيان تنفير الناس عن اتّباع موسى.

[فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ] أي لا تدعوا من كيدكم شيئا إلّا جئتم به [ثُمَّ ائْتُوا] مصطفّين مجتمعين لكي يكون أنظم لأمركم و أشدّ لهيبتكم [وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى] و غلب و علا و هذا قول بعض السحرة.

[قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى] أي إمّا أن تلقي ما معك أو نلقي ما معنا و هذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم و تواضع منهم لموسى لا جرم أنّ اللّه رزقهم الإيمان ثمّ إنّ موسى قابل أدبهم بأدب بقوله:

[قالَ بَلْ أَلْقُوا] فلو قيل: كيف أمرهم موسى بإعمال السحر و الكفر فإنّهم قصدوا بذلك تكذيب موسى؟ و الجواب أنّ موسى لمّا علم أنّ إلقاءهم لا يترتّب عليه أمر بل يحصل الخذلان لهم و إبطال معتقداتهم و يظهر الحقّ و الباطل من هذا الإلقاء ثمّ هذا الأمر مشروط بكونهم محقّين كقوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (1) أي قادرين و كان هذا الإلقاء طريقا إلى دفع الشبهة فله أن يأمرهم به.

و هاهنا حذف في الكلام و تقديره: فألقوا ما معهم [فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى] و الضمير في «إليه» راجع إلى موسى و قيل: إلى فرعون أي كان يرى الحبال أنّها تسير و تعدو مثل الحيّات.

و إنّما قال: «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ» لأنّها لم تكن تسعى حقيقة و إنّها تحرّكت لأنّهم جعلوا داخلها الزيبق فلمّا حميت الشمس طلب الزيبق الصعود و الخروج فحرّكت الشمس ذلك قال ابن عبّاس: ألقوا حبالهم و عصيّهم فخيّل إلى موسى أنّ الأرض كلّها حيّات و أنّها تسعى فخاف فلمّا قيل له: «أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ».

و ذلك قوله تعالى:

[سورة طه (20): الآيات 67 الى 76]

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (71)

قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74) وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

ص: 96


1- يونس: 38

المعنى: [فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ] أي أحسّ موسى في نفسه خوفا و وجد في نفسه ما يجده الخائف و السبب في ذلك أنّه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوّهموا أنّهم فعلوا مثل فعله فيظنّوا المساواة و لا يتّبعونه و قيل: خوف الطباع البشريّ أو خاف أن يتفرّق الناس قبل إلقائه العصا و يبقوا في الشبهة.

قلنا و خاطبنا موسى: [لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى] عليهم بالظفر و الغلبة و ألق العصا تبتلع و تلقف ما صنعوا من السحر و لمّا ألقى عصاه صارت حيّة و طاف حول الصفوف حتّى رآها الناس كلّهم ثمّ قصدت الحبال و العصيّ فابتلعها كلّها على كثرتها.

قوله: [إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ] و العرب تقول في الكذب: هو كلام مصنوع و موضوع و مجعول أي أنّ صنيعهم حيلة و مكر [وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ] بمقصوده و بغيته إذ لا حقيقة له حيث كان من الأرض و [حَيْثُ أَتى] بسحره لا فوز له لأنّ الحقّ يبطله.

فلمّا ألقى عصاه و ابتلع ما صنعوه [فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ] حال كونهم ساجدين و خرّوا لأنّهم كانوا من الطبقة العليا في السحر فلمّا رأوا ما فعله موسى عرفوا أنّه خارج عن الصناعة و ليس أمره من السحر فاستدلّوا بفناء أجسام الحبال و العصيّ العظيمة على القادر العالم و بظهورها على يد موسى على كونه رسولا من عند اللّه فلا جرم تابوا و آمنوا بربّ العالمين

ص: 97

قال الزمخشريّ: ما أعجب أمرهم! قد ألقوا حبالهم و عصيّهم للكفر و الجحود ثمّ ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر و السجود فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! و روي أنّهم من سرعة ما سجدوا القوا و لم يرفعوا رءوسهم حتّى رأوا الجنّة و النار.

عن عكرمة: لمّا خرّوا سجّدا أراهم اللّه منازلهم، و هذا بعيد لأنّهم لو كانوا كذلك لما يليق أن يقولوا: «إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا» و لو أنّه جاز منهم هذا القول كما قال إبراهيم: «وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي» (1) فلم لا يجوز في مثل السحرة؟

قوله: [قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى] و استدلّوا بهذه الآية التعليميّة أنّهم آمنوا باللّه الّذي عرفوه من قبل هارون و موسى، فدلّ ذلك على أنّ معرفة اللّه لا يستفاد إلّا من الإمام، و الحقّ أنّ هذا القول قويّ و يؤيّد هذا القول قولهم عليهم السّلام: بنا عرف اللّه و لولانا ما عرف اللّه.

و بالجملة [قالَ] فرعون للسحرة: قد صدّقتم لموسى قبل إذني. و قد بلغ من الجهل أنّه لا يعتقد دين إلّا بإذنه و الفرق بين الإذن و الأمر أنّ في الأمر دلالة على إرادة الآمر المأمور به و ليس في الإذن ذلك. و قيل: قال اللّعين ذلك لأن يموّه على الناس بقوله: [إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ] و أنتم تلامذته لأنّه خاف أن يفعل الناس ما فعلوا فألقى هذه الشبهة و تصلّف باقتداره و تمويهه بهذا الكلام.

[فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ] و القطع من خلاف أن يقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى لأنّ كلّ واحد من العضوين خلاف الآخر أي لاقطعنّها مختلفات و اليمين خلاف الشمال. و جملة «من خلاف» منصوبة على الحال و اتّصفت بالاختلاف.

[وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ] فشبّه اللعين وقوع الصلب و تمكّن المصلوب في الجذع بتمكّن الشي ء الموعى في وعائه قال الرازيّ هذا المعنى، و قال: و الّذي يقال في المشهور أنّ في بمعنى على فضعيف.

ص: 98


1- الشعراء: 82.

ثمّ قال: [وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى] و أدوم أنا أم ربّ موسى؟

فلو قيل: إنّ فرعون مع نقض عهده في تلك الساعة بمشاهدة انقلاب العصا ثعبانا و قصد ابتلاعها قصر فرعون و آل الأمر أن استغاث بموسى كيف يعقل أن يهدّد السحرة و يبالغ هكذا في وعيدهم إلى هذا الحدّ و يستهزئ بموسى في قوله: «أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى»؟

قلنا: إنّه كان في أشدّ الخوف في قلبه إلّا أنّه كان يظهر الجلادة تمشية لأمره و ناموسه و خوفا من أن ينقلب الناس دفعة واحدة عليه، و أمّا حال السحرة قال ابن عبّاس:

كانوا في النهار سحرة كفرة و في آخره شهداء بررة.

و [قالُوا] لفرعون: [لَنْ نُؤْثِرَكَ] و نفضّلك على ما آتانا من الأدلّة الدالّة على صدق موسى [فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ] أي فاصنع ما أنت صانعه، فأيّ شي ء تصنع بنا؟

فإنّا لا نرجع عن الإيمان إنّما تقضي و تصنع بسلطانك في هذه الحياة الدنيا دون الآخرة.

[إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا] من الشرك و المعاصي [وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ] و إنّما قالوا ذلك لأنّ الملوك كانوا يجبرون بعض الناس على تعليم السحر كيلا يخرج السحر من أيديهم حتّى يعجزون عن تمويه النّاس في دعاويهم الباطلة.

قيل: إنّ السحرة قبل أن يقابلوا موسى قالوا لفرعون: أرنا موسى إذا نام فأراهم إيّاه فإذا هو نائم و عصاه تحرسه، فقالوا: ليس هذا بسحر إنّ الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلّا أن يعملوا فذلك إكراههم.

[وَ اللَّهُ خَيْرٌ] لنا [وَ أَبْقى] و هذا جواب قوله: «وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى» انتهى الإخبار عن السحرة.

ثمّ قال اللّه سبحانه: [إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً] قيل: إنّه من بقيّة قول السحرة، قيل: المجرم هنا الكافر، و قيل: الّذي أجرم و فعل مثل فعل فرعون [فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها] فيستريح من العذاب [وَ لا يَحْيى] حياة فيها راحة بل هو معاقب بأنواع العذاب، و الهاء ضمير الشأن.

قال بعض المفسّرين: سبحان اللّه! القوم كفّار و هم أشدّ الكافرين أثبت في قلوبهم

ص: 99

الإيمان في طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن خاطبوا فرعون بقولهم: «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» في ذات اللّه و إنّ أحدكم اليوم ليصحب القرآن ستّين عاما ثمّ أنّه يبيع دينه بثمن حقير.

استدلّت المعتزلة بهذه الآية في القطع على و عيد أصحاب الكبائر، قالوا: صاحب الكبيرة مجرم و كلّ مجرم فإنّ له نار جهنّم لقوله: «إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً» و كلمة «من» في معرض الشرط تفيد العموم بدليل أنّه يجوز الاستثناء في كلّ واحد منها و الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل.

و اعترض بعض المتكلّمين على هذا الكلام فقال: لا نسلّم أنّ صاحب الكبيرة مجرم و الدليل عليه أنّه تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فإنّه قال في هذه الآية: «وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ» و قال: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ» (1) و أيضا فإنّه قال: «فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى» و المؤمن صاحب الكبيرة و إن عذّب بالنار لا يكون بهذا الوصف و في الخبر الصحيح: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان.

و هذا الجواب ليس جوابا للمعتزلة لأنّهم يقولون: إنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن و إنّ هذا الجواب جواب من يعتقد أنّ الكبيرة لا يخرج صاحبها عن الإيمان.

و بالجملة ثمّ ذكر حال المؤمنين فقال: [وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً] مصدّقا باللّه و بأنبيائه [قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ] أي أدّى الفرائض [فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى] أي درجات الجنّة و بعضها أعلى من بعض و العلى جمع العليا و هي تأنيث الأعلى [جَنَّاتُ عَدْنٍ] و إقامة و دوام [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى] و تطهّر بالإيمان و الطاعة عن دنس الكفر، و قيل: من تزكّى طلب الزكاء بالعمل.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 77 الى 81]

وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)

ص: 100


1- المطففين: 30.

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 141

المعنى: لمّا وقعت هذه القضيّة و رأى فرعون من الآيات فلم يؤمن هو و قومه و استجاب بعض بني إسرائيل موسى فأراد اللّه تمييزهم من طائفة فرعون و خلاصهم فأوحى اللّه إلى موسى أن أسر بهم أي المستجيبين ليلا أي في الليل من البحر و إنّما أمره بالإسراء لئلّا يكون اجتماعهم بمشهد فرعون فيمنعهم عن استكمال مراد هم و بسبب سراهم بالليل يكون فرعون عائقا عن طلبهم و لو تقارب العسكران لا يرى عسكر موسى عسكر فرعون فيها بوهم، فأمر اللّه موسى أن يضرب عصاه في البحر و أريد بضرب الطريق جعل الطريق بالضرب يبسا. و «يبسا» قرئ بسكون الباء و فتح الياء، و اليبس و اليابس شي ء واحد و المعنى: طريقا ذا يبس، و من قال بتسكين الباء فالمراد: ما كان فيه و حل و لا نداوة فضلا عن الماء.

قوله [لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى] أي لا تخاف أن يدركك فرعون فإنّي أحول بينك و بينه بالتأخّر عنك أي غير خائف و لا خاش و في قوله «لا تَخْشى» مستأنفة كأنّه و أنت لا تخشى «لا» بمعنى النفييّة لا النهييّة. و قيل: بمعنى الناهية، فحينئذ الألف ليست الألف المنقلبة من لام الفعل بل زائد للإطلاق من أجل الفاصلة مثل «فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» (1) و مثل «وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» (2).

[فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ] و ألحق جنوده بهم و بعث بجنوده في أثرهم فأحاطهم و لحقهم ما لحقهم، و في البيان تهويل و تعظيم للواقعة مثل قول أبي النجم:

«أنا أبو النجم و شعري شعري»

أي تعلم شعري أيّ شعر. فهلك فرعون و قومه و نجا موسى و قومه فليعتبر المعتبرون.

[وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى] أي صرفهم عن الحقّ و ما هداهم إلى طريق

ص: 101


1- الأحزاب: 67.
2- الأحزاب: 10.

النجاة. قال القاضي: لو كان الضلال من خلق اللّه لما جاز أن يقول: «وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ» و إنّه تعالى ذمّه بذلك فكيف يجوز أن يكون خالقا للكفر؟ و إنّما قال: «وَ ما هَدى» بعد قوله «أَضَلَّ» ليتبيّن أنّه استمرّ على ذلك. و حذف المفعول لمكان رأس الآية، و إنّما قال سبحانه هذا الكلام تكذيبا لقول فرعون إذ كان يقول لقومه: «وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» (1).

قال ابن عبّاس: لمّا أمر اللّه موسى أن يقطع بقومه البحر و كان موسى و بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحليّ و الدوابّ لعيد يخرجون إليه فخرج بهم ليلا و هم ستّمائة ألف و ثلاثة آلاف و نيّف ليس فيهم ابن ستّين و لا عشرين، و قد كان يوسف عليه السّلام عهد إليهم عند موته بجسده أو بعظامه- على أنّ معنى العظام الجسد- معهم من مصر فلم يخرجوا بها فتحيّر القوم حتّى دلّتهم عجوز على الموضع فأخذوها فقال موسى للعجوز: احتكمي، فقالت: أكون معك في الجنّة.

و بالجملة و خرج فرعون في طلب موسى عليه السّلام و على مقدّمته ألف ألف و خمسمائة ألف سوى الجنبين و القلب فلمّا انتهى موسى إلى البحر قال: هاهنا أمرت ثمّ قال موسى للبحر: انفرق، فأبى فأوحى اللّه إليه: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق فقال لهم موسى:

ادخلوا فيه، فقالوا: كيف و أرضه رطبة؟ فدعا اللّه فهبت عليها الصبا فجفّت فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى (2) حتّى يرى بعضهم بعضا ثمّ دخلوا حتّى جاوزوا البحر فأقبل فرعون إلى تلك الطرق فقال قومه له: إنّ موسى قد سحر البحر فصار كما ترى، و كان على فرس حصان و أقبل جبرئيل على رمكة في ثلاثة و ثلاثين من الملائكة فصار جبرئيل بين يدي فرعون و أبصر الحصان الرمكة فاقتحم بفرعون على أثرها و صاحت الملائكة في الناس: الحقوا الملك، حتّى إذا دخل آخرهم و كاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم فقالوا: يا موسى ما هذا؟ قال:

فأغرق اللّه فرعون و قومه فرجعوا لينظروا إليهم فقالوا: يا موسى ادع اللّه أن يخرجهم لناط.

ص: 102


1- المؤمن: 29.
2- جمع الكوة: الخرق في الحائط.

حتّى ننظر إليهم فدعا فلفظتهم البحر إلى الساحل و أصابوا من سلاحهم.

و ذكر ابن عبّاس أنّ جبرئيل قال: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو رأيتني و أنا أدسّ فرعون في الماء و الطين مخافة أن يتوب و سيأتي تمام القصّة في سورة الشعراء.

قوله تعالى: [يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ] فشرح اللّه نعمه بإزالة العدوّ عنهم أوّلا ثمّ ثنّى بذكر المنفعة الدينيّة لأنّه سبحانه أنزل عليهم كتابا فيه بيان دينهم و شرح شريعتهم ثمّ ثلّث بذكر المنفعة الدنيويّة بقوله:

[وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى] يعني في التيه [كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ] صورته صورة الأمر و المراد الإباحة كقوله: «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» (1) [وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ] و لا تتعدّوا عن الحلال إلى الحرام و لا تتناولوا من الحلال للاستعانة به على المعصية فيجب عليكم عقوبتي [فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي] و من ضمّ الحاء فالمعنى: فينزل عليكم عقوبتي [وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى] و هلك و إنّما نسب إلى الطور جانب اليمين و ليس للجبل يمين و يسار فالمراد أنّ طور سيناء واقع عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام و كان موسى خارجا من مصر و قاصدا بلاد المقدّسة، و قرئ الأيمن بالكسر على جرّ الجارّ نحو جحر ضبّ خرب.

قوله تعالى: [سورة طه (20): آية 82]

وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)

اعلم أنّ اللّه وصف نفسه في القرآن بكونه غفّارا و غفورا و غافرا و عبّر عنه بلفظ الماضي و المستقبل و الأمر و المصدر. في هذه الآية «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ، إلخ» و المصدر قوله:

«غُفْرانَكَ رَبَّنا» (2) و المغفرة: «وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ» (3) و بصيغة الماضي قوله في حقّ داود: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ» (4) و بصيغة المستقبل: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ»* (5) و الاستغفار: «وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ

ص: 103


1- المائدة: 3.
2- البقرة: 286.
3- الرعد: 7.
4- ص: 25.
5- النساء: 47 و 115.

وَ الْمُؤْمِناتِ» (1) و في حقّ نوح: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» (2) و في الملائكة:

«وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» (3) و الأنبياء عليهم السّلام طلبوا المغفرة؛ أمّا آدم عليه السّلام فقال:

«وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» (4) و أمّا نوح فقال: «وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي» (5) و أمّا إبراهيم فقال: «وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (6) و أمّا يوسف فقال في إخوته: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ» (7) و أمّا موسى ففي قصّة القبطيّ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي» (8) و أمّا داود: «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ» (9) و أمّا سليمان: «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً» (10) و أمّا عيسى:

«وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (11) و أمّا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقوله: «وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» (12).

و بالجملة [وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ] و رجع عن الشرك و المعصية و آمن و صدّق بوحدانيّته و صدّق رسله و عمل صالحا و أدّى الفرائض [ثُمَّ اهْتَدى] أي أدام على الهدى و لزم الإيمان إلى أن يموت لا يكون يرجع بعد التوبة إلى المعصية و الشرك أي بشرط أن يبقى على هدايته بسبب التوبة و الإيمان و العمل، و المراد من الاهتداء الاستعانة على التوبة و الإيمان و يؤيّد هذا القول قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا»* (13) كأنّه قال تعالى الإتيان بالتوبة و الإيمان و العمل الصالح ممّا قد يتّفق لكلّ أحد إنّما الحكم و الصعوبة في المداومة على ذلك و الاستمرار عليه: فالأوّل الرجوع و الندم ثمّ الإذعان و التصديق بما جاء به النبيّ و ما أمر اللّه و هو الإيمان، و الثالث العمل بالفرائض حسب ما ورد من أعمال الجوارح، و الرابع البقاء على هذه الأمور الثلاثة

ص: 104


1- محمد: 19.
2- نوح: 10.
3- الشورى: 5.
4- الأعراف: 22.
5- هود: 47.
6- الشعراء: 82.
7- يوسف: 92.
8- الأعراف: 150.
9- ص: 26.
10- ص: 25.
11- المائدة: 121.
12- محمد: 19.
13- فصلت: 30. الأحقاف: 13.

و هذا الأخير من ما يتعلّق بتطهير القلب من الأخلاق الذميمة و هو المسمّى في لسان العرفاء بالطريقة؛ فبعد انكشاف حقايق الأشياء للسالك بسبب المداومة على هذه الطريقة فذلك الانكشاف يسمّى بلسان العرفاء الحقيقة.

و عن ابن عبّاس في تفسير قوله «ثُمَّ اهْتَدى» أي أخذ بسنّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يسلك سبيل البدعة، عن ابن عبّاس و الرّبيع بن أنس.

و قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: ثمّ اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت؛ فو اللّه لو أنّ رجلا عبد اللّه عمره ما بين الركن و المقام ثمّ مات و لم يجي ء بولايتنا لأكبّه اللّه في النار على وجهه. رواه الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ بإسناده و أورده العيّاشيّ في تفسيره عن عدّة طرق.

و في المجالس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لعليّ عليه السّلام في حديث: و لقد ضلّ من ضلّ عنك و لن يهتدي إلى اللّه من لم يهتد إليك و إلى ولايتك و هو قول ربّي عزّ و جلّ:

«وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» إلى ولايتك.

و في المناقب عن السجّاد عليه السّلام في هذه الآية «ثُمَّ اهْتَدى» قال: إلينا أهل البيت و في المحاسن عن الصادق عليه السّلام «ثُمَّ اهْتَدى» قال: إلى ولايتنا.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام قال- و هو مستقبل البيت-: إنّما امر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثمّ يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا و هو قول اللّه: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى»- ثمّ أومأ بيده إلى صدره- إلى ولايتنا.

و العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام قال: لهذه الآية تفسير يدلّ ذلك على أنّ اللّه لا يقبل من أحد عملا إلّا ممّن لقيه منه بالوفاء بذلك التفسير و ما اشترط منه على المؤمنين.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: إنّكم لا تكونون صالحين حتّى تعرفوا و لا تعرفون حتّى تصدّقوا و لا تصدّقون حتّى تسلّموا أبوابا أربعة لا يصلح أوّلها إلّا بآخرها ضلّ أصحاب الثلاثة و تاهوا تيها عظيما إنّ اللّه لا يقبل إلّا العمل الصالح و لا يقبل اللّه إلّا بالوفاء بالشرط و العهد فمن و في اللّه بشرطه و عهده و استعمل ما وصف في عهده نال ما عنده و استكمل وعده إنّ اللّه أخبر العباد بطرق الهدى و شرع لهم فيها المنار و أخبرهم كيف

ص: 105

يسلكون فقال: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» و قال: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (1) فمن اتّقى اللّه فيما أمره لقى اللّه مؤمنا بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هيهات هيهات! فات قوم و ماتوا قبل أن يهتدوا و ظنّوا أنّهم آمنوا و أشركوا من حيث لا يعلمون إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى و من أخذ في غيرها سلك طريق الردى وصل اللّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله و طاعة رسوله بطاعته فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللّه و لا رسوله و هو الإقرار بما نزل من عند اللّه.

قال الفيض قدس سرّه: المراد بالأبواب الأربعة في الحديث الترتيب في الآية:

التوبة من الشرك، و الإيمان بالوحدانيّة، و العمل الصالح و الاهتداء إلى الحجج الاثني عشر عليهم السّلام و أصحاب الثلاثة إشارة إلى من جمع الثلاثة من التوبة و الإيمان و العمل و لم يأت بالرابع إذ هي كلّها شروط للمغفرة. انتهى.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 83 الى 86]

وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)

المعنى: اعلم أنّ في قوله تعالى: «وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى» دلالة على أنّه قد تقدّم موسى قومه في المسير إلى المكان الموعود الّذي نبّه عليه في قوله: «وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» في هذه السورة و في سائر السور كقوله: «وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» (2) يريد الميقات عند الطور.

قال ابن إسحاق: كانت المواعدة أن يوافي الميعاد هو و قومه أو المختارون من وجوه قومه فعجل موسى من بينهم شوقا إلى ربّه و خلّفهم ليلحقوا به فقيل له: [ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى] و بأيّ سبب خلّفت قومك و سبقتهم و جئت وحدك؟

قال موسى في الجواب: [هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي] و من ورائي يدركونني عن قريب

ص: 106


1- المائدة: 3.
2- الأعراف: 141.

ما تقدّمتهم إلّا بخطي يسيرة. و قيل: المعنى هم ينتظرون من بعدي ما الّذي آتيهم به، و ليس يريد أنّهم يتبعونه و لمّا كان السؤال عن سبب التقدّم و نفس العجلة فقال: ليس بيني و بينهم إلّا تقدّم يسير، ثمّ عقّبه بجواب للسؤال عن العجلة فقال: [وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى].

و اختلفوا في المراد بالقوم فقال بعضهم: هم النقباء السبعون الّذين قد اختارهم اللّه ليخرجوا معه إلى الطور فتقدّمهم موسى عليه السّلام شوقا إلى ربّه. و قال آخرون: إنّ القوم جملة بني إسرائيل و هم الّذين خلّفهم موسى عليه السّلام مع هارون عليه السّلام فيهم خليفة له إلى أن يرجع هو مع السبعين فقال: «هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي» و قريبون منّي ينتظرونني و إنّ المسارعة إلى امتثال أمر موجبة لمرضاتك.

و في مصباح الشريعة عن الصادق عليه السّلام قال: المشتاق لا يشتهي طعاما و لا يلتذّ شرابا و لا يستطيب رقادا و لا يأنس حميما و لا يأوي دارا و لا يسكن عمرانا و لا يلبس لباسا و لا يقرّ قرارا و يعبد اللّه ليلا و نهارا إلى أن يصل إلى ما يشتاق إليه و يناجيه بلسان شوقه معبّرا عمّا في سريرته كما أخبر اللّه عن موسى في ميعاد ربّه بقوله «عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى»، و فسرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن حاله أنّه ما أكل و لا شرب و لا نام و لا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه و مجيئه أربعين يوما (1) شوقا إلى ربّه.

قوله تعالى: [قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ] أي امتحنّاهم و شدّدنا عليهم التكليف بما حدث فيهم من أمر العجل فألزمناهم بالحجّة و النظر ليعلموا أنّ العجل ليس بإله من بعد انطلاقك، و السامريّ دعاهم إلى الضلال فقبلوا منه فأضاف الضلال إلى السامريّ و الفتنة إلى نفسه ليدلّ سبحانه على أنّ الفتنة غير الضلال. و معنى الامتحان ذكرناه مرارا أي عاملناهم معاملة المختبر المبتلي ليظهر لهم و لغيرهم من الخلق المنافق منهم و المخلص ليترتّب الجزاء.

قالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون المراد أنّ اللّه خلق فيهم الكفر لوجهين:م.

ص: 107


1- هذا بعيد و لم نظفر عليه، نعم في البحار ج 5 في أحواله عليه السلام انه لم يأكل شيئا ثلاثة ايام.

الاول الدلائل العقليّة الدالّة على أنّه لا يجوز من اللّه أن يفعل ذلك لأنّه ظلم إذا عذّبهم بعد خلق الكفر فيهم.

الثاني أنّه تعالى قال: «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» و لو كان اللّه خلق الضلال فيهم لم يكن لفعل السامريّ فيه أثر و كان يبطل قوله: «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» و أيضا فلأنّ موسى لمّا طالبهم بذكر سبب الفتنة قال: «أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ» فلو حصل ذلك بخلق اللّه لكان لهم أن يقولوا: السبب فيه أنّ اللّه خلقه فينا لا ما ذكرت فكان يبطل تقسيم موسى، و أيضا فقال: «أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ» و لو كان ذلك بخلقه لاستحال أن يغضب عليهم فيما هو الخالق له.

قال ابن عبّاس و سعيد بن جبير: كان السامريّ علجا من أهل كرمان وقع إلى مصر و كان من قوم يعبدون البقر. و الأكثرون أنّه من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة. و قيل: كان من القبط جارا لموسى و قد آمن به. و الّذين خلّفهم موسى مع هارون و أضلّهم السامريّ على ساحل البحر ستّمائة ألف افتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا و إنّ الجماعة أقاموا بعد مفارقة موسى عشرين ليلة و حسبوها أربعين مع أيّامها و قالوا: قد أكملنا العدّة و السامريّ شرع في تدبير الأمر لمّا غاب موسى و عزم على إضلالهم.

فلمّا استخبر موسى بالفتنة رجع إلى قومه من الميقات حزينا شديد الغضب متلهّفا على ما فاته لأنّه خشي أن لا يمكنه تدارك الأمر قال: يا بني إسرائيل [أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً] و هو إيتاء التوراة لتعلموا و تعملوا، أو المراد النجاة من فرعون و قومه و المغفرة لمن تاب و تمسّك بالدين [أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ] حتّى قست قلوبكم بسبب زيادة العشرة [أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ] فهذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر؛ لأنّ ليس أحد يريد ذلك لكن مريد السبب مريد للمسبّب بالعرض.

و احتجّ العلماء بأنّ الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات و لذا فرّقوا بين الغيظ و الغضب و أنّ اللّه لا يوصف بالغيظ و يوصف بالغضب لأنّ الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه و الغيظ تغيّر يلحق المغتاظ و ذلك لا يصحّ إلّا على الأجسام كالضحك

ص: 108

و البكاء تعالى اللّه عن ذلك.

قوله تعالى: [فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي] أي تخلّفتم ما وعدتموه لي من حسن الخلافة بعدي بمفارقتي إيّاكم و هو أنّه أمرهم أن يتمسّكوا بطريقة هارون و طاعته إلى أن يرجع، و يؤيّد هذا المعنى قوله: «بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي» (1).

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 87 الى 96]

قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91)

قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)

قرئ الملك بضمّ الميم و بكسرها و معناه واحد و قرئ بفتح الميم.

المعنى: قيل: قال الّذين عبدوا العجل. و قيل: قال الّذين لم يعبدوا العجل، و كانوا اثني عشر ألفا: [ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ] و كانوا و عدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور أي ما أخلفنا موعدك [بِمَلْكِنا] أي بأمر كنّا نملكه إنّ الشبهة قويت على عبدة العجل فلم نقدر على منعهم عنه لكثرتهم و قلّتنا لأنّ عبدة العجل كانوا ستّمائة ألف رجل. و من قرأ بضمّ الميم و الكسر فمعناه بسلطاننا و قدرتنا و بفتح الميم بمعنى أمرنا و ما كان ملاك الأمر في يدنا للرهبة منهم لكثرتهم و قلّتنا و لم نقدر أيضا على مخالفتهم لأنّا خفنا أن يصير ذلك سببا لوقوع التفرقة و زيادة الفتنة.

ثمّ فسّروا السبب الموجب لهذا الأمر فقالوا: [وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ] أي حملنا أثقالا من حليّ آل فرعون، و قرئ حملنا مخفّفة فمعناه حملنا مع أنفسنا ما استعرناه.

ص: 109


1- الأعراف: 149.

و بالتشديد أي حملنا أثاثا من حليّ القوم لأنّهم استعاروا حليّا من القبط ليتزيّنوا بها في عيد كان لهم ثمّ لم يردّوها عليهم عند الخروج من مصر مخافة أن يعلموا بخروجهم فحملوها و كان ذلك ذنبا منهم إذ كانوا مستأمنين فيما بينهم. و قيل: إنّهم كانوا في حكم الإسراء فيما بينهم و كان يحلّ لهم أخذ أموالهم. فعلى هذا لا يمكن حمله على الإثم.

و قيل: إنّ هذه الحليّ هي ما ألقاه البحر على الساحل من ذهبهم و فضّتهم و حليّهم بعد إغراق فرعون فأخذوها و لهذا كانت أثقالا. و قيل: إنّ موسى أمرهم باستعارة الحليّ و الخروج بها فكأنّه ألزمهم ذلك و إنّها لكثرتها كانت أثقالا. و قيل: سمّيت أثقالا لأنّ المغانم كانت عليهم محرّمة فكان يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أثقالا.

و روي أنّ هارون عليه السّلام قال: إنّها نجسة فتطهّروا منها. و قيل: إنّ ذلك الحليّ كان القبط يتزيّنون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر لا جرم و صفت بكونها أوزارا.

[فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ] أي فقذفنا الحليّ في النار رجاء للخلاص عن تبعتها و ذنبها فألقى السامريّ مثل ما قذفنا ما معه منها يوهم لهم أنّه فعل مثل ما فعلوا و إنّما كان الّذي ألقى هي التربة الّتي أخذها من أثر الرسول جبرئيل.

و سبب إلقاء الحليّ في النار لأنّ السامريّ قال لهم: إنّما تأخّر موسى عنكم لما معكم من الأوزار فالرأي أن نحفر حفيرة و نسجر فيها نارا و نقذف فيها كلّ ما معنا، ففعلوا و فعل السامريّ مثلهم بزعمهم. و قيل: إنّ بني إسرائيل أمرهم هارون أن يحفروا حفيرة و يجمعوا الحليّ فيها إلى أن يرجع موسى فما أمرهم به فعلوا فغرّهم السامريّ بهذه الحيلة لمّا كان هو يعبد العجل سرّا و يظهر الإيمان فلمّا عبر بنو إسرائيل البحر و رأوا قوما يعبدون التماثيل عجبهم هذه العبادة فانتهز السامريّ حينئذ الفرصة و غرّهم بهذه الحيلة.

أمّا قوله: [فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ] أي أخرج لهم من ذلك عجلا جسيما أي من تلك الحليّ المذابة صورة عجل لها منافذ و مناخر بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل، هذا قول أكثر المفسّرين.

ص: 110

و قال بعضهم: كان ذلك الجسد حيّا و خار كما يخور العجل و احتجّوا بقوله:

«فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ» و لو لم يصر حيّا لما كان لهذا الكلام فائدة. و احتجّوا أيضا أنّه تعالى سمّاه عجلا و العجل حقيقة في الحيوان.

و قال منكر و الحياة: إنّه لا يجوز إظهار مثل هذا الأمر و خرق العادة على يد الضالّ مثل السامريّ إذ الحياة ليست من فعله بل فعل فعل اللّه و ليست الحياة كالسحر و التمويهات و إنّ للحياة حقيقة و لا يقدر عليها أحد إلّا اللّه.

و أجاب المثبتون بأنّ ظهور خوارق العادة على يد مدّعي الإلهيّة جائز لأنّه لا يحصل الالتباس مع النظر و هاهنا كذلك فلا يمتنع وقوعه. و قيل: ما كان حيّا إلّا أنّ هارون مرّ بالسامريّ و هو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ فقال السامريّ: أصنع ما ينفع و لا يضرّ فادع لي، فقال: هارون اللّهم أعطه ما سأل؛ فلمّا مضى هارون قال السامريّ: اللّهم إنّي أسألك أن يخور فخار. روى عكرمة عن ابن عبّاس.

قوله تعالى: [فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى] أي فقال السامريّ و من تبعه من السفلة و العوامّ: هذا العجل معبود كم و معبود موسى. فلو قيل: إنّ القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أنّ ذلك العجل المعمول في تلك الساعة حضورا بالمرأى منهم هو الخالق للسماوات و الأرض فهم مجانين و ليسوا بمكلّفين و إنّ مثل هذا الجنون على مثل ذلك الجمع العظيم محال فكيف قالوا: «هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى» و اعتقدوا هذا الأمر الفاسد، فالسبب أنّهم كانوا من الحلوليّة و هم يجوّزون حلول الإله أو حلول صفة من صفاته في الجسم على أنّهم كانوا في نهاية البلادة و الجلافة.

قوله: [فَنَسِيَ] فيه قولان:

أحدهما أنّه قول السامريّ و من تبعه أي نسي موسى أن يقول لكم: إنّه الإله.

و قيل: المعنى قال السامريّ: فنسي و أخطأ موسى و ترك إلهه هنا و خرج يطلبه.

و القول الثاني: أنّه من قول اللّه أي فنسي السامريّ، و معنى النسيان الترك أي ترك الإيمان الّذي بعث اللّه به موسى و نسي الاستدلال على حدوث العجل و ترك

ص: 111

هذا الأصل الأصيل: إنّ الحادث لا يجوز أن يكون إلها.

ثمّ احتجّ سبحانه عليهم أي على عبدة العجل فقال: [أَ فَلا يَرَوْنَ] و يبصرون أنّ العجل الّذي اتّخذوه إلها لا يردّ عليهم جوابا و لا يقدر أن يضرّ و ينفع و وجوده لا حاء و لا ساء و من كان بهذه الصفة كيف يعقل أن يكون إلها؟ قال بعض المفسّرين: لمّا مضى من موعد موسى خمسة و ثلاثون يوما أمر السامريّ بني إسرائيل أن يجتمعوا و صاغ ما استعاروه من حليّ آل فرعون كما ذكرنا سابقا و صاغه عجلا في السادس و الثلاثين و السابع و الثامن و دعاهم إلى عبادته في التاسع فأجابوه و جاءهم موسى بعد استكمال الأربعين.

[وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ] عود موسى من الطور: [يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ] بالعجل و ضللتم بسببه و وقعتم في الفتنة فاعلموا أنّ إلهكم اللّه الواحد [وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي] في عبادة اللّه و لا تطيعوا السامريّ في عبادة العجل.

و إنّما قال ذلك شفقة على نفسه و على الخلق أمّا شفقته على نفسه فلأنّه كان مأمورا من عند اللّه عموما و خصوصا بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أمّا عموما فواضح و أمّا خصوصا لأنّه كان نبيّا و خليفة موسى فلو لم يشتغل بهذا العمل لكان مخالفا لأمر اللّه و متخلّفا عن أمر موسى حين قال له: اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبّع سبيل المفسدين، و ذلك ما كان يجوز له أما سمعت أنّ اللّه أوحى الى يوشع بن نون: إنّي مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم و ستّين ألفا من شرارهم فقال يوشع: يا ربّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فقال اللّه: إنّهم لم يغضبوا لغضبي.

قال ثابت البنانيّ عن أنس بن مالك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أصبح و همّه غير اللّه فليس من اللّه في شي ء و من أصبح لا يهتمّ بالمسلمين فليس منهم. و عن طرق العامّة قال الشعبيّ عن النعمان بن بشير عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مثل المؤمنين في تواددهم و تراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى.

و قال أبو عليّ الحسن الغوريّ: كنت في بعض المواضع فرأيت زورقا فيها دنان مكتوب عليها لطيف فقلت للملّاح: إيش هذا؟ فقال: أنت صوفيّ فضوليّ و هذه خمور

ص: 112

المعتضد فقلت له: أعطني ذلك المدرى فقال لغلامه: أعطه حتّى نبصر إيش يعمل فأخذت المدرى و صعدت الزورق فكنت أكسر دنّا دنّا و الملّاح يصيح حتّى بقي واحدة فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني و حملني إلى المعتضد و كان سيفه قبل كلامه فلمّا وقع بصره عليّ قال: من أنت؟ قلت: المحتسب، قال: من ولّاك الحسبة؟ قلت: الّذي ولّاك الخلافة! قال:

لم كسرت هذه الدنان؟ قلت: شفقة عليك إذ لم تصل يدي إلى دفع مكروه عنك، قال: فلم أبقيت واحدة منها؟ قلت: إنّي لمّا كسرت هذه الدنان فإنّي كسرتها حميّة في دين اللّه فلمّا وصلت إلى هذا أعجبت فأمسكت و لو بقيت كما كنت لكسرته، فقال: اخرج يا شيخ فقد ولّيتك الحسبة، فقلت: كنت أفعله للّه تعالى فلا احبّ أن أكون شرطيّا. و أمّا الشفقة على المسلمين فلأنّ الإنسان يجب أن يكون رقيق القلب مشفقا على أبناء جنسه و أيّ شفقة أعظم من أن يرى جمعا يتهافتون على النار فيمنعهم منها؟

و عن أبي سعيد الخدريّ عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول اللّه تعالى: اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإنّي جعلت فيهم رحمتي و لا تطلبوها في القاسية قلوبهم فإنّ فيهم غضبي.

و روي أنّه بينا رسول اللّه جالس و معه أصحابه إذ نظر إلى شابّ على باب المسجد فقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا، فسمع الشابّ ذلك فولّى و قال: إلهي و سيّدي هذا رسولك يشهد عليّ بأنّي من أهل النار و أنا أعلم أنّه صادق فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تشعلني بالنار حتّى تبرّ يمينه و لا تشعل النار بأحد آخر فهبط جبرئيل عليه السّلام و قال: يا محمّد بشّر الشابّ بأنّي أنقذته من النار بتصديقه لك و فدائه نفسه لأمّتك و لشفقته على الخلق.

و بالجملة إنّ هارون لمّا رأى أنّ الناس متهافتين على النار لم يبال بكثرتهم و أمر بمعروف دينه و صرّح الحقّ بقوله: «يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بالعجل» ثمّ دعاهم إلى معرفة اللّه ثانيا بقوله «وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ» ثمّ دعاهم ثالثا بمعرفة النبوّة بقوله «فَاتَّبِعُونِي» ثمّ دعاهم رابعا إلى الشرائع بقوله: «وَ أَطِيعُوا أَمْرِي» و هذا هو الترتيب الجيّد لأنّه قبل كلّ شي ء لا بدّ من إماطة الأذى و القاذورات عن الطريق و دفع الشبهات ثمّ معرفة اللّه

ص: 113

فانّها هي الأصل ثمّ النبوّة ثمّ الشريعة و إنّما قال: «إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ» و خصّ هذا الموضع باسم الرحمن لأنّه كان ينبئهم بأنّهم إن تابوا قبل اللّه توبتهم.

ثمّ إنّهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن بهذا الكلام الركيك الّذي ينبئ عن التقليد و الجحود [ف قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى] فقالوا: نستديم على عبادة العجل إلى أن يأتي موسى.

قوله تعالى: [قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ] و لا زائده [أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي].

و اعلم أنّ الطاعنين في عصمة الأنبياء خذلهم اللّه انتهزوا فرصة في ظاهر الآية و جالوا في الكلام و قالوا: إنّ موسى إمّا أن يكون قد أمر هارون باتّباعه أولم يأمره فإن أمر به فإمّا أن يكون هارون قد اتّبعه أولم يتّبعه فإن اتّبعه كانت ملامة موسى لهارون معصية و إن لم يتّبعه كان هارون تاركا للواجب فكان منه معصية و أيضا إنّ هارون قال: لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي فإن كان الأخذ بلحيته و برأسه جائزا كان قول هارون عليه السّلام: «لا تَأْخُذْ» منعا له عمّا كان له أن يفعله فيكون ذلك معصية من هارون عليه السّلام و إن لم يكن ذلك الأخذ جائزا كان موسى عليه السّلام فاعلا للمعصية. هذه مناقشات الطاعنين في العصمة.

و الجواب عن الكلّ قد ذكر في سورة البقرة في قوله: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها» (1) و أنّه لا يجوز صدور المعصية من الأنبياء ببراهين ثابتة و اصول محكمة و دلائل منفصلة الّتي توجب التأويل في ظاهر الآية و معارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز. إذا ثبتت هذه المقدّمة:

فالجواب عن هذه المناقشات وجوه و هو أنّه بتقدير ما أوردتموه لا يوجب صدور المعصية منهما بل يحصل ترك الأولى منهما أو من أحدهما لأنّ الفعل الّذي فعله أحدهما و منعه الآخر أعني موسى و هارون عليه السّلام كان أحدهما أولى و الآخر ترك الأولى بل يمكن أن لا يكون أيضا ترك أولى منها مثلا في قول موسى لهارون عليه السّلام: «ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ

ص: 114


1- الآية 36.

ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي» يجوز أن يكون موسى عليه السّلام أمر هارون عليه السّلام باللحاق به بشرط المصلحة و رأى هارون عليه السّلام الإقامة أصلح. و الشاهد يرى مالا يراه الغائب كما أنّه بيّن هارون عذره في عدم اللحاق بموسى و الإقامة معهم بقوله: [إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ] و يمكن أن يكون لم يأمره موسى بذلك و إنّما أمره بأن يتّبعه أي يجاهد مع القوم و يزجرهم فخاف من استتباع القتال و الجدال من التفريق الّذي لا يرجى بعده الاجتماع فلذلك استأنيتك و داريت معهم إلى أن ترجع إليهم لتكون أنت المتدارك للأمر حسب ما رأيت لا سيّما و القوم في غاية القوّة و نحن على الضعف كما يعرب عن هذا المعنى: «إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي».

و إنّما خصّ هارون عليه السّلام باللّائمة لأنّ موسى خلّف هارون عليه السّلام فخصّه بالعتاب و اللوم تشديدا للقوم و بيانا لقبح ما ارتكبوا و أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على لحيته و كان وقوع هذا الأمر من جرّ الرأس و الأخذ باللحية من شدّة تصلّبه في دين اللّه فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون اللّه من بعد ما رأوا الآيات العظام أن ألقى التوراة لمّا غلب على ذهنه هذا الأمر الشنيع و الدهشة العظيمة حميّة على دين اللّه و لذا أقبل على أخيه بهذا النوع من استنكار فعل القوم و هذه الأمور كلّها غير قبيحة بل حسنة.

و قد قيل: إنّ موسى لمّا رجع من الميقات و أتى بالتوراة و رأى ما وقع من فعل السامريّ أخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحّص عن كيفيّة الواقعة فخاف هارون عليه السّلام أن يسبق إلى قلوب بني إسرائيل مالا أصل له فقال إشفاقا على موسى عليه السّلام: لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي لئلّا يظنّ القوم ما لا يليق بك لأنّ بعض بني إسرائيل كانوا يزعمون أنّ موسى عليه السّلام يكره هارون عليه السّلام كما اتّهموه في فوت هارون عليه السّلام و قالوا: إنّ موسى عليه السّلام قتله.

و بالجملة لمّا ظهرت معاذير هارون عليه السّلام و براءة ساحته أقبل موسى عليه السّلام على السامريّ [قال] له: [فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ] و ما شأنك و ما دعاك إلى ما صنعت و ما

ص: 115

حملك عليه؟ [قالَ] السامريّ: [بَصُرْتُ] أمرا لم يروه [فَقَبَضْتُ قَبْضَةً] من تراب [مِنْ أَثَرِ] قدم حافر دابّة جبرئيل [فَنَبَذْتُها] و «قبضة» قرئ بضمّ القاف و هي اسم للمقبوض من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير و قرئ «قبصة» بالصاد المهملة و الفرق في المعنى أنّ الضاد بجميع الكفّ و الصاد المهملة بأطراف الأصابع.

و اختلفوا أنّه متى رأى موضع حافر دابّته فقال الأكثرون: إنّما رآه يوم فلق البحر. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ جبرئيل لمّا نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامريّ من بين النّاس.

و أمّا كيف اختصّ هذا اللعين بالرؤية من بين سائر النّاس فقال ابن عبّاس في رواية الكلبيّ: إنّما عرف جبرئيل لأنّه رآه في صغره و حفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل فكانت المرأة تلد و تطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فيأخذ الملائكة الولدان فيربّونهم حتّى يترعرعوا و يختلطوا بالنّاس فكان السامريّ ممّن أخذه جبرئيل و جعل كفّ نفسه في فيه و ارتضع منه العسل و اللبن فلم يزل يختلف إليه حتّى عرفه فلمّا رآه عرفه، قال ابن جريح: فعلى هذا قوله: «بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ». و من فسّر الكلمة بالعلم فهو أيضا صحيح في هذا المعنى. و روي أنّ موسى عليه السّلام همّ بقتل السامريّ فأوحى اللّه إليه: لا تقتله يا موسى فإنّه سخيّ.

و لمّا أوحى اللّه إلى موسى عليه السّلام بقوله: «قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ» فقال موسى عليه السّلام:

يا ربّ العجل من السامريّ فالخوار ممّن؟ فقال: منّي يا موسى إنّي لمّا رأيتهم قد ولّوا منّي إلى العجل استحقّوا أن أزيدهم فتنة.

و قال أبو مسلم الإصبهانيّ: ليس في القرآن تصريح لهذا الّذي ذكره المفسّرون فههنا وجه آخر و هو أن يكون المراد بالرسول موسى و بأثره سنّته فيكون المعنى أن يكون السامريّ قال: عرفت أنّ الّذي أنتم عليه ليس بحقّ فأخذت شيئا من سنّتك و قذفته و طرحته.

و الحقّ أنّ هذا المعنى ركيك جدّا لأنّ السنّة و الدين ليس شي ء يقبض باليد و يقذف في النّار.

ص: 116

و بالجملة فقال السامريّ: [وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي] أي كما أخبرتك زيّنت لي نفسي بهذه الأمور الّتي فعلتها.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 97 الى 107]

قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106)

لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً (107)

المعنى: لمّا سمع موسى عليه السّلام هذا الكلام من السامريّ أجابه: [فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ] و مادمت حيّا في الدنيا قيل: معناه أنّه عليه السّلام أمر الناس بأمر اللّه أن لا يخالطوه و لا يجالسوه تضييقا عليه و المعنى: أن تقول: لا أمسّ و لا امسّ مادمت حيّا، و المساس فعال من المماسّة أي لا يمسّ بعضنا بعضا فصار السامريّ مقيم في البرّيّة مع الوحش لا يمسّ أحدا و لا يمسّه أحد؛ عاقبه اللّه بذلك و كان إذا لقي أحدا يقول: لا مساس أي لا تقربني و لا تمسّني و لو مسّه أحد أو أحدا منهم أي من أولاده حمّ كلاهما في الوقت. و قيل: معناه أنّ السامريّ خاف و هرب في البرّيّة و لا يجد أحدا من النّاس يمسّه حتّى صار في البعد عن الناس كالقائل: لا مساس. و قيل: إذا مسّه أحدهم حمّ الماسّ و الممسوس فكان إذا أراد أن يمسّه أحد صاح: لا مساس خوفا من الحمّى و بالجملة خرج طربدا إلى البراريّ هو و أهله هذا شرح حاله في الدنيا.

و أمّا في الآخرة قوله: [وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ] و الموعد بمعنى الوعد أي هذه عقوبتك في الدنيا و لك الوعد بالمصير إلى عذاب الآخرة فأنت ممّن خسر الدنيا و الآخرة و لن يتأخّر عنك و لن تتخلّف عنه.

ص: 117

[وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي] صنعته و [ظَلْتَ عَلَيْهِ] بكسر الظاء و فتحها و أصله ظللت فحذفت اللّام الاولى و كذا الحكم في المضاعف تقول: مست و مسست، أي انظر إلى معبودك الّذي كنت تعبده مقيما يعني العجل [لَنُحَرِّقَنَّهُ] بالنار [ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ] أي لنذرينّه كالذرّة ننشره في البحر.

و في قوله «لَنُحَرِّقَنَّهُ» و جهان. المراد إحراقه و هذا آخر ما يدلّ على أنّه صار حيوانا و لحما و دما لأنّ الذهب لا يمكن إحراقه بالنار قال السدّيّ: أمر موسى بذبح العجل فذبح فسال منه الدم ثمّ احرق ثمّ نسف رماده. و القول الثاني أنّ المراد من الحرق البرد أي لنبرّدنّه بالمبرد ففعل و ذراه في البحر و عاد إلى بيان الدين الحقّ فقال:

[إِنَّما إِلهُكُمُ] المستحقّ للعبادة [اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً] و يعلم من يعبده و لا يعبده و يعلم كلّ شي ء علما.

ثمّ قال عزّ و جلّ لنبيّه [كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ] أي مثل ما قصصنا عليك يا محمّد من نبأ موسى و قومه نقصّ عليك من أخبار ما قد مضى من الأمم و الأمور تبصرة لك و للمتبصّرين من امّتك [وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً] أي القرآن لأنّ فيه ذكر كلّ ما تحتاج إليه من امور الدّين.

ثمّ أوعد على من أعرض من هذا الذكر بأنّه [يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ] حملا ثقيلا من الإثم [خالِدِينَ] في ذلك الوزر و عذابه و جزائه و هم مخلّدون في النار بسبب ذلك الوزر.

و يمكن أن يكون ذلك الوزر ينقلب بالنار و بئس الحمل أي بئس المحمول هذا الحمل لهم يوم القيامة و ساء ما حملوا على أنفسهم من الإثم و هو كفرهم بالقرآن.

و ذكر في تسمية القرآن بالذكر وجوه: الأوّل أنّه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم و دنياهم. و الثاني يذكر أنواع آلاء اللّه و فيه التذكير و المواعظ و فيه الذكر و الشرف لك و للمؤمنين.

قوله: [يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ] بدل من يوم القيامة و قرئ ننفخ بصيغة المتكلّم و نحشر، و قرئ «الصور» بفتح الواو جمع الصورة فحينئذ النفخ الروح و القراءة المشهورة في الصور و هو قرن ينفخ فيه يدعى به النّاس المحشر للحضور و المراد من هذا

ص: 118

النفخ هو النفخة الثانية لأنّه يقول بعد ذلك:

[وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً] أي زرق العيون سود الوجوه و هي زرقة تتشوّه خلقتهم، و الزرقة الخضرة تكون في سواد العين كعين السنّور، و المعنى تشويه الخلقة. و قيل: معناه عطاشا يظهر في عيونهم كالزرقة. و قيل: المراد من الزرقة العمى أي يخرجون بصراء في أوّل مرّة ثمّ يعمون و يذهب سواد العين و تزرق العين. أو المراد بالزرقة شخوص أبصارهم.

و يمكن كلّها لأنّ مواقف القيامة كثيرة. و قيل: المراد من المجرمين يتناول الكفّار و العصاة فيدلّ على عدم العفو عن العصاة و قال ابن عبّاس: يريد بالمجرمين الّذين اتّخذوا مع اللّه إلها آخر، و القول الأوّل قول المعتزلة و يقولون: الآية تدلّ على عدم العفو عن العصاة.

قوله: [يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً] أي يتسارّون و إنّما يتسارّون لأنّه امتلأت صدورهم من الرعب و الهول أو لأنّهم بسبب الخوف صاروا في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر إن لبثتم في الدنيا أو في القبر ما لبثتم إلّا عشر ليال أو عشر ساعات قال ابن عبّاس:

المراد من النفخة الاولى إلى الثانية و ذلك أنّه يكفّ عنهم العذاب في ما بين النفختين و هو أربعون سنة.

ثمّ قال سبحانه: [نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ] و يتسارّون بعضهم بعضا [إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً] أي أوفرهم عقلا و أصلحهم رأيا و فهما: [إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً] و إنّما قال ذلك لأنّ اليوم الواحد و العشرة إذا قوبلا بيوم القيامة و ما بعدها كان اليوم الواحد أقرب إليه و هو كقوله: «لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» (1).

قوله: [وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ] أي يسألونك منكر و البعث عند ذكر القيامة عن الجبال ما حالها [فَقُلْ] يا محمّد: [يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً] أي يجعلها اللّه ربّي بمنزلة الرمل ثمّ يرسل عليها الرياح فتذريها كتذرية الطعام من القشور و التراب فلا يبقى على وجه الأرض منها شي ء و يصيّرها كالهباء فيدع أماكنها من الأرض [قاعاً] ملساء منكشفة [صَفْصَفاً] أي مستوية ليس للجبل فيها أثر، و قيل: القاع و الصفصف بمعنى واحد و هو المستوي الّذي لا نبات فيه.

ص: 119


1- النازعات: 46.

[لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً] أي ليس فيها منخفض و لا مرتفع و العوج ما انخفض من الأرض و الأمت ما ارتفع من الروابي. و هذه الآية ردّ لشبهة جالينوس في أنّ السماوات لا تفنى قال: لأنّها لو فنيت لابتدأت بالنقصان فحينئذ تقرير الجواب أنّ بطلانها قد يكون بطلانا توليديّا فحينئذ يجب تقديم النقصان على البطلان و قد يكون بطلانا يقع دفعة واحدة و على هذه الصورة لا يجب تقديم النقصان على البطلان فأجاب سبحانه عن هذه الشبهة أنّه سبحانه يفرّق هذه التركيبات دفعة واحدة.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 108 الى 115]

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً (112)

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)

المعنى: [يَوْمَئِذٍ] ظرف ليتّبعون ثمّ وصف سبحانه القيامة فقال: يوم القيامة [يَتَّبِعُونَ] صوت داعي اللّه الّذي ينفخ في الصور و هو إسرافيل [لا عِوَجَ لَهُ] أي لدعاء الداعي و لا يعدل عن أحد بل يحشرهم جميعا و لا عوج و ميل لهم عن دعائه أي لا يعدلون و لا يميلون عن ندائه و يتّبعونه سراعا و لا يلتفتون يمينا و لا شمالا.

[وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ] لعظمة [لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً] و هو صوت الأقدام أي لا تسمع من صوت أقدامهم إلّا صوتا خفيّا كما تسمع من وطء الإبل.

[يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا] أي لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره إلّا شفاعة من أذن اللّه له في أن يشفع [وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا] فيها من الأنبياء و الأولياء و الصلحاء و الصدّيقين و الشهداء.

ص: 120

القميّ عن الباقر عليه السّلام: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الناس في صعيد واحد حفاة عراة متوقّفون في المحشر حتّى يعرقوا عرقا شديدا و تشدّ أنفاسهم فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاما و هو قول اللّه تعالى: «وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً».

قال: ثمّ ينادي مناد من تلقاء العرش: أين النبيّ الأمّيّ فيقول الناس: قد أسمعت فسمّ باسمه فينادي أين نبيّ الرحمة أين محمّد بن عبد اللّه؟ فيتقدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمام الناس كلّهم حتّى ينتهي إلى حوض طوله ما بين أيلة و صنعاء فيقف عليه فينادي صاحبكم فيتقدّم عليّ عليه السّلام أمام الناس فيقف معه ثمّ يؤذن للناس فيمرّون فبين وارد الحوض و بين مصروف عنه يومئذ فإذا رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من يصرف عنه من محبّينا بكى فيبعث اللّه ملكا إليه فيقول: ما يبكيك يا محمّد؟ فيقول: يا ربّ شيعة عليّ أراهم قد صرفوا تلقاء أصحاب النار و منعوا ورود الحوض، فيقول له الملك: إنّ اللّه يقول: يا محمّد إنّ شيعة عليّ قد و هبتهم لك يا محمّد و صفحت لهم عن ذنوبهم بحبّهم لك و لعترتك و ألحقتهم بك و بمن كانوا يقولون به و جعلنا هم في زمرتك فأوردهم حوضك قال أبو جعفر عليه السّلام: فكم من باك يومئذ و باكية ينادون: يا محمّداه إذا رأوا ذلك و لا يبقى أحد يومئذ يتولّانا و يحبّنا و يتبرّأ من عدوّنا و يبغضهم إلّا و معنا و يرد حوضنا.

و في قوله «لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ» قيل: المعنى لا تنفع الشفاعة من الشفيع للمشفوع له إلّا أن يكون الشفيع مأذونا في الشفاعة و مرضيّا قوله.

و قيل: إنّ هذا المعنى توضيح الواضح بل المعنى أن يكون المشفوع له يؤذن في حقّه الشفاعة و يكون مرضيّا قوله مثل أن يكون من أهل الشهادات لأنّه حينئذ يصدق عليه أنّه مرضيّ القول.

و قال الرازيّ: هاهنا مسألة: قالت المعتزلة: إنّ الفاسق غير مرضيّ عند اللّه فوجب أن لا يشفّع الرسول في حقّه لأنّ هذه الآية تدلّ على أنّ المشفوع له لا بدّ و أن يكون مرضيّا عند اللّه.

و قال أهل الجماعة: إنّ هذه الآية من أقوى الدلالة على ثبوت الشفاعة في حقّ الفسّاق لأنّ قوله و رضي له قولا يكفي في صدقه قولا واحدا من أقواله و هو شهادة أن

ص: 121

لا إله إلّا اللّه فوجب أن يكون الشفاعة نافعة له لأنّ الاستثناء من النفي إثبات.

فإن قيل: إنّه تعالى استثنى عن النفي بشرطين: أحدهما: حصول الإذن.

و الثاني: أن يكون قد رضي له قولا، فهب أنّ الفاسق قد حصل فيه أحد الشرطين و هو «قد رَضِيَ لَهُ قَوْلًا» فمن أين حصل فيه الإذن؟

فالجواب أنّ أحد الأمرين و هو أنّه رضي له قولا كاف في حصول الاستثناء لقوله تعالى: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» (1) فاكتفى هناك بهذا القيد.

و دلّت هذه الآية على أنّه لا بدّ من الإذن فظهر من مجموعها أنّه إذا رضى له قولا يحصل الإذن في الشفاعة و إذا حصل القيدان حصل الاستثناء و تمّ المقصود.

أقول: إنّ في هذا البيان الّذي يقوله الرازيّ: «فظهر من مجموعهما أنّه إذا رضي له قولا يحصل الإذن في الشفاعة» تأمّل لأنّه من أين أثبت هذه الملازمة فلو أثبت الملازمة من الآية فغير محقّقة لكن قد وردت أخبار صحاح على أنّ الشفاعة تنال الفسّاق من أهل الإيمان و القبلة و عندنا أنّ الفسق لا يخرج العبد من الإيمان إذا لم يكن الفاسق مستحلّا.

قوله: [يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ] الضمير يرجع إلى الّذين يتّبعون الداعي أي يعلم سبحانه منهم جميع أقوالهم و أفعالهم قبل أن خلقهم و بعد أن خلقهم و ما كان في حياتهم و بعد مماتهم.

[وَ لا يُحِيطُونَ] باللّه [عِلْماً] أي لا يعلمون بمقدوراته و بكنه عظمته في ذاته و أفعاله، و قيل: و لا يحيطون علما بما في بين أيمانهم و خلفهم إلّا من اطّلعه اللّه على ذلك [وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ] و ذلّت خضوع الأسير الوجوه أي أرباب الوجوه و استسلموا [لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ] و حكمه.

و إنّما أسند الفعل إلى الوجوه لأنّ أثر الذلّ يظهر على الوجوه قبل كلّ عضو.

و قيل: المراد من الوجوه الرؤساء و القادة و الملوك أي يذلّون و ينسلخون عن ملكهم و عزّهم، و العنو الذلّة و منه أخذوا العاني للأسير، و تفسير الحيّ القيّوم قد تقدّم.

روى أبو أمامة الباهليّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: اطلبوا اسم اللّه الأعظم في هذه

ص: 122


1- الأنبياء: 28.

السور الثلاث: البقرة و آل عمران و طه. قال الراوي: فوجدنا المشترك في السور الثلاث «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ»*.

و المراد من معنى الآية أنّ ذلك اليوم حال الإنسان مخالفة للحال الّتي كان عليها في الدنيا غير مختار لنفسه في المعصية و الطاعة و ليس له الاختيار لنفسه.

[وَ قَدْ خابَ] و حرم من الثواب [مَنْ حَمَلَ ظُلْماً] و لم يتب عنه.

و استدلّت المعتزلة بهذه الآية في المنع من العفو و قال: «وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» يعمّ كلّ ظالم و قد حكم اللّه فيه بالخيبة و العفو ينافيه. قال الطبرسيّ: أي و قد خاب عن ثواب اللّه من حمل شركا إلى يوم القيامة، عن ابن عبّاس. و قيل: قد خسر الثواب من جاء يوم القيامة كافرا ظالما.

هذا حال الكافرين العاصين و أمّا حال المؤمنين فقال:

[وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ] و الطاعات [وَ هُوَ مُؤْمِنٌ] عارف باللّه تعالى مصدّق بما يجب التصديق به و إنّما قيّد سبحانه بهذا القيد لأنّه لا تنفع الطاعات من غير إيمان و لا بدّ أن يكون العمل الصالح مقرونا بالإيمان [فَلا يَخافُ ظُلْماً] أن يظلم و يزاد عليه في سيّئاته [وَ لا هَضْماً] و لا يخاف أن ينقص من حسناته و قوله «لا يخاف» في موضع الجزم لكونه في موضع جواب الشرط و قرئ بصيغة النهي «فلا يخف» أي فليأمن و النهي عن الخوف أمر بالأمن. و في هذه دلالة على بطلان التحابط.

قوله: [وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا] أي و كما أخبرناك بأخبار القيامة أنزلنا هذا الكتاب قرآنا عربيّا بلسان العرب و كرّرنا [و بيّنّا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ] بوجوه مختلفة و بألفاظ متفرّقة [لَعَلَّهُمْ] يخافون و [يَتَّقُونَ] المعاصي و يتّقي العرب من قبل أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك [أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً] أو يجدّد القرآن لهم عظة و اعتبارا و يذكروا به عقاب اللّه للأمم.

فلو قيل: حدوث الذكر و التقوى لا منافات بينهما و كلمة أو للمنافاة.

فالجواب هذا كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين أي لا تكن خاليا منهما فكذا هاهنا.

ص: 123

و قيل يحدث لهم شرفا بإيمانهم كما قال سبحانه في موضع آخر: «وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» (1).

[فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ] أي ارتفع صفاته عن صفة المخلوقين فلا يشبهه أحد في صفاته لأنّه أقدر من كلّ قادر و أعلم من كلّ عالم.

قوله: [وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ] فيه وجوه:

الأوّل: قالوا: «و يسألونك» إلى هاهنا كلام ثمّ ينقطع و يستأنف بقوله: «و لا تعجل بالقرآن.

الوجه الثاني: روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخاف من أن يفوته من القرآن شي ء فيقرأ مع الملك فأمره بأن يسكت حال قراءة الملك ثمّ يأخذ بعد فراغه في القراءة أي تفهّم ما يوحى إليك إلى أن يفرغ جبرئيل من قراءته و إبلاغه و لا تخف النسيان و السهو فإنّا نصونك عنه.

و قيل: معناه: و لا تسأل إنزال القرآن قبل أن يأتيك وحيه لأنّه تعالى ينزله وقت الحاجة.

[وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً] أي استزد من اللّه علما إلى علمك روت عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى اللّه فلا بارك اللّه لي في طلوع شمسه. و قيل: معناه: زدني قرآنا لأنّه كلّما ازداد من نزول القرآن عليه ازداد علما.

قوله: [وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً] و ذكروا في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوها:

أحدها: لمّا قال: «كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ» فذكر قصّة آدم إنجازا للوعد.

و ثانيها: أنّه سبحانه لمّا قال: «وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» أردفه بقصّة آدم و بيّن أنّ إطاعة بني آدم للشّيطان و تركهم التحفّظ من وساوسه أمر

ص: 124


1- الأنفال: 2.

قديم فإنّا عهدنا و بيّنّا من قبل حيث قلنا له: «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ» ثمّ إنّه مع ذلك نسي و ترك ذلك العهد و ما تحفّظ له.

«وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» فيه وجوه: أحدها أنّه أوصينا إليه أن لا تقرب الشجرة و لا تأكل منها فترك الأمر و لم نجد لم عزما و عقدا ثابتا و قيل: معناه فنسي من النسيان الّذي هو السهو و لم نجد له عزما على الذنب و أخطأ و لم يتعمّد. و قيل: و لم نجد له حفظا لما أمر به. و قيل: معناه صبرا.

و من حمله على النسيان فما الّذي نسيه فيه أقوال: أحدها أنّه نسي الوعيد بالخروج من الجنّة إن أكل. و الثاني نسي قول اللّه سبحانه: «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ».

و الثالث أنّه نسي الاستدلال على أنّ النهي عن الجنس و ظنّ أنّه عن العين. هذا هو المرّة السادسة من بيان قصّة آدم في القرآن تحذيرا و عظة للنّاس: أوّلها في سورة البقرة، ثمّ في الأعراف، ثمّ في الحجر، ثمّ في الإسراء ثمّ في الكهف، ثمّ هاهنا.

قال ابن عبّاس: من قبل أن يأكل من الشجرة عهدنا إليه أن لا يأكل منها.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 116 الى 125]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى (118) وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (120)

فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى (123) وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125)

اعلم أنّ سبب عداوة إبليس لآدم العمدة منها أنّه بسبب عدم السجود لآدم طرد عن رحمة اللّه فحصل له العداوة. ثمّ إنّ اللعين لمّا رأى آثار نعم اللّه على آدم و حرمان

ص: 125

نفسه حسده فصار عدوّا له. و الثالث أنّ آدم كان شابّا عالما لقوله: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» (1) و إبليس كان شيخا كبيرا جاهلا لأنّه أثبت فضله بفضيلة أصله و لم يعلم أنّ الفضيلة ليست بالبنية.

و إنّما أسند الإخراج إلى إبليس لأنّه هو الّذي فعل ما يترتّب عليه فصحّ ذلك.

و الشقاء التعب و إنّما أسند إلى آدم وحده لأنّ الرجل قيّم بأمور المعاشيّة للمرأة فاختصّ الإسناد إليه مع المحافظة على رعاية الفاصلة في الآي. و المراد من الشقاء المشقّة في طلب القوت.

قال سعيد بن جبير: انزل على آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه و يرشّح العرق عن جبينه.

و اذكر إذ وصّينا لآدم بأنّ الشيطان [عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ] فلا يخرجنّك بسبب الوسوسة و يغرّكما فتقع حينئذ في تعب القوت و المعاش و الاكتساب لنفسك و لزوجك [و إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ] في الجنّة و لا تصير عاريا من اللباس لسعة طعام الجنّة و ثيابها و لا تعطش في الجنّة و لا يصيبك حرّ الشمس لأنّه ليس في الجنّة شمس و إنّما فيها ضياء و نور و ظلّ ممدود من غير شمس.

و هذه الأشياء كأنّها تفسير الشقاء المذكور لأنّ الشبع و الريّ و الكسوة و الاكتنان في الظلّ هي الأقطاب الّتي يدور عليها أمر الإنسان بالراحة فذكر اللّه حصولها من غير تعب بذكر أضدادها نفيا الّتي هي الجوع و العرى و الظماء و الضحى.

و حذّر سبحانه آدم عنها حتّى يبالغ الاحتراز عن السبب الموقع.

[فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ] و كانت تلك الوسوسة بتطميعه في أمرين: أحدهما قوله:

[هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ] أي من أكل منها صار مخلّدا و لم يمت، الثاني: [وَ مُلْكٍ لا يَبْلى] أي من أكل منها لا يضعف و لا يهرم.

[فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ] مرّ تفسيره في سورة الأعراف مفصّلا و إجماله أنّه بعد أن أكلا ظهرت عورتهما و نزع لباس الجنّة

ص: 126


1- البقرة: 31.

عنهما و ظلّا عاريين فشرعا و أخذا من ورق تين الجنّة و يلزقان و يجعلان الأوراق على عورتهما حياء عن العرى.

و [وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى] معناه: خالف أمر ربّه فخاب من ثوابه، و المعصية مخالفة الأمر سواء كان الأمر واجبا أو ندبا و لا يمتنع أن يسمّى تارك النفل عاصيا كما يسمّى بذلك تارك الواجب يقولون: فلان أمرته بكذا و كذا من الخير فعصاني. و استعمل لفظة «غوى» في الخيبة. قال الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره و من يغو لا يعدم على الغيّ لائما

و يجوز أن يكون المراد فخاب ممّا كان يطمع فيه بأكل الشجرة من الخلود.

و قال بعض أهل السنّة و الجماعة: و في وصف آدم عليه السّلام بالعصيان و الغواية مع صغر زلّته تعظيم لها و زجر بليغ لأولاده عن أمثالها.

قال الرازيّ في المفاتيح: إنّ مذهبنا أنّ واقعة الزلّة إنّما وقعت قبل رسالته لا بعدها. و قالت المعتزلة: إنّها وقعت صغيرة لا كبيرة. و قال أبو مسلم الإصفهانيّ: بأنّه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتّصل بالتكاليف و كذلك القول في غوى، و الغيّ ضدّ الرشد فمن توصّل بشي ء إلى شي ء ثمّ حصل له ضدّ مقصوده كان ذلك غيّا. و على التقادير لم يجز بعد أن قبل اللّه توبته و اجتباه للرسالة إطلاق هذا الإثم عليه مطلقا.

فعاد سبحانه عليه بالرحمة و المغفرة بقوله: [ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ] و اصطفاه للرسالة [فَتابَ عَلَيْهِ] و قبل توبته و هداه للكلمات الّتي تلقّاها منه سبحانه و التثبّت بأسباب العصمة.

[قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ] الخطاب من اللّه لآدم و حوّاء أو لآدم و حوّاء و إبليس و لمّا كانا أصلي الذرّيّة خاطبهما مخاطبتهم و الخطاب يعمّ المبشّر.

[فَمَنِ اتَّبَعَ] هدايتي و ديني [فَلا يَضِلُ] في الدنيا [وَ لا يَشْقى] في الآخرة.

بسبب قبول الدين [وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي] و الذكر يشمل كتب اللّه جميعا و القرآن [فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً] أي ضيّقا و هو أن يمسكه و لا ينفقه على نفسه فضلا عن غيره و من غلبة الحرص عليه و على الجمع و الطلب يضيق المعيشة عليه. و قيل: المراد من هذا الضيق عذاب القبر. و قيل: هو طعام الضريع و الزقّوم في جهنّم و إن كان في سعة في الدنيا.

ص: 127

و قيل: هو الحرام الّذي ينفقه و لا خلف له و يؤدّي إلى النار. و قيل: إنّهم بسبب إعراضهم عن الدين تنقص بركاتهم كما قال: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» (1) و قال تعالى: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» (2) و قال تعالى: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ» (3) و قال تعالى:

«وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» (4).

و أمّا القول بأنّ المراد من عيشة الضنك عذاب القبر فهو قول جماعة من أصحاب الحديث مثل عبد اللّه بن مسعود و أبي سعيد الخدريّ و عبد اللّه بن عبّاس و رفعه أبو هريرة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ عذاب القبر للكافر قال: و الّذي نفسي بيده إنّه ليسلّط عليه في قبره تسعة و تسعون تنّينا.

قال ابن عبّاس نزلت الآية في الأسود بن عبد العزّى المخزوميّ و المراد ضغطة القبر تختلف أضلاعه. و قيل: المراد الضيق في كلّ ذلك أو أكثره. روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: عقوبة المعصية ثلاثة ضيق المعيشة و العسر في الشدّة و أن لا يتوصّل إلى قوته إلّا بمعصية اللّه.

قوله: [وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى] أي أعمى العين أي يحشر بصيرا فإذا سيق إلى المحشر عمي. و قيل: المراد عمى البصيرة لا البصر؛ لا حجّة له يهتدي بها. و روى معاوية ابن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه عن رجل لم يحجّ و له مال؟ قال: هو ممّن قال اللّه: «وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» فقلت: سبحان اللّه أعمى! قال: أعماه اللّه عن طريق الحقّ. فهذا القول مطابق قول من قال: أعمى عن جهات الخير لا يهتدي بشي ء منها.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 126 الى 130]

قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى (127) أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)

ص: 128


1- المائدة: 69.
2- الأعراف: 95.
3- نوح: 10، 11، 12.
4- الجن: 16.

قال: ابن عبّاس ضمن اللّه سبحانه لمن قرأ القرآن و عمل بما فيه أن لا يضلّ في الدنيا و لا يشقى في الآخرة قال: [كَذلِكَ أَتَتْكَ] آياتي، هذا جواب من اللّه لمن يقول يوم القيامة: «لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى» أي كما حشرناك أعمى جاءك محمّد و القرآن و الآيات الدالّة فأعرضت عنها و تعرّضت لنسيانها فإنّ النسيان ليس من فعل الإنسان فيوعد عليه لكن يفعل فعلا يوجب النسيان فتعمّد لحصول النسيان [وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى] و تترك في العذاب بمنزلة المنسيّ.

قوله: [وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ] أي مثل ذلك الجزاء الموافق كما ذكرنا من العمى و النسيان نجزي من أسرف و جاوز العصيان [وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ] اللّه و لم يصدّق بحجج ربّه و رسله.

و اختلفوا في معنى الإسراف أي أشرك و كفر، و بعضهم قال: أسرف في معصية اللّه.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: المراد من أشرك بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام غيره و لم يؤمن بآيات ربّه و ترك الأئمّة عليه السّلام معاندة و لم يتّبع آثارهم و لم يتولّهم.

قوله: [وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى] و لمّا بيّن سبحانه بأنّ العيش الضنك و العمى للمتجاوزين المشركين باللّه و بالولاية بيّن من بعد ذلك أنّ عذاب الآخرة المتأخّرة أشدّ و أبقى أمّا الأشدّ فلعظمه و أمّا الأبقى فلأنّه غير منقطع و من المعلوم أنّ عذاب جهنّم أشدّ من عذاب الدنيا و عذاب القبر لأنّه لا يزول.

قوله: [أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا] و قرئ نهد بالمتكلّم و المعنى أ فلم يتبيّن لهم طريق الاعتبار و كثرة إهلاكنا [قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ] بسبب تكذيبهم رسلنا و يعتبرون بما فعل

ص: 129

بأسلافهم فيؤمنوا و لا يكذّبوا [و قوله يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ] يريد أهل مكّة كانوا يتّجرون إلى الشام فيمرّون بمساكن العاديّين و الثموديّين و غيرهم و يرون علامات الإهلاك أفلا يخافون أن تقع بهم مثل ما وقع بأولئك؟

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى] إهلاكنا إيّاهم لعبرة و دلالات لأهل العقل و الأقرب أنّ للنهية مزيّة على العقل، و النهى لا يقال إلّا فيمن له عقل ينتهي عن القبائح كما أنّ لقولنا: اولي العزم مزيّة على اولي الجزم فلذلك قال بعضهم: أهل الورع و أهل التقوى.

ثمّ بيّن سبحانه السبب الّذي لأجله لا ينزل العذاب معجّلا على من كذّب و كفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى] و فيه تقديم و تأخير و التقدير: و لو لا كلمة سبقت من ربّك و أجل مسمّى لكان نزول العذاب ملازما لهم و الكلمة هي إخبار اللّه ملائكته و كتبه في اللوح المحفوظ أنّ امّته و إن كذّبوا و كفروا فيؤخّرون و لا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال.

و اختلفوا فيما لأجله يؤخّر العذاب عنهم قال بعضهم: لأنّه علم أنّ فيهم من يؤمن.

و قال آخرون: المصلحة فيه خفيّة لا يعلمها إلّا هو و قال أهل السنّة: له بحكم المالكيّة أن يختصّ من شاء بفضله و من شاء بعذابه من غير علّة و قالوا: لو كان فعله لعلّة لكانت تلك العلّة إن كانت قديمة لزم قدم الفعل و إن كانت حادثة افتقرت إلى علّة اخرى و لزم التسلسل فلهذا قالوا: كلّ شي ء صنعه لا لعلّة.

قوله: «وَ أَجَلٌ مُسَمًّى» أي لا يهلك أحدا قبل استيفاء أجله.

[فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ] و أمره بالصبر على ما يقولون و يكرهه من أقوالهم الشنيعة كقولهم: ساحر أو شاعر أو مجنون أو غير ذلك أو المراد تكذيبهم لرسالته و تركهم القبول منه لأنّ كلّ ذلك ممّا يهمّه، و أمره بالدعاء و التسبيح أي دم لربّك بالحمد له و الثناء عليه و احمده في هذه الأوقات.

و اختلفوا في التسبيح على وجهين فالأكثرون على أنّ المراد منه الصلاة و هؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه:

ص: 130

أحدها أنّ الآية تدلّ على أنّ الصلوات الخمس لا أزيد و لا أنقص فقال ابن عبّاس: دخلت الصلوات الخمس فيه فقبل طلوع الشمس هو صلاة الصبح و قبل غروبها هو الظهر و العصر لأنّهما جميعا قبل الغروب [وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ] أي المغرب و العشاء الآخرة. و قوله [وَ أَطْرافَ النَّهارِ] كالتوكيد للصّلاتين الواقعتين في طرفي النهار و هما صلاة الفجر و صلاة المغرب و التكرار في هاتين للخصوصيّة و التأكيد بهما كما اختصّت في قوله: «وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى» بالتأكيد.

و القول الثاني: أنّ الآية تدلّ على الصلوات الخمس و زيادة أمّا دلالتها على الصلوات الخمس فلأنّ الزمان إمّا أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها فالليل و النهار داخلان في هاتين العبارتين فأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما بقي قوله:

«وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى» للنوافل.

و القول الثالث: أنّها تدلّ على أقلّ من الخمس بقوله قبل طلوع الشمس للفجر و قبل غروبها للعصر و من آناء الليل للمغرب و العشاء فيبقى الظهر خارجا.

هذا كلّه إذا حملنا التسبيح على الصلاة و الأليق الأقرب حمله على التنزيه و الإجلال و المعنى اشتغل بتنزيه اللّه تعالى في هذه الأوقات أراد بذلك المداومة على التسبيح و التحميد في عموم الأوقات لعلّك ترضى بجميع ما وعدك اللّه و بالشفاعة و الدرجة الرفيعة و لعلّك تنال عند اللّه ما به رضاء نفسك.

في الخصال عن الصادق عليه السّلام: سئل عن هذه الآية فقال: فريضة على كلّ مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس و قبل غروبها عشر مرّات: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ* وحده لا شَرِيكَ لَهُ ... لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ ... يُحْيِي وَ يُمِيتُ* و هو حيّ لا يموت بيده الخير وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»*.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام في قوله: «وَ أَطْرافَ النَّهارِ» أي تطوّع بالنّهار فلو قيل: إنّ النهار ليس له غير طرفين كما قال: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» قيل: إنّما جمع لأنّه متكرّر في كلّ نهار و يعود أو الجمع المنطقيّ اثنان.

قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 131 الى 135]

وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى (131) وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدى (135)

ص: 131

لمّا صبّر سبحانه نبيّه على أكاذيب قومه و أمره أن يعدل إلى التسبيح و الاشتغال بعبادته أتبع في هذه الآية بنهيه عن مدّ عينيه إلى ما متّع به القوم قيل: المراد من المدّ ليس هو النظر بل هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك ممّا نالوه من حظّ الدنيا.

النزول: قال أبو رافع: نزل ضيف بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبعثني إلى يهوديّ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

قل: إنّ رسول اللّه يقول: بعني كذا و كذا من الدقيق أو أسلفني إلى هلال رجب فأتيته فقلت له، فقال: و اللّه لا أبيعه و لا أسلفه إلّا برهن فأتيت رسول اللّه و أخبرته فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و اللّه لو باعني أو أسلفني لقضيته و إنّي لأمين في السماء و أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إليه، فنزلت الآية تسلية له عن الدنيا.

قال ابيّ بن كعب في هذه الآية: من لم يتعزّ بعزاء اللّه تقطّعت نفسه حسرات على الدنيا، و من يتبع بصره ما في أيدي الناس طال حزنه و لا يشفى غيظه، و من لم ير للّه عليه نعمة إلّا في مطعمه و مشربه نقص علمه و دنا عذابه و قد فعل نظّارة قارون حيث قالوا:

«يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (1). حتّى واجههم أولو العلم و الإيمان بقولهم: «وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً» (2).

و لقد شدّد المتّقون في وجوب غضّ البصر عن أبنية الظلمة و زينة الفسقة في اللّباس و المركوب و غير ذلك قال عيسى عليه السّلام: لا تتّخذوا الدنيا ربّا فتتّخذكم عبيدا.

و عن عروة بن الزبير: أنّه إذا كان رأى ما عند السلاطين و الأمراء يتلو هذه الآية و قال: الصلاة يرحمكم اللّه.

ص: 132


1- القصص: 79.
2- القصص: 80.

[إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً] أي أصنافا من الكفرة و أشباها و المزاوجة من المشاكلة لأنّ الكفّار متشاكلون في الذهاب عن الحقّ و الدين و التمتّع المراد منه الاستلذاذ من المناظر الحسنة و الأصوات المطربة و شمّ الروائح الطيّبة و المناكح و الملابس و أمثالها.

قوله: [زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا] و قرئ بفتح الهاء و الزهرة النور (1) الّذي يروق عند الرؤية، أزهر اللون أي منير اللون و الزهراوان: البقرة و آل عمران، و الزهرة بالتحريك الزينة و البهجة كما جاء في الجمهرة و يصحّ أن يكون جمع زاهر وصفا لهم بأنّهم زهرة هذه الدنيا لصفاء ألوان الكفّار و تهلّل وجوههم بخلاف ما عليه الصلحاء من شحوب الألوان و التقشّف في الثياب.

أمّا قوله: [لِنَفْتِنَهُمْ] أي لنعاملهم معاملة المختبر و نجعل ذلك امتحانا و فتنة لهم قال الكلبيّ و مقاتل: معناه تشديدا في التكليف عليهم لأنّ الإعراض عن الدنيا عند حضورها و الإقبال إلى اللّه أشدّ من ذلك عند عدم حضورها و أسبابها و لذلك كان رجوع الفقراء إلى خدمة اللّه و التضرّع إليه أكثر من تضرّع الأغنياء و لأنّ على من اوتي الدنيا ضروبا من التكاليف لولاها لما لزمتهم تلك التكاليف و لأنّ القادر على المعاصي يكون الاجتناب عنها أشقّ عليه من العاجز القصير فمن هذه الجهات يكون الزيادة في الدنيا تشديدا في التكليف.

ثمّ قال لرسوله: [وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى] أي ما نصبك من الثواب خير من مطلوبهم و أبقى لأنّه يدوم و لا ينقطع و ليس حال ما أوتوه من الدنيا كذلك أو المراد أنّ ما أعطيت من الكرامة و النبوّة خير لك ممّا متّعنا به هؤلاء.

قوله: [وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ] أي فأمر يا محمّد أهل بيتك و أهل دينك بالصلاة؛ روى أبو سعيد الخدريّ قال: لمّا نزلت هذه الآية كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأتي باب فاطمة و عليّا تسعة أشهر عند كلّ صلاة فيقول: الصلاة رحمكم اللّه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس و يطهّركم تطهيرا. و قال أبو جعفر عليه السّلام: أمره اللّه أن يخصّ أهله دون الناس ليعلم الناس أنّ لأهله منزلة ليست للنّاس فأمرهم مع الناس عامّة في موضع آخر ثمّن.

ص: 133


1- بفتح النون.

أمرهم خاصّة.

قوله: [وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها] أي كما تأمرهم فحافظ عليها فعلا فإنّ الوعظ بلسان الفعل أتمّ منه بلسان القول.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يأمرهم بذلك لمنافع و أنّه متعال عن المنافع بقوله:

[لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً] لخلقنا و لا لنفسك بل كلّفناك العبادة و ضمنّا رزق الجميع [نَحْنُ نَرْزُقُكَ] و نرزقهم جميعا لا نسترزقكم كما يريدون السادة من العبيد الخراج و هذا المعنى كقوله:

«وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» (1) و قيل: إنّ المعنى: لا نسألك رزقا لنفسك و لا لأهلك بل نحن نرزقك ففرّغ بالك لأمر الآخرة. و قيل: معناه أنّا لمّا أمرناك بالصلاة فليس ذلك الأمر لأنّا ننتفع بصلاتك فعبّر عن هذا المعنى بقوله: «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً».

قال عبد اللّه بن سلام: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزل بأهله ضيّق أو شدّد أمرهم بالصلاة و تلا هذه الآية.

ثمّ قال: [وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى] أي لأهل التقوى العاقبة المحمودة.

قوله تعالى: [وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ] الّتي اقترحناها كما أتى بها الأنبياء.

فأزال اللّه شبهتهم الّتي أوردوها بأنّه يكلّفهم الإيمان و التصديق من غير آية فأجاب بقوله: [أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى] و فيه وجوه:

أحدها أنّ ما في القرآن إذا وافق ما في كتبهم مع أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يشتغل بالدراسة و التعلّم و ما رأى استاذا البتّة كان ذلك إخبارا بالغيب فيكون معجزا.

و ثانيها أنّ بيّنة ما في الصحف الاولى ما فيها من البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نبوّته.

و ثالثها: ذكر ابن جبير و القفّال، و المعنى: أولم تأتهم بيّنة ما في الصحف الاولى من أنباء الأمم الّتي أهلكناهم لمّا سألوا الآيات و أوتوا بها فكفروا بها كيف عاجلناهم بالعقوبة فما ذا يؤمّنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات و اقتراحها كحال أولئك؟ و إنّما

ص: 134


1- الذاريات: 55، 56.

أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه بيّنة ما في الصحف الاولى كأنّ المعنى يقول: ألم يأتهم نبأ سائر الآيات الّتي وقعت قبلهم أولم تأتهم خاصّة بيّنة ما في الصحف الاولى في قرآنك.

ثمّ أزاح لهم العذر في التكليف فقال: [وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا] و المراد كان لهم أن يقولوا ذلك فيكون عذرا لهم فأمّا الآن و قد أرسلنا و بيّنّا على لسانك ما عليهم و مالهم فلا حجّة لهم بل الحجّة عليهم، و معنى «من قبله» أي من قبل إرساله و من قبل إظهاره القرآن و البيّنات فقطعنا عذرهم و لم يبق لهم.

قوله: [فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ] بالعذاب [وَ نَخْزى] في جهنّم أو المراد من قبل أن نذلّ في الدنيا بالقتل و الأسر و نشقى في الآخرة بالعذاب.

قال أبو سعيد الخدريّ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يحتجّ على اللّه يوم القيامة ثلاثة:

الهالك في الفترة يقول: لم يأتني رسول و إلّا كنت أطوع خلقك لك و تلا قوله تعالى «لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ». و المغلوب على عقله يقول: يا ربّ لم تجعل لي عقلا أنتفع به. و الصبيّ يقول: كنت صغيرا لا أعقل و لا اميّز فحينئذ ترفع لهم نار و يقال لهم: ادخلوها، فيدخلها من كان في علم اللّه أنّه سعيد و يبقى من في علمه أنّه شقيّ فيقول اللّه تعالى لهم: عصيتم اليوم أمري فكيف برسلي لو أتوكم؟

و بعض طعنوا في هذا الخبر كالقاضي عبد الجبّار و قالوا: لا يحسن العقاب على من لا يعقل.

قال الجبّائيّ: هذه الآية تدلّ على وجوب فعل اللطف إذ المراد أنّه يجب أن يفعل بالمكلّفين ما يؤمنون عنده و لو لم يفعل لكان لهم أن يقولوا: هلّا فعلت ذلك لنؤمن و هلّا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك.

قال الكعبيّ: قوله: «لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا» أوضح دليل على أنّه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده و أنّه ليس قوله: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ» كما ظنّه أهل الجبر من أنّ ما هو جور منّا يكون عدلا منه بل معناه أنّه لا يفع منه إلّا العدل فإذا ثبت أنّه تعالى

ص: 135

يقبل الحجّة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه حجّة و أعظم حجّة.

و قد ختم اللّه السورة بضرب من الوعيد فقال: [قُلْ] يا محمّد: [كُلٌ] منّا و منكم منتظر عاقبة أمره بعد الموت و هو ظهور أمر الثواب و العقاب فإنّه يتميّز في الآخرة المحقّ من المبطل بما يظهر على المحقّ من أنواع الكرامة و على المبطل من أنواع العذاب و الإهانة [فَسَتَعْلَمُونَ] عند ذلك [مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ] أي من أهل الدين المستقيم [وَ مَنِ اهْتَدى] إلى طريق الجنّة نحن أم أنتم؟

و في ثواب الأعمال و المجمع عن الصادق عليه السّلام قال: لا تدعوا قراءة سورة طه فإنّ اللّه يحبّها و يحبّ من قرأها و من أدمن قراءتها أعطاه اللّه يوم القيامة كتابه بيمينه و لم يحاسبه بما عمل في الإسلام.

تمّت السورة

ص: 136

سورة الأنبياء

اشارة

(مكية كلها) فضلها: قال ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأها حاسبه اللّه حسابا يسيرا و صافحه و سلّم عليه كلّ نبيّ ذكر اسمه في القرآن.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من قرأها حبّا لها كان ممّن يوافق الأنبياء أجمعين في جنّات النعيم و كان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا.

ص: 137

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الأنبياء (21): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)

بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)

القرب لا يعقل إلّا في المكان و الزمان و القرب المكانيّ هاهنا ممتنع فتعيّن القرب الزمانيّ فالمعنى: [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ] وقت [حِسابُهُمْ].

فلو قيل: كيف وصف بالاقتراب و قد مضى من هذا القول أكثر من ألف سنة؟

فالجواب من وجوه:

أحدها أنّه مقترب عند اللّه و أنّ يوما عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون و كلّ ما هو آت قريب و إن طالت أوقات ترقّبه و إنّما البعيد هو الّذي انقرض.

فلا زال ما تهواه أقرب من غدو لا زال ما تخشاه أبعد من أمس

و ثانيها أنّ المعاملة إذا كانت مؤجّلة إلى سنة مثلا ثمّ انقضى منها شهر فإنّه لا يقال: اقترب الأجل، أمّا إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنّه يقال: اقترب الأجل، فقرب القيامة من هذا الوجه و لهذا المعنى أشار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «بعثت أنا و الساعة كهاتين» لأنّ الباقي من مدّة التكليف أقلّ من الماضي.

ثمّ إنّه سبحانه ذكر هنا الاقتراب لهذا البيان الّذي ذكرنا على أنّ ذكر الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلّفين لتلافي الذنوب و تداركها و التحرّز عنها خوفا من ذلك و إنّما لم يعيّن الوقت لأجل أنّ كتمانه أصلح كما أنّ كتمان وقت الموت أصلح [وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ] وصفهم بأمرين: الغفلة و الإعراض أمّا الغفلة لأنّهم غافلون

ص: 138

و ساهون و ناسون لا يتفكّرون في حسابهم مع اقتضاء عقولهم ملازمة جزاء المحسن و المسي ء ثمّ إذا انتبهوا عن سنة الغفلة بما يتلى عليهم من الآيات و المواعظ أعرضوا و لم يقبلوا بوجه القبول و التدارك.

قوله: [ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ] و من في «من ذكر» زائدة للتأكيد و «ذكر» محلّه الرفع و المراد من الذكر القرآن فدلّ النصّ بحدوث القرآن لأنّ اللّه يجدّد لهم الذكر وقتا فوقتا و آية بعد آية و سورة بعد سورة، و احتجّ المعتزلة بحدوث القرآن [إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ] أي لم يستمعوا استماع تدبّر و نظر و قبول و إنّهم استمعوه استماع اشتغال و لهو و استهزاء غافلة قلوبهم.

[وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى] أي تناجوا بينهم المشركون فبيّن المتناجين فقال: [الَّذِينَ ظَلَمُوا] و أشركوا تناجوا فقوله «الَّذِينَ ظَلَمُوا» بدل من «أسرّوا» أو جاء على لغة أكلوني البراغيث أو أسرّوا خبر مقدّم و الّذين ظلموا مبتدأ مؤخّر و إنّما أسرّوا لوجهين:

الأوّل أنّه كان كالتشاور و التحاور في طلب الطريق إلى هدم أمر القرآن و عادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرّهم عن أعدائهم أو كانوا يسرّون القول لأن يقولوا لرسول اللّه و المؤمنين: إن كان ما تدّعونه حقّا فأخبرونا بما أسررناه.

فإن قيل: إنّ النجوى اسم من التناجي و لا يكون إلّا خفية فما معنى «وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى»؟ فالمعنى: بالغوا في إخفاء كلامهم و جعلوها بحيث لا يفطن أحد كلامهم لتناجيهم بل هم يستمعون كلامهم بينهم بالمشقّة.

ثمّ إنّهم كانوا يناقشون في نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأمرين: أحدهما أنّه بشر مثلهم. و الثاني أنّ الّذي أتى به سحر.

و كلاهما فاسد أمّا الأوّل لأنّ النبوّة تقف صحّته على المعجزة و الدلائل لا على الصور و إنّما يعلم كونه نبيّا بالمعجزة و العلم فإذا ظهرت الأمور من البشر فيكون هو الاولى من الملك لأنّ المرء من أشكاله آنس و إلى القبول عن سنخه أقرب.

و أمّا الثاني و هو أنّ ما أتى به الرسول أي القرآن سحر و هذا الكلام جهل لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّ ما أتى به من القرآن ظاهر الحال و يتحدّاهم حالا بعد حال مدّة من الزمان

ص: 139

فهلّا قابلوه و هم أرباب الفصاحة و البلاغة و كانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره و أقوى الأمور في إبطال أمره كان معارضة القرآن فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها لأنّ الفعل عند توفّر الداعي واجب الوقوع فلمّا لم يأتوا بها دلّ ذلك على أنّه في نفسه معجزة و أنّهم عرفوا و علموا حقيقة الأمر و ما ذكرنا يدلّ على أنّهم كانوا عالمين بصدقه إلّا أنّهم كانوا يموّهون على الضعفاء لأغراض كانت لهم في تلك المكابرة.

[قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ] و قرأ بعض: قل ربّي فإذا كان «قال ربّي» حكاية لقول الرسول و إن كان الكلّ يكون يقولون هذا أي إنّكم و إن أخفيتم قولكم و طعنكم فإنّ ربّي عالم بذلك و هو السميع لأقوالهم العليم لضمائرهم.

[بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ] ثمّ أضربوا عن القولين و هما لكونه بشرا ليس بنبيّ و أنّ القرآن ليس بمعجز بل سحر و «قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أي تخاليط أحلام يراها في المنام ثمّ قالوا: لا «بَلْ» هو «افْتَراهُ» و افتعله و تخرّصه. ثمّ قالوا: لا [بَلْ هُوَ شاعِرٌ] تقوّله و هذا قول المتحيّر الّذي بهره ما سمع فمرّة يقول: سحر و مرّة يقول:

شعر و مرّة يقول: حلم و لا يجزم على أمر واحد.

و لمّا فرغوا من هذه الاحتمالات قالوا: [فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ] أي طلبوا آية جليّة كالآيات المنقولة عن موسى و عيسى عليه السّلام مثل الناقة و العصا و اقترحوا الآيات الّتي ليس معها إمهال و لا بدّ إذا صدرت و لم يؤمنوا يأخذهم العذاب لأنّ حكم اللّه فيمن كذّب بعد الإجابة إلى ما اقترحه من الآيات أن ينزل به عذاب الاستئصال و قد مضى حكمه في امّة محمّد خاصّة بخلافه فلذلك لم يجبهم.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 6 الى 10]

ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (10)

المعنى: أجاب سبحانه عن الكفّار الّذين اقترحوا الآيات بقولهم: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ».

ص: 140

[ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ] أي لم يؤمن قبل هؤلاء الكفّار [مِنْ] أهل [قَرْيَةٍ] جاءتهم الآيات الّتي اقترحوها و طلبوها فأهلكناهم مصرّين على الكفر [أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ] عند مجيئها أي هؤلاء سبيلهم سبيل من تقدّم منهم و من المعلوم أنّهم لا يؤمنون فلذلك لم يأت هؤلاء بالآيات المقترحة.

[وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ] هذا جواب عن قولهم: «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أي هذه عادة اللّه في الرسل أن يبعث من البشر من قبيل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ] في الكافي عن الباقر عليه السّلام قيل له: إنّ من عندنا يزعمون أنّ قول اللّه «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» أنّهم علماء اليهود و النصارى قال: إذا يدعوكم إلى دينهم ثمّ أومأ بيده إلى صدره نحن أهل الذكر و نحن المسئولون. و عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: نحن أهل الذكر. و يعضده أنّ اللّه سمّى النبيّ ذكرا رسولا و قيل: أهل الذكر المراد أهل التوراة و الإنجيل و قيل: أهل العلم بأخبار من تقدّم من الأمم. و قيل: أهل القرآن و الذكر هو القرآن و هم العلماء بالقرآن.

قوله: [وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ] هذا جواب و ردّ من اللّه لقولهم: «ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» (1) و معناه:

ما جعلنا الأنبياء قبلك ذوي أجساد لا يأكلون الطعام و لا يموتون حتّى يكون أكلك الطعام و شربك و موتك علّة لترك الإيمان بك فإنّا لم نخرجهم عن حدّ البشريّة بالوحي.

و الجسد المجسّد الّذي فيه الروح و يأكل و يشرب فحينئذ جسم. و قيل: الجسد ما لا يأكل و لا يشرب فحينئذ نفس. و وحّد لفظ الجسد لإرادة الجنس بتقدير ذوي جسد و الحاصل من المعنى: ما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين.

[ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ] بأنّ العاقبة المحمودة كانت لهم و أنجزنا ما وعدنا هم من النصر و الظهور على الأعداء فأنجيناهم من أعدائهم و المؤمنين بهم [وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ] على أنفسهم بتكذيبهم الأنبياء، و قيل: المراد من المسرفين المشركين.

ص: 141


1- الفرقان: 7.

ثمّ ذكر سبحانه نعمته عليهم بإنزال القرآن فقال: [لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً] يا معشر الناس [فِيهِ ذِكْرُكُمْ] أي في اتّباع القرآن ذكركم و شرفكم و فيه ذكر ما تحتاجون إليه في أمر دينكم و دنياكم و فيه مكارم الأخلاق و محاسن الأفعال [أَ فَلا تَعْقِلُونَ] ما فضّلتم به لتفوزوا بالجنّة بعمله لأنّ دفع الضرر عن النفس من لوازم العقل.

قوله: [سورة الأنبياء (21): الآيات 11 الى 15]

وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)

لمّا أبطل شبهاتهم بالغ سبحانه في زجرهم فقال:

[وَ كَمْ قَصَمْنا] القصم أقطع الكسر و هو الّذي لا يتلاءم الأجزاء بخلاف الفصم و ذكر القرية توسّعا و المراد أهلها فالمعنى: أهلكنا قوما و أنشأنا قوما آخرين، و المراد من القرية أهل القرية لأنّ القرية لا تكون ظالمة و لا مكلّفة.

[فَلَمَّا أَحَسُّوا] عذابنا و [بَأْسَنا] و هذه البيانات قرائن دالّة على أنّ المراد أهل القرية و إلّا لما جاز منه ذكر المجاز لأنّه موهم للكذب و المراد من البأس في الآية القتل بالسيف و المراد بالقرية بلدة حضور و سحول في اليمن ينسب إليهما الثياب و في الحديث: كفّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ثوبين سحوليّين، و روي: حضوريّين.

و بعث اللّه فيها نبيّا يقال له حنظلة فقتلوا نبيّهم فسلّط اللّه عليهم بخت النّصر حتّى قتلهم و سباهم و نكأ فيهم حتّى خرجوا من ديارهم منهزمين فبعث اللّه ملائكة حتّى ردّهم إلى مساكنهم فقتل صغار هم و كبارهم حتّى لم يبق لهم اسم و لا رسم روي أنّه لمّا أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء: يا لثارات الأنبياء.

هذا على أنّ المراد من العذاب القتل و أمّا إذا كان المراد من البأس غير القتل فالمراد عذاب الاستئصال و القرية غير منحصرة في القريتين بل مطلق القرى المعذّبة و لعلّ ابن عبّاس ذكر حضور بأنّها إحدى القرى الّتي أرادها اللّه بهذه الآية.

ص: 142

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 199

فلمّا أحسّوا بأسنا [إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ] و المعنى لمّا علموا شدّة عذابنا مشاهدة ركضوا في ديارهم و الركض ضرب الدابّة بالرجل و منه قوله: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» (1) فيجوز أن يكونوا ركبوا دوابّهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم.

قوله: [لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ] كلمة «قال» محذوف و القائل إمّا بعض الملائكة أو المؤمنين الّذين من شأنهم أن يقولوا و لم يقولوا أو يقوله اللّه و يسمعه الملائكة فيحدّثون به أنفسهم لثبات دينهم أي ارجوا إلى نعمكم و مساكنكم من العيش و الرفاهية و الحال الناعمة، و الإتراف إبطار النعمة و هي الترفّه [لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ] فهو تهكّم بهم و توبيخ لهم أي ارجعوا إلى مساكنكم حتّى تسألكم الناس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب و يستعينوكم بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم الطامعون فيكم إمّا لأنّهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس طلبا للثّناء أو للبخل فقيل لهم ذلك تهكّما إلى تهكّم.

فلمّا رأوا و شاهدوا العذاب [قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ] على سبيل التندّم إنّا ظلمنا أنفسنا حيث كذّبنا رسل ربّنا.

[فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ] و لم يزالوا يقولون يا ويلنا و تلك إشارة إلى هذه الكلمة، الويل أي يا ويل احضر فهذا وقت حضورك و يكرّرون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك إلى أن [جَعَلْناهُمْ حَصِيداً] محصودا مقطوعا [خامِدِينَ] ساكني الأنفاس و الحركات ميّتين كما تخمد النار إذا طفئت.

قوله: [سورة الأنبياء (21): الآيات 16 الى 20]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)

وجه التعلّق في هذه الآية بما قبلها أنّه لمّا بيّن إهلاك القوم لأجل تكذيبهم بيّن

ص: 143


1- سورة ص: 42.

في هذه الآية على أنّ ذلك الفعل عدلا منه و مجازاة على فعلهم فقال:

[وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ] و ما سوّينا هذا السقف المرفوع و هذا المهاد الموضوع و ما بينهما من العجائب كما يفعل الجبابرة سقوفهم و فروشهم للّهو و إنّما سوّيناها لفوائد دينيّة و دنيويّة لتفكّرون في خلق السماوات و الأرض و تنتفعون منها منافع.

[لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا] اللهو المرأة. و قيل: هو الولد. و قيل:

اللهو داعي الهوى. و المعنى: لو اتّخذنا نساء أو ولدا لاتّخذناه من أهل السماء و لم نتّخذه من أهل الأرض أي من الروحانيّين لا من الجسمانيّين لأنّ ذلك أليق بحضرتنا. و أصل اللهو معناه الجماع؛ قال امرؤ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني كبرت و أن لا يحسن اللهو أمثالي

و تأويل الآية: لمّا قالت في المسيح و امّه ما قالت قال اللّه عزّ و جلّ: لو أردنا أن نتّخذ صاحبة و ولدا كما يقولون لاتّخذنا ذلك من عندنا و لم نتّخذ من عندكم [إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ] هذا الفعل و قيل: «إن» نافية و هذا البيان ردّ لمن قال بولادة المسيح و عزير.

قوله: [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ] و كلمة «بل» إضراب عن اتّخاذ اللهو و اللّعب و تنزيه من اللهو لذاته بل من عادتنا أن نغلب اللعب بالجدّ و ندحض الباطل بالحقّ. و استعار لفظ القذف و الدمغ بيانا لإبطال ما تصوّروا في اتّخاذ الولد فجعل الحقّ كالجسم الصلب مثل كالصخرة و قذف به على جرم رخو أجوف أي يبطل اللهو الباطل المدفوع بالرمي الشديد بالجرم الصلب كالصخرة و هو الحقّ فإذا الباطل زاهق و ذاهب بالكلّية و يؤدّي الأمر إلى زهوق روح الباطل و اضمحلاله.

قوله: [وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] أي و لكم العذاب الشديد ممّا تصفون اللّه به من اتّخاذ الولد و الصاحبة و تكذيب الرسول و القرآن و نسبة السحر إلى القرآن و أمثاله [وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ] لمّا حكى كلام الطاعنين في النبوّة و تمرّدهم عن الطاعة ذكر في هذه الآية أنّه تعالى منزّه عن طاعتهم و أنّه المالك لجميع المخلوقات و يعبدوه من هو أطوع و الملائكة مع جلالتهم خائفون مطيعون له فالبشر مع نهاية

ص: 144

الضعف أولى أن يطيعوه و كلّ المكلّفين في السماء و الأرض عبيده و يجب على الكلّ الانقياد لحكمه.

و المراد من الآية نفي النبوّة على الملائكة بقوله: [لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ] أي لا يأنفون لأنّ أحدا لا يستعبد ابنه [وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ] أي لا يعيون و لا يملّون و لا ينقطعون، مأخوذ من الحسر و هو البعير المنقطع بالإعياء.

[يُسَبِّحُونَ] اللّه و ينزّهونه عمّا لا يليق على الدوام [لا يَفْتُرُونَ] و لا يضعفون عنه. قال عبد اللّه بن الحرث بن نوفل: قلت لكعب الأحبار: أ رأيت قول اللّه: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» ثمّ قال: «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» (1) أفلا تكون تلك الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح؟ و أيضا قال سبحانه: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ» (2) فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح؟ فقال كعب: التسبيح لهم كالتنفّس لنا فكما أنّ التنفّس لنا لا يمنعنا من الكلام فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم سائر الأعمال.

فإن قيل: هذا القياس غير صحيح لأنّ الاشتغال بالتنفّس لا يمنع من الكلام و آلة التنفّس غير آلة الكلام فيمكن الجمع و لكنّ التسبيح و اللعن فهما من جنس الكلام و اجتماعهما محال.

و الجواب أنّه لا يستعبد أن يخلق اللّه لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبّحون و ببعضها يلعنون.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 21 الى 30]

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)

وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (30)

ص: 145


1- فاطر: 1.
2- البقرة: 161.

اعلم أنّ الكلام من أوّل السورة إلى هاهنا كان في النبوّة و ما يتّصل بها سؤالا و جوابا فشرع سبحانه في بيان التوحيد و نفي الأنداد.

«أم» هاهنا هي المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» للإنكار لما بعدها و ليست المعادلة بهمزة الاستفهام حتّى يكون مثل: أزيد قائم أم عمرو أي لم يتّخذوا آلهة من الأرض يحيون الأموات يعني أنّ هؤلاء إذا كانوا لا يقدرون على إحياء الأموات و يميتوا و يضرّوا و ينفعوا فأيّ عقل يجوّز اتّخاذ هم آلهة؟

قوله «من الأرض» نسبتها إلى الأرض للإيذان بأنّها الأصنام الّتي تعبد في الأرض منحوتة من بعض الحجارة أو معمولة من بعض جواهر الأرض، و قرئ ينشرون بفتح الياء يقال: أنشر اللّه الموتى و نشرها.

قوله [لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا] و «إلّا» هاهنا بمعنى «غير» أي لو كان يتولّاهما شي ء غير اللّه الواحد الّذي هو فطرهما لفسدتا و لا يجوز أن يكون بمعنى الاستثناء لأنّه لو حمل على الاستثناء لكان المعنى: لو كان فيهما آلهة ليس معهم اللّه لفسدتا و هذا يوجب بطريق المفهوم أنّه لو كان فيهما آلهة معهم اللّه أن لا يحصل الفساد و ذلك باطل؛ لأنّه لو كان فيهما آلهة إلّا اللّه فسواء لم يكن اللّه معهم أو كان اللّه فالفساد لازم فيجب أن يكون معناه غيره.

ذكر سبحانه الدليل على توحيده و هذا هو دليل التمانع الّذي بنى عليه المتكلّمون مسألة التوحيد و تقرير ذلك أنّه لو كان مع اللّه إله آخر لكانا قديمين و القدم من أخصّ الصفات فالاشتراك فيه يوجب التماثل فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيّين، و من حقّ كلّ قادرين أن يصحّ كون أحدهما مريدا لضدّ ما يريد الآخر من إماتة و إحياء أو تحريك أو تسكين أو إفقار أو إغناء فإذا فرضنا ذلك فلا محالة إمّا أن يحصل مرادهما

ص: 146

و ذلك محال و إمّا أن لا يحصل مرادهما فينتقض كونهما قادرين و إمّا أن يقع مراد أحدهما و لا يقع مراد الآخر فينتقض كون من لم يقع مراده من غير وجه منع معقول قادرا فإذا لا يجوز الا له إلّا واحدا.

و لو قيل: إنّهما لا يتمانعان؛ لأنّ ما يريد أحدهما يكون حكمة فيريده الآخر بعينه.

فالجواب أنّ كلامنا في صحّة التمانع لا في وقوع التمانع و صحّة التمانع يكفي في الدلالة لأنّه يدلّ على أنّه لا بدّ من أن يكون أحدهما متناهي المقدور فإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون إلها. انتهى كلام الطبرسيّ.

قال الرازيّ و ذكر بعض الوجوه الإقناعيّة:

لو كان كلّ واحد من الإلهين قادرا على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لا بدّ و أن يستويا في القدرة و إذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني و إلّا لزم ترجيح الممكن من غير مرجّح.

و أيضا إذا قدّرنا إلهين لوجب أن يكون كلّ واحد منهما مشاركا للآخر في الإلهيّة و لا بدّ و أن يتميّز كلّ واحد منهما عن الآخر بأمر مّا و إلّا لما حصل التعدّد فما به الممايزة إمّا أن يكون صفة كمال أولا يكون فإن كان صفة كمال فالخالي عنه يكون خاليا عن الكمال فيكون ناقصا و الناقص لا يكون إلها و إن لم يكن صفة كمال فالموصوف به يكون موصوفا بما لا يكون صفة كمال فيكون ناقصا. و يمكن أن يقال:

ما به الممايزة إن كان معتبرا في تحقّق الإلهيّة فالخالي عنه لا يكون إلها و إن لم يكن معتبرا في الإلهيّة لم يكن الاتّصاف به واجبا فيفتقر إلى المخصّص فالموصوف به مفتقر و محتاج.

ثم هاهنا دليل آخر و هو أنّا لو فرضنا إلهين لكان لا بدّ و أن يكونا بحيث يتمكّن الغير من التميّز بينهما لأنّه إن تساويا في كلّ الجهات لما حصل الاثنينيّة، و الامتياز لا يحصل إلّا بالتباين في المكان أو في الزمان أو في الوجوب و الإمكان و أمثالها و كلّ ذلك على الإله محال فيمتنع حصول الامتياز.

ص: 147

و الرابع من الدليل أنّ أحد الإلهين إمّا أن يكون كافيا في تدبير العالم أولا يكون فإن كان كافيا كان الثاني ضائعا و غير محتاج إليه و ذلك نقص لأنّ وجود المهمل ناقص و الناقص لا يكون إلها.

و الخامس أنّ العقل يقتضي و يحكم باحتياج المحدث إلى الفاعل و لا امتناع في كون الفاعل الواحد مدبّرا لكلّ العالم فأمّا ما وراء ذلك فليس عدد أولى من عدد فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها و ذلك محال فالقول بوجود الآلهة محال.

و السادس أنّ أحد الإلهين إمّا أن يقدر على أن يستر شيئا من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر فإن قدر لزم أن يكون المستور عنه جاهلا و إن لم يقدر لزم كونه عاجزا.

و السابع أنّا لو فرضنا معدوما ممكن الوجود ثمّ قدّرنا إلهين فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كلّ واحد منهما عاجزا و العاجز لا يكون إلها و إن قدر أحدهما دون الآخر فهذا الآخر لا يكون إلها و إن قدرا جميعا فإمّا أن يوجداه بالتعاون فيكون كلّ واحد منهما محتاجا إلى إعانة الآخر و إن قدر كلّ واحد على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإمّا أن يبقى الثاني قادرا عليه و هو محال لأنّ إيجاد الموجود محال و إن لم يبق فحينئذ يكون الأوّل قد أزال قدرة الثاني و عجزه فيكون مقهورا تحت تصرّفه فلا يكون إلها.

فإن قيل: الواحد إذا أوجد مقدوره فقد زالت قدرته عنه فيلزمكم العجز.

قلنا: الواحد إذا أوجده فقد نفذت فنفاذ القدرة لا يكون عجزا أمّا الشركة فإنّه لمّا نفذت قدرته لم يبق لشريكه قدرة في إيجاده البتّة فزالت قدرة الثاني بسبب قدرة الأوّل و إيجاده فيكون إيجاد الأوّل تعجيزا للثاني.

و الثامن و هو أن نعيّن جسما مثلا و نقول: هل يقدر كلّ واحد منهما على خلق الحركة فيه بدلا عن السكون و بالعكس فإن لم يقدر كان عاجزا و إن قدر فنقول:

إذا خلق أحدهما فيه حركة امتنع على الثاني خلق السكون فالإله الأوّل أزال قدرة الثاني و عجزه.

و التاسع أنّ الشركة صفة نقص و التوحيد صفة الكمال و كلّما كان الملك أعظم

ص: 148

كان النقص في الشركة أعظم فإن أراد أحد الإلهين استخلاص الملك لنفسه مثلا فإن قدر على الثاني كان المغلوب فقيرا عاجزا فلا يكون إلها و إن لم يقدر فالأوّل عاجز و ناقص و مسلوب القدرة و لا يصلح أن يكون إلها.

و العاشر و هو أنّا إذا قدّرنا إلهين لكان إمّا أن يحتاج كلّ واحد منهما إلى الآخر أو يستغني كلّ واحد منهما عن الآخر أو يحتاج أحدهما إلى الآخر و الآخر يستغني عنه فإن كان الأوّل كان كلّ واحد منهما ناقصا لأنّ المحتاج ناقص و إن كان الثاني كان كلّ واحد منهما مستغنيا عنه و المستغنى عنه ناقص، لأنّ وجوده مهمل و لا ضرورة و لا فائدة له لأنّ الإله هو الّذي يستغنى به و لا يستغنى عنه و إن احتاج أحدهما إلى الآخر من غير عكس كان المحتاج ناقصا و المحتاج إليه هو الإله.

و اعلم أنّ هذه الوجوه المذكورة واحد من ألف بعضها براهين قطعيّة في إثبات التوحيد و بعضها إقناعيّة.

و أما الدلائل السمعيّة فأكثر من أن تحصى كقوله: «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ» (1) فالأوّل هو الفرد السابق بلا مسبوق فيكون أزليّا فوجب أن لا يكون له شريك.

و الثاني «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» (2) فالنصّ يقتضي أن لا يكون أحد سواه عالما بالغيب و لو كان له شريك لكان عالما بالغيب و هو خلاف النصّ.

و الثالث أنّ اللّه صرّح بكلمة «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ»* في سبعة و ثلاثين موضعا من كتابه و صرّح بالوحدانيّة في مواضع نحو قوله: «إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ»* (3) و قوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» (4).

و الرابع قوله: «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (5) حكم بهلاك كلّ ما سواه و من

ص: 149


1- الحديد: 3.
2- الانعام: 59.
3- النحل: 22 و غيره.
4- الإخلاص: 1.
5- القصص: 88.

عدم بعد وجوده لا يكون قديما و من لا يكون قديما لا يكون إلها.

و الخامس «وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» (1) و لو كان له شريك لكان ذلك الشريك جالبا للنّفع و دافعا للضرر.

و السادس «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» (2) و هذا الحصر يدلّ على نفي الشريك.

و السابع قوله تعالى: «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ»* (3) فلو وجد الشريك لم يكن خالقا.

و اعلم أنّه من طعن في دلالة التمانع في قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» فسّر الآية بأنّ المراد لو كان في السماء و الأرض آلهة يقول بإلهيّتها عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأنّها جمادات لا يقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم قالوا: و هذا أولى لأنّه تعالى حكى عنهم قوله «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ» (4) ثمّ ذكر الدليل على فساد هذا القول فوجب أن يختصّ الدليل به و في هذا القدر من البيان الكفاية و باللّه التوفيق.

أمّا قوله: [فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ] لمّا أثبت الدلالة القاطعة على التوحيد أمر أنّ التسبيح لائق بالخالق القادر و لا يجوز العبادة لغيره و إنّما خصّ العرش بالذكر لأنّه أعظم المخلوقات و من قدر على الأعظم فبالأولى أن يخلق ما دونه و كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الّذي لا يعقل شريكا في الإلهيّة لخالق العرش العظيم؟

قوله: [لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ] وجه تعلّق الآية بما قبلها أنّ طلب اللمّيّة في أفعال اللّه بعد معرفة توحيده و قدرته غلط و ذلك أنّ الثنويّة و المجوس و هم الّذين أثبتوا للّه شريكا و قالوا: رأينا في العالم خيرا و شرّا و لذّة و ألما و حياة و موتا و صحّة و سقما و فاعل الخير خيّر و فاعل الشرّ شرير و يستحيل أن يكون الفاعل

ص: 150


1- الانعام: 17.
2- الانعام: 46.
3- الرعد: 18. الزمر: 62. المؤمن: 62.
4- السورة: 21.

الواحد خيّرا و شريرا معا فلا بدّ من فاعلين ليكون أحدهما فاعلا للخير و الآخر فاعلا للشرّ.

و حاصل هذه الشبهة أنّ مدبّر العالم لو كان واحدا لما خصّ هذا بالحياة و الصحّة و الغنى و خصّ ذلك بالموت و الألم و الفقر فلمّا كان مدار القائلين بالشريك على طلب اللمّيّة لا جرم بيّن سبحانه بعد بيان الدلائل على التوحيد أنّه سبحانه غير مسؤول عن أفعاله و غيره مسؤول عن فعله لا يقال للحكيم: لم فعلت؟ و بم فعلت؟ لأنّه العالم بالأصلح و عالم بقبح القبائح و غنيّ عنها و منزّه منها و من كان كذلك فإنّه يستحيل أن يفعل القبيح، و إذا عرفنا إجمالا أنّ كلّ ما يفعله على وفق الحكمة و الصواب فلم يجز للعبد الملوك أن يقول لمولاه: لم فعلت هذا؟

قوله تعالى: [أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً] كرّر هذا البيان استعظاما لكفرهم و عقيدتهم الفاسدة استفهام إنكار و توبيخ [قُلْ] لهم يا محمّد: [هاتُوا] حجّتكم على صحّة اتّخاذكم و فعلكم قل لهم يا محمّد: [هذا] القرآن [ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ] بما يلزمهم من الأحكام [وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي] فيه من الأمم من أحوالهم ممّن نجا بالإيمان و هلك بالكفر.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يعني بذكر من معي من معه و ما هو كائن و يعني بذكر من قبلي ما قد كان.

و قيل: إنّ معناه: في القرآن خبر من معي على ديني ممن يتّبعني إلى يوم القيامة بمالهم من الثواب على الطاعة و العقاب على المعصية و ذكر ما أنزل اللّه من الكتب قبلي فانظروا هل في واحد من الكتب أنّ اللّه أمر باتّخاذ إله سواه؟

قال الزمخشريّ: «ذكر» منوّنا و «من» مفعول للمصدر بمعنى الفاعل.

و قال الزجّاج: معناه قل يا محمّد لهم: هاتوا برهانكم بأنّ رسولا من الرسل أتى امّته بأنّ لهم إلها غير اللّه فهل في ذكر من معي و هو القرآن و ذكر من قبلي كالتوراة و الإنجيل إلّا توحيد اللّه؟ و يدلّ على صحّة هذا قوله فيما بعد. «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».

ص: 151

فلمّا توجّهت الحجّة عليهم ذمّهم على جهلهم فقال: [بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ] عن التفكّر و إنّما خصّ الأكثر منهم لأنّ فيهم من آمن.

قوله: [وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ] يا محمّد [مِنْ رَسُولٍ] و «من» زائدة [إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ] نحن أو يوحي إليه اللّه البتّة بأنّه لا معبود على الحقيقة إلّا أنا فوجّهوا العبادة إليّ دون غيري.

[وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً] يعني من الملائكة، نزّه نفسه عن ذلك. نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات اللّه و أضافوا إلى ذلك أنّه تعالى صاهر الجنّ، و المراد بالجنّ هنا الملائكة على ما حكى اللّه عنهم فقال: [وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً] فنزّه نفسه بقوله سبحانه لأنّ الولد لا بدّ و أن يكون شبيها بالوالد فلو كان للّه ولد لأشبهه من بعض الوجوه ثمّ لا بدّ و أن يخالفه من بعض الوجوه و ما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات اللّه و كلّ مركّب ممكن فاتّخاذ الولد يوجب كونه ممكنا غير واجب و ذلك يخرجه عن حدّ الإلهيّة و يدخله في حدّ العبوديّة.

[بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ] مفضّلون يتّبعونه في أوامره [لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ] لا يقولون شيئا حتّى يقوله أي يأمر به و لا يسبق قولهم قوله و قولهم تابع لقوله و أمره [وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ] أي لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به.

ثمّ ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال: [يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ] أي لمّا علموا كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات و علموا كونه عالما بظواهرهم و بواطنهم فكان ذلك داعيا لهم إلى نهاية الخضوع و العبوديّة. قال ابن عبّاس: يعلم ما قدّموا و ما أخّروا من أعمالهم. و قيل: ما بين أيديهم الآخرة و ما خلفهم الدنيا. و قيل:

على العكس. و قيل: المعنى: يعلم ما كان قبل خلقهم و ما يكون بعد خلقهم و هو محيط بهم.

[وَ لا يَشْفَعُونَ] الملائكة [إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى] اللّه دينه. و قيل: إلّا لمن رضي اللّه عنه.

و قيل: إنّهم أهل شهادة أن لا إله إلّا اللّه. و قيل: هم المؤمنون المستحقّون للثواب و حقيقة المعنى أنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى اللّه أن يشفع فيه فيكون في معنى: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (1).

ص: 152


1- البقرة: 257.

و في الخصال عن الصادق عليه السّلام: و أصحاب الحدود فسّاق لا مؤمنون و لا كافرون لا يخلدون في النار و يخرجون منها يوما و الشفاعة جائزة لهم و للمستضعفين إذا ارتضى اللّه دينهم.

و في التوحيد عن الكاظم عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل قيل: يا ابن رسول اللّه كيف يكون الشفاعة لأهل الكبائر و اللّه يقول: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» و من ركب الكبيرة لا يكون مرتضى؟ فقال عليه السّلام: ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلّا ساءه ذلك و ندم عليه و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كفى بالندم توبة و قال عليه السّلام: من سرّته حسنة و ساءته سيّئة فهو مؤمن فمن لم يندم على ذنب ارتكبه فليس بمؤمن و لم يجب له الشفاعة و كان ظالما و اللّه تعالى ذكره بقوله: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ» (1) فقيل له: يا ابن رسول اللّه و كيف لا يكون مؤمنا من لم يندم على ذنب يرتكبه؟ فقال عليه السّلام: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم أن سيعاقب عليها إلّا ندم على ما ارتكب و متى ندم كان تائبا مستحقّا للشفاعة و متى لم يندم عليها كان مصرّا و المصرّ لا يغفر له لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار، و أمّا ما قال عزّ و جلّ: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» فإنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى اللّه دينه و الدين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيّئات فمن ارتضى اللّه دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة. انتهى.

قوله: [وَ هُمْ] أي الملائكة [مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ] أي من خشيتهم منه تعالى مشفقون و خائفون وجلون من التقصير في عبادته، فأضيف المصدر إلى المفعول.

[وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ] أي من هؤلاء الملائكة من يقل منهم إنّي إله يحقّ لي العبادة من دون اللّه [فَذلِكَ] القائل [نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ] و هذا لا يدلّ على أنّهم قالوا ذلك و ما قالوه، و هو قريب من قوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (2)

ص: 153


1- المؤمن: 18.
2- الزمر: 65.

و قيل: المراد إبليس لأنّه الّذي دعا الناس إلى عبادته و هذا يصحّ إذا كان إبليس من الملائكة و عند الأكثر أنّه ليس من الملائكة.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا] في الآية بيان أنّ الإله القادر على مثل هذه المخلوقات العجيبة العظيمة الغريبة كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة مخلوق حجر لا يضرّ و لا ينفع؟

و ذكر ستّة أنواع من الدلائل:

النوع الاول: [أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما] و المراد من الرؤية هاهنا العلم أي العقل يحكم بأنّ الأجسام يصحّ عليها الرتق و الفتق يعني الاجتماع و صالحة لقبول الاجتماع و الافتراق باختصاصها فالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصّصا و قد فسّر الخاصّة الرتق في السماء و الأرض بأن لا يمطر السماء و لا ينبت الأرض ففتقنا هما أي أمطرنا من السماء و أنبتنا من الأرض.

في الكافي عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: لعلّك تزعم أنّهما كانتا ملتزقتان ففتقت إحداهما عن الاخرى؟ فقال: نعم فقال: استغفر ربّك فقوله «كانَتا رَتْقاً» يقول: كانت السماء لا ينزل بالمطر و كانت الأرض لا تنبت الحبّ فلمّا اهبط آدم إلى الأرض و تاب اللّه عليه أمر السماء فتقطّرت بالغمام ثمّ أمرها فأرخت عزاليها (1) و أمر الأرض فأنبتت النبات فكان ذلك رتقها و هذا فتقها فكانت السماء خضراء على لون الماء الأخضر و الأرض غبراء على لون الماء العذب و كانتا مرتوقتين لم تمطر و لم تنبت ففتقهما بالمطر و النبات، و اليهود و النصارى كانوا عالمين بذلك فإنّه جاء في التوراة أنّ اللّه خلق جوهرة ثمّ نظر إليها بعين إلهيّته فصارت ماء ثمّ خلق السماوات و الأرض منها و فتقهما و كان بين عبدة الأوثان و بين اليهود صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاحتجّ اللّه عليهم بهذه الحجّة بناء على قبولهم قول اليهود.

و اختلفوا في المراد من الرتق و الفتق:

قيل: إنّ المعنى: كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصّل اللّه بينهما و رفع السماء إلى حيث هي و أقرّ الأرض. و هذا القول يشعر بأنّ جعل الأرض على وضعها مقدّمة.

ص: 154


1- جمع العزلاء: مصب الماء من القربة.

على السماء لأنّه تعالى لمّا فصّل بينهما ترك الأرض حيث هي و أصعد الأجزاء السماويّة.

و قيل: المراد من الرتق الاستواء و الصلابة ففتقهما اللّه أمّا السماء بالمطر و الأرض بالنبات و الزرع و الشجر. و الدليل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: «وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ» و ذلك لا يليق إلّا و للماء تعلّق بما تقدّم من المعنى.

و قيل: المراد بالرتق حال عدم الأشياء قبل الوجود و الفتق الإيجاد و الظهور كقوله: «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»* فأخبر سبحانه عن الإيجاد بلفظ الفتق و عن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق لأنّ العدم نفي محض و ليس فيه ذرّات مميّزة و كأنّه أمر واحد بسيط فعند الوجود و التكوّن يتميّز بعضها عن بعض و ينفصل، فبهذا الطريق يحسن إطلاق العدم على الرتق و الوجود على الفتق مجازا.

النوع الثاني: من الدلائل الستّة: [وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ] و جعلنا إمّا أن يتعدّى إلى واحد فالمعنى: خلقنا كلّ ذي روح و حيوان من الماء و هذا كقوله: «وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» (1) و إذا تعدّى إلى مفعولين فالمعنى: صيّرنا كلّ شي ء حيّا بسبب من الماء لا بدّ له منه، فحينئذ «من» في هذا الكلام مثل «من» في كلامه: «ما أنا من دد و لا الدد مني» و على هذا يكون «حيّا» بالنصب على المفعول الثاني.

فإن قيل كيف قال: و خلقنا من الماء كلّ حيوان و قد قال: «وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ» (2)؟

و الجواب: اللفظ و إن كان عامّا إلّا أنّ القرينة المخصّصة قائمة و الدليل إذا كان مشاهدا محسوسا فخروج الجنّ و الملائكة و عيسى لا يخرج الدليل عن كونه دليلا لأنّ الكفّار لم يروا شيئا من ذلك و لا يختصّ بالحيوان كونه من الماء بل يدخل فيه النبات و الأرض أما ترى يقول سبحانه: «كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (3)؟

و بالجملة فالماء الّذي بسببه حياة كلّ حيوان و شي ء من ينزله من السماء غير اللّه؟ أفلا يؤمنون و يصدّقون بتوحيده و يدعون الشرك و التثليث؟

ص: 155


1- النور: 45.
2- الروم: 50.
3- الحجر: 27.

النوع الثالث

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 31 الى 35]

وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)

الجبال الراسية أي الراسخة في الأرض كراهة أن تميل بهم لأنّ الأرض بسطت على الماء فكانت تنكفئ بأهلها كما تنكفئ السفينة فأرساها اللّه بالجبال الثقال لئلّا تميل و تنقلب بأهلها فحذف «لا» لعدم الالتباس لوضوح المعنى و حذف لام الاولى من «لئلّا» و بقيت «أن» و الجبال أثبت الأرض عن الحركة و الاضطراب و التمايل و حصول الاستقرار.

النوع الرابع من شواهد القدرة و الدلائل: [وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ] الفجّ الطريق الواسع أي جعل في الجبال طرقا واسعة حين خلقها على تلك الصفة. و قيل: الضمير في «فيها» راجعة إلى الأرض، و في رواية عطا عن ابن عبّاس و عن ابن عمر: كانت الجبال منضمّة فلمّا أغرق اللّه قوم نوح فرّقها فجاجا و جعل فيها طرقا لكي يهتدوا إذ الشكّ لا يجوز على اللّه و المراد ليهتدوا بأمور معاشهم و يهتدوا إلى معرفة القادر الخالق على وجه الحكمة.

و هذه الآية دليل على أنّ اللّه أراد من المكلّفين الاهتداء و الخير لهم و الاهتداء إلى المعاش و المعاد يشتركان في مفهوم واحد و هو أصل الاهتداء فيحمل اللفظ على ذلك المشترك فيكون الآية متناولة للأمرين و لا يلزم منه كون اللفظ المشترك مستعملا في مفهوميه معا.

النوع الخامس قوله: [وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ] سمّى السماء سقفا لأنّها للأرض كالسقف للبيت سمّي محفوظا من الوقوع و السقوط و قيل:

محفوظا من الشياطين بالشهب الّتي ترمى بها قال تعالى: «وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ

ص: 156

رَجِيمٍ» (1) و هم عن آياتها من العجائب في حركاتها و آثارها و مطالعها و مغاربها و اختلاف أوضاعها من الأدلّة و العبر [مُعْرِضُونَ] و غافلون.

النوع السادس [وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ] مثلا لو كان يخلق سبحانه السماء و الأرض و لم يخلق الشمس و القمر ليظهر بهما الليل و النهار و يظهر بهما من المنافع بتعاقب الحرّ و البرد لم تتكامل النعم على عباده و إنّما حصلت و كملت النعم عليهم بسبب حركاتها في أفلاكها و لهذا قال: [كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] أي يجرون و يدورون من الشمس و القمر و النجوم و مع هذا لا يتدبّرون و لا يتفطّنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيويّة كالاستضاءة بقمرها و الاهتداء بكواكبها و حياة الأرض بأمطارها و كونها آية بيّنة على وجود الخالق و وحدانيّته، معرضون و غافلون.

قال صاحب الكشّاف: التنوين في «كلّ» عوض عن المضاف إليه أي كلّهم في فلك يسبحون و الجمع باعتبار أنّ النجوم داخلة فيها و النجم باعتبار وجود الليل و الجمع بالواو و النون لا يكون إلّا للعقلاء لأنّها موصوفة بصفة العقلاء و هو الحركة و السياحة و الجري.

و اختلف الناس في حركات الكواكب، و الوجوه المتصوّرة فيها ثلاثة: فإنّه إمّا أن يكون الفلك ساكنا و الكواكب تتحرّك فيه كحركة السمك في الماء الراكد و إمّا أن يكون الفلك متحرّكا و الكواكب تتحرّك فيه أيضا إمّا مخالفا لجهة حركته أو موافقا لجهته إمّا بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة و البطء أو مخالفة. و إمّا أن يكون الفلك متحرّكا و الكواكب ساكنا.

أمّا الرأي الأوّل فقالت الفلاسفة: إنّه باطل لأنّه يوجب خرق الأفلاك و هو محال. و أمّا الرأي الثاني فحركة الكواكب إن فرضت مخالفة لحركة الفلك فذاك أيضا يوجب الخرق و إن كانت حركتها إلى جهة الفلك فإن كانت مخالفة في السرعة و البطء لزم الانخراق و إن استوتا في الجهة و السرعة و البطء فالخرق أيضا لازم لأنّ الكواكب

ص: 157


1- الحجر: 17.

يتحرّك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتيّة زائدة فيلزم الخرق فلم يبق إلّا القسم الثالث و هو أن يكون الكواكب مغروزا في ثخن الفلك واقفا فيه و الفلك يتحرّك فيتحرّك الكواكب بسبب حركة الفلك.

و اعلم أنّ مدار هذا الكلام على امتناع الخرق على الأفلاك و هو باطل بل الحقّ أنّ أقسام الثلاثة ممكنة و اللّه تعالى قادر على كلّ الممكنات و هذه المحالية الّتي فرضوها الفلاسفة بمعزل عن القدرة و ليس لنا طريق إلى العلم بهذه الأوضاع إلّا السمع و الّذي يدلّ عليه القرآن أن تكون الأفلاك واقفة و الكواكب تكون جارية فيها كما تسبح السمكة في الماء، انتهى.

قوله تعالى: [وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ] المعنى: لمّا استدلّ بالدلائل المذكورة من النعم و هي اصول النعم أتبعه و نبّهه على أنّ هذه النعم لا تدوم و لا تبقى بل لا يبقى من خلقت الدنيا و الأفلاك له و بسببه بل خلقها للابتلاء و الامتحان فقال: و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلود و البقاء.

سبب النزول: قال مقاتل: إنّ ناسا كانوا يقولون: إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يموت فنزلت الآية. و قيل: كانوا يقولون: إنّه سيموت فيشمتون بموته فنفى اللّه عنه الشماتة بأن قضى اللّه أن لا يخلد في الدنيا بشرا فلا أنت و لا هم إلّا عرضة للموت أ فإن متّ أنت أ يبقى هؤلاء و ما جعلنا في حكمنا و تدبيرنا لبشر من قبلك يا محمّد الدوام و البقاء في الدنيا.

[أَ فَإِنْ مِتَ] على ما يتوقّعونه و ينتظرونه فهم الباقون يعني مشركي العرب حتّى قالوا: نتربّص بمحمّد ريب المنون و الحاصل فأيّ فائدة لهم؟

[كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ] لا بدّ لكلّ نفس أن يدخل عليه الموت و تخرج عن كونها حيّة. و اعلم أنّ هذا العموم مخصوص فإنّه تعالى نفس لقوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» (1) مع أنّ الموت لا يجوز عليه و كذلك الجمادات لها نفوس و هي لا تموت و لو أنّ في هذا الكلام الأخير تأمّلا بأنّ الجمادات لا تموت بل يمكن إعدامها بموتها و على الجملة فالعامّ المخصّص مستثنى و حجّة و يبقي معمولا به فيما عداه.

ص: 158


1- المائدة: 119.

و ذلك يبطل قول الفلاسفة في أنّ الأرواح البشريّة و العقول المفارقة و النفوس الفلكيّة لا تموت. و الذوق هاهنا إدراك خاصّ من لازم الموت و إعدام الحياة و لعلّ له مرارة خاصّة من شدّة ألم النزع فيكون من المذاقات حقيقة من الآلام العظيمة الّتي من مقدّمات حصول الموت قبل دخوله في الوجود.

قوله تعالى: [وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ] و الابتلاء لا يتحقّق إلّا مع التكليف فالآية دالّة على حصول التكليف، و يمتحن سبحانه المكلّف بأمرين: أحدهما ما سمّاه خيرا و هو نعم الدنيا من الصحّة و اللذّة و السرور و التمكّن من المرادات. و الثاني ما سمّاه شرّا و هو المضارّ الدنيويّة من الفقر و الآلام و الشدائد النازلة على المكلّفين، و العبد يتردّد بين هاتين الحالتين لكي يشكر على المنح و يصبر و يتحمّل في المحن فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم و إنّما سمّى ذلك ابتلاء و هو عالم بما سيكون من أعمال العباد العاملين قبل وجودهم. قال الزمخشريّ: «فتنة» مصدر تأكيد لقوله «لنبلوكم» من غير لفظه.

قوله: [وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ] و احتجّت التناسخيّة بقوله: «وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» فإنّ الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه و هذا الاستنباط غلط؛ لأنّ المراد من الرجوع الرجوع و المردّ إلى حكمته سبحانه و محاسبته و مجازاته و ليس المعنى أنّهم كانوا قبل دخولهم في هذا العالم ثمّ رجعوا إليه و من المعلوم ضرورة أنّهم كانوا مسبوقين بالعدم ثمّ وجدوا فمن أين ثبت أنّهم كانوا ثمّ رجعوا؟ كما أنّ المجسّمة قالوا بأنّا أجسام فرجوعنا إلى اللّه يقتضى كون اللّه جسما و هذا غلط أفحش من الأوّل لأنّ الجسم محتاج إلى حيّز و تركيب و احتياج و كلّه منزّه عنه تعالى اللّه عن التجسّم و التركيب و الاحتياج.

و بالجملة لا بدّ للإنسان المكلّف أن يمتحن بالخير و الشرّ. في المجمع عن الصادق عليه السّلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرض فعاده إخوانه فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشرّ، قالوا: ما هذا كلام مثلك، قال: إنّ اللّه يقول: و نبلوكم بالشرّ و الخير؛ فالخير الصحّة و الغنى و الشرّ المرض و الفقر.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 36 الى 40]

وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)

ص: 159

قيل: نزلت في أبي جهل مرّ به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان أبو سفيان مع أبي جهل فقال أبو جهل: هذا نبيّ بني عبد مناف، فقال أبو سفيان: و ما ننكر أن يكون نبيّا في بني عبد مناف فسمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قولهما فقال لأبي جهل: ما أراك تنتهي حتّى ينزل بك ما نزل بعمّك الوليد بن المغيرة فنزلت الآية و خاطب نبيّه:

[وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و أنت تعيب آلهتهم و ذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّها جماد لا تضرّ و لا تنفع ما يتّخذونك إلّا سخريّة و يقول بعضهم لبعض: [أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ] بسوء و يدلّ على معنى السوء القرينة [وَ هُمْ بِذِكْرِ] التوحيد و بكتابه المنزل جاحدون و عجّب اللّه نبيّه منهم حيث جحدوا الحيّ المنعم القادر الخالق الرازق ثمّ إنّ من دعاهم إلى ترك عبادة الجماد المهملة اتّخذوه هزوا و هم أحقّ بالسخريّة عند من يتدبّر.

و تكرار الضمير للعناية بالتأكيد.

قوله: [خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ] كان الكفّار يستعجلون عذاب اللّه الّذي يوعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسبب مخالفتهم و كفرهم فذمّهم سبحانه على إفراط العجلة.

ثمّ نهاهم و زجرهم و أوعدهم بهذا الاستعجال فقال: [سَأُرِيكُمْ آياتِي] الدالّة على صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يوعدكم به من العذاب [فَلا تَسْتَعْجِلُونِ] بنزوله فإنّه سيدرككم عن قريب.

قال ابن عبّاس: المراد من الإنسان في الآية هو الشخص و هو النضر بن الحارث و هو الّذي قال: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ» الآية (1) و أراد بقوله:

«سَأُرِيكُمْ آياتِي» يوم بدر.

[وَ يَقُولُونَ] يعني المشركون يقولون للمسلمين: [مَتى هذَا الْوَعْدُ] الّذي

ص: 160


1- الأنفال: 32.

تعدوننا؟ يريدون وعد القيامة [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ] في وعدكم و قيل: المراد بالإنسان آدم عليه السّلام.

ثمّ قيل في معنى «عجل» تأويلات:

منها أنّه خلق بعد خلق كلّ شي ء آخر نهار يوم الجمعة و هو آخر أيّام الستّة معاجلا به غروب الشمس، عن مجاهد.

و منها أنّ معناه: في سرعة من خلقه لأنّه لم يخلقه من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة كما خلق غيره و إنّما أنشأه إنشاء فكأنّه نبّه بذلك على الآية العجيبة في خلقه.

و منها أنّ آدم لمّا خلق و جعلت الروح في أكثر من جسده وثب عجلان مبادرا إلى ثمار الجنّة و همّ بالوقوف فهذا معنى قوله: «من عجل» روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و في معنى خلق الإنسان من عجل ذكروا وجوها على قول من قال: المراد نوع الإنسان لا شخص آدم عليه السّلام:

أحدها أن معناه: خلق الإنسان عجولا أي خلق على حبّ العجلة في أمره يعني أنّه يستعجل في كلّ شي ء يشتهيه و للعرب عادة في استعمالهم هذا اللفظ عند المبالغة يقولون لمن يصفونه بكثرة النوم: ما خلق إلّا من نوم، و بكثرة وقوع الشرّ منه ما خلق إلّا من شرّ و منه قول الخنساء في وصف البقرة:

«فإنّما هي إقبال و إدبار»

. و ثانيها أنّه من المقلوب و المعنى: خلقت العجلة من الإنسان و هذا ضعيف.

و ثالثها أنّ العجل هو الطين عن أبي عبيدة و جماعة و استشهد بقول الشاعر:

و النبع ينبت بين الصخر ضاحيةو النخل تنبت بين الماء و العجل

فعلى هذا يكون كقوله: «وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» (1).

و رابعها أنّ معناه: خلق الإنسان من تعجل من الأمر لأنّه تعالى قال: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (2).

قوله تعالى: [لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ]

ص: 161


1- الم- السجدة: 7.
2- النحل: 30.

و جواب لو محذوف. و إنّما خصّ الوجوه و الظهور لأنّ مسّ العذاب لهما أعظم موقعا أي لو علموا الوقت الّذي لا يدفعون فيه عذاب النار عن وجوههم و لا عن ظهورهم و يحيط بهم من جوانبهم لما استعجلوا العذاب و لصدّقوك.

[بَلْ تَأْتِيهِمْ] الساعة [بَغْتَةً] فجأة [فَتَبْهَتُهُمْ] و تحيّرهم [فَلا يَسْتَطِيعُونَ] على دفعها و لا يؤخّرون إلى وقت آخر و لا يمهلون بمعذرة و توبة.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 41 الى 45]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45)

المعنى: ثمّ ذكر الوجه الّذي دفع الحزن عن قلب رسول اللّه فقال:

[وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ] بالمستهزئين و أحاط بهم عقوبة استهزائهم و حلّ بهم وبال سخريّتهم و قوله: [مِنْهُمْ] يعني من الرسل.

[قُلْ] يا محمّد لهؤلاء الكفّار عند ذلك: لو لا أنّ اللّه يحرسهم لما بقوا في السلامة و [مَنْ] يحفظكم [بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ] من بأس الرحمن و عذابه و عوارض الأوقات؟ و هذا الكلام كقول الرجل لمن حصل في قبضته و لا مخلص له منه: إلى أين مفرّك منّي؟ و لعلّ التخصيص هاهنا باسم الرحمن بالذكر تلقينا للجواب حتّى يقول العاقل: أنت الكالئ يا إلهنا لكلّ الخلائق برحمتك كما في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» (1) حتّى يقول: غرّني كرمك يا كريم.

قوله [بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ] أي إنّهم مع إنعامه سبحانه عليهم عن

ص: 162


1- الانفطار: 6.

ذكر ربّهم أي القرآن أو معرفته سبحانه معرضون و لا يؤمنون به و لا يلتفتون إلى شي ء من المواعظ و الحجج.

ثمّ قال على وجه التوبيخ لهم: [أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ] من عذابنا و دفع ما ينزل بهم، و تمّ الكلام ثمّ وصف آلهتهم بالعجز و الضعف فقال: [لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ] و هذا خبر مبتدء محذوف و التقدير: هذه الآلهة لا يستطيعون نصر أنفسهم [وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ] أي و لا الكفّار يجأرون من عذابنا قال ابن قتيبة: أي لا يجرهم أحد من عذابنا يقول: صحبك اللّه أي أجارك و حفظك. و قيل: معناه: لا يصحبون من اللّه بخير.

قوله: [بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ] ثمّ بيّن تفضّله عليهم بأنّا مع ذلك ما عذّبناهم و ما عجّلنا العقوبة و متّعناهم و آباءهم في الدنيا بنعمها إلى أن طالت أعمارهم فغرّهم طول العمر فنسوا و جهلوا مواقع نعمنا و اغترّوا بذلك.

[أَ فَلا] يرى هؤلاء المشركين باللّه آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها بأخذ الواحد بعد الواحد و بفتح البلاد و القرى حول مكّة و نزيدها في ملك محمّد و نميت رؤساء المشركين الممتّعين بالدنيا. و قيل: بموت العلماء نقصها و تخريبها، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: نقصانها ذهاب عالمها. و قيل: معناه: ننقصها من أطرافها بظهور النبيّ على من قاتله أرضا فأرضا قوما فقوما فيأخذ أراضيهم أو ننقصها من جانب المشركين و نزيدها في جانب المسلمين أ فهؤلاء الغالبون أم نحن الغالبون؟

[قُلْ] لهم يا محمّد: [إِنَّما أُنْذِرُكُمْ] من عذاب اللّه و اخوّفكم بما أوحى اللّه إليّ، و شبّههم اللّه بالصمّ الّذين لا يسمعون النداء إذا نودوا لأنّهم لم ينتفعوا بالسمع أو أنّهم يشتغلون عن سماع القرآن فهم بمنزلة الأصمّ [إِذا ما يُنْذَرُونَ].

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 46 الى 50]

وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

ص: 163

المعنى: إنّ الكفّار المتصاممين عن آيات اللّه على هذه الصفة من الجرأة و الجسارة يؤول أمرهم إلى أن إذا شاهدوا اليسير ممّا انذروا به و أصابهم بعض قليل في نهاية القلّة ممّا يستحقّونه من العقوبة فيعترفون و يسمعون حينئذ و يقولون: الويل لنا [إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ] أنفسنا و أصل النفح من الربح النسيئة كأنّه سبحانه يقول: و إن مسّتهم رائحة من العذاب لتنادوا بالويل. قال صاحب الكشّاف: في المسّ و النفح ثلاث مبالغات لفظ المسّ و ما في النفح من معنى القلّة و النزارة و لفظ المرّة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلّا عدلا و هذا معنى [وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ] و صف اللّه الموازين بالقسط لأنّ الميزان قد يكون غير مستقيم و أكّد ذلك بقوله: [فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً] و القسط و إن كان صفة للموازين و موحّد فهو كقولك للقوم: أنتم عدل. و قال الزجّاج: أي موازين ذوات العدل و القسط.

و قوله: «لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» أي لأهل يوم القيامة. قيل: المراد بالموازين العدل بينهم في الأعمال فمن أحاطت حسناته بسيّئاته ثقلت موازينه يعني أنّ حسناته تذهب بسيّئاته و من أحاطت سيّئاته بحسناته فقد خفّت موازينه أي إنّ سيّئاته تذهب بحسناته، حكاه ابن جرير هكذا عن ابن عبّاس، و لكن اتّفق الجمهور و الأئمّة على أنّه سبحانه يضع الموازين الحقيقيّة فتوزن بها الأعمال و هو ميزان له كفّتان و لسان و هو بيد جبرئيل.

و روي أنّ داود عليه السّلام سأل ربّه أن يريه الميزان فلمّا رآه غشي عليه فلمّا أفاق قال: يا إلهي من الّذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال: يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة.

قال الرازيّ: إنّ حمل الميزان على مجرّد العدل مجاز و صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز غير جائز لا سيّما قد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في هذا الباب.

فلو قيل: هذه الآية يناقضها قوله: «فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (1).

فالجواب أنّه لا يكرمهم و لا يعظّمهم. و في الكافي عن السجّاد عليه السّلام في كلامه في وعظه من جملة له: اعلموا عباد اللّه أنّ أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين و لا ينشر لهم

ص: 164


1- الكهف: 106.

الدواوين و إنّما يحشرون إلى جهنّم زمرا و إنّما ينصب الموازين و ينشر الدواوين لأهل الإسلام فاتّقوا عباد اللّه.

فإن قيل: أهل القيامة إمّا أن يكونوا عالمين بكونه عادلا غير ظالم أو لا يعلمون فإن علموا ذلك كان مجرّد حكمه كافيا في معرفة أنّ الغالب هو الحسنات أو السيّئات فلا يكون في وضع الميزان فائدة و إن لم يعلموا لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف فما الفائدة؟

الجواب: لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون و فيه ظهور حال الوليّ من العدوّ و المطيع من العاصي في مجمع الخلائق فيكون لأحد القبيلتين في ذلك أعظم السرور و للآخر أعظم الغمّ.

قوله: [وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ] أي إنّه لا ينقص من إحسان محسن و لا يزاد في إساءة مسي ء، و كان تامّة، و إنّما انّث ضمير المثقال لإضافته إلى الحبّة كقولهم: ذهبت بعض أصابعه.

فإن قيل: الحبّة أعظم من الخردلة، فالوجه فيه أن إذا فرضت الخردلة مثلا دخنة فالحبّة دانق من تلك الدخنة.

[وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ] و لا يشتبه علينا شي ء في الحساب، قيل: رؤي في الرؤيا بعض الأخيار من الأموات فسئل عنه: ما فعل بك؟ قال:

حاسبونا فدقّقواثمّ منّوا فأعتقوا

قوله تعالى: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ] و أعطيناهما التوراة لأنّها تفرق بين الحقّ و الباطل. و قيل: المراد: الّذي فرّق به بين حقّ موسى و باطل فرعون.

و النظم في الآية أنّه كما استهزئ بك كذلك استهزئ بمن قبلك و كما أنزلنا عليك القرآن كذلك أنزلنا على موسى الفرقان و ليس هذا الأمر ببدع فلم ينكرون قومك؟

[وَ ضِياءً] أي آتيناهما بسبب التوراة نورا و هدى استضاءوا بها حتّى اهتدى و اهتدوا في دينهم [وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ] يذكرونه و يعملون بما فيه و يتّعظون بمواعظه.

ص: 165

ثمّ وصف المتّقين فقال: [الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ] في حال الخلوة و الغيبة عن الناس في سرائرهم من غير رياء [وَ هُمْ] من القيامة و أهوالها خائفون.

[وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ] أي القرآن ذكر مبارك ثابت نافع دائم نفعه إلى يوم القيامة و سمّي مباركا لوفور فوائده من المواعظ الداعية إلى مكارم الأخلاق و الأفعال [أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ] بم تنكرونه و تجحدونه؟

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 51 الى 60]

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)

قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60)

المعنى: ثمّ عطف على قصّة موسى فقال: [وَ لَقَدْ] أعطينا [إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ] يعني الحجج الّتي توصّل بها إلى معرفة اللّه أو المراد من الرشد النبوّة [مِنْ قَبْلُ] موسى و قبل محمّد و قيل: من قبل بلوغه [وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ] بأنّه أهل لإيتاء الرشد و صالح للنبوّة.

[إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ] حين رآهم يعبدون الأصنام: [ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ] و العامل في «إذ» آتينا. و التمثال اسم للشي ء المصنوع شبها بخلق من خلق اللّه و أصله من مثّلث الشي ء بالشي ء. قيل: إنّهم جعلوها أمثلة لعلمائهم الّذين انقرضوا. و قيل: جعلوها شبها للأجسام العلويّة. و المعنى: ما هذه الصور الّتي أنتم مقيمون على عبادتها.

روى العيّاشيّ بإسناده عن الأصبغ بن نباتة أنّ عليّا عليه السّلام مرّ بقوم يلعبون الشطرنج فقال: ما هذه التماثيل الّتي أنتم لها عاكفون؟ لقد عصيتم اللّه و رسوله.

ص: 166

[قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ] فاقتدينا بهم فاعترفوا بالتقليد إذ لم يجدوا حجّة لعبادتهم إيّاها سوى اتّباع الآباء.

فأجابهم إبراهيم بقوله: [لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] و بيّن أنّ الباطل لا يصير حقّا بسبب كثرة المتمسّكين به.

فعند ذلك [قالُوا] له: [أَ جِئْتَنا بِالْحَقِ] أي هذا الكلام الّذي تقول جادّ و تقول على سبيل الحقيقة أم تمازحنا و تلعب بنا؟ و إنّما قالوا ذلك لاستبعاد إنكار عبادة الأصنام كأنّهم يقولون: هل يمكن أن لا يعبد الأصنام؟

فعند ذلك عدل إبراهيم عليه السّلام إلى بيان التوحيد: [قالَ بَلْ] إلهكم الّذي يكون تعبدوه [رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ] و هو الّذي يحسن أن يعبد لأنّه الّذي يضرّ و ينفع. و الضمير في «خلقهنّ» راجع إلى السماوات أو إلى الأصنام.

و إلى الأصنام أدخل في طريق الاحتجاج.

قوله: [وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ] و المقصود المبالغة في التأكيد و التحقيق كقول الرجل إذا بالغ في إثبات أمر يقول: أشهد أنّه كذلك و أنا لست مثلكم و شهدت هذا الأمر أو أنتم جاهلون و أنا شاهد و عالم به.

قوله: [تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ] تتعطّلوا ذاهبين، و لمّا علم إبراهيم بأنّ الحجّة القوليّة لا تنفعهم عدل إلى الطريقة الفعليّة فقال: لأكيدنّ أي لأدبّرنّ في بابهم تدبيرا خفيّا يسؤكم، و الكيد الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به و هم كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثمّ عادوا إلى منازلهم فلمّا كان هذا الوقت قال:

آزر لإبراهيم: لو خرجت معنا، فخرج معهم فلمّا كان ببعض الطريق ألقى نفسه و قال:

إنّي سقيم أشتكي رجلي، فلمّا مضوا و بقي ضعفاء الناس نادى و قال: تاللّه لأكيدنّ أصنامكم.

قال الكلبيّ: كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم و كانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلّا مريضا، فلمّا همّ إبراهيم بالّذي همّ من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء و قال لأصحابه: أراني أشتكي غدا فذلك قوله: «فَنَظَرَ نَظْرَةً

ص: 167

فِي النُّجُومِ* فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» (1) و أصبح من الغد معصوبا رأسه فخرج القوم لعيدهم و لم يتخلّف غيره أحد فقال: أما و اللّه لأكيدنّ أصنامكم! فسمع رجل منهم هذا القول منه فحفظه عليه. ثمّ إنّ ذلك الرجل أخبر غيره فانتشر الخبر فلذلك قالوا: «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ».

و بالجملة إنّ إبراهيم دخل بيت الأصنام وجد سبعين صنما مصفّفة و ثمّ صنم عظيم مستقبل الباب و كان من ذهب و كان في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسّرها كلّها بالفأس حتّى لم يبق إلّا الكبير و علّق الفأس في عنقه.

[فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً] قطعا قطعا و حطاما [إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ] فتركه على حاله و خرج إبراهيم من بيت الأصنام [لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ] إلى إبراهيم فيسألونه عن حال الأصنام فيحتجّ عليهم بعجز الأصنام فيعلمون جهلهم باتّخاذ هم الأصنام آلهة و أنّها عجزة و لا تقدر أن تدفع عن أنفسها الضرّ، أو الضمير في إليه راجع إلى كبير الأصنام و يقولون:

ما لهؤلاء الأصنام مكسورة و مالك صحيحا و الفأس على عاتقك؟

[قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا] و في الكلام حذف و تقديره: فلمّا رجع قومه من عيدهم فوجدوا أصنامهم مكسورة قالوا: من فعل هذا الصنع بآلهتنا؟ و من فعله [كان من الظالمين] و فعل ما لم يكن له أن يفعل.

[قالُوا سَمِعْنا فَتًى يذكر] الآلهة بسوء و يعيب عليها [يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ] لأنّهم كانوا سامعين من إبراهيم عيب الآلهة و هو كان القائل: لأكيدنّ أصنامكم.

فإن قيل: إمّا أنّ القوم عقلاء أو ما كانوا عقلاء فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أنّ الخشبة المنحوتة في النهار أو من قبل بسنة أو أكثر غير قابلة للعبادة و أنّها لا تضرّ و لا تنفع. و إن قلنا: أنّهم ما كانوا عقلاء فحينئذ لا يقتضي بعثة الرسل إليهم.

فالجواب: أنّهم كانوا عقلاء و عالمين بأنّها جمادات و لكن كانوا يعتقدون فيها أنّها تماثيل الكواكب و أنّها طلسمات موضوعة بحيث إنّ كلّ من عبدها انتفع بها و كلّ من استخفّ بها ناله منها ضرر شديد، فكسّرها إبراهيم حتّى يندفع هذا الظنّ عنهم

ص: 168


1- الصافات: 89.

لأنّه أصابها بسوء و ما ناله مكروه. و بالجملة فغلب على عقلهم أنّه عليه السّلام هو الفاعل بالأصنام هذا الكسر.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 61 الى 70]

قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)

قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

اعلم أنّ القوم لمّا شاهدوا كسر الأصنام و قيل: إنّ فاعله إبراهيم [قالُوا] فيما بينهم: [فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ] أي بمرأى منهم، و معنى الاستعلاء في «على» أي ثبت إتيانه في الأعين ثبات الراكب على المركوب [لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ] أي يشهدون الناس بأنّه فعل هذا الفعل و أيضا يشهدون عذابه و ينظرون ما يصنع به فيكون ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على مثل فعله.

قوله: [أَ أَنْتَ] و في الكلام حذف و تقديره: فأتوا به و قالوا: أ أنت [فَعَلْتَ هذا] طلبوا منه الاعتراف بذلك ليقدموا على إيذائه. [ف قالَ] إبراهيم عليه السّلام: [بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ] مشيرا إلى الصنم الكبير علّق على رقبته الفأس، سلك عليه السّلام مسلكا يؤدّيه إلى مقصده و هو إلزامهم الحجّة على ألطف وجه يحملهم على التأمّل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوفّي من الكذب.

و قد أسند إليه بطريق التسبيب حيث كان غيظه عليه السّلام على الصنم الكبير أعظم و أكثر لشدّة تعظيمهم للكبير أكثر فأسند الفعل إليه باعتبار أنّه الحامل و الداعي إلى الكسر، و الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. و قيل: إنّ في الكلام

ص: 169

تقديم و تأخير: في العيون عن الصادق المعنى إن كانوا ينطقون فكبيرهم فعل و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا فما نطقوا و ما كذب إبراهيم عليه السّلام. و قيل: الضمير في «فعله» كناية عن غير مذكور أي فعله من فعله و قوله: «كَبِيرُهُمْ هذا» ابتداء الكلام و الكسائيّ كان يقف عند قوله: «بَلْ فَعَلَهُ» ثمّ يبتدئ: كبيرهم هذا.

قال الرازيّ: أمّا ما روي من بعض عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلّها في ذات اللّه: قوله «إِنِّي سَقِيمٌ» (1) و قوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» (2) و قوله لسارة: «إنّها اختي». و قرّروا هذا القول من جهة العقل و قالوا:

إنّ النبيّ مثلا إذا هرب من ظالم و اختفى في دار إنسان و جاء الظالم و سأل عن حاله فإنّه يجب الكذب فيه و إذا كان كذلك فأيّ بعد في أن يأذن اللّه في ذلك لمصلحة.

و اعلم أنّ هذا القول مرغوب عنه فلأن يضاف الكذب إلى الرواة أولى من يضاف إلى الأنبياء و الدليل القاطع عليه أنّه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة و يأذن اللّه فيه فيجوز هذا الاحتمال في كلّ ما أخبروا عنه و ذلك يبطل الوثوق بالشرائع و تتطرّق التهمة إلى كلّها.

و لم لا يحمل قوله عليه السّلام: «إِنِّي سَقِيمٌ» على أن كان به سقم قليل، و أمّا قوله «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» فقد قيل الجواب عنه، و أمّا قوله عليه السّلام: لسارة «إنّها اختي» فالمراد أنّها أخته في الدين فمتى ما أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء، فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلّا زنديق، انتهى كلام الرازيّ.

قوله: [فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ] فلمّا نبّههم إبراهيم بما أورده عليهم على قبح طريقتهم تنبّهوا و علموا أنّهم على غرور و جهل في ذلك، أو المعنى: رجعوا إلى أنفسهم فلاموها [فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ] لإبراهيم مع أنّ الفأس معلّق بين يدي الصنم الكبير، أو المعنى: أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتم من إبراهيم هذا السؤال حتّى أخذ يستهزئ بكم في الجواب.

ص: 170


1- الصافات: 89.
2- الأنبياء: 63.

[ثُمَّ نُكِسُوا] من إفحامهم [عَلى رُؤُسِهِمْ] و علموا أنّها لا تنطق فاعترفوا بما هو حجّة عليهم لا لهم [فقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ] يا إبراهيم أنّ هؤلاء الأصنام [لا ينطقون] فكيف نسألهم؟

فأجابهم إبراهيم: أ فتوجّهون عبادتكم إلى الأصنام الّتي لا ينفعكم شيئا إن عبدتموها و لا يضرّكم إن تركتموها لأنّها لو قدرت على نفعكم و ضرّكم لدفعت عن أنفسها و من لم يقدر على النفع و الضرّ كيف استحقّ العبادة؟

ثمّ قال عليه السّلام مهجنا لأفعالهم مستقذرا لأصنامهم: [أُفٍّ لَكُمْ] أي تبّا لكم و لأفعالكم و «افّ» صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجّر و قد انضجر إبراهيم من ثباتهم على هذا الأمر الباطل بعد وضوح الحقّ [أَ فَلا] تتدبّرون و [تَعْقِلُونَ].

[قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ] و ليس في القرآن من القائل لذلك؟ و المشهور أنّه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح. قال مجاهد:

سمعت ابن عمر يقول: إنّما أشار بتحريق إبراهيم عليه السّلام رجل من الكرد من أعراب فارس.

و قيل: إنّ الّذي أشار إلى هذا الأمر رجل اسمه هبرين فخسف اللّه به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

و لمّا اجتمعوا لإحراق إبراهيم عليه السّلام حبسوه في بيت و بنوا بنيانا كالحظيرة و ذلك قوله: «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ» (1) ثمّ جمعوا له الحطب الكثير حتّى أنّ المرأة لو مرضت قالت: لو أنّ اللّه عافاني لأجمعنّ حطبا لإبراهيم، و نقلوا له الحطب على الدوابّ أربعين يوما و أنّ الرجل منهم ليمرض فيوصي بكذا و كذا من ماله فيشتري له حطب و حتّى أنّ المرأة لتغزل فيشتري به حطبا.

فلمّا أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار لم يدروا كيف يلقونه فجاء إبليس فعلّمهم صنعة المنجنيق فوضعوه فيها ثمّ رموه بعد أن رفعوه عن رأس البنيان و قيّدوه و وضعوه في المنجنيق مغلولا فصاحت السماء و الأرض و من فيها من الملائكة أجمعون إلّا الثقلين صيحة واحدة: أي ربّ! ليس في أرضك من يعبدك غير إبراهيم و إنّه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته؛ فقال سبحانه: إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه و إن لم يدع غيري فخلّوا

ص: 171


1- الصافات: 97.

بيني و بينه فأنا أعلم به و أنا وليّه، فلمّا أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح فقال:

يا إبراهيم إن شئت طيّرت النار في الهواء فقال إبراهيم: لا حاجة بي إليكم، ثمّ رفع رأسه إلى السماء و قال: اللّهمّ أنت الواحد في السماء و أنا الواحد في الأرض ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبنا اللّه و نعم الوكيل. و قيل: إنّه حين القي في النار قال:

لا إله إلّا أنت سبحانك ربّ العالمين لك الحمد و لك الملك لا شريك لك، ثمّ رموا به النار فأتاه جبرئيل و قال: يا إبراهيم هل لك حاجة؟ قال: أمّا إليك فلا. قال: فاسأل ربّك قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.

فقال اللّه: [يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ] و لو لم يتبع سلاما عقيب قوله:

«بردا» لمات إبراهيم من بردها و لم يبق يومئذ في الدنيا نارا إلّا طفئت؛ قال السدّيّ:

فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم و أقعدوه في الأرض فإذا عين ماء عذب و ورد أحمر و نرجس و لم تحرق النار إلّا وثاقه.

و روى الواحديّ بالإسناد مرفوعا إلى أنس بن مالك قال: لمّا القي إبراهيم عليه السّلام في النار نزل عليه جبرئيل بقميص من الجنّة و طنفسة من الجنّة فألبسه القميص و أقعده على الطنفسة و قعد معه يحدّثه. و قيل: القي إبراهيم عليه السّلام في النار و هو ابن ستّة عشر سنة.

و قيل: إنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا القي في النار كان فيها إمّا أربعين يوما أو خمسين يوما و قال عليه السّلام: ما كنت أيّاما أطيب عيشا منّي إذ كنت فيها.

و قال ابن إسحاق: بعث اللّه ملك الظلّ فقعده في صورة إبراهيم عليه السّلام إلى جنب إبراهيم عليه السّلام يؤنسه، و أتاه جبرئيل أيضا بقميص من حرير الجنّة و قال: يا إبراهيم إنّ ربّك يقول: أما علمت أنّ النار لا تضرّ أحبّائي. ثمّ نظر نمروذ من صرح له أشرف على إبراهيم فرآه جالسا في روضة و رأى الملك قاعدا إلى جنبه و ما حوله نار تحرق الحطب فناداه نمروذ: يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: قم فاخرج، فقام يمشي حتّى خرج منها فلمّا خرج قال له نمروذ: من الرجل الّذي رأيته معك بصورتك؟ قال: ذاك ملك الظلّ أرسلني ربّي ليؤنسني فيها فقال نمروذ: إنّي مقرّب إلى ربّك قربانا لما رأيت من عزّته و قدرته فيما صنع بك فإنّي ذابح له أربعة آلاف

ص: 172

بقرة فقال إبراهيم عليه السّلام: لا يقبل اللّه منك ما دمت على دينك فقال نمروذ: لا أستطيع ترك ملكي و لكن سوف أذبحها له، ثمّ ذبحها له و كفّ عن إبراهيم عليه السّلام.

قوله: [وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ] أي و أراد الكفّار بإبراهيم شرّا و تدبيرا في إهلاكه فجعلنا هم الأخسرين؛ قال ابن عبّاس: هو أن سلّط اللّه على نمروذ و خيله البعوض حتّى أخذت لحومهم و شربت دماء هم و وقعت واحدة في دماغ نمروذ حتّى أهلكته.

و المعنى: أرادوا أن يكيدوا إبراهيم فانقلب عليهم و أتمّ النعمة على إبراهيم بأن نجّاه و نجا ابن أخيه من امّه و هو لوط بن هاران إلى الأرض الّتي بارك فيها للعالمين و إنّ هذه الواقعة كانت على إبراهيم ببابل و قيل: الأرض المباركة مكّة. و قيل: أرض الشام لقوله تعالى: «إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ» (1) و السبب في بركتها أمّا في الدين فلأنّ أكثر الأنبياء بعثوا منها و انتشرت شرائعهم فيها و أمّا في الدنيا فلأنّ اللّه بارك فيها بكثرة الماء و الشجر و الثمر و طيب العيش. و قيل: ما من ماء عذب إلّا و ينبع أصله من تحت الصخرة الّتي ببيت المقدس.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 71 الى 75]

وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

المعنى: شرح سبحانه نعمه على إبراهيم فقال:

[وَ نَجَّيْناهُ] من نمروذ و كيده و رفعناه [وَ لُوطاً] عن الهلكة و هو ابن أخي إبراهيم [إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا حوله] و قد ذكرنا الاختلاف في تلك الأرض قبل هذا.

[وَ وَهَبْنا] لإبراهيم إسحاق لمّا سأل اللّه ولدا [و] أجابه أعطاه [يَعْقُوبَ نافِلَةً]

ص: 173


1- الإسراء: 1.

و عطيّة خاصّة، و يسمّى الرجل الكثير العطاء نوفلا كما يقال للصلاة الزائدة على الواجب نافلة، و على هذا يعقوب كان نافلة خاصّة.

[وَ كُلًّا] من إبراهيم و إسحاق و يعقوب [جَعَلْنا صالِحِينَ] أنبياء مرسلين عاملين بطاعة اللّه [وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً] يدعون الناس إلى دين اللّه [بِأَمْرِنا] و المراد بهذه الإمامة النبوّة [وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ] أي شرائع النبوّة و أعمال الخير و إقامة الصلاة، و حذف التاء من «إقامة» لأنّ الإضافة عوض عنه و قيل: الإقام و الإقامة مصدر. و لمّا بيّن أنّ الصلاح الّذي هو العصمة أوّل مراتب النبوّة دلّ ذلك على أنّ الأنبياء معصومون، و إعطاء [الزَّكاةِ وَ كانُوا] مخلصين [لَنا] في العبادة.

[وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً] بعد بيان نعمه على إبراهيم أتبعه بذكر نعمه على لوط عليه السّلام و الواو عطف على قوله: «آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ» أي و آتينا لوط الحكمة و الّتي يجب فعله أو النبوّة. و الثاني: العلم، و إدخال التنوين على الحكم و العلم للدلالة على علوّ شأن ذلك الحكم و ذلك العلم. و الثالث: [وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ] أي أهلها.

[إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ] خارجين عن الدين و الطاعة و القرية سدوم، و إنّهم كانوا يأتون الذكران في أدبارهم و يتظارطون في أنديتهم و قد حكى اللّه: «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (1) [وَ أَدْخَلْناهُ فِي] نعمتنا و مننا بسبب أنّه من الّذين أصلح أفعاله و علم ما هو الحسن و ما هو القبيح.

قوله: [سورة الأنبياء (21): الآيات 76 الى 80]

وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ (79) وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)

المعنى: عطف سبحانه قصّة نوح و داود على قصّة إبراهيم و لوط:

ص: 174


1- العنكبوت: 29، و «نادى» المجلس العام و جمعه «اندية».

[وَ نُوحاً] أي و أعطينا نوحا [إِذْ] دعا ربّه فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (1) و قال: «ربّ إنّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» (2) و كان نوح من قبل إبراهيم و المراد من هذا الدعاء الدعاء على قومه لأنّه دعا مرّة على الإجمال فقال: إنّي مغلوب فانتصر، و مرّة على التفصيل فقال: ربّ لا تذر على الأرض.

و الكرب العظيم الغمّ الّذي يصل حرّه إلي القلب و هو ما كان يلقاه من أذى قومه طول تلك المدّة و تحمّل الاستخفاف من السقاط، أو الطوفان، و أكثر المحقّقين على أنّ ذلك النداء كان بأمر اللّه، و قال آخرون: لم يكن بالأمر و الإذن، و قال أبو أمامة:

لم يتحسّر أحد من خلق اللّه كحسرة آدم و نوح فحسرة آدم على قبول وسوسة إبليس و حسرة نوح على دعائه على قومه فأوحى اللّه إليه أن لا تتحسّر فإنّ دعوتك وافقت قدري.

أمّا قوله: [فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ] فالمراد من الأهل هاهنا أهل دينه، و قيل في تفسير الكرب: الطوفان و العذاب، و قيل: تكذيب و أذى قومه إيّاه.

قوله: [وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] و «من» هنا بمعنى «على» أي نصرناه على القوم أو المعنى: منعناه منهم بالنصرة، قال الزمخشريّ: إنّ «نصر» في الآية مطاوعة «انتصر» و سمعت هذليّا يدعو على سارق: اللّهم انصرهم منه، أي أجعلهم منتصرين منه.

قوله: [إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ] لأجل ردّهم و تكذيبهم [فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ] صغارهم و كبارهم و ذكورهم و إناثهم.

قوله تعالى: [وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ] تقدير الآية: و اذكر داود و سليمان يعني أعطيناهما حكما و علما أيضا [إِذْ] حين [يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ] و الزرع [إِذْ] في الوقت الّذي [نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ] و تفرّقت الغنم فيه ليلا. و قيل: المراد من الحرث الكرم.

و أصل القصّة أنّه دخل رجلان على داود عليه السّلام أحدهما صاحب حرث و الآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث: إنّ غنم هذا دخلت حرثي و ما أبقت منه شيئا فقال داود عليه السّلام: اذهب فإنّ الغنم لك، فخرجا فمرّا على سليمان عليه السّلام فقال سليمان عليه السّلام:

ص: 175


1- نوح: 28.
2- القمر: 10.

كيف قضى بينكما؟ فأخبراه فقال: لو كنت قاضيا لقضيت بغير هذا فأخبر داود عليه السّلام بذلك فدعاه و قال: كيف كنت تقضي بينهما؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من الدرّ و النسل و الوبر حتّى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها و قبض صاحب الحرث حرثه.

و قال ابن مسعود و شريح و مقاتل: إنّ راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم فدخلت الأغنام الكرم و هو لا يشعر فأكلت القضبان و أفسدت الكرم فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه السّلام فقضى له بالغنم لأنّه لم يكن بين ثمن الكرم و ثمن الغنم تفاوت فخرجوا و مرّوا بسليمان عليه السّلام فقال لهم: كيف قضى داود بينكما؟ فأخبراه به فقال: غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر داود عليه السّلام بذلك فدعا سليمان عليه السّلام و قال له:

بحقّ الأبوّة و البنوّة إلّا أخبرتني بالأرفق فقال: تسلم الغنم إلى صاحب الكرم حتّى يرتفق بمنافعها و يعمل الراعي في إصلاح الكرم حتّى يصير كما كان ثمّ تردّ الغنم إلى صاحبها، فقال داود عليه السّلام: إنّما القضاء ما قضيت، و حكم بذلك.

قال ابن عبّاس: حكم سليمان بذلك و هو ابن إحدى عشرة سنة.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: إنّه كان أوحى اللّه إلى النبيّين قبل داود عليه السّلام إلى أن بعث اللّه داود عليه السّلام: «أيّ غنم نفشت في الحرث فلصاحب الحرث رقاب الغنم» و لا يكون النفش إلّا بالليل فإنّ على صاحب الزرع أن يحفظ زرعه بالنهار و على صاحب الغنم حفظ الغنم بالليل، فحكم داود عليه السّلام بما حكم به الأنبياء من قبله فأوحى اللّه إلى سليمان عليه السّلام: «أيّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلّا ما خرج من بطونها» و كذلك جرت السنّة بعد سليمان و هو قول اللّه: «وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً» فحكم كلّ واحد منهما بحكم اللّه.

و عنه عليه السّلام: أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام أن اتّخذ وصيّا من أهلك فإنّه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبيّا إلّا و له وصيّ من أهله و كان لداود عليه السّلام عدّة أولاد و فيهم غلام كانت امّه عند داود عليه السّلام و كان لها محبّا فدخل داود عليه السّلام عليها حتّى أتاه الوحي فقال لها: إنّ اللّه أوحى إليّ يأمرني أن أتّخذ وصيّا من أهلي فقالت له امرأته: فليكن

ص: 176

ابني، قال داود عليه السّلام: ذاك أريد، و كان السابق في علم اللّه المحتوم أنّه يكون سليمان عليه السّلام فأوحى اللّه إلى داود عليه السّلام: أن لا تعجل دون أن يأتيك أمري، فلم يلبث داود عليه السّلام أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم و الكرم فأوحى اللّه إلى داود عليه السّلام: أن اجمع ولدك فمن قضى بهذه القضيّة فأصاب فهو وصيّك من بعدك، فجمع داود عليه السّلام فلمّا أن قصّ الخصمان قال سليمان عليه السّلام: يا صاحب الكرم متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟ قال: دخلته ليلا قال: قد قضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك و أصوافها في عامك هذا، ثمّ قال له داود عليه السّلام: فكيف لم تقض الغنم برقاب و قد قوّم علماء بني إسرائيل فكان ثمن الكرم ثمن الغنم؟ فقال سليمان عليه السّلام: إنّ الكرم لم يجتثث من أصله و إنّما أكل حمله و هو عائد في قابل.

فأوحى اللّه إلى داود عليه السّلام أنّ القضاء ما قضى سليمان به يا داود أردت أمرا و أردنا أمرا غيره فدخل داود عليه السّلام على امرأته فقال: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا غيره و لم يكن إلّا ما أراد اللّه فقد رضينا بأمر اللّه و سلّمنا. و كذلك الأوصياء ليس لهم أن يتعهّدوا بهذا الأمر إلّا من عند اللّه. و إنّما أراد اللّه أن يعرّف بني إسرائيل أنّ الوصيّ سليمان عليه السّلام بعده.

[وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ] أي بحكمهم عالمين لم يغب عنّا منه شي ء. و إنّما جمع في موضع التثنية لإضافة الحكم إلى الحاكم و إلى المحكوم لهم، أو لأنّ الجمع يطلق على الاثنين مثل: «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ» (1) و هو يريد أخوين.

و قد أوحى اللّه إلى سليمان هذا الحكم و نسخ به حكم داود عليه السّلام و كان حكم داود عليه السّلام قبل ذلك أيضا بوحي من اللّه لا اجتهاد لأنّه لا يجوز للأنبياء أن يحكموا بالرأي و الاجتهاد و هذا هو الصحيح المعوّل عندنا، و قال غيرنا كالبلخيّ و عليّ بن عيسى: يجوز أن يكون ذلك عن اجتهاد لأنّ رأي النبيّ أفضل من غيره فإذا جاز التعبّد بالتزام حكم غير النبيّ من طريق الاجتهاد فكيف يمنع من حكم النبيّ على هذا الوجه؟ و هذا الكلام غير تامّ لأنّ النبيّ إذا كان يوحى إليه و له طريق إلى العلم بالحكم فلا يجوز أن يحكم بالظنّ و الاجتهاد و القياس و قد قال اللّه: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ

ص: 177


1- النساء: 10.

الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» (1) و كذلك: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» (2) و لو جاز الاجتهاد لما كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقف في مسألة الظهار و اللعان إلى ورود الوحي.

و بالجملة [فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ] أي علّمناه الحكومة في ذلك الأمر [وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً] أي و كلّ واحد من داود و سليمان عليهما السّلام أعطيناه الحكمة و النبوّة و علم الدين.

قوله [وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ] قيل: معناه سيّرنا الجبال مع داود حيث سار فعبّر عن ذلك بالتسبيح. في الإكمال عن الصادق أنّ داود عليه السّلام خرج يقرء الزبور، و كان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلّا جاوبت.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين: إنّ يهوديّا قال له: هذا داود بكى على خطيئته حتّى سارت الجبال معه لخوفه فقال عليه السّلام: إنّه كان كذلك، الحديث.

و في المناقب عن السجّاد عليه السّلام أنّ داود عليه السّلام صلّى ركعتين فسبّح في سجوده فلم يبق شجر و لا مدر إلّا سبّحوا معه.

و قيل: إنّ الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح و كذلك الطير تسبّح معه بالغداة و العشيّ معجزة له.

[وَ كُنَّا فاعِلِينَ] أي قادرين على فعل هذه الأشياء دلالة على نبوّته. و قال بعض أصحاب المعاني: إنّه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال بمثابة قوله: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (3) و تخصيص داود عليه السّلام بذلك إنّما كان بسبب أنّه عليه السّلام كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقينا و تعظيما. و هذا القول فيه تكلّف و لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره بل إنّها تسبّح معه تسبيحا ظاهرا و تجاوبه و تسير معه بقدرة من اللّه و ليست البنية شرطا في حصول الأمر مع القدرة و الإرادة من اللّه سبحانه.

الإنعام الثالث [وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ] اللبوس و اللباس واحد قال الشاعر:

ص: 178


1- النجم: 43.
2- يونس: 15.
3- الإسراء: 44.

البس لكلّ حالة لبوسهاإمّا نعيمها و إمّا بوسها

أي علّمناه كيف يصنع الدرع، و هو أوّل من صنع الدرع و إنّما كانت الدروع صفائح، جعل اللّه الحديد في يده كالعجين و هو أوّل من بردها (1) و حلقها فجمعت الخفّة و التحصين [لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ] أي ليحرزكم و يمنعكم من وقع السلاح فيكم من السيف و السنان و غيره.

و لمّا تعلّم الناس منه فتوارثوا منه فعمّت النعمة كلّ الحاربين يلزمهم الشكر من اللّه فقال سبحانه: [فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ] و هذا تقرير و تأديب للخلق على الشكر بمقابلة كلّ نعمة.

روي في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام: إنّك نعم العبد إلّا أنّك تأكل من بيت المال و لا تعمل بيدك شيئا قال:

فبكى داود عليه السّلام أربعين صباحا فأوحى اللّه إلى الحديد أن لن لعبدي داود فلان، فكان يعمل في كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم و استغنى عن بيت المال. و قيل: إنّ سبب إلانة الحديد لداود عليه السّلام أنّه كان ملكا و نبيّا و كان يطوف في ولايته متنكّرا يتعرّف أعمال عمّاله و متصرّفيه فاستقبله جبرئيل ذات يوم بصورة آدميّ فسلّم عليه فردّ عليه السّلام فقال:

ما سيرة داود؟ فقال جبرئيل: نعمت السيرة لو لا خصلة فيه، قال: و ما هي؟ قال: إنّه يأكل من بيت مال المسلمين فتنكّره و أثنى عليه و قال: لقد أقسم داود إنّه لا يأكل من بيت مال المسلمين، فعلم اللّه صدقه فألان له الحديد كما قال: «وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» (2).

قوله: [سورة الأنبياء (21): الآيات 81 الى 86]

وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ (81) وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)

وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)

ص: 179


1- برد الحديد: أخذ منه بالبرد.
2- سبأ: 10.

المعنى: عطف على «سخّرنا» أي سخّرنا لداود الجبال [وَ] و سخّرنا [لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً] إن أرادها عاصفة و إن أرادها ليّنة رخاء حيث أصاب أي الريح مسخّرة له في الحالتين إن أراد السرعة في الحركة تهبّ عاصفة و إن أراد أن يتحرّك بطيئا تهبّ رخيئة طيّبة كالنسيم فإذا مرّت بكرسيّه أبعدت به في مدّة يسرة مسافة كثيرة كما قال تعالى: «غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ» (1) أي يقطع الريح بكرسيّ سليمان عليه السّلام في الغداة مسيرة شهر و كذلك في العشاء مسافة شهر و هبوبها على حسب إرادته معجزة إلى معجزة.

و أمّا قوله: [إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ] أي إلى المضيّ إلى البيت المقدّس قال الكلبيّ: تسير الريح به من إصطخر فارس إلى الشام و سليمان عليه السّلام على كرسيّه قاعد و الريح تسير به و كان عليه السّلام يسكن بعلبك و يبنى له بيت المقدس و يحتاج الخروج إليها و إلى غيرها و كان سليمان إذا أراد أن يخرج إلى مجلسه يتعكّف الطير عليه و يقوم له الجنّ و الإنس حتّى يجلس على سريره و تجتمع معه جنوده ثمّ تحمله الريح إلى حيث أراد. [وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ] و أعطيناه ما أعطيناه لما علمناه من المصلحة.

قوله: [وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ] أي و سخّرنا له من الشياطين من يغوصون له في البحر فيخرجون الجواهر و اللآلي. و الغوص النزول إلى ما تحت الماء.

[وَ يَعْمَلُونَ له عَمَلًا] غير [ذلِكَ] و سوى ذلك من الأعمال الشاقّة و بناء المدن و الاختراعات العجيبة من الأبنية كما قال سبحانه «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ» (2) أي أبنية العبادة و الغرف و المساجد و كاسات كبار و إمّا الصناعات كاتّخاذ الحمّام و النورة و الطواحين و أمثالها و القوارير و الصابون [وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ] لئلّا يهربوا منه، و قيل: معناه: لئلّا يفسدوا ما عملوه؛ لأنّهم كانوا يفسدون بالليل ما أصلحوا في نهار هم فمنعهم اللّه عن ذلك و إنّما سخّر اللّه له الشياطين و الكفرة من الجنّ دون المؤمنين.

ص: 180


1- سبأ: 12.
2- سبأ: 13.

فإن قيل: كيف يتهيّأ لهم هذه الأعمال الشاقّة و أجسامهم رقيقة لا يقدرون على العمل الثقيل؟

فالجواب بأنّه سبحانه كثّف أجسامهم و قوّاهم خاصّة و زاد في عظمهم ليكون ذلك معجزا لسليمان فلمّا مات سليمان ردّهم اللّه إلى الخلقة الاولى و ما أبقاهم على الخلقة الثانية للفساد و الشبهات على الناس لأنّه لو ادّعى متنبّئ النبوّة و جعل آثارهم دلالة على نبوّته لاشتبه الأمر و لذلك ردّهم إلى الأوّل. و قيل: ليس الأمر على ما قلتم بل يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقّة في الجسم اللطيف و البنية ليست شرطا في القدرة و يكون هذا أيضا معجزة لسليمان عليه السّلام كما أنّ أصلب الأجسام الحديد و قد جعله اللّه في إصبع داود عليه السّلام- أبيه- كالعجين و إذا قدر اللّه أن يجعل في إصبع داود عليه السّلام قوّة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة فأيّ بعد في أن يجعل التراب اليابس جسما حيوانيّا آدميّا فيبعثه كما كان.

ثمّ إنّ ألطف الأشياء و أمنعها في هذا العالم الهواء و النار و قد جعلهما معجزة لسليمان أمّا الهواء فقوله تعالى: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ» و هل الريح إلّا هواء متموّج.

و أمّا النار فلأنّ الشياطين مخلوقون منها و قد سخّرهم اللّه له فكان يأمرهم بالغوص في المياه و النار تنطفئ بالماء و هم ما كان يضرّهم الماء و ذلك يدلّ بقدرته على إظهار الضدّ من الضدّ فاعتبروا يا اولي الأبصار!! القصّة السادسة: [وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ] و اذكر يا محمّد أيّوب لمّا امتدّت المحنة به فدعا ربّه و قال: إنّي نالني [الضُّرُّ] و أصابني الجهد و لا أحد أرحم منك و هذا تعرّض منه بالدعاء لإزالة ما به من البلاء و هو من لطيف الكنايات في طلب الحاجة و مثله قول موسى: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» (1) و الضرّ بالفتح شامل و شائع في كلّ ضرر، و بالضمّ خاصّ بما في النفس كمرض أو هزال و مثله.

[وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] وصف ربّه بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها و اكتفى بذلك عن تعرّض المطلوب لطفا في السؤال.

ص: 181


1- القصص: 24.

و في المفاتيح و الصافي في قضيّة أيّوب عن وهب بن منبّه: كان أيّوب عليه السّلام روميّا و هو أيّوب ابن أنوص و كان من ولد عيص بن إسحاق و كانت امّه من ولد لوط و كان اللّه قد اصطفاه و جعله نبيّا و كان مع ذلك قد أعطاه اللّه من الدنيا حظّا وافرا من النعم و الدوابّ و الملك و أعطاه أهلا و ولدا من رجال و نساء و كان رحيما بالمساكين و يكفل الأيتام و الأرامل و يكرم الضيف و كان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به و عرفوا فضله، و إنّ لجبرئيل عليه السّلام بين يدي اللّه مقاما ليس لأحد من الملائكة مثله في القرب و الفضيلة و هو الّذي يتلقّى الكلام فإذا ذكر اللّه عبدا بخير تلقّاه جبرئيل أوّلا ثمّ تلقّاه ميكائيل ثمّ من حوله من الملائكة المقرّبين فإذا افتهموا و شاع ذلك الخبر بأنّ اللّه ذكر عبدا من عباده بالخير فهم يصلّون عليه ثمّ صلّت الملائكة في السماوات عليه ثمّ صلّت ملائكة الأرض.

و كان إبليس يومئذ لم يحجب عن شي ء من السماوات و كان يقف فيهنّ حيثما أرادوا من هناك وصل إلى آدم عليه السّلام حتى أخرجه من الجنّة و لم يزل إبليس على ذلك حتّى رفع عيسى عليه السّلام فحجب عن أربع فكان يصعد اللعين بعد ذلك إلى ثلاث إلى زمان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحجب عند ذلك عن جميع السماوات إلّا من استرق السمع.

قال: فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيّوب عليه السّلام فأدركه الحسد فصعد سريعا حتّى وقف من السماء موقفا كان يقفه دون العرش فقال: يا ربّ إنّك أنعمت على عبدك أيّوب فشكرك و عافيته فحمدك ثمّ لم تجرّبه بشدّة و لا بلاء و أنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك فقال اللّه: انطلق فقد سلّطتك على بدنه ما عدا عينيه و قلبه و سمعه و عقله.

فانفضّ عدوّ اللّه سريعا خوفا من أن تداركه رحمة فتمنعه من سلطته فوجد أيّوب ساجدا للّه فأتاه من قبل الأرض فنفخ في منخره نفخة من نار السموم اشتعل منها جسده عليه السّلام و خرج به من فرقه إلى قدمه ثآليل و قد وقعت فيه حكّة لا يملكها و كان يحكّ بأظفاره حتّى سقطت أظفاره ثمّ حكّها بالمسوح الخشنة ثمّ حكّها بالفخّار و الحجارة و لم يزل يحكّها حتّى تقطّع لحمه و تغيّر، و على قول دودونتن.

ثمّ جاء إبليس إلى أهل البلد و قال: إنّ هذا الرجل ترون ما به من المرض

ص: 182

و سيؤدّي المرض إليكم فأخرجوه من بلدتكم فأخرجه أهل القرية و جعلوه على كناسة في المزبلة (1) و جعلوا له عريشا و رفضه الناس كلّهم غير امرأته «رحمة» بنت إفرائيم ابن يوسف عليه السّلام فكانت تصلح أموره.

و كان تسليط إبليس على بدن أيّوب بعد أن استرخص من اللّه على ماشيته و ماله و ولده و زرعه. و ذلك أنّ اللعين بعد أن انفضّ إلى الأرض جمع عفاريت الشياطين و قال لهم: ماذا عندكم من القوّة فإنّي قد سلّطت على مال أيّوب؟ قال عفريت: أعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من نار فأحرقت كلّ شي ء أتى أيّوب عليه، فقال إبليس: فأت الإبل و رعاءها، فذهب و لم يشعر الناس حتّى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو إليها شي ء إلّا احترق فلم تزل تحرقها و رعاءها حتّى أتى على آخرها، فذهب إبليس على شكل بعض أولئك الرعاة إلى أيّوب عليه السّلام فوجده قائما يصلّي فلمّا فرغ من الصلاة قال: يا أيّوب هل تدري ما صنع ربّك الّذي اخترته بإبلك و رعائها؟ فقال أيّوب عليه السّلام: إنّها ماله أعارنيه و هو أولى به إذا نزعه قال إبليس: فإنّ ربّك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت و رعاءها كلّها و تركت الناس مبهوتين متعجّبين منها فمن قائل يقول:

ما كان أيّوب يعبد شيئا و ما كان إلّا في غرور. و من قائل يقول: لو كان إله أيّوب يقدر على شي ء يمنع من وليّه. و من قائل كذا و كذا، فقال أيّوب عليه السّلام: الحمد للّه الّذي حين أعطاني و حين نزع منّي و أنا خرجت من بطن امّي عريانا، و عريانا أعود في التراب و عريانا احشر إلى اللّه و لو علم اللّه فيك أيّها الرجل خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح و صرت شهيدا و آجرني فيك و لكنّ اللّه علم فيك شرّا فأخّرك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا مغموما و لم يقدر شيئا يتصرّف في شكر أيّوب عليه السّلام.ا.

ص: 183


1- و هذا مخالف للعقل السليم، و لا يستصوبه طبع مستقيم؛ فان فيه هتك حرمة النبي الذي امر بتبليغ دين اللّه الى خلقه، و تأليف القلوب الى أحكامه و شرائعه. و هل يمكن التأليف مع تنفر الناس عنه؟ و لا يعتقد به الا الذي في قلبه مرض، الذي لا يرجو للّه و لرسله و قارا. و لم يكن ابتلاؤه عليه الصلاة و السلام الا لان يشاهد الناس عظيم صبره في اللّه، و انه بنيان مرصوص لا تذروه الرياح العاصفة صبور عند الهزاهز، شكور لدى البلايا، وقور في المصائب. و سيوافيك روايات عن ائمة الدين عليهم السلام فيما قلنا.

فقال عفريت آخر: عندي من القوّة ما إذا لو شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلّا خرجت روحه فقال إبليس: فأت الغنم، فانطلق فصاح بها فماتت و مات رعاؤها فخرج إبليس متمثّلا بقهرمان الرعاة إلى أيّوب عليه السّلام فقال له القول الأوّل و ردّ عليه أيّوب عليه السّلام الردّ الأوّل فرجع إبليس ساغرا.

فقال عفريت آخر: عندي من القوّة ما إذا لو شئت تحوّلت ريحا عاصفة أقلع كلّ شي ء أتيت عليه، قال: فاذهب إلى الحرث و الثيران (1) فأتاهم و أهلكهم ثمّ رجع إبليس متمثّلا حتّى جاء إلى أيّوب عليه السّلام و هو يصلّي فقال مثل قوله الأوّل فسمع مثل جوابه الأوّل فجعل إبليس يصيب أمواله شيئا فشيئا حتّى أتى آخرها.

فأتى على ولد أيّوب عليه السّلام فإنّها الفتنة المضلّة و جاء إبليس إلى قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتّى قلّب القصر عليهم. ثمّ جاء إلى أيّوب عليه السّلام متمثّلا بصورة المعلّم و هو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه و دماغه فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل أدمغتهم من أنوفهم لتقطّع قلبك فلم يزل يرقّقه حتّى رقّ أيّوب عليه السّلام و بكى و قبض قبضة من التراب و وضعها على رأسه فاغتنم ذلك إبليس ثمّ لم يلبث أيّوب عليه السّلام حتّى استغفر و استرجع.

و عن الكاظم عليه السّلام: لمّا اشتدّ به البلاء في جسده و كان في اخرياته جاءه أصحابه و قالوا: يا أيّوب ما نعلم أحدا ابتلي بمثل هذه البليّة إلّا لسريرة شرّ فلعلّك أسررت سوءا فأبد لنا. فعند ذلك ناجى أيّوب عليه السّلام ربّه عزّ و جلّ فقال: يا ربّ ابتليتني بهذه البليّة و أنت تعلم أنّه لم يعرض لي أمران قطّ إلّا التزمت أخشنهما على بدني و لم آكل أكلة قطّ إلّا و على خواني يتيم؛ فلو أنّ لي منك مقعدا نخصم لأدليت بحجّتي قال: فعرضت له سحابة فنطق فيها ناطق: يا أيّوب أدل بحجّتك، قال: فشدّ عليه مئزره و جشا على ركبته فقال: ابتليتني بهذه البليّة و أنت تعلم أنّه لم يعرض لي أمران قطّ إلّا التزمت أخشنهما على نفسي و لم آكل أكلة إلّا و على خواني يتيم، قال:

فقبل له: يا أيّوب من حبّب إليك الطاعة؟ و في رواية: نودي من الغمامة بعشر آلافر.

ص: 184


1- جمع الثور: ذكر البقر.

لسان: يا أيّوب من صبّرك تعبد اللّه و الناس عنه غافلون؟ أ تمنّ على اللّه بما للّه فيه المنّة عليك؟ قال: فأخذ عليه السّلام كفّا من التراب و وضعه في فيه ثمّ قال: أنت يا ربّ.

و عن الصادق عليه السّلام: أنّ اللّه عزّ و جلّ ابتلى أيّوب بلا ذنب فصبر حتّى عيّروه إنّ الأنبياء لا يصبرون على التعيير.

و في الكافي عنه عليه السّلام: إنّ اللّه يبتلي المؤمن بكلّ بليّة و يميته بكلّ ميتة و لا يبتليه بذهاب عقله أما ترى أيّوب كيف سلّط إبليس على ماله و أهله و على كلّ شي ء منه و بدنه و لم يسلّط على عقله ليوحّد اللّه؟

و في رواية: سلّط على أيّوب فشوّه خلقه و لم يسلّط على دينه.

و في الخصال عنه عن أبيه عليهما السّلام قال: إن أيّوب عليه السّلام ابتلي سبع سنين بغير ذنب و إنّ الأنبياء معصومون لا يذنبون و لا يزيغون و لا يزيغون و لا يرتكبون ذنبا صغيرا و لا كبيرا.

و قال عليه السّلام: إنّ أيوب مع جميع ما ابتلي به لم ينتن له رائحة و لا قبحت له صورة و لا خرجت منه مدّة من دم و قيح و لا استقذره أحد رآه و لا استوحش منه أحد شاهده و لا تدوّد شي ء من جسده و إنّما اجتنبه الناس لفقره و ضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بماله عند ربّه.

و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعظم الناس بلاء الأنبياء ثمّ الأولياء ثمّ الأمثل فالأمثل، و إنّما ابتلاء العظيم الّذي يهون معه على جميع الناس لئلّا يدّعوا له معه الربوبيّة إذا شاهدوا ما أراد اللّه ذكره أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه ليستدلّوا بذلك على أنّ الثواب من اللّه على ضربين: استحقاق و اختصاص، و لئلّا يحقروا ضعيفا لضعفه و لا فقيرا لفقره و ليعلموا أنّه يسقم من يشاء و يشفي من يشاء متى شاء كيف يشاء بأيّ وجه شاء و يجعل ذلك عبرة لمن يشاء و شقاوة لمن يشاء باستحقاقه و سوء اختياره و سعادة لمن يشاء بحسن اختياره و صنيعه و هو عزّ و جلّ عدل في قضائه حكيم في أفعاله لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم و لا قوّة إلّا باللّه.

و في هذا الأمر أنّ بدن أيّوب نتن و تدوّد اختلاف شديد في الأخبار. و الفيض قدّس سرّه قال في الصافي: لعلّ المراد ببدنه الّذي قيل في الرواية الاولى أنّه لم ينتن

ص: 185

رائحته و لم يتدوّد بدنه الأصليّ الّذي يرفع من الأنبياء و الأوصياء إلى السماء و ببدنه الّذي قيل في هذه الرواية: إنّه أنتن و تدوّد بدنه العنصريّ الّذي هو كالغلاف لذلك و لا مبالاة للخواصّ به فلا تنافي بين الروايتين (1).

و بالجملة اختلف العلماء في لبث مرض أيّوب: المشهور سبع سنين و أشهرا.

و روى ابن شهاب عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بقي أيّوب في البلاء ثماني عشر سنة.

و بالجملة لمّا أخرجوه من القرية قال الحسن: مكث أيّوب بعد ما القي على الكناسة سبع سنين و أشهرا و لم يبق له ولد و لا مال و لا صديق غير امرأته «رحمة» بنت إفرائيم بن يوسف الصدّيق و كانت تأتيه بالطعام و تحمد اللّه مع أيّوب و كان مواظبا لحمد اللّه و الثناء عليه و الصبر على البلاء فصرخ إبليس صرخة جزعا من صبر أيّوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض و قالوا له: ما جزعك؟ قال: أعياني هذا العبد و ما أبقيت له شيئا و لم يزدد بذلك إلّا صبرا و حمدا و هو مع صنيعي به كما ترون لا يفتر عن ذكر اللّه فاستعنت بكم لتعينوني عليه فقالوا له: أين مكرك؟ أين عملك الّذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كلّه في أيّوب فأشيروا عليّ قالوا: آدم حين خرجته من الجنّة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: فشأنك بأيّوب من قبل امرائة فإنّه لا يستطيع أن يعصيها لأنّه لا يقربه أحد غيرها قال: أصبتم، فانطلق حتّى أتى امرأته فتمثّل لها في صورة رجل فقال: أين بعلك يا أمة اللّه؟ قالت: هو هذا يحكّ قروحه و يتردّد الديدان في جسده فلمّا سمعها طمع أن يكون ذلك جزعا فوسوس إليها و ذكّرها ما كان لها من النعم و المال و ما كان من شباب أيّوب و جماله.

قال الحسن: فصرخت رحمة فعلم إبليس أنّها جزعت فأتاها بسخلة و قال: ليذبح هذه لي أيّوب و يبرأ، قال: فجاءت إلى أيّوب تصرخ و قالت: يا أيّوب حتّى متى يعذّبكر؟

ص: 186


1- فيه تعسف و تكلف، و عويصة تنفر الناس عن الرسول الذي أرسل إليهم و تحمل أعباء الرسالة لهدايتهم باقية على حالها. و ليت شعري! ما يمنع من ضرب أمثال هذه الروايات على الجدار؟

ربّك ألّا يرحمك؟ اذبح هذه السخلة و استرح فقال أيّوب: أتاك عدوّ اللّه و نفث فيك فاجتنبه ويلك أ ترين ما تبكين عليه من ذهاب المال و الولد و الصحّة من أعطانا ذلك؟

قالت اللّه: قال: فكم متّعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: منذ كم ابتلانا اللّه بهذا البلاء؟ قالت:

سبع سنين و أشهر، قال: ويلك ما أنصفت ربّك إلّا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنّا في الرخاء ثمانين سنة؟ و اللّه لئن شفاني اللّه لأجلدنّك جلدة أمرتني أن أذبح لغير اللّه و حرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك و شرابك الّذي تأتيني به فطردها فذهبت فلمّا نظر أيّوب عليه السّلام في شأنه و ليس عنده طعام و لا شراب و لا صديق و قد ذهبت امرأته خرّ ساجدا و قال:

[ربّ إنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] فقال: ارفع رأسك فقد استجبت لك، اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابّة إلّا سقطت منه ثمّ ضرب رجله مرّة اخرى فنبعت عين اخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلّا خرج و قام صحيحا و عاد شبابه و جماله حتّى صار أحسن ما كان ثمّ كسي حلّة فلمّا قام جعل يلتفت فلا يرى شيئا ممّا كان له من الأهل و الولد و المال إلّا و قد ضعّفه اللّه تعالى حتّى صار أحسن ممّا كان حتّى ذكر أنّ الماء الّذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب فجعل يضمّه بيده فأوحى اللّه إليه: يا أيّوب ألم أغنيك؟ قال: بلى و لكنّها بركتك فمن يشبع منها؟

قال: فخرج أيّوب عليه السّلام حتّى جلس على مكان مشرف. ثمّ إنّ امرأته قالت:

هب إنّه طردني أ فأتركه حتّى يموت جوعا و تأكله السباع؟ لأرجعنّ إليه فلمّا رجعت ما رأت تلك الكناسة و لا تلك الحال و إذا بالأمور تغيّرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة و تبكي و ذلك بعين أيّوب عليه السّلام فأرسل إليها أيّوب عليه السّلام و دعاها و قال:

ما تريدين يا أمة اللّه؟ فبكت و قالت: أردت ذلك المبتلى الملقى على الكناسة، فقال أيّوب:

ما كان منك؟ فبكت و قالت: بعلي، فقال: أ تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: و هل يخفى على أحد يراه؟ فتبسّم و قال: أنا هو فعرفته بضحكه فاعتنقته ثمّ قال: إنّك أمرتني أن أذبح سخلة لإبليس و إنّي أطعت اللّه و عصيت الشيطان و دعوت إليه فردّ عليّ ما ترين.

ص: 187

و قال وهب: كانت امرأة أيّوب تعمل للنّاس و تأتيه بقوته فلمّا طال عليه البلاء سئمها الناس فلم يستعملوها فالتمست ذات يوم شيئا من الطعام فلم تجد شيئا فجزّت قرنا من رأسها فباعته برغيف أو أخذوا في عرس لعروس منها و أعطوها شيئا من طعام فأتته به فقال لها: أين قرنك فأخبرته فحينئذ قال: «ربّ إنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».

و اعلم أنّ المعتزلة قد طعنوا في هذه القصّة بهذا الترتيب كالجبّائيّ و أمثاله من وجوه:

أحدها: قال الجبّائيّ: ذهب بعض الناس إلى أنّ ما كان به من المرض كان فعلا للشيطان سلّطه اللّه عليه لقوله تعالى حكاية عنه: «مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ» (1) أمّا أوّلا لأنّه لو قدر على إحداث الأمراض و الأسقام و ضدّهما من العافية لتهيّأ له فعل خلق الأجسام و من كان هذا فعله و حاله يكون إلها. و أمّا ثانيا فلأنّ اللّه أخبر عنه و عن جنوده بأنّه قال: «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» (2). و أمّا ثالثا قالوا:

انتهاء ذلك المرض إلى حدّ التنفّر عنه غير جائز لأنّ الأمراض المنفّرة من القبول غير جائزة على الأنبياء.

و أجيب عن الأوّل و الثاني أن لو فرضنا حصول استرخاص إبليس من اللّه فحينئذ إيقاع السقم و السلطة ليس من إبليس بل من اللّه انتهى.

قوله تعالى: [فَاسْتَجَبْنا لَهُ] دعاءه، و قلنا: ارفع رأسك و اركض برجلك إلى الأرض و أزلنا ما به من الأوجاع [وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ] قال ابن مسعود و ابن عبّاس: ردّ اللّه عليه أهله الّذين هلكوا بأعيانهم و أعطاه مثلهم معهم و لذلك ردّ للّه عليه أمواله و مواشيه بأعيانها و أعطاه مثلها معها و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و قيل: إنّه خيّر أيّوب عليه السّلام فاختار إحياء أهله في الآخرة و مثلهم في الدنيا فاوتي على ما اختار و كان له سبع بنات و ثلاث بنين.

ص: 188


1- ص: 41.
2- ابراهيم: 22.

[رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا] أي نعمة منّا عليه [وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ] و موعظة لهم في الصبر و التوكّل عليه لأنّه لم يكن في عصر أيّوب عليه السّلام أحد أكرم منه عند اللّه فابتلاه اللّه بهذه المحن العظيمة فأحسن الصبر عليها فينبغي لكلّ عاقل إذا أصابته مصيبة أن يصبر عليها و لا يجزع و يعلم أنّ عاقبة الصبر محمودة.

قوله: [وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ] اي و اذكر هؤلاء الأنبياء و ما أنعمت عليهم من فنون النعمة بأنّهم كانوا من الصابرين على الشدائد و المحن و العبادة.

أمّا إسماعيل فلأنّه صبر على الانقياد للذبح و الإقامة ببلد لا زرع فيه و لا ضرع و لا بناء، و صبر على بناء البيت فأكرمه اللّه تعالى و أخرج من صلبه خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و أمّا إدريس عليه السّلام فقد تقدّمت قصّته في سورة مريم، بعث إلى قومه داعيا لهم إلى اللّه فأبوا فأهلكهم اللّه و رفع إدريس إلى السماء الرابعة.

و أما ذو الكفل و قيل: في تسميته بهذا الاسم وجوه: أحدها أنّه كان ضعّف عمل الأنبياء في زمانه و ضعّف ثوابهم. و ثانيها عن ابن عبّاس: إنّ نبيّا من أبناء بني إسرائيل آتاه اللّه الملك و النبوّة ثمّ أوحى اللّه إليه: إنّي أريد قبض روحك فاعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفّل لك أنّه يصلّي باللّيل حتّى يصبح و يصوم بالنهار فلا يفطر و يقضي بين النّاس فلا يغضب فادفع ملكك إليه، فقام ذلك النبيّ في بني إسرائيل و أخبرهم بذلك فقام شابّ و قال: أنا أتكفّل لك بهذا فقال: في القوم من هو أكبر منك فاقعد، ثمّ صاح الثانية و الثالثة فقام الشابّ و قال: أنا أتكفّل لك بهذه الثلاث فدفع إليه ملكه و وفى بما ضمن فحسده إبليس فأتاه وقت ما يريد أن يقيل (1) فقال: إنّ لي غريما قد مطلني حقّي و قد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به فأرسل معه و قعد حتّى فاتته القيلولة و عاد إلى صلاته و صلّى ليله إلى الصباح ثمّ أتاه من الغد عند القيلولة و قال: إنّ الرجل الّذي استأذنتك له هو في موضع كذا فلا تبرح من مكانك حتّى آتيك به فذهب و بقي هو منتظرا حتى فاتته القيلولة ثمّ أتاه فقال له: هرب منّي فمضى ذو الكفل إلى صلاته فصلّى ليلة حتّى أصبح فأتاه إبليس و عرّفه نفسه و قال له:ة.

ص: 189


1- اى وقت نوم القيلولة.

حسدتك على عصمة اللّه إيّاك فأردت أن اخرجك حتّى لا تفي بما تكفّلت به، فشكره اللّه سعيه على ذلك الأمر و نبّأه فسمّي ذا الكفل و على هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة.

قال الرازيّ: و كذلك ذكر عليّ أمير المؤمنين أيضا كما ذكر ابن عبّاس لكن زاد:

إنّ ذا الكفل قال للبوّاب في اليوم الثالث و قد غلب عليه النعاس: لا تدعنّ أحدا يقرب هذا الباب حتّى أنام فإنّي قد شقّ عليّ النعاس، فجاء إبليس فلم يأذن له البوّاب فدخل من كوّة في البيت و تسوّر فإذا هو يدقّ الباب فاستيقظ الرجل و عاتب البوّاب فقال: أما من قبلي فلم يؤت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق و إبليس على صورة شيخ معه في البيت فقال له: أ تنام و الخصوم على الباب؟ فعرفه و قال: أنت إبليس؟ قال: نعم أعييتني في كلّ شي ء فعلت، و فعلت هذه الأفعال لأغضبنّك فعصمك اللّه منّي، فسمّي ذا الكفل لأنّه و في بما تكفّل.

و قيل: إنّه لم يكن نبيّا و لكن كان عبدا صالحا. و هذا القول بمعزل عنه و ضعيف لأنّه في الآية في عداد الأنبياء و القول كقائله و هو أبو موسى الأشعريّ.

و ذو الكفل إمّا اسم أو لقب و الكفل معناه النصيب و إنّما ذكرنا أنّه كان عمله مضاعفا و ثوابه ضعف ثواب غيره فعلى هذا التقدير يكون نبيّا لأنّه كان في زمنه أنبياء على ما روي و من ليس بنبيّ لا يكون عمله أفضل من الأنبياء على أنّ السورة ملقّبة بالأنبياء فكلّ من ذكره اللّه فيها نبيّ.

و قيل: إنّ ذا الكفل زكريّا، و قيل: يوشع، و قيل: إلياس، ثمّ قالوا: خمسة من الأنبياء سمّاهم اللّه باسمين: إسرائيل و يعقوب، إلياس و ذو الكفل، عيسى و المسيح، يونس و ذو النّون، محمّد و أحمد عليهم السّلام [و كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ].

و في كتاب النبوّة بالإسناد عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسنيّ قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام أسأله عن ذي الكفل ما اسمه؟ و هل كان من المرسلين؟ فكتب: إنّ اللّه بعث مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرين ألف نبيّ، المرسلين منهم ثلاث مائة و ثلاثة عشر رجلا و إنّ ذا الكفل كان منهم و كان بعد سليمان بن داود و كان يقضي بين الناس كما يقضي داود و لم يغضب قطّ إلّا للّه و كان اسمه عدويا بن أدار بن الي، انتهى.

ص: 190

[وَ أَدْخَلْناهُمْ] المذكورين من الأنبياء [فِي رَحْمَتِنا] و غمرناهم في نعمنا لأنّهم صلحت أعمالهم و كانوا من الصالحين.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 87 الى 90]

وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)

المعنى: [وَ ذَا النُّونِ] صاحب الحوت الّذي حبس في بطنه و هو يونس بن متّى [إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً] لقومه لمّا برم و أصرّ في إيمانهم و طال دعوته لهم و شدّ شكيمتهم و طغيانهم و لم تقبلوا أمره فهاجرهم قبل أن يؤمر بالهجرة [فَظَنَّ أَنْ لَنْ] نضيق عليه أو أن لن نقضي عليه بالعقوبة من القدر لا من القدرة أو المعنى ظنّ أن لن نعمل قدرتنا أو المعنى:

هو تمثيل لحاله بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في إعراضه قومه من غير أمرنا و انتظارا لإذن منّا، أو سبقت خطرة شيطانيّة إلى و همه فسمّي ظنّا للمبالغة، و القدر بمعنى القضاء.

و من فسّر الآية بأنّه خرج مغاضبا لربّه و أنّه ظنّ أن لن يقدر اللّه على أخذه فقد أساء الثناء على الأنبياء و أنّه نسب إليهم الكفر فضلا عن الكبيرة لأنّه نسب العجز إلى اللّه تعالى اللّه عن العجز و تعالى الأنبياء عن هذه النسبة.

و قيل: إنّه استفهام معناه التوبيخ و حذف حرف الاستفهام و تقديره: أ فظنّ أن لن نقدر عليه، و قد جاء في كلام العرب حذفه كقول عمر بن أبي ربيعة:

ثمّ قالوا تحبّها قلت بهراعدد القطر و الحصى و الرمال

و أصله: أ تحبّها، و أنكر جماعة هذا التأويل مثل عليّ بن عيسى و غيره.

[فَنادى فِي الظُّلُماتِ] ظلمة الليل و ظلمة البحر و ظلمة بطن الحوت؛ و قيل: كان في بطن حوت و حوت في بطن حوت. و بالجملة فاختلفوا في أنّ وقوعه في بطن السمكة كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعده: أمّا القول الأوّل فقال ابن عبّاس: كان يونس

ص: 191

عليه السّلام و قومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك و سبى منهم تسعة أسباط و نصفا و بقي سبطان و نصف فأوحى اللّه إلى شعيب النبيّ عليه السّلام أن اذهب إلى حزقيل الملك و قل له حتّى يوجّه نبيّا قويّا أمينا فإنّي القي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك: فمن ترى؟- و كان في مملكته خمسة من الأنبياء- فقال: يونس بن متّى فإنّه قويّ أمين فدعا الملك و هو حزقيل يونس و أمره أن يخرج فقال يونس: هل أمرك اللّه بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سمّاني لك؟ قال: لا، قال: فههنا أنبياء غيري فألحّ عليه فخرج مغاضبا للملك و لقومه.

فأتى بحر الروم فوجد قوما هيّئوا سفينة فركب معهم فتلجلجت السفينة و كادوا أن يغرقوا فقال الملّاحون: هاهنا رجل عاص أو عبد آبق؛ لأنّ السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلّا و فيها رجل عاص و من رسمنا أنّنا إذا ابتلينا بمثل هذا البلاء أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر و لأن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة فاقترعوا ثلاث مرّات فوقعت القرعة فيها كلّها على يونس فقال: أنا الرجل العاصي و العبد الآبق و ألقى نفسه في البحر فجاء حوت فابتلعه فأوحى اللّه إلى الحوت: لا تؤذ منه شعرة فإنّي جعلت بطنك سجنا له و لم أجعله طعاما لك.

ثمّ لمّا نجّاه اللّه من بطن الحوت نبذه بالعراء كالفرخ المنتوف فأنبت اللّه عليه شجرة من يقطين يستظلّ بها و يأكل من ثمرها حتّى اشتدّ فلمّا يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له: أ تحزن على شجرة و لم تحزن على مائة ألف أو يزيدون؟ حيث لم تذهب إليهم و لم تطلب راحتهم.

ثمّ أوحى اللّه إليه و أمره أن يذهب إليهم فتوجّه يونس عليه السّلام نحوهم حتّى دخل أرضهم و هم منه غير بعيد فأتاهم يونس و قال لملكهم: إنّ اللّه أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل فقالوا: ما نعرف ما تقول، و لو علمنا أنّك صادق لفعلنا و لقد أتيناكم في دياركم و سبيناكم فلو كان كما تقول لمنعنا اللّه عنكم، فطاف ثلاثة أيّام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى اللّه إليه: قل لهم: إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب، فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلمّا فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه.

ص: 192

ثمّ ذكروا أمرهم و أمر يونس للعلماء الّذين كانوا في دينهم فقالوا: انظروا و اطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس ممّا ذكر من نزول العذاب و إن كان قد خرج فهو كما قال فطلبوه فقيل لهم: إنّه خرج العشيّ فلمّا أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم و لا غنمهم و عزلوا الوالدة عن ولدها و كذا الصبيان و الأمّهات ثمّ قاموا ينتظرون الصبح فلمّا انشقّ الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقّوا جيوبهم و وضعت الحوامل ما في بطونها و صاح الصبيان و ثغت الأغنام و البقر فرفع اللّه العذاب عنهم فبعثوا إلى يونس فآمنوا به و بعثوا معه بني إسرائيل.

فعلى هذا القول كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت و في هذا القول رواية اخرى و هي أنّ جبرئيل قال ليونس عليه السّلام: انطلق إلى أهل نينوى و أنذرهم أنّ العذاب قد حضرهم، فقال يونس عليه السّلام: التمس لي دابّة، فقال: الأمر أعجل من ذلك، فغضب و انطلق إلى السفينة و باقي الحكاية كما مرّت إلى أن التقمه الحوت فانطلق إلى أن وصل نينوى فألقاه هناك.

و احتجّ القائلون بجواز الذنب على الأنبياء بهذه الآية من وجوه و انتهزوا فرصة في الأمر:

أحدها: أنّهم فسّروا أنّه ذهب مغاضبا لربّه و هذا من أعظم الذنوب.

و الجواب أنّ المغاضبة لم تكن مع اللّه لأنّه ليس في الآية أنّ يونس من غاضب لكنّا نقطع أنّه لا يجوز على نبيّ اللّه أن يغاضب ربّه بل للمؤمن لا يجوز هذا الأمر فضلا من أن يكون نبيّا لقوله: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (1) فحينئذ لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى اللّه فوجب أن يكون المراد أنّه خرج مغاضبا لمن يعصيه فيحتمل قومه أو الملك أو هما جميعا.

و ثانيها: قوله تعالى: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ».

و قد أجبنا عن هذه الشبهة و غيرها في أوّل تفسير الآية حيث فسّر القدر بالتقدير لا بالقدرة كقوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ»* (2) أي يضيق «وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ

ص: 193


1- الأحزاب: 36.
2- الرعد: 28.

رِزْقُهُ» (1) أي ضيّق و على قول من يقول: إنّه خطرة بوسوسة الشيطان سبقت إلى و همه و كان ذلك قبل رسالته فردّها بالحجّة فحينئذ لا يقع إلّا ترك الأولى.

و أمّا إقراره بالظلم فلا شكّ أنّه كان تاركا للأفضل مع القدرة على تحصيل الأفضل فكان ذلك ظلما بالنسبة إليه. و أمّا حبسه في بطن الحوت لا نسلّم أنّه عقوبة إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا بل للمحنة و الامتحان. و أمّا قوله: و هو مليم و المليم أي ذو الملامة و ليس ملازمة بين الملامة و وجود الذنب و إنّما يحصل بسبب ترك الأفضل.

و ممّا يدلّ على أنّ مراد يونس في قوله: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» أنّه ما ظنّ العجز بالنسبة إلى اللّه قوله [سُبْحانَكَ] و تقديره: انزّهك أن تفعل ذلك جورا و شهوة و عجزا بل فعلته بمقتضى الإلهيّة و الحكمة.

و أمّا قوله: [إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ] فالمعنى: ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك و ما كان لي أن أفعل ذلك من عند نفسي و أنا الآن من النادمين على هذا الفعل و ليس المعنى أنّه فعل كبيرة و أقرّ بها كما زعمه القائلون بصدور الذنب عنه فوصف ربّه بكمال الربوبيّة بقوله «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ» و وصف نفسه بقوله: «إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» بالقصور عن أداء حقّ الربوبيّة.

فاستجاب اللّه دعاءه و نجّاه اللّه برحمته. و كما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت إذ دعانا [كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ] من كربهم إذا استغاثوا بنا، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلّا استجيب له و عن الحسن ما نجّاه اللّه إلّا بإقراره على نفسه بالظلم.

قوله: [وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى] القصّة التاسعة قصّة زكريّا و كان سنّه مائة سنة و زوجته تسع و تسعون أو ثمان و تسعون سنة لمّا دعا بهذا الدعاء و مسّه الضرّ بتفرّده و أحبّ أن يعطيه اللّه ولدا يقوّيه على أمر دينه و يكون قائما مقامه، و كان دعاؤه:

[رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً] بغير ولد يعينني في حياتي و يرثني في مماتي [وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ].

[فَاسْتَجَبْنا لَهُ] و فعلنا ما أراده لأجل سؤاله و في ذلك البيان إعظام له [وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى] فهو كالتفسير للاستجابة [وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ] بأن كانت عقيمة فجعلناها ولودا،

ص: 194


1- الطلاق: 7.

و كانت هرمة فعاد عليها شبابها: و قيل: كانت سيّئة الخلق فصارت حسنة الخلق.

قوله: [إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ] إنّ الأنبياء الّذين تقدّم ذكرهم كانوا يبادرون في الطاعات و العبادات [وَ يَدْعُونَنا] و يعبدونا رغبة في الثواب و رهبة و خوفا من العقاب لوقوع التقصير. و لعلّ المراد رغبتهم في الطاعة و رهبتهم من المعصية لا أنّهم يعبدون رغبة للثواب و رهبة من العقاب لارتفاع مقام الأنبياء عن ذلك.

قال أمير المؤمنين: ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا لجنّتك بل وجدتك أهلا للعبادة و هذا مدح لهم في حرصهم على العبوديّة و الطاعة.

[وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ] و الخاشع هو الحذر الّذي لا يبسط في الأمور خوفا من الإثم

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 91 الى 95]

وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)

هذه القصّة العاشرة. التقدير:

[و] اذكر [الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها] إحصانا كلّيّا من الحلال و الحرام جميعا كما قالت: «وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا» (1) حتّى من نفخ جبرئيل قبل أن تعرفه حيث منعته من جيب درعها و بعد أن نفخ جبرئيل في جيب درعها وصل النفخ في جوفها و هذا معنى: [فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا].

[وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ] أمّا آيات عيسى فمعلومة و ليست واحدة و عشرة بل أكثر و أمّا آيات مريم أيضا كثيرة: أحدها ظهور الحبل فيها بنفخ جبرئيل من غير ذكر. و أنّ رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنّة و هو قوله: «أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (2) و قيل: إنّها لم تلتقم ثديا يوما قطّ و تكلّمت هي أيضا في صباها

ص: 195


1- مريم: 21.
2- آل عمران: 33.

كما تكلّم عيسى و إنّما قال «آية» و لم يقل «آيتين» لأنّه في موضع دلالة فلا يحتاج أن يثنّى في الآية و هاهنا آخر القصص.

[إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً] الامّة الملّة و هو إشارة إلى دين الإسلام أي إنّ ملّة الإسلام هي ملّتكم الّتي يجب أن تكونوا عليها يشار إليها بملّة واحدة غير مختلفة [وَ أَنَا رَبُّكُمْ] و إلهكم واحد [فَاعْبُدُونِ* وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ] و الأصل و تقطّعتم إلّا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة للالتفات كأنّه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين و يقبح عندهم فعلهم و يقول: ألا ترون إلى عظم ما ارتكبوا هؤلاء.

و حاصل المعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما تتوزّع الجماعة الشي ء و يقسّمونه فيصير لهذا نصيب و لذلك نصيب تمثيلا لاختلافهم فيه و صيرورتهم فرقا و أحزابا شتّى و يلعن بعضهم بعضا و يتبرّأ بعضهم بعضا فهذا الوضع بمنزلة التقطيع.

ثمّ قال: [كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ] على سبيل التهديد أي اجتمعتم إذا فرقتم راجعون إلى حكمنا في الوقت الّذي لا يقدر على الحكم سوانا فنجازيهم بأعمالهم.

[فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ] شيئا مثل صلة الرحم و معونة الضعيف و نصر المظلوم و التنفيس عن المكروب و غير ذلك من أنواع الطاعات بشرط أن يكون مؤمنا باللّه و مصدّقا برسوله [فَلا كُفْرانَ] و بطلان لثواب عمله و ليس هو محروما عنه [وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ] أي نأمر ملائكتنا أن يكتبوه و لا نضيع من عمله شيئا و ضامنون لجزائه و نكتب عمله إمّا في اللوح المحفوظ أو في الصحف الّتي تعرض يوم القيامة.

قوله تعالى: [وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها] و حرام خبر و المبتدء إمّا قوله: [أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ] أو شي ء آخر على اختلاف المعنى «و لا» مزيدة مثل «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» (1) فحينئذ تقدير الآية: حرام و ممتنع رجوعهم إلى الدنيا أو إلى التوبة و قيل: إنّ «لا» غير زائدة و معناها أي حرام و ممتنع عدم رجوعهم للجزاء. و قال أمير المؤمنين في خطبة الجمعة: ألم تروا الماضين منكم لا يرجعون و إلى الخلف الباقين منكم لا يبقون قال اللّه تعالى: و حرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون. و هذا المعنى يؤيّد المعنى الأوّل لا الثاني و قيل: معناه:

ص: 196


1- الأعراف: 11.

حرام على قرية أهلكناها أن يتقبّل منهم عمل لأنّهم لا يرجعون أي لا يتوبون أبدا.

و قرئ: «و حرم على قرية» أي كتب على من أهلك أن لا يرجع إلى الدنيا قضاء من اللّه حتما و في ذلك تخويف لكفّار مكّة بأنّهم لو عذّبوا و أهلكوا لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة و قد جاء الحرام بمعنى الواجب في الاستعمال قالت الخنساء:

و إنّ حراما لا أرى الدهر باكياعلى شجوة إلّا بكيت على عمرو

و أمّا الاستعمال فلأنّ تسمية أحد الضدّين باسم الآخر مجاز مشهور فإذن و إنّ حراما أي و إنّ واجبا مثل «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ» (1).

و بالجملة إنّ الاختلاف في المعنى بسبب اختلاف كون «لا» مزيدة و غير مزيدة و إنّهم بالكسر و أنّهم بالفتح فتأمّل.

قال أبو مسلم بن بحر: تقدير الآية أنّ عدم رجوع الهالكين ممتنع فيكون حينئذ رجوعهم واجبا في الآخرة و الغرض من البيان إبطال قول من ينكر البعث و يكون الحضور بعد فتح يأجوج.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 96 الى 103]

حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)

المعنى: على قول أبي مسلم أنّهم يرجعون أحياء بعد الممات للمجازاة و ذلك الرجوع يكون وقت فتح سدّ يأجوج و مأجوج بسقوط أو كسر أو هدم أو غير ذلك و ذلك من أشراط الساعة و تأنيث «فتحت» لأنّ يأجوج و مأجوج بمنزلة القبيلتين

ص: 197


1- الشورى: 40.

أو المراد جهة يأجوج و مأجوج و حذف المضاف و هو سدّ يأجوج قيل: السدّ يفتحه اللّه ابتداء، و قيل: بل إذا جعل اللّه الأرض دكّا زالت الصلابة عن أجزاء الأرض فحينئذ ينفتح السدّ.

[وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ] قيل: و المراد من الضمير في قوله «و هم» كناية عن يأجوج و مأجوج من كلّ نشزة و ارتفاع و علوّ يسرعون إلى الورود و المحابطة في الناس و يتفرّقون في الأرض فلا ترى واديا إلّا و قوم منهم يهبطون فيها مسرعين و قيل:

الضمير كناية عن الخلق يخرجون من قبورهم إلى الحشر فعلى هذا المعنى الثاني تكون الآية على قراءة ابن عبّاس: و هم من كلّ حدب ينسلون أي القبر و يؤيّده قوله تعالى:

«فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (1).

[وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ] و لا شبهة أنّ الوعد الحقّ يوم القيامة و اقترب قيام الساعة فتشخص أبصار الكفّار من شدّة أهوال ذلك اليوم يقولون: [يا وَيْلَنا] و الويل لنا [قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ] في الدنيا [مِنْ هذا] الأمر حيث كذّبناه و قلنا: إنّه غير كائن بل ظلمنا أنفسنا بتلك الغفلة و بتكذيب الرسل و عبادة الأوثان و بمخالفة ما أمرنا.

قوله: [إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] الخطاب لمشركي قريش؛ روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل المسجد و صناديد قريش في الحطيم و حول الكعبة ثلاث مائة و ستّون صنما فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلّمه رسول اللّه فأفحمه ثمّ تلا عليهم هذه الآية: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» و قرئ «حطب جهنّم» و المراد من الحصب الرمي و المراد أنّهم يرمون في جهنّم كما ترمى بالحصباء.

فإن قيل: أيّ فائدة في إدخال الأصنام النار؟ فالفائدة: يعذّب بها المشركون الّذين عبدوها خصوصا.

و بالجملة فلمّا تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الآية و أفحم نضرا أقبل عبد اللّه بن الزبعرى فرآهم يتهامسون فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عبد اللّه: أما و اللّه لو وجدته لخصمته فدعوه فقال ابن الزبعرى: أ أنت قلت ذلك؟

ص: 198


1- يس: 51.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم. قال: قد خصمتك و ربّ الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزيرا، و النصارى عبدوا المسيح، و بنو فليح عبدوا الملائكة؟ فأجاب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بل هم عبدوا الشياطين الّتي أمرتهم بذلك فأنزل اللّه هذه الآية: [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ] الآية، يعني عزيرا و المسيح و الملائكة.

و إنّما كان مقصود ابن الزبعرى أن يفحم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّ لازم هذه الآية أنّ عزيرا و عيسى عليهما السّلام و الملائكة حينئذ حصب جهنّم عنادا باللّه فأجابهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّ معبودهم الشياطين ثمّ نزلت الآية: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى» فنزّهتهم الآية.

و اعلم أنّ كلام ابن الزبعرى ساقط بالكلّيّة من وجوه: الأوّل أنّ الخطاب لقريش و مشركي مكّة و هم كانوا يعبدون الأصنام فقط. و الثاني أنّه تعالى لم يقل:

و من تعبدون بل قال: و «ما تعبدون» و كلمة «ما» لا تتناول العقلاء أمّا قوله «وَ السَّماءِ وَ ما بَناها» (1) و قوله «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» (2) محمول و مفسّر بشي ء و الشي ء لا يفيد العموم فلا يتوجّه سؤال ابن الزبعرى، و لو أفاد الشي ء معنى العموم فخصّ بالدلائل العقليّة و السمعيّة في حقّ الملائكة و المسيح و عزير فوعدهم اللّه إيّاهم بكلّ مكرمة فعلى الفرض فخرجوا بدليل منفصل فحينئذ لا يرد إيراد اللعين.

و الحكمة في أنّهم قرنوا بآلهتهم أنّهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غمّ و حسرة لأنّهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلّا بسببهم و المقارنة إلى العدوّ و النظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب قيل: و ما كان حديدا منها أو حجرا يحمى و يلتزق بعبّادها، و ما كان خشبا يجعل جمرة يعذّب بها صاحبها استهزاء، و معنى حصب جهنّم المراد: يقذفون في النّار فلمّا رمي بهم كرمي الحصباء جعلهم «حصب» تشبيها.

و اللام في قوله: [أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ] معوّضة من «على» للدلالة على الاختصاص، و لبيان أنّ ورودهم لأجلها و الخطاب لهم و يشمل الأصنام تغليبا.

فإن قيل: الشياطين عقلاء و لفظ «ما» لا يتناولهم فكيف قال الرسول ذلك؟

ص: 199


1- الشمس: 6.
2- الكافرون: 2.

قلنا: و ما تعبدون بالأصنام أليق لكلمة «ما» و قوله: «لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً» بالشياطين أليق لكلمة هؤلاء فيعمّ الشياطين و الأصنام.

و في الآية بيان أنّ من يرمى في النار لا يمكن أن يكون إلها فقال تعالى في مقام الاستدلال: [لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها] و ما دخل عابدوها في النار لكنّهم وردوها فهم ليسوا آلهة.

ثمّ وصف سبحانه عذاب العابد و المعبود بأمور ثلاثة:

أحدها: الخلود فقال: [وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ] يعني العابدين و المعبودين و هو تفسير لقوله: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».

و ثانيها: قوله: [لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ] الزفير هو اللهيب أي يرتفعون بسبب لهب النار حتّى إذا ارتفعوا و رجوا الخروج ضربوا بمقامع الحديد فهووا إلى أسفلها سبعين خريفا قال الخليل: الزفير أن يملأ الرجل صدره غمّا ثمّ يتنفّس.

و ثالثها: [وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ] و الضمير فيه قيل: راجع إلى الأصنام و المعبودين أي لا يسمعون صراخ المعذّبين و شكواهم أي و لا يغيثونهم. و قيل: إنّ الكفّار المعذّبين لا يسمعون ما يسرّهم و ينفعهم و لا يستمعون ما ينتفعون به و إنّما يسمعون صوت المعذّبين و صوت الملائكة الّذين يعذّبونهم و يسمعون ما يسوؤهم. و قيل: يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون شيئا و لا يرى أحد منهم أنّ في النار أحدا يعذّب غيره و عن عبد اللّه بن مسعود قال: و لمّا نزلت هذه الآية و تلاها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتى عبد اللّه بن الزبعرى رسول اللّه فقال: أ لست تزعم أن عزيرا رجل صالح و أنّ مريم امرأة صالحة؟

قال: بلى قال: فإنّ هؤلاء يعبدون من دون اللّه فهم في النار؟ فنزلت هذه الآية [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ* لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ].

فعلى فرض أن يكون إيراد ابن الزبعرى واردا فهذه الآية جواب عن إيراد اللعين.

المعنى: قد جرت عادة اللّه أنّه متى شرح عقاب الكفّار أردفه بشرح ثواب الأبرار.

و الحسنى تأنيث الأحسن أي البشرى بالسعادات و الخصلة المفضّلة و هي الايمان الكامل باللّه و قد

ص: 200

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 249

سبق في علمنا بحسن صنيعهم الموعدة بالجنّة و السعادة، أولئك عن النار مبعدون «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» بحيث لا يسمعون صوتها الّذي يحسّ منها و هم فيما اشتهت أنفسهم و فيما تطلب أنفسهم من اللذائذ و نعيم الجنّة خالدون و دائمون.

و قيل: إنّ المراد من الّذين سبقت لهم الحسنى عيسى و مريم و عزير و الملائكة الّذين عبدوا من دون اللّه و هم كارهون؛ استثناهم اللّه من المعبودين إذا أطبقت على أهلها و هذا المعنى على فرض كون العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، و على كون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية عامّة لهم و لغيرهم ممّن كان مؤمنا، لا يحزنهم الفزع الأكبر و الخوف العظيم. و قيل: المراد من الفزع الأكبر النفخة الأخيرة حيث يقول: «وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» (1) و لا يلزم من نفي الفزع الأكبر نفي الفزع في النار و أهوال القيامة و قيل: هو حين يؤمر بالعبد إلى النار أو حين يذبح الموت.

و روى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ثلاثة على كثبان من مسك لا يحزنهم الفزع الأكبر و لا يكترثون للحساب: رجل قرأ القرآن محتسبا ثمّ أمّ به قوما محتسبا و رجل أذّن محتسبا و مملوك أدّى حقّ اللّه و حقّ مواليه.

قوله: [وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ] و تستقبلهم بالتهنئة قيل: هم الملائكة الّذين كتبوا أعمالهم في الدنيا و يقولون لهم و يبشّرونهم بأنّ [هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] في الدنيا، في المجالس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لعليّ عليه السّلام: يا عليّ أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم و تمنعون من كرهتم و أنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و يحزن الناس و لا تحزنون و فيكم نزلت هذه الآية.

و أيضا في المجالس عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه يبعث شيعتنا يوم القيامة على ما فيهم من الذنوب أو غيره مبيضّة وجوههم مستورة عوراتهم آمنة روعتهم قد سهلت لهم الموارد و ذهبت عنهم الشدائد يركبون نوقا من ياقوت فلا يزالون يدورون خلال الجنّة

ص: 201


1- النمل: 87.

عليهم برد من نور يتلألأ يوضع لهم الموائد فلا يزالون يطعمون و الناس في الحساب و هو قول اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ» الآية.

قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 104 الى 112]

يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)

[يَوْمَ] ظرف منصوب على البدليّة من هاء محذوفة من «توعدونه» أو من «نعيده» في الآية و المعنى: إنّ في ذلك اليوم [نَطْوِي السَّماءَ] مثل طيّ الصحيفة [لِلْكُتُبِ] فيكون معنى طيّ السجلّ للكتاب كون السجلّ ساترا لتلك الكتابة و محفيا لها لأنّ الطيّ ضدّ النشر و الكشف و المعنى: نطوي السماء كما يطوي الطومار الّذي يكتب فيه و يجوز أن يكون المراد بالكتاب المكتوب من أعمال الناس.

و السجلّ اسم ملك يكتب أعمال العباد. و قيل: السجلّ هو اسم ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه من الأرض و قيل: اسم كاتب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: السجلّ بلغة الحبشة معناه الرجل فحينئذ معناه: نطوي السماء كناية، و اللام في «للكتب» زائدة مثل قوله «رَدِفَ لَكُمْ» (1) أو المعنى: كطيّ الطاوي السجلّ و هذا قول أكثر المفسّرين.

القميّ: و معنى نطويها أي نفنيها فتحول دخانا و الأرض نيرانا. ثمّ ابتدأ سبحانه فقال: [كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ] أي نعيد أوّل الخلق كما بدأناه.

و قيل: معناه كما بدأناهم في بطون امّهاتهم حفاة عراة كذلك نعيدهم. و قيل: معناه نبعث الخلق كما ابتدأنا أي قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء.

ص: 202


1- النمل: 72.

و اختلفوا في كيفيّة الإعادة فمنهم من قال: إنّ اللّه يفرّق أجزاء الأجسام و لا يعدمها ثمّ إنّه يعيد تركيبها فذلك هو الإعادة و منهم من قال: إنّه تعالى يعدمها بالكلّيّة ثمّ إنّه سبحانه يوجدها بعينها مرّة اخرى و هذه الآية دالّة على هذا الوجه لأنّه شبّه الإعادة بالابتداء و لمّا كان الابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرّقة بل عن الوجود بعد العدم وجب أن يكون الحال في الإعادة كذلك.

و احتجّ القائلون بالقول الأوّل بقوله تعالى: «وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» (1) فدلّ هذا على أنّ السماوات حال كونها مطويّة تكون موجودة. و بقوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» (2) و هذا يدلّ على أنّ أجزاء الأرض باقية لكنّها جعلت غير الأرض انتهى.

[وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ] أي وعدناكم ذلك وعدا و نحن فاعلون ما وعدناكم.

[وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ] و قرئ «زبور» بضمّ الزاي جمع زبر مثل قشر و قشور، و الزبور بمعنى المزبور و المكتوب؛ زبرت الكتاب أي كتبته أي و لقد كتبنا في الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء من بعد ما كتبناه في الذكر و هو امّ الكتاب و اللوح المحفوظ الّذي في السماء و قيل: الزبور الكتب المنزلة بعد التوراة.

و الذكر هو التوراة و قيل: الزبور كتاب داود عليه السّلام و الذكر توراة موسى عليه السّلام و قيل: المراد من الذكر القرآن و «بعد» بمعنى قبل في الآية و قيل: المعنى المراد بالذكر العلم أي كتبنا ذلك في الزبور بعد أن كنّا عالمين علما لا يجوز عليه السهو و النسيان علينا أي مع أنّه لا يجوز علينا السهو و النسيان كتبنا أنّ هذا الأمر واجب الوقوع و هو [أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ].

و اختلف في الأرض قيل: الأرض أرض الجنّة و العباد الصالحون هم المؤمنون العاملون بطاعة اللّه و هذا القول لعكرمة و السدّيّ و سعيد بن جبير و أبي العالية و قالوا:

إنّها الأرض الّتي تختصّ بها الصالحون لأنّها لهم خلقت و غيرهم إذا حصل معهم في الجنّة على وجه التبع. و قيل: المراد أرض الدنيا فإنّها للصالح و الطالح.

ص: 203


1- الزمر: 67.
2- ابراهيم: 48.

و القول الأوّل بأنّ المراد أرض الجنّة فيه تعسّف لأنّ إطلاق الأرض إلى أرض الدنيا أقرب و أوجه من أرض الجنّة و سيورّثها المؤمنين في الدنيا كما وردت روايات كثيرة بهذا المعنى و قد نطق به الكتاب الكريم قال سبحانه: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا- إلى قوله- لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» (1) و لا يستخلفون إلّا في الدنيا و قوله تعالى: «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (2) و قال تعالى: «وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا» (3) أي في آخر الأمر نورثها امّة محمّد.

القميّ: قال: يرثها القائم عليه السّلام و أصحابه. و في المجمع هم أصحاب المهديّ عليه السّلام في آخر الزمان. و يدلّ على ذلك ما رواه الخاصّ و العامّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يبعث رجلا من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: زويت لي الأرض فأريت مشارقها و مغاربها و سيبلغ ملك امّتي ما زوي لي منها.

قوله: [إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ] أي إنّ في هذا القرآن و في الّذي أخبرنا من الوعد للمؤمنين و الوعيد للكافرين للكفاية و وصلة إلى البغية و البلاغ سبب الوصول إلى الحقّ لقوم عابدين للّه مخلصين له قال كعب: هم امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذين يصلّون الصلوات الخمس و يصومون رمضان بما هم عابدين. و قيل: معناه قوم هممهم العبادة لا العادة.

قوله: [وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ] كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة في الدين و الدنيا:

أمّا في الدين فلأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث و الناس في جاهليّة و ضلالة و أهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لبعض التحريفات و انقطاع تواترهم و اختلافات وقعت في كتبهم و علمائهم فبعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدعاهم إلى الحقّ و شرّع لهم الأحكام و ميّز الحلال

ص: 204


1- النور: 55.
2- الأعراف: 127.
3- الأعراف: 136.

عن الحرام ثمّ إنّما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همّته طلب الحقّ و لا يرغب به العناد و الحسد و الاستكبار و كان التوفيق له قرينا قال اللّه: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ» (1).

و أمّا في الدنيا فلأنّهم تخلّصوا بسببه من كثير من الذلّ و الحروب و نصروا ببركة دينه.

فإن قيل: كيف كان رحمة و قد جاء بالسيف و استباحة الأموال؟

فالجواب أنّه إنّما جاء بالسيف لمن يقدّم ضرّه على نفعه و لا يعرف خيره من شرّه و استكبر و عاند في الدين و لم يتفكّر و لم يتدبّر و من أوصاف اللّه الرحمن الرحيم العطوف الرءوف ثمّ هو سبحانه ينتقم من العصاة و قال تعالى: «وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً» (2) ثمّ قد يكون سببا لعدم البركة ثمّ إنّ كلّ نبيّ قبل نبيّنا كان إذا كذّبه قومه أهلك اللّه المكذّبين بالخسف و المسخ و الغرق و الحرق و إنّه تعالى أخّر عذاب من كذّب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال اللّه تعالى: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ» (3).

ثمّ إنّه كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نهاية حسن الخلق قال: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» و في الحديث قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادع على المشركين قال: إنّما بعثت رحمة و لم ابعث عذابا و قال عبد الرحمن بن زيد: إلّا رحمة للعالمين يعني المؤمنين خاصّة و القولان ترجعان إلى معنى واحد لأنّ من أعرض عنه إنّما وقع في المحنة من قبل نفسه كما قال: «وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» (4).

قالت المعتزلة: لو كان اللّه أراد من الكافرين الكفر و لم يرد من الكفّار الإيمان بالرسول كما يقوله أهل السنّة بأن خلق ذلك الكفر فيهم لوجب أن يكون إرساله نقمة و عذابا عليهم لا رحمة و ذلك على خلاف النصّ.

و استدلّوا أيضا بهذه الآية في أنّه أفضل من الملائكة قالوا: لأنّ الملائكة من

ص: 205


1- فصلت: 44.
2- ق: 9.
3- الأنفال: 33.
4- فصلت: 44.

العالمين فوجب بحكم هذه الآية أن يكون صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة للملائكة فوجب أن يكون أفضل منهم.

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجبرئيل: لمّا نزلت هذه الآية: فهل أصابك من هذه الرحمة شي ء؟ قال: نعم إنّي كنت أخشى العاقبة فأمنت بك لمّا أثنى اللّه عليّ بقوله: «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» (1) و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّما أنا رحمة مهداة و معلوم أنّ الوجه في أنّه رحمة على الكافر أنّه عرضه للإيمان و الثواب الدائم و هذا و إن لم يهتد كمن قدّم طعاما إلى جائع فلم يأكل فإنّه منعم عليه و إن لم يقبل.

قوله: [قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] أي مستسلمون و منقادون لذلك أن تتركوا عبادة غير اللّه و حاصله أن أسلموا إلى هذا الأمر.

و في المناقب: فهل أنتم مسلّمون الوصيّة بعدي- بالتشديد- و المراد من الوصيّة الخلافة فإنّ قوله: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (2) أي انتهوا.

قال صاحب الكشّاف: كلمة «إنّما» يقصّر الحكم على شي ء أو يقصّر الشي ء على حكم كقولك: إنّما زيد قائم أو إنّما يقوم زيد و قد اجتمع المثالان في هذه الآية لأنّ «إِنَّما يُوحى إِلَيَّ» مع فاعله بمنزلة إنّما يقوم زيد و «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» بمنزلة إنّما زيد قائم و فائدة اجتماعهما الدلالة على أنّ الوحي إلى رسول اللّه مقصور على إثبات التوحيد فلزم أن يقال: لم يوح إلى رسول اللّه شي ء غير التوحيد و معلوم أنّ ذلك فاسد و المقصود من هذا الحصر المبالغة في هذا الأمر فكأنّه هذا الوحي أصل و مقدّم على الكلّ و لولاه لم يتحقّق امتثال في أمر من امور الوحي و هو أصل أصيل.

قوله: [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ] آذن منقول من أذن أي علم و لكنّه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار و منه قوله: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ» و الإيذان على السواء معناه الدعاء إلى الحرب مجاهرة.

و المقصود لعلّ أنّ قريشا يزعمون أنّ حالهم مخالف لسائر الكفّار في الأمور فعرّفهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك و أعلمهم بما امر به على السواء من غير فرق و بيّن لهم ما هو الواجب عليهم من التوحيد و كلّ الأمور على سواء فلم افرّق في الإبلاغ و البيان، و الغرض

ص: 206


1- التكوير: 20.
2- المائدة: 94.

إزاحة العذر لئلّا يقولوا: ربّنا لو لا أرسلت إلينا رسولا و قيل: المعنى في قوله: «آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ» أي أعلمتكم بالحرب الّذي يقع بيني و بينكم كأنّه أمره اللّه بأن ينذرهم بالجهاد معهم الّذي يوحى إليه أن يأتيه من بعد و لم يعرّفه الوقت فلذلك أمره أن يقول:

إنّه لا يعلم قربه أم بعده لأنّ السورة مكّيّة و كان الأمر بالجهاد بعد الهجرة أو المعنى:

أنّ ما يوعدون به من غلبة المسلمين عليهم كائن لا محالة و لا بدّ أن يلحقهم الذلّ و الصغار و إن كنت لا أدري متى يكون ذلك و ذلك لأنّ اللّه لم يطّلعني عليه.

[إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ] و المراد من الآية ترك النفاق و النهي عنه و الأمر بالإخلاص لأنّهم كانوا يجاهرون في الطعن بالإسلام و تكذيب الآيات و بعض يضمرون الأحقاد فنبّههم اللّه بأنّه يعلم و يجازيهم عليه إمّا بالغلبة من المسلمين عليهم و إذلالهم و إمّا بعذاب القيامة.

[وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ] أي و ما أدري لعلّ تأخير جزائكم استدراج و زيادة في افتتانكم أو امتحانكم و تمتّع لكم إلى أجل مقدّر يقتضيه المشيّة المبنيّة على الحكم البالغة ليكون ذلك حجّة عليكم إن لم تؤمنوا.

قوله تعالى: [قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ] و قرئ «قل ربّ احكم بالحقّ» على الالتقاء بالكسرة و قرئ «أحكم» على أفعل التفضيل أي و ربّي أحكم. و على قراءة «قال» حكاية لدعائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على قراءة صيغة الأمر كما هو المشهور أي اقض بيننا و بين أهل مكّة بالعدل المقتضي لغلبتنا و التشديد عليهم، و قد استجيب دعاؤه ببدر و غيره.

«وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ» مبتدأ و خبر أي كثير الرحمة على عباده و هو «المستعان» و يطلب منه المعونة خبر ثان على ما تصفون من الحال؛ فإنّهم كانوا يقولون: إنّ الشوكة تكون لنا و إنّ راية الإسلام تخفق و هذا الأمر يبطل و يضمحلّ فخيّب اللّه آمالهم و نصر محمّدا و أولياءه، أو معنى ما تصفون أي من الشرك و ما تعارضون به دعوتي من الأباطيل.

تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 207

سورة الحج

اشارة

مكية إلّا آيات نزلت في السفر.

عن ابيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الحجّ اعطي من الأجر كحجّة حجّها و عمرة اعتمرها بعدد من حجّ و اعتمر في ما مضى و في ما بقي.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من قرأها في كلّ ثلاثة أيّام لم يخرج من سنته حتّى يخرج إلى بيت اللّه الحرام و إن مات في سفره دخل الجنّة.

لمّا ختم اللّه سورة الأنبياء بالدعاء إلى التوحيد افتتح هذه السورة بالاتّقاء من الشرك فقال:

ص: 208

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحج (22): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

أمر اللّه الناس بالتقوى فدخل فيه أن يتّقي كلّ محرّم و يتّقي ترك كلّ واجب؛ لأنّ المتّقي إنّما يتّقي كلّ محرّم و يتّقي ترك كلّ واجب و إنّ المتّقي إنّما يتّقي ما يخافه من عذاب اللّه فيدع لأجله المحرّم و يفعل لأجله الواجب و لا يدخل فيه النوافل لأنّ المكلّف لا يخاف بتركها العذاب و إنّما يرجو بفعلها الثواب فإذا قال: اتّقوا ربّكم فالمراد اتّقوا عذاب ربّكم.

[إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ] الزلزلة شدّة حركة الشي ء كأنّ الساعة الفاعلة للزلزلة و تزلزل الأشياء على المجاز الحكميّ فحينئذ يكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله أو على تقدير المفعول فيها على طريق الاتّساع في الظرف يعني: إنّ الزلزلة يقع في الساعة، و إجراؤه مجرى المفعول به مثل «بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» و هي الزلزلة المذكورة في قوله «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» (1).

اختلفوا في وقتها قيل عن الشعبيّ و علقمة: إنّ هذه الزلزلة تكون في الدنيا و هي الّتي يكون معها طلوع الشمس من مغربها. و قيل: هي الّتي تكون معها الساعة.

و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث الصور أنّه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع و نفخة الصعقة و نفخة للقيام لربّ العالمين و أنّ عند نفخة الفزع يسيّر اللّه الجبال و ترجف الراجفة تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، و تكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلّق يزجزجها الرياح. و قيل: هذا في أوّل يوم الآخرة و يمكن أن يكون الزلزلة من أماراتها و أشراطها الّتي فيها دفعها.

ص: 209


1- الزلزال: 1.

النزول: قال عمران بن الحصين و أبو سعيد الخدريّ: نزلت الآيتان الأوليان ليلا في غزاة بني المصطلق و هم حيّ من خزاعة و الناس راكبين يسيرون فنادى رسول اللّه فحثّوا المطيّ حتّى أتوا حول رسول اللّه فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدوابّ و لم يضربوا الخيام و الناس بين باك أو جالس حزين متفكّر فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تدرون أيّ يوم ذاك؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: ذاك يوم يقول اللّه تعالى لآدم: ابعث بعث النار من ولدك فيقول آدم: من كم كم؟

فيقول اللّه: عجّ من كلّ ألف تسع مائة و تسع و تسعين إلى النار و واحدة إلى الجنّة فكبر ذلك على المسلمين و بكوا و قالوا: فمن ينجو يا رسول اللّه؟ فقال: ابشروا فإنّ معكم خليقتين يأجوج و مأجوج ما كان في شي ء إلّا كثّرناه ما أنتم إلّا كشعرة بيضاء في الثور الأسود أو كرقم في ذراع البكر أو كشامة في جنب البعير ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة فكبّروا ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة فكبّروا ثم قال:

إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة و إنّ أهل الجنّة مائة و عشرون صفّا ثمانون منها امّتي.

ثمّ قال: و يدخل من امّتي سبعون ألفا الجنّة بغير حساب و في بعض الروايات أنّ عمر بن الخطّاب قال: يا رسول اللّه سبعون ألفا؟ قال: نعم و مع كلّ واحد سبعون ألفا فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول اللّه ادع اللّه أن يجعلني منهم فقال: اللّهمّ اجعله منهم، فقام رجل من الأنصار فقال: ادع اللّه أن يجعلني منهم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سبقك بها عكاشة قال ابن عبّاس: كان الأنصاريّ منافقا فلذا لم يدع له.

المعنى: خاطب اللّه سبحانه جميع المكلّفين فقال:

[يا أَيُّهَا النَّاسُ] العقلاء المكلّفون [اتَّقُوا] عذاب [رَبَّكُمْ] و اخشوا معصيته [إِنَّ زَلْزَلَةَ] الأرض يوم القيامة أمر [عَظِيمٌ] هائل لا يطاق و شدّة يوم القيامة أمر صعب.

[يَوْمَ] ترون الزلزلة أو الساعة [تَذْهَلُ] و تشغل [كُلُّ مُرْضِعَةٍ] عن ولدها و تنساه و تسلو عن ولده و وصف اللّه الزلزلة بالعظيم و لا عظيم أعظم ممّا عظّمه اللّه. فإن قيل:

ص: 210

لم قال مرضعة دون مرضع؟ قلنا: المرضعة هي الّتي في حال الإرضاع و هي ملقمة ثديها الصبيّ و المرضع من من شأنها أن ترضع و إن لم تباشر الإرضاع فقيل: مرضعة ليدلّ على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه و قد ألقمت ثديها الرضيع نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة [عَمَّا أَرْضَعَتْ] أي عن إرضاعها أو عن الطفل فتكون «ما» بمعنى «من» على التأويل الثاني.

[وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها] من الفزع و يمكن أن يكون المراد من ذهول المرضعة و وضع الحمل على قول من قال: المراد به يوم القيامة فيكون على جهة المثل لشدّة ذلك اليوم أي شأن فزع ذلك اليوم شأن لو كانت مرضعة تذهل عن إرضاعها و لو كانت حامل تضع من غير تمام حملها. و من قال: إنّ الزلزلة المذكورة في الدنيا قبل القيامة فالمعنى على سبيل الحقيقة كما قال بعض: إنّ الزلزلة يكون في الدنيا آخر زمانها لأنّ الرضاع و وضع الحمل إنّما يتصوّر في الدنيا.

[وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى] و قرئ «سكرى» أي من شدّة الفزع حالهم حال السكرى و اضطراب السكران [وَ ما هُمْ بِسُكارى] من الشراب بل عقولهم ذاهبة من شدّة الفزع.

ثمّ علّل سبحانه ذلك فقال: [وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ] و من شدّته يصيبهم ما يصيبهم و قرئ «ترى» بضمّ التاء من باب الإفعال تقول: أريتك قائما و رأيتك قائما و «الناس» قرئ بالنصب على المفعوليّة و بالرفع اسم ما لم يسمّ فاعله فيكون «ترى» بالضمّ مجهولا.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 3 الى 5]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)

ص: 211

قوله تعالى: [وَ مِنَ النَّاسِ] هذا إخبار عن المشركين الّذين يخاصمون في توحيد اللّه [بِغَيْرِ عِلْمٍ] منهم بل للجهل المحض. و قيل: نزلت في النضر بن الحارث فإنّه كان كثير الجدال و كان يقول: الملائكة بنات اللّه، و القرآن أساطير الأوّلين و كان ما يأتيكم به محمّد كما كنت احدّثكم به عن القرون الماضية لأنّه كان يسافر إلى فارس و يتعلّم منهم القصص القديمة مثل حكايات رستم و إسفنديار و يأتي به العرب و يقول: ما يقول محمّد كذلك و ينكر البعث.

[وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ] يغويه عن الهدى و يدعوه إلى الضلال. و في قوله «شيطان مريد» قولان: يجوز أن يكون المراد شياطين الإنس مثل النضر بن الحارث فإنّه كان كثير الجدال و أمثاله؛ و المريد و المارد المرتفع الأملس، و يجوز أن يكون المراد إبليس و جنوده، و المريد و المارد يستعمل في الإنسان و غير الشيطان إذا جاوز حدّ مثله.

قوله تعالى: [كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ] و اختلفوا في رجوع ضمير الهاء من «عليه» قيل: كتب اللّه على ذلك الشيطان في اللوح المحفوظ أنّه يضلّ من تولّاه فكيف يتّبع مثله، و قيل: كتب على المجادل بالباطل أنّ من اتّبعه و والاه يضلّه عن الدين [وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ].

ثمّ ذكر سبحانه الحجّة في البعث لأنّ أكثر الجدال كان فيه فقال: [يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ] و شكّ [مِنَ الْبَعْثِ] و النشور و الريب أقبح الشكّ فالدليل على صحّة البعث [فإنّا خلقنا] أصلكم آدم [مِنْ تُرابٍ] فمن قدر على أن يصيّر التراب بشرا سويّا حيّا في الابتداء قدر على أن يحيي العظام و التراب المتبدّل من العظام و يعيد الأموات.

[ثُمَ] خلقنا أولاده و نسله [مِنْ نُطْفَةٍ] في أرحام الأمّهات و هي الماء القليل يكون من الذكر و الأنثى، و كلّ ماء صاف فهو نطفة قلّ أم كثر [ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ] بأن تصير النطفة علقة و هي القطعة من الدم الجامد [ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ] أي شبه قطعة لحم ممضوغة فإنّ معنى المضغة مقدار ما يمضغ من اللحم [مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ] أي تامّ الخلقة و غير

ص: 212

تامّ الخلقة أو المعنى: مصوّرة و غير مصوّرة هي ما كان لا تخطيط فيه و لا تصوير كأنّه قسّم سبحانه المضغة على قسمين: منها ما خلقه إنسانا تامّا بلا نقص و منها ما ليس كذلك أي يخلق المضغ متفاوتة فيتفاوت الناس في خلقهم و صورهم و طولهم و قصرهم و تمامهم و نقصانهم و الّذي يخرج حيّا و الّذي يخرج ميّتا و سقطا لهذه الجهة.

روى علقمة عن عبد اللّه بن عمر قال: إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا و قال: يا ربّ مخلّقة أو غير مخلّقة؟ فإن قال: غير مخلّقة بجّتها الأرحام دما و إن قال:

مخلّقة قال: يا ربّ ما صفتها أ ذكر أم أنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أ شقيّ أم سعيد؟

فيقول اللّه سبحانه: انطلق إلى امّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معها حتّى يأتي على آخر صفتها.

قوله: [لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ] أي لندلّكم و نوضح لكم مقدوراتنا بتصريفكم في ضروب الخلق أنّ من قدر على البدء قدر على الإعادة حتّى يزول ريبكم و المفعول محذوف. و «نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ» أي نبقي في الأرحام ما نشاء إلى وقت تمامه و ما لا نقرّ في أرحام الأمّهات فيقع بالسقط و نقص خلقة البعض.

[ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ] بعد التكميل من بطون امّهاتكم و أنتم أطفال و المراد بالطفل الصغير من الناس و إنّما وحّد مع أنّ المراد الجمع لأنّه بمعنى المصدر و إذا كان بمعنى المصدر فيستوي فيه الجمع و المفرد تقول: رجل عدل و رجال عدل أو المراد ثمّ نخرج كلّ واحد منكم [طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ] أي ثمّ سهّل عليكم في تربيتكم و أغذيتكم أمورا لتبلغوا أنتم حال بلوغ الأشدّ و هو حال اجتماع القوّة و العقل و تماميّة الصورة و المعنى و الأشدّ من ألفاظ الجموع الّتي لم يستعمل لها واحد.

و في الآية دلالة على أنّ هذه الأمور باختيار الفاعل القادر المختار و لولاه لما صار بعضه مخلّقا و بعضه غير مخلّق و كان كلّه مخلّقا أو كان كلّه غير مخلّق.

قوله: [وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى] قبل بلوغ الأشدّ [وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ] أي أسوء العمر و أهونه و أحقره و هي حال الخرف و لأنّه لا يرجو الإنسان بعد هذا الوقت صحّة و قوّة بل يترقّب الموت بخلاف حال الطفوليّة و الشباب الّذي يرجى له

ص: 213

الكمال و القوّة بعدها [لِكَيْلا] يستفيد علما و ينسى ما كان عالما به و يصير إلى حال ينعدم عقله و يذهب عنه علومه فلا يعلم شيئا ممّا كان علمه و إذا ذهب أكثر علومه جاز أن يطلق ذهاب الجميع للمبالغة.

قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة و احتجّ بقوله تعالى: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» (1) أي قرءوا القرآن و لا شكّ أنّ قراءة القرآن من الأعمال الصالحة هذا تمام الاستدلال بخلقة الحيوان على صحّة البعث.

ثمّ استدلّ بأحوال النبات سبحانه على صحّة البعث فقال: [وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً] أي هالكة يابسة دارسة من أثر النبات [فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ] و هو المطر [اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ] و تحرّكت بالنبات بسبب المطر و المراد بالاهتزاز شدّة حركة الزرع في الجهات و نموّ الأزهار و ظهور تجديد الحياة في الأرض بزينتها في الجهات و انتفخت الأرض لنباتها [وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ] أي من كلّ صنف و شكل من الزروع مبتهج حسن الرونق و اللون و الصفة و النضرة.

و لمّا قرّر سبحانه هذين البيانين من صفة الحيوان و النبات بطريق الدليل رتّب عليهما ما هو المطلوب فقال:

[سورة الحج (22): الآيات 6 الى 10]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)

المعنى: [ذلِكَ] الّذي سبق ذكره من تصريف الإنسان على هذه الأحوال و إخراج النبات و الدلائل الدالّة على وجود القادر الصانع ليعلموا [بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ] الّذي تحقّ له العبادة دون غيره أي هو الّذي يستحقّ صفات التعظيم [وَ أَنَّهُ يُحْيِ] الأموات يعني أنّ الّذي يصحّ منه إيجاد هذه الأشياء قادر على إعادة الأموات

ص: 214


1- التين: 5.

[وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] قدير على إفنائها و إيجادها.

[وَ أَنَ] القيامة [آتِيَةٌ لا رَيْبَ] في وقوعها [وَ أَنَّ اللَّهَ] يجمع الناس و يحييهم للجزاء. و عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لجبرئيل: يا جبرئيل أرني كيف يبعث اللّه العباد يوم القيامة؟ قال: نعم فخرج إلى مقبرة بني ساعدة فأتى قبرا فقال له:

اخرج بإذن اللّه فخرج رجل ينفض رأسه من التراب و هو يقول: و الهفاه! و وا ثبوراه! ثمّ قال: ادخل فدخل ثمّ قصد إلى قبر آخر فقال: اخرج بإذن اللّه فخرج شابّ ينفض رأسه من التراب و هو يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله و أشهد أنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ اللّه يبعث من في القبور، ثمّ قال جبرئيل: هكذا يبعثون يوم القيامة.

القميّ عن الصادق عليه السّلام قال: إذا أراد اللّه أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم.

قوله: [وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ] سبق تفسيره و الحاصل أنّ بعض الناس مثل النضر بن الحارث و أتباعه لا يراجع فيما يقوله إلى علم و لا إلى دليل و أصل ثابت و كتاب واضح مضي ء له نور يبيّن له الهدى من الضلال و لا يتّبع أدلّة العقل و لا السمع و إنّما يتّبع الهوى و التقليد.

[ثانِيَ] أي متكبّرا في نفسه تقول العرب: ثنى فلان عطفه إذا تكبّر و تجبّر و عطفا الرجل جانباه أي عن يمين أو شمال و هو الموضع الّذي يلويه الإنسان عند الإعراض عن الشي ء مثل ليّ العنق و تسعّر الخدّ للتكبّر و أمثاله.

[لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] أي ليضلّ الناس عن الحقّ. و من قرأ «ليضلّ» بفتح الياء أي ليضلّ هو عن طريق الحقّ المؤدّي إلى توحيد اللّه أي جدله من غير العلم و الدليل صار سببا لضلالته عن توحيد اللّه.

[لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ] و هو ان و ذلّ و فضيحة بما يجري عليهم كما جرى على أبي جهل و نضر و أمثاله يوم البدر من القتل و الذمّ [وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ] النّار الّتي تحرقهم.

ص: 215

[ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ] فيقال له: ذلك العذاب المؤجّل بما كسبت يداك [وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] في تعذيبه لأنّ اللّه لا يظلم و لا يعاقب من غير معصية و لا يزيد في العقوبة.

و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان قول الجبريّة الّذين ينسبون كلّ ظلم في العالم إلى اللّه ثمّ يعتذرون بقول هو أوهن من نسج العنكبوت، و هو أنّه لأجل أنّ اللّه يفعله ليس بظلم. و لو تأمّلت في هذا القول لعرفت الشعوذة.

قالت المعتزلة: الآية تدلّ على أنّه إنّما وقع العذاب بسبب كسب يده و فعله فلو كان فعله خلقا للّه تعالى لكان حين ما خلقه اللّه سبحانه استحال منه أن ينفكّ عنه و حين ما لم يخلق اللّه استحال أن يتّصف العبد به فلا يكون ذلك العقاب بسبب العبد فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم و ذلك خلاف نصّ الآية.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 11 الى 13]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

و قرئ «خاسر الدنيا» على الحاليّة و قرئ «من ضره» بدون اللام.

النزول: نزلت في جماعة كانوا يقدمون على رسول اللّه المدينة فكان أحدهم إذا صحّ جسمه و ولدت امرأته غلاما و نتجت فرسه و كثرت ماشيته و ماله رضي به و اطمأنّ إليه و إن أصابه وجع المدينة أو ولدت امرأته جارية قال: ما أصبت في هذا الدين إلّا شرّا، عن ابن عبّاس.

و بالجملة بيّن سبحانه في هذه الآية حال مقلّدة الضلال و الدعاة إلى الضلال فقال:

[وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى] ضعف في العبوديّة كضعف القائم على [حَرْفٍ] الجبل أو على طرف الجيش إن كان على ظفر قرّ و إلّا فرّ و ذلك من اضطرابه في طريق العلم إذ لم يسع في طريق العلم و الدلائل المؤدّية إلى الحقّ فينقاد لأدنى شبهة لا يمكنه حلّها

ص: 216

و قيل: معنى «على حرف» أي على شكّ أو يعبد بلسانه دون قلبه قال: الدين حرفان: اللسان و الثاني القلب.

[فَإِنْ أَصابَهُ] رخاء و خصب و عافية اطمأنّ على عبادة اللّه بذلك الخير [وَ إِنْ أَصابَتْهُ] اختبار بجدب و قلّة مال و شدّة [انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ] و رجع عن دينه إلى الكفر و انصرف على وجهه الّذي توجّه منه و هو الكفر [خَسِرَ الدُّنْيا] بفراقه عن الدين [وَ الْآخِرَةَ] بنفاقه و حرمانه عن السعادات [ذلِكَ] من موجبات الخسران الظاهر لفساد العاجلة و الآجلة و قيل: المراد من خسران الدنيا الحرمان من الغنيمة و العزّ و في الآخرة الثواب و الجنّة.

[يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ] أي يدعو سوى اللّه و يعبد [ما لا يَنْفَعُهُ] و إن ترك عبادته له لا يضرّه [ذلِكَ] الّذي فعل [هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ] و استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه و طالت و بعدت مسافة ضلاله مثلا كالقارظين العنزيّين.

[يَدْعُوا] الّذي هو في الضلال البعيد و المراد رؤساؤهم هذا إذا كان الضمير في «يدعو» إلى الرئيس المضلّ و أمّا إذا رجع الضمير إلى العابد المقلّد التابع أي يعبد من الأحجار و غيرها لو فرضنا بزعمهم النفع لهم في دنياهم بمتابعة بعضهم بعضا فضرّه في الآخرة بسبب العذاب أقرب و كائن لا محالة لأنّ الكائن قريب.

[لَبِئْسَ] الناصر [وَ لَبِئْسَ] المصاحب و الصاحب و المخالط، و المراد به الأوثان.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 14 الى 15]

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)

لمّا ذكر حال المنكر و الشاكّ في الدين بالخسران ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان فقال:

[إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا] باللّه و صدّقوا رسله [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ] بأوليائه و أهل طاعته من الكرامة و بأهل

ص: 217

معصيته و أعدائه من الإهانة لا يمنعه مانع.

ثمّ قال سبحانه: [مَنْ كانَ] يحسب [أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ] و الضمير في «ينصره» راجع إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يريد أنّ من يظنّ أن لن ينصر اللّه محمّدا في الدنيا بإعلاء كلمته و إظهار دينه و في الآخرة بإعلاء درجته و الانتقام ممّن كذّبه و الرسول و إن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدلّ عليه و هو ذكر الإيمان لأنّ الإيمان لا يتمّ و لا يحصل إلّا باللّه و رسوله، و هذا قول ابن عبّاس و الكلبيّ و جماعة كثيرة من المفسّرين.

و قيل: إنّ الضمير في «ينصره» راجع إلى «من» فالمعنى: من كان يظنّ من الناس أنّ اللّه لا ينصره فليجهد جهده و ليصعد السماء ثمّ ليقطع المسافة فلينظر هل ينفعه كيده في إزالة غيظه فإنّ الّذي حكم اللّه به لا يبطل بكيد الكائد. و هذا المعنى مثل معنى قوله:

«فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ» (1).

و حاصل المعنى إذا رجعت الضمير إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه فليطلب حبلا يصل به إلى السماء و يقطع نصر اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لينظر هل يتهيّأ له هذا الأمر؟ فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة.

و قيل: المراد بالنصر الرزق؛ أرض منصورة أي ممطورة أي من ظنّ أنّ اللّه لا يرزقه في الدنيا و الآخرة فليختنق نفسه فلينظر بهذا الكيد هل يذهب غيظه؟

و في الصافي قال: معناه: أنّ اللّه ناصر رسوله في الدنيا و الآخرة فمن كان يظنّ خلاف ذلك و يتوقّعه من غيظه فليتقصّ في إزالة غيظه بأن يفعل كلّ ما يفعله الممتلئ غيظا حتّى يمدّ حبلا إلى سماء بيته فيختنق، و قطع أي خنق فإنّ المختنق يقطع نفسه.

أو إلى السماء الدنيا ليقطع به المسافة و يجتهد في دفع نصره.

و القميّ: الظنّ هاهنا بمعنى الشكّ أي من شكّ أنّ اللّه يصيبه و ينصره في الدنيا و الآخرة فليمدد دليلا إلى السماء أي يجعل بينه و بين اللّه دليلا حتّى يميّز الحقّ من الباطل و جاء السبب بمعنى الدليل قوله تعالى: «وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً

ص: 218


1- الانعام: 53.

فَأَتْبَعَ سَبَباً» (1) أي دليلا و معنى «فليقطع» أي يميّز قوله: «وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً» (2) أي ميّزناهم و الكيد بمعنى الحيلة كقوله تعالى: «كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ» (3) أي احتلنا له حتّى حبس أخاه و كذلك قول فرعون: «فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ» (4) أي حيلتكم و حاصل المعنى: إذا وضع لنفسه دليلا و ميّز ثبت له الحقّ بأنّ اللّه ينصره.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 16 الى 18]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (17) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)

و مثل ما تقدّم من آيات القرآن [أنزلنا] القرآن [آياتٍ بَيِّناتٍ] و حججا واضحات على التوحيد و الشرائع و العدل و أنزلنا إليك هذا البيان [أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي] إلى الدين [من] يهتدي بهداه و يقبل هدايته فيريد سبحانه أو إلى الثواب أو إلى النبوّة و حاصل المعنى:

أنّ الآيات بيّنات و دلائل للمعرفة بالتوحيد و التكليف لمن يهتدي و يقبل الحجج.

قوله: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] اعلم أنّه تعالى لمّا قال: «وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ» شرح في هذه الآيتين من يهديه و من لا يهديه و من المعلوم أنّ الاختلاف الواقعة في اصول الأديان محصورة في هذه الأقسام الثلاثة الّتي سنذكر من طبقات ثلاثة:

فقسم مشارك في نبوّة النبيّ مع المسلمين إلّا أنّهم مختلفين في بعض المسائل كمثبتي الرؤية و منكريها و الجبريّة و العدليّة و أمثالها.

و ثانيها الّذين يخالفون في النبوّة و لكن يشاركون في الاعتراف بالفاعل المختار كالاختلاف بين المسلمين و اليهود و النصارى في نبوّة محمّد و موسى و عيسى عليهم السّلام.

ص: 219


1- الكهف: 84.
2- الأعراف: 159.
3- يوسف: 77.
4- طه: 64.

و ثالثها: الّذين يخالفون في الإله مع المسلمين، و هؤلاء هم السوفسطائيّة المتوقّفون في الحقائق و الدهريّة الّذين لا يعترفون بوجود مؤثّر في العالم و الفلاسفة الّذين يثبتون موجبا مؤثّرا لا مختارا فصارت هذه ثلاث طبقات.

و لا شكّ أنّ القسم الثالث أعظم جهات الخلاف من القسمين الأوّلين و هذا القسم الثالث بأقسامه الثلاثة ليسوا في العالم متظاهرين بعقائدهم و مذاهبهم بل مستترين كانوا إلى زمان قبيل زماننا و ليس للإنسان أن يضيع القلم و القرطاس بذكر هؤلاء الأرجاس.

و أمّا القسم الثاني و هو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السّلام فتقسيمه أن يقال:

القائلون بالفاعل المختار إمّا أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء أو لا يكونوا معترفين بذلك، أمّا المعترفون بذلك فإمّا أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيّا في الحقيقة أو لمن كان متنبّئا أمّا أتباع الأنبياء عليهم السّلام فهم المسلمون و اليهود و النصارى و فرقة اخرى بين اليهود و النصارى و هم الصابئون و أمّا أتباع المتنبّئ فهم المجوس، و أمّا المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام و الأوثان و هم المسمّون بالمشركين و يدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم فالأديان الحاصلة بسبب الاختلافات هي هذه الستّة الّتي ذكرها اللّه في الآية و هذه الستّة تتشعّب شعبا كثيرة واحدة للّه و هو الإسلام و الباقي للشيطان.

و بالجملة [إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] و يبيّن المحقّ من المبطل فيبيّض وجه المحقّ و يسوّد وجه المبطل و الفصل يمكن أن يقع بأمور متعدّدة في الأحوال و الأماكن و العلائم غير البياض و السواد [إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] عليم مطّلع على ما من شأنه أن يشاهد بعلمه قبل أن يكون لأنّه علّام الغيوب.

ثمّ خاطب النبيّ و المكلّفين فقال: [أَ لَمْ] تعلم [أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ] من العقلاء.

فلو قيل: إنّ جميع من في الأرض لا يسجدون للّه.

فالجواب من وجهين: الأوّل: لو لا قوله: [وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ]- خبره «مثاب» محذوف بقرينة حقّ عليه العذاب- لكان الإيراد واردا لكنّه بقوله: و كثير يبيّن أنّ البعض يسجدون و البعض لا يسجدون. هذا إذا كان المراد بالسجود هذا الفعل

ص: 220

المخصوص و أمّا إذا كان المراد من معنى السجود الانقياد و الذلّة لخالقها فالكلّ من الموجودات مشترك و داخل في السجود و ليس شي ء إلّا يسبّح بحمده و بيانه أنّ كلّ ما سوى اللّه تعالى مفتقر ممكن لذاته و الممكن لذاته لا يترجّح وجوده على عدمه إلّا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال سبحانه: «وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» (1) و كما أنّ الإمكان لازم للممكن حال حدوثه و حال بقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه و حال بقائه و هذا الافتقار الذاتيّ اللازم للماهيّة أدلّ على الذلّة و الخضوع من وضع الجبهة على الأرض و إنّ وضع الجبهة على الأرض علامة وضعيّة للدلالة على الذلّة و الانقياد و الافتقار الذاتيّ و قد يتطرّق إليه الكذب أمّا نفس الافتقار الذاتيّ فممتنع التغيّر فجميع الممكنات ساجدة و خاضعة متذلّلة للّه بهذا المعنى أو المراد سجود ظلّها كقوله: «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ» (2).

قوله: [وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ] و انقطع ذكر الساجدين ثمّ ابتدأ فقال: و كثير حقّ عليه العذاب أي ممّن أبى السجود و لا يوحّده.

[وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ] أي من يهينه اللّه و يشقيه و يدخله جهنّم فماله من مكرم بالسعادة و لا يملك العقوبة و المثوبة سواه [إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ] من الإنعام و الانتقام بالفريقين من المؤمن و الكافر.

و في التوحيد عن الصادق عليه السّلام عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قيل له: إنّ رجلا يتكلّم في المشيّة فقال: ادعه لي قال: فدعي له فقال له: يا عبد اللّه خلقك اللّه لما شاء أو لما شئت؟ قال: لما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: إذا شاء قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: إذا شاء قال: فيدخلك حيث يشاء أو حيث تشاء؟ قال: حيث يشاء قال:

فقال عليّ عليه السّلام: لو قلت غير هذا لضربت الّذي فيه عيناك.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 19 الى 24]

هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ (20) وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)

وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)

ص: 221


1- النجم: 44.
2- النحل: 48.

النزول: نزلت في ستّة نفر من المؤمنين و الكفّار تبارزوا يوم بدر: حمزة بن عبد المطّلب قتل عتبة بن ربيعة، و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قتل الوليد بن عتبة، و عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب قتل شيبة بن ربيعة، عن أبي ذرّ الغفاريّ و عطاء، و كان أبو ذرّ يقسم باللّه أنّها لنزلت فيهم، و رواه البخاريّ في الصحيح أيضا. و قيل: نزلت في أهل القرآن و أهل الكتاب. و قيل: في المؤمنين و الكافرين.

المعنى: لمّا تقدّم ذكر المؤمنين و الكافرين شرح في هذه ما أعدّ اللّه لهما فقال:

[هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا] الخصم يستوي فيه الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث يقال رجل خصم و رجلان خصم و رجال خصم؛ فيجوز في الكلام أن يقال: هذان خصمان اختصموا و هؤلاء خصم اختصموا قال: «وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ» (1) و هكذا حكم المصادر لو أخبر بها نحو عدل و صوم و فطر و إنّما قال في الآية: «خَصْمانِ» تثنية الجمعين و ليس المراد برجلين مثل قوله: «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (2).

و بالجملة هذان خصمان أي جمعان، فالفرق الخمسة الكافرة خصم و المؤمنون خصم و قد ذكرهم اللّه في الآية السابقة بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» (3) اختصموا [فِي] دين [رَبِّهِمْ] فقالت اليهود و النصارى للمسلمين: نحن أولى باللّه منكم لأنّ نبيّنا قبل نبيّكم و ديننا قبل دينكم و قال المسلمون: بل نحن أحقّ باللّه منكم آمنّا بكتابنا و بكتابكم و نبيّنا و نبيّكم و كفرتم أنتم بنبيّنا حسدا فهذا خصومتهم و قيل: خصومتهم يوم بدر فبيّن اللّه ما أعدّ

ص: 222


1- ص: 21.
2- الحجرات: 10.
3- الحج: 17.

للخصمين و قوله «هذان» أتى بالتثنية باعتبار اللفظ و «اختصموا» باعتبار المعنى.

قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أنا أوّل من يجثو للخصومة بين يدي اللّه القميّ قال: نحن و بنو اميّة؛ نحن قلنا: صدق اللّه و رسوله و قالت بنو اميّة: كذب اللّه و رسوله و في الخصال مثله و زاد: فنحن الخصمان يوم القيامة.

[فَالَّذِينَ كَفَرُوا] فصّلت [و قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ] على قدر جثثهم الخبيثة ثياب [مِنْ نارٍ] و لعلّ المراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» (1) و لكن هذا المعنى خلاف الظاهر و الأولى قول سعيد بن جبير: ثياب من نحاس اذيب بالنار يلبسونها نحو قوله تعالى: «سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ» (2) و أخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله: «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ»* لأنّ ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع.

و [يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ] الماء المغليّ الحارّ [يُصْهَرُ بِهِ] و يذاب بسبب ذلك الماء [ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ] فيذاب أحشاؤهم كما يذاب به جلودهم قال ابن عبّاس: لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها و هو مثل قوله تعالى: «وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» (3) بل أبلغ.

قوله: [وَ لَهُمْ مَقامِعُ] المقامع السياط و ما يضرب به في الحديث: لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما نقلوها و ما أقلعوها من الأرض.

[كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها] من الغمّ و الكرب الّذي يأخذ بأنفاسهم أعيدوا فيها أي كلّما حاولوا الخروج من النار [أُعِيدُوا فِيها] قهرا و ذلك أنّ النار ترميهم بلهبها حتّى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع و أعمدة من حديد فهووا فيها سبعين خريفا فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفير لهبها فلا يستقرّون ساعة.

[و يقال لهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ] و الذوق طلب إدراك الطعم و الحريق الغليظ من النار العظيم الإهلاك.

ص: 223


1- الأعراف: 40.
2- ابراهيم: 50.
3- محمد: 15.

و هذا الترتيب لأحد الخصمين و للخصم الآخر الّذين هم المؤمنون فقال: [إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا] باللّه و أقرّوا وحدانيّته [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] فذكر سبحانه حكمه في المؤمنين بأربعة أوجه:

المسكن بقوله «جنّات».

و الثاني الحلية و الزينة أي يلبسون افتخارا الحليّ و الحلل يحلّون في الآخره و الجنّة من أساور و هي حليّ اليد من ذهب و لؤلؤ.

و الثالث [لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ] أي ديباج حرّم سبحانه في الدنيا على الرجال لبس الحرير و شوّقهم في الآخرة بعوضها فبيّن أنّ ما حرمتم في الدنيا تستدركون في الآخرة و لو قلت: إن النساء شاركنهم في الآخرة مع أنّها ليست بمحرّمة عليهنّ في الدنيا و ذلك المحلّل لهنّ في الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ليس بشي ء و هو يسير.

و الرابع [وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ] و فيه وجوه ارشدوا و خوطبوا في الجنّة بالتحيّات الحسنة يحيّي بعضهم بعضا و يحيّيهم اللّه و ملائكته. و قيل: ارشدوا إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه و الحمد للّه و اللّه أكبر. و قيل: إلى القرآن. و قيل: إلى القول الّذي يلتذّونه و يشتهونه و يطيب به نفوسهم و يمكن أن يؤوّل بوجه آخر و هو أنّ العلاقة البدنيّة جارية مجرى الحجاب للأرواح البشريّة في الاتّصال بعالم القدس فإذا فارقت أبدانها انكشف الغطاء و لاحت الأنوار الإلهيّة فظهور تلك الأنوار الهداية [إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ].

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 25 الى 30]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

ص: 224

النزول: قال ابن عبّاس: نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب و أصحابه حين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عام الحديبية عن المسجد الحرام عن أن يحجّوا و يعتمروا و ينحروا الهدي فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قتالهم و كان محرما بعمرة ثمّ صالحوه على أن يعود في العام القابل.

و بالجملة [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ] الناس [عَنْ] طاعته و عطف المضارع لعلّ المراد بالمضارع الماضي و يؤيّده قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (1) و يمكن أن يكون المراد كفروا فيما مضى و هم الآن يصدّون و يمنعونهم عن عبادة اللّه [وَ] عن [الْمَسْجِدِ الْحَرامِ] الّذي جعلناه للنّاس مستقرّا و منسكا و متعبّدا. أو المعنى أنّه جعلناه للنّاس وقفا لم يخصّ به بعض دون بعض.

ثمّ قال: [سَواءً] أي جعلنا المقيم و الغريب فيه سواء. و كلمة «سواء» مفعول ثان لجعلناه. و قيل: معنى العاكف الغريب إذا جاوره و لزمه للتعبّد و إن لم يكن من أهله.

و اختلفوا في معنى التسوية قال ابن عبّاس: يستويان في سكنى مكّة و النزول بها فليس أحدهما أحقّ بالمنزل من الآخر إلّا أن يكون واحد أسبق في النزول من الآخر و على هذا كراء دور (2) مكّة و بيعها حرام فسبيلها سبيل المساجد للامّة و الخبر قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مكّة مباح لمن سبق إليها.

و القول الثاني أنّ المراد من التسوية أن جعل اللّه الناس في العبادة في المسجد سواء ليس للمقيم أن يمنع البادي و بالعكس. و المراد من المسجد الحرام قيل: عين المسجد الّذى يصلّى فيه. و قيل: المراد الحرم كلّه لقوله: «أَسْرى بِعَبْدِهِ (لَيْلًا) مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» (3)

ص: 225


1- محمد: 1.
2- جمع الدار.
3- بنى إسرائيل: 1.

و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان في نفس المسجد بل عرج من بيت أمّ هاني.

و الحاصل: جعلناه للنّاس قبلة لصلاتهم و منسكا لحجّهم فالعاكف و الباد سواء في حكم النسك؛ و ذلك لأنّ المشركين كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام و الطواف به و يدّعون أنّهم أربابه و ولاته؛ في الحديث: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا بني عبد مناف من ولّى منكم من امور الناس شيئا فلا يمنعنّ عن أحد أطاف بهذا البيت أو صلّى أيّة ساعة من ليل أو نهار.

أمّا قوله: [وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ] بفتح الياء أيضا قرئ من الورود، و معناه:

و من يرد أن يميل فيه عن الحقّ إلى الباطل ظالما. قيل: هو الشرك و عبادة غير اللّه فيه.

و قيل: كلّ شي ء نهي عنه حتّى شتم الخادم و لو دخول مكّة من غير إحرام لأنّ الذنوب هناك أعظم.

قال ابن عبّاس: نزلت في عبد اللّه بن سعد حيث استسلمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فارتدّ مشركا أو في عبد اللّه بن قطل حين قتل الأنصاريّ و هرب إلى مكّة كافرا فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقتله يوم الفتح كافرا. و قيل: المراد قتل ما نهى اللّه عنه من الصيد و ارتكاب ما لا يحلّ للمحرم. و قيل: إنّه الاحتكار. و قيل: المنع عن عمارته. و قيل: قول الرجل في المبايعة لا و اللّه و بلى و اللّه. و قول المحقّقين: أنّ الإلحاد بظلم عامّ في كلّ المعاصي.

قال ابن مسعود: لو أنّ رجلا بعدن همّ بأن يعمل سيّئة عند البيت أذاقه اللّه عذابا أليما.

و في نهج البلاغة في كتاب كتبه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى قثم بن العبّاس بن عبد المطّلب و هو عامله على مكّة و أمر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا فإنّ اللّه سبحانه يقول: «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ» و العاكف المقيم به و البادي الّذي يحجّ إليه من غير أهله.

و في الكافي عن الصادق صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ معاوية أوّل من علّق على بابه مصراعين بمكّة فمنع حاجّ بيت اللّه مع ما قال اللّه عزّ و جلّ: «سَواءً الْعاكِفُ (فِيهِ) وَ الْبادِ» كان الناس إذا قدموا مكّة نزل البادي على الحاضر حتّى يقضي حجّه و كان معاوية صاحب السلسلة الّتي قال اللّه سبحانه:

ص: 226

«فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً» (1) و كان فرعون هذه الامّة.

و في التهذيب عنه عليه السّلام: كانت دور مكّة ليس على شي ء منها باب و كان أوّل من علّق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان و ليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاجّ شيئا من دور مكّة و منازلها.

و في العلل عنه عليه السّلام في هذه الآية قال: لم يكن ينبغي أن يوضع على دور مكّة أبواب لأنّ للحاجّ أن ينزلوا معهم في دورهم في ساحة الدار حتّى يقضوا مناسكهم، و إنّ أوّل من جعل لدور مكّة أبوابا معاوية و قد استحقّ ما أعدّ اللّه له من عذاب الحريق.

القميّ في تفسير العذاب الحريق عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: قلت له:

يا ابن رسول اللّه خوّفني فإنّ قلبي قسا فقال: يا با محمّد استعدّ للحياة الطويلة فإنّ جبرئيل جاء إلى رسول اللّه و هو قاطب و قد كان قبل ذا يجي ء متبسّما فقال رسول اللّه:

يا جبرئيل جئتني اليوم قاطبا؟ فقال: يا محمّد قد وضعت منافخ النار، فقال: و ما منافخ النار يا جبرئيل؟ فقال: يا محمّد إنّ اللّه عزّ و جلّ أمر بالنار فنفخ عليها ألف عامّ حتّى ابيضّت ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لو أنّ قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها و لو أنّ حلقة واحدة من السلسلة الّتي طولها سبعون ذراعا وضعت على جبال الدنيا لذابت من حرّها و لو أنّ سربالا من سرابيل أهل النار علّق بين السماء و الأرض لمات أهل الأرض من ريحه و وهجه قال: فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بكى جبرئيل فبعث اللّه إليهما ملكا فقال لهما: ربّكما يقرؤكما السلام و يقول: قد أمنتكما أن تذنبا ذنبا أعذّبكما عليه فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فما رئي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضاحكا بعد ذلك فقال: أبو عبد اللّه عليه السّلام حسبك يا با محمّد؟ قلت: حسبي حسبي.

و بالجملة قال الصادق عليه السّلام: كلّ ظلم إلحاد و سئل عن أدنى الإلحاد فقال:

إنّ الكبر أدناه حتّى أنّ في العلل عنه عليه السّلام: أنّه قيل له: إنّ سبعا من سباع الطير على الكعبة ليس بمرّ به شي ء من حمام الحرم إلّا ضربه فقال: انصبوا له و اقتلوه فإنّه قد

ص: 227


1- الحاقة: 32.

ألحد في الحرم.

و في الكافي عنه عليه السّلام في هذه الآية قال: نزلت فيهم حيث دخلوا الكعبة فتعاهدوا و تعاقدوا على كفرهم و جحودهم بما نزل في أمير المؤمنين عليه السّلام فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول و وليّه فبعدا للقوم الظالمين.

و القميّ قال: نزلت فيمن يلحد في أمير المؤمنين عليه السّلام و يظلمه.

قوله تعالى: [وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ] أي و اذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة و مرجعا يرجع إليه للعمارة و العبادة. و كان قد رفع البيت إلى السماء أيّام الطوفان و كان من ياقوتة حمراء فأعلم اللّه سبحانه إبراهيم مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله فبناه على وضعه الأوّل، و قيل: امر إبراهيم بأن يأتي موضع البيت و يبني فخفي عليه مكان البيت فبعث اللّه على قدر البيت الحرام في العرض و الطول غمامة و فيها رأس يتكلّم و له لسان و عينان فقال: يا إبراهيم ابن على قدري و حيالي فأخذ في البناء و ذهبت السحابة.

قوله: [أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً] و حاصل معنى التبوئة لإبراهيم و جعله مسكنا له لأن يكون بقلبه موحّدا لربّ البيت عن الشريك و يكون مكلّفا بتطهير البيت و تنظيفه عن الأوثان و الشرك و عبادة الأصنام و معنى «لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ» و الحالة أنّ إبراهيم لم يشرك باللّه أنّه لا تشرك بي غرضا آخرا في بناء البيت و كذلك لا تشرك في العبادة غيري.

فلو قيل: إنّ البيت ما كان معمورا في زمن إبراهيم فكيف قال: [وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ]؟

يمكن أن يكون ذلك المكان كان صحراء و كانوا يرمون إليها الأقذار فأمر بتطهيره أو كانوا قد وضعوا فيها أصناما لمّا قد سمعوا أنّ قبلهم كانوا جماعة يعبدون الأصنام فأمر بتخريب ذلك البناء و وضع بناء جديد و ذلك هو التطهير عن الأوثان، أو المراد أنّك بعد أن تبنيه فطهّره عمّا لا ينبغي من الشرك و قول الزور.

و أمّا قوله: [لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ] أي للطائفين بالبيت من غير أهل مكّة و القائمين أي المقيمين بها و الركّع [السُّجُودِ] أي من المصلّين و الجامعين بين الركوع و السجود.

ص: 228

قوله [وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ] أي و ناد يا إبراهيم في الناس و أعلمهم بوجوب الحجّ.

و اختلف في المخاطب به على قولين:

أحدهما أنّه إبراهيم عليه السّلام عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس و اختاره أبو مسلم قال ابن عبّاس: قام إبراهيم عليه السّلام في المقام فنادى: يا أيّها الناس إنّ اللّه دعاكم إلى الحجّ فأجابوا بلبّيك اللهمّ لبّيك.

و الثاني أنّ المخاطب به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأذّن في حجّة الوداع أي أعلمهم بوجوب الحجّ.

و لكن جمهور المفسّرين على القول الأوّل و قالوا: قد أسمع اللّه تعالى قول إبراهيم كلّ من سبق علمه بأنّه يحجّ إلى يوم القيامة كما أسمع سليمان مع ارتفاع منزلته و كثرة جنوده حوله صوت النملة مع خفضه و سكونه. و في رواية عطا عن ابن عبّاس قال: لمّا أمر اللّه سبحانه إبراهيم أن ينادي في الناس بالحجّ صعد أبا قبيس و وضع إصبعيه في أذنيه و قال: أيّها الناس أجيبوا ربّكم فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال و أوّل من أجابه أهل اليمن.

[يَأْتُوكَ رِجالًا] أي مشاة على أرجلهم [وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ] أي ركبانا يريد الإبل و لا يدخل بعير و لا غيره الحرم إلّا و قد هزل. و روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال لبنيه: يا بنيّ حجّوا إليها مشاة فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: للحاجّ الراكب بكلّ خطوة يخطوها راحلته سبعون حسنة و للحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل: و ما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف.

[يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] الضمير راجع إلى جماعة الإبل الضامرة و قرئ «يأتون» صفة للرجال. و قرئ «الرجال» كنيام جمع نائم و قرئ «رجالا» بضمّ الراء محفّف الجيم و مثقّله، و «رجّال» مشدّدة كعجّال. و بدأ اللّه بذكر المشاة تشريفا لهم. و إنّما قال في الآية «يَأْتُوكَ» لأنّ إبراهيم عليه السّلام هو الّذي نادى الناس فكأنّه هو المأتيّ من كلّ طريق بعيد.

و روي مرفوعا عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ اللّه تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة يقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أقبلوا يضربون (1)ر.

ص: 229


1- من الضرب في الأرض بمعنى السفر.

إليّ من كلّ فجّ عميق فاشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم و شفعت رغبتهم و وهبت مسيئهم لمحسنهم و أعطيت محسنهم جميع ما سألوني غير التبعات الّتي بينهم فإذا أفاض القوم إلى جمع و وقفوا و عادوا في الرغبة و الطلب إلى اللّه يقول: يا ملائكتي عبادي و قفوا و عادوا في الرغبة و الطلب فاشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم و شفعت رغبتهم و وهبت مسيئهم لمحسنهم و أعطيت محسنهم جميع ما سألني و كفّلت عنهم بالتبعات الّتي بينهم.

و في الكافي و التهذيب عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ ثمّ أنزل اللّه: «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» الآية، فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم: إنّ رسول اللّه يحجّ في عامه هذا فعلم به من حضر بالمدينة و أهل العوالي و الأعراب و اجتمعوا بحجّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون به فيتّبعونه أو يضع شيئا فيضعونه الحديث.

أمّا قوله: [لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ] قيل: المراد المنافع للتجارات في الدنيا و الثواب في الآخرة. و قيل: المراد منافع الآخرة و هي العفو و المغفرة و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام أي ليحضروا ما ندبهم اللّه إليه من النفع و إنّما نكّر المنافع لأنّه أراد منافع راجعة مختصّة بهذه العبادة دينيّة و دنيويّة لا توجد في غيرها.

[وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ] و اختلف في هذه الأيّام و في الذكر فيها فقيل: أيّام العشر و إنّما قيل لها «معلومات» للحرص على علمها من أجل أنّ وقت الحجّ في آخرها و منافع عملها معروفة كيوم عرفة و المشعر الحرام و كذلك يوم النحر فالمعلومات عشر ذي الحجّة و المعدودات أيّام التشريق. و قيل: بالعكس.

و المراد بالذكر قيل: التسمية على ما ينحر لأنّ المسلم إذا ذبح و نحر يذكر اسم اللّه لأنّ الغرض الأصليّ فيما يتقرّب به أن يذكر اسم اللّه و أن يخالف المشركين حيث إنّهم يذكرون اسم آلهتهم وقت الذبح و النحر و إنّ المسلم إذا ذبح يتصوّر بإراقة دمها بصورة من يفدي نفسه فكأنّه يبذل تلك الذبيحة عوض مهجته طلبا لمرضاة اللّه. و قيل:

إنّ الذكر كناية عن الذبح و لمّا كان صحّة الذبح بالتسمية سمّي ما سمّي الذبح بالذكر توسّعا. و قيل: هو التكبير؛ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: التكبير بمنى عقيب خمس عشر صلوات

ص: 230

أوّلها لصلاة الظهر من يوم النحر يقول: اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر للّه الحمد اللّه أكبر على ما هدانا و الحمد للّه على ما أبلانا و اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام أصلها من الإبهام و ذلك أنّها لا تفصح كما يفصح الحيوان الناطق و الأنعام الإبل و اشتقاقها من النعومة و هي اللين سمّيت بذلك للين أخفافها و قد يجتمع معها الغنم و البقر فيسمّى الجميع أنعاما اتّساعا و ان انفردا لم يسمّيا أنعاما.

[فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ] أي فكلوا من بهيمة الأنعام الّتي تذبحونها و هذا إباحة و ندب و ليس بواجب و قيل: بوجوب الأكل لأنّ أهل الجاهليّة ما كانوا يأكلونها ترفّعا على الفقراء و أطعموا منها الّذي ظهر عليه أثر البؤس من الجوع و العرى و قيل: البائس الّذي يمدّ يده بالسؤال و يتكفّف للطلب أمر سبحانه أن يعطي هؤلاء من الهدي ثمّ بعد الهدي [لْيَقْضُوا] ليزيلوا [تَفَثَهُمْ] و التفث كلّ كراهة تلحق الإنسان فحينئذ يدفعون عن أنفسهم كقصّ الشارب و تقليم الأظافير و إزالة شعر العانة و غسل و استعمال طيب و أمثالها. قال المبرّد: أو نطفوا به سألت أعرابيّا ما معنى التفث؟ قال:

ما افسّر القرآن لكنّا نقول للرجل: ما أتفثك أي ما أدرنك.

[وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] و قرئ بتشديد الفاء في «يوفوا» أي و ليتمّوا نذورهم الّتي نذروها من أعمال البرّ في أيّام الحجّ. و لم يقل: «بنذورهم» لأنّ المراد بالإيفاء الإتمام. قال ابن عبّاس: هو نحر ما نذروا من البدن أو المراد الإيفاء بما نذر الإنسان أن يتصدّق إن رزقه اللّه الحجّ. قال الطبرسيّ: و إن كان على الرجل نذور مطلقة الأولى و الأفضل أن يفي بها هناك.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام: و ليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبروا بولايتهم و يعرضون علينا نصرتهم و ليطّوّفوا بالبيت العتيق.

في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنه فقال: هو طواف النساء الّذي يستباح به وطء النساء و ذلك بعد طواف الزيارة فإنّه إذا طاف طواف الزيارة حلّ له كلّ شي ء إلّا النساء و سمّي عتيقا لأنّه أعتق من أن يملكه العبيد أو لأنّه أعتق من الطوفان و غرقت الأرض كلّها إلّا موضع البيت أو معنى العتيق القديم و هو أوّل بيت وضع

ص: 231

للنّاس بناه آدم و جدّده إبراهيم.

[ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ] أي أمر الحجّ و المناسك ذلك و التعظيم و حرمة ما لا يحلّ انتهاكه و تفخيم مناسكها خير عند اللّه في الآخرة و قيل: المراد بالحرمات هاهنا البيت الحرام و البلد الحرام و الشهر الحرام.

[وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ] ثمّ عاد إلى بيان حكم فقال:

و احلّت فقد كان يجوز أن يظنّ أنّ الإحرام إذا حرّم الصيد و غيره فالأنعام أيضا تحرم عليه فبيّن اللّه أنّ الإحرام لا يؤثّر فيها فهي محلّلة و استثني منها ما يتلى في كتاب اللّه من المحرّمات في سورة المائدة مثل ما لم يذكر اسم اللّه عليه و الموقوذة و المنخنقة و الميتة و أشباهها.

[فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ] أي اجتنبوا الرجس الّذي هو الأوثان و روى أصحابنا أنّ اللعب بالشطرنج و النرد و أنواع القمار من ذلك و قيل: إنّهم كانوا يلطّخون الأوثان بدماء قرابينهم فسمّي ذلك رجسا.

[وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ] يعني الكذب. و قيل: المراد هو تلبية المشركين: لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه و ما ملك. و روى أصحابنا أنّه يدخل فيه الغناء و سائر الأقوال الملهية. و روى أيمن بن خريم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قام خطيبا فقال:

أيّها النّاس عدلت شهادة الزور بالشرك باللّه ثمّ قرأ: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» يريد أنّه سبحانه قد جمع في النهي بين عبادة الوثن و شهادة الزور.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 31 الى 35]

حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

ص: 232

أي كونوا مستقيمي الطريقة على أمر اللّه و مائلين إلى دين اللّه و مخلصين إليه، و «حنفاء» منصوب على الحال، أي تمسّكوا بهذه الأمور الّتي أمرتم على وجه العبادة للّه وحده لا على وجه إشراك غير اللّه به [غَيْرَ مُشْرِكِينَ] باللّه.

[وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ] و سقط من السماء فتأخذه الطير بسرعة أي بعد الانخرار و السقوط تخطّف الطير لحمه [أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ] و تسقطه [فِي مَكانٍ سَحِيقٍ] مفرط في البعد كبعض المهاوي المهلكة المتلفة و أصل «تخطفه» تختطفه فشبّه سبحانه من أشرك حاله بحال من خرّ من السماء و اختطفته الطير فتفرّقت أجزاؤه في حواصلها أو بحال من عصفت به الريح حتّى هوت به و أسقطته في المهالك البعيدة فشبّه الإيمان في علوّ مقامه بالسماء و شبّه الشرك بالساقط و المهويّ المجتذبة للطيور السباع الغائبة في حواصلها و الشيطان الّذي يطرحه في ذلك الضلال بتلك الريح الّتي أهوته فهو هالك لا محالة.

[ذلِكَ] أي الأمر ذلك الّذي ذكرنا [وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ] أي الأعلام الّتي نصبها اللّه لطاعته. ثمّ اختلف في ذلك فقيل: هي مناسك الحجّ كلّها. و قيل: هي البدن و تعظيمها استسمانها و عن ابن عبّاس في رواية مقسم: و الشعائر جمع شعيرة و هي البدن إذا أشعرت و أعلمت عليها بأن يشقّ سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنّها هدي فالّذي يهدي مندوب إلي طلب الأثمن و الأغلى و يختارها عظام الأجسام سمانا غالية الأثمان و ترك المكاس في شرائها و قد كانوا يتغالون في ثلاثة و يكرهون المكاس في الثلاثة: الهدي و الاضحية و الرقبة.

[فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب، حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مكانه و أضاف التقوى إلى القلوب لأنّ حقيقة التقوى تقوى القلوب و صدق النيّة.

القميّ قال: المراد تعظيم البدن و جودتها. و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: إنّما يكون الجزاء مضاعفة في ما دون البدنة فإذا بلغ البدنة فلا تضاعف لأنّه أعظم ما يكون قال اللّه:

«وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» و عن الصادق عليه السّلام في قصّة حجّة الوداع:

و كان الهدي الّذي جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة و ستّين أو ستّة و ستّين بدنة و جاء

ص: 233

عليّ عليه السّلام بأربعة و ثلاثين أو ستّة و ثلاثين. و روي عن طريق العامّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برّة من ذهب.

[لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى] اعلم أنّ قوله «لَكُمْ فِيها مَنافِعُ» لا يليق إلّا بأن تحمل الشعائر على الهدي الّذي فيه منافع من ركوبها و نسلها و أصوافها و أوبارها و ألبانها، إلى أجل مسمّى أي وقت النحر و من قال: إنّ الشعائر مناسك الحجّ و دين اللّه فالمراد من المنافع الأجر و الثواب و الأجل المسمّى القيامة.

[ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ] أي محلّ الهدي و النحر و وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» (1) يعني حيث يحلّ نحرها. و أمّا البيت العتيق قيل: محلّه الحرم كلّه و دليله «فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» (2) أي الحرم كلّه فالمنحر على هذا القول كلّ مكّة و لكنّها تنزّهت عن الدماء إلى منى و منى من مكّة. و قال أصحابنا: إن كان الهدي للحجّ فمحلّه منى و إن كان للعمرة المفردة فمحلّه مكّة قبالة الكعبة بالجزورة، و محلّها حيث يحلّ نحرها.

[وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً] و قرئ «منسكا» بكسر السين و بالفتح أمّا الفتح فمعناه نسكا و عبادة مصدر ميميّ و بالكسر بمعنى الموضع و المعنى: إنّا شرعنا لكلّ امّة من الأمم السالفة من عهد إبراهيم إلى من بعده ضربا من القربان، و جعل العلّة في ذلك أن يذكروا اسم اللّه عليها و العرب كانت تذبح للصنم فسمّي العتير و العتيرة كالذبيح و الذبيحة.

[فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ] و كيفيّة النظم على وجهين:

أحدهما أنّ الإله واحد و إنّما اختلفت الشرائع باختلاف الأزمنة و المصالح بحسب حال المكلّف.

الثاني: فإلهكم إله واحد فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم اللّه فله أسلموا و أخلصوا له الذكر خاصّة بحيث لا يشوبه اشتراك البتّة فكونوا منقادا له، و من كان

ص: 234


1- المائدة: 98.
2- البرائة: 29.

كذلك كان مخبتا فلذلك قال: «وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» و المخبت المتواضع المخلص الخاشع أي بشّر المطمئنّين إلى اللّه.

ثمّ وصفهم فقال: [الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ] أي إذا خوّفوا باللّه خافوا، و لذلك الرحل أثران: أحدهما الصبر على المكاره و هو المراد بقوله: [الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ] و على ما يكون من قبل اللّه كالأمراض و المحن و المصائب و أمّا ما يصيبهم من قبل الظلمة أو من قبل أنفسهم فالصبر غير واجب بل إن أمكنه الدفع عن نفسه لزمه الدفع [وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ] أي الخدمة بنفسه و ماله أمّا الخدمة بالنفس إقامة الصلاة و الخدمة بالمال و هو المراد من قوله: [وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ] و هذان القسمان من الخدمة.

الأثر الثاني في حصول الوجل.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 36 الى 40]

وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)

«البدن» جمع بدنة سمّيت بذلك لعظم بدنها و جثّتها و هي الإبل لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ألحق البقر بالإبل، و قال قوم: البدن الإبل و البقر الّتي يتقرّب بها إلى اللّه في الحجّ و العمرة لأنّه إنّما سمّي بذلك لعظم البدن فالأولى دخولها فيه، أمّا الشاة فلا تدخل و إن كانت تجوز في النسك لأنّها صغيرة الجسم فلا تسمّى بدنة و كلّ ضخم بدن.

قوله: [وَ الْبُدْنَ] أي جعلنا البدن [لَكُمْ] من أعلام دينه و علائم مناسك الحج أي سوقها إلى البيت و تقليدها عبادة اللّه و [فِيها خَيْرٌ] كثير لكم في الدنيا و الآخرة

ص: 235

من الثواب. و قيل: المراد خير الآخرة لأنّه الغرض المطلوب.

[فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَ] في حال نحرها و هو أن يقول: اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر اللّهمّ منك و لك، صوافّ أي قياما مقيّدة على سنّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل:

المعنى: يكن البدن قائمات قد صففن أيديهنّ و أرجلهنّ و قرئ صوافن من صفون الفرس و هو أن تقوم على ثلاث و تنصب الرابعة على طرف سنبكه لأنّ البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث. و قرئ «صوافي» أي خوالص لوجه اللّه و لا تشركوا باللّه في التسمية على نحرها أحدا كما كان يفعله المشركون و لا يبعد أن يكون الحكمة في إصفافها ظهور كثرتها للناظرين فتقوى النفوس و يكون التقرّب بنحرها عند ذلك مزيد الأجر و يوجب التشويق للنحر و ظهور كثرة التكبير و إعلاء اسم اللّه.

[فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها] و المراد من وجوب الجنوب سقوطها إلى الأرض عبّر بذلك عن تمام خروج الروح منها من وجب الحائط إذا سقط و وجبت الشمس إذا غربت [فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ] قيل: القانع السائل و المعترّ الّذي يتعرّض للسؤال و لا يسأل. و قيل: بالعكس. و الأمر في «كلوا» للإباحة و الإذن، و قيل: للوجوب لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يستنكفون من أكلها و لهذا قيل: الأكل واجب إذا تطوّع قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في معنى القانع و المعترّ قال: القانع الّذي يقنع بما أعطيته و لا يسخط و لا يكلح و لا يلوي شدقه غضبا و القانع المارّ بك تطعمه يعتري عليك و لا يسأل؛ قال زهير الشاعر المشهور:

على مكثريهم حقّ من يعتريهم و عند المقلّين السماحة و البذل

و روي عنهم عليه السّلام: أنّه ينبغي أن يطعم ثلثه و يعطي القانع و المعترّ ثلثه و يهدي لأصدقائه ثلثه.

[كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ] يعني مثل ما وصفنا ذلّلنا هالكم حتّى لا تمتنع عمّا تريدون منها من النحر و الذبح بخلاف السباع الممتنعة، و لتنتفعوا بركوبها و نتاجها نعمة منّا عليكم [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ذلك قالت المعتزلة: هذا يدلّ على أنّ اللّه سبحانه أراد من الجميع أن يشكروا فدلّ هذا على أنّه يريد كلّ ما أمر به من من عصى و أطاع

ص: 236

لا كما يقوله أهل السنّة من أنّه تعالى لم يرد ذلك إلّا من المعلوم أنّه يطيع.

قوله: [لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ] لمّا كانت عادة الجاهليّة في القربان أنّهم يلوّثون بدمائها و لحومها الوثن و حيطان الكعبة بيّن في الآية أنّ القصد من النحر حصول التقوى بسبب هذا الأمر منكم و ليس المراد حصول الدم و اللحم نحو قوله «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» (1) و هو سبحانه غنيّ عن أن ينتفع بالأجسام الّتي هي اللحوم و الدماء، و هذا كناية عن القبول و كلّها يقبله الإنسان فيناله و يصل إليه.

[كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ] تقدّم ذكره [لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ] و هو أن يقول: اللّه أكبر على ما هدانا، في مقابلة هدايته لمعالم ديننا و مناسك حجّنا [وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ] الموحّدين و الّذين يعملون الأعمال الحسنة و يحسنون إلى غيرهم.

قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا] بشّر اللّه سبحانه المؤمنين بالنصرة و الغلبة على المشركين و دفع غائلتهم بأن يمنعهم عن أذى المؤمنين و ينصرهم عليهم.

ثمّ شرح حال المشركين بأنّهم خونة و كفرة لأنّهم خانوا اللّه و جعلوا له شريكا و كفروا نعمته و ذكروا غير اسم اللّه و تقرّبوا إلى الأصنام بالذبائح فقال: [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ].

قوله تعالى: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ] و هاهنا حذف كلمة «في القتال» و حذف المأذون فيه لدلالة كلمة «يقاتلون» بسبب كونهم مظلومين [بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] و المأذون فيه القتال و المأذون له أصحاب الرسول و الظالمون المشركون أخرجوهم من ديارهم حتّى لحق طائفة منهم بالحبشة ثمّ هاجروا إلى المدينة.

و سبب نزول الآية: كان المشركون لا زال يؤذون المسلمين و لا يزال يجي ء مشجوج و مضروب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يشكون عنده من أذى المشركين لهم فيأمرهم بالصبر و يقول: إنّي لم اومر بالقتال حتّى هاجر إلى المدينة ثمّ أنزل اللّه هذه الآية بالمدينة و هي أوّل آية نزلت في القتال.

ص: 237


1- فاطر: 10.

[الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ] المعنى: إنّ المسلمين اضطرّوا إلى الخروج من غير استحقاق للخروج و لم يخرجوا من ديارهم إلّا لقولهم:

ربّنا اللّه وحده. قال أبو جعفر عليه السّلام: نزلت في المهاجرين و جرت في آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذين اخرجوا من ديارهم و أخيفوا. و إذا كان المراد من الآية المهاجرين إلى الحبشة فالآية مكّيّة.

قوله تعالى: [وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ] و المراد بهذا الدفاع الّذي أضافه إلى نفسه الإذن في جهادهم و النصرة للمؤمنين على المشركين يعني: و لو لا دفاع اللّه أهل الشرك بالمؤمنين لمنع المشركون المؤمنين من العبادة و خربوا ما يبنونه من مواضع العبادة لكن دفع عن هؤلاء بأن أمرهم بقتال أهل الشرك ليفرغ أهل الدين للعبادة و بناء المعابد لها كالصوامع و البيع و الصلوات و إن كانت لغير أهل الإسلام، و لهدّمت المواضع المعدّة للعبادة في شرع كلّ نبيّ مثلا لكان هدّم في زمن موسى البيع لليهود و في زمن عيسى الصوامع للنصارى. و قيل: البيع للنصارى في القرى و الصومعة في الجبال و البراريّ و الصلوات كنائس اليهود. و قرئ «و صلوات» بضمّ الصاد و اللام معرّب صلوتا. و قيل: المرادعين الصلاة. و قيل: المراد المصلّيات و أماكن الصلاة كما قال «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى» (1) و أراد بالصلاة المساجد. و قيل: الصلوات معبد الصابئين و المساجد معبد المسلمين.

و بالجملة فحاصل المعنى أنّه لو لا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات و لخربت المساجد.

قوله: [يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً] يعني يذكر في المساجد أو في هذه الأمكنة المذكورة اسم اللّه كثيرا لأنّ الغالب فيها ذكر اسم اللّه.

[وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ] هذا وعد من اللّه بأنّه سبحانه سينصر دينه و شريعته [إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] أي قادر قاهر.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 41 الى 45]

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ (42) وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ (43) وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ (45)

ص: 238


1- النساء: 42.

ثمّ وصف سبحانه «من» في قوله: «من ينصره». و قال أبو جعفر عليه السّلام نحن هم و اللّه. القميّ عن الباقر عليه السّلام هذه الآية لآل محمّد و المهديّ عليه السّلام و أصحابه يملّكهم مشارق الأرض و مغاربها و يظهر الدين و يميت اللّه به و بأصحابه البدع و الباطل و كلّ ضلالة.

و في المناقب عن الكاظم و جدّه سيّد الشهداء عليهما السّلام: هذه فينا أهل البيت.

و الحاصل: فالمعنى أنّ الموصوفين هم الّذين إن أعطيناهم ما به يصحّ الفعل منهم و يتمكّنون في الأرض [أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ] أي أدّوا بحقوقها و أعطوا ما افترض اللّه عليهم من الزكاة [وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ] و هو كقوله: «وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ»* (1) و المعنى أنّه يبطل كلّ ملك سوى ملكه فتصير الأمور إليه بلا مانع.

ثمّ عزّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تكذيبهم إيّاه و خوّف مكذّبيه بذكر من كذّبوا أنبياءهم فاهلكوا فقال سبحانه:

[وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ] أي كلّ امّة من هؤلاء الأمم فقد كذّبت نبيّها. و أجرى الكلام مجرى التسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الصبر على ما هم كانوا عليه من أذى قومهم فقال:

و إن يكذّبوك قومك فكذلك فعلوا سائر الأمم أنبياءهم و ذكر اللّه بعض أسمائهم.

فإن قيل: و لم قال: [وَ كُذِّبَ مُوسى] و لم يقل: قوم موسى؟ لأنّ موسى ما كذّبه قومه بنو إسرائيل و إنّما كذّبه غير قومه و هم القبط أو إشعار بمبالغة بيان هذا الأمر يعني أنّ موسى أيضا مع وضوح آياته و عظم معجزاته كذّبوه فما ظنّك بغيره؟

[فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ] و أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي [ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ] بالعقوبة [فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ]؟ استفهام تقرير أي كيف إنكاري و غضبي عليهم بالعذاب أليس ابدّلهم بالنعمة نقمة و بالكثرة قلّة و بالحياة موتا و بالعزّة ذلّة و بالعمارة خرابا؟ أ لست أعطيت الأنبياءى.

ص: 239


1- البقرة: 210 و خمس سور اخرى.

ما وعدتهم من النصرة على أعدائهم و التمكين لهم في الأرض؟ فينبغي أن يكون عادتك يا محمّد الصبر عليهم فإنّه تعالى يمهل للمصلحة فلا بدّ من الرضا و التسليم و إن شقّ ذلك على القلب.

و اعلم أنّه بدون ذلك البيان يحصل التسلية لمن حاله دون حال الرسول من المؤمنين فكيف بذلك مع منزلته؟ لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ وقت يصل إليه من جهتهم ما يزيده غمّا كما يفصح عن هذا المعنى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما اوذي نبيّ مثل ما أوذيت؛ فصبّره اللّه حالا بعد حال إكراما له و قد تقدّم ذكر المكذّبين و وصف و بالغ عذابهم بالإنكار بحصول الأخذ و الأخذ كاشف عن حقيقة الإنكار.

قال بعض علماء العامّة: إنّ السبب في تأخير عذاب الاستئصال عن هذه الامّة أنّ ذلك العذاب مشروط بأمرين: أحدهما أنّ عند اللّه حدّ من الكفر من بلغه عذّبه و من لم يبلغه لم يعذّبه. و الثاني أنّ اللّه سبحانه لا يعذّب قوما حتّى يعلم أنّ أحدا منهم لا يؤمن، فأمّا إذا حصل الشرطان فحينئذ يأمر الأنبياء فيدعون على أممهم فيعذّبهم بعذاب الاستيصال و هو المراد بقوله «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» (1) أي من إجابة القوم و قوله لنوح:

«أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» (2) و إذا عذّبهم اللّه فإنّه ينجي المؤمنين لقوله:

«وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا- بالعذاب- نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» (3).

قوله تعالى: [فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها] و قرئ «أهلكتها» بالتاء بمناسبة «فأمليت» قال بعضهم: «كأيّن» المراد من معناه «كم» للتكثير و قيل: معناه «ربّ» و الأوّل أنسب في معنى الزجر من الثاني أي و كم من أهل قرى أهلكناها و أهلها ظالمون بالتكذيب و الكفر فالقرى خالية من أهلها و ساقطة على سقوفها [وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ] و كم من بئر باد أهلها و غار ماؤها و تعطّلت من دلائها فلا مستقى منها و لا وارد لها و كم من قصر مجصّص خاليا عن السكنة للعبرة.

و في تفسير أهل البيت: أي و كم من عالم لا يرجع إليه و لا ينتفع بعلمه. و في

ص: 240


1- يوسف: 110.
2- هود: 36.
3- هود: 62.

الإكمال و المعاني عن الصادق و في الكافي عن الكاظم عليهما السّلام: البئر المعطّلة الإمام الصامت و القصر المشيد الإمام الناطق. و إنّما كنّي عن الإمام الصامت بالبئر لأنّ الإمام منبع العلم الّذي هو سبب حياة الأرواح إلّا على من أتاه كما أنّ البئر منبع الماء الّذي هو سبب حياة الأبدان مع خفائها إلّا على من أتاها و كنّي عن صمته بالتعطيل لعدم الانتفاع بعلمه و كنّي عن الإمام الناطق بالقصر المشيد لظهوره و علوّ منصبه.

و في المعاني مقطوعا عن أمير المؤمنين عليه السّلام: هو القصر المشيد و البئر المعطّلة فاطمة عليها السّلام و ولدها معطّلين من الملك، و القصر مجدهم الّذي لا يرتقى و البئر علمهم الّذي لا ينزف.

قال الضحّاك: هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها «حاضورا» نزل بها أربعة آلاف ممّن آمن بصالح و معهم صالح فلمّا حضروا مات صالح فسمّي المكان حضرموت ثمّ إنّهم كثروا فكفروا و عبدوا الأصنام فبعث اللّه إليهم نبيّا يقال له حنظلة فقتلوه بالسوق فأهلكهم اللّه فماتوا عن آخرهم و عطّلت بئرهم و خرب قصر ملكهم و كان نبيّهم اسمه سنجاريب، أو سجاريب كان وزيرهم و كان ملكهم جابر.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 46 الى 51]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (50)

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)

ثمّ شرح سبحانه بما يزيد الاعتبار أيضا فقال:

[أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ] و الاعتبار و التنبّه يحصل بالرؤية و السماع و لذلك قال: أ فلم يسيروا و يسافروا ليروا مصارع من أهلكهم بكفرهم و يشاهدوا ما وقع عليهم و يتعقّلوا في قلوبهم و أذهانهم و يستمعون أخبارهم و يعتبروا بمن مضى قبلهم و المراد أنّ

ص: 241

قومك يا محمّد لم يسيروا في أرض اليمن و الشام.

[فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] و الضمير في «إنّها» للشّأن و القصّة و قوله «الَّتِي فِي الصُّدُورِ» من التأكيد الّذي يؤتى في الكلام كقوله «عَشَرَةٌ كامِلَةٌ» (1) و مثل قوله: «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ» (2) و «يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» (3) و المعنى أنّه لا عمى في أبصارهم فإنّهم يرون بها لكنّ العمى في قلوبهم حيث لم ينتفعوا بما أبصروا، و الإبصار يحصل و إن كانت العين عمياء بسبب البصيرة إذا كان أصحابها عارفين بالحقّ و إنّما يكون العمى عمى القلب الّذي يقع معه الجحود بوحدانيّة اللّه.

قوله: [وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ] و يستعجلونك يا محمّد بالعذاب المتوعّد به و يستبطئونه، و في ذلك دليل على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخوّفهم بالعذاب إن استبقوا على كفرهم و لن يخلف اللّه وعده في إنزال العذاب بهم.

[وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ] و اختلف في معناه على وجوه:

أحدها: أنّ يوما من أيّام الآخرة يكون كألف سنة من أيّام الدنيا، عن جماعة مثل ابن عبّاس و عكرمة و مجاهد و جماعة. و في رواية اخرى عن ابن عبّاس أنّه أراد أنّ يوما من الأيّام الّتي خلق اللّه فيها السماوات و الأرض كألف سنة، و يدلّ عليه ما روي أنّ الفقراء يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم خمس مائة عام و يكون المعنى على هذا أنّهم يستعجلون العذاب و أنّ يوما من أيّام عذابهم في الآخرة كألف سنة.

و ثانيها: أنّ المعنى: و إنّ يوما عند ربّك و ألف سنة في قدرته واحد فلا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب و بين تأخّره في القدرة إلّا أنّه تفضّل بالإمهال إذ لا يفوته شي ء.

و ثالثها: أنّ يوما واحدا كألف سنة في مقدار العذاب أي إنّه لشدّته و عظمته كمقدار عذاب ألف سنة من أيّام الدنيا على الحقيقة و كذلك نعيم الجنّة لأنّ يوما من أيّام نعيم الآخرة و سرورها مثل ما يكون في ألف سنة من أيّام الدنيا ثمّ الكافر

ص: 242


1- البقرة: 196.
2- آل عمران: 167.
3- الانعام: 38.

مع هذا يستعجل ذلك العذاب لجهله و هذا كقوله: أيّام السرور قصار و أيّام الهموم طوال؛ قال الشاعر:

يطول اليوم لا ألقاك فيه و حول نلتقي فيه قصير

و في إرشاد المفيد عن الباقر عليه السّلام قال: إذا قام القائم سار إلى الكوفة فهدم فيها أربعة مساجد و لم يبق على وجه الأرض مسجد له شرفة إلّا هدمها و جعلها حما و (؟) و وسّع الطريق الأعظم و كسر كلّ جناح خارج في الطريق و أبطل الكنيف و الميازيب إلى الطرقات و لا ترك بدعة إلّا أزالها و لا سنّة إلّا أقامها و يفتح قسطنطنيّة و الصين و جبال ديلم فيمكث على ذلك سبع سنين مقدار كلّ سنة منها ستّين من سنيكم هذه ثمّ يفعل اللّه ما يشاء.

قيل: فكيف يطول السنين؟ قال: يأمر اللّه الفلك بالثبوت و قلّة الحركة فتطول الأيّام كذلك و السنون، قيل له: إنّهم يقولون: إنّ الفلك إن تغيّر فسد، قال: ذلك قول الزنادقة فأمّا المسلمون فلا سبيل لهم إلى ذلك و قد شقّ اللّه القمر لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من قبله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ردّ الشمس ليوشع بن نون في قتال الجبابرة و أخبر بطول يوم القيامة و أنّه كألف سنة ممّا تعدّون.

و في الكافي عنهم عليه السّلام قال: فيما وعظ اللّه عيسى عليه السّلام: و اعبدني ليوم كألف سنة ممّا تعدّون.

قوله: [وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ] مرّ تفسيره أي كم من أهل قرية أمهلتها و أخّرت عذابها [ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَ] مصير كلّ واحد.

[قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ] قل يا محمّد لهم: إنّي مخوّف عن معاصي اللّه مبيّن لكم ما يجب عليكم فعله و ما يجب عليكم تجنّبه [فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ] من اللّه لمعاصيهم لمّا تقدّم في الآية السابقة الوعيد و بيان عذابهم أردفها بهذه الآية بالوعد للمؤمنين فقال: و الّذين آمنوا و عملوا الصالحات. لمّا بيّن اللّه للرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه يجب أن يقول لهم: أنا نذير مبين، أردف ذلك بأن أمره بوعدهم و وعيدهم فقال: «فَالَّذِينَ آمَنُوا» إلخ، فجمع بين الوصفين في الآيتين:

ص: 243

الوعد و الوعيد.

قال الرازيّ و هذا دليل على أنّ العمل الصالح خارج عن مسمّى الإيمان و به يبطل قول المعتزلة و يدخل في الإيمان كلّما يجب من الاعتقاد بالقلب و الإقرار باللسان و يدخل في العمل الصالح أداء كلّ واجب و ترك كلّ محظور، ثمّ بيّن سبحانه أنّ من جمع بينهما فاللّه يجمع له بين المغفرة و الرزق الكريم أمّا المغفرة فإمّا أن تكون عبارة عن غفران الصغائر أو عن غفران الكبائر بعد التوبة أو عن غفرانهما قبل التوبة و الأوّلان واجبان عند المعتزلة و أداء الواجب لا يسمّى غفرانا فيبقى الثالث و هو الدلالة على العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة. انتهى كلامه.

[وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ] أي نعيم الجنّة فإنّه أكرم نعيم في أكرم دار.

[وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ] أي بذلوا الجهد في إبطال آياتنا، و أصل السعي الإسراع في المشي معاجزين مغالبين أن يعجزوا اللّه، و المعاجزة المسابقة أي يفوتوه بالمكر و الحيل، و من قرأ «معجزين» معناه مثبّطين لمن أراد اتّباع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قاصدين تعجيز رسولنا أو ناسبين من تبع النبيّ إلى العجز [أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ] و ملازمو النار.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 52 الى 55]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)

في الكافي عنهما عليهما السّلام في هذه الآية أنّهما زادا «و لا محدّث» بفتح الدال فقال: الرسول الّذي يظهر له الملك فيكلّمه و النبيّ هو الّذي يرى في منامه و ربّما اجتمعت النبوّة و الرسالة لواحد و المحدّث الّذي يسمع الصوت و لا يرى الصورة قيل: كيف يعلم أنّ الّذي يراه في النوم حقّ و أنّه من الملك؟ قال: يوفّق لذلك حتّى يعرفه لقد ختم اللّه

ص: 244

بكتابكم الكتب و ختم بنبيّكم الأنبياء. و في معناه أخبار أخر فيه و في البصائر و غيرهما.

و في الكافي عن السجّاد: إنّ في القرآن آية كان عليّ بن أبي طالب يعرف قاتله بها و يعرف بها الأمور العظام الّتي كان يحدّث بها الناس ثمّ قال بعد ما سئل عنها:

هو و اللّه قول اللّه: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبيّ و لا محدّث» و كان عليّ بن أبي طالب محدّثا. و في البصائر ما يقرب منه، و فيه أنّه سئل: من يحدّثه؟ قال: ملك يحدّثه قيل له: إنّه نبيّ أو رسول قال: لا و لكن مثله مثل صاحب سليمان و مثل صاحب موسى و مثل ذي القرنين و أريد بصاحب سليمان آصف بن برخيا و بصاحب موسى يوشع بن نون. و في الكافي في عدّة روايات أنّ الأئمّة كانوا محدّثين كانوا يسمعون الصوت و لا يرون الملك. و كان من ألقاب فاطمة عليهما السّلام محدّثة، انتهى.

و قالت المعتزلة: كلّ رسول نبيّ و كلّ نبيّ رسول و لا فرق بينهما. و قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كم المرسلون؟ فقال: ثلاثمائة و ثلاثة عشر، فقيل: و كم الأنبياء؟ فقال:

مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا و على هذا يفرق بين الرسول و النبيّ.

و فرّقوا بين الرسول و النبيّ بأمور: أحدها أنّ الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه و النبيّ غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب و إنّما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله. و الثاني أنّ من كان صاحب المعجزة و صاحب الكتاب و نسخ شرع من قبله فهو الرسول و من لم يكن مستجمعا لهذه الخصال فهو النبيّ غير الرسول، و القائلين بهذا الكلام يلزمهم أن لا يجعلوا إسحاق و يعقوب و أيّوب و يونس و هارون و داود و سليمان رسلا لأنّهم ما جاءوا بكتاب ناسخ.

قوله: [وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ] ذكر بعض المفسّرين من العامّة من طريقهم في سبب نزول الآية أنّ الرسول لمّا رأى إعراض قومه عنه و شقّ عليه مباعدتهم عمّا جاءهم به تمنّى في نفسه أن يأتيهم من اللّه ما يقارب بينه و بين قومه و ذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من قريش كثير أهله و أحبّ يومئذ أن لا يأتيه من اللّه شي ء ينفروا عنه و تمنّى ذلك فأنزل اللّه سورة «وَ النَّجْمِ إِذا هَوى» فقرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

ص: 245

في صلاته حتّى بلغ قوله: «أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى* وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» (1) ألقى الشيطان على لسانه:

تلك الغرانيق العلى* منها الشفاعة ترتجى و معنى الغرنوق الحسن الجميل، فلمّا سمعت قريش ذلك فرحوا و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قراءته فقرأ السورة كلّها فسجد و سجد المسلمون لسجوده و سجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن و لا كافر إلّا سجد سوى الوليد بن المغيرة و ابن احيحة سعيد بن العاصي فإنّهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء و رفعاها إلى جبهتهما و سجدا عليها لأنّهما كانا شيخين كبيرين و لم يستطيعا السجود و تفرّقت قريش و قد سرّهم ما سمعوا و قالوا: قد ذكر محمّد آلهتنا بأحسن الذكر.

فلمّا أمسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتاه جبرئيل فقال: ماذا صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن اللّه، و قلت ما لم أقل لك؟ فحزن رسول اللّه حزنا شديدا و خاف من اللّه خوفا عظيما حتّى نزل قوله: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ» إلخ، و هذا القول السخيف رواية بعض المفسّرين الظاهرين.

قال الرازيّ: أمّا أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة و احتجّوا عليه بالقرآن و السنّة و المعقول.

أمّا القرآن فوجوه:

أحدهما: قوله: «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» (2).

و ثانيها: قوله: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» (3).

و ثالثها: قوله: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» (4) فلو أنّه

ص: 246


1- النجم: 21، 22.
2- الحاقة: 45- 47.
3- يونس: 15.
4- النجم: 4، 5.

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأ عقيب هذه الآية: تلك الغرانيق العلى، لكان قد ظهر كذب اللّه تعالى في الحال و ذلك لا يقوله مسلم.

و رابعها: قوله تعالى: «وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» (1) و كلمة «كاد» معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنّه لم يحصل.

و خامسها: قوله: «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» (2) و كلمة «لو لا» تفيد انتفاء الشي ء لانتفاء غيره فدلّ على أنّ ذلك الركون القليل لم يحصل.

و سادسها: قوله: «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» (3).

و سابعها: قوله: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» (4).

و أمّا السنّة فهي ما روى محمّد بن إسحاق بن خزيمة أنّه سئل عن هذه القصّة فقال:

هذا من موضوعات الزنادقة و صنّف فيه كتابا. و قال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقيّ: هذه القصّة غير ثابتة من جهة النقل ثمّ أخذ يتكلّم في أنّ رواة هذه القصّة مطعون فيهم و أيضا روى البخاريّ في صحيحه أنّ النبيّ عليه السّلام قرأ سورة و النجم و سجد فيها المسلمون و المشركون و الإنس و الجنّ و ليس فيه حديث الغرانيق و روي هذا الحديث من طرق كثيرة و ليس فيها البتّة حديث الغرانيق.

و أمّا المعقول فمن وجوه:

أحدها: أنّه غلط من جوّز على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعظيم الأوثان لأنّ من المعلوم أنّ أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.

و ثانيها: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يمكنه في أوّل الأمر أن يصلّي و يقرأ القرآن عند الكعبة أمنا من أذى المشركين له حتّى كانوا ربّما مدّوا أيديهم إليه و إنّما كان يصلّي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا لم يحضروها ليلا أو في أوقات خلوة فكيف يقع هذا الأمر؟

ص: 247


1- الإسراء: 73.
2- الإسراء: 74.
3- الفرقان: 32.
4- الأعلى: 6.

و ثالثها: أنّ معاداة قريش له كانت أعظم من أن يقنعوا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنّه عظّم آلهتهم حتّى خرّوا سجّدا مع تلك المخالفة الدائمة منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟

و رابعها: قوله: [فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ] و ذلك لأنّ إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان أقوى من نسخه بهذه الآيات الّتي تبقى الشبهة معها فإذا أراد اللّه إحكام الآيات لئلّا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى.

و خامسها- و هو أقوى الوجوه-: أنّا لو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه و جوّزنا في كلّ واحد من الأحكام و الشرائع أن يكون كذلك و يبطل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» (1) فإنّه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي و الزيادة فيه.

فبهذه الوجوه عرفنا أنّ هذه القصّة مجعولة موضوعة أكثر ما في الباب أنّ جمعا من المفسّرين ذكروها و ما بلغوا حدّ التواتر و خبر الواحد لا يعارض النصّ و الدلائل النقليّة و العقليّة و لنرجع الآن إلى التفسير. انتهى كلامه.

قال المرتضى رحمه اللّه: لا يخلو التمنّي في الآية من أن يكون معناه القراءة و التلاوة كما قال حسّان بن ثابت:

تمنّى كتاب اللّه أوّل ليلةو آخره لاقى حمام المقادر

أو يكون من تمنّي القلب فإن كان المراد التلاوة فالمعنى: أنّ من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤدّيه إلى قومه حرّفوا عليه و زادوا فيما يقوله و نقصوا كما فعلت اليهود و أضاف ذلك إلى الشيطان لأنّه يقع بغروره فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان و يدحضه بظهور حججه و خرج هذا على وجه التسلية للنبيّ لمّا كذب المشركون عليه و أضافوا إلى تلاوته من مدح آلهتهم ما لم يكن فيها.

و إن كان المراد تمنّي القلب فالوجه أنّ الرسول متى تمنّى بقلبه بعض ما يتمنّاه

ص: 248


1- المائدة: 70.

من الأمور وسوس إليه الشيطان و يدعوه بالباطل و ينسخ اللّه ذلك و يبطله بما يرشد إليه من مخالفة الشيطان و يحفظه من وساوسه.

قال السيّد: و أمّا الأحاديث المرويّة في هذا الباب فهي مجعولة مطعونة عند أصحاب الحديث. قال السيّد: و إن حمل ذلك على السهو فالساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة و نظمها لأنّا نعلم ضرورة أنّ الساهي لو أنشد قصيدة لم يجز أن يسهو حتّى يتّفق منه بيت شعر في وزنها خصوصا على الوجه الّذي يقتضيه فائدته لمرام المشركين في البين.

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا تلا القرآن على قريش توقّف في فصول الآيات و أتى بكلام على سبيل الحجاج لهم فلمّا تلا الآيات قال: تلك الغرانيق العلى؟ على سبيل الإنكار عليهم أي الأمر بخلاف ما قالوه و ظنّوه و ليس يمتنع أن يكون هذا في الصلاة لأنّ الكلام في الصلاة حينئذ كان مباحا و إنّما نسخ من بعد.

و قيل: إنّ المراد بالغرانيق الملائكة و قد جاء في بعض الحديث فتوهّم المشركون أنّه يريد آلهتهم. و قال البلخيّ: و يجوز أن يكون النبيّ سمع هاتين الكلمتين من قومه فلمّا قرأ القرآن ألقاها الشيطان في ذكره أن يقوله فعصمه اللّه و نسخ وسواس الشيطان عنه و أحكام آياته بأن قرأها محكمة سليمة.

و يجوز أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قرأ سورة النجم و انتهى إلى ذكر اللّات و العزّى قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا بهما صوته فألقاهما في تلاوته في غمار الناس فظنّ أنّ ذلك من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسجدوا عند ذلك. و هذا القول الآخر في غاية الوهن لأنّ الشيطان لو قدر على ذلك في حقّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكان اقتداره على الناس أكثر فهب أن يزيل جميع الناس عن الدين و قال اللّه: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» (1) و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سيّد المخلصين و المؤمنين، انتهى.

[ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ] و دلالاته حتّى لا يقع فيها غلط و لا سهو [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ] بكلّ شي ء [حَكِيمٌ] في أفعاله.

ص: 249


1- النحل: 99.

تذييل: في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام من بعض الحديث: يذكر اللّه لنبيّه ما يحدّث عدوّه في كتابه من بعده فقوله: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ» الآية يعني إنّه ما من نبيّ تمنّى مفارقة ما يقاسيه من نفاق قومه و عقوقهم و الاشتغال عنهم إلى دار الإقامة إلّا ألقى الشيطان المعترض بعداوته عند فقده في الكتاب الّذي انزل عليه ذمّ ذلك النبيّ و القدح فيه و الطعن عليه فينسخ اللّه ذلك من قلوب المؤمنين فلا يقبلوه و لا تقبله و لا تصغى إليه غير قلوب المنافقين و الجاهلين و يحكم اللّه آياته بأن يحمي أولياءه من الضلال و العدوان و شايعه أهل الكفر و الطغيان.

في الصافي روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصابه خصاصة فجاء إلى رجل من الأنصار فقال له: هل عندك من طعام؟ قال: نعم يا رسول اللّه، و ذبح له عناقا و شواه فلمّا أدناه منه تمنّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكون معه عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام فجاء فلان و فلان ثمّ جاء بعدهما عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام فنزلت الآية في ذلك: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبيّ و لا محدّث إلّا إذا تمنّى ألقى الشيطان في امنيّته» يعني زيد و عمرو فينسخ ما يلقي الشيطان يعني لمّا جاء عليّ عليه السّلام بعدهما ثمّ يحكم اللّه آياته بنصر اللّه لأمير المؤمنين.

قوله: [لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ] فشرح أثر تلك الوسوسة في حقّ الكفّار أوّلا فقال: ليجعل ذلك تشديدا في الاختبار و التكليف على الّذين في قلوبهم مرض الجهل و مرض الشكّ و الريب و النفاق و هم المنافقون و أمّا القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرّون على جهلهم ظاهرا و باطنا لتلزمهم الدلالة و الحجّة على الفرق بين ما يحكمه اللّه و بين ما يلقيه الشيطان.

[وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ] و قوله: «إِنَّ الظَّالِمِينَ» أصله على القاعدة أن يؤتى بالضمير و يقول: إنّهم فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم و المشاقّة و المباعدة على السويّة.

و أمّا في حقّ المؤمنين فهو قوله: [وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ] و في الضمير في «أنّه» ثلاثة أوجه: أحدها أنّها عائدة إلى نسخ ما ألقاه الشيطان.

ص: 250

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 299

و ثانيها إلى القرآن. و ثالثها تمكّن الشيطان من الإلقاء و الوسوسة أي ليعلم الّذين أوتوا العلم باللّه و بتوحيده و بحكمته أنّ القرآن حقّ لا يجوز عليه التبديل و التغيّر [فَيُؤْمِنُوا بِهِ] و يثبتوا و يزدادوا إيمانا إلى إيمانهم [فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ] و تخشع و تتواضع لقوّة إيمانهم [وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ] طريق واضح لا عوج فيه و يهديهم ربّهم بإيمانهم و بسبب ولاية عليّ عليه السّلام طريق الجنّة.

[وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً] أي لا يزال الكفّار في شكّ من القرآن أو من الرسول و هذا خاصّ فيمن علم اللّه أنّهم لا يؤمنون من الكفّار حتّى تأتيهم الساعة فجأة من دون أن يشعروا و جعل سبحانه الساعة غاية لكفرهم لأنّهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء و ذلك لا ينفعهم.

[أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ] قيل: إنّه يوم بدر، و سمّي عقيما ذلك اليوم لأنّه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه و مثله قول الشاعر:

عقم النساء فلا يلدن بمثله إنّ النساء بمثله لعقيم

و لم يكن في ذلك اليوم للكفّار خير فهو كالريح العقيم الّذي لا تأتي بخير. و قيل:

المراد به يوم القيامة و سمّي عقيما لأنّه لا ليلة له.

و قيل في نظم الآية الاولى ممّا قبلها من الكفّار و ما متّعوا به من نعيم الدنيا: و لمّا رأي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما منيوا به من الإقتار تمنّى لهم الدنيا فبيّن سبحانه أنّ ذلك التمنّي من وساوس الشيطان و أنّ ما أعدّ لهم من نعيم الآخرة خير.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 56 الى 60]

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)

لمّا تقدّم ذكر القيامة بيّن صفتها فقال سبحانه:

ص: 251

[الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ] لا يملك أحد سواه شيئا بخلاف الدنيا [يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ] يفصل بين الكافرين و المؤمنين، و التنوين في يومئذ عوض عن الجملة تقديره: يوم يؤمنون [فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ] ينعمون فيها [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ] يهينهم و يذلّهم.

[وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لمّا ذكر أنّ الملك له يوم القيامة و يدخل المؤمنين الجنّات أفرد المهاجرين بالذكر تفخيما لشأنهم فقال: و الّذين فارقوا أوطانهم [ثُمَّ قُتِلُوا] في الجهاد [أَوْ ماتُوا] في الغربة [لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً] و هو رزق في الجنّة و الرزق الحسن ما إذا رآه لا يمتدّ عينه إلى غيره و هذا لا يقدر عليه غير اللّه و لذلك قال سبحانه:

[وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] و لا شكّ أنّ الرازق هو و لا غيره فما معنى خير الرازقين؟ لأنّ من أعطى مؤونة أو شيئا لأحد فتشبّه بالرازق و لو أنّ الشي ء في الحقيقة من اللّه و هو خير الرازقين لأنّ إعطاءه من غير عوض و رزقه سبحانه ليس مسبوقا بشي ء آخر مثلا السيّد إذا أعطى نفقة لعبده فالعبد يكون مسبوقا بإعطاء السلامة و الصحّة و القدرة بذلك الانتفاع و إلّا لما أمكنه الانتفاع من رزق مولاه و أمّا رزق اللّه فإنّه لا حاجة به إلى رزق غيره فثبت أنّه خير الرازقين.

و اختلفوا في المهاجرين فقيل: من هاجر إلى المدينة طالبا لنصرة الرسول تقرّبا إلى اللّه.

و قال آخرون: بل المراد من جاهد فخرج مع الرسول أو في سراياه لنصرة الدين و لذلك ذكر القتل بعده، و منهم من حمله على الأمرين.

و اختلفوا من وجه آخر فقال بعضهم: المراد من الآية قوم مخصوصون خرجوا من مكّة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون و قاتلوهم و ظاهر الكلام للعموم. في الجوامع:

روي أنّ المهاجرين قالوا: يا رسول اللّه هؤلاء الّذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير و نحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل اللّه هاتين الآيتين.

و قال سبحانه: «ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا» و سوّى الوعد بينهما و استفادوا التسوية في الحكم بين من مات على فراشه منهم و المقتول منهم روى أنس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:

ص: 252

المقتول في سبيل اللّه و المتوفّى في سبيل اللّه بغير قتل هما في الأجر و الخير شريكان و لفظ الشركة مشعر بالتسوية و إلّا فلا يبقى لتخصيصهما بالذكر فائدة و الحاصل: أنّ اللّه وعدهم بالرزق الحسن.

ثمّ عيّن و شرح مسكنهم فقال [لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ] فمن قرأ «مدخلا» بضمّ الميم فهو من الإدخال. و من قرأ بفتحها فالمراد الموضع أي في المدخل الّذين يرضونه إنّه خيمة من درّة بيضاء لا فصم و لا وصم (1) لها سبعون ألف مصراع و يرون ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فيرضونه و لا يبغون عنها حولا، و نظيره قوله تعالى: «وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً* ... تَرْضَوْنَها» (2) و قوله: «فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ»* (3) و قوله:

«ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً» (4).

قوله: [وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ] أي عليم بمن يستحقّ هذا الإكرام فيعطيهم و حليم لا يعجّل العقوبة فيمن يقدم على المعصية بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحقّ منه الجنّة.

قوله: [ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ] أي الأمر ذلك الّذي قصصنا عليك في أحوال المهاجرين و مثوباتهم و «مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ» القميّ: هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أخرجته قريش من مكّة و هرب منهم إلى الغار و طلبوا ليقتلوه فعاقبهم اللّه يوم بدر و قتل عتبة و شيبة ابنا ربيعة و الوليد بن المغيرة و أبو جهل و حنظلة بن أبي سفيان و غيرهم فلمّا قبض و توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طلب بدمائهم فقتل الحسين و آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بغيا و عدوانا و هو قول يزيد اللعين حتّى تمثّل بهذا الشعر:

ليت أشياخي ببدر شهدواوقعة الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا و استهلّوا فرحاثمّ قالوا: يا يزيد لا تشل

ص: 253


1- اى من غير كسر و عقدة.
2- التوبة: 73.
3- الحاقة: 21. القارعة: 7:
4- الفجر: 30.

لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل

قد قتلنا القوم من ساداتهم و عدلناه ببدر فاعتدل

و كذاك الشيخ أوصاني به فاتّبعت الشيخ فيما قد سأل

فقال اللّه تعالى: [ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ] يعني رسول اللّه [بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ] يعني حين أرادوا أن يقتلوه [ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ] بالقائم عليه السّلام من ولده و حاصل المعنى في الآية: ذلك أي الأمر ذلك الّذي قصصنا و من عاقب بمثل ما عوقب به و جازى الظالم بمثل ما ظلمه يعني قاتل المشركين كما قاتلوه و الأوّل لم يكن عقوبة و لكنّه الجزاء بالجزاء لازدواج الكلام ثمّ بغي عليه و ظلم بإخراجه من منزله و ما فعله المشركون من البغي على المسلمين حتّى أخرجوهم من ديارهم لينصرنّه اللّه أي المظلوم الّذي بغي عليه.

[إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ] إشعار في حسن العفو روي أنّ الآية نزلت في قوم من مشركي مكّة نفوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم فقالوا: إنّ أصحاب محمّد لا يقاتلون في هذا الشهر فحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر اللّه المسلمين بهم.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 61 الى 65]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)

أي [ذلك] النصر الّذي فعل بالمؤمنين المتأذّين من الكفّار بسبب أنّه قادر على كلّ ما أراد و اقتضت حكمته و يقدر أن ينصر الضعيف و يقوّيه على القويّ على خلاف العادة كما أنّه يلج الضياء في الظلمة و بالعكس كما يضي ء البيت بالسراج و يظلم بفقده و [أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] و في الآية تحذير عن الإقدام على ما لا يجوز في المسموع و المبصر.

ص: 254

[ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ] أي ذلك الّذي فعل من نصر المؤمنين و يفعل ما يشاء بأنّ اللّه هو الحقّ الموجود الواجب لذاته و يمتنع عليه الزوال و العجز و ما يفعل من عبادته هو الحقّ و ما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل فيستحقّون الوعد و الوعيد فقال:

[وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ] العليّ عن الأشياء الكبير الّذي كلّ شي ء سواه يصغر مقداره، العظيم في قدرته فليس قادر على النفع و الضرر غيره؛ و هذا المعنى يكون مرغّبا في عبادته و زاجرا عن عبادة غيره.

[أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً] لمّا ذكر سبحانه قدرته في الآية السابقة قدرته بولوج الليل في النهار و ولوج النهار في الليل نبّه على نعمه بأنواع أخر فقال: «ألم تر» بمعنى الرؤية الحقيقيّة لأنّ الماء النازل من السماء و اخضرار النبات على الأرض مرئيّ بالعين، أو معنى الرؤية العلم أي ألم تعلم أنّه سبحانه أنزل بقدرته و خلقه من السماء المطر فتصبح الأرض بسبب الماء ذات خضرة و قال: «فتصبح» و لم يقل بلفظ الماضي لإفادة أثر الماء زمانا بعد زمان.

[إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ] ذو لطف بإرزاق عباده من حيث لا يحتسبون و محيط بتدبير دقائق الأمور الّتي يتعذّر على غيره و يمتنع تدبيره لغيره و لا يتعذّر عليه كإنزال الماء من السماء و إنبات البقل و أمثاله [خَبِيرٌ] بنيّاتهم.

[لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] الدلالة الثانية المعنى أنّ كلّ ذلك ينقاد له غير ممتنع عن التصرّف فيه في كلّ آن من الآنات غنيّ عن الأشياء و عن حمد الحامدين لأنّه كامل لذاته و أعجبني قول أعرابيّ حين ضلّ بعيره و هو يصيح: يا من رأى ضالّتي فلم يجده إلى أن طلع القمر فلمّا أن طلع القمر وجده فخاطب القمر و قال: الحمد للّه رفعك و بالبروج قدّرك و نوّرك فإن قلت: جعلك اللّه رفيعا فقد جعلك اللّه رفيعا، و إن قلت: نوّرك اللّه فأنت منير.

و بالجملة فاللّه سبحانه غنيّ عن وصف الواصفين و من يقدر أن يبلغ وصفه؟

[أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ] أي ذلّل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر و لا أحدّ من الحديد و لا أكثر هيبة و سلطة من

ص: 255

النار و قد سخّرها لكم و ذلّل الحيوانات أيضا حتّى ينتفع الإنسان بها من حيث الأكل و الركوب و الحمل عليها و الانتفاع بالنظر إليها فلو لا أن سخّر اللّه الإبل و البقر مع قوّتهما حتّى يذلّلهما الضعيف من الناس و يتمكّن منها لما كان ذلك نعمة و كذلك السفن تجري في البحر بأمره و كيفيّة تسخير الفلك من حيث سخّر الماء و الرياح لجريها فلو لا صفتهما على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف بل استدراك الإنسان بصناعة السفن حتّى تعمل و تجري فذلك التسخّر لها. و إنّما قال: «بأمره» لأنّه سبحانه لمّا كان هو المرسل لها بالرياح نسب ذلك بأمره توسّعا.

قوله تعالى: [وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ] و هذه دلالة اخرى على قدرته مبيّنة على ظاهر الأوهام و معنى «أن تقع» أي كيلا تقع و كراهية أن تقع و هذه السماوات مع هذه الأجرام الفلكيّة مع أنّها مسكن الملائكة و لا بدّلها من الهويّ لو لا مانع يمنعه إنّ اللّه بالنّاس بهذه النعم الجامعة لرءوف ذو رأفة و رحمة.

وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66).

[سورة الحج (22): آية 66]

وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)

ثمّ ذكر دلالة اخرى على وحدانيّته فقال:

[وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ] بعد أن كنتم نطفا ميتة [ثُمَّ يُمِيتُكُمْ] عند آجالكم [ثُمَّ يُحْيِيكُمْ] للبعث و الحساب، و فيه بيان أنّ من قدر على البدء قدر على الإعادة فنبّه بالإحياء الأوّل على إنعام نعمة الوجود و الدنيا علينا و نبّه بالإماتة و الإحياء الثاني على نعم الدين علينا فإنّه سبحانه خلق الدنيا بأسرها للآخرة لأنّه لو لا أمر الآخرة لم تكن للزراعات و تكلّفها و لا لركوب الحيوان و ذبحها إلى غير ذلك معنى بل كان يخلقه ابتداء من غير تكلّف الزرع و السقي و إنّما أجرى اللّه هذه الأمور على هذه العادة في الدنيا ليتبيّن المطيع عن العاصي و يعتبر به في باب الدين و الامتحان.

و لمّا فصّل النعم قال: [إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ] أي الإنسان مع هذه النعم و هذه الآيات يجحد الخالق و يكفر به مع أنّ هذه النعم تقتضي الشكر فهم عكسوا القضيّة و كفروا كما قال: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (1) قال ابن عبّاس: الإنسان هاهنا

ص: 256


1- سبأ: 13.

الكافر و قال أيضا: هو الأسود بن عبد الأسد و أبو جهل و العاصي و ابيّ بن خلف و الأولى تعميمه في كلّ المنكرين.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 67 الى 70]

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)

لما بيّن بعض نعمه على الإنسان و أظهر رأفته و ذكر أنّهم لا يشكرون نعمته أتبعه بذكر نعمه بما كلّف فقال:

[لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً] أي لكلّ قرن مضى جعلنا شريعة عاملون بها أو مكانا و موضعا يعتادونه لعبادة اللّه و مناسك الحجّ من هذا المعنى لأنّها مواضع العبادة فيه. و قيل: المعنى عيدا و موضع قربان و متعبّدا لإراقة الدماء مثل منى و غيره.

و لأجل أنّه لا تعلّق لقوله «لِكُلِّ أُمَّةٍ» بما قبلها حذف العاطف و منشأ الاختلاف في معنى النسك لاختلاف معنى الزمانيّة أو المكانيّة و قيل: المعنى المنهاج و الشرعة و يصلح الكلام أن يحمل على مطلق العبادة لأنّ ما يفعل بالحجّ من العبادة يوصف و يسمّى بالمناسك و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خذوا عنّي مناسككم.

قوله: [فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ] هذا نهي من اللّه في منازعة المشركين و الكفّار للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عبادته و منازعتهم له قولهم: أ تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتله اللّه؟

يعنون الميتة بأنّها حلال لأنّها قتلها اللّه و ليس لهم أن ينازعوك في شريعتهم و قد نسخت شريعتك الشرائع المتقدّمة فادعهم إلى دينك و لا تخصّ بالدعاء امّة دون امّة فكلّهم امّتك.

قوله: [وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ] أي ما تكلّفهم هداية مستقيمة [وَ إِنْ جادَلُوكَ] أي إن عدلوا عن النظر إلى هدايتك و طريقك و جادلوك

ص: 257

و خاصموك [فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ] فقد بيّنت و أوضحت و أظهرت ما يلزمك و هذا الكلام يجري مجرى الوعيد و التحذير أي لا تجادلهم بعد إلزام الحجّة و إيضاح الطريقة و ادفعهم بهذا القول و حاكمهم بعلم اللّه و إلى اللّه.

[اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] من أمر الذبائح و غيره فتعرفون حينئذ الحقّ من الباطل.

[أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ] الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المراد جميع المكلّفين يعلم من كثير و قليل لا يخفى عليه شي ء من ذلك الأمور [إِنَّ ذلِكَ] المعلوم ثبت [فِي كِتابٍ] أي اللوح المحفوظ من الخطأ [إِنَّ ذلِكَ] أي الكتابة في اللوح [عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] لا يحتاج إلى معالجة خطوط و حروف و إنّما يقول: كن فيكون و قيل:

المراد أنّ الحكم في مختلفاتهم بينهم يسير على اللّه.

قوله: [سورة الحج (22): الآيات 71 الى 72]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

أخبر عن حال الكفّار فقال:

[وَ يَعْبُدُونَ ... ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً] و حجّة و دليلا على إلهيّته و يعبدون [ما لَيْسَ لَهُمْ] علم بأنّها آلهة لأنّ الإنسان قد يعلم أشياء من غير دليل و حجّة كالضروريّات و المعنى أنّ الكفّار ما علموا إلهيّة آلهتهم لا بحكم الضرورة و لا بحكم الاستدلال و النظر بل مجرّد التقليد أو العناد.

[وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ] أي ليس للمشركين الّذين أشركوا مع اللّه إلها آخر و ظلموا أنفسهم بهذا الظلم القبيح من مانع من العذاب.

ثمّ أخبر سبحانه عن شدّة عنادهم فقال: [وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا] من القرآن و غيره من الدلائل و هي [بَيِّناتٍ] لمن تفكّر فيها [تَعْرِفُ] يا محمّد [فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ] يريد أثر الإنكار من الكراهية و العبوس [يَكادُونَ يَسْطُونَ] و يبطشون

ص: 258

من الغيظ و يبسطون إليهم أيديهم بالسوء [بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا].

[قُلْ] يا محمّد لهم: [أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ] أي أخبركم بشي ء أكره إليكم من هذا القرآن الّذي تكرهون من استماعه و أشدّ عليكم منه ثمّ فسّر ذلك فقال:

[النَّارُ] أي هو النار [وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ] أي وعدكم اللّه النار و بئس المرجع و المأوى.

قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 73 الى 75]

يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)

النزول: في الكافي عن الصادق عليه السّلام: كانت قريش تلطخ الأصنام الّتي حول الكعبة بالمسك و العنبر و كان يغوث قبال الباب و يعوق عن يمين الكعبة و نسر عن يسار الكعبة و كان في ثلاثمائة و ستّين صنما و كانوا إذا دخلوا خرّوا سجّدا ليغوث و لا ينحرفون و يستدبرون بحيالهم إلى يعوق ثمّ يستدبرون عن يسار الكعبة بحيالهم إلى نسر ثمّ يلبّون فيقولون: لبّيك اللّهم لبّيك لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك. قال: فبعث اللّه ذبابا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك المسك و العنبر شيئا إلّا أكله فأنزل اللّه الآية.

قال الأخفش: إن قيل: فأين المثل الّذي ذكره اللّه من قوله «ضُرِبَ مَثَلٌ»؟ قيل:

ليس هاهنا مثل و لمّا كان المثل في الكلام نكتة غريبة أو شباهة عجيبة جاز أن يسمّى مثل ما كان كذلك مثلا.

فإن قيل: إنّ القائل هو سبحانه ابتداء و ضرب يفيد فيما مضى فكيف التطبيق في الكلام؟

فالجواب: إذا كان ما يورد في الكلام من الوصف معلوما قبل الكلام جاز ذلك فيه و يكون ذكره بمنزلة إعادة ذكر قد تقدّم و لو لم يذكر قبل ذلك.

ص: 259

و بالجملة المعنى: إنّ اللّه قال: [ضُرِبَ] لي [مَثَلٌ] أي شبهة في الأوثان ثمّ قال:

[فَاسْتَمِعُوا] لهذا المثل الّذي جعلوه مثلي و قال بعضهم كالقتيبيّ: هاهنا مثل لأنّه سبحانه ضرب مثل هؤلاء الّذين يعبدون الأصنام بمن عبد من لا يخلق ذبابا بل الذباب يضرّه فاستمعوا له لتقفوا على جهل المشركين و معنى ضرب مثل من قولك: ضربت خيمة أي أثبتّها و نصبتها كالشي ء الثابت اللّازم من قولك: ضرب السلطان الجزية على أهل الذمّة.

و الحاصل [إنّ الّذين يدعون] هؤلاء أي الأصنام و يزعمونها أنّها آلهة [لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً] في صغره و قلّته [وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً] ممّا عليهم [لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ] أي لا يقدرون على استنقاذه من الذباب [ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ] أي السالب و المسلوب يعني الذباب و الصنم و العابد و المعبود، و روي على العكس من هذا و هو الطالب الصنم و المطلوب الذباب قال السدّيّ: الطالب العابد الّذي يعبد هذا الصنم بالتقرّب إليه و الصنم المطلوب إليه.

قوله: [ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] أي ما عظّموا اللّه حقّ عظمته حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له على ضعفها و عجزها [إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] لا يقدر أحد على مغالبة عزيز الوصف و الأوهام لا تدركه و الأفكار لا تقدّره و العقول لا تمثّله و الأزمنة لا تحويه و الجهات لا تحيطه صمديّ الذات سرمديّ الصفات.

قوله تعالى: [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا] لمّا ذكر سبحانه ما يتعلّق بالإلهيّات ذكر في هذه الآية ما يتعلّق بالنبوّات قال الوليد بن المغيرة: «أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا» (1) فأنزل اللّه هذه الآية «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» أي يختار من بعضهم رسلا إلى بني آدم و الأنبياء مثل جبرئيل و عزرائيل و إسرافيل و الحفظة و هم أكابر الملائكة و بعضهم رسلا إلى بعضهم حتّى يصحّ قوله: «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» (2).

[وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] أي و يصطفى من النّاس و البشر رسلا يعني النبيّين. و في الآية تبكيت لمن عبد الملائكة بأنّهم خدمة فمن جعل الملائكة و الأنبياء

ص: 260


1- ص: 8.
2- فاطر: 1.

أولادا فإنّه ما عظّم اللّه إذ جعل من يعبده معبودا فوبّخ سبحانه في الآية السابقة عبدة الأوثان و في هذه الآية عبدة الملائكة الّذين يقولون: الملائكة بنات اللّه.

[سورة الحج (22): آية 76]

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)

أي سميع بصير يعلم ما تقدّم من الخلائق من أحوالهم و ما هم عليه و ما يكون في مستقبل أحوالهم و حاصل المعنى: يعلم سبحانه أوّل أعمالهم و آخر أعمالهم و قيل:

يعلم ما كان قبل خلق الملائكة و الأنبياء و ما يكون بعد خلقهم [وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] يوم القيامة و لا يكون لأحد أمر و لا نهي.

[سورة الحج (22): الآيات 77 الى 78]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (78)

لمّا تكلّم في الإلهيّات ثمّ في النبوّات أتبعه الكلام في الشرائع من أربعة أوجه:

أوّلها: تعيّن المأمور و لا شكّ أنّ المكلّف كلّ المكلّفين سواء كان مؤمنا أو كان كافرا لدلالة سائر الآيات على كون الكلّ مكلّفا بهذه الأشياء فتخصيص الخطاب بالمؤمنين مع أنّ الكلّ مشترك في الحكم للتحريض لهم على المواظبة على قبوله و التشريف لهم بالتخصيص.

و الأمور الّتي ذكرها اللّه سبحانه و تعالى فقدّم الصلاة، و هو المراد من قوله:

[ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا] و الصلاة هي المختصّة بهذين الركنين فكان ذكرهما جاريا مجرى الصلاة قال ابن عبّاس: كان الناس في أوّل إسلامهم كانوا يركعون و لا يسجدون حتّى نزلت الآية.

ثمّ قال: [وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ] و لا تعبدوا غيره و لا تشركوا به في العبادة شيئا [وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ] قال ابن عبّاس: يريد به صلة الرحم و وجوه البرّ و مكارم الأخلاق و يدخل فيه كلّ معروف مثل الصدقة و حسن القول للنّاس [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] و تظفرون بنعيم الآخرة.

ص: 261

[وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ] و حملوا الجهاد في الآية على إتيان أعمال الطاعة و قال المفسّرون: حقّ الجهاد أن يكون بنيّة صادقة خالصة و أن يطاع فلا يعصى و قيل:

معناه: جاهدوا بالسيف من كفر باللّه و إن كانوا الآباء و الأبناء. و روي عن عبد اللّه بن المبارك أنّه مجاهدة الهوى و النفس.

قوله: [هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] اصطفاكم ربّكم لدينه و ما جعل عليكم في الدين من ضيق لا مخرج منه و لا مخلص من عذابه و عقابه بل جعل التوبة و الكفّارات و ردّ المظالم مخلصا من الذنوب فليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من العقاب به فلا عذر لأحد في ترك الاستعداد للقيامة.

و قيل: معناه: إنّ اللّه لم يضيّق عليكم أمر الدين فلن يكلّفكم ما لا تطيقون بل كلّف دون الوسع فلا عذر لكم في تركه.

و قيل: إنّه يعني الرخص عند الضرورات كالقصر و التيمّم و أكل الميتة و أمثالها و الحرج في الحديث معناه الضيق فالحاصل من معنى الحرج هو الإتيان بالرخص مثلا كمن لم يقدر أن يصلّي قائما فليصلّ جالسا و من لم يستطع فليؤم و الإفطار للمريض فإنّه سبحانه لم يبتلي العبد بشي ء من الذنوب إلّا و جعل له مخرجا منها إمّا بالتوبة أو بالكفّارة.

و في الحديث عن طرق العامّة من جاءته رخصة فرغب عنها كلّف يوم القيامة أن يحمل تنّين حتّى يقضى بين الناس. و أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا اجتمع أمران فأحبّهما إلى اللّه أيسرهما.

و عن كعب الأحبار: أعطى اللّه هذه الامّة ثلاثا لم يعطهنّ إلّا للأنبياء، جعلهم شهداء على الناس و ما جعل عليهم في الدين من حرج و قال: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (1).

قوله: [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ] و في نصب «ملّة» و جهان أي وسّع لكم دينكم توسعة ملّة إبراهيم و أقام المضاف إليه مقام المضاف أو بتقدير أعني ملّة أبيكم و لأجل أنّ أكثرهم كالرسول و رهطه و جميع العرب من ولد إبراهيم أضاف إليهم أو جعل حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على ولده كما أنّه تعالى قال:

ص: 262


1- المؤمن: 60.

«النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (1) و جعله أولى من أنفسهم و جعل حرمة نسائه كحرمة الوالدة على ما قال: «وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» (2).

فإن قيل: إنّ هذا البيان يقتضي أن تكون ملّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كملّة إبراهيم عليه السّلام فيكون الرسول معه سواء و ليس له شرع مخصوص و يؤكّده قوله تعالى: «أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» (3).

فالجواب أنّ التساوي في الإلهيّات حاصل لعبادة اللّه و ترك الأوثان و أمّا تفاصيل الشرائع فلا تعلّق لها بهذا الموضع.

قوله: [هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ] الضمير راجع إلى إبراهيم عليه السّلام فإنّ لكلّ نبيّ دعوة مستجابة و هو قول إبراهيم عليه السّلام: «رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» (4) فاستجاب اللّه دعاءه فجعلها امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: الضمير راجع إلى اللّه في قوله: «اجْتَباكُمْ» فروي عن عطا عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ اللّه سمّاكم المسلمين من قبل في الكتب و في القرآن أي من قبل إنزال القرآن.

[وَ فِي هذا] أي و في القرآن [لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ] أي ليكون محمّد شاهدا عليكم بالطاعة و القبول فإذا شهد لكم به صرتم عدولا و تشهدون على الأمم الماضية بأنّ الرسل بلّغوهم رسالات ربّهم و أنّهم قبلوا أولم يقبلوا فيوجب لكافرهم النار و لمؤمنهم الجنّة بشهادتكم و هذا من أشرف المراتب و هو مثل قوله:

«وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» (5) و لمّا شرّفكم بهذا التشريف العظيم و سمّاكم بهذا الاسم المبارك فاعبدوه و لا تردّوا تكاليفه لأنّ الكرامة و المنّة موجبة لقبول التكليف.

[فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ] هما فريضتان واجبتان عليكم فأدّوهما إلى اللّه، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لا تقبل الصلاة إلّا بأداء الزكاة. [وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ] و تمسّكوا بدين اللّه و امتنعوا بطاعته عن معصيته و اجعلوها عصمة لكم من أعدائكم و توكّلوا عليه

ص: 263


1- الأحزاب: 6.
2- الأحزاب: 6.
3- النحل: 123.
4- البقرة: 128.
5- البقرة: 143.

[هُوَ مَوْلاكُمْ] و ناصركم و المتولّي لأموركم [فَنِعْمَ الْمَوْلى] هو لمن تولّاه [وَ نِعْمَ النَّصِيرُ] لمن استنصره إذ لم يمنعكم الرزق حين عصيتموه.

اعلم أنّ المعتزلة احتجّوا بهذه الآيات على أهل السنّة من وجوه:

أحدها أنّ قوله تعالى: «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» يدلّ على أنّه سبحانه أراد الإيمان من الكلّ لأنه لا يجعل الشهيد على العباد إلّا من كان مرضيّا عدلا فإذا أراد أن تكونوا شهداء فقد أراد أن تكونوا جميعا صالحين عدولا و قد علمنا أنّ منهم فاسقا فدلّ على أنّه تعالى أراد من الفاسق كونه عدلا.

و الثاني قوله: «وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» و كيف يمكن الاعتصام به و إنّ الشرّ لا يوجد إلّا منه؟

و الثالث قوله «فَنِعْمَ الْمَوْلى» لأنّه لو كان كما يقوله أهل السنّة من أنّه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر و الفساد ثمّ يعذّبهم لما كان نعم المولى بل كان لا يوجد من شرار الموالي أحد إلّا و هو شرّ منه فكان يجب أن يوصف بأنّه بئس المولى و ذلك باطل فدلّ على أنّه سبحانه ما أراد من جميعهم إلّا الصلاح تمّت السورة

ص: 264

سورة المؤمنون

اشارة

(مائة و ثمانية عشر آية مكية) فضلها: ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة يوم القيامة بالروح و الريحان و بما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من قرأ سورة المؤمنين ختم اللّه له بالسعاده إذا كان يدمن على قراءتها في كلّ جمعة و كان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيّين و المرسلين.

تفسيرها: ختم اللّه سورة الحجّ بأمر المكلّفين في العبادة و أفعال الخير على طريق الإجمال افتتح هذه السورة بتفصيل تلك الجملة و بيانها فابتدأ سبحانه بالبشارة للمتّبعين بأوامره و الطاعات و فاعلي الخيرات بقوله:

ص: 265

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)

أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)

المعنى: فاز بثواب اللّه الّذين صدقوا بوحدانيّة اللّه و برسله، و قيل: معنى «أفلح» بقي أي قد بقيت أعمالهم الصالحة. و قيل: سعد المؤمنون. و كلمة «قد» تكون لتقريب الماضي من الحال في الآية؛ أ لا ترى يقولون: قد قامت الصلاة قبل حال قيام الصلاة، أو معناه التحقيقيّ.

ثمّ وصف المؤمنين بصفات فقال: [الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ] خاضعون متذلّلون لا يرفعون أبصارهم من مواضع سجودهم و لا يلتفتون يمينا و شمالا، روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه فالخشوع في الصلاة لا بدّ و أن يكون بالقلب و الجوارح فأمّا القلب هو أن يفرغ قلبه المصلّي بجمع الهمّة و الرهبة و التوجّه لها و الإعراض عمّا سواها فلا يكون في القلب غير العبادة و المعبود و أمّا الجوارح فهو غضّ البصر و الإقبال عليها و ترك الالتفات و سكون البدن حتّى قيل في معنى الخشوع: أن لا يعرف من على يمينه و لا من على يساره. و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلمّا نزلت الآية طأطأ رأسه و رمى ببصره إلى الأرض.

و هاهنا مسألة قال الرازيّ: فإن قيل: إنّ الخشوع بهذا المعنى واجب في

ص: 266

الصلاة أم لا؟ قلنا: إنّه عندنا واجب و يدلّ عليه امور:

أحدها قوله تعالى «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» (1) و التدبّر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى و كذا قوله تعالى: «وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» (2) معناه قف على عجائبه و معانيه.

و ثانيها «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» (3) و ظاهر الأمر للوجوب و الغفلة تضادّ الذكر فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيما للصلاة لذكره.

و ثالثها «وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ» (4) و ظاهر النهي للتحريم.

و رابعها قوله: «حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» (5) تعليل لنهي السكران و هو المستعمل في الغافل المستغرق المهتمّ بالدنيا.

و خامسها قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّما الخشوع لمن تمسكن و تواضع، و كلمة «إنّما» للحصر و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من اللّه إلّا بعدا، و صلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كم من قائم حظّه من قيامه التعب و النصب. و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ليس للعبد من صلاته إلّا ما عقل.

و سادسها قال الغزاليّ: المصلّي يناجي ربّه كما ورد به الخبر و الكلام مع الغفلة ليس بمناجاة و بيانه أنّ الإنسان إذا أدّى الزكاة حال الغفلة فقد حصل المقصود منها و هو كسر الحرص و إغناء الفقر و كذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى الّتي هي عدوّة اللّه و يحصل هذه الأمور المقصودة من الصوم مع الغفلة سواء كان القلب حاضرا أو لم يكن و أمّا الصلاة فليس فيها إلّا ذكر و قراءة و ركوع و سجود و قيام و قعود.

أمّا الذكر فإنّه مناجاة مع اللّه فإمّا أن يكون المقصود منه مناجاة أو المقصود مجرّد الحروف و الأصوات و لا شكّ في فساد هذا القسم فإنّ تحريك اللسان بالهذيان ليس فيه غرض صحيح فثبت أنّ المقصود المناجاة مع اللّه بهذه الكيفيّة الواردة و ذلك لا يتحقّق إلّا إذا كان اللسان معبّرا عمّا في الضمير و القلب من التضرّعات فأيّ سؤال في قوله:

ص: 267


1- محمد: 24.
2- المزمل: 4.
3- طه: 14.
4- الأعراف: 204.
5- النساء: 42.

«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» و كان القلب غافلا عنه؟

بل يمكن أن يقال: إنّه إذا كان القلب محجوبا بحجاب الغفلة و كان غافلا عن جلال اللّه و لسانه يتحرّك بحكم العادة ما أبعدها عن القبول كما لو حلف إنسان و قال:

و اللّه لأشكرنّ فلانا و أسأله حاجة ثمّ جرت الألفاظ الدالّة على هذه المعاني على لسانه و ذلك الإنسان الفلانيّ حاضر إلا أنّ المتكلّم غافل لكونه مستغرق الهمّ بفكر من الأفكار و لم يكن له قصد بتوجيه عليه عند نطقه لم يصر بارّا في يمينه.

و كذلك لا شكّ أنّ المقصود من القراءة و الأذكار الحمد و الثناء و الدعاء و المخاطب هو اللّه و المتكلّم غافل و ذاهل عن نطقه فحينئذ وقع الكلام من غير قصد و أنّ الركوع و السجود المقصود منهما التعظيم للّه تعالى و إذا لم يحصل التعظيم بسبب عدم القصد و يكون مجرّد حركة الظهر و الرأس و هذا لا يوجب أن يكون عماد الدين و فاصلا بين الكفر و الإيمان و يقدّم على الحجّ و الزكاة و الجهاد و سائر الطاعات الشاقّة و يجب بسبب تركه القتل على الخصوص بكلّ عاقل يقطع بأنّ مشاهدة الخواصّ العظيمة ليس مجرّد أعمالها الظاهرة إلا أن يضاف إليها مقصود هذه المناجاة فدلّت هذه الاعتبارات على أنّ الصلاة لا بدّ فيها من الحضور.

ثمّ هاهنا بيان آخر و هو أنّه ما ذكرنا من شرط الخضوع على خلاف إجماع الفقهاء و لا ينافي هذا البيان مع إجماعهم لأنّ الحضور ليس شرطا للإجزاء بلى شرط للقبول و المراد من الإجزاء أن لا يجب القضاء على من ليس له حضور و المراد من القبول حكم الثواب و الأثر و هذا لا يحصل إلّا بشرائط ما ذكرنا و الفقهاء إنّما يبحثون من حكم الإجزاء لا عن حكم الثواب و غرضنا في هذا المقام بيان هذا الأمر.

مثاله: من استعار منك ثوبا ثمّ ردّه على الوجه الأحسن فقد خرج عن العهدة و استحقّ المدح و من رماه إليك على وجه الاستخفاف خرج عن العهدة و لكنّه استحقّ الذمّ كذلك من عظّم اللّه حال أدائه العبادة صار مقيما للفرض مستحقّا للثواب و من غفل عن التعظيم و استهان بها في كمالها صار مقيما للفرض لكنّه استحقّ الذمّ.

و أمّا المتكلّمون فقد اتّفقوا على أنّه لا بدّ من الحضور و الخشوع و قالوا: إنّ

ص: 268

القصد منوع و المراد من القصد إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال و هذه الداعية لا يمكن حصولها إلّا عند الحضور فلهذا اتّفقوا على أنّه لا بدّ من الحضور.

أمّا الفقهاء فقد ذكر الفقيه أبو الليث في تنبيه الغافلين أنّ تمام القراءة أن يقرأ بغير لحن و أن يقرأ بالتفكّر و أمّا الغزاليّ فإنّه نقل عن أبي طالب المكّيّ عن بشر الحافي أنّه قال: من لم يخشع فسدت صلاته و عن الحسن: كلّ صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، و روي مسندا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ العبد ليصلّي الصلاة لا يكتب له سدسها و لا عشرها و إنّما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها و قال عبد الواحد ابن زيد: أجمعت العلماء على أنّه ليس للعبد من صلاته إلّا ما عقل و ادّعى الإجماع في المسألة.

قال الرازيّ: إذا ثبت هذا فنقول: هب إنّ الفقهاء بأسرهم حكموا بالجواز أليس المتكلّمون و أهل الورع ضيّقوا الأمر فهلّا أخذت بالاحتياط فإنّ بعض العلماء من أهل السنّة اختار الإمامة فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعيّ و إن قرأتها مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة فاخترت الإمامة طلبا للخلاص عن الاختلاف. انتهى كلام الرازيّ.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ] و اختلف في معنى اللغو اختلافا كثيرا: قيل: يدخل فيه ما كان حراما أو مكروها أو كان مباحا و لكن لا يكون للمرء إليه حاجة و قيل: إنّه عبارة عن كلّ ما كان حراما فقط و القائل بهذا ابن عبّاس و قيل:

إنّه عبارة عن المعصية في القول و الكلام خاصّة و قيل: إنّه المباح الّذي لا حاجة إليه.

و احتجّ هذا القائل بقوله تعالى: «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ»* (1) فكيف يحمل ذلك على المعاصي الّتي لا بدّ فيها من المؤاخذة. و احتجّ الأوّلون بأنّ اللغو إنّما سمّي لغوا بسبب أنّه يلغى و كلّ ما اقتضى الشرع إلغاءه كالحرام كان أولى باسم اللغو فكلّ حرام لغو و حينئذ قد يكون اللغو كفرا لقوله تعالى:

ص: 269


1- النحل: 61.

«لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ» (1) و قد يكون كذبا لقوله: «لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» (2) و قوله:

«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً» (3).

و بالجملة فكلّ قول و فعل لا فائدة شرعيّة فيها قبيح ممنوع يجب الإعراض عنه.

و روي عن الصادق عليه السّلام قال: هو أن يتقوّل الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه للّه و في رواية أنّه الغناء و الملاهي.

الصفة الرابعة قوله: [وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ] أي مؤدّون فعبّر عن التأدية بالفعل لأنّه فعل. قال صاحب الكشّاف: اسم مشترك بين عين و معنى فالعين القدر الّذي يخرجه المزكّي من النصاب إلى الفقير و المعنى فعل المزكّي الّذي هو التزكية و هو الّذي أراده اللّه فجعل المزكّين فاعلين له و المصدر يعبّر عن معناه بالفعل و يقال لمحدثه فاعل يقال للضارب فاعل الضرب و للقاتل فاعل القتل و للمزكّي فاعل الزكاة.

و الحاصل أنّ في الزكاة قولان: أحدهما أنّ فعل الزكاة يقع على كلّ فعل محمود و مرضيّ كقوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» (4) و قوله «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» (5) و على هذا المعنى فمن جملته ما يخرج من حقّ المال و إنّما سمّي بذلك لأنّها تطهر من الذنوب لقوله تعالى:

«تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها» (6) و هو قول أبي مسلم و جماعة.

و قال الأكثرون: إنّه الحقّ الواجب في الأموال خاصّة و المراد في الآية هذا الأمر و هذا هو الأقرب لأنّ المتبادر من هذه اللفظة هذا المعنى و التبادر علامة الحقيقة.

فإن قيل: إنّ اللّه لم يفصل بين الصلاة و الزكاة فلم فصّل في هذه الآية بينهما بقوله «وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ»؟

و الجواب أنّه ما فصّل أيضا في هذه الآية لأنّ الإعراض عن اللغو من متمّمات الصلاة.

الصفة الخامسة قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ]

ص: 270


1- حم السجدة: 46.
2- الغاشية: 11.
3- الواقعة: 25.
4- الأعلى: 14.
5- النجم: 32.
6- التوبة: 109.

[أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ] الفرج؟؟ اسم لجميع سوأة الرجال و النساء و المراد هاهنا فروج الرجال بدلالة قوله: «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» المعنى: أنّهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم و ممنوعين و أمروا بحفظه إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم و دلّ على المحذوف ذكر اللوم في قوله فإنّهم غير ملومين و ملك اليمين المراد الإماء لأنّ الذكور من المماليك لا خلاف بين الامّة في وجوب حفظ الفرج منهم.

و إنّما أطلق سبحانه إباحة وطء الأزواج و الإماء و إن كانت لهنّ أحوال يحرم وطؤهنّ كحال الحيض و العدّة و أمثالها لأنّ الغرض بالآية بيان جنس من يحلّ وطئها دون الأحوال الّتى لا يحلّ فيها الوطء.

[فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ] أي طلب سوى الأزواج و الإماء المملوكة [فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ] الظالمون المتعدّون إلى ما لا يحلّ لهم و قال: «عَلى أَزْواجِهِمْ» و المعنى من أزواجهم لأنّهم قوّامون عليهنّ كما يقال: فلان على البصرة، أي واليا عليها و هلّا قيل:

«من ملكت» و الموضع موضع من؟ لأنّه اجتمع في التنزيه و صفان الأنوثة و هي مظنّة نقصان العقل و الآخر كونها تباع و تشترى كسائر السلع و الجمادات الغير العاقلة فجعلت في عداد من لا يعقل.

القميّ: المتعة حدّها حدّ الإماء و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المتعة فقال: حلال فلا تزوّج إلّا عفيفة إنّ اللّه يقول: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» و عنه عليه السّلام تحلّ الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث و نكاح بلا ميراث و نكاح ملك يمين و عن أبيه عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه أحلّ لكم الفروج على ثلاثة معان: فرج مورّث و الثبات و فرج غير مورّث و هي المتعة و ملك أيمانكم.

الصفة السادسة: [وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ] الشي ء المؤمن عليه و المعاهد عليه أمانة و عهد و منه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» (1) و إنّما تؤدّي العيون دون المعاني و المؤتمن عليه الأمانة في نفسها و العهد ما عقده على نفسه فيما يقرّبه إلى ربّه و العبادات كلّ مكلّف مؤتمن عليها و لا يجوز

ص: 271


1- النساء: 57.

الخيانة فيها و داخلة في عنوان الأمانات قال اللّه تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ» (1) و إنّ العبادات إمّا أن تخفى أصلا كالصوم و غسل الجنابة و إسباغ الوضوء أو تخفى كيفيّة إتيان شروطها قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعظم النّاس خيانة من لم يتمّ صلاته.

و الأمانات ضربان: أمانات اللّه تعالى و أمانات العباد فأمانات اللّه العبادات كالصلاة و الصيام، و أمانات العباد مثل الودائع و العواري و البياعات و الشهادات و غيرها.

و العهد أيضا على ضربين: عهد بين اللّه و عهد بين الخلق فالأوّل مثل النذور و العهود المأخوذ منه في التكليف من أوامر اللّه و عهود بين الخلق مثل العقود الجارية في الخلق مثل البيع و الصلح و أمثاله فيجب على الإنسان الوفاء بجميع ضروب الأمانات و جميع ضروب العهود المشروعة.

الصفة السابعة: [وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ] أي يقيمونها في أوقاتها و لا يضيّعونها و إنّما أعاد ذكر الصلاة تنبيها على عظم قدرها و علوّ رتبتها و لأنّ المحافظة التعهّد لشروطها المجموعة و الخشوع غير المحافظة و المراد من المحافظة التعهّد لشروط الصلاة من الأوقات و الأركان و الطهارة و أمثالها.

قيل: و كان في القرن الأوّل سحرا و بعد الفجر الطرقات مملوءة من النّاس يمشون في السرج إلى الجامع خصوصا ليلة الجمعة حتّى اندرس ذلك و أوّل ضعف وقع في عبادات النّاس في الإسلام ترك البكور في المساجد.

[أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ] أي إنّ من كانوا بهذه الصفات و اجتمعت فيهم هذه الخصال هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار من الجنّة روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: ما منكم من أحد إلّا له منزلان: منزل في الجنّة و منزل في النار فإن مات و دخل النار ورث أهل الجنّة منزله.

و قيل: معنى الميراث أنّه ينتهي أمورهم إلى الجنّة كالميراث الّذي يستحقّ الوارث إليه و لأنّ انتقال الجنّة إليهم بدون محاسبة و معرفة بمقاديره يشبه انتقال المال

ص: 272


1- الأنفال: 27.

إلى الوارث أو لأنّ الجنّة كانت مسكن أبينا آدم فإذا انتقلت بسبب الطاعة إلى أولاده صار ذلك شبيها بالميراث، و الفردوس مقصورة الرحمن و أعلى الجنان و إنّ أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لمّا خلق اللّه جنّة عدن قال لها: تكلّمي فقالت: قد أفلح المؤمنون. قال كعب الأحبار: خلق اللّه آدم بيده و كتب التوراة بيده و غرس شجرة طوبى بيده ثمّ قال لها: تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا أحسن العبد الوضوء و صلّى الصلاة لوقتها و حافظ على ركوعها و سجودها و مواقيتها قالت: حفظك اللّه كما حافظت عليّ و شفعت لصاحبها و إذا أضاعها قالت: أضاعك اللّه كما ضيّعتني و تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها.

و يمكن أن يكون المراد من كلام الجنّة أنّها اعدّت للمؤمنين فصار ذلك الاستعداد كالقول منها و هو كقوله: «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (1) و أمّا أنّه تعالى خلق الجنّة بيده فالمراد تولّي خلقها لا أنّه وكّله إلى غيره و أمّا أنّ الصلاة تثني على صاحبها الّذي قام بحقّها كقول القائل: إحسانك إليّ ينطق بالشكر، و الفردوس مؤنّث باعتبار الجنّة و لذا قال:

[هُمْ فِيها خالِدُونَ] مؤبّدون.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 12 الى 19]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (19)

لمّا أمر الناس بعبادته عرّف نفسه لهم بالوحدانيّة و الخالقيّة لأنّ العبادة لا تصحّ

ص: 273


1- فصلت: 11.

إلّا بعد المعرفة فذكر من الدلائل أنواعا فاستدلّ بتقلّب الإنسان في أدوار الخلقة و أكوان الفطرة.

المرتبة الاولى قوله: [وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ] و السلالة فعالة و هو بناء يدلّ على القلّة كالقلامة و القمامة من السلّ اسم لما يسلّ من الشي ء لأنّ آدم سلّ من الطين و أديم الأرض أو سلّ أولاده من الأصلاب فسلّ آدم من طين و أولاده من ماء مهين و الإنسان شامل لآدم و ولده و هذا المعنى مطابق لقوله تعالى: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ طين* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ من سلالة- و خلاصة- مِنْ ماءٍ مَهِينٍ»* (1).

و يمكن أن يحمل أنّ أولاده أيضا خلقوا أصلا من طين أيضا و هو أنّ الإنسان إنّما يتولّد من النطفة و هي تتولّد من فضل الهضم و ذلك إنّما يتولّد من الأغذية و هي إمّا حيوانيّة كاللحوم أو نباتيّة كالبقول و هي تتولّد من الأرض و الماء ثمّ إنّ تلك السلالة بعد أن تواردت على أطوار الخلقة صارت منيّا ثمّ إلى أن يصير إنسانا فهذه مرتبة الاولى من مراتب الإنسانيّة.

المرتبة الثانية قوله: [ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ] أي جعل و خلق جوهر الإنسان الّذي كان نطفة و ماء قليلا و كان منيّا في الأصلاب قذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة فصار الرحم قرارا مكينا لهذه النطفة و صار موضع القرار و المستقرّ لها.

المرتبة الثالثة: [ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً] أي حوّلنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة و صورة العلقة و هي الدم الجامد.

المرتبة الرابعة: [فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً] أي جعلنا ذلك الدم الجامد قطعة لحم كأنّها مقدار ما يمضغ كاللقمة مقدار ما يلتقم و سمّي التحويل خلقا لأنّه تعالى يفني بعض أعراضها و يخلق أعراضا غيرها و يخلق فيها أجزاء زائدة على الأوّل.

المرتبة الخامسة قوله: [فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً] أي صيّرناها عظما.

المرتبة السادسة: [فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً] و ذلك لأنّ اللحم للعظم كالكساء يستره.

المرتبة السابعة: [ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ] أي نفخنا فيه الروح غير خلق الأوّل

ص: 274


1- السجدة: 8.

لما فيه من المباءنة فجعله حيوانا و كان جمادا و ناطقا و كان أبكم و سميعا و كان أصمّ و بصيرا و كان أكمه و و أودع كلّ جزء من أجزائه غرائب حكمته و عجائب صنعه لا يحيط بها وصف الواصفين و تصريف اللّه إيّاه من قبل الولاد إلى أن يموت حاصل للإنسان.

و في الآية دلالة على بطلان قول من يعتقد أنّ الإنسان هو الروح لا البدن كالنظام و على بطلان قول الفلاسفة الّذين يقولون: إنّ الإنسان شي ء لا ينقسم و أنّه ليس بجسم.

قوله: [فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ] و البركة معناه الدوام و الثبوت مأخوذ من بروك الإبل و معناه أنّ العلوّ و الدوام و الثبوت منه و له خاصّة بالذات و هو أحسن المقدّرين و الخلق في اللغة كلّ فعل وجد من فاعله مقدّرا على سبيل الإرادة لا على سبيل السهو و الغفلة و العباد قد يفعلونه.

قالت المعتزلة: لو لا أنّ غير اللّه قد يكون خالقا لفعله إذا قدّره لما جاز القول بأنّه أحسن الخالقين كما لو لم يكن في عباده من يحكم و يرحم لم يجز أن يقال فيه: أحكم الحاكمين، و أرحم الراحمين.

قال بعض العلماء: هذه الآية و إن دلّت على أنّ العبد خالق إلّا أنّ اسم الخالق لا يطلق على العبد إلّا مع القيد و الإضافة كما أنّه يجوز أن يقال: ربّ الدار، و لا يجوز أن يقال: ربّ، بلا إضافة. و قيل: معنى: «أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» في اعتقادكم في ظنّكم و اعتقادكم.

قالت المعتزلة: الآية تدلّ على أن كلّ ما خلقه حسن و حكمة و صواب و إلّا لما جاز وصفه بأنّه أحسن الخالقين و إذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقا للكفر و المعصية فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما انتهى.

المرتبة الثامنة: [ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ] و قرئ «لمائتون» و الفرق أنّ «ميّت» صفة ثابتة و «المائت» يدلّ على التجدّد و الحدوث تقول: زيد ميّت الآن و مائت غدا.

المرتبة التاسعة [ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ] فاللّه سبحانه جعل الإماتة و إعدام الحياة و جعل البعث و إعادة ما يفنيه دليلين عظيمين في القدرة و الغرض من هذا البيان

ص: 275

الإنشاء و الإماتة و الإعادة و لم يذكر في الآية ما يحصل من الإعادة لأنّه داخل في الإعادة.

قوله تعالى: [وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ] هذا نوع آخر من الدلائل على القدرة الكاملة فقوله «سَبْعَ طَرائِقَ» أي سبع سماوات كلّ سماء طريقة و سمّيت بذلك لتطارقها و وضع بعضها فوق بعض أو أنّها طرائق الملائكة و كلّ طبقة طريقة و ما بين كلّ طريقين و سماءين مسيرة خمسمائة عام و كذلك ما بين السماء و الأرض.

[وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ] إذ بنينا فوقهم سبع سماوات و عالمين بأعمالهم و أحوالهم.

و في الآية زجر عن السيّئات و ترغيب في الطاعات و بيان إنعامه علينا بخلق السماوات حيث جعلها موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها و جعلها مقرّا للملائكة و هم يدبّرون أمورنا و لأنّها موضع الثواب لأعمالنا و مكان إنزال الوحي، و البركات و الأرزاق منها تنزل إلينا.

ثمّ في الآية دلالة على فساد القول بالطبيعة فإنّ شيئا من تلك الصفات لو حصل بالطبيعة من غير قاهر على الطبيعة لوجب بقاؤها و عدم تغييرها و لو قلت: إنّما تغيّرت تلك الصفات لتغيّر تلك الطبيعة فافتقرت تلك الطبيعة إلى خالق و موجد.

و بالجملة فبعد ذكر النوع الأوّل من الاستدلال و هو كيفيّة خلق الإنسان و النوع الثاني من الاستدلال و هو كيفيّة خلق السماوات، ذكر سبحانه النوع الثالث من الاستدلال بذكر قوله:

[وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ] اعلم أنّ الماء في نفسه نعمة فذكره اللّه أوّلا و هو موجب للنعم الكثيرة فقال: و أنزلنا من السماء مطرا و اختلفوا في السماء فقال الأكثرون: المراد من السماء في الحقيقة السماء و يؤيّده «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ» (1) و قال بعض المنطبعين: المراد من السماء السحب لعلوّه قالوا: إنّ

ص: 276


1- الذاريات: 22.

اللّه أصعد الأجزاء من قعر الأرض و من البحار إلى السماء و صارت بسبب ذلك التصعيد عذبة صافية ثمّ إنّ تلك الذرّات تأتلف و تتكوّن فينزلها اللّه على قدر الحاجة و لو لا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرّقها في قعر الأرض و لا بماء البحار لملوحته و لأنّه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض لأنّ البحار هي الغاية في العمق و لكنّ هذه الوجوه إنّما يتحمّلها من ينكر الفاعل المختار و أمّا من أقرّ به فلا حاجة به إلى شي ء منها.

قوله: «بقدر» أي بتقدير يسلمون معه من المضرّة و يصلون به إلى المنفعة في الزرع و الغرس و الشرب و بمقدار ما علمنا من حاجاتهم و مصالحهم.

قوله: «فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ» أي جعلنا له الأرض مسكنا و أثبتناه في الأرض و جمعناه في الأرض ينتفع به من له الحاجة يريد به ما في المستنقعات و عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ اللّه أنزل من الجنّة خمسة أنهار: سيحون و هو نهر الهند، و جيحون و هو نهر بلخ، و دجلة و الفرات و هما نهرا العراق، و النيل و هو نهر مصر؛ أنزل اللّه من عين واحدة و أجراها في الأرض و جعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم و ذلك قوله: «وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ» الآية.

قوله: [وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ] أي نحن على إذهابه قادرون و لو فعلناه لهلك جميع الحيوانات و في تنكير «ذهاب» إشارة إلى كثرة طرقه و مبالغة في الإيعاد به.

قوله: [فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ] و أحدثنا لنفعكم بسبب الماء يا معشر الخلائق بساتين من النخيل و الكروم و إنّما خصّ النخيل و الأعناب لأنّها ثمار الحجاز من المدينة و الطائف فذكّرهم بالنعم الّتي عرفوها و لكثرة منافع هذين النوعين للنّاس فإنّها يقومان مقام الطعام و الإدام و مقام الفواكه رطبا و يابسا.

قوله: [لَكُمْ فِيها فَواكِهُ] لكم في الجنّات من أصناف الفواكه أي وجوه أرزاقكم في هذه الجنّات و أكلكم و معاشكم منها.

قوله: [سورة المؤمنون (23): الآيات 20 الى 25]

وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)

إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)

ص: 277

و أنشأنا لكم [شَجَرَةً تَخْرُجُ] الشجرة بسبب الماء أي شجرة الزيتون و خصّت بالذكر لما فيها من العبرة بأنّه لا يتعاهدها إنسان بالسقي مع هذا هي عظيم المنفعة بسبب الدهن الحاصل منها و سيناء و سينين واحد اسم للجبل قيل: هو جبل فلسطين و قيل: بين مصر و أيلة و منه نودي موسى عليه السّلام.

قوله: [تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ] أي تنبت ثمرها بالدهن و فيها الدهن كما يقال: ركب الأمير بجنده أي و معه الجند و حاصل المعنى: ينبت زيتونها و فيها الزيت قال المفسّرون:

و إنّما أضاف اللّه سبحانه هذه الشجرة إلى طور سيناء لأنّ منها تشعّبت في البلاد و انتشرت و معظمها كان هناك.

[وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ] أي أدام للآكلين لأنّه يؤتدم به و الخبز يصبغ و يتلوّن بالإدام الخبز إذا غمسته باللبن فلا بدّ و أن ينصبغ كذلك ينصبغ بالزيت و الاصطباغ بالزيت الغمس فيه للائتدام يجعل اللّه في هذه الشجرة أداما و دهنا و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا به و ادّهنوا.

قوله: [وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً] أي دلالة تستدلّون بها على قدرة اللّه [نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها] و قرئ تسقيكم- بالتاء- أي تسقيكم الأنعام من الألبان الّتي تخرج من بطونها إلى ضروعها شرابا طيّبا حليبا لذيذا [وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ] من بيعها و الانتفاع بأثمانها و لحومها و ركوبها و حمولتها و ما يجري منها من المنافع العظيمة [وَ مِنْها تَأْكُلُونَ] بعد الذبح و بالجملة لكم منها وجوه المنافع قبل الذبح و بعد الذبح و هذه وجوه إنعامه سبحانه لكم لكي تشكروا و تستدلّوا بقدرته.

[وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ] و وجه الانتفاع بالإبل في المحمولات على الحيوان بمنزلة الانتفاع بالفلك على البحر فجمع بين الحملين من البرّ و البحر و الإنعامين من الإبل و الفلك و لذا قيل: الإبل سفائن البرّ و هذا كقوله: «وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ» (1).

ص: 278


1- الإسراء: 70.

و لمّا كان البيان في ذكر شمول نعمته على الخلق أتبعه بذكر عمدة أنعامه عليهم بإرسال السل فقال: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ] و من الأنبياء المرسلين نوح عليه السّلام و هو آدم الثاني لأنّ الناس بعد الغرق من أولاده و إنّما سمّي نوحا لنوحه و كثرة بكائه على نفسه و كان سبب نوحه أنّه كان يدعو على قومه بالهلاك و قيل: السبب مراجعة ربّه في شأن ابنه للغرق و قيل. مرّ بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح! فعوتب على ذلك فقال اللّه له: أ عيّبتني إذ خلقته أم عيّبت الكلب. و هذه الوجوه على فرض كون الأعلام تفيد صفة في المسمّى و المحقّقون لم يثبتوا هذه الإفادة و قالوا: إنّ الأعلام لا تفيد صفة في المسمّيات.

و بعد إرسال نوح إلى قومه [فَقالَ يا قَوْمِ] وحّدوا اللّه و أطيعوه [ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ] عذاب اللّه في ترك الإيمان و عبادة غيره لأنّ العبادة تحسن لمن أنعم بالخلق و الإيجاد فكيف يعبد ما لا يضرّ و لا ينفع؟

[فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ] و امّته أي الأشراف الكفرة من قومه أوردوا شبهات لتكذيب نوح:

الشبهة الاولى قولهم: [ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ] أي إنّه مساو لسائر الناس في البشريّة و الفهم و الغنى و الفقر و الصحّة و المرض و هذا يمتنع أن يكون رسولا و هو مشارك لكم في جميع الأمور و لكنّه أحبّ الرياسة و المتبوعيّة فلم يجد إليها سبيلا فادّعى النبوّة فبهذه الشبهة قدحوا في نبوّته و يؤيّد هذا المعنى بعده قوله تعالى: [يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ] و يترأّس و يطلب الفضيلة عليكم.

الشبهة الثانية قولهم: [وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً] أي إنّ اللّه لو شاء إرسال الرسول و إرشاد الخلق و لا يعبد غيره لوجب أن يسلك الطريق الّذي أقرب إلى المقصود و معلوم أن بعثة الملائكة أشدّ إفضاء من المقصود من بعثة البشر لعلوّ شأن الملائكة و شدّة سطوتهم و كثرة علومهم فالخلق ينقادون إليهم و لا يشكّون في رسالتهم فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنّه ما أرسل رسولا البتّة.

الشبهة الثالثة: [ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ] أي ما سمعنا بهذا الكلام

ص: 279

الّذي يقوله نوح من آبائنا القديمة لأنّهم كانوا لا يعولون في شي ء من المذهب إلّا على التقليد و الرجوع إلى قول الآباء، فلمّا لم يجدوا في نبوّة نوح هذه الطريقة حكموا بفسادها، و يمكن أن يكون زمانهم زمان فترة أو ما كانوا سامعين إلى عبادة اللّه وحده لأنّهم كانوا على عبادة الأصنام.

الشبهة الرابعة: [إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ] و الجنّة الجنون أو الجنّ فإنّ جهّال الناس يقولون في المجنون أصابه الجنّ و زال عقله بعمل الجنّ و هذه الشبهة من باب التمويه على العوامّ و الضعفاء لأنّه كان عليه السّلام يفعل أمورا في العبادة على خلاف عاداتهم فنسبوا إليه الجنون و من كان مجنونا فكيف يكون رسولا؟

الشبهة الخامسة قولهم: [فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ] أي انتظروا إلى زمان حتّى يظهر عاقبة أمره فإن أفاق و إلّا قتلتموه أو المعنى قالوا للعوامّ: اصبروا و لا تؤمنوا به فإن كان نبيّا فاللّه ينصره فحينئذ نتبعه و إن كان كاذبا يبطل أمره فحينئذ نستريح منه بعد موته.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 26 الى 30]

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

[قالَ رَبِّ انْصُرْنِي] أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إيّاي أو انصرني بدل ما كذّبوني كما تقول: هذا بذاك أي بدل ذاك أو المعنى: انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب.

و لمّا أجاب اللّه دعاءه قال: [فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا] أي عيننا و حفظنا عليك: و منه عليه من اللّه عين كالئة أي حافظة- و في الآية دلالة على فساد قول المشبّهة في تمسّكهم بقوله عليه السّلام: «إنّ اللّه خلق آدم على صورته» لأنّ ثبوت الأعين يمنع ذلك- أو بنصرة أوليائنا و أعيننا و هم الملائكة و المؤمنون فإنّهم يمنعون من كلّ من يمنعك منه.

ص: 280

[وَ وَحْيِنا] أي إعلامنا إيّاك كيفيّة صنعة السفينة و اختلفوا كيف صنع الفلك فقيل: إنّه كان نجّارا و قيل: إنّ جبرئيل علّمه و وصف له كيفيّة صنعتها و هو الأقرب لقوله تعالى: «بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا».

قوله: [فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ] اعلم أنّ لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء قيل: فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم و الدليل عليه أنّك إذا قلت: هذا أمر بقي الذهن يتردّد بين المفهومين و ذلك يدلّ على كونه حقيقة فيهما.

و بالجملة فإذا جاء أمرنا و اقتضى العذاب و بان علامته و فار التنوّر و الأكثرون على أنّه هو التنوّر المعروف فقيل لنوح: إذا رأيت الماء يفور من التنوّر فاركب أنت و من معك من أهل دينك في السفينة فلمّا نبع الماء من التنوّر أخبرته امرأته فركب و قيل في التنوّر: كان تنّور آدم و كان من حجارة فصار إلى نوح.

و اختلف في مكانه فما عليه الأكثرون أنّه في مسجد الكوفة عن يمين الداخل ممّا يلي باب كندة و كان نوح عمل السفينة في المسجد و قيل: التنوّر بالشام بموضع يقال له «عين وردة» و قيل: بالهند.

و عن ابن عبّاس أنّ التنوّر وجه الأرض و قيل: أشرف و أعلا موضع في الأرض و قال عليّ عليه السّلام: و فار التنوّر أي طلع الفجر و قيل: فوران التنوّر كان عند طلوع الفجر و قيل: معناه مثل قولهم: «حمى الوطيس» و قيل: إنّه الموضع المنخفض من السفينة الّذي يسيل إليه الماء.

و بالجملة جعل اللّه فوران التنوّر علامة لنوح عليه السّلام حتّى يركب عنده السفينة طلبا لنجاته و نجاة من آمن به من قومه.

قوله تعالى: [فَاسْلُكْ فِيها] أي فأدخل في السفينة يقال سلك فيه أي دخل فيه و اسلك فيها [مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ] من الحيوان الّذي يحضره في الوقت [اثْنَيْنِ] الذكر و الأنثى لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان و كلّ واحد منهما زوج لا كما تقوله العامّة من أنّ الروح هو الاثنان و روي أنّه لم يحمل إلّا ما يلد و يبيض

ص: 281

و قرئ «من كلّ» منوّنا أي من كلّ امّة زوجين فحينئذ اثنين تأكيد لزوجين و زيادة بيان [وَ أَهْلَكَ] أي أولادك أو المراد من الأهل من آمن بك لكن هذا المعنى ينافي الاستثناء و الصحيح أنّ المراد من الأهل الأولاد [إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ و لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ] و كان كنعان ممّن سبق عليه القول و كان من المغرقين.

[فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ] في السفينة قال ابن عبّاس: كان في السفينة ثمانون إنسانا نوح و امرأته و ثلاثة بنين سام و حام و يافث و ثلاث نسوة لهم و اثنان و سبعون إنسانا و هم عقلاء الدنيا [فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] و إنّما قال: «فقل» و لم يقل: «فقولوا» لرتبة النبوّة و تخصيص الخطاب إشعارا لكبرياء الربوبيّة و إنّ رتبة تلك المخاطبة لا يترقّى إليها إلّا ملك أو نبيّ أي فاستحمدوا اللّه على ما خلصكم من النفوس الظالمة لأنفسهم بجحدهم عن توحيد اللّه.

[وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ] لأنّه لا يقدر أحد أن يصون غيره من الآفات إذا أنزله منزلا و يكفيه جميع ما يحتاج إليه إلّا أنت.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ] في أمر نوح و السفينة و هلاك القوم بالغرق دلالات للعقلاء يستدلّون بها على الإله القادر القاهر [وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ] أي و إن كنّا مختبرين إيّاهم بإرسال نوح و وعظه و تذكيره و مصيبين الكفّار بهذا العذاب العظيم و مختبرين عبادنا ليتذكّرون و يعتبرون عبرة كاملة و «إن» في الآية مخفّفة من المثقّلة و ضمير الشأن محذوف و اللام في «لمبتلين» لام الفارقة بين النافية و المخفّفة و تمام القصّة قد مرّ شرحها في سورة هود.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 31 الى 40]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (32) وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)

هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)

ص: 282

القصّة الثانية قصّة هود أو صالح و منشأ الاختلاف قوله: «من بعدهم» فيقتضي أن يكون قوم هود لأنّه هو المبعوث بعد نوح و قوله «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» يقتضي قوم صالح لأنّ ثمود اهلكوا بالصيحة.

و على التقديرين [ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ] أي أحدثنا من بعد قوم نوح [قُرُوناً آخَرِينَ] جماعة من الناس و القرآن أهل العصر على مقارنة بعضهم لبعض [فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ] أي من جملة نسبهم و نشأ بين أظهرهم [أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ] مفسّرة لأرسلنا أي قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا اللّه «و ما لكم من إله غيره» تعليل للعبادة [أَ فَلا تَتَّقُونَ] عذابه بعبادة غيره.

[وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ] حكاية لقولهم الباطل من أشرافهم أي قال الأشراف من قومه [الَّذِينَ كَفَرُوا] و عبدوا غير اللّه [وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ] و يوم المعاد و الجزاء [وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] و كنّا منعمين عليهم بضروب الملاذّ و النعمة مقول قولهم كان إيراد الشبهات:

[ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ] و ليس من هو كذلك أولى بالرسالة منّا و هو حكمه مثل حكمنا فمن أين له الرسالة؟ [وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ] فجعلوا اتّباع الرسول الّذي من نوعهم خسرانا و لم يجعلوا عبادة الأصنام و الجماد خسرانا.

ثمّ القوم طعنوا في صحّة الحشر بقولهم: [أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ] أي يخوّفكم أنّكم تخرجون تعادون أحياء للمجازاة ثمّ لم يقتصروا على هذا القدر و قرنوا قولهم بالاستبعاد العظيم بقولهم: [هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ] أي بعد بعد ما يخوّفكم به قرئ «هيهات» بكسر التاء و بفتح التاء و بالتنوين و الكسر و بالتنوين و الرفع و بسكون التاء و هي كلمة اسم فعل و معناه بعدا بعدا و قيل: «هيهات» أصلها هيهئات و الحاصل: قالوا: هذا الوعيد الّذي يعدكم بعيد بعيد.

ص: 283

[إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا] و لم يريدوا الشخص الواحد يموت و يحيا بل مرادهم يموت بعض و يحيا بعض ضمير «هي» مفسّرها «إِلَّا حَياتُنَا» يعني ليس الحياة الّا حياتنا الدنيا أي لا حياة إلّا هذه الحياة فوازنت «إن» النافية «أذلاء» الّتي لنفي الجنس [وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] فأنكروا البعث بهذه البيانات الواهية.

[إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ] أي ليس هو إلّا رجل اختلق كذبا على اللّه و ما نحن له بمصدّقين فيما يقوله قال الرسول بعد ما سمع منهم هذه البيانات و الإنكارات.

[قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ] فبعد أن يئس هود من إيمانهم بعد ما سلك في دعوتهم بأقسام المسالك تضرّع إلى اللّه بقوله: ربّ انصرني عليهم و انتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إيّاي. فقال اللّه تعالى إجابة لمسئوله:

[قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ] أي عن قليل من الزمان و الوقت ليصبحنّ- و اللام لام القسم و ما في «عمّا» زائدة للتأكيد- نادمين إمّا عند نزول العذاب أو نزول الموت يكونون نادمين و لمّا ينفع الندم.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 41 الى 50]

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (45)

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ (50)

[فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ] في الصيحة وجوه: أحدها أنّ جبرئيل عليه السّلام صاح بهم و كانت الصيحة عظيمة فماتوا عندها. الثاني: الصيحة الرجفة عن ابن عبّاس. الثالث: الصيحة نفس العذاب و الموت كما يقال فيمن يموت: دعي فأجاب قال الشاعر:

ص: 284

صاح الزمان بآل برمك صيحةخرّوا لشدّتها على الأذقان

فدمّرهم العذاب بالعدل و الحقّ أي حكم عليهم بالحقّ و الاستحقاق.

[فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً] و الغثاء حميل السيل ممّا بلي و فتت و أسود من الورق و العيدان أي جعلناهم هلكى قد يبسوا كما يبس الغثاء [فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] المشركين المكذّبين أي ألزمهم اللّه البعد من الرحمة.

القصّة الثالثة: [ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ] المقصود من البيان أنّه ما أخلى الدنيا من مكلّفين أنشأهم و بلّغهم حدّ التكليف حتّى قاموا مقام من كان قبلهم في الدنيا.

[ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ] هذا وعيد للمشركين. المعنى:

ما يموت امّة قبل أجلها المضروب لها و لا يتأخّر، و قيل: المراد بالأجل العذاب الموعود لهم على التكذيب أنّه لا يتقدّم على الوقت المضروب لذلك و الأجل المضروب لحدوث أمر من الأمور.

قال الكعبيّ: المراد من قوله: «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ» أي لا يتقدّمون الوقت لعذابهم إن لم يؤمنوا و لا يتأخّرون عنه و لا يستأصلهم إلّا إذا علم منهم أنّهم لا يزدادون إلّا عنادا و أنّهم لا يلدون مؤمنا و لا نفع لبقائهم لأحد و لا ضرر على أحد في هلاكهم، و بالجملة الأجل محتوم لا يتغيّر و لا يتقدّم و مشروط و هو بحسب الشرط، و المراد بالأجل في الآية الأجل المحتوم.

قوله: [ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ] و قرئ «تترى» بالتنوين و من نوّن وقف بالألف و تترى فعلى من المواترة و المواترة أن يتبع الخبر الخبر و الكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كثير و الأقيس و الاولى أن لا يصرف و لا ينوّن كالتقوى و الدعوى و التاء بدل من الواو فإنّه مأخوذ من الوتر أي أرسلنا أنبياءنا متواترة يتبع بعضهم بعضا و أصل معناه الاتّصال و منه الوتر لاتّصاله بمكانه من القوس و منه الوتر و هو الفرد عن الجميع المتّصل.

[كُلَّ ما] أتى رسول امّته [كَذَّبُوهُ] و لم يقرّوا بنبوّته [فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً] أي

ص: 285

أهلكنا المكذّبين بعضهم في إثر بعض [وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ] أي يتحدّث بهم على طريق المثل من الشرّ و هو جمع احدوثة و لا يستعمل هذا في الخير [فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ] ثمّ وبّخهم و ذمّهم بقوله: بعدا من الرحمة الّذين لا يؤمنون باللّه و في الآية دلالة على تعذيبهم مؤبّدا آجلا كما عذّبوا عاجلا.

قوله: [ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ] و دلائلنا الواضحة و اختلفوا في الآيات: فقال ابن عبّاس: هي الآيات التسع و هي العصا و اليد و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم و انفلاق البحر و السنون و نقص من الثمرات و قيل: بآياتنا أي بديننا.

و احتجّوا بأنّه لو كان المراد بالآيات المعجزات و السلطان المبين أيضا هو المعجز معناه فحينئذ يلزم عطف الشي ء على نفسه.

و أجابوا بأنّ لفظ الآيات إذا ذكر في الرسل فالمراد منها المعجزات و السلطان المبين يجوز أن يكون أعظم معجزاته و هو العصا و قد تعلّقت بالعصا معجزات كثيرة شتّى من تلقّفها و انفجار العيون من الحجر بضربها و كونها حارسا و شمعة و تدفع العدوّ و دلوا و رشاء فلأجل انفراد العصا بهذه المزيّات أفردت بالذكر كقوله: «جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ» (1) و يمكن أن يكون المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى عليهم بالنبوّه و أنّه كان مسلّطا عليهم و لا يقيم لهم وزنا و لا قدرا.

قوله: [إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ] خصّ الملأ و هم الأشراف بالذكر لأنّ الآخرين كانوا أتباع لهم [فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ] فتجبّروا و تعظّموا عن قبول الحقّ و كانوا قاهرين و عالين و ذوي ثروة و كان قوم موسى و هارون عندهم كالخدم و العبيد لهم و قهروا أهل أرضهم.

[فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ] لرجلين بشرين [مِثْلِنا] و نصدّق الإنسانين خلقهم مثل خلقنا و يسمّى الإنسان بشرا لانكشاف بشرته و جلدته حتّى احتاج إلى لباس يكنّه بخلاف الحيوان مغطّى البشرة بصوف أو بشعر و ريش و غيره لطفا من اللّه إذ لم يكن للحيوان

ص: 286


1- البقرة: 98.

عقل يدبّر أمره عند الحاجة إلى ما يكنّه و الإنسان يهتدي إلى ما يستعين عند حاجته [وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ] أي مطيعون طاعة العبد لمولاه و قيل: كان بنو إسرائيل يعبدون فرعون و فرعون يعبد الأوثان.

فكذّبوا موسى و هارون [فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ] و كان عاقبة تكذيبهم أن أهلكهم و غرقهم.

قوله: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ] أي التوراة لعلّهم يعملون بشرائعها و مواعظها فذكر موسى أي آل موسى كما يقال هاشم و ثقيف [لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ] بعمل التوراة.

[وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ] و جعلناه حجّة على قدرتنا على الاختراع بخلقته من غير أب و إنّ مريم عليها السّلام حملت من غير فحل و جعلنا مأواهما مكانا مرتفعا مستويا واسعا و الربوة الّتي أويا إليها هي الرملة من فلسطين.

و قيل: نفس دمشق. و قيل: مصر. و قيل: بيت المقدس. و قيل: هي أقرب الأرض إلى السماء و قيل: هي حيرة الكوفة و سوادها و القرار مسجد الكوفة و المعين الفرات عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام و قيل: معناه ذات موضع قرار أي هي أرض مستوية يستقرّ عليها ساكنوها و قيل: ذات ثمار لأنّه لأجل الثمار يستقرّ فيها ساكنوها و المراد بالمعين ماء جار ظاهر العيون مفعول من عان يعين.

و بالجملة جعله اللّه و امّه آية و ظهر فيهما امور عجيبة بأن أنطقه في المهد و اخرى على يده إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و تكلّمت مريم في صغرها و هو قولها: «هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (1) و لم تلقم ثديا قطّ. قال القاضي: إن ثبت ذلك فهو معجز لزكريّا لأنّها لم تكن نبيّا. و إنّما قال القاضي هذا البيان لأنّ عنده الإرهاص غير جائز. و الحاصل أنّ مريم و ابنها بقيا إلى الربوة اثنتي عشرة سنة و إنّما ذهب بهما ابن عمّها يوسف ثمّ رجعت إلى أهلها بعد أن مات ملكهم.

قوله تعالى:

ص: 287


1- آل عمران: 37.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 51 الى 56]

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (55)

نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)

الخطاب إلى كلّ الرسل، و الرسل إنّما أرسلوا متفرّقين في أزمنة مختلفة و بيان توجيه الخطاب إليهم أنّ المعنى إعلام بأنّ كلّ رسول في زمانه هذا الخطاب، و وصّي به ليعتقد السامع أنّ أمرا نودي له الرسل حقيق بأن يعمل به أو الخطاب إلى رسولنا. و إنّما ذكر على صيغة الجمع كما يقال للواحد: أيّها القوم كفّوا أذا كم عنّي كأنّه سبحانه لمّا خاطب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك بيّن أنّ الرسل عليهم السّلام بأسرهم لو كانوا حاضرين لما خوطبوا إلّا بذلك ليعلم رسولنا أنّ هذا التثقيل ليس عليه فقط بل هو لازم على جميع الأنبياء.

و الحاصل لمّا أمر اللّه الناس الاهتداء بكتبه و العمل بشرائعه في الآية السابقة أمر الرسل و المؤمنين بأن يأكلوا من الحلال و لا يتصدّون أكل الحرام- قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا طيّبا- و أمر المؤمنين بما أمر الرسل فقال: [يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ] و قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» (1) قوله: [وَ اعْمَلُوا صالِحاً] أي ما أمركم اللّه به [إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] هذا بيان السبب الداعي إلى إصلاح العمل و الإتيان بالعمل الصالح فإنّ العاقل إذا علم أنّ من يعلم عمله يجازيه على حسب ما يعمل أصلح العمل.

قوله تعالى: [وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً] أي إنّ ملّتكم و دينكم دين واحد و يعضد هذا المعنى «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ»* أي على دين قال النابغة:

حلفت و لم أترك لنفسي ريبةو هل يأثمن ذو امّة و هو طائع

و قيل: المعنى: و إنّ جماعتكم و جماعة من قبلكم واحدة كلّكم عباد اللّه و خلقه [وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ] أي لهذا فاتقّوا الشرك.

ص: 288


1- البقرة: 172.

[فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً] أي كما يجب عليكم أكل الحلال و الاجتناب عن الحرام كذلك لا بدّ أن تكونوا متّفقين و مجتمعين على التوحيد و لا يقع منكم في هذا الأمر اختلاف و يلزمكم كلّكم دين واحد و مع هذا الأمر فهم من شدّة اختلافهم جعلوا دينهم أديانا و زبرا أي قطعا قطعا استعيرت من زبر الحديد و الفضة يعني بهم مشركي مكّة و المجوس و اليهود و النصارى و الصابئين.

[كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] و كلّ فريق منهم بما اتّخذ دينا لنفسه معجب به يرى نفسه أنّه المحقّ الرابح و غيره المبطل الخاسر.

فإن قيل: لمّا كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحد؟

قلنا: المراد من الدين أصوله من معرفة اللّه و أمّا الشرائع فإنّ الاختلاف فيها لا يسمّى اختلافا في الدين بل الاختلاف في كيفيّة الأعمال بحسب الشريعة كما يقال:

للحائض و الطاهر من النساء: إنّ دينهنّ واحد و إن افترق تكليفها فكذا هاهنا.

ثمّ أتبع للمختلفين بالوعيد و قال: [فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ] أي دع هؤلاء في جهلهم و الغمرة الماء الّذي يغمر القامة و قرأ عليّ عليه السّلام في غمراتهم و ذكروا في الحين وجوها: أحدها إلى الموت و قيل: إلى حين العذاب أو المراد به الحالة الّتي تقترن به الحسرة و الندامة و ذلك يحصل عند المحاسبة و الموت و عند عذاب القبر فيجب أن يحمل على كلّ ذلك.

قوله: [أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ] أي ظنّ هؤلاء الكفّار أنّ ما نعطيهم و نزيدهم من أموالهم و أولادهم إنّما نعطيهم ثوابا و مجازاة لهم على أعمالهم و لرضائنا عنهم و لكرامتهم علينا ليس الأمر كما يظنّون بل ذلك إملاء لهم و استدراج لهوانهم علينا و للابتلاء في التعبّد لهم و نظيره قوله: «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» (1) و روى السكونيّ عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى يقول:

يحزن عبدي المؤمن إذا قتّرت عليه شيئا من الدنيا و ذلك أقرب له منّي و يفرح إذا

ص: 289


1- الفجر: 15.

بسطت له الدنيا و ذلك أبعد له منّي ثمّ تلا هذه الآية إلى قوله «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» ثمّ قال: إنّ ذلك فتنة لهم.

قوله: «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» الشعور العلم الّذي يدقّ معلومه و فهمه على صاحبه و معنى «نسارع» نتعجّل و نسرع و حاصل المعنى أنّ هذا الإمداد ليس إلّا استدراجا لهم في المعاصي و هم يحسبونه مسارعة في الخيرات و كلمة «بل» للاستدراك لقوله: «أ يحسبون» أي بل هم أشباه البهائم لا شعور لهم حتّى يتفكّروا في ذلك أهو استدراج أم مسارعة في الخيرات؟

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 57 الى 61]

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ (61)

لما ذمّ حال المستدرجين بيّن في هذه الآية صفة المسارعين في الخيرات:

الصفة الاولى قوله: [إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ] و الإشفاق يتضمّن الخشية مع زيادة رقّة و ضعف، و قيل: جمع بينهما للتأكيد فإذن متساويان و منهم من حمل الخشية على العذاب فالمعنى: الّذين هم من عذاب ربّهم مشفقون. و قيل: المعنى:

الّذين هم من خشيته مشفقون أي دائمون في طاعته جادّون في طلب مرضاته و التحقيق أنّ من بلغ في الخشية إلى حدّ الإشفاق و هو كمال الخشية كان في نهاية الخوف من سخط اللّه عاجلا و من عقابه آجلا يكون في نهاية الاحتراز عن المعاصي.

الصفة الثانية قوله: [وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ] و آيات اللّه هي المخلوقات الدالّة على وجوده فيصدّقون بها و يقرّون و يعتقدون بحجج اللّه و كتبه و رسله.

و الصفة الثالثة قوله: [وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ] و ليس المراد من الآية التوحيد و نفي الشريك للّه لأنّ ذلك داخل في قوله: «وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» بل المراد منه نفي الشرك الخفيّ و هو أن يكون مخلصا في العمل و العبادة و لا يقدم عليها إلّا لوجه اللّه.

ص: 290

الصفة الرابعة قوله: [وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] معناه يعطون ما أعطوا فدخل فيه كلّ حقّ لزم إيتاؤه سواء كان ذلك الحقّ من حقوق اللّه كالزكاة و الكفّارة و غيرهما أو من حقوق الآدميّين كالودائع و الديون و أصناف العدل فبيّن أنّ ذلك إنّما ينفع إذا فعلوه و قلوبهم وجلة لأنّ من يقدم على العبادة و هو وجل من تقصيره و إخلاله بنقصان أو غيره فإنّه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهدا في أدائها.

و في الحديث: سألت عائشة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: و الّذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة أهو الّذي يزني و يشرب الخمر و يسرق و هو على ذلك يخاف اللّه؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا و لكن هو الرجل يصلّي و يصوم و يتصدّق و هو على ذلك يخاف اللّه تعالى.

و قيل: في الكلام حذف و إضمار أي و قلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم كما فسّر أبو عبد اللّه عليه السّلام قال: معناه: قلوبهم خائفة أن لا يقبل منهم و ذلك لعلمهم [بأنّهم إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ] و موقنين بأنّهم راجعون إلى اللّه و لعلّ أنّه لا يقبل و ليسوا مأمونين من التفريط.

[أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ] أي الّذين جمعوا هذه الصفات يبادرون إلى الطاعات رغبة منهم فيها [وَ هُمْ لَها سابِقُونَ] و هم لأجل تلك الصفات و المسارعة إلى الخير سابقون إلى الجنّة و قيل: و هم سبقوا الأمم إلى الخيرات و قيل: سابقون أمثالهم من أهل البرّ و التقوى و يمكن أن يكون خبرا بعد خبر و المعنى: و هم لها كما يقال: أنت لها و هي لك ثمّ قال: سابقون أي و هم سابقون.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 62 الى 71]

وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)

ص: 291

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يكلّف أحدا إلّا دون الطاقة و الوسع إنّما سمّي وسعا لأنّه يتّسع عليه فعله و قيل: الوسع الطاقة و لكنّ المعتزلة قالوا: إنّه دون الطاقة، و هذه الآية صريحة على نفي تكليف ما لا يطاق بل كلّف دون الوسع و الطاقة فمن لم يستطع أن يصلّي قائما فليصلّ جالسا و من لم يستطع جالسا فليؤم إيماء.

قوله: [وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ] أي و عند ملائكتنا المقرّبين كتاب ينطق و يشهد عليكم بالحقّ كتبه الملائكة بأمرنا في صحائف الأعمال و هم يوفون جزاء أعمالهم لا ينقص من ثواب أعمالهم و لا يزاد في عقابهم و شبّه الكتاب بمن ينطق و يصدر عنه البيان فإنّ الكتاب لا ينطق لكنّه يعرب (1) بما فيه كما ينطق و يعرب الناطق إذا كان محقّا و هذا الكلام مثل قوله: «وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» (2) و الآية تدلّ على أنّ العبد موجد لفعله و إلّا لكان تعذيبه على العمل ظلما.

قوله: [بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا] أي قلوب الكفّار في غفلة شديدة من هذا الكتاب و من هذا البيان الّذي بيّنّاه في القرآن من الوعد و الوعيد و في جهل و حيرة [وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ] أي و لهم أعمال رديئة خبيثة سوى ذلك الجهل و يعملون تلك الأعمال فيستحقّون بها و بالكفر العقوبة من اللّه و قيل: المراد: و لهم أعمال أصغر من الكفر و هم مشتغلون بها إلى أن يفني آجالهم.

و قيل: إنّ من قوله: «وَ لَدَيْنا كِتابٌ» إلى قوله: «هُمْ لَها عامِلُونَ» في أوصاف المشفقين لا الكافرين و قد يكون المرء لشدّه فكره في الآخرة يستولى عليه الفكر في قبول عمله أو ردّه و يتحيّر و هو المراد بوقوع القلب في غمرة و قوله «من هذا» أي من هذا الإشفاق و الخوف و لهم أعمال من دون ذلك أي من النوافل و وجوه البرّ سوى ما هم عليه.

قوله: [حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ] قال صاحب الكشّاف:

حتّى هذه هي الّتي يبتدأ بعدها الكلام أي يكون دأبهم هذا و مشتغلون بأعمالهم القبيحة حتّى إذا نزل بهم العذاب و أخذنا متنعّميهم و رؤساءهم بعذاب الآخرة و قيل: عذاب

ص: 292


1- أعربه: ابانه.
2- الكهف: 50.

الدنيا و هو عذاب السيف أو الجوع حين دعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليهم فقال: اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر و اجعلها سنين كسني يوسف فابتلاهم اللّه بالقحط حتّى أكلوا الكلاب و الجيف أي يضجّون لشدّة العذاب و يصرخون إلى اللّه بالتوبة فلا يقبل منهم و يقال لهم:

[لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ] و لا تضرّعوا اليوم و لا يدفع عنكم ما نزل بكم و لا يبلغكم نصرتنا و هذا الكلام إيئاس لهم من دفع العذاب.

[قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ] لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ الكفّار لا ينصرون أتبعه في هذه الآية ببيان السبب أنّه متى ما تليت آيات اللّه عليهم أتوا بأمور قبيحة: أحدها أنّهم كانوا على أعقابهم ينفرون و عن من يتلوها كما يذهب الناكص على عقيبه بالرجوع إلى ورائه أي يرجعون إلى القهقرى و الثاني قوله:

[مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ] أي متكبّرين على سائر الناس بالحرم و كانوا يقولون: إنّا أهل الحرم و لا يظهر علينا أحد لأنّهم القائمون بالبيت و ولاته و الّذي يسوّغ هذا الإضمار قبل الذكر شهرتهم بالاستكبار بسبب البيت أو البلد و قيل: الضمير راجع بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يطيعوه و استكبروا بنبوّته أو بالقرآن استكبروا أن يقبلوه و الضمير على جميع الصور رجع إلى غير مذكور قوله: [سامِراً تَهْجُرُونَ] قيل يتعلّق الباء في «به» بقوله سامرا أي يسمرون بالقرآن و يطعنون فيه و كانوا يجتمعون حول الكعبة بالليل و كانت عامّة سمرهم ذكر القرآن و تسميته شعرا و سحرا و سبّ رسول اللّه و يهجرون و يشتمون و السامر مثل الحاضر في الإطلاق على الجمع و الهجر بالفتح الهذيان و بالضمّ الفحش و يمكن أنّ المراد تهجرون الحقّ و تعرضون عنه.

قوله: [أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ] أي أ فلم يتدبّروا القرآن فيعرفوا ما فيه من الدلالات و العبر [أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ] أليس أرسلنا نوحا و إبراهيم و النبيّين إلى قومهم كذلك أرسلناك و مجي ء الرسل ليس أمرا على خلاف العادة و أنّهم قد عرفوا بالتواتر أنّ الرسل كانت تتواتر على الأمم و تظهر المعجزات عليهم و كانت الأمم بين مصدّق ناج و مكذّب هالك بعذاب الاستيصال أ فهذا الأمر ما دعاهم إلى تصديق الرسول؟

ص: 293

[أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ] أي أليس هو محمّد الّذي عرفوه صغيرا و كبيرا بالأمانة و الصدق بحيث عرّف بالأمين وافيا بالعهد فلم أعرضوا عند بعد ما عرفوا أمانته و صدقه و شرف نسبه قبل الدعوة؟

[أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ] أو يعتقدون فيه الجنون فيقولون: إنّه حمله الجنون على ادّعاء الرسالة و هذا أيضا فاسد لأنّ المجنون كيف يمكنه أن يأتي بما أعجز عقلاءهم عن الإتيان ببعضه على أنّ كتابه متضمّن من الدلائل و الشرائع الكاملة و إنّما نسبوا إليه الجنون حيث كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأمر صناديد هم و كبراء هم بانقياده و هذا كان عندهم من أبعد الأمور فأرادوا أن يوهموا لضعفائهم و عوامّهم لكي لا ينقادوا له فأوردوا ذلك مورد الاستحقار.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان هذه الوجوه و فساد أقوالهم و أفعالهم قال: [بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ] بل جاءهم بالقرآن و الدين الحقّ و ليس به جنّة و أكثرهم يكرهون الحقّ لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يوافق مرادهم.

قوله: [وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ] ثمّ بيّن سبحانه أنّ الحقّ لا يتّبع الهوى و لو اتّبع لوقع الفساد في العالم و اختلّ النظام لأنّ أهواءهم جعل الشريك للّه و عبادة الأوثان و تكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو منشأ المفسدة و كانوا يرون أنّ الحقّ في اتّخاذ آلهة مع اللّه فبيّن سبحانه أنّه لو صدر هذا الأمر على حسب ما يحبّون لفسدت السماوات و الأرض و من فيهنّ و وجه الفساد ما تقدّم في بيان دليل التمانع و لأنّ الحقّ يدعو إلى المصالح و المحاسن، و الهوى يدعو إلى المفاسد و المقابح و لو اتّبع الحقّ و هو اللّه داعي الهوى لدعي إلى القبائح و لفسد التدبير.

[بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ] بل أتيناهم- و قرئ بذكراهم أي مواعظهم بالقرآن لأنّهم قالوا: «لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ* لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» (1)- بما فيه شرفهم و فخرهم لأنّ الرسول منهم و القرآن بلسانهم و هم عن شرفهم و الأمور النافعة لهم معرضون و بالجهل و الكفر راضون.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 72 الى 80]

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (76)

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (80)

ص: 294


1- الصافات: 169.

ثمّ بيّن سبحان أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يطمع فيهم حتّى يكون ذلك سببا للنفرة فقال:

[أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ] يا محمّد على ما جئتهم به من القرآن و الإيمان أجرا فيوجب ذلك ثقلا عليهم و الخرج ما تبرّعت به و الخراج ما لزمك أداؤه و الخراج أكثر من الخرج لأنّ زيادة المباني تدلّ على كثرة المعاني أي كثير عطاء اللّه و رزقه خير فحينئذ لا يجوز أن ينفروا عنه بهذه التهمة فنبّه أنّه لا عذر لهم و أنّهم محجوجون من جميع الوجوه.

و الآية تدلّ على أنّ أحدا من العباد لا يقدر على مثل نعمه و رزقه كما أنّه تدلّ على أنّ العباد قد يتسبّبون لرزق بعضهم بعضا بأمره سبحانه لا على طريق الأصالة بل بالسببيّة و لهذا قال: [وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] و لو لا ذلك لما جاز أن يقول هو خير الرازقين.

قوله: [وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ] لأنّ ما دلّ الدليل على صحّته فهو مستقيم و هو طريق الحقّ و العمل به على طريق العدل و الاستقامة [وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] و لا يصدّقون بالمعاد و النشأة الآخرة [عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ] و عن دين الحقّ عادلون و مائلون، كذب العادلون باللّه و ضلّوا ضلالا بعيدا و ناكبون عن طريق الهداية و الجنّة يؤخذ بهم يمنة و يسرة إلى النار.

[وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ] معناه مثل قوله: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا» (1) أي و لو أنّا رحمنا هم و كشفنا ما بهم من جوع و ضرّ

ص: 295


1- الانعام: 28.

و نحوه لتمادوا في ضلالتهم و غوايتهم و كفرهم و أعمالهم القبيحة و يداومون عليها متجرّين.

قوله: [وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ] إنّا قد أخذنا هؤلاء الكفّار بالجدب و الغلاء و المرض و ضيق الرزق و القتل بالسيف فما تواضعوا و لا انقادوا و ما يرغبون إلى اللّه.

[حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ] أي هذا دأبهم و عادتهم حتّى إذا فتحنا عليهم نوعا آخر من العذاب و هو أشدّ من الأوّل إمّا بابا من عذاب جهنّم في الآخرة أو فتح مكّة؛ و قال أبو جعفر عليه السّلام: و هو في الرجعة عند قيام قائمنا. أو المراد سني مضر فجاعوا حتّى أكلوا العلمز و هو الوبر بالدم المطبوخ [إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ] أي حينئذ آئسون من كلّ خير متحيّرون.

قوله: [وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ] أي خلق هذه النعم الثلاثة العظيمة و أنعمكم بها و خصّها بالذكر لأنّ النظريّات و الدلائل مبنيّة عليها و أنّ العاقل ينظر و يسمع و يتفكّر فحينئذ يعلم قوله: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» و قليلا منصوب على المصدريّة أي تشكرون قليلا لهذه النعم أو لا تشكرون ربّ هذه النعم فتوحّدونه.

[وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ ... وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] أي خلقكم و أوجدكم في الأرض و قيل:

بسطكم فيها ذريّة بعضكم من بعض حتّى كثرتم أي هو الّذي جعلكم متناسلين في الأرض و يحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشرا إليه لا بمعنى المكان.

قوله تعالى: [وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ] يحييكم في أرحام امّهاتكم و يميتكم عند انقضاء آجالكم أي إنّ نعمة الحياة و إن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة.

[وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] و له تدبيرهما بالزيادة و النقصان و ملازمة ذهاب أحدهما مجي ء الآخر و وجه النعمة بهذا الاختلاف واضح لوضوح آثارهما من الفوائد و مع هذا لم تتركون النظر و لا تتدبّرون؟ [أَ فَلا تَعْقِلُونَ] أنّ لذلك صانعا قادرا.

قوله: [سورة المؤمنون (23): الآيات 81 الى 90]

بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (85)

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)

ص: 296

لمّا ذكر سبحانه نعمه الدالّة على التوحيد عقّبه بذكر المعاد فقال:

[بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ] عطف على مضمر يقتضيه المقام أي لم يعقلوا بل قالوا مثل ما قال آباؤهم و قلّدوهم في إنكار البعث و قالوا: أ إذا متنا و صرنا ترابا و عظاما كيف نبعث و أوردوا هذه الشبهة الفاسدة [لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا] الأمر من قديم الزمان من سائر الأنبياء ثمّ لم يوجد مع طول العهد ثمّ قالوا: [إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ] أي ما هذا إلّا ما كتبه الأوّلون ممّا لا حقيقة له.

قوله تعالى: [قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] المقصود من هذه الآيات الاستدلال على منكري الإعادة و الردّ على عبدة الأوثان و ذلك لأنّ القوم كانوا مقرّين باللّه لكن كانوا يقولون: نعبد الأصنام لتقرّبنا إلى اللّه فاحتجّ اللّه عليهم بقوله: قل لمن الأرض و من فيها ف [سَيَقُولُونَ لِلَّهِ] و إنّ من كان خالقا للأرض و من فيها و خالقا لحياتهم و قادرا على إماتتهم و إفنائهم فعبادة من خلقكم و أنعم عليكم هي الواجبة دون عبادة ما لا يضرّ و لا ينفع [أَ فَلا تَذَكَّرُونَ] لتعلموا بطلان ما أنتم عليه.

ثمّ زاد في الحجّة فقال: [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ] و وجه الاستدلال واضح فإذا كان هو المدبّر و الخالق للسماوات و العرش مع عظمهما و هم معترفون بأنّ اللّه خلقها فلم لا يتّقون عذابه و يتركون عبادة غيره.

ثمّ زاد سبحانه في الحجّة فقال: [قل] يا محمّد [مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] الملكوت من صفات المبالغة في الملك كالجبروت

ص: 297

و الرهبوت و قيل: بيده ملكوت كلّ شي ء معناه خزائن كلّ شي ء و هو يمنع من يشاء و لا يمنع منه من أراده بسوء يقال: أجرت فلانا إذا استغاث بك فحميته و أجرت عليه إذا حميت عنه و حاصل المعنى أنّ من قصد عبدا من عباده بسوء قدر على منعه و من أراد اللّه بسوء لم يقدر على منعه أحد أو المراد من هذا الأمر في القيامة أي يجير من العذاب و لا يجار عليه منه إن كنتم ذلك تعلمونه فأجيبوا أمره و لا تشركوا به شيئا.

[سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ] يقولون في الجواب: للّه، قل يا محمّد لهم: فكيف يخيّل إليكم الحقّ باطلا و الصحيح فاسدا و تخدعون عن طاعته و تعمون؟ و الخادع هو الشيطان و الهوى؛ قال امرؤ القيس:

«و تسحر بالطعام و بالتراب»

. [بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ] معناه أنّا جئناهم بالحقّ و بيّنّا لهم الحقّ الّذي يبيّن كذبهم و مع ذلك أنّهم أصرّوا على كذبهم و باطلهم.

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 91 الى 100]

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95)

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

في الكلام تنبيه على نفي قول الكفّار فإنّ جمعا منهم كانوا يقولون: الملائكة بنات اللّه و كالنصارى و كذلك نفى الشريك عنه بقوله: [وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ] و المراد الّذين اتّخذوا الأصنام آلهة و فيه إبطال قول الثنويّة.

ثمّ ذكر الدليل المعتمد بقوله: [إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ] أي لو كان الأمر كذلك لا نفرد على كلّ واحد من الآلهة بخلقه الّذي خلقه و استبدّ و استقلّ به و لرأيتم ملك كلّ واحد منهم متميّزا عن ملك الآخر و لغلب

ص: 298

بعضهم على بعض كما ترون حال الملوك في ممالكهم متميّزه كلّ ملك على ملكه و سلطانه و حيث لم تروا أثر التمايز في الممالك فاعلموا أنّه إله واحد بيده ملكوت كلّ شي ء و قوله: «إِذاً لَذَهَبَ» جواب و جزاء لشرط محذوف تقديره: و لو كان معه آلهة إذا لذهب كلّ إله و يدلّ عليه قوله: «وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ» ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن ما نسبوه إليه من اتّخاذ الولد و الشريك.

قوله: [عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ] أي هو المختصّ بعلم الغيب و الشهادة، فغيره و إن علم الشهادة فلن يعلم معها الغيب و الشهادة الّتي يعلمها و لا يتكامل بها النفع إلّا مع العلم بالغيب و لو أنّ الّذي يعلم الشهادة أيضا استفادته من اللّه [فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ] في علمه و قدرته و ألوهيّته.

ثمّ أمر نبيّه بالانقطاع إليه و أن يدعوه بقوله: [قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ] أي إن كان و لا بدّ من أن ترينّي ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فلا تعذّبني و أخرجني من بينهم عند ما تريد إحلال العذاب بهم لئلّا يصيبني ما يصيبهم.

و إن قيل: كيف يجوز أن يجعل اللّه نبيّه المعصوم مع الظالمين حتّى يدعو و يطلب أن لا يجعله معهم؟

فالجواب يجوز أن يسأل العبد ربّه ما علم أنّه يفعله و أن يستعيذ به ممّا علم أنّه لا يفعله إظهارا للعبوديّة و تواضعا لربّه كما وقع من أكابر الأنبياء و الأولياء في الأدعية لأنّ المؤمن يهضم نفسه.

و إنّما ذكر «ربّ» مرّتين مرّة قبل الشرط و مرّة قبل الجزاء مبالغة في التضرّع قال الزمخشريّ: «ما» في «إمّا» و النون في «ترينّي» مؤكّدتان.

قوله تعالى: [وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ] و ذلك في الرجعة إن شاء اللّه هذا ابتداء كلام من اللّه أي إنّا لا نعاجلهم بالعقوبة مع قدرتنا على ذلك و لكن ننظرهم لمصلحة يوجب ذلك التأخير مع أنّ الكفّار كانوا ينكرون الوعد بالعذاب و يضحكون منه و يحتمل أن يكون العذاب في الدنيا مؤخّرا عن آياته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ أمر نبيّة باحتمال ما يكون منهم من التكذيب و ضروب الأذى بأن يدفعه بالكلام

ص: 299

الجميل كالسلام و بيان الأدلّة على أحسن الوجوه فقال: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ] أي ادفع السيّئة بالحسنة بالصفح عن إساءة المسي ء و ادفع باطلهم ببيان الحجج على ألطف الوجوه و أوضحها و ألطفها إلى الإجابة و القبول نحن أعلم بما يكذّبون من الشرك و الإنكار فيجازيهم بما يستحقّونه.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّ الّتي هي أحسن التقيّة و بالجملة هذه الآية قيل:

منسوخة بآية السيف و قيل: محكمة لأنّ المداراة مرغوب فيها و محثوث عليها في كلّ الأوقات ما لم تؤدّ إلى نقصان دين.

قوله تعالى: [وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ] و قل: يا محمّد يا ربّ أعتصم بك من نزغاتهم و وساوسهم و شرور هم في كلّ شي ء يخاف من ذلك و أعوذ بك يا ربّ أن يشهدوني و يصدّوني عن طاعتك و قيل:

يحضرون في أوقات الصلاة عند تلاوة القرآن أو الأحوال كلّها حتّى لا يحوموا حولي فأكون متذكّرا و الهمزات جمع الهمزة و هو الدفع و التحريك الشديد و هو كالهزّ و الأزّ و منه الهمزة للحرف المعروف لأنّه يخرج من أقصى الحلق بالشدّة و الدفع.

قوله: [حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ] ثمّ شرح سبحانه حال القائلين بقولهم: أ إذا متنا و كنّا ترابا و عظاما و «حتّى» متعلّق بيصفون أو بكلمة «قالوا أ إذا» أي الكفّار لا يزالون على سوء الذكر إلى أن يجي ء أحدهم الموت سألوا اللّه الرجعة إلى دار التكليف فيقول أحدهم: ربّ ارجعوني على لفظ الجمع و فيه قولان:

أحدهما أنّهم أوّلا استغاثوا باللّه ثمّ خاطبوا الملائكة ارجعوني إلى الدنيا و الآخر على عادة العرب في تعظيم المخاطب كما قال: «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ» (1) و إذا كان المساءلة و الخطاب إلى الملائكة فهم ملائكة الّذين يقبضون الأرواح لأنّ عند مشاهدة الموت لا يشاهدون الكفّار إلّا إيّاهم أو الخطاب و المسألة من اللّه و الجمع للتعظيم كقول الشاعر:

«فإن شئت حرّمت النساء سواكم»

. و على القول الأوّل من الأقوال فكأنّه يجعل ذكر الربّ للقسم أي بحقّ

ص: 300


1- القصص: 9.

الربّ ارجعوني؟

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 7 349

فإن قيل: كيف يسألون الرجعة و قد علموا صحّة الدين بالضرورة من الدين أن لا رجعة.

فالجواب أنّه و إن كان الأمر كذلك لكن لا يمتنع أن يسألوه لأنّ الاستغاثة يقع عند الشدّة و لو حال اليأس و لذلك أتوا مسؤولهم بكلمة الشكّ بقولهم «لعلّي» و أوردوا الكلام الّذي للترجّي مع كونهم جازمين بأنّهم يتدارسونه كون و لا يتداركون كما قال اللّه: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» (1).

و المراد من قوله: [لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ] أي فيما خلّفت من المال لأتدارك فيما تركت من أداء حقوقها الواجبة من اللّه و من الناس و كذلك لأداء العبادات المتروكة الفائتة كأنّهم تمنّوا الرجعة لإصلاح ما أفسدوا و يطيعوا في كلّ ما عصوا.

قال الصادق عليه السّلام في مانعي الزكاة: يسأل الرجعة عند الموت.

و هذا البيان على قول الأكثرين من أنّه راجع إلى حال الكفّار لكن قال الضحّاك: كنت جالسا عند ابن عبّاس فقال: ذلك قول من لم يزكّ و لم يحجّ يسأل الرجعة عند الموت فقال رجل: إنّما يسأل ذلك الكفّار فقال ابن عباس: أنا أقرأ عليك به قرانا قوله تعالى: «وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ» (2) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا حضر الإنسان الموت جمع كلّ شي ء كان يمنعه من حقّه بين يديه فيقول عنده: «رَبِّ ارْجِعُونِ» الآية.

قوله: [كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] فيقول اللّه سبحانه في جوابهم كلمة المنع و الردع بما طلبوا كما يقال لطالب الأمر المستبعد: هيهات، في الحديث إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعائشة: إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا له: نرجعك إلى الدنيا فيقول المؤمن: إلى دار الهموم و الأحزان؟ لا بل قدوما على اللّه و أمّا الكافر فيقال له: نرجعك فيقول: ارجعوني فيقال له: إلى أيّ شي ء ترغب إلى جمع المال أو غرس

ص: 301


1- الانعام: 28.
2- المنافقون: 10.

الغراس أو بناء البنيان أو شقّ الأنهار؟ فيقول: لعلّي أعمل صالحا فيما تركت! فيقول الجبّار: كلّا.

و قوله «هُوَ قائِلُها» أي إنّه قائلها و لا حقيقة لها فقط يقوله بلسانه و قيل: معناه:

إنّه قائل وحده هذه الكلمة و لا يسمع منه و لا يجاب عنه و قيل: معناه: إنّه لا يسكت عن هذه الكلمة لاستيلاء الحسرة عليه «وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» أي و من أمامهم مانع و حاجز إلى الرجوع «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» و يوم يبعثون إلى القيامة لا إلى الدنيا فليس لهم رجوع و الجمع باعتبار المعنى لأنّ الكلّ في هذا الحكم مشتركون كما أنّ الإفراد في الضمائر الأوّل باعتبار اللفظ و هذا الكلام إقناط كلّيّ عن الرجوع إلى الدنيا و الوراء يطلق على الأمام لأنّ معناه ما ستر و وري عنك و الأمام كذلك مستور عن الإنسان كما أنّ الخلف مستور.

القميّ: البرزخ أمر بين أمرين و هو الثواب و العقاب بين الدنيا و الآخرة و هو قول الصادق عليه السّلام: و اللّه ما أخاف عليكم إلّا البرزخ و أمّا إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: إنّي سمعتك و أنت تقول: كلّ شيعتنا في الجنّة على ما كان منهم؟ قال عليه السّلام: صدقتك، كلّهم و اللّه في الجنّة، قيل: إنّ الذنوب كثيرة كبار فقال: عليه السّلام أمّا في القيامة فكلّكم أجمعون بشفاعة النبيّ المطاع أو وصي النبيّ و لكنّي و اللّه أتّخوف عليكم في البرزخ قيل: و ما البرزخ؟ فقال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة. و في الخصال عن السجّاد عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية و قال:

هو القبر و إنّ لهم معيشة ضنكا و اللّه إنّ القبر لروضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران.

قوله: [سورة المؤمنون (23): الآيات 101 الى 110]

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105)

قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)

ص: 302

ثمّ بيّن سبحانه حال الفريقين و حال ذلك اليوم الّذي فيه يبعثون.

و في الصور أقوال: أحدها و هو الصحيح آلة إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم جعله اللّه لوقت إعادة الخلق و ينفخ فيه إسرافيل و هو قول أكثر المفسّرين. و قيل: نفخ الصعق جعلها اللّه علامة لخراب الدنيا. و قيل: نفخة البعث فحينئذ النفخة نفختان و قرئ في الصور محرّكة جمع صورة أي إذا نفخ فيه الأرواح و أعيدت أحياء.

قوله: [فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ] أي لا يتواصلون بالأنساب و لا يتعاطفون بها مع معرفة بعضهم بعضا و لا يرحم قريب قريبه يشغله عنه من الخوف و الدهشة و حاصل المعنى أنّه لا يفضّل بعضهم بعضا يومئذ بنسب و إنّما يتفاضلون بأعمالهم قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

كلّ حسب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا حسبي و نسبي.

[وَ لا يَتَساءَلُونَ] أي لا يسأل أحد عن حال أحد كما يسألون في الدنيا يشغل كلّ واحد بنفسه و لا تنافي بين هذا القول مع قوله: «وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ»* (1) لأنّ مواقف القيامة كثيرة ثمّ إنّ الّذين يتساءلون لعلّ بعض أهل الجنّة و يتساءلون عند دخولها فإنّهم لا يفزعون من أهوال يوم القيامة أو فرغوا من فزعها و المراد في الآية نفي آثار النسب و حكمه لا نفي النسب في الحقيقة و ذلك بيان الخوف الشديد الطاري عليهم.

قال ابن مسعود: يؤخذ العبد و الأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد و ينادي مناد:

ألا إنّ هذا فلان فمن له حقّ عليه فليأت إلى حقّه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حقّ على امّها أو أختها أو أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون و لا شي ء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شي ء ثمّ تلا: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ» (2) قال: عليه السّلام ثلاث مواطن تذهل فيها

ص: 303


1- الصافات: 27.
2- عبس: 34.

كلّ نفس: حين يرمى إلى كلّ إنسان كتابه و عند الموازين و على جسر جهنّم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ بعد النفخ في الصور تكون المحاسبة فشرح أحوال السعداء و الأشقياء [فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ] بالطاعات [فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] الناجون أي من أتى بما له قدر و خطر فهو الفائز [وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ] و من أتى بما لا وزن له كقوله: «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً فأولئك هم الخاسرون» (1) و هو خالد في جهنّم و الموازين جمع موزون و هي الموزونات من الأعمال الصالحة الّتي لها وزن و قدر. و بالجملة من ثقلت حسناته فإلى الجنّة و من ثقلت سيّئاته فإلى النار.

و الأشقياء و صفهم اللّه بأمور أربعة: أحدها أنّهم خسروا أنفسهم و غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين و امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب و ثانيها خالدون في جهنّم و ثالثها قوله: [تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ] أي تضرب و تأكل جلودهم و لحومهم و الفح و النفخ في المعنى واحد إلا أنّ اللفح أشدّ تأثيرا من النفخ و هو ضرب من السموم للوجه و رابعها قوله: [وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ] و الكلوح تقلّص الشفتين عن الأسنان حتّى تبدو الأسنان كما ترى الرؤوس المشويّة و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: تشويه النار فتتقلّص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه و تسترخي شفته السفلى حتّى تبلغ سرّته و قرئ كلحون.

ثمّ إنّه سبحانه لمّا شرح عذابهم حكى ما يقال لهم عند ذلك تقريعا و توبيخا [أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ] أي أو لم تكن القرآن يقرأ عليكم أو حججي و بيّناتي تقرأ عليكم في دار الدنيا فكذّبتموها فلا جرم صرتم مستحقّين لما أنتم فيه من العذاب الأليم و الآية صريحة دالّة على أنّهم إنّما وقعوا في ذلك العذاب بسوء أفعالهم و لو كان فعل العباد بخلق اللّه كما زعم الأشاعرة لما صحّ ذلك.

[قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ] ثمّ اعتذروا و ذكروا ما يجري مجرى الجواب عنه بأن غلبت الشقاوة و سوء العاقبة و حال الشقاء و طلبنا اللّذّات المحرّمة و حرصنا على الأعمال القبيحة فأطلق اسم المسبّب على السبب و المعنى استعلى

ص: 304


1- النور: 39.

علينا سيّئاتنا الّتي أوجبت لنا الشقاوة و كنّا قوما ذاهبين عن الحقّ و من أكثر الشقاوة أن يترك عبادة اللّه إلى عبادة غيره.

[قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ] أي ابعدوا بعد الكلب و هذه الكلمة زجر و طرد للكلاب و هذه الكلمة بقولهم: «فَإِنَّا ظالِمُونَ» آخر كلام يتكلّم به أهل النار ثمّ بعد ذلك يكون لهم شهيق كشهيق الحمار و يقال لهم: اخسئوا و لا تكلّمون في دفع العذاب فإنّه لا يرفع عنكم و لا يخفّف ثمّ لا كلام بعد ذلك إلّا الشهيق و العواء كعواء الكلب و «لا تكلّمون» بصيغة النهي و ليس بنهي لأنّ الأمر و النهي مرتفعان في الآخرة لارتفاع التكليف.

قال ابن عبّاس: إنّ لأهل النار ستّ دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة:

«رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا» (1) فيجابون: «حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي» (2) فينادون ألف سنة ثانية: «رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» (3) فيجابون «ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ» (4) فينادون ألف ثالثة: «يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» (5) فيجابون «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» (6) فينادون ألفا رابعة: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ» (7) فيجابون: «أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ» (8) فينادون ألفا خامسة: «أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً» (9) فيجابون: «أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ» (10) فينادون ألفا سادسة: «رَبِّ ارْجِعُونِ» (11) فيجابون: «اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ» (12).

ثمّ وصف سبحانه ما لأجله حلّ بهم العذاب و عذّبوا و بعدوا من الخير [إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي] أي طائفة من عبادي و هم الأنبياء أو المؤمنون [يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ] أي كانوا يدعون بهذه الدعوة في الدنيا طلبا لما عندي من ثواب الآخرة [فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ] أنتم يا معشر الكفّار [سِخْرِيًّا] كنتم

ص: 305


1- الم السجدة: 12.
2- الم السجدة: 13.
3- المؤمن: 11.
4- المؤمن: 12.
5- الزخرف: 47.
6- الزخرف: 77.
7- المؤمنون: 108.
8- ابراهيم: 44.
9- فاطر: 37.
10- فاطر: 37.
11- المؤمنون: 100.
12- المؤمنون: 109.

تهزءون و تسخرون منهم.

[حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي] بتشاغلكم بهم في الاستهزاء عن ذكري فنسب الإنساء إلى المؤمنين و إن لم يفعلوا لمّا كانوا السبب في ذلك و من فرط اشتغالكم باستهزائهم حين ما يقول المؤمنون كلمة «ربّنا فاغفر لنا» نسيتم ذكري و كذّبتم هذا اليوم، و كانوا يؤذون المؤمنين مثل أصحاب الصفّة و قيل: يستعبدون الفقراء و الضعفاء و الصعاليك من المؤمنين مثل بلال و خباب و عمّار و صهيب و يصرفونهم في أعمالهم الشاقّة و حوائجهم كرها بغير أجر و كان رؤساء قريش مثل أبي جهل و عتبة و ابيّ بن خلف يقولون: انظروا إلى هؤلاء رضوا من الدنيا بالعيش الدني ء طمعا في ثواب الآخرة و ليس وراءهم آخرة و لا ثواب و هذا معنى النسيان من الذكر.

و أكّد سبحانه ذلك بقوله: [وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ] و هذا العذاب جزاء ضحككم و تكذيبكم يوم القيامة و أمّا جزاء المؤمنين:

قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 111 الى 118]

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115)

فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

ثمّ أخبر سبحانه حال المؤمنين الصابرين في استهزاء الكفّار في دار الدنيا فقال:

[إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ] بصبرهم على أذاكم و سخريّتكم بهم [أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ] أي الظافرون بما أرادوا و الناجون في الآخرة و المراد بقوله «اليوم» أيّام الجزاء لا يوم بعينه.

قوله تعالى: [قالَ] اللّه تعالى. للكفّار يوم البعث و هو سؤال توبيخ لمنكري

ص: 306

البعث: [كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ] أي في الدنيا أو في القبور و قيل: الضمير في «قال» راجع إلى الملك أو بعض رؤساء أهل النار لأنّهم كانوا ينكرون الآخرة و يقولون:

اللبث في الدنيا و لا إعادة بعد الموت فلمّا حصلوا في النار و أيقنوا أنّها دائمة سألهم «كَمْ لَبِثْتُمْ» تنبيها لهم على أنّ ما ظنّوه دائما فهو يسير بالنسبة إلى ما أنكروه فحينئذ تزداد حسرتهم على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا حيث أيقنوا خلافه.

فإن قيل: كيف يصحّ في جوابهم أن يقولوا [يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ] و لا يقع من أهل النار الكذب؟ لأنّهم نسوا من كثرة العذاب و قد اعترفوا بالنسيان حيث قالوا:

[فَسْئَلِ الْعادِّينَ] و قيل: المراد من قولهم يوما أو بعض يوم من أيّام الآخرة و العادّين يعني الملائكة الحفظة الّذين يحصون أعمال العباد و قيل: المراد أهل الحساب الملائكة الّذين يعدّون الأيّام و عدد تنفّس الخلائق.

[قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا] قال اللّه: ما مكثتم إلّا يسيرا من الزمان لأنّ مكثهم في الدنيا أو في القبور و إن طال فإنّه قليل بالإضافة إلى طول مكثهم في عذاب جهنّم [لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] صحّة ما أخبرناكم به أو المعنى: لو كنتم تعلمون قصر أعماركم و طول مكثهم في العذاب لما اشتغلتم بالكفر و المعاصي.

ثمّ قال سبحانه لهم: [أَ فَحَسِبْتُمْ] معاشر الجاحدين [أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً] أي لعبا و باطلا لا لغرض و حكمة مثل قوله «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً» (1) [وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ] و زعمتم عدم رجوعكم إلينا و ليس الأمر كما زعمتم.

ثمّ برّأ سبحانه نفسه عن العبث و اللغو فقال: [فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ] من أن يفعل شيئا عبثا و الملك الحقّ الّذي يحقّ له الملك لأنّ كلّ مالك غيره فهو مستعير منه و هو صاحب الملك [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ] و هو خالق السرير الأعظم و الكريم هاهنا صفة العرش أي كثير الخير و قد وصف العرش به لأنّ إتيان الخير من جهته و لكثرة ما فيه من الخير لمن حوله من الملائكة و خصّ بالذكر مع كونه ربّ كلّ شي ء تعظيما له كقوله «رَبَّ هذَا الْبَيْتِ» قال أبو مسلم: و العرش هاهنا السماوات بما فيها

ص: 307


1- القيامة: 36.

مع العرش الّذي يطوف الملائكة حوله.

قوله: [وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ] لمّا بيّن أنّه سبحانه هو الملك الحقّ لا إله إلّا هو أتبعه بأنّ من ادّعى إلها آخر فقد ادّعى باطلا من حيث لا برهان لهم فيه و نبّه بذلك على أنّ كلّ ما لا برهان فيه لا يجوز إثباته و ذلك يوجب صحّة النظر و فساد التقليد.

ثمّ قال سبحانه: إنّ من كان كذلك و أشرك مع اللّه إلها آخر [فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ] فكأنّه قال: إنّ عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلّا اللّه و حسابه عدم الفلاح كما أنّ للمؤمنين الفلاح، فشتّان بين فاتحة السورة و خاتمة السورة.

ثمّ بعد بيان حال المؤمنين و الكافرين أمر نبيّه بالانقطاع إليه و الطلب إلى غفرانه و رحمته فإنّهما العاصمان عن كلّ المخافات و الآفات بقوله: [وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ] و روي أنّ أوّل السورة و آخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أوّلها و اتّعظ بأربع من آخرها فقد نجا و أفلح.

تمّت السورة بحمد اللّه.

ص: 308

سورة النور

اشارة

(مدنية) عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة النور اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن و مؤمنة فيما مضى و فيما بقي.

و روى الحاكم أبو عبد اللّه في الصحيح عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لا تنزّلوهنّ الغرف و لا تعلّمونهنّ الكتابة و علّموهنّ الغزل و سورة النور.

و روى عبد اللّه بن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: حصّنوا أموالكم و فروجكم بتلاوة سورة النور و حصّنوا بها نساءكم فإنّ من أدمن في قراءتها في كلّ ليلة أو في كلّ يوم لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتّى يموت فإذا مات شيّعه إلى قبره سبعون ألف ملك يدعون و يستغفرون اللّه له حتّى يدخل إلى قبره.

ص: 309

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة النور (24): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

أي هذه سورة و قطعة من القرآن من السور. و قرئ «سورة» بالنصب و «فرضناها» قرئ بالتشديد أي أوجبناها عليكم العمل بها و على من بعدكم إلى يوم القيامة و قدّرنا فيها الحدود.

[وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] أي أنزلنا في هذه السورة دلالات واضحات على وحدانيّتنا و كمال قدرتنا لكي تتذكّرون و تعلموا بما فيها من الحدود و الأحكام فابتدأ بحكم الزنا فقال:

[الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي] مرفوعة على الابتداء و الخبر «فاجلدوا» أي من زنت من النساء و زنى من الرجال فيفيد العموم في الجنس [فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ] و إنّما دخلت الفاء لكون الألف و اللام بمعنى الّذي و تضمّنه معنى الشرط كما يقول: من زنى فاجلدوه و قرئ «و الزان» بلا ياء.

القميّ: هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: «وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» (1) و في الكافي عن الباقر عليه السّلام و سورة النور أنزلت بعد سورة النساء و تصديق ذلك أنّ اللّه سبحانه بيّن في سورة النساء بقوله: «أَوْ يَجْعَلَ

ص: 310


1- النساء: 14.

اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» و السبيل الّذي قال تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها- إلى قوله- طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

و في التهذيب عن الصادق عليه السّلام: الحرّ و الحرّة إذا زنيا جلد كلّ واحد منهما مائة جلدة فأمّا المحصن و المحصنة فعليهما الرجم و بالجملة فالجلد إذا كانا حرّين بالغين غير محصنين و أمّا إذا كانا محصنين أو كان أحدهما محصنا كان عليه الرجم بلا خلاف و الإحصان هو أنّ له فرج يغدو إليه و يروح على وجه الدوام و يكون حرّا فأمّا العبد فلا يكون محصنا و كذلك الأمة لا تكون محصنة و إنّما عليها نصف الحدّ خمسون جلدة لقوله سبحانه: «فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» (1).

و عنه عليه السّلام في الكافي سئل عن المحصن فقال: الّذي يزني و عنده ما يغنيه. و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن الجارية أتحصن قال: نعم إنّما هو على وجه الاستغناء. قيل:

المتعة؟ قال: لا إنّما ذلك على الشي ء الدائم.

و عن الصادق عليه السّلام لا يرجم الرجل و لا المرأة حتّى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع و الإيلاج كالميل و في المكحلة.

و عن الأصبغ بن نباتة إنّ عمر اتي بخمسة نفر أخذوا في الزنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم و كان أمير المؤمنين عليه السّلام حاضرا فقال: يا عمر ليس هذا حكمهم قال عمر:

فأقم أنت الحدّ عليهم فقدّم عليه السّلام واحدا منهم فضرب عنقه، و قدّم الآخر فرجمه، و قدّم الثالث فضرب الحدّ مائة جلدة، و قدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، و قدّم الخامس فعزّره فتحيّر عمرو تعجّب الناس من فعله فقال له: يا أبا الحسن خمسة نفر في قضيّة واحدة أقمت عليهم خمسة حدود ليس شي ء منها يشبه الآخر فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:

أمّا الأوّل فكان ذمّيا فخرج عن ذمّته لم يكن له حدّ إلّا السيف، فأمّا الثاني فرجل محصن كان حدّه الرجم، و أمّا الثالث فغير محصن فحدّه الجلد، و أمّا الرابع فعبد ضربناه نصف الحدّ و أمّا الخامس فمغلوب على عقله.

و القميّ مثله إلّا أنّه قال: ستّة نفر قال: و أطلق السادس ثمّ قال: و أمّا الخامس

ص: 311


1- النساء: 24.

فكان منه ذلك الفعل بالشبهة فعزّرناه و السادس مجنون فأطلقناه.

و يضرب الرجل الحدّ قائما و المرأة قاعدة و يترك الرأس و المذاكير. و سئل عنه عليه السّلام: كيف يجلد قال عليه السّلام: أشدّ الجلد فقيل له: فوق الثياب فقال: لا بل يجرّد.

و باقي فروعات المسألة يطلب من كتب الفقهيّة و إنّما قدّم ذكر الزانية على الزاني لأنّ الزنى منهنّ أشنع و أعير و هو لأجل الحبل أضرّ و أفسد. و قوله: «فَاجْلِدُوا» خطاب للأئمّة و من يكون منصوبا من جهتهم للأمر لأنّه ليس لأحد أن يقيم الحدود إلّا للأئمّة و من ناب عنهم فيشمل العلماء العاملين في زمان الغيبة لأنّ لهم التصرّف في الأمور.

و اعلم أنّ الزنا حرام و هو من الكبائر و يدلّ عليه امور:

أحدها أنّ اللّه قرنه في الذكر بعد الشرك و قتل النفس في قوله: «وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً» (1) و قال تعالى: «وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا» (2).

و ثانيها أنّه تعالى أوجب المائة فيها بكمالها بخلاف حدّ القذف و شرب الخمر و شرع فيه الرجم و نهى المؤمنين عن الرأفة و أمر بشهود الطائفة للتشهير.

و ثالثها ما روى حذيفة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: يا معشر الناس اتّقوا الزنى فإنّ فيه ستّ خصال: ثلاث في الدنيا و ثلاث في الآخرة؛ أمّا الّتي في الدنيا: فيذهب البهاء، و يورث الفقر، و ينقص العمر؛ و أمّا الّتي في الآخرة: فسخط اللّه و سوء الحساب و عذاب النار.

و عن عبد اللّه قال: قلت: يا رسول اللّه أيّ الذنب أعظم عند اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أن تجعل للّه ندّا و هو خلقك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك. قلت ثمّ أيّ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أن تزني بحليلة جارك فأنزل اللّه تصديقها

ص: 312


1- الفرقان: 68.
2- الإسراء: 37.

«وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ، الآية» (1).

قوله تعالى: [وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] المعنى: إن كنتم تصدّقون باللّه و تقرّون بالبعث و النشور فلا تأخذكم بهما رأفة و رحمة تمنعكم إقامة الحدّ عليهما و قيل: معناه: لا تأخذكم بهما رأفة تمنع من الجلد الشديد و تضربون بحيث لا يوجع بل أوجعوها و لا تخفّفوا في الضرب كما يخفّف في حدّ الشارب و قوله: «فِي دِينِ اللَّهِ» أي حكم اللّه و طاعته و هو كقوله «ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ» (2).

و الغرض من هذا البيان من باب التهييج و الغيرة للّه تعالى و دينه؛ و كفي برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسوة في ذلك حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها.

و هذا يدلّ على أنّ الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان بخلاف ما تقوله المرجئة و لا بدّ أن يكون المؤمن بطبعه راغبا إلى ما حكم اللّه به و لا يكون مائلا بأن لا يقام حدود اللّه فيكون حينئذ منكرا للدين فيخرج عن الإيمان. و في الحديث: يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا فيقال له: لم فعلت ذاك؟ فيقول: رحمة لعبادك فيقال له: أنت أرحم لهم منّي؟ فيؤمر به إلى النار و يؤتى بمن زاد سوطا فيقال له: لم فعلت ذاك؟ فيقول:

لينتهوا عن معاصيك فيقول: أنت أحكم به منّي فيؤمر به إلى النار.

قوله: [وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ] أي و ليحضر حال إقامة الحدّ عليهما جماعة من المؤمنين و هم ثلاثة فصاعدا، و قيل: الطائفة رجلان فصاعدا، و قيل: أقلّه رجل واحد و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و يدلّ على صحّة هذا القول قوله تعالى:

«وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» (3) و هذا الحكم يثبت للواحد كما يثبت للجمع و قيل: أقلّها أربعة لأنّ أقلّ ما يثبت به الزنى أربعة. و قيل: ليس لهم عدد محصور بل هو موكول إلى رأى الإمام و المقصود حصول العبرة و انزجار الناس عن المعصية و رفع

ص: 313


1- الفرقان: 68.
2- يوسف: 76.
3- الحجرات: 9.

التهمة عمّن يجلد.

قوله تعالى: [الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] في الصافي القميّ: هو ردّ على من يستحلّ التمتّع بالزواني و التزويج بهنّ و هنّ المشهورات في الزنا لا يقدر الرجل على تحصينهنّ قال:

و نزلت هذه الآية في نساءكنّ فاحشات مستعلنات بالزنا: سارة و خيثمة و الرباب كنّ يغنّين بهجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحرّم اللّه نكاحهنّ و جرت بعدهنّ في النساء أمثالهنّ.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: نساءكنّ مشهورات بالزنا و رجال مشهورون بالزنا شهروا و عرفوا به و الناس اليوم بتلك المنزلة فمن أقيم عليه حدّ الزنا أو شهر به لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتّى يعرف منه التوبة.

و عنه عليه السّلام إنّما ذلك في الجهر ثمّ قال: لو أنّ إنسانا زنى ثمّ تاب تزوّج حيث يشاء.

و عن الباقر عليه السّلام هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشهورين بالزنا فنهى اللّه عن أولئك الرجال و النساء و الناس اليوم على تلك المنزلة من شهر شيئا من ذلك أو أقيم عليه الحدّ فلا تزوّجوه حتّى تعرف توبته و عنه عليه السّلام في حديث أنّها نزلت بالمدينة.

و بالجملة في المجمع: اختلف في تفسيره على وجوه- و ظاهر الآية خبر و لكنّ المراد النهي في الآية-:

الوجه الاول أنّ المراد بالنكاح العقد و نزلت الآية على سبب و هو أنّ رجلا من المسلمين استأذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن يتزوّج امّ مهزول و هي امرأة كانت تسافح و لها راية على بابها تعرف بها فنزلت الآية. عن عبد اللّه بن عبّاس و الزهريّ و جماعة و يؤيّده ما روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول اللّه مشهورين بالزنى فنهى اللّه عن أولئك الرجال و النساء و الناس اليوم على تلك المنزلة فمن شهر بشي ء من ذلك فلا تزوّجوه حتّى تعرف توبته.

و ثانيها أنّ النكاح هنا الجماع و المعنى أنّهما اشتركا في الزنى أي الزانية مثل

ص: 314

الزاني فيكون المعنى نظير قوله «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ» (1).

و ثالثها أنّ هذا الحكم كان في كلّ زان و زانية ثمّ نسخ بقوله «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ» (2) الآية.

و رابعها أنّ المراد به العقد و ذلك الحكم ثابت فمن زنى بامرأة فإنّه لا يجوز له أن يتزوّج بها.

قوله: [وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] أي حرّم نكاح الزانيات أو حرّم الزنى على المؤمنين فلا يتزوّج بهنّ أولا يطأهنّ إلّا زان أو مشرك و إنّما قرن سبحانه بين الزاني و المشرك تعظيما لأمر الزنى و تفخيما لحرمته و لا يجوز أن يكون هذه الآية خبرا لأنّا نجد الزاني يتزوّج غير الزانية.

قال الرازيّ: و إنّما قال سبحانه: «حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» من وجهين:

أحدهما أنّ نكاح المؤمن الممدوح عند اللّه الزانية و رغبته فيها و انخراطه بذلك في سلك الفسقة المتّسمين بالزنا محرّم عليه لما فيه من التشبّه بالفسّاق و حضور مواضع التهمة و التسبّب بسوء المقالة في حقّه و الغيبة و مجالسة الخاطئين كم فيها من التعرّض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني و الفجّار.

الثاني و هو أنّ صرف الرغبة بالكلّيّة إلى الزواني و ترك الرغبة في الصالحات محرّم على المؤمنين لأنّ قوله «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً» معناه أنّ الزاني لا يرغب إلّا في الزانية فهذا الحصر محرّم على المؤمنين و لا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزوّج بالزانية.

ثمّ ذكر الرازيّ وجها آخر و هو أنّ الألف و اللام في قوله «الزاني» و في قوله «حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» و إن كان للعموم ظاهر لكنّه هاهنا مخصوص بالأقوام الّذين نزلت هذه الآية فيهم.

قال مجاهد و عطا بن رياح و قتادة: قدم المهاجرون المدينة و فيهم فقراء و ليس

ص: 315


1- السورة: 26.
2- السورة: 32.

لهم أموال و لا عشائر و بالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهنّ و هنّ يومئذ أخصب أهل المدينة و لكلّ واحدة منهنّ علامة على بابها كعلامة البيطار لتعرف أنّها زانية و كان لا يدخل عليها إلّا زان أو مشرك فرغب في كسبهنّ ناس من فقراء المسلمين و قالوا:

نتزوّج بهنّ إلى أن يغنينا اللّه عنهنّ فاستأذنوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزلت هذه الآية.

و تقدير الآية أولئك الزواني لا ينكحون إلّا تلك الزانيات و تلك الزانيات لا ينكحن إلّا أولئك الزواني و حرّم نكاحهنّ بأعيانهنّ على المؤمنين.

و قيل: إنّ قوله: «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً» و إن كان في الظاهر خبرا لكنّ المراد النهي و المعنى أنّ كلّ من كان زانيا فلا ينبغي أن ينكح إلّا زانية و حرّم ذلك على المؤمنين و هكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام ثمّ نسخ بعموم قوله: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» (1) و قوله: «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى» (2) و احتجّ الّذين يدّعون هذا النسخ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سئل عن ذلك فقال: أوّله سفاح و آخره نكاح و الحرام لا يحرّم الحلال.

و إنّما قدّم الزانية على الزاني في الذكر في الآية الاولى و هاهنا بالعكس لأنّ الآية الاولى بيان العقوبة على الجناية و المرأة هي المادّة في الزنا و أمّا الآية الثانية بيان لذكر النكاح و الرجل أصل فيه.

الحكم الثالث القذف:

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 4 الى 5]

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

لمّا تقدّم ذكر حدّ الزنى عقّبه بذكر حدّ القاذف بالزنى و لو أنّ ظاهر الآية لا يدلّ أيّ شي ء الّذي رموا به و ذكر الرامي لا يدلّ على الزنى إذ قد يرميها بالسرقة أو بشرب الخمر أو بالكفر و قد أجمع العلماء على أنّ المراد الرمي بالزنا نعم في الآية

ص: 316


1- النساء: 3.
2- النور: 32.

بيان يدلّ عليه: أحدها تقدّم ذكر الزنا و كذلك ذكر المحصنات و هنّ العفائف فيدلّ ذلك على أنّ المراد بالرمي رميهنّ بضدّ العفاف، ثمّ قوله: «ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» يعنى على صحّة ما رموهنّ به، و معلوم أنّ هذا العدد من الشهود غير مشروط إلّا في الزنا على أنّ انعقد الإجماع بأنّه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنى. و بالجملة فالآية تتعلّق بالرمي و الراميّ و المرميّ.

و ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح و كناية و تعريض أمّا القسم الأوّل و هو الصريح مثل أن يقول: يا زانية أو زنيت فلا شبهة بأنّه القذف و يردّ على القاذف أحكامه.

و أمّا الكناية فلا يكون قذفا إلّا أن أراد به القذف. و أمّا التعريض بالقذف محتمل للقذف و لغيره فلا يجب الحدّ عليه لأنّ الأصل براءة الذمّة فلا يرجع عن الأصل بالشكّ و الاحتمال و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادرءوا الحدود بالشبهات.

و الحاصل: الّذين ينسبون العفائف من النساء بالزنى و حذف لدلالة الكلام عليه [ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ] على صحّة ما نسبوا إليهنّ يشهدون مع كونهم عدول أنّهم رأوهنّ يفعلن ذلك الأمر [فَاجْلِدُوهُمْ] أي فاجلدوا الّذين يرمونهنّ بالزنا [ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ] فنهى سبحانه عن قبول شهادة القاذف على التأييد و حكم عليهم بالفسق.

ثمّ استثنى عن ذلك فقال: [إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا] القميّ عن الصادق عليه السّلام: القاذف يجلد ثمانين جلدة و لا تقبل له شهادة أبدا إلّا بعد التوبة أو يكذّب نفسه و إن شهد ثلاثة و أبى واحد يجلد الثلاثة و لا يقبل شهادتهم حتّى يقول أربعة: رأينا مثل الميل في المكحلة و من شهد على نفسه أنّه زنى لم تقبل شهادته حتّى يعيدها أربع مرّات.

و في الكافي و التهذيب أنّه عليه السّلام سئل كيف تعرف توبته فقال: يكذّب نفسه على رءوس الخلائق حين يضرب و يستغفر ربّه فإذا فعل ذلك فقد ظهرت توبته. و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يقذف الرجل فجلد حدّا ثمّ يتوب و لا يعلم منه إلّا خيرا أ تجوز شهادته؟ قال: نعم، فما يقولون عندكم؟ قيل: يقولون توبته فيما بين اللّه و بينه

ص: 317

و لا يقبل شهادته أبدا. فقال: بئس ما قالوا: كان أبي يقول: إذا تاب و لم يعلم منه إلّا خيرا جازت شهادته.

و بالجملة منشأ الاختلاف في الاستثناء بأنّ هذا الاستثناء إلى ماذا يرجع قيل:

إنّه يرجع إلى الفسق خاصّة دون قوله «وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً» فيزول عنه اسم الفسق بالتوبة و لا يقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحدّ عليه عن جماعة كالحسن و قتادة و شريح و إبراهيم و أبو حنيفة و أصحابه.

و القول الآخر أنّ الاستثناء يرجع إلى الأمرين فإذا تاب قبلت شهادته حدّ أولم يحدّ عن جماعة كابن عبّاس و الوالبيّ و مجاهد و الزهريّ و مسروق و عطا و طاوس و سعيد بن جبير و الشعبيّ و هو اختيار الشافعيّ و أصحابه و كذلك قال أبو جعفر و أبو عبد اللّه عليهما السّلام.

و قال الزجّاج: ليس القاذف بأشدّ جرما من الكافر و الكافر إذا أسلم قبلت شهادته فالقاذف أيضا حقّه إذا تاب أن تقبل شهادته. و يعضد هذا القول أن المتكلّم بالفاحشة لا ينبغي أن يكون أعظم جرما من مرتكبها و لا خلاف في العاهر أنّه إذا تاب قبلت شهادته.

و إذا كان القاذف عبدا أو أمة فعند فقهاء العامّة أكثرهم الحدّ أربعون و عند أصحابنا أنّ الحدّ ثمانون في الحرّ و العبد سواء. و ظاهر الآية يقتضي ذلك و به قال عمر بن عبد العزيز و القاسم بن عبد الرحمن.

مسألة لو قذفها القاذف مرارا فنظر فإن كان القاذف أراد بالتكرار زنية واحدة بأن قال: فلانة زنت بعمرو، و قاله مرارا لا يجب إلّا حدّ واحد، و إن قذفها بزنيات مختلفة بأن قال: زنت بزيد ثمّ قال: زنت بعمرو فهل يتعدّد الحدّ؟ ففيه عند فقهاء العامّة اختلاف في التعدّد و المرّة.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 6 الى 10]

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

ص: 318

لمّا تقدّم حكم القذف للأجنبيّات عقّبه بحكم القذف للزوجات.

النزول: عن ابن عبّاس لمّا نزل قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» قال عاصم بن عديّ: يا رسول اللّه إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين و إن التمس أربعة شهداء كان الرجل قد قضى حاجته ثمّ مضى قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كذا نزلت الآية يا عاصم فخرج سامعا مطيعا فلم يصل إلى منزله حتّى استقبله هلال بن اميّة يسترجع فقال: ما وراءك قال: شرّ، وجدت شريك بن سمحاء على بطن امرأتي خولة فرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبر النبيّ هلال بالّذي كان فبعث النبيّ إليها فقال: ما يقول زوجك فقالت: يا رسول اللّه إنّ شريك كان يأتينا فينزل بنا و يتعلّم الشي ء من القرآن فربّما تركه زوجي و خرج فلا أدري أدركته الغيرة أم بخل عليّ بالطعام فأنزل اللّه هذه الآية بقوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ» الآية. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ابشر يا هلال فإنّ اللّه قد جعل فرجا فقال هلال: قد كنت أرجو ذاك من اللّه فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أرسلوا إليها فجاءت فلاعن بينهما فلمّا انقضى اللعان فرّق بينهما و قضى أنّ الولد لها و لا يدعى لأب و لا يرمى ولدها ثمّ بعد ذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن جاءت به كذا و كذا فهو لزوجها و إن جاءت به كذا كذا فهو للّذي قيل فيه.

و معنى الآية: الّذين ينسبون الزنى إلى زوجاتهم و لم يكن لهم شهداء يشهدون له على صحّة قولهم إلّا أنفسهم فشهادة أحدهم الّتي تدرأ حدّ القاذف أربع شهادات باللّه إنّه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى [وَ الْخامِسَةُ] أي الشهادة الخامسة [أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ] فيما رماها به من الزنى أي إنّ الرجل يقول أربع مرّات مرّة بعد اخرى: اشهد باللّه إنّي لمن الصادقين فيما ذكرت عن هذه المرأة من الفجور فإنّ هذا حكم خصّ اللّه به الأزواج في قذف نسائهم فيقوم الشهادات الأربع مقام الشهود الأربعة في دفع حدّ القذف عنهم ثمّ يقول في المرّة الخامسة لعنة اللّه عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا.

ص: 319

[وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ] أي و يدفع عن المرأة حدّ الزنى و هو الرجم أن تقول المرأة أربع مرّات مرّة بعد اخرى: اشهد باللّه إنّه لمن الكاذبين فيما قذفني به من الزنى و الخامسة [أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها] أي و تقول في الخامسة: إنّ غضب اللّه عليّ [إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ] فيما قذفني به من الزنى ثمّ يفرّق الحاكم بينهما و لا تحلّ له أبدا و كان عليها العدّة من وقت لعانها.

في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: هو القاذف الّذي يقذف امرأته فإذا قذفها ثمّ أقرّ أنّه كذب عليها جلد الحدّ و ردّت إليه امرأته و إن أبي إلّا أن يمضي فليشهد عليها أربعة شهادات باللّه إنّه لمن الصادقين و الخامسة يلعن فيها نفسه إن كان من الكاذبين و إن أرادت أن تدرأ عن نفسها العذاب و العذاب هو الرجم شهدت أربع شهادات باللّه إنّه لمن الكاذبين و الخامسة أن غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين فإن لم تفعل رجمت و إن فعلت درأت عن نفسها الحدّ ثمّ لا تحلّ له إلى يوم القيامة.

و بالجملة لمّا نزلت آية اللعان بعد غزوة تبوك و جاءه عويمر بن ساعدة و قال:

يا رسول اللّه امرأتي زنى بها شريك بن سحماء كما ذكرنا سابقا فأحضر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امرأته و كانت في شرف من قومها فجاء معها جماعة فلمّا دخلت المسجد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعويمر: تقدّم إلى المنبر و التعنا فالتعنا حسبما شرحناه سابقا.

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لزوجها اذهب فلا تحلّ لك أبدا قال: يا رسول اللّه فمالي الّذي أعطيتها؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه و إن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن جاءت بالولد أحمش الساقين جعد قطط أنفس العينين فهو للأمر السيّئ و إن جاءت به أشهل أصهب فهو لأبيه يقال: إنّها جاءت به على الأمر السيّئ.

و بالجملة فهي لا تحلّ لزوجها أبدا و إن جاءت بولد لا يرثه أبوه و ميراثه لأمّه و إن لم تكن له امّ فميراثه لأخواله.

و عن الصادق عليه السّلام في رجل أوقفه الإمام للعان فشهد شهادتين ثمّ نكل و أكذب نفسه قبل أن يفرغ من اللعان قال: يجلد حدّ القاذف و لا يفرّق بينه و بين امرأته و إذا

ص: 320

قذفها غيره أب أو أخ أو ولد أو قريب منه جلد الحدّ أو يقيم البيّنة على ما قال.

قوله: [وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ] جواب لو محذوف و تقديره و لو لم يكن فضل عليكم بسبب النهي عن الزنا و الفواحش و إقامة الحدود لتهالك الناس و لفسد النسل و انقطع الأنساب أو المعنى: و لو لا إفضال اللّه و إنعامه عليكم و أن اللّه عوّاد على من يرجع عن المعاصي بالرحمة حكيم فيما فرضه من الحدود لنال الكاذب منهما أي من المتلاعنين عذاب عظيم و لعاجلكم بالعقوبة و لفضحكم بما تركبون من الفواحش.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 11 الى 16]

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16)

النزول: في براءة ما قيل في زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعند أهل الجماعة أنّها عائشة و عند الخاصّة أنّها مارية القبطيّة روى الزهريّ عن عروة بن الزبير و سعيد بن المسيّب و علقمة بن أبي وقّاص و عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عقبة بن مسعود كلّهم رووا عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه بأيّتهنّ خرج اسمها خرج بها معه قالت: أقرع بيننا في غزوة قبل غزوة بني المصطلق أو غزوة بني المصطلق من بني خزاعة فخرج فيها سهمي و ذلك بعد ما انزل الحجاب فخرجت مع رسول اللّه حتّى فرغ من غزوة و قفل قالت: و دنونا إلى المدينة فقمت حين أذّنوا بالرحيل فمضيت حتّى جاوزت الجيش فلمّا قضيت شأني و كنّا نخرج ليلا و ذلك قبل أن يتّخذ الكنيف و أمرنا أمر العرب الأوّل

ص: 321

في التنزّه، و كنّا نتأذّى بالكنف أن نتّخذها عند بيوتنا أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد من جذع قد انقطع فرجعت و التمست عقدي فحبسني ابتغاؤه و أقبل الرهط الّذين كانوا يرحلونني فحملوا هودجي على بعيري الّذي كنت أركب ظنّا منهم أنّي فيه لحداثة سنّي و خفّتي فذهبوا بالبعير فلمّا رجعت لم أجد في المكان أحدا فجلست و قلت: لعلّهم يعودون في طلبي فنمت و قد كان صفوان بن المعطّل يمكث في العسكر يتّبع أمتعة العسكر فيحمله إلى المنزل الآخر لئلّا يذهب منهم شي ء فلمّا رآني عرفني و قال:

ما خلّفك عن الناس فأخبرته الخبر فنزل و تنحّى حتّى ركبت ثمّ قاد البعير و افتقدني الناس حين نزلوا و ماج الناس في ذكري فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم و خاضوا في حديثي و قدم رسول اللّه المدينة و لحقني وجع و لم أر منه ما عهدته من اللطف الّذي كنت أعرف منه حين أشتكي إنّما يدخل رسول اللّه ثمّ يقول: كيف ئيّكم، فذاك الّذي يريبني و لا أشعر بعد بما جرى حتّى نقهت فخرجت في بعض الليالى مع امّ مسيطح لمهمّ لنا ثمّ أقبلت أنا و امّ مسيطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت امّ مسيطح في مرطها فقالت: تعس مسيطح، فأنكرت ذلك و قلت: أ تسبّين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: و ما بلغك الخبر؟ فقلت:

و ما هو؟ فقالت: أشهد أنّك من المؤمنات الغافلات ثمّ أخبرتني بقول أهل الإفك و منهم عبد اللّه بن ابيّ بن سلول و هو الّذي تولّى كبره و مسيطح بن أثاثه و حسّان بن ثابت و حمنة بنت جحش.

قالت عائشة: فازددت مرضا على مرضي فرجعت أبكي ثمّ دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: كيف ئيّكم؟ فقلت: ائذن لي أن آتي أبويّ فأذن لي فجئت أبويّ و قلت لأمّي: يا امّة ما ذا يتحدّث الناس؟ قالت: يا بنيّة هوني عليك فو اللّه لقلّما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبّها و لها ضرائر إلّا أكثرن القول عليها ثمّ قالت: ألم تكوني علمت ما قيل حتّى الآن؟ فأقبلت أبكي تلك الليلة ثمّ أصبحت فدخل عليّ أبي و أنا أبكي فقال لأمّي: ما يبكيها؟ لم تكن علمت ما قيل فيها حتّى الآن فأقبل يبكي. ثمّ قال:

اسكتي يا بنيّة.

و دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا و اسامة بن زيد و استشارهما في فراق أهله فقال

ص: 322

اسامة: يا رسول اللّه هم أهلك و لا نعلم إلّا خيرا و قال عليّ لم يضيّق اللّه عليك و النساء سواها كثيرة و إن تسأل الجارية بريرة تصدقك. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بريرة و سألها عن أمري قالت بريرة: يا رسول اللّه و الّذي بعثك بالحقّ نبيّا ما رأيت عليها أمرا قطّ أكثر من أنّها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها حتّى تأتى الداجس فتأكله.

قالت: فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطيبا على المنبر فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؛ و هو يعني عبد اللّه بن ابيّ فو اللّه ما علمت من أهلي إلّا خيرا و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلّا معى فقام سعد بن معاذ فقال: أعذرك يا رسول اللّه منه إن كان من الأوس ضربت عنقه و إن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة- و هو سيّد الخزرج و كان رجلا صالحا و لكن أخذته الحميّة- فقال لسعد بن معاذ: كذبت و اللّه، لا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير و هو ابن عمّ سعد بن معاذ و قال: كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه و إنّك لمنافق تجادل عن المنافقين فثار الحيّان الأوس و الخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا، و رسول اللّه على المنبر فلم يزل يخفضهم حتّى سكنوا.

قالت عائشة: و مكثت يومي ذلك لا ترقأ لي دمع و أبواي يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي فبيناهما جالسان عندي و أنا أبكي إذ دخل علينا رسول اللّه فسلّم ثمّ جلس قالت:

و لم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل، و لقد لبث شهرا لا يوحي اللّه إليه. ثمّ قال: أمّا بعد يا عائشة فإنّه بلغني عنك كذا و كذا فإن كنت بريئة فيبرّئك اللّه تعالى و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري و توبي إليه فإنّ العبد إذا تاب تاب اللّه عليه. قالت عائشة: فلمّا قضى رسول اللّه مقالته فاض دمعي ثمّ قلت لأبي: أجب عنّي رسول اللّه فقال: و اللّه ما أدري ما أقول فقلت لأمّي: أجيبي عنّي رسول اللّه، فقالت: و اللّه لا أدري ما أقول، فقلت- و أنا جارية حديثة السنّ ما أقرأ القرآن كثيرا-: إنّي و اللّه لقد عرفت أنّكم قد سمعتم بهذا حتّى استقرّ في نفوسكم و صدّقتم به فإن قلت لكم: إنّي بريئة لا تصدّقوني، و إن اعترفت لكم بأمر و اللّه يعلم أنّي بريئة. و ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يتلى و لكنّي كنت أرجو أن يرى رسول اللّه رؤيا يبرّئني اللّه بها فأنزل اللّه تعالى على نبيّه

ص: 323

و أخذه ما كان من برحاء الوحي حتّى أنّه لينحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الثاني من ثقل القول الّذي انزل عليه فلمّا سري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أبشري يا عائشة أمّا اللّه فقد برّأك فقالت لي امّي: قومي إليه، فقلت: و اللّه أقوم إليه، و لا أحمد إلّا اللّه و هو الّذي أنزل براءتي فأنزل اللّه الآية [إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ] قالت: فلمّا نزل براءتي قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر فذكر ذلك و تلا الآية فلمّا نزل ضرب عبد اللّه ابن ابيّ و مسيطحا و حمنة و حسّان بن ثابت و زيد بن رفاعة الحدّ.

قوله: [عُصْبَةٌ مِنْكُمْ] أي أتى بهذا الإفك جماعة منكم و إنّما سمّى الكذب و البهتان إفكا لأنّه مقلوب الصدق.

قوله: [لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ] خوطب به رسول اللّه و صفوان و المنتسبين بهم هذا الإفك و الضمير راجع إلى الكذب [بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] لاكتسابكم به الثواب العظيم و ظهور ما نزل من القرآن في براءة ساحتكم و تشديد الوعيد فيمن تكلّم بهذا الأمر و الثناء على من ظنّ بكم خيرا.

و قوله: [لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ] أي لكلّ من هؤلاء العصبة الّذين خاضوا في هذا البهتان من المعصية بقدر ما خاضوا و تكلّموا.

[وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ] أي معظمه و قرئ بضمّ الكاف لغة في هذا المعنى أي العمدة في هذا الكذب و هو الّذي سبق في هذا الكلام و هو عبد اللّه بن ابيّ فإنّه بدأبه و أذاعه بين الناس عداوة لرسول اللّه [لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ] أي في الآخرة أو في الدنيا فإنّهم جلدوا و ردّت شهادتهم، و تنكير العذاب لعظمه.

هذا إذا كانت الآية نازلة في حقّ عائشة كما رواها العامّة و أمّا الخاصّة فإنّهم رووا أنّها نزلت في مارية القبطيّة، روي عن الباقر عليه السّلام قال: لمّا هلك إبراهيم بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حزن عليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حزنا شديدا فقالت له عائشة: ما الّذي يحزنك عليه فما هو إلّا ابن جريح فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام و أمره بقتله فذهب عليّ عليه السّلام و معه السيف و كان جريح القبطيّ في حائط فضرب على باب البستان فأقبل جريح ليفتح الباب فلمّا رأى عليّا عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا و لم يفتح باب البستان فوثب

ص: 324

عليّ عليه السّلام على الحائط و نزل إلى البستان و أتبعه و ولّى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة و صعد عليّ عليه السّلام في أثره فلمّا دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء فانصرف عليّ عليه السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له: يا رسول اللّه إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمى في الوبر أمضي على ذلك أم أتثبّت؟ قال: لا بل تثبّت قال: و الّذي بعثك بالحقّ نبيّا ماله ما للرجال و ما له ما للنساء فقال: الحمد للّه الّذي صرف عنّا السوء أهل البيت.

و هذه الرواية أوردها القميّ بعبارة اخرى في سورة الحجرات عند قوله تعالى «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» أي فتثبّتوا و زاد: فاتي به رسول اللّه فقال له: ما شأنك يا جريح فقال: يا رسول اللّه إنّ القبط يحبّون حشمهم و من يدخل إلى أهاليهم و القبطيّون لا يأنسون إلّا بالقبطيّين فبعثني أبوها لأدخل عليها و أخدمها و أونسها.

قال الفيض: إن صحّ هذا الخبر فلعلّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما بعث عليّا عليه السّلام إلى جريح ليظهر الحقّ و يصرف السوء و كان قد علم أنّه لا يقتله و لم يكن يأمر بقتله بمجرّد قول عائشة و يدلّ على هذا ما رواه القميّ في سورة الحجرات عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر بقتل القبطيّ و قد علم أنّها قد كذبت عليه أو لم يعلم و إنّما دفع اللّه القتل عن القبطيّ بتثبّت عليّ عليه السّلام فقال: بلى قد كان و اللّه علم و لو كانت عزيمة من رسول اللّه القتل ما رجع عليّ عليه السّلام حتّى يقتله و لكن إنّما فعل رسول اللّه لترجع عن ذنبها فما رجعت و لا اشتدّ عليها قتل رجل مسلم.

و لمّا ذكر حال القاذفين و المقذوفين عقّبها بما يليق من الآداب و التربية و الزواجر عن مثل هذا الأمر بقوله: [لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ] أي هلّا و معنى «لو لا» إذا يليه الفعل هلّا كقوله «لَوْ لا أَخَّرْتَنِي» (1) «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ» (2) و لكن إذا وليه الاسم فليس كذلك كقوله: «لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» (3) و قوله: «وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ» (4)

ص: 325


1- المنافقون: 10.
2- يونس: 98.
3- سبأ: 31.
4- النساء: 83. النور: 19.

و معناه: كان الواجب على المؤمنين إذا سمعوا قول القاذف أن يكذّبوه و لا يسرعوا إلى التهمة و يشتغلوا بحسن الظنّ فيمن عرفوا طهارته و لم لم يظنّوا بهم خيرا لأنّهم كأنفسهم و المؤمنون كلّهم كنفس واحدة فيما يجري عليهم من الأمور فإذا جرى على أحدهم محنة فكأنّما جرت على جماعتهم و المؤمن يكون هذا شأنه و قيل: هذا الخطاب لمن أشاعه.

و حاصل المعنى: أنّه هلّا سمعتموه أو أفشيتموه ما ظننتم لما تظنّونه لأنفسكم و ذلك لأنّها امّ المؤمنين و من خلا بامّه فإنّه لا يطمع فيها و لا تطمع فيه و هلّا قلتم هذا الحديث كذب ظاهر و إفك مبين؟

قوله: [لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ] أي هلّا جاءوا على ما قالوه بيّنة و هي أربعة شهداء يشهدون بصدق ما ادّعوه [فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ] أي فحين لم يأتوا بالشهداء [فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ] أي في حكمه هم الكاذبون.

قوله: [وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ] أي و لو لم يكن فضله عليكم بأن أمهلكم لتتوبوا و لم يعاجلكم بالعقوبة [لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ] لأصابكم في قولكم هذا و خوضكم في هذا الحديث عذاب لا انقطاع له.

ثمّ ذكر الوقت الّذي كان يصيبهم العذاب لو لا الفضل فقال: [إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ] و يرويه بعضكم عن بعض و تقبلونه من غير حجّة و يتلقّى بعضكم هذا الإفك عن بعض [وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ] و تلقّي القول معناه: أنّ الرجل كان يلقى الرجل فيقول له: ما وراءك؟ فيحدّثه بحديث الإفك و القذف حتّى شاع و اشتهر فلم يبق ناد و لا بيت إلّا و شاع الخبر و ذلك من العظائم ثمّ إنّ النّاس يتكلّمون بما لا علم لهم و ذلك يدلّ على أنّه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم و أمّا الّذي لا يعلم صدقه فالإخبار عنه كالإخبار عمّا علم كذبه في الحرمة و نظيره في الآية قوله: «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» (1).

فإن قيل: ما معنى قوله: «بأفواهكم» و القول لا يكون إلّا بالفم؟ فمعناه أنّ الشي ء المعلوم يكون علمه في القلب ثمّ يترجم عنه باللسان و الإفك ليس إلّا قولا يجري

ص: 326


1- الإسراء: 36.

على اللسان و نبّه سبحانه على أنّ عظم المعصية ليس بظنّ فاعلها بل بوضع الشارع.

ثمّ زاد سبحانه في باب الآداب فقال: [وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ] أي هلّا إذ سمعتموه قلتم لا يحلّ لنا أن نخوض في هذا الحديث و ما ينبغي لنا أن نتكلّم بهذا سبحانك يا ربّنا هذا الّذي قالوه بهتان و كذب و زور عظيم عقابه. و سبحانك هنا معناه التعجّب كقول الأعشى:

«سبحان من علقمة الفاخر»

أو المعنى ننزّهك يا ربّ من أن نعصيك بهذه المعصية.

ثمّ وعظ تعالى شأنه الّذين خاضوا في الإفك فقال:

[سورة النور (24): الآيات 17 الى 20]

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)

أي ينهاكم اللّه أو يحرّم [اللّه عليكم أَنْ تَعُودُوا] إلى مثل هذا الإفك طول أعماركم إن كنتم مصدّقين باللّه و نبيّه و قابلين موعظة اللّه [وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ] في الأمر و النهي و الأحكام [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ] بما يقع منكم من الردّ و القبول [حَكِيمٌ] فيما يفعله لا يضع الشي ء إلّا في موضعه.

ثمّ هدّد القاذفين بقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ] أي يفشوا و يظهروا الزنا و القبائح [فِي الَّذِينَ آمَنُوا] بأن ينسبوها إليهم و يقذفوهم بها [لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا] بإقامة الحدّ عليهم [وَ الْآخِرَةِ] و هو عذاب النار [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] أي و اللّه يعلم ما فيه من سخط اللّه و ما يستحقّ عليه العقوبة و أنتم لا تعلمون.

و اعلم أنّ قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ» و لو أنّها نزلت في حقّ من قذف عائشة أو مارية و عبد اللّه بن ابيّ و أصحابه إلا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فوجب إجراؤها على ظاهرها في العموم و ممّا يدلّ على عدم تخصيصها بالقاذفين قوله: «فِي الَّذِينَ آمَنُوا» فإنّه صيغة جمع و لو أراد عائشة وحدها لم يجز ذلك. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي لأعرف قوما يضربون صدورهم ضربا يسمعه أهل النار و هم الهمّازون الّذين يلتمسون

ص: 327

عورات المسلمين و يهتكون ستورهم و يشيعون فيهم من الفواحش ما ليس فيهم و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلّا ستره اللّه يوم القيامة و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه. و عن أنس قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يؤمن العبد حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه من الخير».

و قالت المعتزلة: قوله «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ» الآية. بالغ اللّه سبحانه فيها بذمّ من أشاع الفاحشة و من أحبّ إشاعتها فلو كان تعالى هو الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلّا هو فكان يجب أن لا يستحقّ الذمّ على إشاعة الفاحشة إلا هو لأنّه هو الّذي فعل تلك الإشاعة و غيره لم يفعل شيئا.

و بالجملة ثمّ ذكر سبحانه منّة عليهم فقال: [وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ] و جواب «لو لا» محذوف لدلالة الكلام عليه أي لعاجلكم بالعقوبة أو «ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ» جوابه.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 21 الى 25]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

قرئ «خطوات» بضمّ الطاء و سكونها، جمع خطوة و هو من خطا الرجل يخطو خطوا فإذا أردت الواحدة قلت خطوة مفتوحة الأوّل.

المعنى: [لا تَتَّبِعُوا] آثار [الشَّيْطانِ] و لا تسلكوا مسالكه في الإصغاء إلى البهتان و الإفك و التلقّي له و إشاعة الفاحشة في الّذين آمنوا و اللّه تعالى و إن خصّ بالذّكر المؤمنين بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلا أنّه نهي لكلّ المكلّفين و ممنوعين من ذلك

ص: 328

و إنّما خصّهم بالذكر لأنّهم يمتنعون عن مثل هذه المعاصي.

ثمّ بيّن سبب المنع من اتّباعه فقال: [وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً] و الزكيّ من بلغ في طاعة اللّه مبلغ الرضا و منه يقال: زكا الزرع أي بلغ فإذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى حال يرضاه اللّه سمّي زكيّا أي و لو لا فضل اللّه عليكم بأن لطف لكم و أمركم بما تصيرون به أزكياء ما صار منكم أحد زكيّا و ما طهر منكم أحد من وسوسة الشيطان و ما صلح.

[وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ] و يطهّر بلطفه و يعلم أنّه مستحقّ للّطف بفعله يفعل اللّطف به ليزكو عنده [وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] إنّه يسمع أصواتهم و أقوالهم و يعلم أفعالهم و أحوالهم.

و في الآية دلالة على أنّ اللّه يريد من خلقه خلاف ما يريده الشيطان لأنّه إذا ذمّ الفحشاء و ذمّ الأمر بالفحشاء فمريد الفحشاء أولى بالذمّ تقدّس و تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

[وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ] ذكر في مادّة يأتل قولين: فبعض جعلوا هذه الكلمة من ائتلى من مادّة الإلية و الحلف افتعل و قالوا: إنّ أصله يأتلي ذهبت الياء للجزم و قال بعض: من مادّة «الوت» و لم آل في أمري جهدا أي ما قصرت و يأل و يأتل واحد معناه و قالوا: إذا كان المراد معنى الحلف فيقتضي المنع في الحلف عن الإعطاء و هم أراد و المنع من الحلف على ترك الإعطاء فهذا المعنى قد أقام النفي مقام الإيجاب و جعل المنهيّ عنه مأمورا به و الحاصل على قول الثاني معناه لا تقصروا في أن تحسنوا إلى هؤلاء المذكورين.

و أجاب الّذين فسّروا بمعنى الحلف أنّ «لا» محذوفة في الآية و أصله أن لا يؤتوا اولي القربى و يقولون: إنّ «لا» تحذف كثيرا في اليمين قال اللّه: «وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا» معنى أن لا تبرّوا و قال امرؤ القيس:

فقلت: يمين اللّه أبرح قاعداو لو قطعوا رأسي إليك و أوصالي

ص: 329

أي لا أبرح و بالجملة إذا جعلت «لا» محذوفة فالمعنيان يقعان متقاربان في المراد من الآية لأنّ المراد في الآية الأمر بإعطاء هؤلاء المذكورين.

النزول: قال الفيض نقلا من الجوامع: نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا أن لا يتصدّقوا على من تكلّم بشي ء من الإفك في هذه القضيّة المذكورة أن لا يواسوهم قال المفسّرون من أهل السنّة و الجماعة: إنّ الآية نزلت في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسيطح أبدا و هو ابن خالة أبي بكر و قد كان يتيما في حجره و كان ينفق عليه، فلمّا شاع هذا الإفك و كان مسيطح من القاذفين و نزلت الآية و تبيّن الأمر قال لهم أبو بكر: قوموا فلستم منّي و لست منكم و لا يدخلنّ عليّ أحد منكم فقال مسيطح: أنشدك اللّه و الإسلام و أنشدك القرابة و الرحم أن لا تحوجنا إلى أحد فما كان لنا في أوّل الأمر من ذنب و إنّما إفك عبد اللّه بن ابيّ فقال أبو بكر: إن لم تتكلّم فقد ضحكت و لم يقبل عذره و قال:

انطلقوا أيّها القوم فإنّ اللّه لم يجعل لكم فرجا و لا عذرا فخرجوا لا يدرون أين يذهبون و أين يتوجّهون فبعث رسول اللّه يخبره بأنّ اللّه نهاك أن تحرمهم و قد أمر أهل المال منكم و السعة و الغنى أن يعطوا أقاربهم و لا يتركوا جهدا في الإنفاق عليهم و المساكين و المهاجرين في سبيل اللّه. و قد اجتمع في مسيطح الصفات الثلاث كان قريبا بالنسب لأبي بكر مسكينا مهاجرا.

قوله: [وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] و أمرهم بالعفو و التجاوز عن تقصيرهم و الإغماض عمّن أساء إليهم فقال: أما تحبّون أن يغفر اللّه لكم معاصيكم جزاء على عفوكم و صفحكم عمّن أساء إليكم؟ عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من لم يقبل عذر المتنصّل كاذبا كان أو صادقا فلا يرد على حوضي يوم القيامة» و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أفضل أخلاق المسلمين العفو قال المأمون: لو علم أهل الجرائم و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا: ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له أجر على اللّه فليقم فلا يقوم إلّا أهل العفو ثمّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلا هذه الآية «فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يكون العبد ذا فضل حتّى يصل من قطعه و يعفو عمّن ظلمه و يعطي من حرمه.

و في الآية دلالة على أنّ اليمين على الامتناع من الخير غير جايز و إنّما يجوز

ص: 330

إذا كانت داعية للخير أو غير داعية للشرّ لا إذا كانت صارفة عنه.

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ] و اختلفوا في قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ» هل المراد منه كلّ من كان بهذه الصفة أو المراد منه الخصوص؟ أمّا الاصوليّون فقالوا: الصيغة عامّة و لا مانع من إجرائها على ظاهرها فوجب حمله على العموم فيدخل فيه قذفة عائشة و قذفة غيرها. و قال بعض: إنّ المراد جملة أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّهنّ لشرفهنّ خصّصن بأنّ من قذفهنّ فهذا الوعيد لا حق به.

و احتجّ القائلون بهذا القول بأمور:

الاول: أنّ قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله في أوّل السورة: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ- إلى قوله- «وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» قالوا: و أمّا القاذف في هذه الآية فإنّه لا تقبل توبته لأنّه سبحانه قال: «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ» (1) و لم يذكر الاستثناء و أيضا فهذه صفة المنافقين في قوله «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا» (2).

الثاني: أنّ قذف ساير المحصنات لا يكفّر و القاذف في هذه الآية يكفّر لقوله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ» (3) و ذلك صفة الكفّار و المنافقين لقوله: «وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ» (4).

الثالث: أنّه تعالى قال: «وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» و العذاب العظيم يكون عذاب الكفر فدلّ على أنّ عقاب هذا القاذف عقاب الكفر و عقاب قذفة سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر.

و ردّ بأنّه لو كان هذا القاذف كافرا لما نزلت الآية في حقّه «وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» و لو ثبت كفر المتولّي كبره و هو عبد اللّه بن ابيّ فذاك لنفاقه و أمر خارج لا بسببيّة القذف.

ص: 331


1- النور: 23.
2- الأحزاب: 61.
3- النور: 24.
4- حم السجدة: 19.

و الحاصل: قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ» الآية أي ينسبون الزنا إلى العفائف من النساء الغافلات عن الفواحش المؤمنات باللّه و رسوله و اليوم الآخر لعنوا و ابعدوا من رحمة اللّه في الدارين و قيل: استحقّوا العذاب في الدّنيا بالجلد و ردّ الشّهادة و في الآخرة بعذاب النار إن لم يتوبوا و لهم مع ذلك عذاب عظيم و هذا الوعيد عامّ لجميع المكلّفين.

ثمّ بيّن اللّه أنّ ذلك العذاب يكون في يوم [تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ] و تشهد ألسنتهم في ذلك اليوم بالقذف و كذلك تشهد أيديهم بما كسبت و أرجلهم.

و في كيفيّة شهادة الجوارح أقوال:

أحدها: و هو الصحيح أنّ اللّه يمكّنها النطق و الكلام من جهتها فيكون ناطقة حقيقة.

و الثاني: أنّ اللّه يفعل فيها كلاما يتضمّن الشهادة فيكون المتكلّم هو اللّه دون الجوارح و أضيف إليها الكلام على التوسّع لأنّها محلّ الكلام.

و الثالث: أنّ اللّه يجعل فيها علامة تقوم مقام النطق بالشهادة و ختم الأفواه لا ينافي هذا الأمر لأنّ مواقف القيامة كثيرة.

[يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ] أتي ليتمّ اللّه لهم في ذلك اليوم جزاءهم بالحقّ من غير أن ينقص و يزيد. و الدين هاهنا بمعنى الجزاء و يجوز أن يكون جزاء دينهم الحقّ فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و يعلمون اللّه ضرورة و إلجاء أنّه الحقّ لأنّه يقضي بالحقّ و يعطي بالحقّ و يأخذ بالحقّ المبين الّذي يظهر لهم حقايق الأمور.

قوله: [سورة النور (24): الآيات 26 الى 29]

الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (29)

ص: 332

المعنى: فيه أقوال: أحدها: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال و الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء و الطيّبات من النساء للطيّبين من الرجال و الطيّبون من الرجال للطيّبات من النساء عن أبي جعفر و الصادق عليهما السّلام و أبي مسلم و الجبّائيّ قالا: هي مثل قوله: «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً» (1) و أنّ أناسا همّوا أن يتزوّجوا منهنّ فنهاهم اللّه عن ذلك و كره ذلك لهم.

و قيل: الخبيثات يقع على الكلمات الخبيثة كالقذف الواقع من أهل الإفك و يقع على الكلام الّذي هو كالذّم و اللعن فالمعنى: أنّ الذمّ و اللعن معدّان للخبيثين من الرّجال و للخبيثات من النساء و كذلك القول في الطيّبات من الأقوال للطيّبين من الرّجال و النساء و متوجّهة إليهم و إليهنّ و أنّهم مبرّءون ممّا يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات و أنّها مبرّءات منها كالرسول و أزواجه و العفائف الصالحات.

و قال الفرّاء: يعني به زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو بمنزلة قوله: «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ» (2) أو الأمّ تحجب بالأخوين فجاء على تغليب لفظ الجمع.

قوله: [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ] أي لهؤلاء الطيّبين من الرجال و النساء مغفرة من اللّه و عطيّة كريمة في الجنّة.

قوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا] أي حتّى تستأذنوا. و الاستيناس طلب الانس بالعلم. قال ابن عبّاس: أخطأ الكاتب فيه و كان يقرء حتّى تستأذنوا و قيل: تستأنسوا بالتنحنح و الكلام الّذي يقوم مقام الاستيذان و قد بيّن اللّه تعالى في قوله: «وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا» و قيل: حتّى تستعملوا و تتعرّفوا. عن أبي أيّوب قال: قلنا: يا رسول اللّه ما الاستيناس؟ قال: يتكلّم الرجل بالتسبيحة و التحميدة و التكبيرة و بتنحنح على أهل البيت. و روي أنّ رجلا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ فأستأذن على امّي؟ فقال: نعم قال: إنّها ليس لها خادم غيري أ فاستأذن

ص: 333


1- النور: 3.
2- النساء: 10.

عليها كلّما دخلت قال: أ تحبّ أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها.

[وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها] قيل في الآية تقديما و تأخيرا تقديره: حتّى تسلّموا على أهلها و تستأنسوا و تستأذنوا فأن أذن لكم فادخلوا [ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ] ذلك الدخول بالاستيذان خير لكم [لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] مواعظ اللّه و أوامره و نواهيه و إنّما أمر بعد آية القذف و تفاصيله بهذه الآية لأنّ أهل الإفك غالبا يجدون بهذا السبيل طريقا إلى البهتان كأنّ ورود الإنسان خلوة من غير استيذان طريق إلى التهمة و الوقوع فيها فلذلك أدّب اللّه الخلق بهذه الطريقة حتّى يسلموا من بعد المضارّ المؤدّية إلى التهمة على أنّه إذا حصل الدخول بعد الاستيذان فالإنسان حينئذ مأمون من أن يهجم على ما لا يحلّ له و عن التصرّف في ملك الغير بغير رضاه فيكون كالمغصوب و هو كالغاصب.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الاستيذان ثلاث: بالأولى يستنصتون و بالثانية يستصلحون و بالثالثة يؤذنون أو يردّون و قال: إذ استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه و لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم و ذلك لأنّ الدور لم يكن عليها حينئذ ستور و معلوم أنّ قرع الباب بعنف و الصياح بصاحب الدار حرام لأنّه يتضمّن الإيذاء و الإيحاش و كفى بقصّة بني أسد زاجرة و ما نزل فيها من قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» (1).

قوله تعالى: [فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها] أي فإن لم تجدوا أحدا يأذن لكم في الدخول فلا تدخلوها لأنّه ربّما كان فيها ما لا يجوز أن تطّلعوا عليه [حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ] أي لا تدخلوا البيوت حتى يأذن لكم أرباب البيوت في الدخول فبيّن اللّه سبحانه أنّه لا يجوز دخول دار الغير إلّا أن يؤذن له و إن لم يكن صاحبها فيها فلا يجوز أن يتطلّع إلى المنزل ليرى من فيه فيستأذنه إذا كان الباب مغلقا.

[وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا] و انصرفوا و لا تلحّوا عليهم في الدخول و ذلك بأن يأمروكم بالانصراف صريحا أو يوجد منهم ما يدلّ عليه [هُوَ أَزْكى لَكُمْ] أي الانصراف

ص: 334


1- الحجرات: 4.

أنفع لكم في دينكم و دنياكم و أقرب إلى أن تصيروا أزكياء [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] أي عالم بأعمالكم.

ثمّ قال تعالى: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ و ليس عليكم بأس و حرج أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة و تدخلونها بغير استيذان.

قيل في معنى هذه البيوت أقوال:

أحدها: أنّها الخانات و الحمّامات و الأرحية، عن الصادق عليه السّلام و عن محمّد بن الحنفيّة و جماعة. و يكون معنى «متاع لكم» أي استمتاع لكم. و الثاني: أنّها الخرابات المعطّلة.

و الثالث: الحوانيت و الأسواق و بيوت المتجر الّتي فيها أمتعة التجارة. و الرابع: أنّها مناخات الناس في أسفارهم و الأولى حمله على الجميع. «وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ» يعلم سرّكم و علنكم و لا يخفى عليه شي ء من ذلك من أهل الريبة و غير أهل الريبة.

الحكم الآخر في النظر قوله تعالى:

[سورة النور (24): الآيات 30 الى 31]

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

أي الحكم في النظر أن يغضّوا و يمنعوا أبصارهم عن النظر إلى ما هو محرّم و يحفظوا فروجهم و عوراتهم من النظر المحرّم ذلك الغضّ و المنع و الحفظ أظهر لهم لما فيه من البعيد عن الريبة.

[إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ] و المعنى أنّهم ينغضّوا من أبصارهم و لا ينظروا إلى ما حرّم. القمي عن الصادق عليه السّلام: كلّ آية في القرآن في ذكر الفرج فهي في الزنى إلّا

ص: 335

هذه الآية فإنّها من النظر فإنّ المراد به الستر حتّى لا ينظر إليها أحد فلا يحلّ لرجل أن ينظر إلى عورة أخيه و فرجه.

[وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ] أي كما أنّ الرجال محكومون بهذا الحكم كذلك النساء لا يحلّ للمرأة أن تنظر إلى فرج أختها و في الكافي عنه عليه السّلام: في حديث يذكر فيه فرض الإيمان على الجوارح و فرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم اللّه و أن يعرض عمّا نهى اللّه عنه مما لا يحلّ له و هو عمله و هو من الإيمان فقال تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» و المرأة لا بدّ و أن تحفظ عورتها من أن ينظر إليها و المراد من حفظ الفرج في هذه الآية حفظ النظر.

و عن الباقر عليه السّلام قال: استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة و كان النساء يتقنّعن خلف آذانهنّ فنظر الشابّ إليها و هي مقبلة فلمّا جازت نظر إليها في زقاق يسمى بزقاق بني فلان فجعل الشابّ ينظر خلفها و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره فقال: و اللّه لآتينّ رسول اللّه و لأخبرنّه. قال: فأتاه فلمّا رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له: ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية [وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها] أي و لا يظهرن مواضع الزينة لغير محرم و من هو في حكمه و لم يرد نفس الزينة.

و اعلم أنّ الزينة اسم يقع على محاسن الخلق الّتي خلقها اللّه تعالى و على سائر ما يتزيّن به الإنسان من فضل لباس أو حليّ و غير ذلك و أنكر بعضهم وقوع اسم الزينة على الخلقة قالوا: لا يقال في الخلقة أنّها من زينتها و إنّما يقال ذلك فيما تكتسبه من كحل و خضاب و ثياب و نحوه و أمّا الّذين قالوا: الزينة عبارة عمّا سوى الخلقة فقد حصروه في امور ثلاثة: الأصباغ كالكحل و الخضاب و الوسمة في الحواجب و الحنّاء في الكفّين و القدم و ثانيها: الحليّ كالخاتم و السوار و الدبلح و الخلخال و القلادة و الإكليل و الوشاح و القرط و أشباهه و ثالثها: الثياب قال اللّه تعالى: «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» (1) و أراد من الزينة الثياب.

ص: 336


1- الأعراف: 30.

ثمّ اختلفوا في المراد من قوله: [إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها] و فيها ثلاثة أقوال: أحدها أنّ الظاهرة الثياب و الباطنة القرطان و السواران و الخلخال عن ابن مسعود. و ثانيها:

أنّ الظاهرة الحليّ و الخاتم و الخضاب في الكفّ و الخدّان عن ابن عبّاس و الكحل و السوار و الخاتم عن قتادة و ثالثها: الوجه و الكفّان عن الضحّاك و عطا و الوجه و البنان عن الحسن. و في تفسير عليّ بن إبراهيم: الكفّان و الأصابع.

و في الكافي عن الصادق في قوله: «إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» قال الزينة الظاهرة الكحل و الخاتم و العلب و هي السوار و في الجوامع عنهم الكفّان و الأصابع كما ذكرنا قبل هذا.

و القميّ عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: هي الثياب و الكحل و الخاتم و خضاب الكفّ و السوار و أنّ الزينة ثلاث: زينة للناس و زينة للمحرم و زينة للزوج فأمّا زينة الناس فقد ذكرناها و أمّا زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها و الدبلج و ما دونه و الخلخال و ما أسفل منه و أمّا زينة الزوج فالجسد كلّه.

و في المجمع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: للزّوج ما تحت الدرع و للمحرم كالابن و الأخ ما فوق الدرع و لغير ذي محرم أربعة أثواب: درع و خمار و جلباب و إزار.

و عنه عليه السّلام قال: لا بأس بالنظر إلى رءوس أهل تهامة و الأعراب و أهل السواد و البلوج لأنّهم إذا نهوا لا ينتهون قال: و المجنونة و المغلوب على عقلها و لا بأس بالنظر إلى شعرها و جسدها ما لم يتعمد ذلك و عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا حرمة لنساء أهل الذمّة أن ينظر إلى شعورهنّ و أيديهنّ و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن الرجل يريد أن يتزوّج المرأة يتأمّلها و ينظر إلى خلفها و إلى وجهها قال: لا بأس و في رواية اخرى ينظر إلى شعرها و معاصمها إذا أراد أن يتزوّجها و المعصم موضع السوار، و في رواية ينظر إلى شعرها و محاسنها إذا لم يكن متلذّذا و في اخرى إنّما يشتريها بأغلى الثمن.

و في الخصال قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلّي عليه السّلام: يا عليّ أوّل نظرة لك و الثانية عليك لا لك هذا ما في المجمع و الصافي من كتبنا.

قال الرازيّ في المفاتيح: اختلفوا في المراد من قوله: «إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» أمّا الّذين

ص: 337

حملوا الزينة على الخلقة فقال القفّال: معنى الآية إلّا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية و ذلك في النساء الوجه و الكفّان و في الرجل الأطراف و اليدين و الرجلين فأمروا بستر ما لا تؤدّي الضرورة إلى كشفه و رخّص لهم في كشف ما اعتيد كشفه و أدّت الضرورة إلى إظهاره إذ كانت شرائع الإسلام حنيفية سهلة سمحة و لمّا كان ظهور الوجه و الكفّين كالضروريّ لا جرم قالوا على أنّهما ليسا بعورة.

و أمّا الّذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة قالوا: إنّه سبحانه إنّما ذكر الزينة لأنّه لا خلاف أنّه يحلّ النظر إليها حال ما لم تكن متّصلة بأعضاء المرأة فلمّا حرّم اللّه النظر إليها حال اتّصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة و على هذا الوجه يحلّ النظر إلى زينة وجهها من الوشمة و الغمرة و الخضاب و الخواتيم و الثياب و السبب في تجوّزها أن تستّرها لها حرج لأنّ المرأة لا بدّ لها من مناولة الأشياء بيديها و الحاجة إلى كشف وجهها في بعض المقام كالشهادة و المحاكمة و النكاح انتهى كلام القفّال.

قوله تعالى: [وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ] و الخمر المقانع و هو غطاء الرأس من المرأة المنسدل على جيبها امرن بإلقاء المقانع على صدورهنّ تغطية لنحورهنّ و أعناقهنّ و كنّ يلقين مقانعهنّ على ظهورهنّ فتبدو صدورهنّ و كنّي عن الصدر بالجيوب لأنّها ملبوسة عليها و قيل: امرن بذلك ليستترن شعورهنّ و قرطهنّ قال ابن عبّاس:

معناه تغطى المرأة شعرها و صدرها و ترائبها و سوالفها و في لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء و الباء للإلصاق.

قوله تعالى: [وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ] يعني الزينة الباطنة الّتي لا يجوز كشفها في الصلاة و قيل: معناه لا يضعن الجلباب و الخمار.

و بالجملة لمّا تكلّم سبحانه في مطلق الزينة شرح في هذه الآية في الزينة الخفّية الّتي نهاهنّ عن إبدائها للأجانب و بيّن أنّ هذه الزينة الخفيّة يجب إخفاؤها عن الكلّ ثمّ استثنى اثنتي عشرة صورة:

أحدها أزواجهنّ أي يبدين مواضع زينتهنّ لأزواجهنّ فقد روي أنّه لعن السلتاء من النساء و المرهاء و السلتاء الّتي لا تخضب لزوجها و المرهاء الّتي لا تكتحل و لعن المسوّفة

ص: 338

و المسفّلة و المسوّفة الّتي إذا دعاها زوجها إلى المباشرة قالت: سوف أفعل و المفسلة هي الّتي إذا دعاها قالت أنا حائض و هي غير حائض.

و ثانيها: «آباؤهن» و إن علون من جهة الذكران و الإناث كآباء الآباء و آباء الأمّهات.

و الثالث إلى الثامن: قوله تعالى: «أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ» فهؤلاء الّذين محرّم عليهم نكاحهنّ بهم و محرّم لهنّ بالأسباب و الأنساب. و يدخل أجداد البعولة فيه و إن علوا و أحفادهم و إن سفلوا يجوز إبداء الزينة لهم من غير استدعاء لشهوتهم و يجوز لهم تعمّد النظر من غير تلذّذ و لعلّ السبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة لأنّهم مخصوصون بالحاجة إلى مداخلتهنّ و مخالطتهنّ و لقلّة عدم وقوع الفتنة في المحارم.

و تاسعها قوله تعالى: «أَوْ نِسائِهِنَّ» يعني النساء المؤمنات و لا يحلّ لها أن تتجرّد ليهوديّة أو نصرانيّة أو مجوسيّة إلّا إذا كانت الكافرة أمة لها لقوله تعالى: «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» و المعنى الإماء الكافرات قالوا: و لا يحلّ للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته و كتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمّام مع المؤمنات.

و قيل: معناه يشمل العبيد و الإماء و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و في الكافي عنه عليه السّلام: لا بأس أن يرى المملوك الشعر و الساق و في رواية: شعر مولاته و ساقها و في اخرى: لا بأس أن ينظر إلى شعرها إذا كان مأمونا و عنه عليه السّلام: لا يحلّ للمرأة أن ينظر عبدها إلى شي ء من جسدها إلّا إلى شعرها غير متعمّد لذلك.

و منشأ الاختلاف أنّ منهم أي العامّة من أجرى الآية على ظاهرها و رعم أنّه لا بأس عليهنّ في أن يظهرن لعبيدهنّ من زينتهنّ ما يظهرن لذوي محارمهنّ و هو المرويّ عن عائشة و امّ سلمة و احتجّوا بظاهر الآية و برواية أنس أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتى بعبد قد وهبه لها و عليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها و إذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها فلمّا رأى رسول اللّه ما بها قال: إنّه ليس عليك بأس إنّما هو أبوك و غلامك.

و عن مجاهد كان امّهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهنّ ما بقي عليه درهم و روي أنّ

ص: 339

عائشة كانت تتمشّط و العبد ينظر إليها.

و قال ابن مسعود و مجاهد و الحسن و ابن سيرين و سعيد بن المسيّب: إنّ العبد لا ينظر إلى شعر مولاته و به قال أبو حنيفة.

فإن قيل: الإماء دخلن في قوله أو نسائهنّ فأيّ فائدة في الإعادة إذا كان المقصود من قوله «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» الإماء؟ لعلّ المراد أنّه لا يظنّ أنّ الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله أو نسائهنّ يقتضي الحرائر دون الإماء كقوله: «شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» على الأحرار.

قوله تعالى: [أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ] و هذا الحادي عشر من الأقسام أي اولي الحاجة إلى النساء من الرجال و الإربة العقل وجودة الرأي و هم الّذين يتّبعونكم لينالوا من فضل طعامكم و لا حاجة لهم إلى النساء لأنّهم بله لا يعرفون من أمرهنّ شيئا. القميّ: هو الشيخ الفاني الّذي لا حاجة له إلى النساء. و عن الصادق عليه السّلام: الأحمق المولّى عليه الّذي لا يأتي النساء و كذلك الشيوخ الّذين غضّ العمر أبصارهم و ليس بهم حاجة في مثل هذه الأمور.

و معلوم أنّ الخصيّ و العنين و من شاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع و يكون له إربة قويّة فيما عداه من التمتّع و ذلك يمنع من أن يكون هو المراد و أمثاله و لا يجوز له ما يجوز للتابعين غير اولي الإربة لأنّهم اولي الإربة فتحمل الآية على من هو عادم وجوه التمتّع إمّا لفقد الشهوة أو لفقد العقل و المعرفة كالمعتوه و الأبله و الصبيّ و الهرم البالي الفاني و من لا شهوة له و لا يمتنع دخول الكلّ في ذلك و روى هشام بن عروة عن زينب بنت أمّ سلمة عن امّ سلمة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل عليها و عندها مخنّث فأقبل على أخي امّ سلمة فقال: يا عبد اللّه إن فتح اللّه لكم الطائف غدا دلّلتك على بنت غيلان فإنّها تقبل بأربع و تدبر بثمان فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يدخلنّ عليكم هذا لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يظنّ أنّه من غير اولي الإربة فلمّا عرف أنّه يعرف أحوال النساء و أوصافهنّ علم أنّه من اولي الإربة فحجبه.

و الثاني عشر قوله تعالى: [أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ] الطفل

ص: 340

اسم للواحد و يطلق موضع الجمع لأنّه يفيد الجنس و نظيره قوله: «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» المعنى أي الجماعة من الأطفال الّذين لم يظهروا و لم يطّلعوا و لم يتصوّروا عورات النساء و لم يدروا ما هي من الصغر و قيل: معناه: لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء لعدم شهوتهم فإذا بلغوا مبلغ الشهوة فحكمهم حكم الرجال و هذا آخر الصور الّتي استثناها اللّه تعالى.

قوله تعالى: [وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ] قيل: كانت المرأة تضرب برجلها لتسمع قعقعة الخلخال فيها فنها هنّ عن ذلك أو المعنى أنّ المرأة لا تضرب برجلها إذا مشت ليتبيّن خلخالها. و معلوم أنّ الرجل الّذي يغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال و الزينة يصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهنّ.

و قد علّل سبحانه بأن قال: [لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ] فنبّه به على أنّ الّذي لأجله نهى عنه أن يعلم زينتهنّ من الحليّ و غيره.

و لمّا نهى عن استماع الصوت الدالّ على الزينة فلأن يدلّ على المنع من إظهار الزينة و من إظهار مواضع الزينة أولى و ثانيا إذا كانت المرأة منهيّة أن ترفع صوت خلخالها لوقوع الفتنة فرفع صوتها بالكلام للأجانب نهيه أولى إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت زينتها و لذلك كرهوا أذان النساء لأنّه يحتاج فيه إلى رفع الصوت و المرأة منهيّة عن ذلك و إذا كان المناط و الملاك وقوع الفتنة فالنظر إلى وجهها بالشهوة أقرب إلى الفتنة.

قوله تعالى: [وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] و قرئ «أيّه المؤمنون» بالضمّ من الهاء و وجهه أنّها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلمّا سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها.

و في التوبة و جهان: أحد هما أنّ تكاليف اللّه في كلّ باب لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها و إن ضبط نفسه و اجتهد و لا ينفكّ من تقصير يقع منه فلذلك وصّى المؤمنين جميعا بالتوبة.

و الوجه الثاني قال ابن عبّاس: معناه: توبوا ممّا كنتم تفعلونه في الجاهليّة لعلّكم

ص: 341

تسعدون في الدنيا و الآخرة فإن قيل: قد صحّت التوبة بالإسلام و الإسلام يجبّ ما قبله فما معنى هذه التوبة؟ قلنا: قال بعض العلماء: إنّ من أذنب ذنبا ثمّ تاب عنه لزمه كلّما ذكره أن يجدّد عنه التوبة لأنّه يلزمه أن يستمرّ على ندمه إلى أن يلقى ربّه.

الحكم الثامن ما يتعلّق بالنكاح قوله تعالى:

[سورة النور (24): الآيات 32 الى 34]

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

لمّا أمر سبحانه بغضّ الأبصار عمّا لا يحلّ و حفظ الفروج بيّن في هذه الآية طريق الحلّ فقال:

[وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ] قال النضر بن شميل: الأيّم في كلام العرب كلّ ذكر لا أنثى معه و كلّ أنثى لا ذكر معها و هو قول ابن عبّاس قال الزمخشريّ: الأيامى و اليتامى- أصلهما أيائم و يتائم فقلبا- جمع أيّم و أيامى مقلوب أيايم، و الفعل منه أيّم يؤيّم:

فإن تنكحي أنكح و إن تتأيّمي و إن كنت أفتى منكم أتأيّم

و بالجملة فالمعنى بعد ما زجر سبحانه عن النظر الحرام و السفاح أمر بالتزويج و الإنكاح مع أنّه مقصود بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع أي زوّجوا من لا زوج له من أحرار رجالكم و نسائكم و هذا أمر استحباب و ندب؛ و قد صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي و من سنّتي النكاح. و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوّج فإنّه أغضّ للبصر و أحصن للفرج و من لم يستطع فعليه بالصوم فإنّ الصوم و جاء امّتي. و عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: شراركم عزّابكم و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أدرك له ولد و عنده ما يزوّجه فأحدث

ص: 342

فالإثم بينهما.

و عن أبي اسامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال: أربع لعنهم اللّه من فوق عرشه و أمّنت عليه ملائكته: أحدهم الّذي يحصر نفسه فلا يتزوّج و لا يتسرّى لئلّا يولد له و الرجل الّذي يتشبّه بالنساء و قد خلقه اللّه ذكرا، و المرأة الّتي تتشبّه بالرجال و قد خلقها اللّه أنثى، و مضلّل الناس يريد الّذي يهزأ بهم مثل أن يقول للمسكين: هلمّ أعطك، فإذا جاء يقول: ليس معي شي ء و مثل أن يقول للمكفوف: اتّق الدابّة و ليس بين يديه شي ء و الرجل يسأل عن دار القوم فيضلّله.

و بالجملة قال الشافعيّة: في النكاح قسمان منهم من تتوق نفسه في النكاح فيستحبّ له أن ينكح إن وجد اهبة النكاح سواء كان مقبلا على العبادة أو لم يكن كذلك و إن لم يجد اهبة النكاح بكسر شهوته بالصوم للرواية المذكورة في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «يا معشر الشّباب.

إلخ» و أمّا الّذي لا تتوق نفسه إلى النكاح فإن كان ذلك لعلّة به من كبر أو مرض أو عجز يكره له النكاح لأنّه يلزمه ما لا يمكنه القيام بحقّه و إن لم يكن به عجز و لكن لا تتوق نفسه و كان قادرا على القيام بحقّه لم يكره له النكاح لكنّ الأفضل أن يتخلّى للعبادة.

و لكنّ الحنفيّة قالوا: النكاح أفضل من التخلّي للعبادة.

و حجّة الشافعيّ أحدها: قوله تعالى «وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (1) فمدح يحيى بكونه حصورا و الحصور الّذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهنّ و لا يقال:

هو الّذي لا يأتي النساء مع العجز عنهنّ لأنّ مدح الإنسان بما يكون عيبا غير جائز و إذا ثبت أنّه مدح في حقّ يحيى لزم أن يكون مشروعا في حقّنا لقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» (2) و لا يجوز حمل الهدى على الأصول لأنّ التقليد فيها غير جائز فوجب حمله على الفروع على أنّ العبادة و النوافل أشقّ من النكاح لأنّ ميل الطباع إلى النكاح للذّته أكثر من العبادة فتكون العبادة أكثر ثوابا لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 343


1- آل عمران: 39.
2- الانعام: 90.

أفضل الأعمال أحمزها و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعائشة: أجرك على قدر نصبك ثمّ لو كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لكان الاشتغال بالحراثة و الزراعة أولى من النافلة بالنسبة الى النكاح و الجامع كون كلّ واحد منهما سببا لبقاء هذا العالم و محصّلا لنظامه و كما يقدّم واجب العبادة على واجب النكاح كذلك يقدّم مندوب العبادة على مندوب النكاح و النافلة قطع العلائق الجسمانيّة و إقبال على اللّه و النكاح اشتغال بتحصيل اللذّات الحسّيّة الداعية إلى الدنيا في الأغلب و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حبّب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب و النساء و جعلت قرّة عيني في الصلاة فرجّح صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصّلاة على النكاح و هذه البيانات حجج من قال: إنّ التخلّي للعبادة المندوبة أفضل من النكاح.

و احتجّ أبو حنيفة برجحان النكاح على العبادة المندوبة و قال: إنّ النكاح يتضمّن صون النفس عن الزنا فيكون ذلك دفعا للضرر عن النفس و النافلة جلب النفع، و دفع الضرر أولى من جلب النفع ثمّ إنّ النكاح يتضمّن العدل و العدل أفضل من العبادة لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لعدل عن ساعة خير من عبادة ستّين سنة، ثمّ إنّ النكاح سنّة مؤكّدة لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي و قال في الصّلاة: و إنّها خير موضوع فمن شاء فليستكثر و من شاء فليستقلل انتهى كلامهم.

قوله: [وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ] أي زوّجوا المستورين من عبيدكم و ولائدكم و ظاهر الآية الأمر للسادة بتزويج هذين الفريقين و معنى الصلاح في الآية الإيمان.

ثمّ رجع سبحانه إلى الأحرار فقال: [إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ] لا سعة لهم في التزويج [يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] وعدهم أن يوسّع عليهم عند التزويج [وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ] أي واسع المقدور عليم بأحوالهم و ما يصلحهم و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء الظنّ بربّه لقوله تعالى: «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».

و إنّما خصّ الصالحين بالذكر ليحصن دينهم و يحفظ عليهم صلاحهم بالتزويج و قيل: المراد بالصالحين المراد الصلاح في النكاح بأنّ مثلا لا تكون صغيرة لا تتحمّل النكاح و قيل: المراد من قوله تعالى: «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ» ليس وعد من اللّه أن يغنيهم

ص: 344

حتما بل معناه أن لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون تزويجها ففي فضل اللّه ما يغنيهم إذا علم المصلحة و المال غاد و رائح و ليس الفقر يكون مانعا لرغبتكم في التزوّج و التزويج و يمكن أن يكون المراد من الغنى العفاف.

قوله: [وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] لمّا ذكر سبحانه تزويج الحرائر و الإماء ذكر في هذه الآية حال من يعجز عن ذلك فقال:

و ليستعفف و ليجتهد في العفّة و يحمل نفسه على العفّة الّذين لا يجدون و لا يتمكّنون من النكاح أولا يجدون ما ينكح به من المال مثل المهر أي من لا يتمكّن من ذلك فيطلب التعفّف و لينتظر أن يمكّنه اللّه.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ] هذا هو الحكم التاسع في الكتابة لمّا أمر اللّه سبحانه السيّد على تزويج الصالحين من العبيد و الإماء مع الرقبة رغّبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا منهم ليصيروا أحرارا.

و نزلت الآية في غلام لخويطب بن عبد العزّى يقال له صبيع سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت الآية فكاتبه على مائة دينار وهب له منها عشرين دينارا و المكاتبة أن يكاتب الإنسان عبده على مال ينجّمه عليه ليؤدّيه إليه في هذه النجوم المعلومة يقول المولى مثلا: كاتبتك على كذا من المال تؤدّيه في حولين أو ثلاث فإذا أدّيت ذلك المعلوم فأنت حرّ و يقول العبد: قبلت.

و بالجملة فهذا الأمر ندب و استحباب و ترغيب عند أكثر الفقهاء و قيل: أمر حتم و إيجاب إذا طلبه العبد و علم فيه خيرا عن عطا و عمرو بن دينار و الطبريّ.

قوله: [إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً] أي صلاحا و رشدا لهذا الأمر و قدرة لا لاكتساب هذا المال للأداء من مال الكتابة و روي أنّ عبدا لسلمان قال له: كاتبني قال: ألك مال؟ قال: لا، قال: تطعمني أو ساخ الناس فأبى عليه.

قوله: [وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ] أي حطّوا عنهم من نجوم الكتابة شيئا و قيل: أي ردّوا عليهم يا معشر السادة من المال الّذي أخذتم شيئا و هو استحباب و قيل:

هو إيجاب: و قال قوم من المفسّرين: إنّه خطاب للمؤمنين بمعونتهم على تخليص رقابهم

ص: 345

من الرقّ. و من قال: إنّ الخطاب للسادة اختلفوا في قدر ما يجب فقيل: يتقدّر بربع المال و روي ذلك عن عليّ عليه السّلام و قيل: ليس تقدير بل يحطّ عنه شي ء منه. و قيل: إنّه يعطي سهمه من الصدقات في قوله: «وَ فِي الرِّقابِ» و قيل: لو لا الكتابة لما جاز له أخذ الصدقات.

و قال أصحابنا: إنّ المكاتبة ضربان مطلق و مشروط فالمشروط أن يقول لعبده في حال الكتابة: متى عجزت عن أداء ثمنك كنت مردودا في الرقّ فإذا كان كذلك جاز له ردّه في الرقّ عند العجز و المطلق ينعتق منه عند العجز بحساب ما أدّى من المال و يبقى مملوكا بحساب ما بقي عليه و يرث و يورث بحساب ما عتق.

قوله تعالى: [وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً] الحكم العاشر الإكراه على الزنا نهى سبحانه عن إكراه الإماء على الفجور.

النزول: كان لعبد اللّه بن ابيّ المنافق ستّ جوار معاذة و مسيكة و اميمة و عميرة و أروى و فتيلة يكرههنّ على البغاء و ضرب عليهنّ ضرائب فشكت ثنتان منهنّ إلى رسول اللّه فنزلت الآية. و قيل: إنّ سبب النزول: جاء عبد اللّه بن ابيّ إلى رسول اللّه و معه جارية من أجمل النساء تسمّى معاذة فقال: يا رسول اللّه هذه لأيتام فلان أفلا نأمرها بالزنى فيصيبون الأيتام من منافعها فقال: لا، فأعاد الكلام فنزلت الآية عن ابن عبّاس و قال جابر بن عبد اللّه: جاءت جارية لبعض الناس و شكت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّ سيّدي يكرهني على البغاء، فنزلت الآية.

المعنى: و لا تجبروا و لا تكرهوا إماءكم و ولائدكم على الزنى إن أردن تعفّفا و تزويجا و إنّما شرط سبحانه إرادة التحصّن لأنّ الإكراه لا يتصوّر و لا يتحقّق إلّا عند إرادة التحصّن فإن لم ترد المرأة التحصّن بغت بالطبع فهذه فائدة الشرط.

[لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا] من كسبهنّ [وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَ] على الزنا من ساداتهنّ من غير ميل منهنّ [فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ] للمكرهات لا للمكره لأنّ الوزر على المكره [رَحِيمٌ] بهنّ.

توضيح: العرب يقول للمملوك: فتى و للمملوكة فتاة قال سبحانه: «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها» (1) و الآية و إن كانت نزلت في الإماء إلّا أنّ حال الحرائر كذلك و في الحديث

ص: 346


1- يوسف: 30.

ليقل أحدكم: فتاي و فتاتي و لا يقل: عبدي و أمتي.

فلو قيل: إنّ ظاهر الآية يقتضي جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصّن لأنّ المعلّق بكلمة «إن» على شي ء عدم عند عدم ذلك الشي ء و ينتفي بانتفائه فحينئذ ينتفي المنع عند عدم إرادة التحصّن.

فالجواب أنّ هذا الشي ء ممتنع في نفسه لأنّه متى لم توجد إرادة التحصّن في حقّها لم يكن كارهة للزّنا و حال كونها غير كارهة للزّنا يمتنع إكراهها على الزنا فامتنع ذلك لامتناعه في نفسه و ذاته ثمّ إنّ هنا جوابا آخر و هو أنّ مفهوم هذا الشرط ليس بحجّة لأنّه ثبت بدليل منفصل أنّ الزنى حرام. و «إن» بمعنى «إذا» في الآية لأنّ الّتي وردت الآية فيها كانت كذلك كما ذكرنا في قصّة عبد اللّه بن ابيّ حين امتنعت الجارية طلبا للعفاف فأكرهها فنزلت الآية نظير قوله تعالى: «وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» (1) أي إذا كنتم في ريب.

قوله تعالى: [لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ] واضحات ظاهرات و من قرأ بفتح الياء فمعناه مفصّلات بيّنهنّ اللّه و فصّلهنّ [وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ] و إخبارا من الّذين مضوا من قبلكم و قصصا منهم حكيناها لكم لتعتبروا بها [وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ] أي و زجرا و منعا لأهل التقوى و خصّهم بالذكر لأنّهم المنتفعون بها.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 35 الى 38]

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)

ص: 347


1- البقرة: 23.

و لمّا بيّن في الآيات السابقة بعض الأحكام أورد الكلام في الإلهيّات و ذكر مثلين مثلا للإيمان و المؤمن و مثلا يذكر في الكافر و الكفر.

أمّا المثل الأوّل فهو قوله تعالى: [اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ] في بيان إطلاق اسم النور على اللّه باعتبار أنّه هادي و منوّر الخلق بمصالحهم و منوّر السماوات و الأرض بالشمس و القمر و النجوم أو منوّر السماوات و مزيّنها بالملائكة و مزيّن الأرض و منوّرها بالأنبياء و العلماء و إنّما عبّر و ورد النور في صفة اللّه لأنّ كلّ نور و إنعام و نفع منه و هذا كما يقال: فلان رحمة و فلان عذاب إذا كثر فعل ذلك منه كما قال أبو طالب عليه السّلام في مدح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

و اتّفقوا أهل الأدب أنّه لم يعن بقوله و «أبيض» بياض لونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّما أراد كثرة إفضاله و الاهتداء به و لهذا المعنى سمّاه اللّه تعالى سراجا منيرا.

و اعلم أنّ لفظ النور في اللغة موضوع لهذه الكيفيّة الفائضة من الشمس و القمر و النار على الأرض و الجدران و غيرهما و هذه الكيفيّة يستحيل أن تكون إلها لوجوه:

أحدها: لأنّ هذه الكيفيّة إن كانت عبارة عن الجسم كان الدليل الدالّ على حدوث الجسم دالّا على حدوثها و إن كانت عرضا فمتى ثبت حدوث الجسم لزم حدوث جميع الأعراض القائمة به و الحلول على اللّه محال.

و الثاني: أنّا سواء قلنا النور جسم أو عرض حالّ في الجسم و على التقديرين منقسم و كلّ منقسم يفتقر في تحقّقه إلى تحقّق أجزائه و المفتقر إلى الغير ممكن لذاته محدث بغيره فلا يكون النور إلها.

و الثالث: أنّ هذا النور المحسوس لو كان هو اللّه لوجب أن لا يزول هذا النور لامتناع الزوال على اللّه و هذا النور المحسوس يقع بطلوع الشمس و الكواكب و متغيّر.

و الرابع: أنّ هذه الأنوار لو كانت أزليّة لكانت إمّا متحرّكة أو ساكنة أمّا الحركة فغير جائزة لأنّ الحركة معناها الانتقال من مكان إلى مكان فحينئذ الحركة

ص: 348

مسبوقة بالحصول في المكان الأوّل و الأزليّ يمتنع أن يكون مسبوقا بالغير فالحركة الأزليّة محال و أمّا السكون فغير جائز لأنّ السكون لو كان أزليّا لكان ممتنع الزوال و نحن نرى حسّا أنّ النور جائز الزوال لأنّا نرى أنّه ينتقل من مكان إلى مكان فدلّ ذلك على حدوث الأنوار و الحادث لا يكون إلها. و بمجموع هذه الدلائل ثبت بطلان قول المانويّة الّذين يعتقدرون أنّ الإله سبحانه هو النور الأعظم.

و أمّا المجسّمة المعترفون بصحّة القرآن فيحتجّ على فساد قولهم بوجهين الأوّل: قوله تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» (1) و لو كان نورا لبطل ذلك لأنّ الأنوار كلّها متماثلة. الثاني قوله: «وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ» (2) و ذلك صريح في أنّ ماهيّة النور مجعولة مخلوقة للّه تعالى فيستحيل أن يكون الإله نورا فلا بدّ من التأويل كما بيّنّا من أنّ النور لمّا كان سببا للهداية و الظهور فيصحّ إطلاق اسم النور على الهداية فقوله: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي ذو نور السماوات و هو هاديهم فهو لهم كالنور الّذي يهتدى به إلى طرق الخير قال جرير:

«و أنت لنا نور و غيث و عصمة»

. و يمكن أن يكون المراد ناظم السماوات و الأرض فإنّه قد يعبّر بالنور عن النظام يقال: ما أرى لهذا الأمر من نور.

و ذكرنا وجوها أخر في صدر تفسير الآية و أصحّ الأقوال أنّ المراد بالنور في الآية الهداية إلى طريق الحقّ و قوله تعالى في آخر الآية: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» يؤيّد هذا القول.

و صنّف الشيخ الغزاليّ في تفسير هذه الآية كتابا سمّاه بمشكاة الأنوار و يؤول حاصل كلام الغزاليّ بأنّ اللّه هادي و خالق السماوات و حاصل كتابه في تأويل هذه الآية أنّ اللّه نور في الحقيقة بل ليس النور إلّا هو و لكن مراده ليس هذا النور المنبسط من الأشعّة على الأرض حتّى يلزم الحدوث و الافتقار و التجسّم كما بيّنّا.

قال: و يحتاج بيانه إلى بيان مقدّمة و هي أنّ للإنسان بصرا و بصيرة فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء و الألوان و البصيرة هي القوّة العاقلة و كلّ واحد من

ص: 349


1- الشورى: 11.
2- الانعام: 1.

الإدراكين يقتضي ظهور المدرك فكلّ واحد من الإدراكين نور إلّا أنّه ورود العيوب و الموانع لنور العين أكثر ممّا يرد على نور العقل و البصيرة، و أيضا إنّ قوّة البصر لا تدرك نفسها و لا تدرك آلاتها و أمّا قوّة العاقلة فإنّها تدرك نفسها و آلاتها من القلب و الدماغ و أيضا الإدراك العينيّ و الحسّيّ لا يتّسع لها لأنّ البصر مثلا إذا توالى عليه ألوان كثيرة عجز عن إدراكها و تمييزها صحيحا و يدرك لونا عاليا من تلك الألوان و كذلك الإدراك السمعيّ إذا توالت عليه كلمات كثيرة التبست عليه تلك الكلمات و لم يحصل التميّز و أمّا الإدراك النور العقليّ متّسع له فثبت أنّ نور العقل أكمل من نور البصر.

هذا أحد وجوه مزيّة نور العقل على نور البصر و رجحانيّة نور المعقول على نور المحسوس.

الثاني أنّ نور البصر يدرك الجزئيّات و نور البصيرة يدرك الكلّيّات و مدرك الكلّيّات و هو القلب أقوى و أشرف من مدرك الجزئيّات لأنّ إدراك الكلّيّات يتضمّن إدراك الجزئيّات الواقعة تحته و لا عكس.

الثالث أنّ الإدراك العينيّ و الحسّيّ غير منتج لأنّ من أحسّ بشي ء لا يكون ذلك الإحساس سببا لحصول إحساس آخر بل لو استعمل له الحسّ مرّة اخرى لأحسّ به مرّة اخرى و أمّا الإدراك و النور العقليّ منتج لأمور أخر لأنّا إذا عقلنا أمورا ثمّ ركّبناها في عقولنا توسّلنا بتركيبها إلى اكتساب علوم أخر و هكذا كلّ تعقّل حاصل فإنّه يمكن التوصّل به إلى تحصيل تعقّل آخر إلى ما لا نهاية له.

الرابع أنّ القوّة الحسّيّة إذا أدركت المحسوسات القويّة ففي ذلك الوقت تعجز عن إدراك الضعيفة فإنّ من سمع الصوت الشديد أو أبصر اللون القويّ لا يمكنه أن يسمع الصوت الضعيف أو يرى اللون الخفيف و النور العقليّ لا يشغله معقول عن معقول.

الخامس أنّ القوّة الباصرة لا تدرك المرئيّ مع القرب القريب و لا مع البعد البعيد و القوّة العقليّة لا تختلف حالها بحسب القرب و البعد فإنّها تترقّى إلى فوق العرش و تتنزّل إلى ما تحت الثرى في أقلّ من لحظة واحدة بل تدرك صفات اللّه مع كونه سبحانه

ص: 350

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 8 1

منزّها عن القرب و البعد و الجهة و مدرك القوّة العاقلة صفات اللّه و أفعاله و مدرك القوّة الباصرة هو الألوان و الأشكال و الجسم و السطح فنسبة شرف القوّة العاقلة إلى شرف القوّة الباصرة كنسبة شرف الوجود و العدم، ثمّ إنّ أوّل حكم القوّة العاقلة و هدايتها و نورها أنّ الوجود و العدم لا يجتمعان و لا يرتفعان و ذلك مسبوق لا محالة بتصوّر مسمّى الوجود و العدم فكأنّه بهذين التصوّرين قد أحاط في الجملة بجميع الأمور و أمّا القوّة الباصرة فإنّها تدرك الأضواء و الألوان و هما من أخسّ عوارض الأجسام و الأجسام أخسّ من الجواهر الروحانيّة.

السادس أنّ القوّة العاقلة غنيّة في إدراكها العقليّ عن وجود المعقول في الخارج و القوّة الحاسّة محتاجة في إدراكها الحسّيّ إلى وجود المحسوس في الخارج و لا شكّ أنّ الغنيّ أشرف من المحتاج.

السابع أنّ الإدراك البصريّ لا يتناول إلّا المقابل أو ما هو في حكم المقابل و أمّا القوّة العاقلة فإنّها تدرك ما يقابل و ما لا يكون في الجهة و الباصرة يعجز عند الحجاب و هي لا يحجبها شي ء أصلا فكانت أشرف.

الثامن: القوّة الباصرة قد تغلّط لأنّها أحيانا تدرك المتحرّك ساكنا و الساكن متحرّكا كالجالس في السفينة فإنّه قد يدرك السفينة المتحرّكة ساكنة و الشطّ الساكن متحرّكا و لو لا العقل لما تميّز خطاء البصر عن صوابه فالعقل حاكم و الحسّ محكوم فالإدراك العقليّ أشرف من الإدراك الحسّيّ و كلّ واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الّذي هو أشرف خواصّ النور فكان الإدراك العقليّ أولى بكونه نورا من الإدراك البصريّ.

و إذا ثبت هذا فالأنوار العقليّة على قسمين: أحدهما: واجب الحصول عند سلامة الأحوال و هي التعقّلات الفطريّة. و الثاني: ما يكون مكتسبا و هي التعقّلات النظريّة و هذه الأنوار الفطريّة إنّما حصلت بعد أن لم تكن فلا بدّ لها من سبب و أمّا التعقّلات النظريّة فقد يعتريها الزيغ و الخطل في الأكثر و إذا كان كذلك فلا بدّ من هاد و مرشد و لا مرشد فوق كلام اللّه و لا هادي مثل الأنبياء فكلام اللّه عند عين العقل بمنزلة نور

ص: 351

الشمس عند عين الباصرة لا عند عين العمياء إذ بنور الشمس يتمّ الأبصار فبالحريّ أن يسمّى القرآن نورا كما يسمّى نور الشمس نورا فنور القرآن يشبه نور الشمس و نور العقل يشبه نور العين و بهذا البيان يظهر معنى قوله: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا» (1) و قوله «قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً» (2) و إذا كان بيان الرسول أقوى من نور الشمس وجب أن يكون نفسه القدسيّة أعظم في النورانيّة من الشمس و كما أنّ الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيره و لا تستفيده من غيره فكذا نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يفيد الأنوار العقليّة لسائر الأنفس البشريّة و لا تستفيد الأنوار العقليّة من الأنفس البشريّة فلذلك وصف اللّه الشمس بأنّها سراج حيث قال سبحانه: «وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً» (3) و وصف محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّه سراج منير.

إذا عرفت هذا فمن المعلوم عند العقل و النقل أنّ الأنوار الحاصلة في أرواح الأنبياء مقتبسة من المبدء الأوّل و الفيض الأقدس الأعلى بتوسّط الملائكة كما قال تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (4) و قال تعالى:

«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» (5) و قال: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» (6) و قال: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» (7) و الوحي إلى النبيّ لا يكون إلّا بواسطة الملائكة و الأنوار مختلفة فبعضها مفيدة و بعضها مستفيدة و لو أنّ المفيدة أيضا مستفيدة من نور الأنوار قال تعالى في وصف جبرئيل: «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (8) و إذا كان هو مطاع الملائكة فالمطيعون لا بدّ و أن يكونوا تحت أمره، و قال:

«وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ» (9) فللأنوار درجات و ترقّيات حتّى تنتهي إلى من خلق

ص: 352


1- التغابن: 8.
2- النساء: 173.
3- الفرقان: 61.
4- النحل: 2.
5- الشعراء: 193.
6- النحل: 102.
7- النجم: 4، 5.
8- التكوير: 21.
9- النمل: 164.

و أظهر وجود هذه الأنوار فحينئذ هذه الأنوار الحسّيّة و العقليّة و الروحانيّة مثل جبرئيل بأسرها ممكنة لذواتها و الممكن لذاته يستحقّ العدم من ذاته و العدم هو الظلمة الحاصلة و الوجود هو النور فكلّ ما سوى اللّه مظلم لذاته مستنير بإنارة اللّه و كذا جميع معارفها بعد وجودها حاصل بإيجاد اللّه و وجود اللّه فهو الّذي أظهر الأنوار بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم و أفاض عليها أنوار المعارف فلا ظهور لشي ء من الأشياء إلّا بإظهاره و أعطى النور النور و الانكشاف و التجلّي.

فثبت أنّ النور المطلق بحسب الوجود هو اللّه و أنّ إطلاق النور على غيره مجاز إذ كلّ ما سواه فإنّه من حيث هو هو ظلمة محضة لأنّه من حيث إنّه هو عدم محض بل الأنوار إذا نظرنا إليها من حيث هي هي فهي ظلمات لأنّها من حيث هي هي ممكنات و الممكن من حيث هو هو معدوم و المعدوم مظلم فالنور إذا نظرنا إليه من حيث هو هو ظلمة و من حيث إنّ اللّه أفاض عليها نعمة الوجود فبهذا الاعتبار صارت أنوارا. فثبت أنّه سبحانه هو النور و أنّ كلّ ما سواه فليس بنور إلّا على سبيل المجاز.

و هذا الكلام عن الشيخ الغزاليّ يرجع حاصله بعد التحقيق إلى معنى كونه سبحانه هادي أهل السماوات و الأرض فلا تفاوت بين ما قاله و بين الّذي قاله المفسّرون في المعنى.

رجعنا إلى تفسير الآية: [اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ] اعلم أنّه لا بدّ في التشبيه من المشبّه و المشبّه به و على ما ذكرنا و فصّلنا فالمشبّه في الآية و هو النور هداية اللّه و آياته البيّنات كما هو قول جمهور المتكلّمين و المعنى أنّ هداية اللّه تعالى بلغت في الجلاء و الظهور إلى أقصى الغاية بمنزلة المشكاة الّتي تكون فيها زجاجة و معنى المشكاة قيل: القنديل أو الكوّة في الحائط الّتي جعل فيها زجاجة صافية و في الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء.

فإن قيل: لم شبّه بذلك و قد علمنا أنّ ضوء الشمس أبلغ و أقوى من ذلك بكثير؟

قلنا: إنّه سبحانه أراد أن يصف الضوء الكامل الّذي يلوح في وسط الظلمة و هدايته فيما بينها تلوح لأنّ الغالب على أوهام الخلق الشبهات الّتي هي كالظلمات و هداية اللّه

ص: 353

فيها كالضوء الكامل و هذا المقصود لا يحصل من تشبيه ضوء الشمس لأنّ ضوء الشمس إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص فهذا المثل أليق بالمقصود.

و في المثل امور توجب كمال الضوء:

فأوّلها: المصباح و هو الفتيلة و الشمعة لأنّ المصباح إذا لم يكن في القنديل تفرّقت أشعّته أمّا إذا وضعت الشمعة في المشكاة اجتمعت أشعّته فكانت أكثر إنارة و الّذي يصدّق هذا البيان أنّ المصباح إذا كان في زجاجة صافية فإنّ الأشعّة المنفصلة عن المصباح تنعكس من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض لما في الزجاجة من الشفّافيّة و الصفاء و بسبب ذلك يزداد الضوء و النور كما أنّ إذا وقع شعاع الشمس على الزجاجة الصافية تضاعف الضوء.

و ثانيها أنّ ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتّقد به فإذا كان ذلك الدهن صافيا خالصا كانت حالته بخلاف ما إذا كان كدرا و ليس من ذلك الوقت في الأدهان الّتي توقد ما يظهر فيه من اللون و الصفاء مثل الّذي يظهر في الزيت.

و ثالثها أنّ هذا الزيت يختلف بحسب اختلاف شجره فإذا كان غير شرقيّة و غير غربيّة (1).

و في معنى قوله «لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ» ذكروا وجوها:

الأوّل: لا يفي ء عليها ظلّ شرق و لا ظلّ غرب بل الزيتونة مصاحبة للشمس غير مفارقة لها لا يظلّها جبل و لا شجر و لا كهف فزيتها يكون أصفى حينئذ و حاصل المعنى على هذا التقدير أنّ الزيتونة تكتسب حرارة الشمس من حين طلوع الشمس إلى غروبها حال النهار كالّتي على قلّة من الجبل و صحراء واسعة، و هذا قول ابن عبّاس و سعيد بن جبير و قتادة.

و قيل معناه: لا شرقيّة وحدها و لا غربيّة وحدها أي لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها و لا في مقناة تغيب عنها دائما فتتركها نيّا. و في الحديث لا خير في مقناه و لا خير فيها في مضحى فحينئذ الشجرة الحسنة المثمرة ما كانت تصيبه الشمس و الظلّ كلاهما.ل.

ص: 354


1- كذا في الأصل.

و قيل: معناه أنّ الزيتونة ليست من شجرة الدنيا فتكون شرقيّة و غربيّة.

و قيل: أن لا تكون الزيتونة من شجر الشرق و لا من شجر الغرب لأنّ ما اختصّ بإحدى الجهتين كان أقلّ زيتا و أضعف ضوءا و لكنّها من شجر الشام و هي ما بين الشرق و الغرب.

و بالجملة اللّه ذو نور السماوات و الأرض (و مثله: إنّه عمل غير صالح) أي منوّرها و مثل نوره الّذي هدى به المؤمنين و هو الإيمان و دلائل التوحيد أو مثل نوره الّذي هو القرآن في القلب أو مثل طاعة اللّه في قلب المؤمن كقنديل فيه شمعة.

و في الآية قلب أي مثل شمعة في مشكاة و قنديل. و يوضع ذلك السراج و المصباح في زجاجة و سمّي الشمع و الفتيلة المشتعلة بالمصباح لأنّ فيه أثر الضوء كالصبح.

[كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ] أي تلك الزجاجة مثل الكوكب العظيم الّذي يشبه الدرّ في صفائه و نوره و إذا جعلته من الدرء و هو الدفع و دمغ الظلمة فمعناه المندفع السريع الوقع في الانفضاض كالزهرة كأنّه تنتشر منه الضوء إذا نظرت إليه.

قوله: [يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ] أي يشتعل ذلك المصباح من دهن شجرة مباركة [زَيْتُونَةٍ] أراد بالشجرة المباركة شجرة الزيتون لأنّ فيها أنواع البركات لأنّ بزيته يتسرّج و هو أدام و دهان و دباغ و يوقد بحطبه و ثفلة و يغسل برماده الأبريسم و دهنها أصفى و أضوء و قيل: لأنّها أوّل شجرة نبتت في الأرض بعد الطوفان و منبتها منزل الأنبياء لأنّها نبتت في بيت المقدس و بارك فيها سبعون نبيّا منهم إبراهيم فلذلك سمّيت مباركة.

[لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ] ذكر تفسيرها.

[يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ] أي من فرط صفائه يقرب أن يشتعل و ينير من قبل أن تصيبه النار.

ثمّ هاهنا تحقيق و هو أنّ المحقّقين اختلفوا في المشبّه و المشبّه به كما أشرنا إليه قيل: إنّه مثل ضربه لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالمشكاة صدره، و الزجاجة قلبه، و المصباح النبوّة، لا شرقيّة و لا غربيّة أي لا يهوديّة و لا نصرانيّة يوقد من شجرة مباركة أي

ص: 355

شجرة نبوّة إبراهيم الخليل عليه السّلام يكاد زيتها يضي ء يقرب نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبيّن للناس و لو لم يتكلّم به كما أنّ ذلك الزيت يكاد يضي ء و لو لم تمسسه نار و هذا البيان عن كعب و جماعة من المفسّرين.

و قيل: إنّ المشكاة إبراهيم عليه السّلام و الزجاجة إسماعيل عليه السّلام و المصباح محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما سمّي سراجا.

و قيل: من شجرة مباركة يعني محمّد من شجرة مباركة إبراهيم لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أكثر الأنبياء من صلب إبراهيم لا شرقيّة و لا غربيّة أي ملّته حنيفيّة لا نصرانيّة و لا يهوديّة لأنّ النصارى تصلّي إلى المشرق و اليهود إلى المغرب يكاد زيت نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و محاسنه تظهر قبل أن يوحى إليه نور على نور أي نبيّ من نسل نبيّ.

و قيل: إنّ المشكاة عبد المطّلب و الزجاجة و المصباح و هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا شرقيّة و لا غربيّة بل مكّيّة لأنّها وسط الدنيا عن الضحّاك.

و روي عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: نحن المشكاة فيها المصباح محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يهدى اللّه بولايتنا من قبل ولايتنا و أحبّ.

و في كتاب التوحيد لأبي جعفر بن بابويه بالإسناد عن عيسى بن راشد عن الباقر عليه السّلام في قوله «كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ» قال: نور العلم في صدر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو المصباح، في زجاجة الزجاجة صدر عليّ عليه السّلام صار علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى صدر عليّ عليه السّلام علّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا، يوقد من شجرة مباركة نور العلم لا شرقيّة و لا غربيّة لا يهوديّة و لا نصرانيّة يكاد العالم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل، نور على نور إمام مؤيّد بنور العلم و الحكمة في أثر إمام من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك من لدن آدم عليه السّلام إلى أن تقوم الساعة فهؤلاء الأوصياء الّذين جعلهم اللّه خلفاء في أرضه لا تخلو الأرض في كلّ عصر من واحد منهم قال أبو طالب:

أنت الأمير محمّد قرم أغرّ مسوّدلمسوّدين أطاهر كرموا و طاب المولد

أنت السعيد من السعود فكنّفتك الأسعدمن لدن آدم لم تزل فينا وصيّ مرشد

و لقد عرفتك صادقا و القول لا يتفنّدما زلت تنطق بالصواب و أنت طفل أمرد

ص: 356

و الحاصل من جملة هذه البيانات أنّ الشجرة المباركة المذكور في الآية هي دوحة التقى و الرضوان و عترة الهدى و الإيمان شجرة أصلها النبوّة و فرعها الإمامة و أغصانها التنزيل و أوراقها التأويل و خدمها جبريل و ميكائيل.

و يمكن أن يؤوّل معنى الآية أنّه مثل ضربه اللّه للمؤمن و المشكاة نفسه و الزجاجة صدره و المصباح الإيمان و القرآن في قلبه يوقد من شجرة مباركة هي الإخلاص للّه وحده فهي خضرة ناعمة كشجرة خضرة دائمة كشجرة الزيتونة لا شرقيّة و لا غربيّة لا تضرّه الشمس و لا الفي ء و قد احترز من أن يصيبه القتر فهو في بين أربع خلال: إن اعطي شكر، و إن ابتلى صبر، و إن حكم عدل، و إن قال صدق. فالمؤمن في سائر الناس كالرجل يمشي بين قبور الأموات نور على نور كلامه نور و علمه نور و مدخله نور و مخرجه نور و مصيره إلى نور يوم القيامة.

عن ابيّ بن كعب و عن الحسن و ابن زيد قالوا: إنّه مثل القرآن في قلب المؤمن فكما أنّ هذا المصباح يستضاء به و هو كما هو لا ينقص فكذلك القرآن يهتدي به و يعمل به فالمصباح هو القرآن و الزجاجة قلب المؤمن و المشكاة لسانه و فمه و الشجرة المباركة شجرة الوحي يكاد زيتها يضي ء يكاد حجج القرآن تتّضح و إن لم تقرء و تضي ء لمن تفكّر فيها و تدبّرها و لو لم يزل القرآن فإنّ الدلائل على التوحيد يترتّب بعضها على بعض و المؤمن يستفيد منها بمراعاة الترتيب من ضوء نور السراج على ضوء الزيت على ضوء الزجاجة.

قوله: [يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ] أي يهدي اللّه لدينه و إيمانه من يشاء بأن يفعل له لطفا و يختار عنده الإيمان إذا علم منه القبول و اختيار لعبوديّة قيل: معناه: يهدي اللّه لنبوّته و خلافته من يشاء و يعلم أنّه يصلح لذلك.

[وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ] تقريبا للأفهام و تسهيلا للمرام و هو بكلّ شي ء عليم كثير العلم فيضع الأشياء مواضعها.

[فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ] هذه المشكاة توقد في بيوت يتلى فيها كتابه أو أسماؤه الحسنى و هي المساجد في قول ابن عبّاس و جماعة و يؤيّده قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المساجد

ص: 357

بيوت اللّه في الأرض و هي تضي ء لأهل السماء كما تضي ء النجوم لأهل الأرض.

و قيل: إنّها أربع مساجد لم يبنها إلّا نبيّ: الكعبة بناها إبراهيم و إسماعيل و مسجد بيت المقدس بناها داود و سليمان و مسجد المدينة و مسجد قبا بناهما رسول اللّه.

و قيل: هي بيوت الأنبياء و روي ذلك مرفوعا أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قرأ الآية:

أيّ بيوت هذه فقال: بيوت الأنبياء فقام أبو بكر و قال: يا رسول اللّه هذا البيت منها لبيت عليّ و فاطمة؟ قال: نعم أفاضلها. و يعضد هذا الحديث قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (1) و قوله «رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» (2) و المراد بالرفع التعظيم و التطهير.

و قيل: المراد برفعها رفع الحوائج فيها إلى اللّه. و قيل: المراد من رفعها بناؤها من قوله «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» (3).

قوله: [وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ] قيل: المراد قراءة القرآن و قيل: إنّه عامّ في كلّ ذكر أولا يتكلّم فيها بما لا ينبغي [يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ] أي يصلّي فيها بالبكرة و العشيّ قال ابن عبّاس: كلّ تسبيح في القرآن صلاة و قيل: الصلوات الخمس و منهم من حمله على صلاتي الصبح و العصر فكانتا واجبتين في الابتداء ثمّ زيد فيهما أو المراد تنزيه اللّه عمّا لا يليق به و وصفه بالصفات الّتي يستحقّها لذاته و أفعاله الّتي كلّها حكمة و صواب.

ثمّ بيّن سبحانه المسبّح [رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ] و لا تشغلهم [تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ] أي عن إقامة الصلاة حذف التاء و التاء عوض عن الواو في «إقوام» فلمّا أضافه صار المضاف إليه عوضا عن الهاء و روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه أنّهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا و انطلقوا إلى الصلاة و هم أعظم أجرا ممّن يتّجر و إنّما خصّ الرجال بالذكر لأنّ النساء لسن من أهل التجارة.

ص: 358


1- الأحزاب: 33.
2- هود: 72.
3- البقرة: 172.

قوله تعالى: [وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ] يريد الزكاة المفروضة أو إخلاص الطاعة للّه [يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ] إذ يوم القيامة تتقلّب فيه أحوال القلوب و الأبصار تنتقل من حال إلى حال فتلفحها النار ثمّ تنضجها ثمّ تحرقها. و قيل: تتقلّب فيه القلوب بين الطمع في النجاة و الخوف من الهلاك و تنقلب الأبصار يمنة و يسرة من أين كتبهم يؤتى و أين يؤخذ بهم أمن قبل اليمين أم من قبل اليسار و قيل: تتقلّب فيه القلوب ببلوغها الحناجر و الأبصار بالعمى بعد البصر و قيل: معناه تنتقل القلوب عن الشكّ إلى اليقين فمن كان شاكّا في دنياه أبصر في آخرته و من كان عالما ازداد بصيرة و علما فهو مثل قوله: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (1).

قوله: [لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ] أي يفعلون ذلك طلبا لمرضاة اللّه و لمجازاتهم بأحسن ما عملوا و لتفضّلهم عليهم بالزيادة على ما استحقّوه بأعمالهم من فضله و كرمه.

[وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ] و الثواب لا يكون إلّا بحساب و التفضّل يكون بغير حساب.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 39 الى 40]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

لمّا ذكر سبحانه حال المؤمن و إنّه لإيمانه في النور و كالنور و يكون بسببه متمسّكا بالعمل الصالح في الدنيا و في الآخرة فائزا بالنعيم المقيم أتبع في هذه الآية بأنّ الكافر يكون في الآخرة في أشدّ الخسران و في الدنيا في أعظم الظلمات فقال:

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ] الّتي يعملونها و يعتقدونها أنّها طاعات [كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ] كشعاع يتخيّل كالماء يجري على الأرض الواسعة المنبسطة يظنّه العطشان ماء [حَتَّى إِذا جاءَهُ] يشرب منه رأى أرضا لا ماء فيها و [لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً] ممّا قدّر كذلك الكافر يحسب ما قدّم من عمله نافعا له و ليس له عليه ثواب و الإلّ و السراب واحد و هو

ص: 359


1- ق: 22.

ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات سارب شبيه بالماء الجاري و ليس هو بشي ء فشبّه سبحانه عمل الكافر في القيامة به كما أنّه ليس بشي ء كذلك عمله ليس بشي ء.

أمّا قوله: [وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ] أي وجد عقاب اللّه الّذي توعّد به الكافر عند ذلك فتغيّر ما كان فيه من ظنّ النفع العظيم إلى تيقّن الضرر العظيم أو وجد زبانية اللّه عنده يأخذونه فيقبلون به إلى جهنّم فيسقونه الحميم و الغسّاق. و هم الّذين قال اللّه في حقّهم «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» (1) و «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» (2).

و قيل: إنّ الآية نزلت في عتبة بن ربيعة بن اميّة كان قد تعبّد و لبس المسوح و التمس الدين في الجاهليّة ثمّ كفر في الإسلام.

أمّا قوله: [وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ] لا يشغله حساب عن حساب فيحاسبهم في حالة واحدة قال أمير المؤمنين عليه السّلام: كما يرزقهم في حالة واحدة.

قوله: [أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ] هذا المثل الثاني؛ شبّه عقائد الكفّار و أعمالهم في الدنيا بالظلمات الواقعة في البحر اللجّيّ و هو البحر البعيد القعر و ذو اللجّة الّتي هي معظم الماء الغمر يكون قعره مظلما جدّا بسبب غمورة الماء. قوله: [يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ] فإذا ترادفت على غمور الماء الأمواج ازدادت الظلمة. قوله: [مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ] فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى.

و الحاصل أنّ الواقع في قعر هذا البحر اللجّيّ يكون في نهاية شدّة الظلمة فالكافر من جهله و حسرته كمن في هذه الظلمات لأنّه من عمله و قوله و اعتقاده متقلّب في ظلمات ثلاث قال ابيّ بن كعب: إنّ الكافر يتقلّب في خمس ظلمات: كلامه ظلمة و عمله ظلمة و مدخله ظلمة و مخرجه ظلمة و مصيره يوم القيامة إلى ظلمة و هي النار.

[إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها] و هذه مبالغة في الظلمة لأنّ العادة في اليد أنّها من أقرب أعضاء يراها الإنسان و من أبعد أعضاء لا يراها الإنسان فذكر سبحانه أنّ الظلمة بحيث إذا أراد الكافر أن يرى يده غير قريبة للرؤية أو لا يراها فهو نفي للرؤية و عن مقاربة

ص: 360


1- الغاشية: 3.
2- الكهف: 105.

الرؤية لأنّ دون هذه الظلمة لا يرى فيها و حكم «كاد» إذا لم يدخل عليها حرف نفي أن يكون نافية و إذا دخل دلّت على أن يكون الأمر دفع بعد بطء أو لا يقع.

قوله تعالى: [وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ] و الكافر ضدّ المؤمن في قوله «نُورٌ عَلى نُورٍ» و قوله: «يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ» و من لم يكن له في الدنيا نور الإيمان بعدم قبوله و سوء اختياره فما له مخلصا و نورا في الآخرة و لا يفوز بالسعادات الأبديّة.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 41 الى 46]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (45)

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

قوله تعالى: [أَ لَمْ] تعلم الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المراد جميع المكلّفين [أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ] و المراد من التسبيح التنزيه للّه عمّا لا يليق به أي ينزّه ذاته أهل السماوات و الأرض بألسنتهم و قيل: عنى به العقلاء و غير العقلاء و كنّي عن الجميع بلفظة من تغليبا للعقلاء على غيرهم [وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ] أي و يسبّح له الطير واقفات في الجوّ مصطفّات الأجنحة في الهواء و تسبيحها ما يرى عليها من آثار الحدوث لأنّ حركاتها و حدوثها دلالات على الخالق القادر المختار موصوفا بصفات الجلال منزّها عن النقائص و الزوال أو المراد أنّها تنطق بألسنتها بالتسبيح و ينطق و تتكلّم به كما أنّ من العقلاء أيضا من يسبّح بلسانه كالمؤمن و يسبّح بدلالة وجوده كالكافر و وقوف الطير في الهواء مع هذا الجرم الثقيل لما فيها من القبض و البسط من أعظم الدلائل.

ص: 361

[كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ] أي إنّ جميع ذلك قد علم اللّه تسبيحه و صلاته و دعاءه إلى توحيده و تنزيهه و قيل: إنّ الصلاة للإنسان و التسبيح لغيره و قيل:

الضمير في «علم» راجع إلى المصلّي و المسبّح أي كلّ منهم يعلم وقت تسبيحه و دعائه و يؤدّيه إلى وقته و القول الأوّل أقرب لأنّ الأشياء كلّها لا يعلم كيفيّة دلالتها على اللّه و إنّما يعلم اللّه تعالى ذلك؛ و روي عن أبي ثابت قال: كنت جالسا عند أبي جعفر عليه السّلام فقال: لي أ تدري ما تقول هذه العصافر عند طلوع الشمس و بعد طلوعها؟ قلت: لا. قال:

فإنّهنّ يقدّسن ربّها و يسألنه قوت يومهنّ.

و بالجملة إنّ جميع الأشياء يسبّح ربّها إمّا بالنطق أو بعضها يسبّح بالدلالة كما أنّا نشاهد بعض الحيوانات ملهمات أمورا في تحصيل رزقهنّ بأعمالهم لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء فإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يلهمها دعاءه و تسبيحه و معرفته؛ تأمّل في العنكبوت كيف يأتي بالحبل اللطيفة في اصطياد الذباب، و قد حكي عن الفار امور عجيبة و كذلك النحل.

و قد نقل عن بعض الصيّادين في كتاب طبائع الحيوان أنّ الحبارى تقاتل الأفعى فتنهشه الأفعى فتنهزم من الأفعى إلى بقلة تتناول منها ثمّ تعود و تقتل الأفعى و تأكله و قد نقل شيخ أنّه كان قاعدا في كنّ غار و كانت تلك البقلة قريبة من الغار من مكامن الحبارى فلمّا اشتغل الحبارى بالأفعى قلع الشيخ البقلة فعادت الحبارى إلى منبت البقلة لكي تأكلها و تتداوى بها ففقدته و أخذت تدور حول منبتها دورانا متتابعا حتّى خرّت ميّتة فعلم الشيخ أنّها تتعالج بأكلها من اللسعة و تلك البقلة هي الجرجر البرّيّ.

و كذلك القنافذ تحسّ بالعواصف من الشمال و الجنوب قبل الهبوب فتغيّر المدخل إلى جحرها و كان بالقسطنطنيّة رجل قد أثرى و تموّل بسبب أنّه كان ينذر بالرياح قبل هبوبها و ينتفع من الناس بهذا الإنذار و كان السبب فيه قنفذا في داره يفعل الصنيع المذكور فيستدلّ الرجل به.

و كذلك اللقالق إذا جرحت بعضها بعضا داوت جراحها بالصعتر الجبليّ و كذلك ابن عرس يستظهر في قتال الحيّة بأكل السداب فإنّ النكهة السدابيّة ممّا تنفر منها

ص: 362

الأفاعيّ و تعجز منها و كذلك الغرانيق تصعد في الجوّ جدّا عند الطيران فإن حجب بعضها عن بعض ضباب أو سحاب أحدثت عن أجنحتها حفيفا مسموعا يلزم به بعضها بعضا و إذا نامت و انتصرت على جبل فإنّها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلّا القائد فإنّه ينام مكشوف الرأس يسرع إليه انتباهه فإذا سمع صوتا صاح. و حال النمل معلوم في الذهاب إلى مواضعها على خطّ مستقيم.

و بالجملة فكلّ ما عداه سبحانه من الفلك و الملك شواهد قدرته و ألوهيّته و ناطق بوحدانيّته و هو سبحانه كما قال سيد الشهداء عليه السّلام في دعاء عرفة: متى غبت حتّى تحتاج إلى شهود.

قوله تعالى: [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ] أي عالم بأفعالهم و الفعل يعمّ الجزئيّ و الكلّيّ و هذا الكلام ردّ على من يزعم أنّه سبحانه غير عالم بالجزئيّات.

[وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ] و كيف لغيره و لا يقدر على خلقها غيره و لا يصحّ إلّا له سبحانه [وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] المرجع يوم القيامة.

ثمّ قال: [أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً] ألم تر أنّه يسوق بأمره السحاب سوقا رفيقا إلى حيث يريد [ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ] و يضمّ بعضه إلى بعض فيجعل القطع المتفرّقة منه قطعة واحدة [ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً] متراكما متراكبا بعضه فوق بعض [فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ] و ترى المطر يخرج من خلال السحاب و من مخارج القطر من السحاب، و السحاب واحد في اللفظ و معناه الجمع و الركم جمع الشي ء فوق الشي ء و خلال جمع خلل مثل جبال جمع جبل أي يجري المطر من مخارق السحاب و شقوقه و كلّ ذلك من التأليف و التراكم و سوق السحاب و تحمّل السحاب الماء الكثير من عجائب قدرته و خلقه.

و قال أهل الطبائع: إنّ تكوّن السحاب و المطر و الثلج و البرد و الظلّ و الصقيع يكون من تكاثف البخار في الأكثر و الأقلّ من تكاثف الهواء فقالوا:

البخار الساعد إن كان قليلا و كان في الهواء من الحرارة ما يحلّل ذلك البخار فتلك الأبخرة تنحلّ و تنقلب هواء و إن كان البخار كثيرا و لم يكن في الهواء من الحرارة

ص: 363

ما يحلّل ذلك البخار فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ فإن بلغت فإمّا أن يكون البرد هناك قويّا أو لا يكون فإن لم يكن البرد قويّا تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد و اجتمع و تقاطر فالبخار المجتمع هو السحاب و المتقاطر هو المطر و الديمة و الوابل إنّما يكون من أمثال هذه الغيوم و إمّا أن يكون البرد شديدا فلا يخلو إمّا أن يصل البرد إلى الأجزاء البخاريّة قبل اجتماعها حبّات كبارا أو بعد صيرورتها كذلك فإن كان وصل البرد قبل اجتماعها نزل ثلجا و إن كان وصل البرد بعد اجتماعها نزل بردا هذا كلّه إذا بلغت الأبخرة في الصعود إلى الطبقة الباردة.

و أمّا إذا لم تبلغ فهي إمّا أن تكون كثيرة أو تكون قليلة فإن كانت كثيرة فهي قد تنعقد سحابا ماطرا و قد لا تنعقد أمّا الأوّل و هو الماطر فذاك لأحد أسباب عديدة:

أحدها: إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة أو يتّفق أن يكون الرياح متقابلة متصادمة تمنع صعود الأبخرة حينئذ و ضاغطة إيّاها إلى الاجتماع بسبب وقوع جبال قدّام الريح أو أن يعرض بها شدّة برد الهواء القريب من الأرض كما أنّه يشاهد بعض الأحيان البخار يصعد في بعض الجبال صعودا يسيرا حتّى كأنّه مكبّ موضوع على وهدة و يكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة و الّذين يكونون تحت الغمامة يمطرون و الّذين فوقها يكونون في الشمس و أمّا إذا كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة فإذا ضربها برد الليل كثفها و عقدها ماء محسوسا فنزل نزولا متفرّقا لا يحسّ به إلّا عند الاجتماع إلى مقدار معتدّ به فإن لم يجمد كان ظلّا و إن جمد كان معيقا و نسبة الصعيق إلى الطلّ بسنّة الثلج إلى المطر انتهى كلام الطباعيين.

و الجواب أنّا لمّا سلّمنا حدوث الأجسام و دلّلنا أنّ إحداثها و إيجادها بحكم القادر المختار لم يمكننا القطع بما ذكروه لاحتمال أنّه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الّذي ذكروه وهب أنّ الأمر كما ذكرتموه و لكنّ الأجسام بالاتّفاق ممكنة في ذواتها فلا بدّ لها من مؤثّر ثمّ إنّها متماثلة فاختصاص كلّ واحد منها بصفة.

معيّنة من الصعود و النزول و اللطافة و الكثافة و الحرارة و البرودة لا بدّ لها من جاعل

ص: 364

و مخصّص فإذا كان هو سبحانه خالقا لتلك الطبائع و تلك الطبائع مؤثّرة في هذه الأحوال فخالق السبب خالق المسبّب فكان سبحانه هو الّذي يزجي السحاب لأنّه هو الّذي خلق تلك الطبائع المحرّكة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جوّ الهواء فثبت على جميع التقادير أنّ وجه الاستدلال بهذه الأشياء على الخالق القادر ظاهر بيّن.

قوله تعالى: [وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ] أي و ينزّل من جبال في السماء تلك الجبال من البرد خلقها اللّه تعالى كذلك ثمّ ينزل منها ما شاء و هذا القول عليه أكثر المفسّرين و قيل: إنّ المراد من السماء الغيم المرتفع على رءوس الناس سمّي بذلك لسموّه و ارتفاعه و إنّه تعالى أنزل من هذا الغيم الّذي هو سماء البرد و أراد بقوله «مِنْ جِبالٍ» السحاب العظام لأنّها إذا عظمت أشبهت الجبال كما يقال: فلان يملك جبالا من مال أوله بيتان من التبر، و وصفت بذلك توسّعا.

و قال بعض المفسّرين: إنّما سمّى اللّه ذلك الغيم جبالا لأنّه سبحانه خلقها من البرد و كلّ جسم شديد متحجّر فهو من الجبال فطبعه و خلقته كذلك و منه قوله «وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ» (1) و منه فلان مجبول على كذا أي مطبوع.

قال أبو عليّ الفارسيّ قوله تعالى: «مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» فمن الاولى لابتداء الغاية لأنّ ابتداء الإنزال من السماء و الثانية للتبعيض لأنّ ما ينزله بعض تلك الجبال الّتي في السماء و الثالثة للتبيين لأنّ جنس تلك الجبال جنس البرد و يمكن أن يكون البرد يجتمع في السحاب كالجبال ثمّ ينزل منها.

[فَيُصِيبُ بِهِ] أي بالبرد [مَنْ يَشاءُ] فيهلك زرعه و ماله [وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ] و يدفع ضرره عمّن يشاء و يعلم المصلحة بدفعه و ضرره فيكون إصابته نقمة و دفعه نعمة و في الكافي عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه سبحانه جعل السحاب غرابيل للمطر هي تذيب البرد لكي لا يضرّ شيئا يصيبه و الّذي ترون فيه من البرد و الصواعق نقمة من اللّه تعالى يصيب بها من يشاء من عباده و فيه عنه عليه السّلام: البرد لا يؤكل لأنّ اللّه يقول: يصيب به من يشاء.

ص: 365


1- الشعراء: 184.

و في حديث يذكر فيه الرياح قال: و بها يتألّف المفترق و بها يفترق الغمام المطبق حتّى ينبسط في السماء كيف يشاء و يدبّره فيجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله بقدر معلوم لمعاش مفهوم و أرزاق مقسومة و آجال مكتوبة و في الفقيه عن الباقر عليه السّلام في حديث يذكر فيه أنواع الرياح قال: و منها رياح تحبس السحاب بين السماء و الأرض و رياح تعصر السحاب فتمطره بإذن اللّه و رياح تفرّق السحاب.

قوله: [يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ] أي يقرب ضوء برق السحاب من أن يذهب بالبصر و يخطفه بشدّة لمعانه نوره كما قال: «يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» (1) و قرئ برقة جمع برقة و «سنا» قرئ ممدودا و مقصورا أي يقرب ضوؤه العالي المرتفع يذهب بالأبصار و التاء زائدة و وجه الاستدلال بقوله «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ» أنّ البرق الّذي يكون صفته ذلك لا بدّ و أن يكون نارا عظيمة خالصة كما أنّه قد شوهد مرارا أنّ البرق تحرق الحديد الصلب و الشجرة المثمرة و النار ضدّ الماء فظهوره من البرد حصل ظهور الضدّ من الضدّ و لا يكون ذلك إلّا لقوّة قاهرة من القادر الحكيم.

قوله: [يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ] و يصرفهما في اختلافهما و تعاقبهما و إدخال أحدهما في الآخر [إِنَّ فِي ذلِكَ] التقليب [لَعِبْرَةً] و دلالة [لِأُولِي الْأَبْصارِ] أي لذوي العقول و البصائر.

[وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ] لمّا استدلّ سبحانه على التوحيد من آثار العلويّة استدلّ في هذه الآية من آثار الحيوانيّة فقال: [وَ اللَّهُ خَلَقَ] و هاهنا سؤالات:

منها أنّه لم قال اللّه: «وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» مع أنّ كثيرا من الحيوانات غير مخلوقة من الماء أمّا الملائكة فهم من أعظم الحيوانات عددا و هم مخلوقون من نور و أمّا الجنّ فهم مخلوقون من النار و خلق اللّه آدم من تراب و خلق عيسى من الريح لقوله «فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» (2) و أيضا إنّ كثيرا من الحيوان متولّد لا من النطفة.

و أجابوا بأجوبة و الأحسن ما قاله القفّال المروزيّ و هو أنّ قوله «من ماء» صلة

ص: 366


1- البقرة: 20.
2- الأنبياء: 91.

«كلّ دابّة» و ليس هو من صلة «خلق» و المعنى أنّ كلّ دابّة متولّدة من الماء فهي مخلوقة للّه.

و الجواب الثاني أنّ أصل جميع المخلوقات الماء على ما يروى: أوّل ما خلق اللّه جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثمّ من ذلك الماء خلق النار و منها الجنّ و الهواء و النور و منه خلق الملائكة و لمّا كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة و كان الأصل الأوّل هو الماء لا جرم ذكره على المذكور.

و الجواب الثالث أنّ المراد من الدابّة الّتي تدبّ في الأرض و مسكنهم هناك فيخرج عنه الملائكة و الجنّ و لمّا كان الغالب جدّا من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء أمّا لأنّها من النطفة متولّدة و إمّا لأنّها لا تعيش إلّا بالماء لا جرم أطلق لفظ الكلّ تنزيلا للغالب منزلة الكلّ توسّعا.

قوله: [فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ] كالحيّة و الدود و الحوت [وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ] كالإنس و الدجاج و الطير [وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ] كالأنعام و الوحوش و السباع و لم يذكر ما يمشي على أكثر لأنّ العبرة بالأربع. قال الحكماء: كلّ ماله قوائم كثيرة فإنّ اعتماده إذا سعى على أربعة قوائم فقط و لو أنّ له أربعة و أربعون رجلا كالّذي يسمّى دخّال الاذن و كالعناكب على أنّ الأقلّ النادر ملحق بالعدم فلا يلزم ذكره.

قوله [يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] من أصنافها تشترك في أعضاء و تتباين في أعضاء كالإنسان و الفرس تشترك الفرس مع الإنسان في اللحم و العصب و العظم مثلا و تتباين منه في الوضع من الذئب و السلحفاة مثلا مع العصفور أو الاختلاف في غلبة عنصر على عنصر فبعضها لجيّة و بعضها شطيّة و بعضها طينيّة و بعضها صخريّة و أيضا منها ما يعتمد في غوصه على رأسه و في السباحة على رجليه كالضفدع و منها ما يمشي في قعر الماء كالسرطان.

و أيضا حيوانات البرّيّة متغايرة أحوالها منها يتنفّس من طريق واحد كالفم و الخيشوم و منها ما لا يتنفّس كذلك بل على نحو آخر من مسامّه كالنحل و الزنبور.

ص: 367

و أيضا من الحيوانات يختلف عاداتها فبعضها تتعايش معا كالإنسان و في الطيور كالكراكي و الغربان و بعضها يؤثر التفرّد كالطيور الجارحة و العقاب و أمثالها و بعض الحيوان هو الّذي لا يمكنه أن يعيش بتفرّد و أسباب معيشته تلتئم بالمشاركة المدنيّة كالنحل و النمل و الغرانيق.

و كذلك الاختلاف واقع في الحيوان من حيث الأكل فمنهم آكل كلّ لذيذ مثل الإنسان و منها آكل لحم كالجوارح و منها لا قط حبّ و منها آكل عشب و منها ما يكون غذاؤه زهر كالنحل.

و أيضا فللحيوانات تقسيم آخر فمنها ما هو انسيّ بالطبع كالإنسان و الهرّة و الفرس و منها ما لا يأنس كالنمر و الأسد.

و كذلك فبعضها هادئ الطبع قليل الغضب مثل البقرة و بعضها شديد الجهل حادّ الغضب كالخنزير البرّيّ و بعضها حليم خدوع كالبعير و بعضها قويّ مغتال كالذئب و بعضها غضوب سفيه إلّا أنّه ملق متردّد كالكلب و بعضها حسود متباه كالطاووس.

و التقسيم الآخر: أيضا من الحيوان ما أن تلد انثاه حين ما تلد حيوانا و بعضها ما تناسله حين ما تلد انثاه بيضا و العقول قاصرة عن الإحاطة بها على سبيل الكمال.

فحينئذ وجه الاستدلال بها على الصانع القادر المختار ظاهر لأنّه لو كان الأمر بتركيب الطبائع الأربع فذلك بالنسبة إلى الكلّ على السويّة فاختصاص كلّ واحد من هذه الحيوانات بأعضائها و قواها و كيفيّة أبدانها و اختلاف خلقها و خلقها لا بدّ و أن يكون بتدبير مدبّر قاهر حكيم إنّ اللّه على هذه الأمور قادر دون غيره مع اتّفاق أصلها ابتداء أنّ أصلها من الماء.

قوله تعالى: [لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ] و دلالات واضحات [وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ] و هو قابل للإيمان و ليس به جحود [إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ] و هو طريق الجنّة.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 47 الى 49]

وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)

ص: 368

لمّا ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذمّ المنافق و الّذي يعترف بلسانه و لكن لا يقبل بقلبه.

قال مقاتل نزلت هذه الآية في حقّ بشر المنافق و كان قد خاصم يهوديّا في أرض و كان اليهوديّ يجرّه إلى رسول اللّه ليحكم بينهما و جعل بشر يجرّه إلى كعب بن الأشرف و يقول: إنّ محمّدا يحيف علينا.

و قال الضحّاك: نزلت الآية في المغيرة بن وائل كان بينه و بين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أرض فتقاسما فوقع إلى عليّ من الأرض ما لا يصيبه الماء إلّا بمشقّة فقال المغيرة:

بعني أرضك فباعها إيّاه و تقابضا فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء. فقال لعليّ عليه السّلام: اقبض أرضك فإنّما اشتريتها إن رضيتها و لم أرضها فلا ينالها الماء فقال عليّ:

عليه السّلام اشتريتها و رضيتها و قبضتها و عرفت حالها لا أقبلها منك و دعاه أن يخاصمه إلى رسول اللّه فقال المغيرة: أمّا محمّد فلست آتيه و لا أحاكم إليه فإنّه يبغضني و إنّي أخاف أن يحيف عليّ فنزلت الآية.

المعنى: و يقولون بلسانهم: صدّقنا بتوحيد اللّه و بإطاعة الرسول ثمّ يعرض عن طاعتهما طائفة منهم بعد قولهم: آمنّا و ما أولئك الّذين يدّعون الإيمان ثمّ يعرضون عن حكم اللّه و رسوله بالمؤمنين.

و في الآية دلالة على أنّ الإيمان ليس بمجرّد القول إذ لو كان كذلك لما سمع النفي بعد الإثبات.

قوله: [وَ إِذا دُعُوا إِلَى] كتاب [اللَّهِ] و شريعة نبيّه [لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ] أي إذا عرفوا أنّ الحكم لهم لا عليهم عدلوا عن الإعراض بل سارعوا إلى الحكم و أذعنوا ببذل الرضا. و الحاصل أنّه ليس لهم اتّباع الحقّ و إنّما يريدون النفع المعجّل و ذلك هو النفاق.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 50 الى 52]

أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)

ص: 369

المعنى: أي هل [فِي قُلُوبِهِمْ] شكّ من نبوّتك و نفاق و هو استفهام يراد به الخبر لأنّه أشدّ في التوبيخ و أثبت للتقرير كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطاياو أندى العالمين بطون راح

قوله: [أَمِ ارْتابُوا] في عدلك و رأوا منك ما رابهم لأجله أمرك [أَمْ يَخافُونَ أَنْ] يجور [اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ] و يميل رسوله في الحكم و يظلمهم لأنّه لا وجه في الامتناع عن المجي ء إلّا أحد هذه الأوجه الثلاثة.

فلو قيل: إنّهم لو خافوا أن يحيف اللّه عليهم فقد ارتابوا في الدين و إذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض فالكلّ واحد فأيّ فائدة في التعديد و التقسيم؟

فالجواب أنّ قوله «أَ فِي قُلُوبِهِمْ» إشارة إلى مرض القلب و هو النفاق و قوله: «أَمِ ارْتابُوا» بيان إلى أنّه حدث هذا الشك بعد تقرير الإسلام في القلب و قوله: «أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» إشارة إلى أنّهم بلغوا من حيث الدنيا إلى حيث امتنعوا عن الدين و قبوله بسبب الدنيا فالذمّ يتعلّق بكلّ من هذه الثلاثة و كلّ واحد منها كفر.

فبيّن سبحانه بقوله: [بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] بطلان ما هم عليه لأنّ الظلم يتناول كلّ معصية و أعظمه الشرك كما قال: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (1) و بما أن نسبوا الحيف و الظلم في الحكم إلى الرسول أبطل سبحانه قولهم و نسب الظلم إليهم.

قوله تعالى: [إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا] أي المؤمن من كان إذا يدعى لحكم اللّه و الرسول يمتثل و يقول:

سمعت و أطعت و إن كان ذلك الحكم فيما يكرهه و يضرّه [وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] و روي عن الباقر عليه السّلام أنّ المعنيّ بالآية عليّ بن أبي طالب.

قوله تعالى: [وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ] فيما أمره و نهاه عنه [وَ يَخْشَ اللَّهَ] عقابه [وَ يَتَّقْهِ] و يخاف عذابه باجتناب معاصيه و بامتثال أو امره و قرئ و «يتّقه» بسكون القاف

ص: 370


1- لقمان: 13.

و كسر الهاء [فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ] بالثواب و قيل: المعنى و يخشى اللّه في ذنوبه الّتي عملها و يتّقه فيما بعد.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 53 الى 55]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)

قوله: [وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ] المعنى: لمّا بيّن اللّه في الآية السابقة كراهة المنافقين عن حكم الرسول أتوا إلى الرسول فقالوا: و اللّه لئن أمرتنا أن نخرج من ديارنا و أموالنا و نسائنا لخرجنا و إن أمرتنا بالجهاد جاهدنا و أجهدوا في اليمين فأمر اللّه نبيّه بقوله:

[قُلْ لا تُقْسِمُوا] و لو كان يمينهم على حسب الواقع و الصدق لم يجز النهي عنه لأنّ من حلف على القيام بالبرّ و الواجب لا يجوز أن ينهى عنه و من نوى الغدر لا الوفاء فقسمه لا يكون إلّا قبيحا.

قوله: [طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ] إذا كانت مرفوعة فهي خبر لمبتدء محذوف أي المطلوب طاعة معروفة لا أيمان كاذبة أو مبتدأ خبره محذوف أي طاعة معروفة أمثل من يمينكم أو التقدير: عليكم بطاعة معروفة و على النصب أي أطيعوا طاعة معروفة صحّته.

[إنّ اللّه خبير بأعمالكم] من طاعتكم بالقول و مخالفتكم بالفعل.

ثمّ أكّد أمر الطاعة فقال: [قُلْ] لهم: [أَطِيعُوا اللَّهَ] فيما أمركم به [وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ] فيما آتاكم به و احذروا مخالفته [فَإِنْ تَوَلَّوْا] أصله تتولّوا عن طاعة اللّه [فَإِنَّما عَلَيْهِ] أي على الرسول [ما حُمِّلَ] من أداء الرسالة و كلّف [وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ] من المتابعة [وَ إِنْ تُطِيعُوهُ] أي الرسول [تَهْتَدُوا] إلى الرشد و الصلاح و الجنّة.

[وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ] و بيان الشريعة و ليس عليه الاهتداء و إنّما ذلك عليكم و نفعه راجع إليكم و المبيّن البيّن الواضح و الموضح لما بكم الحاجة إليه. في

ص: 371

الكافي عن الصادق عليه السّلام في خطبة في وصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و أدّى ما حمّل من أثقال النبوّة و عن الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا معاشر قرّاء القرآن اتّقوا اللّه عزّ و جلّ فيما حمّلكم من كتابه فإنّي مسؤول و إنّكم مسؤولون: إنّي مسؤول عن تبليغ الرسالة و أمّا أنتم فتسألون عمّا حمّلتم من كتاب اللّه و سنّتي.

قوله: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ] ليجعلنّهم خلفاء بعد نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] يعني وصاة الأنبياء [وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ] و هو الإسلام [وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ] من الأعداء [أَمْناً] منهم [يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] و لا يخافون غيري و لا يراءون بعبادتي أحدا و المثل بقوله: «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» مثل بني إسرائيل إذ أهلك اللّه الجبابرة بمصر و الشام فأورثهم أرضهم و ديارهم و أموالهم.

و عن ابيّ بن كعب قال: لمّا قدم رسول اللّه و أصحابه المدينة و آواهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة و كان الأنصار لا يبيتون إلّا مع السلاح و لا يصبحون إلّا في السلاح و قالوا: أ ترون أنّا نعيش حتّى نبيت آمنين مطمئنّين لا نخاف إلّا اللّه فنزلت هذه الآية.

و المراد بالأرض في قوله «فِي الْأَرْضِ» قيل: إنّه أراد بالأرض أرض مكّة لأنّ المهاجرين كانوا يسألون ذلك و قد فعل اللّه لهم و مكّنهم من إظهار دينه بعد أن كانوا يخافون من أذى المشركين و فعل بمن كان بعدهم من هذه الامّة و أبدلهم بالخوف أمنا و بسط لهم في الأرض و أنجز موعدته لهم.

و قيل: معنى الآية في قوله تعالى «وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ» أي بعد خوفهم في الدنيا من اللّه أمنا في الآخرة و يعضده ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال حاكيا عن اللّه سبحانه:

إنّي لا أجمع بين خوفين و لا بين أمنين إن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة.

تحقيق: و هو أنّ الآية تدلّ على أنّه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافا لهشام بن الحكم فإنّه قال: لا يعلمها قبل وقوعها و وجه الاستدلال به أنّه سبحانه أخبر عن وقوع شي ء في المستقبل إخبارا على التفصيل و قد وقع المخبر مطابقا للخبر و مثل هذا

ص: 372

لا يصحّ إلّا مع العلم.

و كذلك تدلّ الآية على أنّه حيّ قادر لأنّه قال: ليستخلفنّهم إلخ و قد فعل كلّ ذلك و لو لا القدرة لما صدر هذه الأمور.

و قالت المعتزلة: إنّ الآية تدلّ على أنّ فعل اللّه معلّل بالغرض لأنّ المعنى في الآية:

لكي يعبدونني و يريد من الكلّ العبادة لأنّ من فعل فعلا لغرض فلا بدّ و أن يكون مريدا لذلك الغرض.

و أيضا دلّت الآية على صحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه أخبر بالغيب و عن وقوع أمر سيقع و هو دليل صدقه و إعجازه.

فإن قيل: إنّ الآية فيها دلالة على استخلاف الأئمّة الأربعة لأنّه سبحانه قال:

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» و المراد من الحاضرين في زمان محمّد و هذا الوعد بعد الرسول لهولاء الخلفاء لأنّه لا نبيّ بعده فالمراد بالاستخلاف الإمامة.

فالجواب أنّ الآية لو كانت كما زعموها فيلزم حصول الخلافة لكلّ من آمن و عمل صالحا لأنّ ظاهر الآية يشمل العموم و غير مخصوص بهولاء الأربعة فثبت أنّ المراد غير ذلك و ليست هذه الآية حجّة على صحّة خلافتهم و إنّما صحّة خلافة عليّ عليه السّلام بآيات عديدة و نصوص من الرسول في مواضع عديدة انتهى.

و قوله: [وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ] أي و من ارتدّ و كفر هذه النعمة و جحدها من بعد ما أنعمنا عليه [فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ] ذكر الفسق بعد الكفر مع أنّ الكفر أعظم من الفسق لأنّ الفسق في كلّ شي ء هو الخروج إلى أكثره و المعنى أولئك هم الخارجون إلى أقبح وجوه الكفر.

و المرويّ عن أهل البيت عليه السّلام أنّها في المهديّ من آل محمّد عليه السّلام و روى العيّاشيّ بإسناده عن عليّ بن الحسين عليه السّلام أنّه قرأ الآية قال: هم و اللّه شيعتنا أهل البيت و اللّه يفعل اللّه ذلك بهم على يد رجل منّا و هو مهديّ هذه الامّة و هو الّذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يتولّى رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا. و روي ذلك عن أبي جعفر

ص: 373

و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

فعلى هذا يكون المراد بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات النبيّ و أهل بيته المخصوصين و تضمّنت الآية البشارة بالتمكّن و الاستخلاف لهم و ارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهديّ و يكون منهم فحينئذ المراد بقوله سبحانه: «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» هو أن جعل الصالح للخلافة خليفة لا من لا يصلح لها مثل آدم عليه السّلام و داود و سليمان و لو لم يكونوا صالحين للخلافة لما سمّاهم خليفة مثل قوله: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (1) و قوله «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ» (2) و قوله: «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» (3) و المراد بالحكمة النبوّة و على هذا إجماع العترة الطاهرة أي الأئمّة الاثنا عشر حجّة؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.

و هاهنا تحقيق آخر و هو أنّ التمكين في الأرض على الإطلاق لم يتّفق فيما مضى فهو منتظر لا محالة لأنّ اللّه لا يخلف وعده. و في الإكمال عن الصادق في قصّة نوح عليه السّلام و ذكر انتظار المؤمنين من قومه الفرج حتّى أراهم اللّه الاستخلاف و التمكين قال عليه السّلام:

و كذلك القائم عليه السّلام فإنّه يمتدّ أيّام غيبته ليصرح الحق عن محضه و يصفو الإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة إذا أحسّوا بالاستخلاف و الأمر المنتشر في عهد القائم، قال الراوي: فقلت: يا ابن رسول اللّه فإنّ هؤلاء يزعمون أنّ هذه الآية نزلت في حقّ من مضى من الخلفاء الأربعة قال: لا متى كان الّدين الّذي ارتضاه اللّه و رسوله متمكّنا بانتشار الأمن في الامّة و ذهاب الخوف عن قلوبها و ارتفاع الشكّ من صدورها في عهد واحد من هؤلاء حتّى في عهد عليّ عليه السّلام و ارتداد المسلمين و الفتن الّتي كانت تثور في أيّامه و الحروب الّتي كانت تنشب بين الكفّار و بينهم. و روى المقداد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: لا يبقى على الأرض بيت مدر و لا وبر إلّا أدخله اللّه كلمة الإسلام بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل إمّا أن يعزّهم اللّه فيجعلهم من أهلها و إمّا أن يذلّهم فيدينون بها.

ص: 374


1- البقرة: 30.
2- ص: 26.
3- النساء: 53.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 56 الى 57]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

ثمّ أمر سبحانه بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و إطاعة أوامر رسوله لترحموا جزاء على ذلك و تثابوا بالنعم الجزيلة ثمّ قال: يا محمّد و أيّها السامع لا تحسبوا أنّ الّذين كفروا سابقين فائتين في الأرض يقال: طلبته فأعجزني أي سبقني و ما قدرت عليه أي لا تظنّ أنّ الكافر يفوتني.

و مستقرّهم [وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ] أي بئس المستقرّ و إنّما وصفها بذلك و إن كانت حكمة و صوابا من فعل اللّه لما ينال الصائر إليها من الشدائد و الآلام.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 58 الى 59]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)

المعنى: لمّا تقدّم أحكام النساء و الرجال في الآيات السابقة من السورة استثنى سبحانه أوقاتا من الدخول قبل الاستيذان فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مروا عبيدكم و إماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول في خلواتكم عن ابن عبّاس و في أخبارنا: أراد العبيد خاصّة، عن ابن عمر و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام و في الكافي عن الصادق عليه السّلام هي خاصّة للرجال دون النساء قيل: فالنساء يستأذنّ في هذه الثلاثة ساعات؟ قال: لا و لكن يدخلن و يخرجن و في رواية اخرى: هم المملوكون من الرجال و النساء و الصبيان.

و أمّا أهل الجماعة قال القاضي: قوله «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» و إن

ص: 375

كان ظاهره الرجال فالمراد به الرجال و النساء.

قال الرازيّ: ظاهر قوله: «الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» يدخل فيه البالغون و الصغار و حكي عن ابن عبّاس أنّ المراد الصغار و احتجّوا بأنّ الكبير من المماليك ليس له أن ينظر إلّا إلى ما يجوز للحرّ أن ينظر إليه. قال ابن المسيّب: لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى قرطها و شعرها و شي ء من محاسنها.

و قال آخرون: بل البالغ من المماليك له أن ينظر إلى شعر مالكه و ما شاكله قالوا: و ظاهر الآية يدلّ على اختصاص عبيد المؤمنين و الأطفال من الأحرار بإباحة ما حظره اللّه من قبل على جماعة المؤمنين بقوله: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ» فإنّه أباح لهم إلّا في الأوقات الثلاثة.

و بالجملة قال بعضهم: نزلت هذه الآية في أسماء بنت أبي مرثد قالت: إنّا لندخل على الرجل و المرأة و لعلّهما يكونان في لحاف واحد و قيل: دخل عليهما غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فآتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّ خدمنا و غلماننا يدخلون علينا في وقت نكرهها فنزلت الآية.

قال ابن عمرو مجاهد: قوله «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ» عنى به الذكور دون الإناث لأنّ قوله تعالى: «الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» صيغة الذكور و هذا القول مطابق لما ورد عن الصادق و الباقر عليهما السّلام و هو الصحيح.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ] أي الّذين لم يبلغوا من أحراركم و أراد الصبيّ الّذي يميّز بين العورة و غيرها فحينئذ قال الجبّائيّ: الاستيذان واجب على كلّ بالغ و كلّ حالة و على الأطفال في هذه الأوقات الثلاثة بظاهر الآية ثلاث مرّات في ثلاث أوقات من ساعات الليل و النهار.

ثمّ فسّرها سبحانه بقوله تعالى: [مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ] و ذلك أنّ الإنسان ربّما يبيت عريانا أو على حال لا يحبّ أن يراه غيره في تلك الحالة و الوقت الثاني و [حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ] يريد عند إلقائها للقائلة و الوقت الثالث [وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ] الآخرة حين يأوي الرجل إلى امرأته و يخلو بها و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: منكم

ص: 376

أي من أنفسكم قال: عليكم الاستيذان من قد بلغ في هذه الساعات الثلاثة لأنّها أوقات التجرّد عن الثياب و أوقات الخلوة و الالتحاف و طرح الثياب.

قوله: [ثَلاثُ عَوْراتٍ] المعنى هنّ أي الأوقات ثلاث عورات جمع عورة و القاعدة أنّ ما كان على فعلة من الأسماء تحريك العين في الجمع إلّا أنّ العرب كرهوا تحريك العين فيما كان عينه واوا أو ياء لما كان يلزم من الانقلاب إلى الألف و لذلك أسكنوا.

و إنّما سمّيت هذه الأوقات عورات لأنّ الإنسان في هذه الأوقات الثلاثة غالبا يضع ثيابه و جلبابه فتبدو عورته قال بعض: كان أناس من الصحابة يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الأوقات ليغتسلوا (1) ثمّ يخرجون إلى الصلاة فأمرهم اللّه أن يأمروا غلمانهم و المملوكين أن يستأذنوا في هذه الساعات المخصوصة.

قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ] أي المؤمنين الأحرار [وَ لا عَلَيْهِمْ] يعني الخدم و الغلمان [جُناحٌ بَعْدَهُنَ] أي حرج في أن لا يستأذنوا في غير هذه الأوقات الثلاثة ثمّ بيّن العلّة بقوله تعالى: [طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ] أي هم خدمكم فلا يجدون بدّا من دخولهم عليكم في غير هذه الأوقات و يتعذّر عليهم الاستيذان في كلّ وقت لأنّهم أهل الخدمة ليلا و نهارا و لا بدّ من طواف المماليك على الموالي.

[بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ] فيطوف بعضكم و هم المماليك على بعض و هم الموالي و الطوّاف الّذي يكثر الدخول و الخروج و التردّد و رفع بعضكم على الابتداء أي بعضكم طائف على بعض و إنّما حذف لأنّ طوّافون يدلّ عليه و في الكافي عن الصادق عليه السّلام و يدخل مملوككم و غلمانكم من بعد هذه الأوقات الثلاثة بغير إذن إن شاء.

قوله: [كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] أي مثل ما بيّن لكم ما تعبّدكم به أيضا يبيّن اللّه في هذه الآيات الأحكام و اللّه عليم بمصالحكم حكيم فيما يفعله.

قوله تعالى: [وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ] المعنى أنّ الأحرار [فَلْيَسْتَأْذِنُوا]ء.

ص: 377


1- و عليه فلا وجه للوقت الثالث فانه بعد صلاة العشاء.

في جميع الأوقات إذا كبروا و بلغوا حدّ الاحتلام [كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] من الأحرار الرجال الكبار الّذين أمروا بالاستيذان على كلّ حال في الدخول عليكم و حاصل المعنى أنّ البالغ يستأذن في كلّ الأحوال و الأوقات و أمّا الطفل و العبد يستأذنان في الأوقات الثلاثة قال سعيد بن المسيّب: ليستأذن الرجل على امّه فإنّما نزلت هذه الآية في ذلك [كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] مرّ تفسيره.

و حاصل الحكم أنّه أوجب على من بلغ الحلم الجري على سنّة من قبلهم من المستأذنين في سائر الأوقات و ألحقهم بمن دخل تحت قوله: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا و تسلّموا على أهلها.

قوله تعالى: [سورة النور (24): آية 60]

وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

قال ابن السكّيت: امرأة قاعد إذا قعدت عن الحيض و قال المفسّرون: القواعد هنّ اللواتي قعدن عن الحيض و الولد من الكبر و لا مطمع لهنّ في الأزواج و الأولى أن لا يعتبر قعودهنّ عن الحيض لأنّ ذلك ينقطع و الرغبة فيهنّ باقية فالمراد قعودهنّ عن حال الزوج.

[فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ] و بأس [أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ] يعني الجلباب فوق الخمار و الرداء و قيل: ما فوق الخمار من المقانع و غيرها لا أن يكشفن عورتهنّ بل أبيح لهنّ العقود بين يدي الأجانب في ثيابهنّ من ثياب الأبدان الملاصقه و لا بأس بكشف وجهها و يدها لا كلّ الثياب [غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ] أي غير قاصدات بوضع ثيابهنّ إظهار زينتهنّ و التبرّج كشف المرأة للرجل بإظهار محاسنها فإظهار الزينة في القواعد و غيرهنّ مخطور و أمّا الشابّات فإنّهنّ يمنعن من وضع الجلباب و الخمار و يؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلّا تريهنّ و تصفهنّ ثيابهنّ و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: للزوج ما تحت الدرع و للابن و الأخ ما فوق الدرع و لغير ذي محرم أربعة أثواب درع و خمار و جلباب و إزار و الخمار المقنعة.

ص: 378

قوله: [وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ] أي و استعفاف القواعد و هو أن يطلبن العفّة بلبس الجلابيب [خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ] لأقوالكم [عَلِيمٌ] بنيّاتكم.

قوله: [سورة النور (24): آية 61]

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

الحرج الضيق مشتقّ من الحرجة و هي الشجر الملتفّ بعضه ببعض لضيق المسالك لمّا تقدّم ذكر الاستيذان عقّبه سبحانه بذكر دفع الحرج عن المؤمنين في الانبساط بالأكل و الشرب فقال:

[لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ] و اختلف في تأويله على وجوه:

أحدها أنّ المعنى ليس عليكم في مؤاكلتهم حرج لأنّهم كانوا يتحرّجون من ذلك و يقولون: إنّ الأعمى لا يرى فنأكل حينئذ الطعام دونه عن ابن عبّاس و هو مكفوف البصر و الأعرج لا يتمكّن من الجلوس و المريض يضعف عن الأكل فعلى هذا «على» في الآية بمعنى «في».

و ثانيها أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم في منازلهم و كانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم و يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا ممّا في بيوتنا فكان أولئك يتحرجون من ذلك و يقولون: لا ندخلها و هم غيّب فنفى اللّه الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت أقاربهم أو من بيت من تدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو و عن سعيد بن المسيّب و الزهريّ.

و ثالثها أن المعنى ليس على الأعمى و الأعرج و المريض ضيق و لا إثم في ترك الجهاد و التخلّف عنه و يكون قوله و لا على أنفسكم كلاما مستأنفا فأوّل الكلام في الجهاد و آخره في رخصة الأكل عن ابن زيد و الحسن و الجبّائيّ.

ص: 379

و رابعها أنّ العميان و العرجان و المرضى تركوا مؤاكلة الأصحّاء أمّا الأعمى كان يقول: إنّي لا أرى شيئا فربّما آخذ الأجود و أترك الأردء و أمّا الأعرج و المريض فخافا أن يفسدا الطعام على الأصحّاء لأجل أنّ الأصحّاء يتكرّهون منهم فلذلك تركوا المؤاكلة مع الأصحّاء فنفى اللّه الحرج عنهم و رخّصهم.

و خامسها أنّ الزمنى و العميان و المرضى رخّص اللّه لهم في الأكل من بيوت سمّاهم في الآية و ذلك أنّ قوما من أصحاب رسول اللّه كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم و امّهاتهم و قراباتهم فكان أهل الزمانة يتحرّجون من أكل ذلك الطعام لأنّه كان يطعمهم غير مالكه و كان المؤمنون يذهبون بالعميان و الضعفاء إلى بيوت أزواجهم و أولادهم و قراباتهم و أصدقائهم فيطعمونهم منها فلمّا نزل قوله تعالى: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (1) فعند ذلك امتنع الناس و امتنعوا أن يأكلوا من طعام أحد فنزلت الآية قال بعض المفسّرين: مثل قتادة كانت الأنصار في أنفسها قذارة و كانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا و يتحرّجون من أكله فأنزل اللّه هذه الرخصة.

قوله تعالى: [وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ] قيل: يعني من البيوت الّتي فيها أزواجكم و عيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأنّ بيت الولد كبيته لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنت و مالك لأبيك» و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه و إنّ ولده من كسبه» و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: ما يحلّ للرجل من مال ولده قال: قوت بغير سرف إذا اضطرّ إليه قيل: فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للرجل الّذي قدّم أباه: أنت و مالك لأبيك فقال: عليه السّلام إنّما جاء بأبيه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه هذا أبي و قد ظلمني ميراثي من امّي فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه و على نفسه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنت و مالك لأبيك و لم يكن عند الرجل شي ء أو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحبس الأب للابن.

و بالجملة [وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ] أي و ليس عليكم حرج أن تأكلوا من بيوتكم [أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ

ص: 380


1- النساء: 29.

بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ] في الكافي عن الصادق عليه السّلام في قوله: «ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ» قال: الرجل له وكيل يقوم في ماله فيأكل بغير إذنه.

و عن أحدهما عليهما السّلام ليس عليك جناح فيما أطعمت أو أكلت ممّا ملكت مفاتحه ما لم تفسده.

و الحاصل أنّ هذه الرخصة في أكل مال القرابات و هم لا يعلمون كالرخصة لمن دخل حائطا و هو جائع أن يصيب من ثمره أو مرّ في سفره بغنم و هو عطشان أن يشرب من رسله بوسعة منه على عباده و لطفا لهم و رغبة بهم عن دناءة الأخلاق.

و قال الجبّائيّ: إنّ الآية منسوخة بقوله: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ» (1) و بقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يحلّ مال أمر مسلم إلّا بطيبة نفسه و لكنّ المرويّ عن أئمّة الهدى عليه السّلام أنّهم قالوا: لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت ذكر اللّه بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير سرف.

و قوله تعالى: «أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ» مرّ تفسيره حيث قال: وكيل الرجل في أموره و قيل: معناه ليس حرج في الأكل من بيوت عبيدكم و مماليككم و إنّ السيّد يملك منزل عبده و المفاتح هنا الخزائن لقوله «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» (2).

قوله تعالى: [أَوْ صَدِيقِكُمْ] رفع الحرج عن الأكل في بيت صديقه بغير إذنه إذا كان عالما بأنّه يطيب نفسه بذلك لا أن يعلم كراهته و يأكل و الصديق هو الّذي صدقك عن مودّته و لفظ الصديق يقع على الواحد و الجمع قال جرير:

دعون الهوى ثمّ ارتمين قلوبنابأسهم أعداء و هنّ صديق

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لهو و اللّه الرجل يأتي بيت صديقه فيأكل طعامه بغير إذنه و روي أنّ صديقا للربيع بن خيثم دخل منزله و أكل من طعامه فلمّا عاد الربيع إلى المنزل أخبرته جاريته بذلك فقال الربيع: إن كنت صادقة فأنت حرّة. و عن ابن عبّاس:

الصديق أكثر برّا من الوالدين لأنّ أهل جهنّم لمّا استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء و الأمّهات

ص: 381


1- الأحزاب: 53.
2- الانعام: 59.

بل بالأصدقاء فقالوا: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» (1).

قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً] القميّ عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: و ذلك أنّ أهل المدينة قبل أن يسلموا كانوا يعتزلون الأعمى و الأعرج و المريض و كانوا لا يأكلون معهم و عزلوا لهم طعاما على ناحية كانوا يرون في مؤاكلتهم جناح و كان الأعمى و الأعرج و المريض يقولون: لعلّنا نؤذيهم إذا أكلنا فاعتزلوا مؤاكلتهم فلمّا قدم المدينة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سألوه عن ذلك فأنزل اللّه هذه الآية:

ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا.

و قيل: نزلت الآية في حيّ من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا و ربّما كانت معه الإبل الجفل فلا يشرب من ألبانها حتّى يجد من يشاربه فأعلم اللّه سبحانه أنّ الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه و هذا قول ابن عبّاس و قيل: كانت الأنصار إذا نزل بواحد منهم ضيف لم يأكل إلّا و ضيفه معه فرخّص اللّه لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين أو متفرّقين.

و أشتاتا جمع شتّ و شتّى جمع شتيت و شتّان تثنية شتّ و قيل: الشتّ مصدر بمعنى التفرّق ثمّ يوصف به و يجمع.

قوله تعالى: [فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ] المعنى أنّه تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله و لا تقتلوا أنفسكم قال ابن عبّاس: فإن لم يكن أحد فعلى نفسه فليقل: السلام علينا من قبل ربّنا و إذا دخل المسجد فليقل: السلام على رسول اللّه و علينا من ربّنا و إن كان في البيت أهل الذمّة فليقل: السلام على من اتّبع الهدى.

و قوله [تَحِيَّةً] نصب على المصدر تقديره: حيّوا تحيّة [مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] أي الأمر بهذه التحيّة شرعه اللّه و من أمر اللّه قال ابن عبّاس: من قال السلام عليكم معناه اسم اللّه عليكم. قوله: [مُبارَكَةً طَيِّبَةً] أي إنّ السلام مبارك ثابت لما فيه من الأجر و الثواب فإنّهم كانوا يقولون: عم صباحا فبيّن اللّه أنّ السلام دعاء بالسلامة من آفات الدنيا و الآخرة.

ص: 382


1- الشعراء: 101.

[كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] أي كما بيّن لكم الأحكام يفصّل و يشرح لكم الأدلّة على جميع ما يأمركم به لتعقلوا معالم دينكم.

قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 62 الى 64]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (64)

القميّ: نزلت في قوم كانوا إذا جمعهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأمر من الأمور في بعث يبعثه أو في حرب قد حضرت يتفرّقون بغير إذنه فنها هم اللّه عن ذلك.

و حاصل المعنى أنّ اللّه لما بيّن في الآيات السابقة كيفيّة المعاشرة و المؤاكلة من المؤمنين شرح في هذه الآية حكم المعاشرة مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ليس المؤمنون على الحقيقة إلّا الّذين صدقوا بتوحيد اللّه وعد له و أقرّوا بصدق رسوله [وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ] أي إذا كانوا مع الرسول على أمر يقتضي الإجماع عليه و التعاون فيه من حضور حرب أو أمر مهمّ أو صلاة جمعة و عيد و خطبة و ما أشبه ذلك [لَمْ يَذْهَبُوا] و لم ينصرفوا عن الرسول [حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ] إلّا بعد الإذن منه في الانصراف.

قال الكلبيّ في سبب النزول: كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعرض في خطبته بالمنافقين و يعيبهم فينظر المنافقون يمينا و شمالا فإذا لم يرهم أحد انسلّوا و خرجوا و لم يصلّوا و إن أبصرهم أحد ثبتوا و صلّوا خوفا فنزلت الآية فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته حتّى يستأذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان المنافقون يخرجون من غير إذن.

قوله: [إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ] يا محمّد [أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ] و هم المصدّقون على الحقيقة دون الّذين ينصرفون بغير إذن [فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ

ص: 383

شَأْنِهِمْ] أي متى استأذنك المؤمنون لبعض مهمّاتهم و حاجاتهم [فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ] خيّر سبحانه نبيّه بين الإذن و بين أن لا يأذن و هكذا حكم من قام مقامه من الأئمّة [وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ] أي اطلب المغفرة بهم من اللّه و الستر على تمسّكهم بآداب اللّه في الاستيذان في مقابلة أن لم يذهبوا من غير إذنك [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ساتر للمؤمنين ذنوبهم رحيم بهم و منعم عليهم.

ثمّ أمر سبحانه جميع المكلّفين فقال: [لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً] اختلف في تأويله على وجوه:

أحدها أنّه علّمهم تفخيم النبيّ في المخاطبة و أعلمهم فضله فيه على سائر البريّة أي لا تقولوا عند دعائه: يا محمّد أو يا ابن عبد اللّه كما يدعو بعضكم بعضا و لكن قولوا: يا رسول اللّه يا نبيّ اللّه في خفض صوت و لين و تواضع عن ابن عبّاس و جماعة.

و ثانيها أنّه نهى عن التعرّض لدعاء رسوله عليهم فالمعنى: احذروا دعاءه عليكم إذا أسخطتموه فإنّ دعاءه يجاب بغير شكّ، و ليس كدعاء غيره عن ابن عبّاس في رواية اخرى.

و ثالثها أنّ المعنى ليس الّذي يأمركم به الرسول و يدعوكم إليه كما يدعو بعضكم بعضا لأنّ في القعود عن أمره قعود عن أمر اللّه.

و في المناقب عن الصادق عليه السّلام: قالت فاطمة عليه السّلام: لمّا نزلت هذه الآية هبت (1) رسول اللّه أن أقول له: يا أبه فكنت أقول: يا رسول اللّه فأعرض عنّي مرّة أو ثنتين أو ثلاثة ثمّ أقبل عليّ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا فاطمة إنّها لم تنزل فيك و لا في أهلك و لا في نسلك أنت منّي و أنا منك إنّما نزلت في أهل الجفاء و الغلظ من قريش أصحاب البذخ و الكبر، قولي: يا أبة فإنّها أحيا للقلب و أرضى للربّ.

[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً] و «قد» في هذه الآية للتحقيق كما أنّ ربّ يجي ء للتكثير و الفعل أتى بلفظ المضارع لأنّه حكاية عن الحال الآتية و الحال الحاضر مع أنّ القياس أن يكون الفعل ماضيا قال ابن عبّاس: اللواذ هو أن يلوذب.

ص: 384


1- من هاب يهاب.

بغيره فيهرب و ذلك أنّ المنافقين كان يثقل عليهم خطبته فيلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد استتارا من غير استيذان و قيل: كان المنافقون يتسلّلون في الجهاد رجوعا عنه فقال سبحانه:

[فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ] حذّرهم اللّه عن مخالفتهم للرسول أو عن أمر اللّه [أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ] عقوبة في الدنيا [أَوْ يُصِيبَهُمْ] في الآخرة [عَذابٌ أَلِيمٌ] و الآية صريحة على أنّ مخالفة الرسول حرام و غير جائز.

ثمّ نبّه سبحانه بقوله: [أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ] له التصرّف في جميع ذلك و ليس لأحد مخالفة أمره لأنّه لا يجوز للعبد مخالفة أمر مالكه [قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا] و «قد» هاهنا للتحقيق بمعنى ربّما و إنّما أتى بلفظ المستقبل لبيان إحاطة علمه سبحانه بما يتجدّد من أعمالهم و ما عملوا من الإيمان و النفاق [وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ] كثير العلم يجازي كلّا على عمله.

تمّت السورة بحمد اللّه هنا ينتهي الجزء السابع من الكتاب، و قد حوى سور مريم، طه، الأنبياء، الحجّ، المؤمنون و النور، و نسأل المولى أن يديم التوفيق إلى ختام الأجزاء

ص: 385

المجلد 8

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

اشارة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

سورة الفرقان

اشارة

مكية إلّا ثلاث آيات نزلت بالمدينة من قوله: «وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إلى قوله- غَفُوراً رَحِيماً». سبع و سبعون آية.

فضلها:

عن ابيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة الفرقان بعث يوم القيامة و هو يؤمن أنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ اللّه يبعث من في القبور و دخل الجنّة بغير حساب.

و روى إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: يا ابن عمّار لا تدع قراءة تبارك فإنّ من قرأها في كلّ ليلة لم يعذّبه اللّه أبدا و لم يحاسبه و كان منزله في الفردوس الأعلى.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفرقان (25): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً (3) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (4)

وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)

تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)

[تَبارَكَ تفاعل من البركة و البركة كثرة الخير و ثبوته أي تزايد و تكاثر خيره عن كلّ شي ء في ذاته و صفاته و جلّ بوجوب وجوده و قدمه عن جواز الفناء و التغيّر و منزّه أن يكون علمه كسبيّا أو تصوّريّا و تعالى شأنه من أن يكون قدرته محتاجة إلى مادّة أو مدّة و مثال و أصل الكلمة من بروك الإبل بمعنى الثبوت و البقاء أي باق سبحانه في ذاته أزلا و أبدا يمتنع التغيّر و التبدّل.

و لمّا قال سبحانه: «تَبارَكَ» و معناه كثرة الخير و البركة فذكر عقيب هذه الكلمة أمر القرآن للدلالة على أنّ القرآن منشأ الخيرات و أعمّ البركات و هو المنبع للعلوم

ص: 3

و المعارف فالعلم بأحكام اللّه أشرف المخلوق و أعظم الأشياء خيرا و بركة [الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ و الفرقان هو القرآن وصف بذلك لأنّ به يفرق بين الحقّ و الباطل و الصواب و الخطاء. و المراد بالعبد محمّد صلّى اللّه عليه و آله ليكون هذا العبد بالقرآن نذيرا لأهل العالم، و على قول من قال: إنّ الضمير في «يكون» راجع إلى الفرقان فأضاف الإنذار إلى الفرقان كما أضاف الهداية إليه في قوله: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي» (1) و هو بعيد لأنّ الإنذار و المنذر من صفة الفاعل و إذا وصف به القرآن فهو مجاز و حمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن هو الواجب.

ثمّ قالوا: إنّ الآية تدلّ على امور: الأوّل أنّ العالم كلّ ما سوى اللّه و يتناول جميع المكلّفين من الجنّ و الإنس و الملائكة و يبطل بهذا قول من قال: إنّه كان رسولا إلى بعض دون بعض فرسالته على الخلق عامّة و بقوله: «وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» (2) خاتميّته إلى يوم القيامة.

قالت المعتزلة: دلّت الآية على أنّه سبحانه أراد من الكلّ الإيمان و فعل الطاعات لأنّه إنّما بعثه إلى الكلّ فيكون نذيرا للكلّ فأراد من الكلّ الاشتغال بالحسن و الإعراض عن القبيح.

ثمّ وصف سبحانه نفسه فقال: [الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً] كما زعمت اليهود و النصارى و المشركون [وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ فيشاركه فيما خلق و يمنعه عن مراده [وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ] ممّا يطلق عليه اسم المخلوق [فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً] فيما اقضته الحكمة. و التقدير تبيين مقادير الأشياء بأن كتبها على مقاديرها في اللوح.

و قيل: معناه قدّر طوله و عرضه و لونه و مدّة كونه و بقائه.

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار فقال: [وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي دون اللّه [آلِهَةً] من الأصنام و الأوثان و وجّهوا عبادتهم إليها.

ثمّ وصف آلهتهم بما ينبئ عن عدم الاستحقاق للعبادة فقال: [لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ

ص: 4


1- الإسراء: 9.
2- الأحزاب: 40.

أي هي غير خالقة بل مخلوقة مصنوعة [وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا] فيدفعونه عن أنفسهم [وَ لا نَفْعاً] فيجرّونه إلى أنفسهم [وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً] أي لا يستطيعون إماتة و لا إحياء [وَ لا نُشُوراً] و لا إعادة بعد الموت فإنّ جميع هذه الأمور يختصّ اللّه بالقدرة عليه فكيف يعبدون من لا يقدر على شي ء من ذلك و يتركون عبادة ربّهم الّذي يملك ذلك كلّه.

ثمّ أخبر سبحانه عن تكذيبهم بالقرآن فقال: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ أي ما هذا القرآن إلّا كذب اختلفه محمّد من تلقاء نفسه [وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قالوا: أعان محمّدا على هذا القرآن عداس مولى حويطب بن عبد العزّى و يسار غلام العلاء بن الحضرميّ و جبير مولى عامر و كانوا من أهل الكتاب، و قيل: قالوا: أعانه قوم من اليهود [فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً] أي فقد قالوا شركا و كذبا حين زعموا أنّ القرآن ليس من اللّه.

و متى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم؟ قلنا: إنّه لمّا تقدّم التحدّي و عجزهم عن الإتيان بمثله اكتفى بالتنبيه على ذلك.

[وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها] قالوا: هذا حديث المتقدّمين و ما سطروه في كتبهم انتسخها و استكتبها محمّد [فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا] أي هذه الأحاديث تقرأ عليه طرفي نهاره حتّى يحفظها صبحا و عشيّا.

[قُلْ أنزل القرآن [الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً] فإن قيل: كيف يكون هذا الكلام جوابا عن كلامهم؟ لأنّ القرآن مشتمل على الأخبار عن الغيوب و ذلك لا يتأتّى إلّا من العالم بكلّ المعلومات، و أيضا أنّ القرآن جامع لنظام مصالح العباد و ذلك لا يكون إلّا من العالم بالمصلحة كما قال سبحانه: «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (1) فلمّا دلّ القرآن من هذه الوجوه على أنّه ليس القرآن إلّا كلام اللّه لا جرم هذا البيان صار بيانا لهم و جوابا شافيا قوله «قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و من جملة ما تسرّونه أنتم المنافقون من الكيد لرسوله.

ص: 5


1- النساء: 81.

و إنّما ذكر سبحانه في هذا المواضع «الغفور الرحيم» تنبيها على أنّهم استوجبوا بكيدهم أن يصبّ عليهم العذاب صبّا و لكن صرف ذلك عنهم بكونه سبحانه غير مستعجل في العقوبة غفور رحيم يمهل بهم بإرسال الرسل إليهم.

ثمّ أوردوا شبهة اخرى في نبوّته و هي أركك من الاولى بل شبهات ركيكة أوردوها بزعمهم أنّها تخلّ بالرسالة:

احداها قولهم: [ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ .

و ثانيتها: [وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ يعني إنّه لمّا كان كذلك فمن أين له الفضل علينا و هو مثلنا في هذه الأمور؟

و ثالثتها: [لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً] أي هلّا انزل إليه ملك يصدّقه و يشهد له؟

و رابعتها: [أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ] أي من السماء فينفقه و لا يحتاج إلى طلب المعاش.

و خامستها: [أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها] و قرئ نأكل منها بالنون و المعنى إن لم يكن له كنز فلا أقلّ من أن يكون كواحد من الدهاقين فيكون له بستان يأكل و يعيش منه.

و سادستها: [إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً] أي ما تتّبعون إلّا رجلا قد سحر فغلب على عقله أو المفعول بمعنى الفاعل أي ساحرا و ذا سحر.

قوله تعالى: [انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا] انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال و النسب الّتي نسبوها إليك و لا فائدة فيها لهم لأنّ مثل هذه الأمور الّتي زعموها قدحا لك في نبوّتك فاسد و لا تقدح في معجزة كتابك و لا في نبوّتك و إنّهم أرادوا القدح و ما وجدوا إلى طريق قدح نبوّتك سبيلا و ضلّوا لإلزامك إيّاهم بنبوّتك الحجّة عليهم و ما أوردوا عليك حجّة في إبطال أمرك.

قوله تعالى: [تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ أي تقدّس الإله الّذي إن أراد جعل لك خيرا من ذلك الّذي ذكروه من نعم الدنيا كالكنز و الجنّة.

ص: 6

ثمّ فسّر ذلك الخير بقوله: [جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً] و حاصل المعنى أنّه قادر على أن يعطي الرسول كلّ ما ذكروه و لكنّه يدبّر عباده بحسب المصلحة أو على وفق المشيئة فيفتح على واحد أبواب المعارف و العلوم و يسدّ عليه أبواب الدنيا، و في حقّ الآخر بسبب استحقاقه بالعكس و الثاني يقع بسوء اختيار المكلّف، و قد عيّره المشركون بفقد جنّة واحدة و هو قادر بإعطائك جنّات كثيرة.

و قال قوم «إن» هاهنا بمعنى «إذن» أي قد جعلنا لك في الآخرة جنّات و بنينا لك قصورا و إنّما ادخل «إن» تنبيها للعباد على أنّه لا ينال ذلك إلّا برحمته و أنّه خلق على محض مشيئته.

و في مصحف ابيّ و ابن مسعود: «تبارك الّذي إن شاء يجعل».

و عن ابن عبّاس و طاوس قال: بينا رسول اللّه جالس و جبرئيل عنده قال جبرئيل:

هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربّه في زيارتك فلم يلبث إلّا قليلا إذ جاء الملك و سلّم على رسول اللّه و قال: إنّ اللّه يخيّرك بين أن يعطيك مفاتيح كلّ شي ء لم يعطها أحدا قبلك و لا يعطيه أحدا بعدك من غير أن ينقصك ممّا ادّخر لك شيئا فقال صلّى اللّه عليه و آله: بل يجمعها جميعا لي في الآخرة فنزل قوله: «تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ» الآية.

و عن ابن عبّاس قال صلّى اللّه عليه و آله: عرض عليّ جبرئيل بطحاء مكّة ذهبا فقلت: شبعة و ثلاث جوعات و ذلك أكثر لذكري و مسألتي لربّي. و في رواية اخرى: أشبع يوما و أجوع ثلاثا فأحمدك إذا شبعت و أتضرّع إليك إذا جعت.

و عن الضحّاك لمّا عيّر المشركون رسول اللّه بالفاقة نزل جبرئيل معزّيا له و قال: إنّ اللّه يقرؤك السّلام و يقول: و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلّا إنّهم ليأكلون الطعام قال: بينما جبرئيل و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتحدّثان إذ فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك ثمّ قال: أبشر يا محمّد هذا رضوان خازن الجنّة قد أتاك بالرضا من ربّك فسلّم عليه و قال: إنّ ربّك يخيّرك بين أن تكون نبيّا ملكا و بين أن تكون نبيّا عبدا و معه سفط من نور يتلألأ ثمّ قال: فهذه مفاتيح خزائن الدنيا فاقبضها من غير أن ينقصك اللّه ممّا أعدّ لك في الآخرة جناح بعوضة فنظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى جبرئيل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع فقال رسول

ص: 7

اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بل نبيّا عبدا فكان صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك لم يأكل متّكئا.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 11 الى 20]

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (12) وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً (15)

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

ثمّ شرح حال المكذّبين نبوّته و ما أعدّه لهم على قبيح أقوالهم و عقائدهم فقال:

سبب تكذيبهم إيّاك ليس لأنّك تأكل الطعام و تمشي في الأسواق بل لأنّهم لم يقرّوا بالبعث و النشور و الثواب و العقاب و لهذا أنكروا نبوّتك و ما قبلوا ما أمرتهم و لهذا قال:

[بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا] أي و هيّأنا [لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً] أي نارا تتلظّى. و في الآية دلالة صريحة على أنّ جهنّم مخلوقة موجودة معدّة.

ثمّ وصف ذلك السعير فقال: [إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً] و نسب الرؤية إلى النار و إنّما يراها الكفّار لأنّ ذلك أبلغ كأنّها تراهم رؤية الغضبان الّذي يزفر غيظا من مسيرة مائة عام.

هذا قول الطبرسيّ، و أمّا ما قاله الرازيّ في المفاتيح قال: مذهب أصحابنا أنّ البنية ليست شرطا في الحياة فالنار على ما هي عليه يجوز أن يخلق الحياة و النطق فيها فيجب إجراؤه على الظاهر لأنّه لا امتناع في أن تكون النار حيّة رائية مغتاظة على الكفّار، و عند المعتزلة ذلك غير جائز و ليس لهم في هذا الإنكار حجّة إلّا استقراء العادات و هذا الكلام

ص: 8

لا يليق إلّا بأصول الفلاسفة فالمعتزلة احتاجوا إلى التأويل و ذكروا فيه وجوها: أحدها معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم: دورهم تتراءى و تتناظر. قال عليه السّلام: إنّ المؤمن و الكافر لا تتراءى ناراهما أي لا تتقابل لما يجب من مخاطبة المؤمن الكافر و المشرك. و يقال دور فلان متناظرة أي متقابلة.

و قال الجبّائيّ: انّ اللّه تعالى ذكر النار و أراد الخزنة الموكّلة بتعذيب أهل النار كقوله: «و اسأل القرية (1)» أراد أهلها. و لو قيل: إنّ التغيّظ عبارة عن شدّة الغضب و ذلك لا يكون مسموعا فكيف قال:

«سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً»؟

فالجواب أنّ التغيّظ و إن لم يسمع و لكن يسمع ما يدلّ عليه من الصوت كقولهم:

رأيت غضب الأمير على فلان إذا رأى ما دلّ عليه أي سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيّظ.

و الجواب الثاني ما قاله الزجّاج، المعنى: علموا لها تغيّظا و سمعوا لها زفيرا كقول الشاعر: «متقلّدا سيفا و رمحا» و الروح ما يتقلّد. روي عن عبيد بن عمر: إنّ جهنّم لتزفر زفرة لا يبقى أحد إلّا و ترعد فرائصه حتّى أنّ ابراهيم عليه السّلام يجثو على ركبتيه و يقول: نفسي نفسي.

قوله تعالى: [وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً] لمّا وصف حال الكفّار حال يكونون بالبعد من جهنّم وصف حالهم في هذه الآية عند ما يلقون فيها نعوذ باللّه منها بما لا شي ء أبلغ منه قال بعضهم: إنّ جهنّم لتضيق على الكافر كضيق الزجّ (2) على الرمح و سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك فقال: و الّذي نفسي بيده انّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط.

و قال الكلبيّ الأسفلون يرفعهم اللّهيب، و الأعلون يحفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب الضيّقة، و كما أنّ اللّه سبحانه جمع الأهل الجنّة أنواع الملاذّ كذلك

ص: 9


1- يوسف: 82.
2- الحديدة في أسفل الرمح.

جمع لأهل النار أنواع العذاب و ضمّ إليها الضيق الشديد مقرّنين في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم قيل: يقرن مع كلّ كافر شيطانه في سلسلة و في أرجلهم الأصفاد، و مقرّنين حال من مفعول «أُلْقُوا»، حين ما يشاهدون هذا النوع من العقاب الشديد دعوا بالثبور أي بالهلاك:

هذا أوان حضورك.

و روى أنس مرفوعا: أوّل ما يكتسى حلّة من النار إبليس فيعضّها على جانبيه و يسحبها من خلفه ذرّيّته و هو يقول: يا ثبوراه و ينادون يا ثبورهم حتّى يردوا النار.

أمّا قوله: [لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً] أي هلاككم أكبر من أن تدعونه مرّة واحدة و لا ينفعكم هذا النداء و إن كثر منكم.

[قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ] قل يا محمّد: ذلك العذاب الموصوف خير أم جنّة الخلد؟ فإن قيل: كيف بهذا الكلام و هل يجوز أن يقول الإنسان: السكّر أحلى من الصبر؟ (1) نعم هذا الكلام يحسن عند التقريع كما إذا أعطى السيّد عبده مالا فتمرّدو استكبر فيضربه المولى ضربا وجيعا و يقول له في معرض التوبيخ و التقريع: هذا أطيب أم ذاك؟ [الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي كانت تلك الجنّة لهم موعودين بها جزاء على أعمالهم [وَ مَصِيراً] مستقرّا و مرجعا [لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ و يشتهون من المنافع و اللّذات [خالِدِينَ مؤبّدين لا يفنون فيها [كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا] و في قوله تعالى «مسؤولا» ذكروا وجوها:

أحدها: أي من يكون مسؤولا لأنّه حقّ واجب إمّا بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة أو بحكم الوعد على قول أهل السنّة.

الثاني: أنّ المكلّفين سألوه بقولهم: «رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ» (2).

و الثالث: أنّ الملائكة سألوا اللّه تعالى ذلك بقولهم: «رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ» (3).

فإن قيل: قوله «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ» إذا شاهد أهل الدرجات النازلة أهل

ص: 10


1- صمغ مر يعالج به.
2- آل عمران: 193.
3- المؤمن: 8.

الدرجات الرفيعة لا بدّ و أن يريدوها فإذا سألوها ربّهم فإن أعطاهم إيّاها لم يبق بين الناقص و الكامل تفاوت في الدرجة و إن لم يعطها قدح ذلك في قوله «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ».

و أيضا فالأب إذا كان ولده في دركات النيران و أشدّ العذاب إذا اشتهى أن يخلصه اللّه من ذلك العذاب فلا بدّ أن يسأل ربّه أن يخلصه منه فإن فعل اللّه ذلك قدح في أنّ عذاب الكافر مخلّد و إن لم يفعل قدح ذلك في قوله: لكم فيها ما تشتهي أنفسكم.

فالجواب أنّ اللّه يزيل ذلك الأمر عن قلوب أهل الجنّة بل كون اشتغال كلّ واحد منهم بما فيه من اللذّات شاغلا عن الالتفات إلى حال غيره و من شرط نعيم الجنّة أن يكون دائما و لم يكن مشوبا بالكدورات قال المتنبّي:

أشدّ الغمّ عندي في سرورتيقّن عند صاحبه انتقالا

و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله: من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه و لم يرزق فقيل: و ما هو يا رسول اللّه؟ فقال: سرور يوم.

قوله تعالى: [يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي و يوم يجمعهم و ما يعبدون غير اللّه يعني عيسى و عزيز عليه السّلام و الملائكة و قيل: يعني الأصنام فيقول اللّه لهؤلاء المعبودين: [أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي طريق الجنّة و الحسنة و النجاة.

[قالُوا] يعني المعبودين من الملائكة و الإنس و الأصنام أن أحياهم اللّه و أنطقهم:

[سُبْحانَكَ أي تنزيها لك عن الشريك و عن أن يكون معبودا سواك [ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ] أي ليس لنا أن نوالي أعداءك بل أنت وليّنا من دونهم و ما كان يحقّ لنا أن نأمر أحدا بأن يعبدنا و لا يعبدك [وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ] و لكن طوّلت أعمارهم و أعمار آبائهم و متّعتهم بالأموال و الأولاد بعد موت الرسل حتّى نسوا الذكر المنزل على الأنبياء و تركوه [وَ كانُوا قَوْماً بُوراً] أي هلكى فاسدين، هذا تمام الحكاية عن قول المعبودين في عبدتهم.

[فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أي كذّبكم المعبودون أيّها المشركون [بِما تَقُولُونَ أي بقولكم:

إنّهم آلهة شركاء [فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً] أي فما يستطيع المعبودون صرف العذاب عنكم

ص: 11

[وَ لا نَصْراً] لكم يدفع العذاب عنكم، و من قرأ بالتاء أي فما تستطيعون أيّها المتّخذون الشركاء صرف العذاب عن أنفسكم.

قوله تعالى: [وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نفسه بالشرك و ارتكاب المعاصي [نُذِقْهُ في الآخرة عَذاباً كَبِيراً] أي شديدا عظيما.

ثمّ رجع سبحانه إلى مخاطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: [وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا محمّد من المرسلين [إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ هذا ردّ عليهم بقولهم: «ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» أي فقل لهم: كذلك كان من خلا من الرسل فكيف يكون محمّد بدعا منهم؟ و جعلنا بعضكم لبعض فتنة أي امتحانا و ابتلاء و هو افتتان الفقير بالغنيّ يقول: لو شاء اللّه لجعلني مثله غنيّا و الأعمى بالبصير يقول: لو شاء اللّه لجعلني مثله بصيرا و السقيم بالصحيح، و قيل: معناه ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الّذين اتّبعوا محمّدا من موالينا و رذالنا، فقال اللّه لهؤلاء الفقراء: أ تصبرون أيّها الفقراء على الأذى و الاستهزاء؟

[وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً] إن صبرتم، و قيل: معناه: أ تبصرون أيّها الفقراء على فقركم و لا تفعلون ما يؤدّي إلى مخالفتنا؟ أ تصبرون أيّها الأغنياء فتشكرون و لا تفعلون ما يؤدّي إلى مخالفتنا؟ فيغتني من أوجبت الحكمة إغناءه و يفتقر من أوجبت الحكمة إفقاره و هو بصير بمن يصبر و بمن يجزع.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 21 الى 30]

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)

ص: 12

هذه شبهة لمنكري نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و حاصلها: [قالَ الَّذِينَ لا يأملون لقاء جزائنا و قيل: معناه: لا يخافون لقاءنا، و هي لغة تهامة هذيل يضعون الرجاء موضع الخوف إذا كان معه جحد لأنّ من رجا شيئا خاف فوته فإنّه إذا لم يخف كان يقينا و من خاف شيئا رجا الخلاص منه فوضع أحدهما موضع الآخر و الحاصل أنّ منكري البعث و المعاد أوردوا هذا الكلام: هلّا انزل الملائكة ليخبرونا بأنّ محمّدا نبيّ؟ [أَوْ نَرى رَبَّنا] فيخبرنا بذلك و يأمرنا باتّباعه و تصديقه.

ثمّ أقسم اللّه عزّ اسمه فقال: [لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا] بهذا القول السخيف [وَ عَتَوْا] و بغوا بهذا الكبر و التجبّر بغير حقّ و عاندوا [عُتُوًّا كَبِيراً] و تمرّدوا في ردّ أمر اللّه.

ثمّ أعلم سبحانه أنّ الوقت الّذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة و أنّ اللّه قد حرّم البشرى لهم في ذلك اليوم فقال: [يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أي لا بشارة لهم بالجنّة و الثواب و المراد من الملائكة هاهنا ملائكة الموت أو العذاب و يقول الملائكة لهم: [حِجْراً مَحْجُوراً] حراما محرّما عليكم سماع البشرى كقولهم:

موت مائت و ذبل ذابل. و «محجورا» صفة لتأكيد معنى الحجر أي منعا ممنوعا من الخير و البشارة، و قيل: إنّ القائل هم الكفّار لأنّهم كرهوا لقاء الملائكة لعذابهم إيّاهم و لأنّهم لا يلقونهم إلّا بما يكرهونه فيقولون عند رؤيتهم هذا الكلام. و قيل: إنّ الكفّار يوم القيامة إذا شاهدوا ما يخافونه فيعوذون منه و يقولون: حجرا محجورا.

قوله: [وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً] أي و قصدنا و عمدنا إلى عمل الكفّار في الدنيا ممّا رجوا به النفع و طلبوا به الثواب و البرّ مثل إعتاقهم و صدقاتهم و ما كانوا يتقرّبون به إلى الأصنام فجعلناه هباء منثورا و هو الغبار يدخل الكوّة من شعاع الشمس أو ما تسفيه الرياح و تذريه من التراب، و قيل: الماء المهراق، و هذا مثل و المعنى:

يذهب أعمالهم باطلا و لم ينتفعوا بها من حيث عملوها لغير اللّه.

في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إن كانت أعمالهم لأشدّ

ص: 13

بياضا من القباطيّ (1) فيقول: كن هباء منثورا، و ذلك أنّهم كانوا إذا شرع لهم الحرام أخذوه و في رواية: لم يدعوه.

و القميّ عن الباقر عليه السّلام قال: يبعث اللّه يوم القيامة قوما ما بين أيديهم نور كالقباطيّ ثمّ يقال له: كن هباء منثورا ثمّ قال: أما و اللّه إنّهم كانوا يصومون و يصلّون و لكن كانوا إذا عرض لهم الحرام أخذوه و إذا ذكر لهم من فضل أمير المؤمنين أنكروه. و في البصائر عن الصادق عليه السّلام: سئل عن هذه الآية فقال: أعمال مبغضينا و مبغضي شيعتنا.

قوله تعالى: [أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا] لمّا بيّن حال الكفّار و خيبتهم شرح حال أهل الجنّة فقال: أصحاب الجنّة يومئذ أي يوم القيامة أفضل منزلا في الجنّة و أحسن مقيلا، موضع القائلة هي الاستراحة نصف النهار إذا اشتدّ الحرّ و إن لم يكن مع ذلك نوم و لذلك في الجنّة لا نوم فيها، قال ابن مسعود و ابن عبّاس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتّى يقيل أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار. و قيل:

خير في نفسه لا بمعنى أفعل التفضيل كقوله تعالى: «وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» (2) و كقوله: اللّه اكبر لا بمعنى أكبر من شي ء غيره لأنّه لا يقال: العسل أحلى من الخلّ.

فلو قيل: دلّت الآية على أنّ المستقرّ لهم غير مقيلهم؛ قالوا: إنّهم يقيلون في الفردوس ثمّ يعودون إلى مستقرّهم. و قيل: إنّ بعد الفراغ من المحاسبة و الذهاب إلى الجنّة يكون وقت القيلولة و نصف النهار. و قال مقاتل: يخفّف الحساب على أهل الجنّة حتّى يكون بمقدار نصف يوم من أيّام الدنيا ثمّ يقيلون من يومهم ذلك في الجنّة.

فلو قيل: إنّ اليوم لا يحصل لأهل الجنّة و لا لأهل النار فكيف؟

فالجواب هذا كقوله: «وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا» و الغرض بيان أنّ مواضع الجنّة أطيب المواضع.

قوله: [وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ و أصله تتشقّق أبدلت و أدغمت التاء في الشين

ص: 14


1- جمع القبطية: ثياب من كتان.
2- الروم: 27.

أي يوم يرون تتشقّق السماء و عليها غمام، و قوله: «بِالْغَمامِ» كقوله: ركب الأمير بجنده و سلاحه يعني معه سلاحه و إنّما تتشقّق السماء لنزول الملائكة [وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا] قال ابن عبّاس: تتشقّق السماء الدنيا فينزل أهلها و هم أكثر من أهل الأرض من الجنّ و الانس ثمّ تنشق السماء الثانية فينزل أهلها و هم أكثر من أهل السماء الدنيا و الجنّ و الإنس ثمّ كذلك إلى السماء السابعة و أهل كلّ سماء يزيدون على أهل السماء الّتي قبلها ثمّ ينزل الكروبيّون و حملة العرش و يصيرون سبع صفوف.

و لو قيل: كيف بذلك و قد ثبت أنّ الأرض بالنسبة إلى السماء الدنيا كحلقة في فلاة فكيف بالكرسيّ و العرش؟ و كيف تتّسع لهم الأرض جميعا؟ فيمكن أنّ اللّه يزيد في طول الأرض و عرضها و يبلغها مبلغا تتّسع لهم الأرض جميعا و من المفسّرين قالوا: الملائكة يكونون في الغمام و اللّه تعالى يسكن الغمام فوق أهل القيامة و يكون ذلك الغمام مقرّ الملائكة.

و الصفة الاخرى لذلك اليوم قوله [الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ قيل: الحقّ صفة للملك و تقديره: الملك الحقّ يومئذ للرحمن أي ذلك اليوم لا مالك سواه لا في الصورة و لا في المعنى فتخضع له الملوك و تذلّ له الجبابرة و تعفر له الوجوه [وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً] عسر اليوم عليهم لشدّته و يهون على المؤمنين كأدنى صلاة صلّوها في دار الدنيا و في هذا بشارة للمؤمنين حيث خصّ بشدّة ذلك اليوم الكافرين.

قوله تعالى: [وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا] ندما و تأسّفا قيل: المراد هو عقبة بن أبي معيط و قيل: هو عامّ في كلّ ظالم و نادم يوم القيامة و كلّ خليل يخالّ غيره في غير ذات اللّه. قال عطا: يأكل يديه حتّى تذهبا إلى المرفقين ثمّ لا يزال هكذا كلّما أنبتت يده أكلها ندامة على ما فعل يقول: [يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا] أي ليتني اتّبعت محمّدا و اتّخذت معه سبيلا إلى الهدى.

قوله: [يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا] و قرئ بالياء «يا ويلتي» يقول و ينادي: الويل احضري هذا أوان حضورك. و إنّما قلّب الياء ألفا مثل عذارى و صحارى.

ليتني لم أتّخذ فلانا؛ قيل: أراد به الشيطان أو الظالم أي نوع الظالم و كلّ خليل يضلّ

ص: 15

عن الدين و لو كان يقول مثلا: فرعون أو هامان و إبليس لطال الكلام فقال: فلانا حتّى يتناول كلّ مضلّ في الدين [لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ] أي عن القرآن و الإيمان [بَعْدَ إِذْ جاءَنِي الذكر و تمكّنت منه، و تمّ الكلام ثمّ قال اللّه: [وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا] لأنّه يتبرّأ منه في الآخرة و يسلّمه إلى الهلاك و لا يغني عنه شيئا.

قوله تعالى: [وَ قالَ الرَّسُولُ يعني محمّد صلّى اللّه عليه و آله يشكو قومه: [يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً] يعني هجروا القرآن و هجروني و كذّبوني و جعلوه متروكا لا يسمعونه و لا يتفهّمونه. قال أكثر المفسّرين: إنّ هذا القول واقع من الرسول و يؤيّد هذا القول قوله: «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ» (1) لأنّ ما ذكره اللّه تعالى من قوله: «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا» كلام في مقام التسلية للرسول و لا يليق إلّا إذا كان وقع ذلك القول منه.

و قال أبو مسلم: بل المراد أنّ الرسول يقوله في القيامة و هو كقوله: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (2) و القول الأوّل أولى.

بيان: و في قوله «يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ» قال ابن عبّاس: نزلت الآية في عقبة بن أبي معيط و ابيّ بن خلف و كانا متخالّين و ذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه و كان يكثر مجالسته للرسول فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما فلمّا قرّبوا الطعام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أنا بآكل من طعامك حتّى تشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، فبلغ ذلك ابيّ بن خلف فقال: صبأت (3) يا عقبة؟ قال: لا و اللّه ما صبأت و لكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلّا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي و لم يطعم فشهدت له فطعم، فقال: إنّي ما كنت براض عنك أبدا حتّى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل ذلك عقبة و ارتدّ و أخذ رحم دابّة فألقاها بين كتفيه فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا ألقاك خارجا من مكّة إلّا علوت

ص: 16


1- الفرقان: 31.
2- النساء: 40.
3- صبأ: خرج من دين الى آخر.

رأسك بالسيف فضرب عنقه يوم بدر صبرا. و أمّا ابيّ بن خلف فقتله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم احد في المبادرة. و قال الضحّاك: لمّا بزق عقبة في وجه رسول اللّه عاد بزاقه في وجهه فأحرق خدّيه و كان أثر ذلك فيه حتّى مات أو قتل، هذا قول ابن عبّاس.

و قيل: نزلت في كلّ كافر أو ظالم تبع غيره في الكفر أو الظلم.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ليس رجل من قريش إلّا و قد نزلت فيه آية أو آيتان تقوده إلى جنّة أو تسوقه إلى نار، انتهى.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 31 الى 40]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً (31) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (34) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35)

فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَ كُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ كُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)

المعنى: ثمّ عزّى اللّه نبيّه: كما جعلنا لك عدوّا من مشركي قومك [جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍ من كفّار قومه لأنّ الأنبياء كانوا مأمورين من اللّه أن يدعون قومهم إلى الإيمان به و ترك ما ألفوه من دين آبائهم و إلى ترك عبادة الأوثان و كانت هذه أسبابا داعية إلى العداوة فإذا أمرهم اللّه بهذا فقد جعلهم عدوّا لهم [وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً] أي حسبك اللّه هاديا إلى الحقّ و ناصرا لأوليائه.

[وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً] أي قال الكفّار لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هلّا آتيتنا بالقرآن جملة واحده كما أنزلت التوراة و الإنجيل و الزبور جملة واحدة؟

ص: 17

قال اللّه: [كَذلِكَ أي أنزلناه كذلك متفرّقا [لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لنقوّي به قلبك فتزداد بصيرة و ذلك أنّه إذا كان يأتيه الوحي متجدّدا في كلّ حادثة و كلّ أمر كان ذلك أقوى لقلبه و أزيد في بصيرته، و قيل: إنّما أنزلت الكتب جملة واحدة لأنّها نزلت على الأنبياء يكتبون و يقرءون فنزلت عليهم مكتوبة و القرآن إنّما نزل على نبيّ امّيّ لا يكتب و لا يقرء و لذلك نزل متفرّقا (1). و أيضا فإنّ في القرآن الناسخ و المنسوخ و فيه ما هو جواب لمن سأله عن امور و فيه إنكار لما هو كان الحكمة إنزاله متفرّقا.

[وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا] أي بيّنّاه تبيينا بعضه إثر بعض روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: يا ابن عبّاس إذا قرأت القرآن فرتّله ترتيلا قال: و ما الترتيل؟ قال: بيّنه تبيينا و لا تنثره نثر الرمل؛ قفوا عند عجائبه و حرّكوا به القلوب و لا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة.

قوله تعالى: [وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ من الجنس الّذي تقدّم ذكره من الشبهات [إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ الّذي يبطله و يدحضه أي لا يأتيك المشركون بمثل يضربونه لك و اعتراض في نبوّتك إلّا أبطلناه بالحقّ و هو القرآن [وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً] أي و بأحسن تفسيرا ممّا أتوا به من المثل بيانا و كشفا.

قوله: [الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي يسحبون على وجوههم إلى النار و هم كفّار مكّة و ذلك أنّهم قالوا: لمحمّد (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه هم شرّ خلق اللّه، فقال اللّه:

ص: 18


1- و هذا القول يستلزم أمورا لا يتفوه بها مسلم: منها كون سائر الأنبياء أفضل من نبينا صلى اللّه عليه و آله و امتيازهم عنه بعلم الكتابة و القراءة و منها عدم اطلاعه صلى اللّه عليه و آله على الآيات قبل نزولها، و هو تعالى يقول: «وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» (طه: 114) الدال على أنه صلى اللّه عليه و آله كان يقرء الآيات الى آخرها قبل ان يلقيها عليه روح القدس. و منها انه صلى اللّه عليه و آله لم يكن متمكنا من الكتابة و القراءة مع ان عدم الكتابة لا يلازم عدم التمكن بل السر فيه ازالة ريب التعلم على ما أشار اليه في قوله تعالى: «وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» (العنكبوت: 48) و ليت شعري ما اجرا الإنسان بربه الكريم و نبيه العظيم؟

[أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً] أي منزلا و مصيرا [وَ أَضَلُّ سَبِيلًا] أي دينا و طريقا من المؤمنين و التفاضل المذكور في الآية واقع على هذا التقدير الّذي فرضتموه أنتم بقولكم: أصحاب محمّد شرّ خلق اللّه أي أنتم على هذا الفرض شرّ منهم و المشي على الوجه.

قال أكثر المفسّرين: إنّهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم إلى القرار و أرجلهم إلى فوق. روي ذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ الّذين أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. و قال آخرون: يحشرون و يحسبون على وجوههم، و هذا مرويّ عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله ثمّ ذكر سبحانه حديث الأنبياء تسلية للرسول و تبصرة لأمّته:

القصّة الاولى: قوله تعالى: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً] لمّا قال سبحانه «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ» أتبعه بذكر جماعة من الأنبياء و عرّف نبيّه محمّدا بما نزل عليهم من أممهم و تكذيبهم إيّاهم فقال: «وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» أي لست يا محمّد باوّل من أرسلناه فكذّب و آتيناه الآيات فردّ فقد آتينا موسى التوراة و قوّينا عضده بأخيه هارون و مع ذلك فقد ردّ [فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً] و قلنا لموسى و هارون: اذهبا إلى القوم المكذّبين يعني فرعون و قومه، و في الكلام حذف و تقديره: فذهبا إليهم فلم يقبلوا منهما و جحدوا نبوّتهما فدمّرناهم تدميرا أي أهلكناهم إهلاكا بأمر فيه اعجوبة.

[وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً] أي و أغرقنا قوم نوح بالطوفان و هو مجي ء السماء بماء منهمر و يفجّر الأرض عيونا و المراد بتكذيب الرسل لأنّ من كذّب نبيّا كذّب تمام الأنبياء و جعلناهم للناس آية أي هلاكهم عبرة و عظة و أعتدنا و هيّأنا للظالمين عذابا أليما سوى ما حلّ بهم في الدنيا.

قوله: [وَ عاداً وَ ثَمُودَ] أي أهلكنا عاد و ثمود [وَ أَصْحابَ الرَّسِ و الرسّ بئر رسّوا فيها نبيّهم و ألقوه فيها، عن عكرمة. و قيل: إنّهم كانوا أصحاب مواش و لهم بئر يقعدون عليها و كانوا يعبدون الأصنام فبعث اللّه إليهم شعيبا فكذّبوه فانهار البئر و انخسفت بهم

ص: 19

الأرض فهلكوا. و قيل: الرسّ قرية باليمامة يقال لها: فلج، قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه، عن قتادة. و قيل: كان لهم نبيّ يسمّى حنظلة فقتلوه فاهلكوا، عن سعيد بن جبير و الكلبيّ. و قيل: الرسّ بئر بأنطاكية فقتلوا فيها حبيب النجّار فنسبوا إليها، و قيل:

أصحاب الرسّ كان نساؤهم سحّاقات، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

قوله: [وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً] أي و أهلكنا أيضا قرونا كثيرا بين عاد و أصحاب الرسّ على تكذيبهم.

و قيل: المراد من البين بين نوح و أصحاب الرسّ و القرون سبعون سنة، و قيل:

أربعون.

[وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي و كلّا منهم بيّنّا أنّ العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا أو بيّنّا لهم الأحكام في الدين و الدنيا و ما يضرّهم و ما ينفعهم [وَ كُلًّا] لمّا لم يؤمنوا [تَبَّرْنا] هم [تَتْبِيراً] و أهلكناهم إهلاكا مثل كسارة الذهب و الفتيت.

قوله: [وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ] أي و لقد أتوا كفّار مكّة على قرية «سدوم» من قرى قوم لوط و كانت خمسا أهلك اللّه أربعا بأهلها و بقيت واحدة و مطر السوء الحجارة و المعنى: إنّ أهل مكّة مرّوا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية الّتي أهلكت بالحجارة من السماء أ فلم ينظروا إلى آثار عذاب اللّه و نكاله فيعتبروا [أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها] ثمّ قال: [بَلْ كانُوا] قوما كفرة [لا يَرْجُونَ نُشُوراً] أي لا يعتقدون و يتوقّعون البعث و لا يأملون ثوابا و لا يخافون عقابا فركبوا المعاصي و الكفر.

قوله: [سورة الفرقان (25): الآيات 41 الى 44]

وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)

المعنى: لمّا بيّن مبالغة المشركين في إنكار نبوّته و في إيراد الشبهات بيّن أنّهم

ص: 20

إذا رأوا الرسول لم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء و الاستحقار و يقول بعضهم لبعض: [أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا] أي إذا رأوك قالوا مستهزئين: أبعث اللّه هذا رسولا؟ و «إن» الاولى نافية و الثانية مخفّفة من المثقّلة، و اللام هي الفارقة بينهما. و كانوا يقولون فيه: لقد كاد يصرفنا عن عبادة آلهتنا أي قد قارب أن يضلّنا و يهلكنا [لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها] و الجواب محذوف مقدّر أي لو لا نقيم على عبادة آلهتنا لهلكنا، فقال متوعّدا سبحانه لهم: [وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الّذي ينزل بهم عيانا [مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا] و أخطأ الطريق الحقّ هم أم المؤمنون؟ ثمّ عجّب نبيّه بكلمة: [أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ في الكلام تعجيب من جهل هؤلاء الّذين اتّخذوا إلههم هواهم يعنى اتّخذ ميله و هواه إلهه.

قال سعيد بن جبير: كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه و اتّخذ الآخر و عبده [أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا] أي مثل هذا الجاهل تكون تحفظه من اتّباع هواه؟ يعني لست كذلك نحو قوله: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (1) و «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» (2).

قوله: [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ثمّ قال للنبيّ: أم تحسب- و أم منقطعة- أنّ أكثرهم يسمعون ما تقوله سماع طالب إفهام و يعقلون ما تقرأ عليهم؟ لا تظنّ بذلك [إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ما هم إلّا كالبهائم الّتي تسمع النداء و لا تعقل [بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا] من البهائم لأنّهم مكّنوا من المعرفة و الأنعام لم يمكّنوا من المعرفة و لأنّ الأنعام عرفت أكثر منافعها و مضارّها و لا تفعل ما يضرّها و هؤلاء يسعون في إهلاك أنفسهم و تجنّبوا سبيل نجاتهم فهم أضلّ منها.

ص: 21


1- الغاشية: 22.
2- البقرة: 256.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 45 الى 50]

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً (49)

وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50)

الخطاب للنبيّ و المراد به سائر المكلّفين أي [أَ لَمْ تَرَ] و تعلم [إِلى فعل [رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ و تقديره: ألم تر إلى الظلّ كيف مدّه ربّك معنى الظلّ من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس و جعله ممدودا لأنّه لا شمس معه كما قيل في ظلّ الجنّة:

ممدودا؛ إذ لم يكن معه الشمس. قال أبو عبيدة: و الظلّ ما نسخته الشمس و هو بالغداة و الفي ء ما نسخ الشمس و هو بعد زوال الشمس و سمّي فيئا لأنّه فاء من جهة الشرق إلى جانب الغرب. و قيل: مدّ الظلّ من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوعها فيكون الظلّ بالليل لأنّه ظلّ الأرض.

[وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً] أي مقيما دائما لا يزول و لا ينسخه الشمس يقال: فلان يسكن بلد فلان إذا أقام به و هو مثل قوله: «أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» (1) في المعنى.

و في هذا إشارة إلى أنّه قادر على تسكين الشمس حتّى يبقى الظلّ ممدودا بخلاف ما يقوله الفلاسفة. و اعلم أنّ الظلّ الممدود هو الأمر المتوسّط بين الضوء الخالص و بين الظلمة الخالصة و كذا الكيفيّات الحاصلة داخل السقف و أفنية الجدران و هذه الحالة أطيب الأحوال لأنّ الظلمة الخالصة يكرهها الطبع و ينفر عنها الحسّ و كذلك الضوء الخالص و هو الكيفيّة الفائضة من الشمس فهي لقوّتها تبهر العين و تفيد السخونة القويّة و هي مؤذية لو دامت فإذن أطيب الأحوال هو الظلّ فهو من النعم العظيمة و إذا طلعت الشمس و وقع ضوؤها على الجسم زال ذلك الظلّ و لو لا وقوع الشمس على الأجرام لما عرف أنّ للظلّ وجودا و ماهيّة و لو لا الظلمة لما عرف النور، فحينئذ ظهر للعقول أنّ الظلّ كيفيّة زائدة على الجسم فلهذا قال سبحانه: [ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا] أي خلقنا الظلّ أوّلا بما فيه من المنافع و اللذّات ثمّ أطلعنا الشمس فصارت الشمس دليلا على وجود هذه النعمة.

[ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً] أي أزلنا الظلّ لا دفعة واحدة بل يسيرا يسيرا،

ص: 22


1- القصص: 71.

فإنّه كلّما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظلّ في جانب الغرب و لمّا كانت الحركات النوريّة المكانيّة لا توجد دفعة واحدة بل يسيرا يسيرا كذلك زوال الظلّ لا يكون دفعة واحدة بل يسيرا يسيرا.

و المراد من القبض الإعدام و الإزالة و لو حصل دفعة واحدة لاختلّت المصالح و بالتدريج يفيد أنواعا من المصالح الزرعيّة و الخلقيّة. و قيل: المراد من القبض عند قيام الساعة و ذلك بقبض أسبابها و هي الأجرام الّتي بسببها يقع الظلّ و لا يخفى أنّ الظلّ ليس أمرا عدميّا محضا بل هو أضواء مخلوطة بظلم و عبارة عن الضوء الحاصل من هذه الأضواء المخلوطة و هو أمر وجوديّ و يتطرّق التغيّر عليه فلا بدّله من وجوده بعد- العدم و عدمه بعد الوجود من صانع مقدّر فحصول الظلّ إمّا أن يكون واجبا أو جائزا أمّا الواجب لا يتغيّر فثبت تغيّره و إمكانه فحينئذ احتاج إلى مدبّر قاهر يقدّره بسبب الأجرام العلويّة فصحّ الاستدلال قوله تعالى: [وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً] أي جعل الليل غطاء ساترا للأشياء بالظلام كاللباس الّذي يشمل على لابسه:

فهو سبحانه ألبسنا الليل و غشّانا به لنسكن و نستريح من كدّ الأعمال كما قال في موضع آخر: «لِتَسْكُنُوا فِيهِ»* (1) «وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» (2) و راحة و تعطيلا لأعمالكم، و الانقطاع عن الحركة في الروح هو السبات.

[وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً] لانتشار الروح باليقظة في النهار مأخوذ من نشور البعث و لأنّ الناس ينشرون في النهار لطلب معايشهم فيكون النشور هنا بمعنى التفرّق في الأرض لابتغاء الرزق.

[وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قرئ بالنون أي الرياح ناشرات للسحاب و بالباء الموحّدة أي مبشّرات بين يدي رحمته استعارة لطيفة أي الرياح مبشّرة قدّام المطر [وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً] و أنزلنا الماء من السماء طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره مزيلا للأحداث و النجاسات و، في الآية نصّ على أنّه تعالى نزل الماء من السماء لا من الحساب و قول من يقول: السحاب سماء ضعيف؛ لأنّ ذاك بحسب الاشتقاق و أمّا بحسب وضع اللغة فالسماء اسم لهذا السقف المعلوم فصرفه عنه ترك للظاهر،

ص: 23


1- يونس: 67.
2- النبأ: 9.

و الطهور ما يتطهّر به كالفطور ما يفطر به و السحور ما يتسحّر به.

قوله: [لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً] قد مات بالجدب، و أراد بالبلدة البلد أو المكان أي لنخرج بالماء النبات و الثمار [وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً] أي و لنسقي من ذلك الماء أنعاما جمّة و أناسا كثيرة.

و لقد صرفنا المطر [بَيْنَهُمْ يدور في الجهات و قسّمناه بينهم فلا يدوم على مكان فيفسد و لا ينقطع بالكلّيّة عن مكان فيهلك و يزيد لقوم و ينقص لآخرين على حسب المصلحة [لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً] ليتفكّروا و يستدلّوا به على قدرتنا و يعلمون أنّه لا يجوز العبادة لغير المنعم فأبى أكثر الناس بتصديق النعمة و زادوا جحودا و كفورا بالبعث و النشر فيقولون: مطرنا بنوء كذا و كذا، على طريقتهم الخبيثة حيث كانوا يستندون الأمطار إلى الأنواء و قال ابن عبّاس: ما عام بأكثر من عام و لكن يصرفه في الأرض ثمّ قرأ هذه الآية. و روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما من عام بأمطر من عام و لكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل اللّه ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف اللّه ذلك إلى الفيافي.

و قال الكعبيّ: قوله: «وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا» حجّة على من زعم أنّ القرآن وبال على الكافرين و أنّه تعالى لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا لأنّ قوله: «لِيَذَّكَّرُوا» عامّ في الكلّ لأنّه لا يجوز أن يقال: أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلّا كفورا.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 51 الى 60]

وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (53) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً (60)

ص: 24

[وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً] ينذرهم و لكن بعثناك يا محمّد إلى القرى كلّها رسولا لعظيم منزلتك لدنيا و النذير هو الداعي إلى ما يؤمن معه الخوف من العقاب أي لو شئنا لقسمنا بينهم النذر كما قسمنا بينهم الأمطار و لكنّا نفعل ما هو الأصلح لهم و الأنفع في دينهم و دنياهم فبعثناك إليهم كافّة.

[فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من المداهنة [وَ جاهِدْهُمْ في اللّه [بِهِ أي بالقرآن [جِهاداً كَبِيراً] أي تامّا شديدا و في الآية دلالة على أنّ أعظم الجهاد جهاد المتكلّمين في حلّ شبهة الملحدين و المبطلين و أعداء الدين و يمكن أن يتأوّل عليه قوله: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، و حاصل المعنى: أمر اللّه نبيّه بسبب كونه نذيرا لكافّة القرى و الأمصار و الناس جهادا كبيرا جامعا.

قوله تعالى: [وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ هذا هو النوع الرابع من الدلائل الدالّة على القدرة و التوحيد. مرج البحرين أي خلّاهما و أرسلهما، مرجت الدابّة إذا أرسلتها و خلّيتها ترعى، و أصل المرج الإرسال و الخلط و المعنى: سمّى الماءين الكبيرين الواسعين بحرين أي أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل. و قوله: [هذا عَذْبٌ فُراتٌ البالغ في العذوبة و الأجاج نقيضه و الآخر [مِلْحٌ أُجاجٌ و أنّه سبحانه بقدرته يفصل بينهما و يمنعهما التمازج و جعل من عظم قدرته برزخا حائلا مع أنّهما متجاورين متلاصقين. و قيل: المراد بالبحر العذب النهر العظيم و بالمالح البحر العظيم و بالبرزخ ما بينهما من الأرض فيكون أثر القدرة في اختلاف الصفة مع أنّ مقتضى طبيعة كلّ عنصر التشابه في الكيفيّة.

[وَ حِجْراً مَحْجُوراً] و هذه كلمة يقوله المتعوّذ و هي هاهنا على سبيل المجاز كأنّ كلّ واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه و يقول له: حجرا محجورا كما قال: «لا يَبْغِيانِ» (1)

ص: 25


1- الرحمن: 2.

أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة فانتفاء البغي كالتعوّذ و هي من أحسن الاستعارات، و قيل: معنى حجرا محجورا أي منع ممتنع و حرام محرّم أن يفسد الملح العذب.

[وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً] أي خلق من النطفة إنسانا، و قيل: أراد آدم عليه السّلام فإنّه خلق من التراب الّذي خلق من الماء، و قيل: المراد أولاد آدم فإنّهم مخلوقون من الماء [فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً] قيل في معناه: النسب الّذي لا يحلّ نكاحه، و الصهر النسب الّذي يحلّ نكاحه كبنات العمّ و الخال. و قيل: النسب سبعة أصناف و الصهر خمسة ذكرهم في قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» و قد تقدّم بيانه في سورة النساء (1) و قيل: النسب البنون و الصهر البنات اللّاتي يستفيد الإنسان بهنّ الأصهار فكأنّه قال: فجعل منه البنين و البنات.

و قال ابن سيرين: نزلت في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عليّ بن أبي طالب زوّج فاطمة عليّا فهو ابن عمّه و زوج ابنته فكان نسبا لأنّه ابن عمّه و صهرا لأنّه زوج فاطمة.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام، و القميّ عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إنّ اللّه تعالى خلق آدم من الماء العذب و خلق زوجته من سنخه فبرأها من أسفل أضلاعه فجرى بذلك الضلع بينهما سبب و نسب ثمّ زوّجها إيّاه فجرى بينهما بسبب ذلك صهر قوله: «نَسَباً وَ صِهْراً» فالنسب ما كان بسبب الرجال و الصهر ما كان بسبب النساء.

و في المعاني عن الباقر عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: ألا و إنّي مخصوص في القرآن بأسماء، احذروا في أن تغلبوا عليها فتضلّوا في دينكم أنا الصهر لقول اللّه تعالى:

«وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً».

و في الأمالي بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: قلت له: يا رسول اللّه عليّ أخوك؟ قال: نعم، عليّ أخي، قلت: يا رسول اللّه صف لي كيف عليّ أخوك؟ قال:

إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق ماء تحت العرش قبل أن يخلق آدم عليه السّلام بثلاثة آلاف عام، و أسكنه في لؤلؤة خضراء في غامض علمه إلى أن خلق آدم فلمّا خلق آدم نقل ذلك الماء من اللؤلؤة

ص: 26


1- الآية: 22.

فأجراه في صلب آدم إلى أن قبضه ثمّ نقله إلى صلب شيث فلم يزل ذلك الماء ينقل من ظهر إلى ظهر حتّى صار في صلب عبد المطّلب ثمّ شقّه نصفين فصار نصفه في صلب أبي عبد اللّه و نصفه في صلب أبي طالب فأنا من نصف الماء و عليّ من النصف الآخر فعليّ أخي في الدنيا و الآخرة ثمّ قرأ رسول اللّه الآية. و أيضا في روضة الواعظين يذكر حديثا يشمل هذا البيان انتهى.

[وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً] أي قادرا على ما أراد.

ثمّ أخبر عن حال الكفّار فقال: [وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ من الأصنام و الأوثان [وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً] أي الكافر معينا للشيطان على ربّه بالكفر و المعاصي لأنّه يعاون الشيطان على عداوة اللّه و معصيته لأنّ عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان معادة اللّه تعالى، و قيل: المعنى: كان الكافر على ربّه ظهيرا أي الكافر عند اللّه متروك و مستخفّ به و منه قوله: «وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» (1). و قيل: المراد بالكافر أبو جهل لأنّ الآية نزلت فيه، و الأولى حمله على العموم لأنّ خصوص السبب لا يقدح في عموم اللّفظ.

قوله تعالى: [وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً] و وجه تعلّق الآية بما تقدّم هو أنّ الكفّار كانوا يطلبون العون على اللّه و الرسول و اللّه بعث رسوله إليهم ليبشّرهم على الطاعة و ينذرهم على المعصية فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرغ جهده في إصلاح مهمّاتهم دينا و دنيا و لا يسألهم عليه أجرا.

[قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على القرآن أجرا و على تبليغ الوحي [مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا] بإنفاق ما له في طاعة اللّه و المعنى: إنّي لا أسألكم أجرا و لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضات اللّه.

قوله: [وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ أي لمّا لم يقبلوا قولك فوّض أمورك إلى الحيّ الّذي لا يموت فلن يفوته الانتقام [وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي احمد منزّها له عمّا لا يليق به من الصفات مثل أن تقول: الحمد للّه ربّ العالمين، الحمد للّه على نعمه و إحسانه

ص: 27


1- هود: 92.

الّذي لا يقدر عليه غيره الحمد للّه عظيم المنزلة و ما أشبه ذلك. قوله: [وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً] أي عليما فيحاسبهم و يجازيهم بها فحقيق بأن يخافوه و يراقبوه.

[الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما] أي ما بين هذين الصنفين [فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فإن قيل: إنّ الأيّام عبارة عن حركات الشمس في السماوات فقبل السماوات لا أيّام؛ المراد: في مدّة مقدارها هذه المدّة لو كانت.

و من الناس من قال: في ستّة أيّام من أيّام الآخرة و كلّ يوم ألف سنة و هو بعيد لأنّ التعريف يكون بأمر معلوم.

و لو قيل: لم قدّر الخلق و الإيجاد بهذا التقدير و لم يخلقها في لحظة واحدة و هو قادر عليه؟

فالجواب أنّه سبحانه العالم بالأصلح و يجب على الإنسان أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة فإنّه لا ساحل لها، و ذلك مثل تقدير الملائكة الّذين يعذّبون أصحاب النار بتسعة عشر و حملة العرش بالثمانية و شهور السنة باثني عشر و السماوات بالسبع و كذا الأرض و كذا القول في عدد الصلوات و مقادير النصب في الزكوات و كذا مقادير الحدود و الكفّارات فالإقرار بأنّ كلّ ما قاله اللّه حقّ هو الدين و ترك البحث عن هذه الأشياء هو الواجب.

و لعلّ الجواب في هذا الموضوع ما قاله سعيد بن جبير أنّه خلقها في ستّة أيّام و هو يقدر أن يخلقها في لحظة تعليما لخلقه الرفق و التأنّي و التثبّت و هو سبحانه خلق الأشياء على تؤدة و تدرّج.

قوله: [ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ و من المعلوم أنّه لا يجوز حمله على الاستيلاء و القدرة لأنّ الاستيلاء و القدرة في أوصاف اللّه لم يزل و لا يصحّ دخول «ثُمَّ» فيه و كذلك الاستقرار غير جائز لأنّه يقتضي التغيّر الّذي هو دليل الحدوث و التركيب و كلّ ذلك محال على اللّه فالمعنى: ثمّ خلق العرش و رفعه و هو مستول مثل قوله: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ» (1) فإنّ المراد حتّى يجاهد المجاهدون و نحن بهم عالمون.

ص: 28


1- محمد: 31.

فإن قيل: فعلى هذا التفسير يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السماوات و ليس كذلك لقوله: «وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ».

فالجواب أنّ كلمة «ثمّ» ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السماوات.

قوله: [الرَّحْمنُ خبر لقوله «الَّذِي خَلَقَ» أو صفة للحيّ أو خبر مبتدء محذوف أي هو الرّحمن.

قوله: [فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً] اختلف في تفسيره فقيل: إنّ المعنى فأسأل عنه خبيرا و الباء بمعنى «عن» و الخبير هاهنا هو اللّه، و أنشد في قيام الباء مقام «عن» قوله علقمة بن عبدة:

فإن تسألوني بالنساء فإنّني خبير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله فليس له من ودّهنّ نصيب

و قيل: إنّ الباء على أصلها و المعنى: فاسأل بسؤالك أيّها الإنسان خبيرا يخبرك بالحقّ و روي أنّ اليهود حكوا عن ابتداء الخلق بخلاف ما أخبر اللّه عنه فقال سبحانه: «فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» أي سلني عنه و قيل: إن الخبير هنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و المعنى: ليسأل كلّ منكم عن اللّه محمّدا فإنّه الخبير العارف به و يؤيّد هذا المعنى آية البعد في قوله: «وَ مَا الرَّحْمنُ».

قوله: [وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أي و إذا قيل لهؤلاء المشركين:

اسجدوا للرحمن قالوا: و أيّ شي ء الرحمن إنّا لا نعرف الرحمن قال بعض المفسّرين: إنّ أبا جهل قال: إنّ الّذي يقول محمّد شعر. فقال صلّى اللّه عليه و آله: الشعر غير هذا إن إلّا كلام الرحمن، فقال أبو جهل: بخ بخ لعمري إنّه لكلام الرحمن الّذي هو يعلّمك فقال صلّى اللّه عليه و آله:

الرحمن هو إله السماء و من عنده يأتيني الوحي. فقال أبو جهل: يا آل غالب من يعذرني من محمّد يزعم أنّ اللّه واحد و هو يقول: اللّه يعلّمني و الرحمن، ألستم تعلمون أنّهما إلهان؟ ثمّ قال: ربّكم اللّه الّذي خلق هذه الأشياء و الرحمن فهو مسيلمة.

و كانوا يقولون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: [أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا] بسجوده و نحن لا نعرف الرحمن أيّ شي ء و قرئ يأمرنا بالياء أي كان بعضهم يقول لبعض هذا القول [وَ زادَهُمْ نُفُوراً] أي و زادهم ذكر الرحمن نفورا و تباعدا عن الحقّ و قبول قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و صيغة «الرحمن»

ص: 29

فعلان بناء من أبنية المبالغة؛ تقول: رجل ريّان و عطشان في النهاية من الريّ و العطش و فرحان كذلك.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 61 الى 70]

تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً (61) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً (64) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65)

إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (66) وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)

[تَبارَكَ و ثبت بالبركة و الدوام الإله [الَّذِي جَعَلَ و خلق [فِي السَّماءِ] منازل للنجوم الكبار أو السبعة السيّارة و هي زحل و المشتري و المرّيخ و الشمس و القمر و الزهرة و عطارد و هي اثنا عشر برجا: الحمل و الثور و الجوزا و السرطان و الأسد و السنبلة و الميزان و العقرب و القوس و الجدي و الدلو و الحوت و سمّيت بروجا مأخوذا من القصور العالية و أنّها كالمنازل و الاشتقاق من البرج و الظهور.

[وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً] و المراد من السراج الشمس لقوله تعالى: «وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» (1) و قرى «سراجا» و هي الشمس و الكواكب الكبار [وَ قَمَراً مُنِيراً] أي مضيئا بالليل إذا لم تكن شمس.

[وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً] أي يخلف واحد منهما صاحبه في ما يحتاج أن يعمل فيه فمن فاته عمل اللّيل استدركه بالنهار و من فاته عمل النهار استدركه بالليل قوله: [لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ] أي أراد شكر ربّه و يستدلّ بذلك على أنّ لهما مدبّرا و خالقا و مصرّفا [أَوْ أَرادَ شُكُوراً] يقال: شكر شكرا و شكورا. و قيل في معنى:

ص: 30


1- نوح: 16.

«لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ» روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: تقضى صلاة النهار باللّيل و صلاة اللّيل بالنهار.

الصفة الاولى قوله: [وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً] و عباد الرحمن مبتدء و خبره في آخر السورة: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ» و يجوز أن يكون خبره «الَّذِينَ يَمْشُونَ ... هَوْناً» و هذا وصف سيرتهم بالنهار أي هينون، و الهون الرفق أي مشيهم في لين و سكينة و وقار و تواضع و لا يضربون أقدامهم أشرا و بطرا و لا يتبخترون لأجل الخيلاء و يمشون بسجيّة الرحمة.

الصفة الثانية: [وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً] أي يظهرون العلم في مقابلة الجهل لأنّ الإغضاء عن السفهاء و ترك المقابلة مستحسن في العقل و الشرع و سبب للورع.

الصفة الثالثة قوله: [وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً] و معنى «يبيتون لربّهم أن يكونوا في لياليهم مصلّين. قال أهل اللغة: كلّ من أدركه الليل فقد بات؛ نام أم لم ينم. و حاصل المعنى: أنّ المؤمنين إذا انتشروا في النهار مشيهم مشي الهون و ليلهم خير ليل إذا خلّوا فيما بينهم و بين ربّهم في القيام و السجود.

الصفة الرابعة: [وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً] قال ابن عبّاس: يقولون في سجودهم و قيامهم هذا القول و خشعوا بالنهار و تعبوا بالليل فرقا من عذاب جهنّم و قوله «غراما» أي هلاكا و خسرانا ملحّا لازما و منه الغريم لإلحاحه و إلزامه و فلان مغرم بالنساء أي مولع بهنّ و قيل في الغرام: إنّه تعالى سأل الكفّار ثمن نعمته فما أدّوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النّار [إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً] إشارة إلى كونه مضرّة خالصة دائمة و بئس المقرّ و المقام جهنّم.

الصفة الخامسة: [وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا] و السرف مجاوزة الحدّ في النفقة، و الإقتار التقصير عما لا بدّ منه روى عن معاذ: أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك فقال: من أعطى في غير حقّ فقد أسرف و من منع من حقّ فقد قتر و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: ليس في المأكول و المشروب سرف و إن كثر. و في الكافي عن الصادق عليه السّلام إنّما

ص: 31

الإسراف فيما أفسد المال و أضرّ بالبدن قيل: فما الإقتار؟ قال: أكل الخبز و الملح و أنت تقدر على غيره فما القصد؟ قال: الخبز و الملح و اللبن و الخلّ تقدر على غيره، قيل و السمن مرّة هذا و مرّة هذا. و عنه عليه السّلام أنّه تلا هذه فأخذ قبضه من حصى و قبضها بيده فقال: هذا الإقتار الّذي ذكره اللّه في كتابه ثمّ قبض قبضة اخرى فأرخى كفّه كلّها ثمّ قال: هذا الإسراف ثمّ أخذ قبضة اخرى فأرخى بعضها و أمسك بعضها و قال: هذا القوام.

الصفة السادسة قوله: [وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] أي لا يجعلون للّه سبحانه شريكا بل يوجّهون عبادتهم إليه [وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها [إِلَّا بِالْحَقِ و النفس المحرّم قتلها نفس المسلم و المعاهد و المستثناة قتلها نفس الحربىّ و من يجب قتلها على وجه القود و الارتداد و الزنا بعد الإحصان و للسعي في الأرض بالفساد [وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً] بفتح الهمزة و الزنا هو الفجور بالمرأة في الفرج.

و في هذا دلالة على أنّ أعظم الذنوب بعد الشرك القتل و الزنا و روى البخاريّ و مسلم في صحيحهما بالإسناد عن عبد اللّه بن مسعود قال: سألت رسول اللّه أيّ الذنب أعظم؟

قال: إن تعجل للّه ندّا فهو خلقك قال: قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ان تقتل و لدك مخافة أن يطعم معك قال: ثمّ أيّ؟ قال: أن تتزانى حليلة جارك فأنزل اللّه تصديقها بقوله: «وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ» الآية.

قوله: [وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً] أي عقوبة و جزاء لما فعل قال الفرّاء:

أثمه اللّه يأثمه إثما و أثاما أي جازاه جزاء الإثم و قيل: إنّ أثاما واد في جهنّم ثمّ فسّر سبحانه لقي الأثام بقوله: [يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ] قيل: معناه: إنّه يستحقّ على كلّ معصية منها عقوبة فيضاعف عليه العقاب [وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً] و يدوم في العذاب و إنّما قال: ذلك لأنّه عزّ اسمه قد يوصل الآلام إلى بعض المكلّفين لا على وجه الإهانة.

قوله تعالى: [إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] قال الرازيّ: دلّت الآية على أنّ التوبة مقبولة و الاستثناء لا يدلّ على ذلك لأنّه سبحانه أثبت أنّه يضاعف له العذاب ضعفين فيكفى في صحّة الاستثناء أن لا يضاعف العذاب للتائب و إنّما الدالّ على ذلك قوله:

ص: 32

«فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: توبة القاتل غير مقبولة و زعم أنّ هذه الآية منسوخة بقوله: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً» و قالوا: نزلت الغليظة بعد الليّنة بمدّة يسيرة و قيل: بثمان سنين و اختلفوا في المراد بالتبديل فقال جماعة كابن عبّاس و مجاهد و مقاتل: إنّ التبديل إنّما يكون في الدنيا فيبدّل اللّه قبائح أعمالهم من المعاصي و الكفر بمحاسن الأعمال في الإسلام فيبدّلهم بالكفر إيمانا و بالزنى عفّة و إحصانا فيستوجبوا بها الثواب و قيل: يبدّلهم معناه:

يمحو السّيئة عن العبد و يثبت له بدلها الحسنة، عن سعيد بن المسيّب و مكحول و عمرو بن ميمون، و احتجّوا بالحديث الّذي رواه مسلم في الصحيح مرفوعا إلى أبي ذرّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرض عليه صغار ذنوبه و محي عنه كبارها فيقول: عملت يوم كذا و كذا و كذا و كذا و هو مقرّ لا ينكر و هو مشفق من الكبائر فيقال: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة فيقول: أنّ لي ذنوبا ما أراها هاهنا، قال: و لقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضحك حتّى بدت نواجده. و الحاصل أنّ قوما قالوا: أنّ السيّئة تمحى بالتوبة و الإيمان و العمل الصالح و تكتب الحسنة مع التوبة و الكافر يحبط اللّه عمله و يثبت عليه السيّئات.

[وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] معاصي التائبين رحيما و منعما عليهم بالرحمة و الفضل.

و في الأمالي عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال عليه السّلام: يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتّى يوقف بموقف الحساب فيكون اللّه تعالى هو الّذي يتولّى حسابه لا يطّلع على حسابه أحد من خلقه حتّى إذا أقرّ بسيّئاته قال اللّه للكتبة:

بدّلوها حسنات و أظهروها للناس فيقول الناس حينئذ: ما كان لهذا العبد سيّئة واحدة ثمّ يأمر اللّه به إلى الجنّة فهذا تأويل الآية و هي للمذنبين من شيعتنا خاصّة. و عن الرضا عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حبّنا أهل البيت يكفّر الذنوب و يضاعف الحسنات و إنّ اللّه ليتحمّل من محبّينا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد إلّا ما كان منهم على إضرار و ظلم للمؤمنين فيقول للسيّئات: كوني حسنات.

و في العيون عنه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه: إذا كان يوم القيامة

ص: 33

تجلّي اللّه تعالى لعبده المؤمن فيقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثمّ يغفر له لا يطلع اللّه على ذلك ملكا مقرّبأ و لا نبيّا مرسلا و يستر عليه ما يكره أن يقف عليه أحد ثمّ يقول لسيّئاته: كوني حسنات. و القميّ عنه عليه السّلام قال: إذا كان يوم القيامة أوقف اللّه عزّ و جلّ العبد بين يديه و عرض عليه عمله فينظر في صحيفته فأوّل ما يرى من سيّئاته فيتغيّر لذلك لونه و ترتعد فرائصه ثمّ تعرض عليه حسناته فيفرح لذلك و يبدّل اللّه سيّئاته حسنات و يظهرها للناس فيقول الناس: أما كان لهؤلاء سيّئة واحدة و هو قوله تعالى: «يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و في حديث أبي إسحاق اللّيثيّ عن الباقر عليه السّلام الّذي ورد في طينة المؤمن و طينة الكافر ما معناه أنّ اللّه تعالى يأمر يوم القيامة بأن تؤخذ حسنات أعدائنا فتردّ على شيعتنا و تؤخذ سيّئات محبّينا فتردّ على مبغضينا.

قال: و هو قوله تعالى: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» يبدّل اللّه سيّئات شيعتنا حسنات يبدّل اللّه و حسنات أعدائنا سيّئات.

و في روضة الواعظين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما جلس قوم يذكرون اللّه إلّا نادى بهم مناد من السماء قوموا فقد بدّل اللّه سيّئاتكم حسنات.

قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 71 الى 77]

وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً (73) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75)

خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

و من أقلع عن معاصيه و ندم عليها و تدارك بالعمل الصالح فإنّ التائب بهذه الصورة برجع إلى اللّه مرجعا عظيما جميلا و فرّق جماعة بين التوبة المذكورة في الآية السابقة و هذه الآية و لو لا الفرق لكان هذا تكريرا و قالوا: التوبة الاولى التوبة من القبيح لقبحه و الرجوع عن الشرك و المعاصي و التوبة المذكورة في هذه الآية الرجوع و الانقطاع إلى اللّه

ص: 34

لطلب رضائه فإنّ من انقطع إلى خدمة بعض الملوك فقد أحرز شرفا فكيف المنقطع إلى اللّه؟

و قيل في تأويل الآية: إنّ من تاب و أتى بتوبة صحيحة في الماضي على سبيل الإخلاص فقد وعده اللّه بأنه سيوفّقه للتوبة في المستقبل و هذا من أعظم البشارات.

الصفة السابعة [وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ] أي لا يشهدون شهادة الكذب أقيم المضاف إليه مقام المضاف و قيل: المعنى: لا يشهدون مواضع الكذب و يحتمل أن يكون المراد حضور كلّ موضع يجري فيه ما لا ينبغي فيدخل فيه أعياد المشركين و مجامع الفسّاق لأنّ من خالط أهل الشرّ و حضر مجامعهم فقد شاركهم في تلك المعصية بل قد يكون حضوره سببا لوجود تلك المعصية و الزيادة فيها لأنّ الذي حملهم على فعله استحسان النظّارة و رغبتهم في النظر إليه. قال محمّد بن الحنفيّة: الزور، الغنا و كلّ هذه الوجوه محتملة و لكن استعماله في الكذب أكثر.

[وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً] و قيل في اللغو: كلّ ما يجب أن يتّقى و يترك.

و منهم فسرّ اللغو بكلّ ما ليس بطاعة، و هو ضعيف؛ لأنّ المباحات لا تعدّ لغوا أي إذا مرّوا بأهل اللغو يكرمون أنفسهم عن مثل حال اللغو و إكرامهم بالإعراض عن اللغو و بترك المعاونة عليه و يدخل في اللغو جميع ما لا ينبغي و أصل الكلمة مأخوذة من قولهم:

ناقة كريمة إذا كانت لا تبالي بما يحلب منها للغزارة فاستعير ذلك للصفح عن الذنب.

و قيل: مرورهم كراما هو أن يمرّوا بمن يسبّهم فيصفحون عنه و قيل: هم الّذين إذا أرادوا ذكر الفرج كنّوا عنه.

الصفة الثامنة قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً] قال صاحب الكشّاف: الآية ليس بنفي للخرور و إنّما هو إثبات له و نفي للصمم و العمى كما يقال: لا يلقاني زيد مسلما هو نفي للإسلام لا للّقاء. و المعنى أنّهم إذا ذكّروا بالآيات أكبّوا عليها حرصا على استماعها مقبلين على من يذكّر بها.

و حاصل المعنى أنّهم إذا وعظوا بالقرآن و الأدلّة نظروا فيها و تفكّروا في مقتضياتها و لم يقعوا عليها كالأصمّ و الأعمى بحيث لا ينتفع منها كالمنافقين.

الصفة التاسعة قوله: [وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا

ص: 35

قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً] و قرئ «ذرّيّتنا» و المراد أنّهم سألوا أزواجا و ذرّيّة يكون لهم قرّة أعين في الدين لا في الدنيا فأحبّوا أن يكونوا معهم في التمسّك بطاعة اللّه فتمّ سرورهم بذلك في الجنّة، أي هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من الطاعة و الصلاح.

[وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً] أي اجعلنا ممّن يقتدي بنا المتّقون و طلبوا العزّ بالتقوى لا بالدنيا و يحتمل أن يكون المعنى و اجعل لنا المتّقين إماما فحينئذ اللام و إن ورد على كلمة المتّقين و لكن في المعنى: على كلمة «نا» و لكن الأقرب أنّهم سألوا اللّه أن يبلغهم في الطاعة و العبادة المبلغ الّذي يشار إليهم و يقتدى بهم.

و في الآية على هذا المعنى ما يدلّ على أنّ الرياسة في الدين أمر مرغوب فيه و ينبغي أن يطلب كما قال الخليل: «وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» (1).

قوله تعالى: [أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا] أي الموصوفين بهذه الصفات يجزون الغرفة و الغرفة في اللغة العلية و كلّ بناء عال فهو غرفة و المراد أنّ لهم الدرجات العالية في الجنّة بسبب صيرهم و ذكر الصبر و لم يذكر المصبور عنه ليعمّ كلّ نوع من المشاقّ من ترك الشهوات و من مشاقّ الطاعات و أذيّة الجهلة من الناس و مشاقّ الجهاد و الفقر و رياضة النفس و المكاره في سبيل اللّه.

[وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً] و التحيّة الدعاء بالتعمّر و السلام الدعاء بالسلامة و حاصل التحيّة كونهم دائمين على نعيم الجنّة في مقابلة قوله «يلق أثاما» [خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً] فبيّن سبحانه أنّ الموصوفين مؤبّدون في هذه النعم أي حسنت الغرفة من حيث الاستقرار و المقام.

قوله: [قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي قل يا محمّد: ما يصنع بكم ربّي؟ أو لا يبالي بكم (2) عن أبي عمرو بن العلا و ما لا يعبأ به فوجوده و عدمه سواء و المعنى: قل للمشركين: أيّ نفع له سبحانه فيكم؟ و أيّ ضرر يعود اليه من عدمكم؟ و أيّ قدرتكم عند اللّه حتّى يدعوكم إلى الإيمان؟ لكنّ الواجب في الحكمة دعاؤكم إلى الدين و إرسال الرسول و قد فعل و قيل: معناه: لو لا عبادتكم له و إيمانكم به و توحيدكم إيّاه، عن الكلبيّ

ص: 36


1- الشعراء: 84.
2- و عليه ما فتكون «ما» نافية.

و مقاتل و مجاهد فيكون الدعاء بمعنى العبادة و على هذا المعنى الآية تدلّ على أنّ من لا يعبد اللّه و لا يطيعه فلا وزن له عند اللّه و قيل: معناه: لو لا دعاؤكم له إذا مسّكم ضرّ أو أصابكم سوء رغبة و خضوعا له، روى العيّاشيّ بإسناده عن بريد بن معاوية العجليّ قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: كثرة القراءة أفضل أم كثرة الدعاء؟ قال عليه السلام: كثرة الدعاء أفضل و قرأ هذه الآية.

قوله: [فَقَدْ كَذَّبْتُمْ الخطاب لأهل مكّة أي إنّ اللّه دعاكم بواسطه الرسول إلى توحيده و عبادته فقد كذّبتم الرسول [فَسَوْفَ يَكُونُ العذاب [لِزاماً] أي فسوف يكون عقابه على تكذيبكم رسوله لازما لكم و واقعا بكم لا محالة أو المعنى: ما خلقتكم و بي إليكم حاجة إلّا أن تسألونى فأعطيكم و تستغفروني فأغفر لكم و أعلمتكم أنّ حكمي أنّي لا أعتدّ بعبادي إلّا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم و مخالفتكم و هو عذاب الآخرة و نظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه:

إنّ من عادتي أن احسن إلى من أطاعني و قد عصيت فسوف ترى ما يحلّ بك من عصيانك.

فإن قيل: الخطاب إلى من يتوجّه؟ فالخطاب يتوجّه إلى المكلّف على الإطلاق و ترك اسم «كان» للعلم به لأنّ بسبب التكذيب يكون العذاب لازما. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 37

سورة الشعراء

اشارة

مكية إلّا قوله «وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» إلى آخر السورة فإنّها مدنيّة.

فضلها: عن أبيّ بن كعب: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح و كذّب به و هود و شعيب و صالح و إبراهيم و بعدد من صدّق بمحمّد و كذّب بعيسى.

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء اللّه و أسكنه اللّه في جنّة عدن وسط الجنان مع النبيّين و المرسلين و الوصيّين الراشدين و لم يصبه في الدنيا بؤس أبدا و اعطي من الأجر في الآخرة حتّى يرضى و فوق رضاه و زوّجه اللّه مائة حوراء من الحور العين.

ص: 38

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الشعراء (26): الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

قرأ بعض مثل حمزة بإظهار النون بعد السين و الآخرون بالإدغام. قد ذكر معاني الحروف المقطّعة في أوّل البقرة. و قال بعض: إنّ «طس» و «طسم» من أسماء القرآن و قال ابن عبّاس في رواية الوالبيّ: «طسم» قسم و هو من أسماء اللّه. و قال القرطبيّ: أقسم اللّه بطوله و سنائه و ملكه. و روي عن محمّد بن الحنفيّة عن عليّ عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

لمّا نزلت «طسم» قال: الطاء طور سيناء و سين الإسكندريّة و الميم مكّة. و قيل:

الطاء شجرة طوبى و السين سورة المنتهى و الميم محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

[تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أشار بتلك إلى ما ليس بحاضر لكنّه متوقّع فهو كالحاضر لحضور المعنى في النفس و التقدير: تلك الآيات الّتي و عدتم بها هي آيات القرآن الّذي يبيّن الحقّ من الباطل.

[لَعَلَّكَ باخِعٌ تهلك [نَفْسَكَ و قاتل نفسك ب [أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بأن يقيموا على الكفر. و إنّما قال سبحانه ذلك تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و تخفيفا عن اغتمامه. البخع أن يبلغ بالذبح النخاع و هو الخرم النافذ في ثقب الفقرات و ذلك أقصى حدّ الذبح و كلمة «لعلّ» للإشفاق.

فإن قيل: إنّ القوم لمّا كانوا كفّارا فكيف يكون الآيات مبيّنة لهم ما يلزمهم و إنّما تبيّن بذلك الأحكام؟

ص: 39

قلنا: ألفاظ القرآن من حيث تعذر عليهم أن يأتوا بمثله يستدلّ به على أنّه كلام خالقهم فبيّن به التوحيد و دليله و كذلك لعجزهم بالإتيان يبيّن و يثبت النبوّة و إذا ثبت هذا فصارت آيات القرآن كافية في كلّ الأصول و الفروع أجمع ثمّ بيّن سبحانه أنّه قادر على أن ينزّل آية يذلّون عندها و يخضعون.

فإن قيل: كيف صحّ مجي ء «خاضعين» خبرا عن الأعناق لأنّها وصفت بالخضوع الّذي هو صفة للعقلاء؟

قيل: «خاضعين» مثل قوله: «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» (1) أو المراد جماعات الناس تقول:

جاء عنق من الناس أي فوج فحينئذ معناه: أصحاب الأعناق، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقام المضاف لدلالة الكلام عليه و قد يوصف ما لا يعقل بصفة من يعقل في كلام العرب.

و ذكر أبو حمزة الثماليّ في هذه الآية أنّ الآية صوت يسمع من السماء في النصف من رمضان و تخرج له العواتق من البيوت.

و قال ابن عبّاس: نزلت فينا و في بني اميّة قال: سيكون لنا عليهم الدولة فتخضع لنا أعناقهم بعد صعوبتها و تلين، و هي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر.

و في الإرشاد قال المفيد عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: سيفعل اللّه ذلك بهم قيل: و من هم؟ قال: بنو اميّة و شيعتهم، قال: و ما الآية؟ قال: ركود الشمس ما بين زوال الشمس إلى وقت العصر و خروج صدر و وجه في عين الشمس يعرف بحسبه و نسبه و ذلك في زمان السفيانيّ و عندها يكون بواره و بوار قومه. و في الإكمال عن الرضا عليه السّلام في حديث يصف فيه القائم قال: و هو الّذي ينادي مناد من السماء يسمعه جميع أهل الأرض بالدعاء إليه يقول: ألا إنّ حجّة اللّه قد ظهرت عند بيت اللّه فاتّبعوه فإنّ الحقّ معه و فيه و هو قول اللّه تعالى: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ» الآية.

قوله تعالى: [وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أخبر سبحانه عن حال الكفّار أنّه لا يأتيهم ذكر جديد يعني القرآن كما: قال «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» (2) إلّا أعرضوا عنه و لم يتدبّروا فيه [فَقَدْ كَذَّبُوا

ص: 40


1- يوسف: 4.
2- الحجر: 9.

فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يوم القيامة فنبّه تعالى بأنّه مع قدرته على أن يجعلهم ملجئين بالإيمان بسبب الآية المنزلة رحيم بهم من حيث يأتيهم حالا بعد حال بالقرآن و هو الذكر و يكرّر عليهم و هم مع ذلك على حدّ واحد من الإعراض و التكذيب و الاستهزاء فلذلك زجرهم بقوله: «فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» و هو كقوله «وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» (1) ثمّ إنّه سبحانه بيّن أنّ مع إنزاله القرآن حالا فحالا لتدبّرهم قد أظهر أيضا أدلّة تحدث حالا بعد حال لتعقّلهم في القادر الحكيم فقال: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ و الزوج هو الصنف و الكريم صفة لكلّ ما يرضى و يحمد في بابه يقال: وجه كريم إذا كان مرضيّا في حسنه و جماله و كتاب كريم إذا كان مرضيّا في فوائده و معانيه و النبات الكريم المرضيّ في منافعه، و إنّه وصفه بالكريم لأنّه ما أنبت شيئا إلّا و فيه فائدة عظيمة و إن غفل عنها الغافلون.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً] و دلالة في ذلك الإنبات على قدرتنا و وحدانيّتنا [وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي لا يصدّقون و لا يعترفون به إمّا عنادا و تقليدا لأسلافهم و هربا من مشقّة التكليف قال سيبويه: «كانَ» هنا زائدة [وَ إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد [لَهُوَ الْعَزِيزُ] أي الغالب القادر الّذي لا يعجز، المنعم [الرَّحِيمُ على عباده بأنواع النعم.

ص: 41


1- ص: 87.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 10 الى 30]

وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)

قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)

قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)

قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)

قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30)

المعنى: و اتل يا محمّد عليهم الوقت الّذي و اقصص لهم النداء الّذي نادى ربّك موسى [أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ و سجّل سبحانه هذا الاسم عليهم لأنّهم ظلموا أنفسهم بالكفر و ظلموا بني إسرائيل بالعذاب و لا شك عندنا أي الإماميّة و المعتزلة أنّ النداء الّذي سمعه موسى عليه السّلام من جنس الحروف و الأصوات حلافا للأشاعرة فإنّ عندهم المسموع هو الكلام القديم و قالوا: كما أنّ ذاته تعالى منزّه لا تشبه سائر الأشياء مع أنّها معلومة فكذا كلامه منزّه عن مشابهة الحروف و الأصوات مع أنّه مسموع.

و بالجملة أمره سبحانه أن يأت فرعون و قومه فقال: [قَوْمَ فِرْعَوْنَ و هو عطف بيان للقوم الظالمين و قوله [أَ لا يَتَّقُونَ قرئ بكسر النون عوضا عن الياء و قرئ بالخطاب لأنّ الأهمّ في بدء البعثة لكلّ رسول أن ينهي قومه عن الشرك و عن القبائح و لذا قال سبحانه: ألا يتّقون عن الشرك و الظلم؟

فإن قيل: على كون الضمير للخطاب و الالتفات فما الفائدة و المخاطبون كانوا غائبين؟

قلنا: اجري ذلك في تكليم موسى في معنى إجرائهم بالحضرة كما يقال: ألا تستحي من الناس؟

[قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فطلب موسى أن يبعث معه هارون فذكر الأمور الداعية له في ذلك الطلب فقال: أخاف أن ينسبون إليّ الكذب و ذلك موجب لضيق صدري و قلبي و ذلك سبب لتغيّر الكلام على من يكون في لسانه رثّة و حبسة.

و أما هارون فليس كذلك [فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أراد قتله القبطيّ و المراد أنّ لهم عليّ ذنب بزعمهم لا أنّه أذنب بهذا القتل [فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ خاف أن

ص: 42

يقتلوه بذلك القتل.

قال اللّه: [كَلَّا] أي لا يكون ذلك و لن يقتلوك به فإنّي لا أسلّطهم عليك [فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي فاذهب أنت و أخوك نحن نحفظكم و سامعون ما يجري بينكم، و «مستمعون» هنا بمعنى سامعون لأنّ الاستماع لا يجوز عليه سبحانه.

قوله: [فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فإن قيل: هلّا ثنّي الرسول كما ثنّي في قوله «فَقُولا» و لم يقل: «رسولا ربّ العالمين»؟ لأنّ الرسول قد يكون لمعنى الجمع قال الهذليّ:

ألكني إليها و خير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر

أو المعنى ذو رسالة أو الرسول اسم للماهيّة من غير بيان أنّ تلك الماهيّة واحدة أو كثيرة و الماهيّة محمولة على الواحد و على الأكثر فصحّ قوله: «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ».

[أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي أمرك اللّه بأن أطلق بني إسرائيل من الاستعباد و خلّ عنهم. و في الكلام حذف تقديره: إنّهما أتيا فرعون و بلّغا الرسالة.

[قالَ فرعون أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً] و التربية تنشئة الشي ء حالا بعد حال معناه:

ألم تكن فينا وليدا صبيّا صغيرا فربّيناك؟ [وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي أقمت سنين كثيرة عندنا و هي قيل: ثمانية عشر. و قيل: ثلاثين سنة، و قيل: أربعين سنة. و أظهر لؤمه حيث ذكر صنائعه.

[وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني قتل القبطيّ [وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ لنعمتنا و تربيتنا، أو المعنى: أنت من الكافرين حيث لا تعبدنا [قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي فعلت هذه و أنا من الجاهلين بأنّ هذه الوكزة موجبة للقتل لأنّي ما تعمّدته و إنّما وقع منّي على وجه الخطأ كمن يرمي طائرا و أصاب إنسانا [فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً] أي نبوّة و جعلني نبيّا و هو الّذي يدعو إليه الحكمة من التوراة و العلم بالشرائع [وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ و نبيّا من الأنبياء.

[وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ قيل فيه أقوال:

ص: 43

أحدها أنّ همزة التوبيخ مضمر و المعنى: أو تلك نعمة تمنّها عليّ أن عبّدت قومي بني إسرائيل و لم تعبّدني؟

و الثاني أنّ المعنى: أ تمنّ عليّ بأن ربّيتني و استعبدت بني إسرائيل فهذه ليست بنعمة يريد أنّ اتّخاذك بني إسرائيل الّذين هم قومي أحبط نعمتك.

و الثالث أنّ معناه أنّك لو كنت لا تستعبد بني إسرائيل و لا تقتل أبناءهم لكانت امّي مستغنية عن قذفي في التابوت و إنّك تمنّ عليّ بما كان بلاؤك سببا و لو لم تعبّدهم لكفلني أهلي و «تلك» إشارة إلى خصلة مبهمة يفسّرها: أن عبّدت بني إسرائيل.

[قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ لأنّ موسى و هارون قالا: إنّا رسول ربّ العالمين، قال: أيّ جنس ربّ العالمين الّذي تدعوني إلى عبادته؟ [قالَ موسى في جوابه: [رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي مبدعهما و خالقهما [وَ ما بَيْنَهُمَا] و المراد جهتيهما- و لذا أتى بالتثنية- من الحيوان و النبات و الجماد [إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنّ الربّ من كان بهذه الصفة أو موقنين بأنّ هذه الأشياء محدثة و المحدث لا بدّ له من محدث، و لم يشتغل موسى عليه السّلام بالجواب عمّا سأله فرعون لأنّ اللّه تعالى ليس بجنس بل اشتغل ببيان صفاته و ربوبيّته و الحجّة الدالّة على وحدانيّة من خلقه الّذي يعجز المخلوقون عن مثله.

[قالَ فرعون: [لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ يريد ألا تستمعون مقالة موسى؟ أو ألا تصغون إليه و تفهمون ما يقوله؟ تعجّبا من قوله. يريد: انظروا إلى هذا الرجل أسأله عن شي ء فيجيب غيره فأجاب موسى في الرفق و تأكيد الحجّة [قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ تأكيدا لما قبله من الحجّة لأنّ فرعون يدّعي الربوبيّة على أهل عصره فبيّن موسى أنّ المستحقّ للربوبيّة من هو ربّ كلّ عصر فعند ذلك موّه عليهم بهذا الكلام.

[قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ لأنّه لا يوافق جوابه سؤالي كما يفعل المجنون فلمّا سمع موسى منه هذه النسبة أكّد الحجّة و [قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ .

فلمّا طال الاحتجاج على فرعون [قالَ مهدّدا لموسى: [لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ و كان إذا سجن أحدا لم يخرجه حتّى يموت فلمّا توعّده

ص: 44

بالسجن قال موسى: [أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ معناه: أ تسجنني و لو جئتك بشي ء و أمر ظاهر تعرف صدقي عن كذبك و حجّة ظاهرة تدلّ على نبوّتي و إنّما قال: «لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» إشارة إلى أنّي جاعلك واحدا من جملتهم في سجوني و كان سجنه أشدّ من القتل و آخره الموت أو القتل و كان من عادته أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فردا لا يبصر فيها و لا يسمع. و الواو في قوله «أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ» و او الحال دخلت عليها همزة الاستفهام معناه: أ تفعل بي ذلك و لو جئتك بشي ء ظاهر.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 31 الى 50]

قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35)

قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40)

فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45)

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50)

قال فرعون لموسى عليه السّلام: هات ما ادّعيته من المعجزات إن كنت صادقا [فَأَلْقى موسى حينئذ عصاه [فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ حيّة عظيمة أو الذكر من الحيّات العظام [مُبِينٌ لا شبهة فيه، روي أنّه لمّا انقلبت العصا حيّة ارتفعت في السماء قدر ميل ثمّ انحطّت مقبلة

ص: 45

إلى فرعون و جعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، و يقول فرعون: يا موسى أسألك بالّذي أرسلك ألّا أخذتها فعادت عصا.

ثمّ إنّ موسى لمّا أتى بهذه الآية قال له فرعون: هل غيرها؟ قال: نعم، فأراه يده ثمّ دخلها في جيبه ثمّ أخرجها فإذا هي بيضاء تضي ء الوادي من شدّة بياضها من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس و هذا قوله: [وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجّة على قومه [قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ و كان الزمان علم السحر كثير عندهم و روّج هذا القول عليهم بأنّه [يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ و هذا يجري مجرى التنفير عنه لئلّا يقبلوا قوله، و معلوم أنّ مفارقة الوطن المألوف أمر صعب ينفّرهم عنه بذلك.

ثمّ قال: [فَما ذا تَأْمُرُونَ فأظهر من نفسه أنّي متّبع لرأيكم و بهذا الكلام جذب قلوبهم إلى نفسه و أبعدهم عن موسى فعند هذه الكلمات اتّفقوا على جواب واحد [قالُوا أَرْجِهْ أو أرجئه بالهمز و التخفيف لغتان أي أخّره و مناظرته لوقت اجتماع السحرة، و قيل: معناه: احبسه. روي أنّ فرعون أراد قتله و لم يكن يصل إليه فقالوا له:

لا تفعل فإنّك إن فعلته أدخلت على الناس شبهة و لكن أرجه [وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ بإنفاذ [حاشِرِينَ و جامعين يجمعون السحرة من جميع البلدان فيأتون لك بكلّ عالم في السحر فحشروهم [فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي لوقت معيّن اختاروه و هو يوم عيدهم يوم الزينة [وَ قِيلَ لِلنَّاسِ أي لأهل مصر: [هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي إنّهم بعثوا على الحضور من الناس ليشاهدوا ما يكون من الجانبين لعلّنا نتّبع السحرة أي إنّا نرجو أن يكون الغلبة للسحرة فنتّبعهم و كان ذلك الأمر مطلوب موسى لتظهر حجّته.

[فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ نَعَمْ فابتدءوا بطلب الجزاء و هو إمّا المال أو الجاه فبذل لهم ذلك و أكّده بقوله: [وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ لأنّه نهاية مقصود هم المال و رفع المنزلة.

[قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ قال للسحرة: ألقوا ما أنتم هيّأتم من

ص: 46

أموركم و هذا بصورة الأمر و لكنّ المراد به التحدّي [فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فطرحوا ما كان من الحبال و العصيّ المموّهة بالسحر المعمولة بالزيبق و بعض الأدوية المركّبة المعدّة لهذا الفنّ و أقسموا بعزّة فرعون و المراد من العزّة القوّة الّتي تمتنع بها من لحاق ضيم لعلوّ منزلتها و كان هذا القول قسم منهم و إن كان غير مبرور [فَأَلْقى عند ذلك [مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي إنّ العصا؟؟ لقفت و تناولت و خلست جميع ما موّهوا به في أوجز مدّة من الزمان.

[فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ و قد بهرهم ما أظهره موسى و علموا أنّ ذلك من عند اللّه إذ كانوا أساتيد في علم السحر و عرفوا أنّ أحدا من البشر لا يقدر على مثل ذلك [قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ بعد ذلك قال فرعون مهدّدا لهم:

أ صدقتمو فيما يدعو إليه [قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في تصديقه؟ [إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيما بعد فيما أفعله بكم من العقوبة ثمّ فسّر لهم بقوله:

[لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ يعني قطع اليد من جانب و الرجل من الجانب الآخر بقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى [وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ مع ذلك على الجذوع و لا أترك أحدا منكم لا تناله عقوبتي.

[قالُوا] في جوابه عن ذلك: [لا ضَيْرَ] أي لا ضرر علينا في ما تفعله يقال: ضاره يضيره ضيرا و ضرّه يضرّه ضرّا [إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إلي ثواب ربّنا راجعون و لا يضرّنا قطعك و صلبك فإنّه ألم ساعة ثمّ إلى النعيم الدائم.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 51 الى 68]

إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55)

وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (57) وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)

فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

ص: 47

قوله [إِنَّا نَطْمَعُ إشارة إلى الكفر و السحر منهم و الطمع في هذا الموضع يحتمل أن يكون اليقين كقول إبراهيم: «وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (1) و يحتمل أن يكون بمعنى الظنّ لأنّ المرء لا يعلم ما سيجي ء من بعد و أمّا قوله: [أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فالمراد: لأنّا كنّا مؤمنين من الجماعة الّذين حضروا ذلك الموقف. و قرئ «إن» على معنى الشرطيّة و أنّهم أوّل من آمن لموسى في ذلك اليوم من أهل الموقف عند فرعون و أنّ بني إسرائيل كانوا مصدّقين بموسى من قبل.

قوله: [وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي و أسرى و سرى لغتان فحينئذ يجوز بهمزة القطع و الوصل. و لمّا ظهر أمر موسى عليه السّلام أمره اللّه بأن يخرج ببني إسرائيل و هم الّذين من قوم موسى و آمنوا به و أراد سبحانه تخليصهم من يد فرعون و تمليكهم بلاد فرعون و ما يؤدّي إلى استيصال قوم فرعون و هو عليه السّلام أسرى بهم، ثمّ إنّ قوم موسى قالوا لقوم فرعون: إنّ لنا في هذا الليلة عيدا ثمّ استعاروا منهم حليّهم و حللهم بهذا السبب فخرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر.

فلمّا سمع فرعون ذلك [أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يحشرون و يجمعون إليه الناس و أمر أن يجمعوا له الجيش ليقبضوا على موسى و قومه. فلمّا اجتمع الناس عنده قال فرعون لهم: [إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ و الشرذمة عصبة قليلة من عصب كثيرة أي عصابة قليلة قوم موسى. قال المفسّرون: الشرذمة الّذين قلّلهم فرعون ستّمائة ألف و لا يحصى عدد أصحاب فرعون فأطمع فرعون أصحابه بقلّة أصحاب موسى و وصفهم بالقلّة ثمّ قال: [وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ يعني يفعلون أفعالا تغيّظنا و تضيّق صدورنا و اختلفوا في تلك الأفعال على وجوه:

أحدها: ما تقدّم من أمر الحليّ، و ثانيها: خروج بني إسرائيل عن عبوديّة فرعون و استقلالهم في الدين و لم يتّخذوا فرعون إلها. قوله: [وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ و قرئ «حذرون» و الحاذر الحذر المستعدّ و الحذر المتيقظ أي إنّا شاكو السلاح و مستعدّون و ذو و قوّة.

ص: 48


1- السورة: 82.

ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة إهلاكهم بقوله: [فَأَخْرَجْناهُمْ يعني آل فرعون [مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتين [وَ عُيُونٍ جارية [وَ كُنُوزٍ] أي أموال مخبأة و دفائن [وَ مَقامٍ كَرِيمٍ قيل:

المراد منابر تخطب عليها الخطباء، عن ابن عبّاس، و قيل: هو مجالس الأعيان و الأمراء الّتي كان تحفّ بها الأتباع، و قيل: المنازل الحسان الظريفة الّتي كانوا مقيمين فيها في كرامة و عزّة. و قيل: مرابط الخيل لتفرّد الرؤساء بارتباطها.

[كَذلِكَ أي أمرهم كما وصفنا لك [وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ و ذلك أنّ اللّه ردّ بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون و قومه و أعطاهم جميع ما كان لفرعون و قومه من الأموال و المساكن و العقار و الديار.

[فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ يعني قوم فرعون أدركوا موسى و أصحابه حين شرقت الشمس و ظهر ضوؤها و ذلك [فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ و تقابلا بحيث يرى كلّ فريق صاحبه [قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي سيد ركنا جمع فرعون و لا طاقة لنا بهم [قالَ موسى ثقة بنصر اللّه [كَلَّا] لن يدركونا و لا يكون ما تظنّون فانتهوا عن هذا القول [إِنَّ مَعِي رَبِّي بنصره [سَيَهْدِينِ أي سيرشدني إلى طريق النجاة و سيكفيني.

[فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ] و هو نهر النيل ما بين أيلة و مصر، و قيل: هو بحر قلزم ما بين مكّة و اليمن إلى مصر، و فيه حذف أي فضرب [فَانْفَلَقَ أي فانشقّ البحر و ظهر فيه اثنا عشر طريقا و قام الماء عن يمين الطريق و يساره كالجبل العظيم و ذلك قوله: [فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي فكان كلّ قطعة من البحر كالجبل العظيم و الفرق الاسم لما انفرق.

روي عن ابن عبّاس أنّ موسى عليه السّلام لمّا انتهى إلى البحر مع بني إسرائيل أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا إلّا يوشع بن نون فإنّه ضرب دابّته و خاض في البحر حتّى عبر ثمّ رجع إليهم فأبوا أن يخوضوا فقال موسى للبحر: انفرق لي فقال ما أمرت بذلك و لا يعبر عليّ العصاة فقال موسى: يا ربّ قد أبى البحر أن ينفرق فقيل له: اضرب بعصاك البحر فضربه به ما نفرق و صار فيه اثنا عشر طريقا لكلّ سبط منهم طريق فقال: كلّ سبط:

قتل أصحابنا فعند ذلك دعا موسى ربّه فجعلها مناظر كهيئة الطبقات حتّى نظر بعضهم

ص: 49

إلى بعض على أرض يا بسة.

و عن عطاء السائب: إنّ جبرئيل كان بين بني إسرائيل و بين آل فرعون و كان يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأوّلكم، و يستقبل القبط فيقول: رويدكم ليلحق آخركم.

و الطود الجبل المتطاول.

قوله: [وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي و قرّبنا ثمّ أي حيث انفلق البحر للآخرين قوم فرعون و الحاصل: قرّبنا إلى البحر فرعون و قومه حتّى أغرقناهم، عن ابن عبّاس. و قيل: معناه: جمعنا في البحر فرعون و قومه. و قيل: معناه: و قرّبنا هم إلى المنيّة لمجي ء وقت إهلاكهم حيث انفلق البحر للآخرين قوم فرعون و جمعناهم حتّى لا ينجو منهم أحد. و من الناس من قال: و «أزلفنا» أي حبسنا فرعون و قومه عند طلبهم موسى بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم فوقفوا حيارى. و قرئ «أزلقنا» بالقاف أي أزللنا أقدامهم و أذهبنا عزّهم، و يحتمل أن يجعل اللّه طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبسا و أزلقهم.

و هاهنا بحث و هو أنّه تعالى أضاف ذلك الإزلاف إلى نفسه مع أنّ اجتماعهم هنا لك كفر؛ و أجيب عنه بأنّ قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل و بنو إسرائيل إنّما فعلوا ذلك بأمر اللّه فلمّا كان مسيرهم بتدبيره و هؤلاء تبعوا ذلك أضافه إلى نفسه توسّعا و هذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيقول: أتعبني الغلام؛ لأنّه حدث ذلك التعب عند فعله.

و أجيب أيضا أي أزلفنا هم إلى الموت لأجل أنّهم في ذلك الوقت قربت آجالهم قال الشاعر:

و كلّ يوم مضى أو ليلة سلفت فيها النفوس إلى الآجال تزدلف

و أجاب الكعبيّ من هذه الشبهة أنّه تعالى لمّا حلم عنهم و ترك البحر يبسا و طمعوا في عبوره جازت الإضافة كالرجل يسفه عليه صاحبه مرارا فيحلم عنه فإذا تمادى في السفه و أراد قدرته عليه قال له: أنا أحوجتك إلى هذا و صبّرتك بحلمي، لا يريد بذلك أنّه أراد ما فعل، أو جمعهم ليعاقبهم و يغرقهم للاستحقاق. و هذا الجواب أكمل من جملة الأجوبة.

ص: 50

قوله تعالى: [وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ يعني بني إسرائيل أنجينا هم من الغرق و الهلاك [ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي فرعون و جنوده.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً] أي إنّ الّذي حدث من هذه الأمور في البحر و إهلاك فرعون و قومه و نجاة موسى و قومه آية عجيبة من الآيات العظيمة الدالّة على القدرة و لمّا كان ما وقع مصلحة في الدين و الدنيا و على صدق موسى و لاعتبار المعترين فيكون تحذيرا من الإقدام على مخالفة أمر اللّه تعالى و أمر رسوله و يكون فيه عبرة لامّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ قال عقيب ذلك: [وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ و في ذلك تسلية لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله لأنّه قد كان يغتمّ بتكذيب قومه فنبّهه اللّه تعالى بهذا البيان على أنّ له أسوة بموسى فإنّ الّذي ظهر على موسى من هذه المعجزات العظام الّتي تبهر العقول لم يمنع من أكثرهم كذّبوه و كفروا به مع مشاهدتهم لما شاهدوه في البحر و غيره فكذلك أنت يا محمّد لا تعجب من تكذيب قومك أكثرهم لك و اصبر على إيذائهم فقد جرى العادة في أسلافهم من إنكار الحقّ و قبول الباطل، و السبب في تكرّر بيان هذه القصص في القرآن لأنّها من عظائم الأمور الواقعة من الأمم فيكرّرها سبحانه تعالى ليتسلّى بها رسوله صلّى اللّه عليه و آله و لئلّا يضيق صدره.

[وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ] الغالب سلطانه [الرَّحِيمُ بخلقه.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 69 الى 73]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)

فقد ذكر سبحانه في هذه الآية قصّة إبراهيم عليه السّلام ليعرف محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنّ حزن إبراهيم كان بسبب عدم إيمان قومه و هو كان حزنه مثل حزنك على قومك و أيّ حزن أعظم من أن يرى الإنسان أقاربه في النار و هو لا يتمكّن من إنقاذهم إلّا بالدعوة و لا يفيد الدعوة.

فقال لهم: [ما تَعْبُدُونَ و كان يعلم إبراهيم أنّهم عبدة الأصنام و لكنّه سألهم

ص: 51

لإلقاء الحجّة عليهم فأجابوا بقولهم: [قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ و العكوف الإقامة على الشي ء و إنّما قالوا: نظلّ، لأنّهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل و غرضهم بهذا البيان من الابتهاج و الافتخار بهذه العبادة و إلّا لكان يكفيهم في الجواب بقولهم:

«نَعْبُدُ أَصْناماً».

[ف قالَ إبراهيم منبّها على فساد طريقتهم: [هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ و في الكلام حذف و التقدير: هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون، و الحاصل أنّ الّذين تعبدونهم هل يسمعون دعاءكم فيستجيبون لكم في بذل منفعة أو دفع مضرّة.

[سورة الشعراء (26): آية 74]

قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74)

. و هذا إخبار منهم عن تقليدهم صرفا آباءهم في عبادة الأصنام من غير نفع أو ضرّ فقال إبراهيم منكرا لهم على التقليد:

[سورة الشعراء (26): الآيات 75 الى 77]

قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77)

أي أ نظرتم و تأمّلتم ما كنتم تعبدونه أنتم و القدماء من أسلافكم و آبائكم أحقّ أم باطل؟ و مقصوده أنّ الباطل لا يتغيّر بأن يكون قديما أو حديثا أو يكون فاعلوه كثيرين أو قليلين.

[فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ معناه أنّ عبّاد الأصنام مع الأصنام عدوّ لي، و غلب من يعقل على ما لا يعقل في الضمير و لذا أتى بجمع العقلاء لمّا وصفها بالعداوة الّتي لا تكون إلّا من العقلاء و جعل الأصنام كالعدوّ في الضرر من جهة عبادتها فاستثنى من المعبودين إلّا اللّه فقال: [إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ .

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 78 الى 104]

الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ (79) وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)

يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)

مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ (94) وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97)

إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَ ما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

ص: 52

قوله: [الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ و لمّا قال إبراهيم «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ»- و العدوّ و الصديق يجيئان في الواحد و الجمع- و بيان العداوة من الجماد أنّه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتّى يقع منهم البراءة عن عابديهم و التوبيخ منهم عابديهم كما قال سبحانه في سورة مريم في الأوثان قوله: «كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» (1) فأطلق إبراهيم لفظ العدوّ عليها على هذا المعنى أو بسببهم يقع الضرر من العذاب، و هذا فعل العدوّ، فاستثنى إلّا ربّ العالمين و هذا الاستثناء منقطع أي لكن ربّ العالمين ثمّ وصف ربّه بما يستحقّ العبادة فأثنى عليه بأنّه خلقه و هداه و بهما يحصل جميع المنافع.

و هاهنا نكتة و هو أنّ قوله: «الَّذِي خَلَقَنِي» ذكره بلفظ الماضي «ثمّ يَهْدِينِ» بلفظ المستقبل و السبب في ذلك أنّ خلق الذات لا يتجدّد في الدنيا بل لمّا وقع بقي إلى الأمد المعلوم و أمّا هدايته فهي يتكرّر كلّ حين و أوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدينيّة أو الدنيويّة و ذلك بأن يحكم العقل بتميّز الحقّ عن الباطل و الخير عن الشرّ فخلقه في الماضي دفعة و الهداية إلى مصالح الدين بالدنيا بضروب الهدايات كلّ لحظة و لمحة.

و البيان الثاني من قول إبراهيم: [وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ و قد دخل فيه كلّ ما يتّصل بمنافع الرزق و ما يوجب كونه سببا لبقاء النعمتين أعني الخلق و الهداية إذ لو لم يكن معه ما يتمكّن معه الإنسان من الاغتذاء به نحو الشهوة و القوّة و التميّز لم تكمل النعمة للحاجة في البقاء إليه.

ص: 53


1- الآية 83.

[وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ و إنّما قال: «إِذا مَرِضْتُ» و ما قال: أمرضني؛ لأنّ كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في المطعم و المشرب و من ثمّ قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم. و إنّ المرض يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض و ذلك الاستيلاء غالبا يحصل بسبب عدم بقاء الأخلاط على اعتدالها الطبيعيّ من شره النفس و سوء التدبير في الغذاء فيقع التنافر فحينئذ ما أضاف الأمراض إلى اللّه، و لكنّ الصحّة يحتاج إلى إعادة الاعتدال في الطبع بسبب قاهر يقهرها على العود و دفع التنافر فأضاف إلى اللّه القاهر و ما أضاف المرض إليه و لو أنّ بعض الأمراض منه لكن لمّا كان الغالب ليس منه فما أضاف، على أنّ مقصود إبراهيم تعديد النعم و لمّا لم يكن الأمراض في الأذهان من النعم و لكنّ الشفاء من اصول النعم أضافه إليه سبحانه.

فإن نقضته بالإماتة حيث يقول عليه السّلام: [وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ .

فالجواب أنّ الموت ليس بضرر إنّما الضرر في مقدّماته و هو المرض و قد عرفت أنّ الأرواح إذا كملت في المعارف و العلوم و الأخلاق فإبقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر و خلاصها عنها عين السعادة.

[وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ و الطمع هاهنا اليقين و هو المرويّ عن بعض المفسّرين. و قال بعض المفسّرين: إنّما ذكره على هذا الوجه تعليما منه لأمّته كيفيّة الدعاء و على سبيل الانقطاع إلى اللّه لا على سبيل أنّ له خطيئة يحتاج أن يغفر له يوم القيامة لأنّ عندنا الإماميّة لا يجوز أن يقع من الأنبياء شي ء من القبائح و عند جميع أهل العدل و إن جوّزوا عليهم الصغائر فإنّها تقع عندهم محبطة مكفّرة فليس شي ء غير مغفور فيحتاج إلى أن يغفر يوم القيامة. و قيل معناه: أطمع أن يغفر لمن يشفّعني فيه فأضافه إلى نفسه كقوله لنبيّه: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ» (1) و الوجه الأقوم في معنى الآية أنّ هذا الكلام منة عليه السّلام استغفار لما عسى يندر منه من خلاف الأولى و عبّر بالخطيئة هضما لنفسه و منه: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

ص: 54


1- الفتح: 2.

فلو قيل: لم علّق مغفرة الخطيئة بيوم الدين و إنّما تغفر في الدنيا؟ لأن أثر الغفران يظهر ذلك اليوم.

فإن قيل: ما فائدة «لي» في قوله «يَغْفِرَ لِي»؟ أمّا الفائدة أنّه إذا عفى الأب عن ولده أو السيّد عن عبده في أكثر الأمر إنّما يكون طلبا للثواب أو رقّة عن العقاب أو طلبا للمحمدة و الثناء فلا بدّ أن يكون نفعا راجعا إلى العافي و المعفوّ عنه أمّا الإله سبحانه فمنزّه من أن تحدث له صفة كمال أو نفع لم يكن له و إنّه كامل لذاته و إذا كان كذلك فغفرانه له راجع لرعاية حال المعفوّ عنه لا لأجل رعاية حال العافي و لهذا قال: «لي».

قوله: [رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ فبعد أن أثنى على اللّه سبحانه ذكر مسألته و ذلك تنبيه على أنّ تقديم الثناء على الدعاء من المهمّات.

و تحقيق الكلام فيه أنّ هذه الأرواح البشريّة من جنس الملائكة فكلّما اشتغل بذكر اللّه و كان اشتغالها بمعرفة اللّه و محبّته و الانجذاب إلى عالم القدس أشدّ كانت مشاكلتها للملائكة أتمّ فكانت أقوى على التصرّف في أجسام هذا العالم و كلّما كان اشتغالها بلذّات هذا العالم و استغراقها في ظلمات هذه الجسمانيّات أشدّ كانت مشاكلتها للبهائم أشدّ فكانت أكثر عجزا و ضعفا و أقلّ تأثيرا في هذا العالم فمن أراد أن يشتغل بالدعاء يجب أن يقدّم على الدعاء ثناء اللّه و ذكر عظمته و كبريائه حتّى بسبب ذلك الذكر يصير قريبا في المشاكلة إلى الملائكة فتحصل له بسبب تلك المشاكلة قوّة ملكيّة سماويّة فيصير مبدءا لحدوث مطلوبه من دعوته و هذا تحقيق قوله: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما اعطي السائلين.

فإن قال قائل: لم لم يقتصر إبراهيم عليه السّلام على الثناء مع أنّه مرويّ عنه أنّه قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي؟

فالجواب أنّه عليه السّلام اشتغل بالدعاء لأنّ الشارع لا بدّ له من تعليم الخلق و حين كان مشتغلا بدعوة الخلق كان مشتغلا بالثناء ثمّ الدعاء و أمّا حين ما خلا بنفسه و لم

ص: 55

يكن غرضه تعليم الخلق بالآداب كأن يقتصر على قوله: «حسبي من سؤالي علمه بحالي».

و كان من سؤالاته امور:

المطلوب الاول «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» قيل: منعاه النبوّة، و ردّ بأنّه حينئذ كان نبيّا و تحصيل الحاصل محال بل المراد كمال القوّة العلميّة و النظريّة أي زدني علما إلى علمي، «وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» و ذلك بإدراك الحقّ كاملا و كمال القوّة العملية و ذلك بأن أكون عاملا في الخير.

و إنّما قدّم قوله «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» لأنّ القوّة النظريّة مقدّمة على القوّة العمليّة ذاتا و شرفا و العلم صفة الروح و العمل صفة البدن و كما أنّ الروح أشرف من البدن كذلك العلم أشرف من العمل و إنّما عبّر معرفة الأشياء بالحكم لأنّ الإنسان لا يعرف حقائق الأشياء إلّا إذا استحضر في ذهنه صور الماهيّات ثمّ نسب بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات و تلك النسبة بالوقوع أو اللّاوقوع هي الحكم و هذا معنى:

«اللّهمّ أرني الأشياء كما هي» فمثل هذا الإدراك و القوّة يسمّى حكمة و حكما، و أمّا قوله: «وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» أمّا الصلاح فهو كون القوّة العاقلة متوسّطة بين رذيلتي الإفراط و التفريط و ذلك لأنّ الإفراط في أحد الجانبين تفريط في الجانب الآخر و بالعكس فالصلاح لا يحصل إلّا بالاعتدال و لمّا كان الاعتدال الحقيقيّ شيئا واحدا لا يقبل القسمة البتّة و الأفكار البشريّة في هذا العالم قاصرة عن إدراك أمثال هذه الأشياء لا جرم لا ينفكّ البشر عن الخروج عن ذلك الحدّ و لو أنّ خروج المقرّبين عنه بعيد جدّا و يكون في القلّة بحيث لا يحسّ به و خروج غيرهم متفاحش جدّا و لذا أظهر إبراهيم احتياجه إلى أن قال: «وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» فاستمدّ من اللّه سبحانه في تحصيل هذه القوّة بهذا القول. و من هذا البيان ظهر لك المراد من قوله: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

المطلوب الثاني لإبراهيم عليه السّلام قوله تعالى: [وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ فطلب الذكر الجميل في الملّة الحنيفيّة الحقّة الباقي على وجه الدهر كما أنّه

ص: 56

بقي ملّة أبيكم إبراهيم و قيل: سأل ربّه أن يجعل من ذرّيّته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الحقّ و ذلك محمّد صلّى اللّه عليه و آله فالمراد من قوله: «وَ اجْعَلْ لِي» بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هذا المعنى الثاني يؤول إلى المعنى الأوّل، و أعطاه اللّه ذلك لأنّك لا ترى أهل دين إلّا و يتوالون إبراهيم.

المطلوب الثالث قوله: [وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ و لمّا طلب من ربّه معرفته و السعادة في الدنيا و الدين طلب ما هو سعادة الآخرة و هي جنّة النعيم و عبّر بالإرث لأنّه لا مانع من الإرث.

المطلوب الرابع [وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ - و فيه وجوه- و قوله:

«إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» أي من الذاهبين عن الصواب و وصفه بكونه ضالًّا يدلّ على أنّه كان كافرا كفر جهالة لا كفر عناد.

و من الوجوه أنّ المغفرة مشروطة بالإسلام و طلب المشروط متضمّن لطلب الشرط فقوله «وَ اغْفِرْ لِأَبِي» معناه يرجع إلى أنّه عليه السّلام دعا لأبيه بالإسلام.

الوجه الثاني أنّ أباه وعده بالإسلام كما قال تعالى: «و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدة وعدها» (1) أي وعد ابنه أن يستسلم فدعا له إبراهيم لهذا الشرط و لا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للّه تبرّأ منه.

الثالث أنّ أباه قال له: إنّه على دين إبراهيم باطنا و على دين نمرود ظاهرا تقيّة و خوفا فدعا له لاعتقاده أنّ الأمر كذلك فلمّا تبيّن له خلاف ذلك تبرّأ منه.

المطلوب الخامس قوله: [وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ الخزي هو الهوان. فلو قيل: إنّ إبراهيم كان يعلم بالضرورة هذا الأمر و هو قوله تعالى: «إنّ الخزي اليوم و السوء علي الكافرين» (2) و يعلم أنّ الخزي نصيب الكفّار فقط فكيف يخافه المعصوم؟

فالجواب كما أنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين فكذا درجات الأبرار دركات المقرّبين و خزي كلّ واحد بما يليق به. و الضمير في «يبعثون» راجع إلى العباد أو الضالّين.

و بالجملة المعنى أنّه لا تفضحني و لا تعيّرني بقصور يوم يحشر الخلائق، و هذا الدعاء

ص: 57


1- التوبة: 115.
2- النحل: 27.

كان منه على وجه الانقطاع إلى اللّه لما بيّنّا أنّ القبيح لا يجوز وقوعه من الأنبياء.

ثمّ فسّر ذلك اليوم بأن قال: [يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ أي لا ينفع المال و البنون أحدا إذ لا يتهيّأ لذي مال أن يفتدي من شدائد ذلك اليوم به و لا يتحمّل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه [إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشرك، و قيل: من الفساد و المعاصي. و إنّما خصّ القلب بالسلامة لأنّه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد من حيث إنّ الفساد بالجارحة لا يكون إلّا عن قصد بالقلب الفاسد. و روي عن الصادق أنّه قال:

هو القلب سلم من حبّ الدنيا، و يؤيّده قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة.

و الحاصل فقوله: «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» أي خاليا و سالما عن العقائد الفاسدة و الميل إلى شهوات الدنيا و لذّاتها، و قيل في تأويل الآية: إنّ السليم هو اللّديغ من خشية اللّه.

قوله تعالى: [وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أي إنّ الجنّة قد تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها و يفرحون بأنّهم المحشورون إليها و النار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم يتحسّرون على أنّهم المسوقون إليها فقال:

[وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ الضالّين و إنّما يفعل اللّه ذلك ليكون سرورا معجّلا للمؤمنين و غمّا عظيما للكافرين أي كشف العطاء و أظهرت الجحيم للضالّين عن طريق الحقّ [وَ قِيلَ لَهُمْ على وجه التوبيخ في ذلك اليوم [أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام و الأوثان و أين آلهتكم هل يمنعونكم [هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بنصرتهم لكم بدفع العذاب عنكم [أَوْ يَنْتَصِرُونَ أي يمتنعون من العذاب.

[فَكُبْكِبُوا فِيها] و الكبكبة تكرير الكب مرّه بعد مرّة حتّى يستقرّ في قعرها.

في الكافي و القميّ عن الصادق. «هم» قوم و صفوا عدلا بألسنتهم ثمّ خالفوا إلى غيره. و في خبر آخر: «هم» بنو اميّة و الغاوون بنو العبّاس. أي جمعوا و طرح بعضهم على بعض يعني الآلهة الّتي تعبدونها [وَ الْغاوُونَ يعني العابدون، و الحاصل أنّ العابد و المعبود يطرح في النار [وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ أي و كبكب جنود الشيطان، يريد من تبعه من ولده و ولد آدم.

ص: 58

[قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ قالوا و هم أي قال هؤلاء و هم في النار و الآية حكاية حالهم كأنّه قيل:

ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل؟ قال العبدة و هم في النار معترفين بخطئهم في انهماكهم في الضلالة و الحال أنّهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم مخاطبين لمعبوديهم بعد أن يجعل اللّه الأصنام صالحة للاختصام بأن يعطيها القدرة على الفهم و النطق: تاللّه إن كنّا لفي ضلال مبين إذ سوّيناكم في العبادة بربّ العالمين.

و «إن» في قوله: «إِنْ كُنَّا» مخفّفة من المثقّلة و معناه لقد كنّا في الضلالة.

ثمّ قالوا: [وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي إلّا أوّلنا الّذين اقتدينا بهم و إنّهم أجرموا فاقتدينا هم عن الكلبيّ. و قيل: إلّا الشياطين. و قيل: الكافرون الّذين دعونا إلى الضلال.

ثمّ أظهروا الحسرة فقالوا: [فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يشفعون لنا في أمرنا كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة و النبيّين [وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ من الّذين كنّا نعدّهم أصدقاء، و الحميم من الاحتمام و هو الاهتمام و هو الّذي يهمّه ما يهمّك، أو من الحامة بمعنى الخاصّة و هو الصديق الخالص، و إنّما جمع الشفعاء و وحّد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة و قلّة الصديق فإنّ الرجل التحق و هو في الأزهاق قد ينهض جماعة وافرة في تخليصه رحمة له و أمّا الصديق فهو أعزّ من بيض الأنوق، أو يريد بالصديق أيضا معنى الجمعيّة.

ثمّ إنّه سبحانه حكى قولهم عنهم بقوله: [فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأنّهم تمنّوا الرجعة إلى الدنيا، و كلمة «لو» في مثل هذا الموضع في معنى التمنّي كأنّه قيل: فليت لنا رجوع في الدنيا، و بين «لو» و «ليت» في المعنى قرب و يجوز أن يكون على أصل معناها و حذف الجواب تقديره: لفعلنا كيت و كيت. و هذا القول إخبار عن عزمهم تلك الساعة و ليس خبرا عن إيمانهم لأنّه سبحانه أخبر على خلاف ذلك بقوله: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» (1) و قوله: [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي إنّ في ما قصصناه

ص: 59


1- الانعام: 28.

دلالات لمن نظر فيها و اعتبر بها و ما كان أكثرهم مؤمنين، تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله [وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي قادر على تعجيل الانتقام لكنّه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا تذييل: في قوله: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ» في المحاسن عن الصادق عليه السّلام: الشافعون الأئمّة عليه السّلام و الصديق المؤمنون. و القميّ عنهما عليه السّلام: و اللّه لنشفعنّ في المذنبين من شيعتنا حتّى يقولوا أعداؤنا إذا رأوا ذلك: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام و إنّ الشفاعة لمقبولة و ما تقبل في ناصب و إنّ المؤمن ليشفع لجاره و ما له حسنة فيقول: يا ربّ جاري كان يكفّ عنّي الأذى فيشفّع فيه فيقول اللّه تعالى: أنا ربّك و أنا أحقّ بمن كافى عنك، فيدخله اللّه الجنّة و ما له حسنة و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنسانا فعند ذلك يقول أهل النار: فما لنا من شافعين.

و في الخبر المأثور عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ الرجل يقول في الجنّة ما فعل صديقي فلان و صديقه في الجحيم فيقول اللّه تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة فيقول من بقي في النار: فما لنا من شافعين.

و روي بالإسناد عن عمران بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا حتّى يقول الناس: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ إلى قوله- فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». و في رواية اخرى: حتّى يقول عدوّنا.

و عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفّع فيهم حتّى يبقى خادمه فيقول و يرفع سبّابتيه يا ربّ خويدمي كان يعينني الحرّ و البرد فيشفّع فيه. انتهى.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 105 الى 122]

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (108) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (110) قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)

إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)

ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

ص: 60

و لمّا قصّ سبحانه على محمّد خبر موسى و إبراهيم لتسليته فيما يلقاه من أذى قومه بيّن له نبأ نوح ممّا لقي من قومه و كان نبؤه أعظم لأنّه كان يدعوهم ألف سنة إلّا خمسين عاما و مع ذلك كذّبه قومه فقال سبحانه:

[كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ و إنّما قال: كذّبت و لو أنّ القوم مذكّر لأن تصغيرها قويمة و باعتبار الجماعة و حكي عنهم أنّهم كذّبوا المرسلين لأنّ قوم نوح كذّبوا جميع [الْمُرْسَلِينَ لأنّهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة و أيضا تكذيب نبيّ يلزم تكذيب جميع الأنبياء لأنّ كلّ رسول يأمر بتصديق جميع الرسل قال أبو جعفر عليه السّلام: يعني بالمرسلين نوحا و الأنبياء الّذين كانوا بينه و بين آدم.

[إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ أي في النسب لا في الدين، ألا تتّقون عذاب اللّه في تكذيبي و مخالفتي؟ ثمّ وصف شأنه لهم فقال: [إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ و ذلك لأنّه كان فيهم مشهورا بالأمانة كمحمّد صلّى اللّه عليه و آله في قريش كأنّه قال: كنت أمينا من قبل فكيف تتّهموني اليوم؟ [فَاتَّقُوا اللَّهَ بطاعته و عبادته [وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به من الإيمان [وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على هذه الدعوة [مِنْ أَجْرٍ] و مال، و «من» زائدة [إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي و جزائي [إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ و خالق الخلائق أجمعين، ثمّ كرّر عليهم قوله:

[فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ لاختلاف المعنى، لأنّ التقدير: فاتّقوا اللّه و أطيعون لأنّي رسول أمين و اتّقوا اللّه و أطيعون لأنّي لا أسألكم عليه أجرا فتخافوا ضرر أموالكم به؟ و كلّ واحد من هذين المعنيين يقوّي الداعي إلى قبول الحقّ و بعد عن موضع التهمة و لا تكرار فيه كما تقول: ألا تخاف اللّه و قد ربّيتك صغيرا؟ ألا تخاف اللّه و قد أتلفت لك مالي؟

ثمّ بعد ذلك جاوبوه بقولهم: [أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ أي و أتباعك الأرذلون و

ص: 61

قرئ «أتباعك» و إنّما استرذلوهم لقلّة نصيبهم من الدنيا و كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحجامة و السكافة و الحياكة. و هذه الشبهة في غاية الركاكة لأنّ نوحا بعث إلى الخلق كافّة فلا يختلف في ذلك بسبب الفقر و الغنى و شرف الصنعة و دناءتها.

فأجابهم نوح بالحقّ و هو قوله: [وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لست أعلم صنائعهم و لم اكلّف ذلك و إنّما كلّفت أن أدعوعم إلى اللّه و قد أجابوا إليه [إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي ليس حسابهم إلّا على الّذي خلقني و خلقهم لو تعلمون ذلك ما عيّبتهم بصنائعهم [وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ و في الآية كالدلالة على أنّ القوم سألوه عن إبعادهم لكي يتّبعوه، فبيّن أنّ الّذي يمنعه عن طردهم أنّهم آمنوا به و لست مكلّفا بهذا الأمر [إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ .

ثمّ إنّ نوحا لمّا تمّم هذا الجواب لم يكن منهم إلّا التهديد [ف قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ و المعنى أنّهم خوّفوه بأن يقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السّلام من فلاحهم [قالَ نوح: [رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً] و ليس الغرض منه إخبار اللّه بالتكذيب لعلمه أنّ عالم الغيب و الشهادة أعلم و لكنّه أراد أنّي لا أدعو عليهم لمّا آذوني و إنّما أدعو لأجل دينك و لأنّهم كذّبوني في وحيك و رسالتك فافتح بيني و بينهم و احكم، و الفتاحة الحكومة و الفتّاح الحاكم لأنّه يفتح المستغلق و المراد من هذا الحكم إنزال العقوبة لأنّه عليه السّلام عقّبه [وَ نَجِّنِي و لو لا أنّ إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى حيث قال: و نجّنى [وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .

[فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ من أهل دينه [فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي المملوء، و الفلك السفينة الواحد على وزن قفل و الجمع على وزن اسد [ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ أي أغرقنا بعد نجاة أصحاب نوح و نوح، الباقين الخارجين من السفينة الكافرين به [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً] و علامة واضحة على معرفة القادر [وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ] في إهلاك قوم نوح بالغرق [الرَّحِيمُ بالمؤمنين حيث نجّاهم.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 123 الى 140]

كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (126) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)

أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (131) وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)

أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ (133) وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)

ص: 62

أخبر سبحانه عن عاد أي قبيلة عاد، و فاتحة هذه القصّة نوح واحدة و مستغنى عن إعادة التفسير ثمّ إنّ سبحانه ذكر الأمور الّتي تكلّم هود فيها مع قومه و هي ثلاثة:

فأولها قوله: [أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ و الريع بالكسر و الفتح المكان المرتفع و الآية العلم. عن ابن عباس: إنّهم كانوا يبنون بكلّ ريع علما يعبثون فيه بمن في الطريق إلى هود. و الثاني أنّهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخرا على الفقراء فنهوا عنه. و الثالث أنّهم كانوا ممّن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتّخذوا في طريقتهم أعلاما طوالا فكان ذلك عبثا لأنّهم أغناهم اللّه بالنجوم و كان ذلك أمر لغو و سرف.

و الرابع أنّهم بنوا بكلّ ريع بروج الحمّام.

و ثانيها من كلمات هود قوله: [وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ المصانع مآخذ الماء و قيل القصور المشيّدة، لعلّكم ترجون الخلود في الدنيا أو تشبيه حالكم حال من يخلد و لا يموت، و في مصحف ابيّ كأنّكم، و قرئ «تخلدون» بضمّ التاء مخفّفا و مشدّدا.

و ثالثها قوله: [وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ البطش الأخذ باليد أي إذا أردتم إنزال عقوبة بأحد عاقبتم عقوبة المتجبّر يريد التجبّر بارتكاب العظائم. و قيل: معناه: إذا عاقبتم

ص: 63

قتلتم؛ فمعنى الجبّار القّتال بغير حقّ و حاصل المعنى: أنّهم أحبّوا العلوّ و الكبر و البقاء، و هذه الصفات ممتنعة الحصول للعبد و إذا استغرق الإنسان فيها فيخرج عن حدّ العبوديّة و يحوم حول ادّعاء الربوبيّة.

ثمّ بعد أن ذكر هذه الأمور الثلاثة قال: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ زجرا لهم عن حبّ الدنيا بالأمر بالتقوى ثمّ نبّههم على نعم اللّه إجمالا أوّلا بقوله: [وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ ثمّ فصّل بقوله: [أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ. وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فحينئذ بلغ في دعوتهم بالوعظ و الترغيب و الترهيب.

فكان جوابهم: [قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي لا نقبل نصحك على كلّ حال و حصول الوعظ منك و عدمه مستويان عندنا، ثمّ بيّنوا السبب لعدم اكتراثهم بكلامه و هو أنّ ما جئت به اختلاق الأوّلين و تخرّصهم و لست بنبيّ و هذا المعنى على قراءة «خلق الأولين» أو المعنى أنّ خلقنا هذا مثل خلق القرون الماضية نحيى كحياتهم و نموت كمماتهم و لا بعث و لا نشور و لا حساب، و من قرأ «خُلُقُ» بضمّتين أو واحدة فمعناه: ما هذا الّذي نحن عليه من الدين إلّا عادة الأوّلين و نحن بهم مقتدون.

قيل: المعنى: إنّ هذا الّذي نحن عليه من تشيّد البناء و اتّخاذ المصانع و البطش الشديد من عادة من قبلنا [وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما تدّعيه لا في الدنيا و لا في الآخرة.

[فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ بعذاب الاستيصال [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ مرّ تفسيره.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 141 الى 159]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (144) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)

أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (147) وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (150)

وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)

وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

ص: 64

و اعلم أنّ صالحا عليه السّلام خاطب قومه بأمور:

أحدها قوله: [أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي أ تظنّون أنّكم تتركون فيما أعطاكم اللّه من الخير في هذه الدنيا آمنين من الزوال و الموت و العذاب أي لا يبقى ما أنتم فيه من النعم و إنّها ستزول عنكم. ثمّ عدّد بعض نعمهم الّتي كانوا فيها فقال: [فِي جَنَّاتٍ أي بساتين مستورة بالشجر [وَ عُيُونٍ جارية [وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ و الطلع هو الّذي يطلع من النخلة كنصل الصيف في خوخة شماريخ، و الهضيم اللطيف و قيل: معنى الهضيم هاهنا النضيج أي نخل قد أرطب ثمره و أصلح.

و الثاني قوله [وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ أي تنحتون و أنتم نشّاط و أقوياء.

و ثالثها قوله: [فَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته [وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به ثمّ [لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ من رؤسائكم و هم تسعة رهط من ثمود عقروا الناقة ثمّ وصفهم فقال: [الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ فإن قيل: ما فائدة قوله «وَ لا يُصْلِحُونَ»؟ فالمراد أنّ فسادهم خالص من الصلاح.

ثمّ إنّ القوم أجابوه [قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ و المسحّر هو الّذي سحر كثيرا حتّى غلب على عقله. و قيل: المعنى من المسحّرين أي من له بطن يأكل و يشرب و حاصل المعنى أنّك تأكل كما نأكل و تشرب كما نشرب فلم صرت أولى منّا بالنبوّة؟ [ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا] أو من مثلنا [فَأْتِ بِآيَةٍ] بمعجزة يدلّ على صدقك [إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ هذِهِ ناقَةٌ] و هي الناقة الّتي أخرجها اللّه من الصخرة عشراء ترغو (1) على ما اقترحوه روي أنّهم قالوا: نريد ناقه عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقيا فقعد صالح يتفكّر فقال له جبرئيل: صلّ ركعتين و سل ربّك ناقة، ففعل فخرجت الناقة و بركت بين

ص: 65


1- الآية: 22.

أيديهم و حصل لها سقب مثلها في العظم.

و وصّاهم صالح بأمرين: الأوّل قوله: [لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ و قرئ شرب بالضمّ، و كانت الناقة يوم شربها شربت ماءهم كلّه و يوم شربهم لا تشرب هي. و الثاني من وصيّة صالح لهم قوله: [وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي لا تصيبوها بضرب أو عقر أو إيذاء فحينئذ يأخذكم عذاب عظيم و «عَظِيمٍ» صفة العذاب أو صفة اليوم بحلول العذاب فيه. حكي أنّهم عقروها. روي أنّ مصدعا ألجأها إلى مضيق فرماها بسهم فسقطت ثمّ ضربها قدار بن سالف.

قوله: [فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فإن قيل: لم أخذهم العذاب و قد ندموا؟

فالجواب من وجهين: الأوّل: أنّه لم يكن ندمهم ندم التائبين لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل. الثاني: أنّ الندم و إن كان ندم التائبين و لكن كان ذلك في غير وقت التوبة بل عند معاينة العذاب و قال اللّه تعالى: «وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ» الآية (1).

[فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ و الألف و اللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 160 الى 175]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)

أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)

فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)

هذه هي القصّة السادسة: شرح سبحانه تكذيب قوم لوط نبيّهم و الأنبياء لأنّ من كذّب نبيّا كذّب تمام الأنبياء و بلّغ لوط قومه ما بلّغ الأنبياء قبله مثل نوح و

ص: 66


1- النساء: 17.

هود و صالح فلم يقبلوا منه ثمّ قال لهم و وبّخهم على الأمر القبيح فقال: اخترتم الذكران من الناس و تركتم أزواجكم الّتي خلقها اللّه [مِنْ أَزْواجِكُمْ يمكن أن يكون «من» للتبيين لما خلق و أن يكون للتبعيض و يراد بما خلق العضو المباح منهنّ و المعنى:

أ تركبون هذه المعصية العظيمة [بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ في جميع المعاصي فهذه المعصية من جملة ذاك، أو المعنى: أنتم أحقّاء بان توصفوا بالعدوان و التجاوز من الحدود.

فقالوا له: [لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي إذا ما انتهيت من نهيك لتكوننّ في جملة من أخرجناه من بلدنا و لعلّهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوء الأحوال.

فقال لهم لوط: [إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ القلي البغض الشديد كأنّه بغض يقلي الفؤاد و الكبد و هذا القول أبلغ من أن يقول: أنا لعملكم قال، أي من الكاملين في قلاكم و بغضكم.

ثمّ قال تعالى: [فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ من عقوبة عملهم [إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ و أراد سبحانه بالعجوز امرأة لوط لأنّها كانت تدلّ على أهل القرية بالفساد على الأضياف فكانت من الباقين في العذاب و هلكت فيما بعد مع من خرج من القرية بما أمطره اللّه من الحجارة و الغابر الباقي في قلّة كالتراب الّذي يذهب بالكنس فيبقى غباره و الغبر بقيّة من اللبن في الأخلاف قال الحارث بن حلّزة:

لا تكسح الشول بأغبارهاإنّك لا تدري من الناتج

و المراد من الأهل أهليّة الزواج لا الشركة في الدين.

قوله: [ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم بالخسف و قيل: بالانقلاب ثمّ أمطر على من كان غائبا منهم بالحجارة من السماء و هو قوله: [وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس و اشتدّ مطر الكافرين مطرهم و المخصوص بالذّم محذوف و هو مطرهم.

و هاهنا تحقيق و هو أنّ قوله تعالى: «وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ» تدلّ على بطلان الجبر لأنّه لا يقال: تذرون إلّا مع القدرة على خلافه و لذلك لا يقال للمرء: لم تذر الصعود إلى السماء؟ كما يصحّ أن يقال له: لم تذر الدخول و الخروج.

ص: 67

ثمّ إنّ اللّه سبحانه قال: «ما خَلَقَ لَكُمْ» و لو كان خلق الفعل للّه لكان الّذي خلق لهم ما عاقبهم و ما كانوا ملومين بقوله: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» لأنّه تعالى إن كان خلق فيهم ما كانوا يعملون فكيف ينسبون إلى أنّهم تعدّوا؟ و هل يقال للأسود: إنّك متعدّ في لونك؟

إذ هو في اللون مقهور لأنّه وضع السواد في جسمه و لا يلومه أحد في سواده انتهى.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 176 الى 191]

كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (179) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)

وَ ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

المعنى: ثمّ أخبر سبحانه عن أصحاب الأيكة الّذين بعث إليهم شعيب و ما كانوا من قومه و لذلك ما قال: أخوهم شعيب، و كان شعيب أخا مدين أرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة و قرئ بدون الألف و اللام. و بالجملة الأيكة الغيضة الملتفّة بالشجر، و قيل:

شجرهم كان شجر المقل فأمرهم شعيب بأشياء:

أحدها قوله: [أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ و ذلك لأنّ الكيل على ثلاثة أضرب واف و زائد و طفيف فأمر بالواجب الّذي هو الإيفاء و نهى عن المحرّم الّذي هو التطفيف بقوله: «وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ» و لم يذكر الزائد لأنّه إن لم يفعلوا فلا إثم عليهم و بعد أن أمر بالإيفاء بيّن أنّه كيف يفعل فقال: [وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ و قرئ مضموما و مكسورا في القاف و هو الميزان، و قيل: القرسطون.

الثاني قوله: [وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تمنعوا حقوقهم و لا تنقصوها.

ص: 68

الثالث: [وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ و العثي أشدّ الفساد بالخراب نحو قطع الطريق و الغارة و إهلاك الزرع و كانوا يفعلون ذلك مع توليتهم أنواع الفساد.

الرابع: [وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ و قرئ الجبلّة بوزن ابلّة و المراد: اتّقوا الربّ الّذي خلقكم و خلق الخلقة المتقدّمة عليكم ممّن لو لا خلقهم لما كنتم مخلوقين.

فأجابوا [قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. وَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا] مرّ تفسيره قبيل هذه [وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي و إنّا نظنّك كاذبا من جملة الكاذبين و «إن» هذه مخفّفة من المثقّلة و لذلك لزمها اللام في الخبر [فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ] أي قطعة من السماء أي السحاب، و هم إنّما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فظنّوا أنّه إذا لم يقع ظهر كذبه.

فعنده قال شعيب: [رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ و فوّض الأمر إلى اللّه فلمّا استمرّوا على التكذيب أنزل اللّه عليهم العذاب على نحو ما اقترحوا من عذاب الظلّة، روي أنّه حبس عنهم الريح سبعا و غشيتهم سحابة فلمّا خرجوا إليها طلبا للبرد من شدّة الحرّ أمطرت عليهم نارا فأحرقتهم فكان من أعظم الأيّام في الدنيا عذابا و ذلك قوله [إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و معنى الظلّة هاهنا السحابة الّتي أظلّتهم.

[سورة الشعراء (26): الآيات 192 الى 212]

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)

أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)

فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)

ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ (211)

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

ص: 69

ثمّ بيّن سبحانه أمر القرآن بعد قصص الأنبياء المذكورين و اتّصل بها حديث نبيّنا فقال:

[وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي إنّ القرآن منزل من ربّ العالمين [نَزَلَ اللّه بالقرآن [الرُّوحُ الْأَمِينُ يعني جبرئيل و هو أمين اللّه لا يغيّره و لا يبدّله و سمّاه روحا لأنّه يحيي به الدين أو يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات أو لأنّه جسم روحانيّ [عَلى قَلْبِكَ يا محمّد لأنّ اللّه يسمعه جبرئيل فيحفظه و ينزل جبرئيل به على الرسول و يقرؤه على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيحفظه بقلبه و هذا معنى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» و جعل اللّه قلبه وعاء له [لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ لتخوّف به الناس و تنذرهم بآيات اللّه.

[بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ بلغة العرب مبين للناس ما بهم إليه الحاجة في دينهم و إنّما جعله عربيّا لأنّ المنزّل عليه عربيّ و لأنّه تحدّى بفصاحته العرب، و قد تضمّنت هذه الآية تشريف هذه اللغة و لذلك اختارها لأهل الجنّة.

[وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي في كتب الأوّلين ذكر القرآن و خبره على وجه البشارة به و بمحمّد لا بمعنى أنّ اللّه أنزله على غير محمّد صلّى اللّه عليه و آله و قيل: معنى الآية أنّه أنزل على سائر الأنبياء من الدعاء إلى التوحيد و العدل و الاعتراف بالبعث مثل الّذي نزل في القرآن.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ المراد من الآية ذكر الحجّة على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و تقريره أنّ جماعة من علماء بني إسرائيل أسلموا و نصّوا على مواضع في التوراة و الإنجيل ذكر سبحانه فيها الرسول صلّى اللّه عليه و آله. بصفته و نعته و قد كان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود و يتعرّفون منهم هذا الخبر، و هذا دليل ظاهر على نبوّته لأنّ تطابق الكتب الإلهيّة على نعته و صفته دليل قطعيّ على نبوّته. و قرئ «يكن» بالتذكير و «آية» بالنصب على أنّها خبره فحينئذ «أن يعلمه» اسمه و قرئ «تكن» بالتأنيث و «آية» اسمه و «أن يعلمه» خبره.

قوله: [وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ القميّ

ص: 70

عن الصادق عليه السّلام: لو نزّلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب لفرط استنكاف العرب من اتّباع العجم و قد نزل على العرب فآمنت به العجم. أقول: فهذه فضيلة العجم.

و قال الرازيّ: يعني إنّا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربيّ بلسان عربيّ مبين فسمعوه و فهموه و عرفوا فصاحته و أنّه معجز لا يعارض بكلام مثله و انضمّ إلى ذلك بشارة كتب اللّه السالفة به فلم يؤمنوا و جحدوه و سمّوه شعرا تارة و سحرا اخرى فلو نزّلناه على بعض الأعجمين الّذي لا يحسن العربيّة لكفروا به أيضا لجحودهم و استنكافهم لاتّباع العجم لكنّا أنزلناه على أفصح رجل منهم من أشرف بيت ليدّبّروا فيه و ليكون أدعى إلى اتّباعه و تصديقه و مع ذلك ما آمنوا به.

قوله تعالى: [كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي كما أنزلنا القرآن مبيّنا و واضحا أمررناه و أدخلناه في قلوب الكافرين بأن أمرنا نبيّنا حتّى قرأه عليهم و بيّنه لهم و فهموا فصاحته و معانيه و أنّه خارج عن القوى البشريّة حيث لم يأتوا بمثله من حيث النظم و من حيث الإخبار بالغيب و انضمام تصديق علماء بني إسرائيل.

قوله: [لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ جملة مستأنفة أي مع ذلك لا يتأثّرون بأمثال تلك الأمور و لا يؤمنون به حتّى يعاينوا العذاب الأليم الملجئ إلى الإيمان حتّى لا ينفعهم [فَيَأْتِيَهُمْ العذاب [بَغْتَةً] فجأة [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بمجيئه [فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ فيقولون تحسّرا و تأسّفا أي هل مؤخّرون لنؤمن و لنصدّق كما يستغيث المرء عند تعذّر الخلاص، و إنّهم علموا أن لا ملجأ لهم.

قوله: [أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ لمّا أوعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالعذاب استعجلوا العذاب تكذيبا له فقال اللّه سبحانه: «أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» و استعجالهم بقولهم «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (1) و قولهم «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا»* (2) و نحوهما، هذا كان قولهم و حالهم عند نزول العذاب طلبوا النظرة.

ثمّ قال سبحانه: [أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ ثمّ بيّن تعالى أنّ استعجال العذاب على وجه التكذيب

ص: 71


1- الأنفال: 32.
2- الأعراف: 69.

إنّما يقع منهم ليتمتّعوا في الدنيا إلّا أنّ ذلك جهل منهم لأنّ مدّة التمتّع في الدنيا متناهية قليلة و مدّة العذاب غير متناهية و ليس بجائز ترجيح لذّات متناهية قليلة على آلام غير متناهية.

عن ميمون بن مهران: أنّه لقى بعض الأكابر في الطواف فقال له: عظني، فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت.

و حاصل معنى الآية: لم يغن عنهم تمتّعهم المتطاول في دفع العذاب و تخفيفه. في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منامه بني اميّة يصعدون منبره من بعده يضلّون الناس عن الصراط إلى القهقرى فأصبح كئيبا حزينا فهبط جبرئيل فقال:

يا رسول اللّه مالي أراك حزينا؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلّون الناس عن الصراط، فقال: و الّذي بعثك بالحقّ نبيّا إنّ هذا شي ء ما اطّلعت عليه، فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآيتين من القرآن يؤنسه بهما و الآية الاولى هذه «أ فرأيت» و الثانية «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» حيث جعل اللّه ليلة القدر لنبيّه خيرا من ألف شهر ملك بني اميّة.

و بالجملة أ رأيت و أبصرت إن أنظرناهم و أخّرناهم سنين و متّعناهم بشي ء من حطام الدنيا ثمّ أتاهم العذاب لم يغن عنهم ما متّعوا به في تلك السنين من النعيم لازديادهم في الآثام و اكتسابهم من المعاصي و هو استفهام في معنى التقرير.

قوله: [وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ أي نهلكهم بعد إقامة الحجّة عليهم بتقديم الإنذار و إرسال الرسل. قوله: [ذِكْرى وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ أي أنذرناهم تذكرة، و أنذر و ذكر متقاربان كأنّه قيل: مذكورون تذكرة، و لسنا ظلمنا هم بإصرارهم على الكفر و العناد.

و هذه الآية تكذيب لمن زعم أنّ كلّ ظلم و كفر في الدنيا و هو من خلقه و إرادته.

و غاية الظلم أن يعاقب عباده على شي ء هو خلقه فيهم و أراده منهم، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

قوله تعالى: [وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ* وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ كان

ص: 72

الكفّار يقولون: لم لا يجوز أن يكون القرآن من إلقاء الجنّ و الشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة من جانب الشياطين؟ فأجاب اللّه سبحانه بأنّ ذلك لا يتسهّل للشياطين لأنّهم مرجومون بالشهب ممنوعون عن ذلك معزولون عن استماع كلام أهل السماء.

فإن قيل: إنّ قبول امتناع الشياطين لا يحصل إلّا بواسطة قول النبيّ و القرآن و هم لم يقبلوا هذا الأمر بأنّه صادق فيما ادّعى فكيف بهذا الدليل؟

فالجواب أنّ العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك ليس منحصرا بإخبار النبيّ حتّى يقع الدور بل نحن نعلم بالضرورة أنّ الاهتمام بشأن الصديق أقوى من الاهتمام بشأن العدوّ، و أيضا نحن نعلم بالضرورة أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان يلعن الشياطين كما أنّ كتابه ينطق بلعنه و كان صلّى اللّه عليه و آله يأمر الناس بلعنهم فلو كان هذا الغيب إنّما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفّار أولى بأن يحصل لهم هذا الغيب و هذا العلم فكان يجب اقتدارهم على مثل هذا الغيب و مثل هذا البيان أولى فلمّا لم يكن كذلك علمنا أنّ الشياطين ممنوعون عن ذلك و أنّهم معزولون عن تعرّف الغيوب.

قوله تعالى: [سورة الشعراء (26): الآيات 213 الى 220]

فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)

الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

خاطب نبيّه و المراد به سائر المكلّفين فقال: [فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ بسبب ذلك [مِنَ الْمُعَذَّبِينَ و إنّما أفرده بالخطاب ليعلم أنّ العظيم الشأن إذا أوعد فكيف حال من دونه؟ و هذا لعظم الحكم فإذا حذّر الكبير فغيره أولى بالتحذير.

[وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أي رهطك الأدنين و أنذرهم من غير تليين بالقول، و إنّما خصّهم بالذكر تنبيها على أنّه ينذر غيرهم و أنّه لا يداهنهم لأجل القرابة ليقطع طمع الأجانب عن المداهنة في الدين، و امر صلّى اللّه عليه و آله بأن يبدأ بهم في الإنذار و الدعوة

ص: 73

إلى اللّه ثمّ بالّذين يلونهم كما قال: «قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» (1) و كذلك يقتضي حسن الترتيب.

و في الخبر المأثور عن البراء بن عازب أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني عبد المطّلب و هم يومئذ أربعون رجلا الرجل منهم يأكل الجذعة أو المسنّة و يشرب العسّ من اللبن. و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآية صعد الصفا فنادى الأقرب منه فالأقرب، و قال: يا بني عبد المطّلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عبّاس عمّ محمّد يا صفيّة عمّة محمّد! إنّي لا أملك لكم من اللّه شيئا سلوني من المال ما شئتم و روي أيضا أنّه جمع بني عبد المطّلب و هم يومئذ أربعون رجلا على رجل شاة و قعب من لبن و كان الرجل منهم يأكل الجذعة و يشرب العسّ فأكلوا و شربوا ثمّ قال: يا بني عبد المطّلب لو أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أ تصدّقوني؟ قالوا: نعم، فقال: إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

و في المجمع: فأمر صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام برجل شاة فأدمها ثمّ قال: ادنوا باسم اللّه فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتّى صدروا ثمّ دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثمّ قال: اشربوا باسم اللّه فشربوا حتّى رووا فبدر أبو لهب و قال: هذا ما سحركم به الرجل، فسكت صلّى اللّه عليه و آله يومئذ و لم يتكلّم ثمّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام و الشراب ثمّ أنذرهم صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا بني عبد المطّلب إنّي أنا النذير إليكم من اللّه و البشير فأسلموا و أطيعوني تهتدوا ثمّ قال: من يؤاخيني و يؤازرني و يكون وليّي و وصيّي بعدي و خليفتي في أهلي و يقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا كلّ ذلك فسكت القوم و يقول عليّ عليه السّلام أنا، فقال في المرّة الثالثة: أنت، فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب:

أطع ابنك فقد امّر عليك، أورده الثعلبيّ في تفسيره.

و روي عن أبي رافع أنّه صلّى اللّه عليه و آله جمعهم في الشعب و صنع لهم رجل شاة فأكلوا حتّى تضلّعوا و سقاهم عسّا فشربوا كلّهم حتّى رووا ثمّ قال: صلى اللّه عليه و آله إنّ اللّه أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين و أنتم عشيرتي و رهطي، و إنّ اللّه لم يبعث نبيّا إلّا جعل له من أهله أخا و وزيرا و وصيّا و خليفة في أهله فأيّكم يقوم و يبايعني على أنّه أخي و وارثي

ص: 74


1- التوبة: 134.

و وزيري و يكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي فسكت القوم فقال:

ليقومنّ قائمكم أو ليكوننّ في غير كم ثمّ لتندمنّ ثمّ أعاد الكلام ثلاث مرّات، فقام عليّ عليه السّلام فبايعه و أجابه ثمّ قال ادن منّي فدنا منه ففتح فاه و مجّ في فيه من ريقه و تفل بين كتفيه و ثندوتيه فقال صلّى اللّه عليه و آله أبو لهب: فبئس ما حبوت به ابن عمّك أن أجابك فملأت فاه و وجهه بذاقا فقال صلّى اللّه عليه و آله: ملأته حكمة و علما.

و عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت الآية صعد رسول اللّه على الصفا فقال: يا صباحاه! فاجتمعت قريش فقالوا: مالك؟ فقال: أ رأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب:

تبّا لك أ لهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل اللّه «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ» إلى آخر السورة.

قوله: [وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ألن جانبك و تواضع لهم و حسّن أخلاقك معهم [فَإِنْ عَصَوْكَ يعني أقاربك إن عصوك بعد الإنذار و خالفوك فيما تدعوهم إليه [فَقُلْ لهم إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من أعمالكم القبيحة و عبادتكم الأصنام.

[وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي فوّض أمرك إلى العزيز المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه يكفيك كيد أعدائك [الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ الّذي يبصرك حين تقوم من مجلسك أو فراشك إلى الصلاة وحدك أو في الجماعة. و قيل: المراد بالقيام للصلوات فقط، أو حين تقوم للإنذار و أداء الرسالة [وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي و يرى تصرّفك بالركوع و السجود و القيام و القعود. و قيل: المراد انتقالك في أصلاب الموحّدين من نبيّ إلى نبيّ حتّى أخرجك نبيّا، و هو المرويّ عن أبى جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام قالا: في أصلاب النبيّين نبيّ بعد نبيّ حتّى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه السّلام [إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع ما تتلو في صلاتك و يعلم ما تضمر فيها.

قوله: [سورة الشعراء (26): الآيات 221 الى 227]

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)

وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

ص: 75

لمّا أخبر اللّه أنّ القرآن ليس ممّا ينزل الشياطين و إنّه وحي من اللّه عقّبه بذكر من تنزّل عليه الشياطين فقال: [هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِ كذّاب فاجر عامل بالمعاصي و هم الكهنة، و قيل: طليحة و مسيلمة. و لست بكذّاب أنت يا محمّد و لا أثيم فلا يتنزّل عليك الشياطين و إنّما يتنزّل عليك الملائكة.

[يُلْقُونَ السَّمْعَ معناه: إنّ الشياطين يلقون ما يسمعونه إلى الكهنة و يخلطون به كثير من الأكاذيب و يوحونه إليهم [وَ أَكْثَرُهُمْ و أكثر الكهنة أو أكثر الشياطين [كاذِبُونَ قيل: هم الّذين يسترقون السمع من الملائكة فيلقون إلى الكهنة، و هذا قبل أن أوحي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعد ذلك «فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (1).

قوله: [وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال ابن عبّاس: يريد شعراء المشركين. و ذكر مقاتل أسماء هم فقال: منهم عبد اللّه بن الزبعرى و السهميّ و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب و هبيرة بن وهب المخزوميّ و منافع بن عبد مناف الجمحيّ و أبو غرّة عمرو بن عبد اللّه كلّهم من قريش و اميّة بن أبي الصلت الثقفيّ تكلّموا بالكذب و قالوا: نحن نقول مثل ما قال محمّد، و قالوا الشعر، و اجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم و يروون عنهم حين يهجون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه بالشعر فذلك قوله تعالى: «يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» أي الضالّون.

و قيل: أراد بالشعراء الّذين غلبت عليهم الأشعار حتّى اشتغلوا بها عن القرآن و السنّة. و قيل: هم الشعراء الّذين إذا غضبوا سبّوا و إذا قالوا كذبوا و الشعر يدعوه إلى الكذب و وصف الإنسان بما ليس فيه من الفضائل و الرذائل. و قيل: إنّهم القصّاصون الّذين يكذبون في قصصهم و يقولون ما يخطر ببالهم. و في تفسير عليّ بن إبراهيم: إنّهم الّذين يغيّرون دين اللّه و يخالفون أمره. و روى العيّاشيّ بالإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: هم قوم تعلّموا و تفقّهوا بغير علم فضلّوا و أضلّوا.

قوله تعالى: [أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ أي في كلّ فنّ من الكذب يتكلّمون و في كلّ حديث يخوضون: يمدحون بالباطل و يذمّون بالباطل، و هذا المعنى المراد من هيمائهم كالبهائم من أقاويلهم اللغويّة و الغلوّ في المدح و الذمّ [وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ

ص: 76


1- الجن: 9.

ما لا يَفْعَلُونَ أي يحثّون على أشياء لا يفعلونها و ينهون عن أشياء يرتكبونها.

ثمّ استثنى من جملتهم فقال: [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و هم شعراء المؤمنين مثل عبد اللّه بن رواحة و كعب بن مالك و حسّان بن ثابت و سائر شعراء المؤمنين الّذين مدحوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ردّوا هجاء من هجاه و أتوا بأشعار الحكمة كقولهم (1):

ألا كلّ شي ء ما خلا اللّه باطل و كلّ نعيم لا محالة زائل

و لمّا وصف اللّه تعالى الشعراء بهذه الأوصاف الخسيسة بأنّهم يرغّبون الناس بالجود و هم يرغبون عنه، و ينفّرون عن البخل و هم مصرّون عليه، و بيّن أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله على خلاف ذلك و أنّه دعا الناس بتوحيد اللّه ثمّ دعا بالأقرب فالأقرب من عشيرته و كلّ ذلك على خلاف طريقة الشعراء، و قدح الشعراء بأنّهم يقولون ما لا يفعلون فاستثنى عنهم الموصوفين بهذه الصفات الأربع و هو قوله: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا». و الثاني: العمل الصالح.

و الثالث. [وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً] أن يكون شعرهم في التوحيد و النبوّة و دعوة الخلق إلى الحقّ أو لم يشغلهم الشعر عن ذكر اللّه. و الرابع أن لا يذكروا هجوا واحدا [وَ انْتَصَرُوا] من المشركين للرسول و للمؤمنين أي و ردّوا على المشركين ما كانوا يهجون به رسول اللّه و المؤمنين [مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا] و هو كقوله: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» (2).

ثمّ هدّد الظالمين بقوله تعالى: [وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أي سوف يعلم الّذين يظلمون الرسول و المؤمنين أيّ مرجع يرجعون من النار و إنّ منصرفهم إلى النار. تمّت السورة بحمد اللّه.

ص: 77


1- البيت من لبيد بن ربيعة.
2- النساء: 147.

سورة النمل

اشارة

(مكية)

فضلها:

قال أبيّ بن كعب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ «طس» كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان و كذّب به و هود و شعيب و صالح و إبراهيم و يخرج من قبره و هو ينادي: لا إله إلّا اللّه.

ص: 78

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النمل (27): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)

أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)

[طس مرّ بيانه في المقطّعات و الرموز، عن الصادق معناه: أنا الطالب المتمتّع [تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ تلك إشارة إلى ما وعدوا به من القرآن و مجيئه إضافة الآيات إلى القرآن و آيات القرآن هي القرآن فهو كقوله «إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ» (1) و القرآن و الكتاب معناها واحد وصفه بالصفتين ليفيد أنّه ممّا يظهر بالقراءة و يظهر بالكتابة و هو تارة بمنزلة الناطق و غير الناطق بما فيه من الأمرين و وصفه بقوله «مبين» تشبيها له بالناطق بكذا من البيان أي إنّ اللّه بيّن فيه أمره و نهيه و حلاله و حرامه، و البيان هو الدالّة الّتي تبيّن بها الأشياء و المبين المظهر لذلك.

[هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي هدى من الضلالة إلى الحقّ بالبيان الّذي فيه و باللطف فيه من جهة الاستحكام و الإعجاز و بشارة للمؤمنين بالجنّة و الثواب، و يجوز بالنصب على الحاليّة أي هاديا و مبشّرا و بالرفع على الخبريّة أي هو هدى و بشرى

ص: 79


1- الحاقة: 51.

ثمّ وصف المؤمنين فقال سبحانه: [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ] بحدودها و واجباتها و أوقاتها [وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ] و يخرجون ما يجب عليهم من أموالهم إلى من يستحقّها [وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ] بالنشأة الآخرة و البعث و الجزاء [هُمْ يُوقِنُونَ و لا يشكّون، فيه و تكرار الضمير لأنّ الجملة اعتراضيّة كأنّه قيل: و هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات من إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الإتيان بالأعمال الصالحة هم الموقنون بالآخرة هم المؤمنون حقّ الإيمان و مهتدون بالقرآن.

ثمّ وصف من خالفهم قال سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ اختلف في معناه فقيل: المراد: إنّا زيّنّا لهم أعمالهم بأن جعلناها محبوبة لأنفسهم فهم يعمهون عنها و يتحيّرون عنها و لا يدركون ما يتبعها أي زيّنّا أعمالهم الّتي أمرناهم بها بأحسن الوجوه و الترغيب فهم يتحيّرون بالذهاب عنها، عن الحسن و الجبّائيّ و أبي مسلم. و قيل: معناه: زيّنا لهم أعمالهم بأن خلقنا فيهم شهوته القبيحة الداعية إلى فعل المعاصي ليجتنبوا المشتهي فهم عن هذا المعنى يعمهون و يتردّدون في الحيرة. و قيل: معناه:

حرمناهم التوفيق عقوبة على كفرهم فتزيّنت أعمالهم في أعينهم و حليت في صدورهم.

[أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ و شدّته و صعوبته [وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي لا أحد أخسر صفقة منهم لأنّهم يخسرون الثواب و يحصل لهم بدلا منه العقاب.

[وَ إِنَّكَ يا محمّد [لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي لتعطى [مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ في أمره [عَلِيمٍ بمصالح خلقه، و قوله «عليم» مبالغة في أنّه عالم و يفيد أنّه متى يصحّ معلوم فهو عالم كما أنّ سميعا يفيد أنّه متى وجد مسموع فهو سامع له.

قوله: [إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ أي اذكر قصّة موسى حين قال لامرأته و هي بنت شعيب: [إِنِّي آنَسْتُ ناراً] أي أبصرت و أحسست نارا، و منه اشتقاق الإنس لأنّ المأنوس به مرئيّ [سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ] أي ألزموا مكانكم لعلّي آتيكم من هذه النار بخبر الطريق لأنّهم كانوا ضلّوا الطريق و كانت ليلة شاتية باردة مظلمة [أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ و قبس النار المقبوسة أي بشعلة من النار، و الشهاب نور كالعمود من النار و كلّ نور يمتدّ مثل العمود يسمّى شهابا، و إنّما قال لامرأته: آتيكم على لفظ خطاب الجمع أقامها

ص: 80

مقام الجماعة بسبب أنسه معها في الأمكنة الموحشة [لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي لكي تستدفئوا بها.

[فَلَمَّا جاءَها] أي جاء موسى إلى المكان الّذي ظنّ أنّها النار و هي نور [نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها] قال وهب: لمّا رأى موسى النار وقف قريبا منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة لا تزداد النار إلّا اشتعالا و لا تزداد الشجرة إلّا خضرة و حسنا فلم تكن تحرق النار الشجرة و لا الشجرة برطوبتها تطفئ النار فعجب منها و أهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها فمالت إليه فخافها فتأخّر عنها ثمّ لم يزل تطمعه و يطمع فيها إلى أن نودي و المراد به نداء الوحي و «إن» هي المفسّرة يعنى القول أي قيل له: أن بورك من في النار و من حولها أي بورك فيمن في النار و هم الملائكة و فيمن حولها يعني موسى؛ و ذلك أنّ النور الّذي رأى موسى و ظنّ أنّه نار كان فيه ملائكة بهم زجل بالتسبيح و التقديس و من حولها هو موسى و كان بالقرب منها و لم يكن فيها، قال: بارك اللّه على من في النّار و عليك يا موسى.

و قيل: المعنى بورك من في النار سلطانه و برهانه، و تأويله تبارك من نوّر هذا النور و من حولها يعني موسى و الملائكة. و قيل: معناه: بورك من في طلب النار، و هو موسى و بحذف المضاف، و هذا تحيّة من اللّه لموسى بالبركة كما حيي إبراهيم عليه السّلام بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: «رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» (1).

ثمّ نزّه سبحانه ذاته فقال: [وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي تنزيها له عمّا لا يليق بصفاته عن أن يكون جسما يحتاج إلى جهة أو عرضا يحتاج إلى محلّ أو يكون ممّن يتكلّم بآلة.

ثمّ أخبر سبحانه عن نفسه و تعرّف إليه بصفاته فقال: [يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إنّ الّذي يكلّمك هو اللّه العزيز الغالب الّذي لا يمتنع عليه شي ء الحكيم في أفعاله المحكم لتدابيره و السبب الّذي لأجله بوركت البقعة و بورك من فيها حدوث تكليم اللّه موسى عليه السّلام و وقوع نبوّته في ذلك المكان و لهذا جعل اللّه أرض الشام موسومة

ص: 81


1- هود: 73.

بالبركات في قوله «وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» (1) و حقّت أن تكون كذلك فهي مبعث الأنبياء و مهبط الوحي و كفّلتهم أحياء و أمواتا.

قوله تعالى: [وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ] و في الكلام حذف تقديره: فألقاها فصارت حيّة فلمّا رآها متحرّكة تتحرّك كما يتحرّك الجانّ و هو الحيّة الّتي ليست بعظيمة، و إنّما شبّهها بالجانّ في خفّة حركتها مع أنّها كانت عظيمة أو صارت عظيمة فهاله ذلك حتّى [وَلَّى مُدْبِراً] و رجع موسى من ورائه [وَ لَمْ يُعَقِّبْ و كلّ راجع معقّب أي هرب و لم يقف و لم يلتفت.

فقال اللّه سبحانه: [يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ و هذا تسكين من اللّه لموسى و نهي له عن الخوف يقول: إنّك مرسل و المرسل لا يخاف لأنّي أمرتهم بإظهار أمر و معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلّق بإظهار ذلك و إلّا فالمرسل قد يخاف لا محالة.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 11 الى 14]

إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

و قيل في هذا الاستثناء: إنّه متّصل، و على قول من قال: متّصل محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل و الأولى و قالوا تعريض لطيف لموسى عليه السّلام في وكزه القبطيّ أمّا ما عليه جمل المفسّرين أنّه استثناء منقطع و المعنى: لكن من ظلم نفسه بفعل القبيح من غير المرسلين لأنّ الأنبياء لا يقع منهم قبيح لكونهم معصومين من الذنوب فيكون هذا الاستثناء منقطعا و إنّما حسن ذلك اجتماع الأنبياء و غيرهم في معنى و هو التكليف.

قوله: [ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً] و قرئ حسنا، أي بدّل توبة و ندما على ما فعله من القبيح و

ص: 82


1- الأنبياء: 71.

عزما على عدم العود [فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ساتر لذنبه و رحيم البتّة به و قرئ في الآية «ألا من ظلم» بحرف التنبيه فحينئذ بيان مستأنف و الكلام جملة معترضة.

[وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ] و أعطاه آية و قد سبق بيانها [فِي تِسْعِ آياتٍ أى مع تسع آيات أخر أنت مرسل بها إلى فرعون و قومه و كانت الآيات إحدى عشر: ثنتان منها اليد و العصا و التسع الفلق و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم و الطمسة و الجدب في بواديهم و النقصان في مزارعهم و لكنّ الصحيح أنّ العصا و اليد من التسع و الأخيرين واحد و الفلق لا يعدّ منها و في قوله «أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» قيل:

لأنّه كان لموسى عليه السّلام مدرعة صوف لا كمّ لها. و قيل: الجيب القميص لأنّه يجاب عنه و يقطع، أو المعنى: «فِي تِسْعِ آياتٍ» معناه: من تسع آيات أي اظهر هاتين الآيتين من جملة تسع آيات.

[إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن طاعة اللّه إلى أقبح وجوه الكفر.

[فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا] أي حججنا و معجزاتنا [مُبْصِرَةً] أي واضحة بيّنة على من أبصر أنّها خارجة عن قدرة البشر و هو مثل قوله: «وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً» (1) [قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي سحر ظاهر.

[وَ جَحَدُوا بِها] و أنكروا المعجزات و لم يقرّوا بأنّها من عند اللّه، و الباء زائدة قال العجّاج:

«نضرب بالسيف و نرجو بالفرج» [وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي عرفوها و علموها يقينا بقلوبهم و إنّما جحدوها بألسنتهم ظلما على بني إسرائيل [ظُلْماً وَ عُلُوًّا] طلبا للعلوّ و الرتبة و تكبّرا عن أن يؤمنوا بما جاء موسى [فَانْظُرْ] يا محمّد أو أيّها السامع [كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ في الأرض بالمعاصي؟

ص: 83


1- الإسراء: 59.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 15 الى 19]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

المعنى: ثمّ عطف سبحانه على قصّة موسى قصّة داود و سليمان فقال:

[وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً] بالقضاء بين الخلق و بكلام الطير و الدوابّ [وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أي اختارنا من بين الخلق بأن جعلنا أنبياء و الملوك و بالمعجزات الّتي أعطى لنا من إلانة الحديد و تسخير الشياطين و الجنّ و الإنس.

[وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ] و في الآية دلالة على أنّ الأنبياء يورّثون المال كتوريث غيرهم [وَ قالَ سليمان مظهرا لنعم اللّه: [يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ] فإن قيل:

كيف: قال علّمنا و أوتينا، و هو من كلام المتكبّرين؟ فالجواب أنّ هذه يقال ليهابون الواحد المطاع و قد يتعلّق بتعظيم الملك مصالح.

قال أهل العربيّة: لا يطلق النطق على غير بني آدم و إنّما يقال الصوت لأنّ النطق عبارة عن الكلام و لا كلام للطير إلّا أنّه لمّا فهم سليمان معنى صوت الطير سمّاه منطقا مجازا، و قال عليّ بن عيسى: إنّ الطير كانت تكلّم سليمان معجزة له كما أخبر عن الهدهد، و منطق الطير صوت يتفاهم به معانيها على صيغة واحدة بخلاف منطق الناس الّذي يتفاهمون به المعاني على صيغ مختلفة، و كذلك لا نفهم عنها مع طول مصاحبتها و لا تفهم هي عنّا لأنّ أفهامها مقصورة على تلك الأمور المخصوصة، و لمّا جعل اللّه سليمان يفهم عنها كان قد علم منطقها.

[وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ] يؤتى الأنبياء و الملوك، و قيل: من كلّ شي ء يطلبه طالب لحاجته إليه و انتفاعه به. روى الواحديّ بالإسناد عن محمّد بن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السّلام قال اعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض و مغاربها فملك سبع مائة سنة و ستّة أشهر ملك أهل الدنيا كلّهم من الجنّ و الإنس و الشياطين و الدوابّ و الطير و السباع و اعطي علم كلّ شي ء و منطق كلّ شي ء و في زمانه صنعت الصنائع العجيبة و ذلك قوله تعالى: «عُلِّمْنا

ص: 84

مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ».

[إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي هذا فضل اللّه الظاهر الّذي لا يخفى على أحد و هذا قول سليمان على وجه الشكر و الاعتراف، و يحتمل من قول اللّه على وجه الإخبار.

[وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ] قال المفسّرون: كان سليمان إذا أراد سفرا أمر فجمع له طوائف من هؤلاء أي الجنّ و الإنس و الطيور على بساط ثمّ يأمر الريح فتحملهم بين السماء و الأرض.

قال محمّد بن كعب: بلغنا أنّ سليمان بن داود كان معسكره مائة فرسخ خمسة و عشرون منها للإنس و خمسة و عشرون للجنّ و خمسة و عشرون للوحش و خمسة و عشرون للطير و كان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة و سبعمائة سرّيّة و قد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب و أبريسم فرسخا في فرسخ و كان يوضع منبره في وسطه و هو من ذهب فيقعد عليه و حوله ستّمائة ألف كرسيّ من ذهب و فضّة فيقعد الأنبياء عليه السّلام على كراسيّ الذهب، و العلماء على كراسيّ الفضّة و حولهم الناس و حول الناس الجنّ و الشياطين و تظلّه الطير بأجنحتها حتّى لا تقع عليه الشمس و ترفع ريح الصبا البساط فيسير به مسيرة شهر.

و يروى أنّه كان يأمر الريح العاصف تحمله و يأمر الرخاء تسيره فأوحى اللّه إليه و هو يسير بين السماء و الأرض: إنّي قد زدت في ملكك لا يتكلّم أحد بشي ء إلا ألقته الريح في سمعك فيحكى أنّه مرّ بحرّاث فقال: لقد اوتي آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح في اذنه فنزل و مشى إلى الحرّاث و قال: إنّما مشيت إليك لئلّا تتمنّى ما لا تقدر عليه ثمّ قال سليمان: لتسبيحة واحدة يقبلها اللّه تعالى خير ممّا اوتي آل داود.

و هاهنا نكتة و هي أنّ العمل الصالح و لو تسبيحة كيف يترجّح إذا كان مقبولا عند اللّه من ملك آل داود مع هذه البسطة الّتي ما اتّفقت لأحد حتّى علم أصوات الحيوانات.

و يحكى أنّه مرّ على بلبل في شجرة يحرّك رأسه و يميل ذنبه فقال سليمان لأصحابه: أ تدرون ما يقول؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: يقول: إذا أكلت نصف تمرة

ص: 85

فعلى الدنيا العفا. و صاحت فاختة فأخبر أنّها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا. و صاح طاوس فقال، يقول: كما تدين تدان. و صاح هدهد فقال: يقول: استغفروا اللّه يا مذنبين.

و صاح طيطوى فقال: يقول: كلّ حيّ ميّت و كلّ جديد بال. و صاح خطّاف فقال:

يقول: قدّموا تجدوه. و صاح قمريّ فأخبر أنّه تقول: سبحان ربّي الأعلى. و صاحت رخمة فقال: تقول: سبحان ربّي الأعلى مل ء سمائه و أرضه و قال الحداءة: كلّ شي ء هالك إلّا اللّه و القطاة تقول: من سكت سلم. و الببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همّه. والديك يقول:

اذكروا اللّه يا غافلين. و النسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. و العقاب يقول: في البعد انس. و الضفدع يقول: سبحان ربّي القدّوس.

قوله: [فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يمنع أوّلهم على آخرهم أي كلّ صنف من جنوده وزعة تردّ أوّلهم على آخرهم ليترتّبوا و يتلاحقوا و لا يتفرّقوا كما أنّ الجيوش يتوزّعون و يترتّبون و لا يختلف نظمهم.

[حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ أي سار سليمان و جنوده حتّى إذا أشرفوا على واد و هو بالطائف و قيل: هو بالشام [قالَتْ نَمْلَةٌ] أي صاحت بصوت خلق اللّه لها، و لمّا كان الصوت مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول، و قيل كانت النملة رئيسة النمل: [يا أَيُّهَا النَّمْلُ قرئ بضمّ النون و الميم و قرئ بضمّ الميم و كان الأصل النمل بوزن الرجل لكنّ الاستعمال النمل كالنحل تخفيفا فالمعنى: أنّها تكلّمت بصوتها، و هذا غير مستبعد أن يخلق اللّه فيها العقل و النطق.

و عن قتادة أنّه دخل الكوفة فالتفّ عليه الناس فقال: سلوا عمّا شئتم فسأله غلام حدث عن نملة سليمان أ كانت ذكرا أم أنثى؟ فأفحم، فقال الغلام: كانت أنثى، فقيل له:

من أين عرفت؟ فقال الغلام: من كتاب اللّه و هو قوله «قالَتْ نَمْلَةٌ» و لو كان ذكرا لقال:

«قال نملة» و ذلك لأنّ النملة مثل الحمامة و الشاة في وقوعها على الذكر و الأنثى و لا بدّ أن يميّز بينهما بعلامة نحو قولهم: حمامة ذكر و حمامة أنثى أو هو و هي.

و بالجملة صاحت النملة يا أيّها النمل لا يكسرنّكم [سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بحطمكم و وطئكم و هذا يدلّ على أنّ سليمان و جنوده كانوا ركبانا و مشاة

ص: 86

على الأرض و لم تحملهم الريح بين السماء و الأرض لما خافت النمل أن يطأها بأرجلهم، أو كان هذه القصّة قبل تسخير اللّه الربح لسليمان عليه السّلام.

فإن قيل: كيف عرفت النملة سليمان و جنوده حتّى قالت هذه المقالة؟

فالجواب: إذا كانت مأمورة بطاعته فلا بدّ أن يخلق لها من الفهم ما تعرف به و لا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما يستدرك به ذلك و قد علمنا أنّها تشقّ ما تجمع من الحبوب بنصفين مخافة أن يفسده الندى فتنبت إلّا الكزبرة فإنّها تكسرها بأربع قطع لأنّها تنبت إذا شقّت بنصفين فمن هداها إلى هذا؟ فإنّه جلّ جلاله هداها إلى تميّز ما يحطمها. و قيل: إنّها كانت معجزة لسليمان عليه السّلام قال ابن عبّاس: فوقف سليمان بجنوده حتى دخل النمل مساكنه.

[فَتَبَسَّمَ سليمان [ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها] أي تبّسم شارعا في الضحك و تجاوز حدّ التبسّم إلى حدّ الضحك و ذلك أنّ الإنسان إذا رأى ما لا عهد به فعجب و ضحك. و قيل:

إنّ الريح أطارت كلامها إليه من ثلاثة أميال حتّى سمع ذلك فانتهى إليها و هي تأمر النمل بالمبادرة فتبسّم من حذرها.

[وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ قال الزمخشريّ: حقيقة «أَوْزِعْنِي» اجعلني أزع شكر نعمتك عندي و أكفّه عن أن ينقلب عنّي حتّى أكون شاكرا لك أبدا و الحاصل: ألهمني و وفّقني أن أشكر نعمتك بأن علّمتني منطق النمل و أسمعتني صوتها من بعيد حتّى أمكنتني الكفّ و أكرمتني بالنبوّة و الملك [وَ عَلى والِدَيَ فأكرمته بالنبوّة و فصل الخطاب و ألنت له الحديد و أنعمت على والدتي بأن زوّجتها نبيّك [وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً] أي وفّقني للعمل الصالح في المستقبل [تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ قال ابن عبّاس: يعني إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و من بعد هم من النبيّين عليه السّلام أي أدخلني في جملتهم و أثبت اسمي في أسمائهم. و قيل في عبادك أي مع عبادك.

ص: 87

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 20 الى 26]

وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)

أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

ثمّ أخبر سبحانه عن سليمان فقال:

[وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ] و تعرّف فلم يجد فيها الهدهد و كان سليمان إذا قعد على كرسيّه جاءت جميع الطير الّتي سخّرها اللّه له فتظلّ الكرسيّ و البساط بجميع من عليه عن الشمس فغاب عنه الهدهد من بين الطير فوقع الشمس من موضعه في حجر سليمان فرفع رأسه [فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ] أي ما للهدهد لا أراه؟ تقول العرب: ما لي أراك كئيبا، معناه:

ما لك كئيبا، و هو من القلب الّذي يوضحه المعنى.

و اختلف في سبب تفقّده الهدهد فقيل: بسبب المذكور و هو وقوع الشمس على رأسه من خلوّ مكان الهدهد. و قيل: إنّه احتاج إليه في سفره ليدلّه على الماء لأنّه يقال: إنّه يرى الماء في بطن الأرض كما يراه في القارورة، عن ابن عبّاس. و روى العيّاشيّ بالإسناد قال: قال أبو حنيفة لأبي عبد اللّه عليه السّلام كيف تفقّد سليمان الهدهد بين الطير؟ قال عليه السّلام:

لأنّ الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة، فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه و ضحك، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما يضحكك؟ قال: ظفرت بك جعلت فداك، قال: و كيف ذلك؟ قال: الّذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخّ (1) في التراب حتّى يؤخذ بعنقه؟ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا نعمان أما علمت أنّه إذا نزل القدر أغشى البصر؟ و بالجملة و قيل: السبب في تفقّده للإخلال بنوبته في الخدمة.

فقال عليه السّلام: [أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أ تأخّر عصيانا أم غاب لعذر و حاجة؟ و قيل:

«أم» هنا هي المنقطعة. قال المبرّد: لمّا تفقّده و لم يره على تقدير أنّه مع جنوده و هو لا يراه

ص: 88


1- آية يصاد بها.

ثمّ أدركه الشكّ في غيبته ثمّ قال: أم كان أي بل هو من الغائبين.

ثمّ أوعده على غيبته فقال: [لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً] معناه: بنطف ريشه و إلقائه في الشمس، عن ابن عبّاس و جماعة. و قيل: بأن أجعله مع أضداده، و كما صحّ نطق الطير و تكليفه في زمانه جازت معاتبته على ما وقع منه من تقصير فإنّه كان مأمورا بطاعته فاستحقّ العقاب على غيبته [أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أي لأقطعنّ حلقه عقوبة على عصيانه [أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجّة واضحة تكون له عذرا صحيحا في سبب غيبته.

و اعلم أنّ الملاحدة طعنت في هذه القصّة من وجوه: منها أنّ سليمان كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك الساعة من الشام إلى اليمن ثمّ رجع إليه؟ و كيف خفي على سليمان حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال أنّ الجنّ و الإنس كانوا في طاعته و أنّه ملك الدنيا بالكلّيّة و كان تحت راية بلقيس جماعة كثيرة و كان أولو مشورتها- على ما قيل- ثلاثمائة و اثني عشر قيلا (1) كلّ قيل منهم تحت رايته ألف مقاتل مع أنّه يقال: إنّه لم يكن بين سليمان و بين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلّا مسيرة ثلاثة أيّام؟ و منها: من أين حصل للهدهد معرفة اللّه و وجوب السجود له و إنكار سجودهم للشمس من دون اللّه و إضافته إلى الشيطان و تزيينه؟

و الجواب عن الكلّ أنّ الإيمان و التصديق بافتقار الخلق و العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك و البنية ليست شرطا في القدرة فإذا أراد اللّه بأمر حصل فيه ما أراد فحينئذ يمكن أن يكون يصدر من الهدهد امور عقلانيّ لا يصدر عن مثل ألف فيثاغورث و أفلاطون و يكون عرش بلقيس في وسط بساط سليمان و هو عليه السّلام لا يحسّ به إلّا إذا أراد اللّه.

و بالجملة قوله تعالى: [فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ] أي لم يلبث سليمان إلّا زمانا يسيرا حتّى جاء الهدهد أو المعنى: فلبث الهدهد في غيبته قليلا ثمّ رجع، فيجوز أن يكون التقدير: فمكث الهدهد في مكان غير بعيد فأتاه الهدهد بحجّة [فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي اطّلعت بما لم تطّلع عليه [وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ بخبر صادق عن

ص: 89


1- بالفتح: كل قائد من قواد اليمن.

سبأ و هي مدينة بأرض اليمن، و قيل: إنّ اللّه بعث إلى سبأ اثني عشر نبيّا، و سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن سبأ فقال: هو رجل ولد له عشرة من العرب تيامن منهم ستّة و تشاءم أربعة فالّذين تشاءموا: لخم و جذام و غسّان و عاملة، و الّذين تيامنوا: كندة و الأشعرون و الأزد و مذحج و حمير و أنمار، و من الأنمار خثعم و بجيلة. و إذا كان اسم مدينة لا ينافي هذا الكلام لأنّها مسمّاة باسم هذا الرجل.

قوله: [إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ] و هو خبر بلقيس قال:

وجدت امرأة تتصرّف بالسلطنة فيهم بحيث لا يعترض عليها أحد و لها من سعة مالها و ملكها كلّ شي ء يحتاج إليه الملوك من زينة الدنيا و هي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ. قيل:

إنّ امّها جنّيّة ولدها أربعون ملكا آخرهم أبو هاشم شرحبيل من ملوك حجر [وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ أي و لها سرير عظيم و كان مرصّعا بالياقوت الأحمر و الزمرّد الأخضر مكلّل بألوان الجواهر، و عليه سبعة أبيات على كلّ بيت باب مغلق.

[وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي عبادتهم للشمس و لا يعبدون اللّه [فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي صرفهم الشيطان عن سبيل الحقّ [فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ غير مهتدين و في الضلالة.

و قال بعض علماء الاعتزال مثل الجبّائيّ و أمثاله: لم يكن الهدهد عارفا باللّه و إنّما أخبر بذلك كما يخبر مراهقو صبياننا لأنّه لا تكليف إلّا على الملائكة و الإنس و الجنّ فيرانا الصبيّ على عبادة اللّه فيتصوّر الصبيّ أنّ ما خلاها باطل فكذلك الهدهد تصوّر أنّ ما خالف فعل سليمان باطل.

و لكن ردّ هذا القول بأنّ هذا الّذي ذكره الجبّائيّ خلاف ظاهر القرآن لأنّه لا يجوز أن يفرق بين الحقّ الّذي هو السجود للّه و بين الباطل الّذي هو السجود للشمس و أنّ أحدهما قبيح و الآخر حسن إلّا العارف باللّه سبحانه و بما يجوز و بما لا يجوز مع نسبة أعمالهم و صدّهم عن طريق الحقّ إلى الشيطان و هذه مقالة من يعرف العدل و أنّ القبيح على اللّه غير جائز.

ص: 90

قوله تعالى: [أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ قرئ بالتخفيف على أنّه الأمر و التنبيه على السجود و معناه: ألا يا قوم اسجدوا اللّه، و الجملة معترضة اعترضت في الكلام، و على قراءة التشديد فالمعنى زيّن لهم الشيطان ضلالتهم لئلّا يسجدوا للّه. و على قراءة التخفيف «ألا» حرف التنبيه و «يا» حرف النداء و المنادى محذوف و يجوز أن يكون لا مزيدة و يكون المعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا، و في قراءة عبد اللّه بن مسعود و الأعمش بقلب الهمزة هاء أي هلّا تسجدون للّه، على الخطاب.

[الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و الخب ء المخبوء و هو كلّ ما غاب عن الإدراك و ما يوجده اللّه فيخرجه من العدم إلى الوجود، و قيل: المراد من خب ء السماوات المطر و من خب ء الأرض النبات و هو يتناول جميع أنواع الأرزاق و الأشياء حتّى النطفة في الأصلاب و يعمّ إشراق الشمس بعد استتارها.

و في الآية دلالة على الردّ فيمن يعبد الشمس لأنّها ليست كذلك فليست قابلة للمعبوديّة و الإلهيّة لأنّ الإله هو القادر على إخراج الخب ء و عالما بالخفيّات و الشمس جسم متناه في الذات و كلّما كان متناه في الذات متناه في الصفات.

و ذكر القرّاء أنّ قراءة «أَلَّا يَسْجُدُوا» بالتشديد لا يوجب سجدة التلاوة. قال الطبرسيّ:

و هذا غير صحيح لأنّ الكلام قد تضمّن الذّم على ترك السجود فيكون فيه دلالة على وجوب السجود لأنّه كقوله: «وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ» (1).

و هذا الكلام قيل من اللّه اعترض في الكلام، و قيل: إنّه من كلام الهدهد قاله لقوم بلقيس حين وجدهم يسجدون لغير اللّه. و قيل: قاله سليمان عند عود الهدهد إليه استنكارا لما وجدهم عليه.

قال الرازيّ: و على القراءتين أي تشديدا و تخفيفا فالسجدة في الآية واجبة خلافا للزجّاج حيث إنّه يقول في وجوب السجدة على قراءة التخفيف دون التشديد. و قال الرازيّ: إنّ أصحابنا اتّفقوا على أنّ سجدات القرآن أربع عشرة سجدة و هذا واحد منها و لأنّ مواضع السجدة إمّا أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذمّ لمن تركها و على هذه الصورة

ص: 91


1- الفرقان: 60.

إحدى القراءتين أمر بالسجود و الاخرى ذمّ للتارك.

قوله [وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ أي يعلم السرّ و العلانية [اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ إلى هاهنا تمام الحكاية لما قاله الهدهد، و يحتمل أن يكون أوّل إخبار اللّه تعالى، و العرش سرير الملك الّذي عظّمه اللّه و رفعه فوق السماوات السبع و جعل الملائكة تحفّ به و ترفع أعمال العباد إليه و تنشأ البركات من جهته فهو عظيم الشأن و هو أعظم خلق اللّه.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 27 الى 31]

قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

لمّا سمع سليمان ما اعتذر به الهدهد قال عند ذلك: [سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ في قولك الّذي أخبرتنا به [أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ثمّ كتب سليمان كتابا و ختمه بخاتمه و دفعه إليه فذلك قوله تعالى: [اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ يعني أهل سبأ [ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي استتر عنهم قريبا منهم بعد إلقاء الكتاب إليهم [فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ أي ما يردّون من الجواب، و في الكلام حذف تقديره: فمضى الهدهد بالكتاب و ألقاه إليهم.

قال قتادة: أتى الهدهد إلى بلقيس فوجدها نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها و كانت لها كوّة مستقبلة للشمس تقع الشمس عند ما تطلع فيها فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد إلى الكوّة سدّها بجناحه فارتفعت الشمس و لم تعلم فقامت تنظر فرمى الكتاب إليها فلمّا أخذت الكتاب جمعت الأشراف و هم يومئذ ثلاثمائة و اثنا عشر قيلا فقالت لهم:

[إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ و إنّما سمّته كريما لأنّه كان مختوما و يؤيّد هذا المعنى الحديث حيث يقول: إكرام الكتاب ختمه. و قيل: و صفته بالكريم لأنّه صدّره ببسم اللّه الرحمن الرحيم. و قيل: لحسن خطّه وجودة لفظه و بيانه. و قيل: لأنّه عن من يملك الإنس و الجنّ و الطير و قد كانت سمعت بخبر سليمان.

ص: 92

[إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ أي إنّ الكتاب من سليمان و [إِنَّهُ و إنّ الكتاب مكتوب فيه [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ و «أن» في هذا الموضع بمعنى أي نحو قوله: «وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا» أي امشوا و الحاصل أي لا تترفّعوا و لا تتكبّروا عليّ و أتوني منقادين طائعين أو مسلمين مؤمنين باللّه و كذا كانت عادة الأنبياء كتبهم موجزة مقصورة على الدعوة إلى اللّه من غير بسط.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 32 الى 37]

قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)

ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (37)

المعنى: و لمّا وقفت بلقيس على كتاب سليمان قالت لأشراف قومها: [يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي أشيروا عليّ و أظهروا لي الحكم فجعلت المشورة هنا فتيا [ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تحضروني أي إلّا بحضرتكم و مشورتكم [قالُوا] لها في الجواب عن ذلك:

[نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ] و أصحاب قدرة و أهل عدد [وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ] أي نحن ذو شجاعة شديدة [وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ مفوّض في القتال و غيره [فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ أي ما الّذي تأمريننا به لنمتثله.

[قالَتْ مجيبة لهم عن التعريض بالقتال: [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها] أي إذا دخلوها عنوة و غلبة خربوها و أهلكوها [وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً] أي أهانوا أشرافها و كبراءها كي يستقيم لهم الأمر و حذّرتهم مسير سليمان إليهم و دخوله بلادهم يصدّق اللّه سبحانه كلامها بقوله تعالى: [وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ و قيل: الكلام متّصل بعضه ببعض و هو من كلامها.

[وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي باعثة إلى سليمان و قومه بهديّة أصانعه بذلك عن ملكي فمنتظرة بم يرجع المرسلون بقبول أم ردّ، و إنّما

ص: 93

فعلت ذلك لعادة الملوك في حسن موقع الهدايا عندهم و كان غرضها أن يتبيّن لها بذلك أنّه ملك أو نبيّ فإن قبل الهديّة تبيّن أنّه ملك و إن ردّها فتبيّن أنّه نبيّ. و اختلف في الهديّة فقيل: أهدت إليه و صفاء و وصائف ألبستهم لباسا واحدا حتّى لا يعرف ذكر من أنثى عن ابن عبّاس. و قيل: أهدت مأتي غلام و مائتي جارية ألبست الغلمان لباس الجواري و الجواري لباس الغلمان و أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية من الديباج.

فلمّا بلغ ذلك سليمان أمر الجنّ أن يموّهوا له الآجرّ بالذهب ثمّ أمر به فالقي في الطريق فلمّا جاءوا رأوه ملقى في الطريق في كلّ مكان فلمّا رأوا ذلك صغر في أعينهم ما جاءوا به، عن ثابت البنانيّ.

و قيل: إنّها عمدت إلى خمس مائة غلام و خمسمائة جارية فألبست الجواري الأقبية و المناطق و ألبست الغلمان في سواعدهم أساور من ذهب مرصّع و في أعناقهم أطواقا من ذهب بالجواهر و في آذانهم أقراطا و حملت الجواري على خمسمائة رمكة و الغلمان على البرازين و على كلّ فرس لجام من ذهب مرصّع بالجواهر و بعثت إليه خمسمائة ألبسة من ذهب و كذلك من الفضّة و تاجا مكلّلا بالجواهر و عمدت إلى حقّة فجعلت فيها درّة يتيمة غير مثقوبة و خرزة مثقوبة معوّجة الثقب و ودعت رجلا من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو و ضمّت إليه رجالا من قومها أصحاب عقل و رأي و كتبت إليه كتابا نسخة الهديّة و قالت: إن كنت نبيّا فميّز بين الوصفاء و الوصائف و أخبر بما في الحقّة قبل أن تفتحها و اثقب الدّرة ثقبا مستويا و أدخل الخرزة خيطا من غير علاج إنس و لا جنّ. و قالت للرسول: انظر إليه إن دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنّه ملك فلا يهولنّك أمر فإنّا أعزّ منه، و إن نظر إليك نظر لطف فاعلم أنّه نبيّ مرسل.

فانطلق الرسول بالهدايا و أقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان و أخبره الخبر فأمر سليمان الجنّ أن يضربوا لبنات (1) الذهب و الفضّة و أن يجعلوها حول الميدان حائطا من الذهب و الفضّة ففعلوا، ثمّ أمرهم أن يبسطوا من موضعه الّذي هو فيه إلى بضع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب و الفضّة، ثمّ قال للجنّ: عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم

ص: 94


1- جمع لبنة: المضروب من الطين مربعا للبناء.

على يمين الميدان و يساره ثمّ قعد سليمان في مجلسه على سرير و وضع له أربعة آلاف كرسيّ عن يمينه و مثله عن يساره و أمر الشياطين أن يصفّوا صفوفا فراسخ و أمر الوحوش و السباع و الهوامّ و الطير فاصطفّوا فراسخ عن يمينه و شماله.

فلمّا دنا القوم من الميدان و نظروا إلى ملك سليمان فتقاصرت أنفسهم و رموا بما معهم من الهدايا فلمّا وقفوا بين يدي سليمان نظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق و قال: ما وراءكم؟

فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له و أعطاه كتاب الملكة فنظر إليه و قال: أين الحقّة فاتي بها فحرّكها و جاءه جبرئيل فأخبره بما في الحقّة فقال: إنّ فيها درّة غير مثقوبة و خرزة مثقوبة معوجّة الثقب فقال الرسول: صدقت فاثقب الدرّة و أدخل الخيط في الخرزة فأرسل سليمان إلى الأرضة فجاءت فأخذت شعرة في فيها و دخلت الثقب حتّى خرجت من الجانب الآخر ثمّ قال سليمان: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط فقالت دودة بيضاء: أنا لها فأخذت الدودة الخيط و دخل في الثقب و خرج من الجانب الآخر. ثمّ ميّز بين الجواري و الغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم و أيديهم فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثمّ تجعله على اليد الآخر ثمّ تضرب به في الوجه، و الغلام كان يأخذ من الآنية يضرب به وجهه و كانت الجارية تصبّ على باطن ساعدها و الغلام على ظهر الساعد و كانت الجارية تصبّ الماء صبّا و كان الغلام يحدر الماء على يده حدرا فميّز بينهنّ بذلك هذا كلّه مرويّ عن وهب و غيره.

و قيل: إنّها أنفذت مع هدايا عصا كان يتوارثها ملوك حمير و قالت: أريد أن تعرّفني رأسها من أسفلها، و بقدح و قالت: تملؤه ماء ليس من الأرض و لا من السماء فأرسل سليمان العصا إلى الهواء و قال: أيّ الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها و أمر بالخيل فأجريت حتّى عرقت و ملأ القدح من عرقها.

[فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ فلمّا جاء الرسول سليمان بالهدايا [قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ أي تزبدوننى مالا؟ و هذا استفهام إنكار [فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي ما أعطاني اللّه من الملك و النبوّة و الحكمة خير ممّا أعطاكم من الدنيا و أموالها [بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ

ص: 95

تَفْرَحُونَ إذا هدى بعضكم إلى بعضكم و أمّا أنا فلا أفرح بها، إشارة إلى قلّة اكتراثه بأموال الدنيا.

ثمّ قال للرسول [ارْجِعْ إِلَيْهِمْ بما جئت به من الهدايا [فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها] لا قدرة لهم على دفعها [وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً] أي من تلك المملكة و من أرضها و ملكها [وَ هُمْ صاغِرُونَ ذليلون صغير و القدر إن لم يأتوني مسلمين.

فلمّا ردّ سليمان الهديّة و ميّز بين الغلمان و الجواري إلى غير ذلك علموا أنّه نبيّ مرسل و أنّه ليس كالملوك الّذين يغترّون بالمال.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 38 الى 44]

قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ (42)

وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)

القصة: فلمّا رجع الرسول و عرّفها أنّه نبيّ و أنّها لا تقاومه فتجهّزت للمسير إليه و أخبر جبرئيل سليمان أنّها خرجت من اليمن مقبلة إليه فقال سليمان لأماثل جنده و أشراف عسكره: [يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ؟ يعني آتوني بعرشها، و اختلف في السبب الّذي خصّ به العرش بالطلب فقيل: أراد أن يختبر عقلها و يختبر فطنتها هل تعرفه أو تنكره؟ و قيل: أراد أن يجعل ذلك دليلا و معجزة على صدق نبوّته لأنّها خلّفته في دارها و وكّلت به ثقات قومها يحرسونه و يخطفونه. و قال ابن عبّاس:

كان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بكلام حتّى يكون هو الّذي يسأل عنه فخرج يوما فجلس على سريره فرأى رهجا قريبا منه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول اللّه بلقيس و قد

ص: 96

نزلت منّا بهذا المكان و كان ما بين الحيرة و الكوفة على قدر فرسخ فقال: أيّكم يأتيني بعرشها.

و في قوله «مسلمين» فيه و جهان: أحدهما أنّه أراد مؤمنين موحّدين أو مستسلمين منقادين.

[قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ أى مارد قويّ داهية: [أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي من مجلسك الّذي تقضي فيه [وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ أي على حمله لقويّ و على الإتيان به و في هذه المدّة قادر و على ما فيه من الذهب و الجواهر أمين، و في هذا دلالة على أنّ الاستطاعة و القدرة قبل الفعل لأنّه أخبر بأنّه قويّ عليه قبل أن يجي ء به، و كان سليمان يجلس في مجلسه للقضاء غدوة إلى نصف النهار.

فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك فعند ذلك [قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ و هو آصف بن برخيا و كان ابن اخت سليمان و وزيره و كان صدّيقا يعرف اسم اللّه الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب. و قيل: إنّ ذلك الاسم اللّه و الّذي يليه الرحمن. و قيل: هو يا حيّ يا قيّوم و بالعبرانيّة آهيا شراهيا. و قيل: هو يا ذا الجلال و الإكرام. و قيل: إنّه قال: يا إلهنا و إله كلّ شي ء إلها واحدا لا إله إلّا أنت.

و في البصائر و الكافي عن الباقر عليه السّلام: إنّ اسم اللّه الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا و إنّما كان عند آصف بن برخيا حرف واحد فتكلّم به فخسف به الأرض ما بينه و بين سرير بلقيس حتّى تناول السرير بيده ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، و عندنا نحن من الاسم الأعظم اثنان و سبعون حرفا و حرف عند اللّه استأثر به في علم الغيب عنده و لا حول و لا قوّة باللّه العليّ العظيم.

و في رواية اخرى في الكافي عن الهادي عليه السّلام قال: فتكلّم به فانخرقت له الأرض فيما بينه و بين سبأ فتناول عرش بلقيس حتّى صيّره إلى سليمان ثمّ انبسطت الأرض في أقلّ من طرفة عين و قال عليه السّلام: و لم يعجز سليمان عليه السّلام عن معرفة ما عرف آصف لكنّه أحبّ أن يعرف الجنّ و الإنس أنّه الحجّة بعده.

و قيل: إنّ الّذي عنده علم من الكتاب هو جبرئيل أذن اللّه له في طاعة سليمان بأن يأتيه بالعرش الّذي طلبه. و قيل: هو سليمان قال ذلك للعفريت ليريه نعمة ربّه، و هذا قول بعيد لم يؤثر عن أهل التفسير.

ص: 97

و الكتاب قيل: إنّه اللوح المحفوظ. و قيل: المراد الجنس من كتب اللّه المنزلة على أنبيائه و ليس المراد به كتابا بعينه و الجنس قد يعرّف بالألف و اللام.

قوله: [أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ اختلف في معناه فقيل: يريد قبل أن يصل من كان منك على قدر مدّ البصر. و قيل: معناه: قبل أن يبلغ طرفك مداه و غايته و يرجع إليك. و قال سعيد بن جبير: قال لسليمان: انظر إلى السماء فما طرف حتّى جاء به فوضعه بين يديه و المعنى: حتّى يرتدّ إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء. و قيل:

معنى ارتداد الطرف إدامة النظر حتّى يرتدّ طرفه خاسئا. فعلى هذا معناه: أنّ سليمان مدّ بصره إلى أقصاه و هو يديم النظر فقبل أن ينقلب بصره إليه حسيرا يكون قد أتي بالعرش.

و ذكر العلماء في ذلك وجوها: أحدها أنّ الملائكة حملته بأمر اللّه، و الثاني أنّ الريح حملته، و الثالث أنّ اللّه خلق فيه حركات متوالية، و الرابع أنّه انخرق في مكانه حيث هو هناك ثمّ تبع بين يدي سليمان، و الخامس أنّ الأرض طويت له، و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام. و السادس أنّه أعدمه اللّه في موضعه و أعاده في مجلس سليمان، و هذا لا يصحّ على مذهب أبي هاشم و يصحّ على مذهب أبي عليّ الجبّائيّ فإنّه يجوز فناء بعض الأجسام دون بعض.

و بالجملة [فَلَمَّا] حضر العرش و [رَآهُ سليمان [مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي هذا من نعمته و إحسانه عليّ بتيسّره و تسخيره مع صعوبته [لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ] ليخبرني هل أقوم بشكر هذه النعمة أم أكفر بها [وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنّ عائد شكره له دون غيره [وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ غنيّ عن شكر العباد، متفضّل عليهم شاكرهم و كافرهم، عاصيهم و مطيعهم.

[قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها] قال سليمان: غيّروا سريرها إلى حال تنكّرها إذا رأته، و أراد بذلك اعتبار عقلها [لننظر أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أي أ تهتدي إلى معرفة عرشها بعد التغيّر أم لا تهتدي إلى ذلك. و قيل: المعنى: أ تستدلّ بعرشها على قدرة اللّه

ص: 98

و صحّة نبوّته و تهتدي إلى طريق الإيمان و التوحيد أم لا، و غيّروه فما كان على العرش من الجواهر و الفصوص أحمر جعلوا مكانه أخضر و ما كان أخضر جعلوا مكانه أحمر و زيد و نقص فيه.

[فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ] فلم تثبته و لم تنكره و ذلك لعقلها وجودة ذهنها حيث لم تقل: لا، إذ كان يشبه سريرها، و لم تقل: نعم، إذ وجدت فيه ما غيّر و لأنّها خلّفته في بيتها و حمله في تلك المدّة إلى ذلك الموضع غير داخل في قدرة البشر و كانت خلّفته وراء سبعة أبواب لمّا خرجت.

ثمّ قالت: [وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ بصحّة نبوّة سليمان [مِنْ قَبْلِها] أي من قبل الآية في العرش [وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ طائعين لأمر سليمان، و قيل: إنّه من كلام سليمان يعني و أوتينا العلم باللّه و قدرته على ما يشاء من قبل هذه المرّة و كنّا مخلصين للّه. و قيل: و أوتينا العلم بإسلامها و مجيئها طائعة.

[وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي و منعها عبادة الشمس عن الإيمان باللّه. و قيل: معناه: و صدّها سليمان عمّا كان تعبدها دون اللّه و منعها عنها ثمّ استأنف فقال:

[إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أي من عبدة الشمس قد كبرت و نشأت فيهم فلم تعرف إلّا عبادة الشمس.

[قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ و ذلك أنّ سليمان لمّا أقبلت صاحبة السبأ أمر الشياطين ببناء الصرح و هو كهيئة السطح من قوارير اجري تحته الماء و جمع في الماء الحيتان و الضفادع و دوابّ البحر ثمّ وضع له فيه سرير فجلس عليه، و قيل: إنّه قصر من زجاج كلّه كأنّه الماء بياضا، و كلّ بناء من زجاج أو صخر أملس موثّق فهو صرح، و إنّما أمر سليمان بالصرح لأنّه أراد أن يختبر عقلها لأنّ الجنّ و الشياطين خافت أن يتزوّجها سليمان فلا ينفكّون من تسخير ذريّة سليمان بعده لو تزوّجها و ذلك لأنّ امّها على ما قالوا كانت جنّيّة فأساءوا الثناء عليها عند سليمان لأن لا يميل سليمان إليها و قالوا لسليمان:

إنّ في عقلها شيئا و إنّ رجلها كحافر الحمار و لذلك قال سليمان لها: ادخلي الصرح.

و قيل: ذكر لسليمان أنّ على رجليها شعرا.

ص: 99

[فَلَمَّا رَأَتْهُ أي رأت بلقيس الصرح [حَسِبَتْهُ لُجَّةً] و اللجّة معظم الماء [وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها] لدخول الماء، و قيل: إنّها لمّا رأت الصرح قالت: ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلّا الغرق و أنفت أن ينسب إليها الجبن و لم يكن من عادتهم لبس الخفاف، فلمّا كشف عن ساقيها [قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ] قال لها سليمان: إنّه قصر مملّس من قوارير و ليس بماء و لمّا رأت سرير سليمان و الصرح [قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .

و قيل: إنّها لمّا جلست دعاها سليمان إلى الإسلام فأجابته و أسلمت لما رأت من الآيات، و اختلف في أمرها بعد ذلك فقيل: إنّه تزوّجها و أقرّها على ملكها. و قيل: إنّه زوّجها من ملك يقال له تبّع و ردّها إلى أرضها و أمر ذريعة أمير الجنّ باليمن أن يعمل لها و يطيعها و صنع لها الصنائع أو المصانع باليمن. و قيل: إنّ سليمان قال لها: اختاري من قومك من ازوّجك منه، فقالت: مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال: النكاح من الإسلام، فقالت: إن كان كذلك فزوّجني ذا تبّع ملك اليمن فزوّجها إيّاه. و من قال: إنّ سليمان تزوّجها ليس له سند صحيح و ذكر في الكتاب و لا في خبر مقطوع بصحّته.

[سورة النمل (27): الآيات 45 الى 53]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (49)

وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (53)

المعنى: ثمّ عطف سبحانه على قصّة سليمان قصّة صالح فقال:

[وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ في النسب [صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي أمرناه بأن يأمرهم

ص: 100

أن يعبدوا اللّه وحده [فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي مؤمنون و كافرون يقول كلّ فريق:

الحقّ معي.

[قالَ صالح للفريق المكذّب [يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ] أي بالعذاب قبل الرحمة أي لم قلتم: إن كان ما آتيتنا به حقّا فائتنا بالعذاب، و سمّي العذاب سيّئة لما فيه من الآلام و لأنّه جزاء على السيّئة لأنّ السّيئة هي الخصلة الّتي تسوء صاحبها [لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي هلّا تطلبون مغفرته من الشرك بأن تؤمنوا [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فلا تعذّبون في الدنيا، و ذلك أنّ صالحا لمّا رأى أنّ قومه كذّبوه فوعّدهم بالعذاب فقالوا: «ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (1) على وجه الاستهزاء فجاوبهم صالح بهذا القول و هو قوله «لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ» و قال: هلّا تستغفرون اللّه قبل نزول العذاب و استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ.

و لمّا قرّر صالح هذا الكلام أجابوه بكلام فاسد و هو قولهم: [اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ أي تشأّمنا بك يعني الّذي يصيبنا من الشدائد أو القحط فهو لشؤمك و بشؤم من معك، و إنّما استعير الشؤم بلفظ الطير لأنّ الرجل يخرج مسافرا فيمرّ بطائر فيزجره فإن مرّ صالح تيمّن و إن مرّ بارح تشأّم فلمّا نسبوا الخير و الشرّ إلى الطائر استعير لما كان للخير و الشرّ.

فأجاب صالح: [ف قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي السبب الّذي يجي ء منه نفعكم و ضرّكم عند اللّه إن شاء رزقكم و إن شاء حرمكم. ثمّ قال: «أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» فيحتمل أنّ غيرهم دعاهم إلى هذا القول و يحتمل أن يكون مراده أنّ الشيطان أوقعكم في الفتنة بوسوسته، و ذلك أنّ قوم صالح أصابهم قحط المطر و جاعوا و لهذا اطّيّروا به. و قيل:

معنى: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» تبتلون بالطاعة و المعصية و تختبرون بالخير و الشرّ.

[وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ] الّتي بها صالح و هي الحجر [تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ و المراد من الرهط الجمع إذا المتبادر من الرهط الجماعة لا الواحد و يمكن المراد من الرهط

ص: 101


1- العنكبوت: 29.

النفر الواحد لكنهم من قبائل متعدّدة، و دخلوا تحت العدد لاختلاف أحوالهم و طوائفهم فبيّن سبحانه أنّهم يفسدون في الأرض و لا يخلطون بفسادهم صلاح، و هم غواة قوم صالح و هم الّذين سعوا في عقر الناقة [وَ لا يُصْلِحُونَ و لا يطيعون اللّه، و ذكر ابن عبّاس أسماءهم و هم قدار بن سالف و مصدع و دهمي و دهيم و دعمي و دعيم و أسلم و قتال و صداف.

[قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أي قالوا فيما بينهم: أحلفوا باللّه على معنى الأمريّة أو على معنى الخبريّة [لَنُبَيِّتَنَّهُ أي لنقتلنّ صالحا و أهله بياتا [ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي لرحمه و صاحب دمه إن سألنا عنه: [ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي ما حضرنا هلاكهم أو وقت هلاكهم أو مكان هلاكهم فضلا أن نتولّى إهلاكهم، و مقصودهم إنّا ما كنّا شاهدين بل كنّا مباشرين مثل و لك: ما رأيت رجلا ثمّة بل رجلين [وَ إِنَّا لَصادِقُونَ و عزموا على هذا الأمر و المكر [وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً] أي جازيناهم جزاء على مكرهم بتعجيل عقوبتهم [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بمكر اللّه لهم فإنّهم دخلوا على صالح عليه السّلام ليقتلوه و قالوا:

زعم صالح إنّه يفرغ منّا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه و من أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب و قالوا: إذا جاء يصلّي قتلناه ثمّ رجعنا إلى أهله فقتلناهم. فبعث اللّه صخرة فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب و هلكوا و هلك الباقون بالصيحة و شبّه سبحانه فعله بهم بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. و قيل: جاءوا بالليل شاهرين سيوفهم فأرسل اللّه الملائكة مل ء دار صالح فدفعوهم بالحجارة يرون الأحجار و لا يرون راميا فذاك مكر اللّه. و قيل:

إنّ اللّه أخبر صالحا بمكرهم فتحرّز عنهم فذاك مكر اللّه في حقّهم.

[فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ و كان عاقبة أمرهم أنّا أهلكناهم و قومهم بصيحة جبرئيل [فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ فانظر إليها فارغة خالية [خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا] بسبب ظلمهم و شركهم باللّه [إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إهلاكهم [لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لعبرة لمن اعتبر بها و هذه البيوت بوادي القرى بين المدينة و الشام.

[وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا به وَ كانُوا يَتَّقُونَ قالوا: إنّهم أربعة آلاف خرج بهم صالح

ص: 102

إلى حضرموت و سمّي حضرموت لأنّ صالحا لمّا دخلها مات.

[سورة النمل (27): الآيات 54 الى 59]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

وَ اذكر [لُوطاً] و أرسلنا لوطا، قوله: [أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ] على وجه التنكير و إن كان بلفظ الاستفهام أبلغ، قوله: [وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ لأنّهم ما كانوا يتحاشون من إظهار هذا الأمر القبيح و لا يتكاتمون أو المراد بصر القلب أي تعلمون أنّها قبيحة و لم يسبقكم أحد في هذا الأمر القبيح و إنّ اللّه لم يخلق الذكر للذكر فهي مضادّة للّه في حكمته.

ثمّ بيّن الفاحشة الّتي يأتونها فقال: [أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أي تفعلون أفعال الجهّال من عاقبة العصيان [فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ عن إتيان الرجال في أدبارهم، و إنّما قالوا ذلك على وجه الهزء.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه ينجّي لوطا و أهله إلّا امرائة و أهلك الباقين بقوله: [فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها] أي جعلناها [مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب [وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً] فهو الحجارة [فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي الّذين أبلغهم لوط النذارة و أعلمهم بموضع المخافة ليتّقوها فخالفوا و قد تقدّم شرح عذابهم.

[قُلِ يا محمّد: [الْحَمْدُ لِلَّهِ شكرا على نعمه بأن وفّقنا للإيمان، و قيل: الحمد للّه على هلاك الأمم الكافرة [وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى اصطفاهم اللّه و اجتباهم على بريّته. و قيل: هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و معنى السلام عليهم أنّهم سلموا ممّا عذّب اللّه به الكفّار.

قوله: [آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ مخاطبا للمشركين من أهل مكّة و عبدة الأصنام

ص: 103

و هذا إلزام الحجّة على المشركين بعد ذكر هلاك أولئك الفسقة بأنّ اللّه ينجّي عابديه من الهلاك و الأصنام لم تغن شيئا من عابديها عند نزول العذاب.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 60 الى 65]

أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)

قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)

المعنى: و لمّا أمر سبحانه محمّدا بالحمد و الشكر لربّه في مقابلة هذه النعمة أنّ اللّه لم يعذّب قومه كعذاب سائر الأمم و أنّ عذاب الاستيصال مرتفع عن قومه و بكت المشركين بأنّهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة اللّه و هو الخالق لأصول النعم و فروعها و مع هذا كيف تحسن عبادة ما لا منفعة منه؟

فذكر أنواعا من النعم فبيّن أنّه الّذي اختصّ بأن خلق السماوات و الأرض و جعل السماء مكانا للماء و الأرض للنبات و ما يتحصّل منها من الحدائق البهجة المونقة و لا يقدر على هذا الإنبات و الإيجاد إلّا اللّه فالمختصّ بهذه الخلقة و هذا الإنعام يجب أن يختصّ بالعبادة دون غيره و هذا معنى قوله:

[أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها] و «أم» متّصلة في صدر الآية، و مع ذلك [أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ عن هذا الحقّ الظاهر، و قيل: معناه: يعدلون باللّه سواه. و إنّما أتى بضمير الالتفات في قوله «فأنبتنا» لئلّا يتوهّم أنّ ملقي البذر هو منبت الشجرة، تقول:

أنا منبت الشجرة حيث أسقيها و اربّيها و أسعى في تشمّسها، و فاعل السبب فاعل للمسبّب

ص: 104

فإذن أنا القائم بالأمر فقال سبحانه: «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها» فلهذه النكتة حسن الالتفات.

النوع الثاني: [أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً] و ذلك أنّه دحاها و سوّاها للاستقرار و جعلها متوسّطة في الصلابة و الرخاوة فليست في الصلابة كالحجر الّذي يتألّم الإنسان بالاضطجاع عليها و ليست في الرخاوة كالماء الّذي يغوص فيه. و الثالث جعلها كثيفة غبراء ليستقرّ عليها النور و لو كانت لطيفة لما استقرّ النور عليها و لو لم يستقرّ النور عليها لصارت من شدّة بردها بحيث يموت الحيوانات. الرابع أنّه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكلّ بحيث تبعد تارة و تقرب اخرى من سمت الرأس و لو لا ذلك لما اختلف الفصول و لما حصلت المنافع الأرضيّة من الربيعيّة و الصيفيّة و الخريفيّة و الشتائيّة. و الخامس أنّه سبحانه جعل الأرض ساكنة فإنّها لو كانت متحرّكة لم يحصل الانتفاع بالسكنى عليها. السادس يطرح عليها كلّ قبيح و يخرج منها كلّ مليح.

قوله: [وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً] و جعل في الأرض أنهارا.

اعلم أنّ المياه المنبعثة عن الأرض أربعة: الأوّل: ماء العيون السيّالة و هي تنبعث من أبخرة كثيرة المادّة قويّة الاندفاع تفجر الأرض بقوّة ثمّ لا يزال يستتبع جزء منها جزءا. الثاني: ماء العيون الراكدة و هي تحدث من أبخرة بلغت من قوّتها أن اندفعت إلى وجه الأرض و لم تبلغ من قوّتها و كثرة مادّتها أن يطرد تاليها سابقها. الثالث: مياه القنى و الأنهار و هي متولّدة عن أبخرة ناقصة القوّة عن أن تنشقّ الأرض فإذا ازيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذا تندفع إليه بأدنى حركة. الرابع:

مياه الآبار و هي نبعيّة كمياه الأنهار إلّا أنّه راكد و ليس له ميل إلى موضع يسيل إليه و نسبة الفنى إلى الآبار نسبة العيون السيّالة إلى العيون الراكدة فلو لا صلابة الأرض لما اجتمعت الأبخرة في باطن الأرض و لو لا اجتماع الأبخرة في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها.

قوله تعالى: [وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ هذه المنفعة الثالثة للأرض و المراد من الرواسي الجبال أثبتت بها الأرض لئلّا تميد و فيها منافع أخر من العيون و السحب و المعدنيّات أمّا

ص: 105

العيون لأنّ الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع قدر يعتدّ به فالأبخرة النافعة لا تجتمع إلّا في الأرض الصلبة و الجبال أصلب الأرض فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتّى يجتمع ما يصلح أن يكون مادّة للعيون فمستقرّ الجبل أملأ ماء و يكون الجبل في حقن الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعدّ للتقطير و يمنع تحليل البخار بصلابته و الأرض الّتي تحت الجبل كالقرعة و العيون كالأذناب و البخار كالمادّة و لذلك ترى أكثر العيون يتفجّر من الجبال و أقلّها في البراريّ و ذلك الأقلّ لا يكون إلّا إذا كانت الأرض صلبة بالنسبة و أمّا أنّ أكثر السحب تكون في الجبال لأنّ في باطن الجبال من النداوات ما لا يكون في باطن الأرضين الرخوة و أنّ الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء و الثلوج ما لا يبقى على سائر الأرضين و السبب المحلّل و هو الحرّ أقلّ فلذلك أثر السحاب في الجبال أكثر.

المنفعة الرابعة للأرض قوله: [وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً] المراد أن لا يفسد بالاتّصال كالمؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان و الحكمة و بحر الطغيان و الشهوة و هو بتوفيقه جعل بينهما حاجزا لكي لا يفسد أحدهما بالآخر.

قال بعض أهل المعرفة في قوله تعالى: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» (1) قال: عند عدم البغي «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ» (2) يخرج و يظهر الإيمان و الشكر في القلب فإن قيل: لم جعل البحر ملحا قلنا لو لا ملوحته لأجّ و انتشر فساد أجوجته في الأرض و أحدث الوبا العامّ فلمّا بيّن أنّه المختصّ بالقدرة على خلق الأرض الّتي فيها مثل هذه المنافع العظيمة وجب أن يكون هو المختصّ بالإلهيّة و المعبوديّة.

[أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ و لا يشعرون بالذهاب و التعمّق في هذه الأمور.

قوله: [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ و الاضطرار الحالة المحوجة إلى الالتجاء و هو الّذي أحوجه أمر أو نازلة من نوازل الدهر أو مرض أو فقر إلى التضرّع إلى اللّه لدفعه.

و قيل: الّذي لا حول و لا قوّة له. و قيل: المذنب إذا استغفر.

ص: 106


1- الرحمن: 20، 22.
2- الرحمن: 20، 22.

فإن قيل: قد عمّ المضطرّين بهذا القول و كم من مضطرّ يدعو فلا يجاب له؟ فجوابه قد ذكر في اصول الفقه أنّ المفرد المعرّف لا يفيد العموم و إنّما يفيد الماهيّة فقط و الحكم المثبت للماهيّة يكفي في صدقه ثبوته في فرد من أفراد الماهيّة على أنّه تعالى وعد بالاستجابة و لم يذكر أنّه يستجيب في الحال.

و أمّا قوله: [وَ يَكْشِفُ السُّوءَ] فهو كالتفسير للاستجابة فإنّه لا يقدر على كشفه إلّا القادر الّذي لا يعجزه أمر.

[وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ يخلف كلّ قرن منكم القرن الّذي قبله فيهلك قرنا و ينشئ قرنا. و قيل: يجعلكم خلفاء من الكفّار بنزول بلادهم و طاعة اللّه تعالى بعد شركهم [أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي قليلا ما تتّعظون، و «ما» زائدة للتأكيد.

[أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أم من يرشدكم إلى القصد و السمت في البرّ و البحر بما نصب لكم من الدلالات و العلامات من الكواكب و القمر إذا ضللتم و جنّ عليكم اللّيل مسافرين في البرّ و البحر و من يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته؟ فإنّه سبحانه هو الّذي يحرّك الرياح فتثير السحاب ثمّ تسوقه إلى حيث يشاء.

فإن قيل: إنّ الفلاسفة قالت: الرياح إنّما يتولّد عن الدخان و ليس الدخان كلّه هو الجسم الأسود المرتفع ممّا احترق بالنار بل كلّ جسم أرضيّ يرتفع بتصعيد الحرارة سواء كانت الحرارة حرارة النار أو حرارة الشمس فهو دخان. و قالوا: و تولّد الرياح من الأدخنة بسبب صعود الأدخنة إلى فوق فعند وصولها إلى الطبقة الباردة ينكسر حرّها بسبب برد ذلك الهواء لا محالة فينزل فيحصل من نزولها تموّج الهواء فتحدث الريح و ربّما أو جبت هيئة صعود تلك الأدخنة من تحت مانعا للأدخنة النازلة من فوق إلى أن يغفل ذلك فلأجل هذا السبب يتحرّك إلى سائر الجوانب فتحدث رياحا متفرّقة.

و اعلم أنّ أهل الإسلام أوردوا على فساد هذه العلّة وجوها: الأوّل أنّ الأجزاء الدخانيّة أرضيّة فهي أثقل من الأجزاء البخاريّة المائيّة و أجزاء البخاريّة لمّا يبرد ينزل

ص: 107

على الخطّ المستقيم مطرا فالدخان لمّا يبرد فلما ذا لم ينزل على الخطّ المستقيم بل يذهب يمنة و يسرة؟

فإن قلت: لو لا مصادفة صعود بعض الأدخنة حين نزول الأدخنة النازلة من فوق كان يلزم أن ينزل إلى خطّ مستقيم و لكن هذا التصادف يذهب به يمنة و يسرة.

فالجواب أنّ حركة تلك الأجزاء إلى أسفل طبيعيّة و حركتها يمنة يسرة عرضيّة، و الطبيعيّة أقوى من العرضيّة، و إذا لم يكن طبيعيّة أقوى من العرضيّة فلا أقلّ من المساوات ثمّ إنّ الريح عند حركتها يمنة و يسرة ربّما تقوى على قلع الأشجار و رمي الجدار بل الجبال فتلك الأجزاء الدخانيّة عند ما تحرّكت حركتها الطبيعيّة الّتي و هي الحركة إلى السفل وجب أن تهدم السقوف و نحن نرى الغبار نزل من الهواء و لا يحسّ بنزوله من أن يهدم شيئا فثبت فساد ما ذكروه في علّة الرياح.

على أنّه يقول هب إنّ الأمر كما ذكروه و لكنّ الأسباب الفاعليّة و القابليّة لها مخلوقة للّه فإنّه لو لا الشمس و تأثيرها في تصعيد الأبخرة و الأدخنة و لو لا طبقات الهواء لما حدثت هذه الأمور و معلوم أنّ من وضع أسبابا أدّت إلى منافع عجيبة و حكمة بالغة فذلك الواضع هو الّذي فعل تلك المنافع فهو الّذي يرسل الرياح و الأمطار و يوجد بأمره ما يحتاج إليه خلقه فسبحان المتفرّد بالإيجاد و لا يشاركه أحد من العباد.

قوله تعالى: [أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أمّن يبدأ و يخترع الخلق و ينشئه على غير مثال و احتذاء ثمّ يميته فيعيده بعد الإماتة. فإن قيل:

كيف يقال لهم: «ثمّ يعيده» و هم منكرون للإعادة؟ لأنّهم كانوا معترفين بالابتداء و دلالة الابتداء على الإعادة دلالة قويّة.

[أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ مع أنّه أنشأكم و ما أنشأكم غيره و رزقكم من السماء و الأرض قل لهم إذا كان لكم في شريكي برهان: [فاتوا به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ لمّا بيّن أنّه المختصّ بالقدرة و الإيجاد فكذلك بيّن أنّه المختصّ بعلم الغيب. فلو قيل: معنى الاستثناء أن يكون سبحانه من الّذين في السماوات و الأرض و ذلك يوجب كونه في المكان و هو منزّه عن مثل

ص: 108

هذه الأمور بل معناه أنّه في كلّ مكان على أنّه محيط بكلّ مكان و علمه في الأماكن كلّها لا أنّه متحيّز في مكان من السماوات و الأرض.

قل يا محمّد لا يعلم من في السماوات و الأرض من الملائكة و الإنس و الجنّ الغيب- و الغيب ما هو غائب علمه عن الخلق ممّا يكون في المستقبل- إلّا اللّه وحده و من أعلمه اللّه «وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» أي ما يعلمون أهل السماوات و لا أهل الأرض أيّان أي متى، و كلمة أيّان مركّبة من أيّ و أن و هو الوقت أي أيّ وقت يحشرون فصار علم الساعة علم الغيب.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 66 الى 75]

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (74) وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)

و في «ادّارك» لغات و اللفظ بصيغة الماضي و المراد به الاستقبال أي يتدارك علمهم و يستحكم و يتكامل علمهم و حاصل المعنى: أنّه سيدرك علمهم في الآخرة بوقوع القيامة حين لا ينفعهم اليقين. و قيل: معناه: أدرك هذا العلم جميع العقلاء لو تفكّروا و نظروا لأنّ العقل يقتضي أنّ الإهمال قبيح فلا بدّ من تكليف و التكليف يقتضي الجزاء و إذا لم يكن ذلك في الدنيا فلا بدّ من دار الجزاء.

و قيل: إنّ الآية إخبار عن ثلاث طوائف: طائفة أقرّت بالبعث، و طائفة شكّت فيه، و طائفة تفقّه كما قال سبحانه في الطائفة الشاكّة: [بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها] و في الثالثة:

[بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ .

و قيل: على كونهم موصوفين بتتابع العلم تهكّم بهم كما تقول لأجهل الناس: ما

ص: 109

أعلمك! على سبيل الهزء و ذلك حيث شكّوا في إثبات ما هو الطريق إليه واضح ظاهر، و المراد بالعمى عمى القلب و عمون جمع عمى لتركهم التدبّر و النظر.

قوله: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] بإنكارهم البعث [أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ فحكى اللّه سبحانه عنهم أنّهم تعجّبوا من إخراجهم أحياء و قد صاروا ترابا و طعنوا بقولهم:

[لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي هذا كلام كما قيل لنا قيل لآبائنا من قبل أن يقال لنا [إِنْ هذا] الكلام أي ليس [إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يريدون قصصا غير صحيحة [قُلْ يا محمّد: [سِيرُوا ... فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي كيف أهلك اللّه المكذّبين بآياته و خرّب بلادهم و أبادهم.

قوله [وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على تكذيبهم و تركهم الإيمان [وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ و و هو ما يضيق به الصدر [مِمَّا يَمْكُرُونَ أي يدبّرون في أمرك بأنّ اللّه تعالى يحفظك و ينصرك عليهم.

[وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ] الّذي تعدنا يا محمّد من العذاب: [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنّه يكون [قُلْ يا محمّد [عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ أي قرب لكم؟ فأجابهم اللّه عسى و قرب لكم [بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ و هو عذاب يوم بدر، و اللام زائدة للتأكيد كالباء في «وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ» (1) أو ضمّن معنى فعل يتعدّى باللام نحو و دنى لكم و أزف لكم و معنى ردف لكم تبعكم و لحقكم، و عسى و لعلّ في وعد الملوك و وعيدهم يدلّان على صدق الأمر و إنّما يعنون بذلك أظهار وقارهم و لأنّهم لا يعجلون بالانتقام لوثوقهم بأنّ الطلب من عدوّهم لا يفوتهم.

ثمّ إنّه سبحانه بيّن السبب في عدم تعجيل العذاب فقال: [وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يتفضّل عليهم بتأخير العقوبة [وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ و لا يعرفون هذا النعمة و هذه الآية تبطل قول القائل بأنّه لا نعمة للّه على الكفّار.

ثمّ بيّن أنّه سبحانه مطّلع بما قلوبهم فقال: [وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ و قدّم ما تكنّه لأنّ ما يكنّه الصدور هو الدواعي و أسباب و معدّات لما يعلنون

ص: 110


1- البقرة: 195.

من أفعال الجوارح، و العلم بالعلّة علّة للعلم بالمعلول، و حاصل المعنى أنّه عالم بالظاهر و الباطن بما يخفون من النفاق و الكيد في حقّ النبيّ.

[وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ التاء في غائبة كالتاء في العافية و العاقبة و النطيحة و الذبيحة في أنّها أسماء غير صفات و يجوز أن تكون تاؤها للمبالغة كالراوية مثل قولهم ويل للشعر من راوية السوء كأنّه قال سبحانه: و ما من شي ء شديد الغيبوبة و الخفاء إلّا و علمه اللّه و أحاط به و أثبته في اللوح المحفوظ، و المبين الظاهر البيّن لمن ينظر فيه من الملائكة.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 76 الى 85]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)

وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)

لمّا تمّ الكلام في المبدأ و المعاد شرع بما فيه إثبات للنبوّة و لمّا كانت العمدة في إثبات نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله القرآن بيّن أنّ الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة لما كانت مذكورة في التوراة و الإنجيل (1) مع العلم بأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان امّيّا و لم يخالط أحدا من العلماء و لم يشتغل بالاستفادة و التعلّم فإذن لا يكون ذلك إلّا من قبل اللّه و [هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ] مختلفاتهم من حديث مريم و عيسى و النبيّ المبشّر به في التوراة حيث قال بعضهم: هو يوشع، و قال بعضهم: لا، بل هو منتظر لم يأت بعد.

[وَ إِنَّهُ أي القرآن [لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ و ذلك لأنّه لمّا تأمّلنا القرآن

ص: 111


1- بل هو الأصل القويم الذي يصحح هفوات الكتابين به، فان الموجود بيد أهل الكتاب لم يكن الا المحرف الذي نسب فيه اشنع الاتهام الى الأنبياء الكرام.

فوجدنا فيه من الدلائل العقليّة على التوحيد و المعاد و النبوّة و الشرائع الّتي موافقه لنظام العالم و مبرّء عن شائبة الانتقاد و التصرّف بحيث لا يتمكّن أحد أن يقول: لو كان هذا الحكم الّذي في القرآن لو تبدّل بهذا الحكم لكان أحسن أو حسن و هذا معنى الهداية و الرحمة و النعمة.

[إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ يريد بين المختلفين في الدين يوم القيامة فلو قيل:

إنّ القضاء و الحكم بمعنى واحد أي قضاؤه بعد له لأنّ حكمه لا يقتضي إلّا العدل و قرئ بحكمه جمع حكمة [وَ هُوَ الْعَزِيزُ] الغالب على أمره [الْعَلِيمُ بكلّ شي ء.

ثمّ أمر نبيّه بعد ظهور نبوّته و إظهار حججه بأن يتوكّل على اللّه و لا يلتفت إلى أعداء اللّه فقال سبحانه: [فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثمّ علّل ذلك أمرين: أحدهما قوله: [إِنَّكَ عَلَى الْحَقِ الظاهر [الْمُبِينِ و من حقّ المحقّ التوكّل و الانتظار لنصرة اللّه و الثاني قوله:

[إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى لأنّهم لا يلتفتون إلى شي ء من الدلائل [وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ] و الأصمّ لا يسمع الدعوة. قوله: [إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ تأكيد لبيان حال الأصمّ لأنّه إذا تباعد عن الداعي بأن تولّى عنه مدبّرا كان أبعد عن إدراك صوته فحال أولئك مثل حال الميّت الأصم المدبر و الحاصل أنّ إسماعك إيّاهم ما يجدي لهم نفعا.

قوله: [وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ في الدين بالآيات الدالّة على الهدى إذا أعرضوا عنها كما لا يمكنك أن تهدي الأعمى إلى قصد الطريق فجعل سبحانه الجهل بمنزلة العمى لأنّه يمنع عن إدراك الحقّ كما يمنع العمى عن إدراك المبصرات. قوله: [إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي ما تسمع إلّا من يطلب الحقّ بالنظر في آياتنا فهم منقادون و مستسلمون.

قوله: [وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أي إذا وجب العذاب عليهم و ذلك عند خروج القائم و أنّ نزول العذاب بهم عند اقتراب الساعة فيسمّى المقول قولا كما يقال: جاء الخبير الّذي قلت و يراد به المخبر قال أبو سعيد الخدريّ و ابن عمر: و ذلك إذا لم يأمروا بالمعروف و لم ينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم و أخذوا بمبادئ العذاب أخرجنا لهم دابّة من الأرض و ذلك من أشراط الساعة يخرج بين الصفا

ص: 112

و المروة فتخبر المؤمن بأنّه مؤمن و الكافر بأنّه كافر و عند ذلك يرتفع التكليف و لا تقبل التوبة حينئذ. و قيل: لا يبقى مؤمن إلّا مسحته و لا يبقى منافق إلّا حطيّته يخرج ليلة جمع و الناس يسيرون إلى منى. و روى محمّد بن كعب القرطبيّ قال: سئل عليّ عليه السّلام عن الدابّة فقال: أما و اللّه ما لها ذنب و إنّ لها اللحية. و في هذا البيان إشارة إلى أنّها من الإنس.

و روي عن ابن عبّاس أنّها دابّة من دوابّ الأرض لها زغب (1) و ريش و لها قوائم أربع. و عن حذيفة قال: دابّة الأرض ستّون ذراعا لا تدركها طالب و لا يفوتها هارب فيتّسم المؤمن بين عينيه و يكتب بين عينيه مؤمن و تسم الكافر بين عينيه كافر و معها عصا موسى و خاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن بالعصا و تختم أنف الكافر بالخاتم حتّى يقال: يا مؤمن و يا كافر.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه يكون للدابّة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى المدينة فيفشو ذكرها في البادية و لا يدخل ذكرها القرية يعني مكّة ثمّ تمكث زمانا طويلا ثمّ تخرج خرجة اخرى قريبا من مكّة فيفشو ذكرها في البادية و يدخل ذكرها القرية يعني مكّة ثمّ سار الناس يوما في أعظم المساجد على اللّه حرمة و أكرمها على اللّه يعني المسجد الحرام و لم ترعهم إلّا و هي من ناحية المسجد تدنو كذا و كذا ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم فيرفض الناس عنها و يثبت لها عصابة عرفوا أنّهم لن يعجزوا اللّه فخرجت عليهم ببعض رأسها من التراب فمرّت بهم فجلّت عن وجوههم حتى تركها كأنّها الكوكب الدرّيّة ثمّ ولّت في الأرض لا يدركها طالب و لا يعجزها هارب حتّى أنّ الرجل ليقوم فيتعوّذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفة فيقول: يا فلان الآن تصلّي؟ فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه. و قرئ تكلّمهم بغير التشديد من الكلم لا من الكلام بمعنى الجرح.

و القميّ عن الصادق عليه السّلام- و هو أصحّ الأقوال- قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو نائم في المسجد قد جمع رملا و وضع رأسه عليه فحرّكه صلّى اللّه عليه و آله برجله ثمّ قال له: قم يا دابّة الأرض فقال رجل من أصحابه: يا رسول اللّه أ يسمّي بعضنا بعضا بهذا الاسم فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا و اللّه ما هو إلّا له خاصّة و هو دابّة الأرض الّذي ذكر اللّه في كتابه فقال عزّ و جلّ: «وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ» الآية، ثمّ قال: يا عليّ إذا كان

ص: 113


1- صغار الشعر و الريش.

آخر الزمان أخرجك اللّه في أحسن صورة و معك ميسم تسم به أعداءك.

و عنه عليه السّلام قال: قال رجل لعمّار بن ياسر: يا أبا اليقظان إنّ آية في كتاب اللّه قد أفسدت قلبي و شكّكني، فقال: و أيّة آية هي؟ قال: قوله تعالى: «وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ» الآية، فأيّة دابّة هذه؟ قال عمّار: و اللّه ما أجلس و لا آكل و لا أشرب حتّى أريكها فجاء عمّار مع الرجل إلى أمير المؤمنين و هو يأكل تمرا فقال عليّ عليه السّلام: يا أبا اليقظان! هلمّ فأقبل عمّار و جلس يأكل معه فتعجّب الرجل منه فلمّا قام عمّار قال الرجل: سبحان اللّه إنّك حلفت أن لا تأكل و لا تشرب و لا تجلس حتّى تريني الدابّة، قال: قد أريتك إن كنت تعقل. و في المجمع أنّه روى العيّاشيّ هذه القصّة بعينها عن أبي ذرّ أيضا.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و لقد أعطيت الستّ:

علم المنايا و البلايا و الوصايا و فصل الخطاب و إنّي لصاحب الكرّات و دولة الدول و إنّي لصاحب العصا و الميسم و الدابّة الّتي تكلّم الناس.

و في الإكمال عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث بعد أن يذكر الدجّال و من يقتله قال: ألا إنّ بعد ذلك الطامّة الكبرى قيل: و ما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: خروج دابّة الأرض من عند الصفا معها خاتم سليمان و عصا موسى تضع الخاتم على وجه كلّ مؤمن فيستطبع فيه: هذا مؤمن حقّا و يضعه على وجه كلّ كافر فيكتب: هذا كافر حقّا، حتّى ينادي المؤمن الويل لك حقّا يا كافر، و أنّ الكافر ينادى طوبى لك يا مؤمن و وددت أنّى كنت مثلك فأفوز فوزا عظيما. و يرفع الدابّة رأسها من بين الخافقين بإذن اللّه و ذلك بعد طلوع الشمس من مغربها فعند ذلك ترفع التوبة فلا تقبل توبة و لا عمل ينفع و يرفع و لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ثمّ قال عليه السّلام لا تسألون عمّا يكون بعد هذا فإنّه عهد إليّ حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن لا اخبر به غير عترتي.

قوله: [تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ تكلّم الدابّة بما يسوؤهم و يتحدّثهم بأنّ هذا مؤمن و هذا كافر، و على هذا المعنى قوله: «أَنَّ النَّاسَ كانُوا» من كلام اللّه، و قيل: من كلام دابّة الأرض تكلّمهم بأن تقول لهم: إنّ الناس كانوا بآياتنا، معناها بكلامها و خروجها لا يوقنون. و قرأ ابن مسعود: تكلّمهم بأنّ الناس. و بإنّ المكسورة

ص: 114

حكاية لقول الدابّة و إذا كان حكاية قول اللّه بيّن به أنّه أخرج الدابّة لهذه العلّة أنّهم ما كانوا يوقنون بآياتنا.

فإن قيل: إذا كانت حكاية لقول الدابّة فكيف يقول: بآياتنا؟ على معنى بآيات ربّنا أو كما يقول بعض خاصّة الملك: خيلنا و بلادنا، و إنّما هي خيل مولاه و بلاده. هذه على قراءة «إن الناس» بالكسر و على قراءة الفتح فعلى حذف الجارّ أي تكلّمهم بأنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.

قوله: [وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يدفعون أو يحسبون و «من» الاولى للتبعيض و الثانية للتبيين.

و استدلّ الإماميّة بهذه الآية على صحّة الرجعة و قالوا: إنّ دخول «من» في الكلام يوجب التبعيض فدلّ ذلك على أنّ اليوم المشار إليه في الآية يحشر فيه قوم دون قوم و ليس ذلك صفة يوم القيامة الّذي يقول فيه سبحانه: «وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» (1) و قد تظاهرت الأخبار عن أئمّة الهدى من آل محمّد من أنّ اللّه تعالى سيعيد عند قيام المهديّ قوما ممّن تقدّم موتهم من أوليائه و شيعته ليفوزوا بثواب نصرته و معونته و يبتهجوا بظهور دولته و يعيد قوما من أعدائه لينتقم منهم و ينالوا بعض ما يستحقّونه من العقاب في القتل على أيدي شيعته و يرون الذلّ و الخزي بما يشاهدون من علوّ كلمته، و لا يشكّ عاقل أنّ هذا الأمر مقدور للّه تعالى غير مستحيل في نفسه و قد فعل اللّه مثل ذلك في الأمم الخالية و نطق به القرآن في عدّة مواضع مثل قصّة عزير و غيره على ما فسّر في موضعه و صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قوله: سيكون في امّتي كلّ ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة حتّى لو أنّ أحدهم دخل في جحر ضبّ لدخلتموه.

و لو أنّ جماعة من الإماميّة تأوّلوا ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة و الأمر و النهي و الشوكة للمهديّ صلّى اللّه عليه و آله دون رجوع الأشخاص و إحياء الأموات و أوّلوا الأخبار الواردة في هذا الباب لما ظنّوا أنّ الرجعة تنافي التكليف و ليس كذلك لأنّه ليس فيها ما يلجئ إلى فعل الواجب و يلجئ إلى الامتناع من القبيح و إذا كان الأمر

ص: 115


1- الكهف: 48.

كذلك فالتكليف يصحّ معها كما كان يصحّ مع ظهور المعجزات الباهرة و الآيات القاهرة كفلق البحر و انقلاب العصا ثعبانا و ما أشبه ذلك.

و بالجملة فهذا المعنى الّذي بيّنّا على أنّ المراد من هذا الحشر في الرجعة المهدويّة صلوات اللّه عليه، و أمّا على قول من قال: المراد به يوم القيامة قال: المراد بالفوج الجماعة من الرؤساء و المتبوعين في الكفر حشروا و جمعوا لإقامة الحجّة عليهم.

[حَتَّى إِذا جاؤُ] إلى موقف الحساب قال اللّه تعالى لهم: [أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي أي كذّبتم بأنبيائي و دلالاتي الدالّة على ديني [وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً] و لم تطلبوا معرفة ديني و لم تبنوا ما أوجب اللّه عليكم فيها، و الواو حاليّة جملة مفيدة لزيادة شناعة التكذيب أي أجمعتم بين التكذيب و عدم الإحاطة في التدبّر بالآيات [أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي أيّ شي ء كنتم تعملون غير ذلك بمعنى أنّه لم يكن لهم عمل غير ذلك و لم يخلقوا إلّا لهذا الأمر و هو المعرفة و الطاعة و هم عكسوا القصّة كأنّهم لم يخلقوا إلا للكفر و المعصية فيخاطبون بهذا الكلام تبكيتا ثمّ يكبّون في النار و ذلك قوله: [وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ يريد أنّ العذاب الموعود يغشاهم بسبب التكذيب فيشغلهم عن النطق و الاعتذار، هذا البيان على المعنى الثاني و أمّا على المعنى الأوّل المراد بالتكذيب بالآيات تكذيب الأئمّة الطاهرين.

قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 86 الى 93]

أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

ص: 116

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه قدرته على الإعادة و البعث بما احتجّ به على الكفّار فقال: [أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ عن التعب و الحركات [وَ النَّهارَ] أي يبصر فيه و يمكن التصرّف فيه لضيائه و يدرك بنوره جميع الأشخاص كما يدرك بنور البصر و جعل الإبصار للنهار و هو لأهله تنبيها على أنّ هذه الصفة فيه [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .

[وَ] اذكر [يَوْمَ يُنْفَخُ إسرافيل بأمر اللّه [فِي الصُّورِ] و يجوز أن يكون على حذف في الكلام و التقدير: و يوم ينفخ في الصور يكون النشأة الثانية. و اختلف في معنى الصور فقيل: هو صور الخلق جمع صورة، و قيل: هو قرن ينفخ فيه شبه البوق و قد ورد ذلك في الحديث.

[فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي ماتوا لشدّة الخوف و الفزع يدلّ عليه قوله في موضع آخر: «فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ» (1) الآية و قيل: هي ثلاث نفخات: الاولى نفخة الفزع، و الثانية نفخة الصعق، و الثالثة نفخ القيام لربّ العالمين [إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من الملائكة الّذين يثبت اللّه قلوبهم و هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، و قيل: يعني الشهداء فإنّهم لا يفزعون في ذلك اليوم.

[وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ أي كلّ من الأحياء الّذين ماتوا يأتونه في المحشر أذلّاء صاغرين، و إنّما أتى سبحانه بلفظ الماضي في قوله «فَفَزِعَ و أَتَوْهُ» و لم يقل يفزع، للإشعار بتحقيق الأمر و ثبوته و أنّه كائن لا محالة لأنّ فعل الماضي يدلّ على وجود الفعل و كونه مقطوعا به. و قيل في الاستثناء: المراد الحور و خزنة النار و حملة العرش، و عن جابر: أنّ موسى منهم لأنّه صعق مرّة، و قرئ «أتاه داخرين» و الدخير الصاغر.

قوله: [وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ هذه العلامة الثالثة و هي تسيير الجبال و الوجه في حسبانهم أنّها جامدة فلأنّ الأجسام الكبار إذا تحرّكت حركة سريعة على نهج واحد في السمت و الكيفيّة ظنّ الناظر إليها أنّها واقفة مع أنّها تمرّ مرّا حثيثا و يتخيّل الرائي أنّها واقفة مكانها لا تسير و لا تتحرّك في مرأى العين و في مثل هذا

ص: 117


1- الزمر: 68.

المعنى قول النابغة الجعديّ يصف جيشا:

بار؟؟ عن مثل الطود تحسب أنّهم وقوف لحاج و الركاب تمهّج

أي تحسب أنّهم وقوف لكثرتهم فكذلك الجبال إنّك لا ترى سيرها لبعد أطرافها كما لا ترى السحاب إذا انبسط و تراكم.

[صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ أي جعل هذا الصنع من جملة الأشياء الّتي أتقنها و أتى بها على الحكمة و الصواب، و في الآية دلالة على أنّ القبائح ليست من خلقه و إلّا وجب وصفها بأنّها متقنة «إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» أي عليم بما يفعل أعداؤه من المعصية و بما يفعل أولياؤه من الطاعة.

ثمّ أخبر سبحانه (؟) الجزاء على أفعال الفريقين فقال: [مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها] أي من أتى بكلمة التوحيد، و قيل: بالإيمان و وافى يوم القيامة فله الخير من تلك الحسنة و يصل الخير إليه بسبب تلك الحسنة و هو الثواب و الأمن من العقاب. و «خير» اسم ليس صيغة التفضيل [وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ قيل: إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها و أهل الحسنة آمنون من ذلك الفزع.

[وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ] أي المعصية الكبيرة الّتي هي الكفر و الشرك، عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين [فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ] أي القوا في النار على وجوههم [هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني يقال لهم: إنّ هذا جزاء فعلكم و ليس بظلم.

حدّثنا (1) السيّد أبو الحامد مهديّ بن نزار الحسينيّ بحذف الأسانيد في تفسير هذه الآية قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الحسنة حبّنا أهل البيت و السيّئة بغضنا. و أيضا حدّثنا أبو الحامد بحذف الأسانيد من صاحب هذه النسجة عن جابر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

يا عليّ لو أنّ امّتي صاموا حتّى صاروا كالحنايا ثمّ أبغضوك لأكبّهم اللّه على مناخرهم في النار.

قوله تعالى: [إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ] كأنّه قيل لنبيّه: قل لهم:

إنّما أمرت أن أعبد ربّ مكّة، و قيل: هي منى [الَّذِي حَرَّمَها] أي جعلها حرما آمنا

ص: 118


1- منقول من المجمع.

يحرم فيها ما يحلّ في غيرها لا ينفر صيدها و لا يقتصّ فيها [وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ] و مالك كلّ شي ء ممّا أحلّه و حرّمه فيحرّم ما شاء و يحلّ ما شاء [وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المخلصين للّه بالتوحيد [وَ] أمرت [أَنْ أَتْلُوَا] عليكم [الْقُرْآنَ و أدعوكم إلى ما فيه.

[فَمَنِ اهْتَدى إلى الحقّ و العمل بما فيه [فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ و راجع نفعه إليه و جزاؤه يصل إليه [وَ مَنْ ضَلَ و جار و لم يعمل بما فيه و لم يهتد إلى الحقّ [فَقُلْ له يا محمّد [إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ الّذين يخوّفون بعقاب اللّه و لا أقدر على إكراههم على الإيمان و الدين [وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اعترافا بنعمته إذ اختارني لرسالته [سَيُرِيكُمْ آياتِهِ يوم القيامة [فَتَعْرِفُونَها] و تعرفون حينئذ أنّها على ما أخبرتم بها في الدنيا و رأوا ذلك حين عجلوا بهم إلى النار [وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل هو عالم بجميع ذلك فيجازيكم عليها. و إنّما يؤخّر عقابكم إلى وقت يقتضيه الحكمة. تمّت السورة.

ص: 119

سورة القصص

اشارة

(مكية)

فضلها:

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ طسم القصص اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى و كذّب به و لم يبق ملك في السماوات و الأرض إلّا شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا أنّ كلّ شي ء هالك إلّا وجهه.

لمّا أمر سبحانه في خاتمة تلك السورة بتلاوة القرآن بيّن في هذه السورة أنّ «طسم» من تلك الآيات القرآن فقال:

ص: 120

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القصص (28): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)

[طسم معناه كسائر الفواتح من السور و قد تقدّم فيها، و [تِلْكَ إشارة إلى [آياتُ السورة، و [الْكِتابِ الْمُبِينِ هو إمّا اللوح و إمّا الكتاب الّذي وعد اللّه إنزاله على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و حاصل المعنى أنّ آيات هذه السورة هي آيات ذلك الكتاب و وصفه بأنّه مبين لأنّه بيّن فيه الحلال و الحرام أو لأنّه بفصاحته و إعجازه بيّن أنّه من كلام الخالق دون الخلق أو لأنّه بيّن خبر الأوّلين و الآخرين.

قوله تعالى: [نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِ أي نتلو على لسان جبرئيل لأنّه كان يتلو على محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيحفظه، بعض خبر [مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بالحقيقة [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنّهم المنتفعون بمواعظ اللّه و لو أنّ غيرهم مأمورون بالانتفاع.

قوله: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ و قرئ بضمّ الفاء، استكبر و تجبّر في أرض مملكته أرض مصر و توابعها [وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً] أي فرقا فرقا و فرّق بين القبط و بين بني إسرائيل أكرم أقواما من القبط و أذلّ آخرين من بني إسرائيل بالاستعباد و الاستعمال في الأعمال الشاقّة و أغرى بينهم العداوة ليكونوا له أطوع.

[يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ أي يستخدم بني إسرائيل و [يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ و يبقي [نِساءَهُمْ و السبب في ذلك أنّ كاهنا قال له: يولد مولود في بني إسرائيل في ليلة كذا يذهب

ص: 121

ملكك على يده فولد تلك اللّيلة اثنا عشر غلاما فقتلهم أجمع و بقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين متطاولة. قال وهب: قتل القبط في طلب موسى عليه السّلام خوفا من قول الكاهن تسعين ألفا من بني إسرائيل. و قيل: إنّ السبب على إقدام فرعون على قتل بني إسرائيل أنّ فرعون رأى في منامه أنّ نارا قبلت من بيت المقدس و اشتملت على مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل فسأل عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد الّذي جاء منه بنو إسرائيل رجل يكون على يده هلاك مصر فأمر بقتل الذكور. و قيل: السبب في ذلك أنّ الأنبياء الّذين كانوا قبل موسى بشّروا بمجي ء موسى و كان فرعون قد سمع ذلك فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل.

[إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بسبب القتل.

[وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ المعنى: إنّ فرعون كان يريد إهلاك بني إسرائيل و إفناءهم و نحن نريد أن نمنّ عليهم، و «نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ» جملة معطوفة على قوله «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ» و أريد به حكاية حال ماضية و يجوز أن يكون حالا من يستضعف أي يستضعفهم فرعون و نحن نريد أن نمنّ عليهم.

[وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ و نجعلهم قادة و رؤساء في الخير و الدين يقتدى بهم و نجعلهم الوارثين لديار فرعون و قومه و أموالهم، و قد صحّت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: و الّذي فلق الحبّة و برأ النسمة لتعطفنّ علينا الدنيا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها و تلا عقيب هذا الحديث: «وَ نُرِيدُ أَنْ» الآية، و روى العيّاشيّ بالإسناد عن أبي الصباح الكنانيّ قال: نظر أبو جعفر إلى أبي عبد اللّه عليهما السّلام قال: هذا و اللّه من الّذين قال اللّه تعالى: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ» الآية. و قال سيّد العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام: و الّذي بعث محمّدا بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ الأبرار منّا أهل البيت بمنزلة موسى و شيعته و إنّ عدوّنا و أشباههم بمنزلة فرعون و أشياعه. و في المجالس عنه عليه السّلام في هذه الآية قال: هي لنا أو فينا. و في الإكمال و الغيبة: إنّ القائم لمّا تولّد نطق بهذه الآية.

و القميّ: أخبر اللّه نبيّه بما لقي موسى و أصحابه من فرعون من القتل و الظلم ليكون

ص: 122

تعزية له فيما يصيبه في أهل بيته، ثمّ بشّره أنّه يتفضّل عليهم بعد ذلك و يجعلهم خلفاء في الأرض و أئمّة على امّته و يردّهم إلى الدنيا مع أعدائهم حتّى ينتصفوا منهم فقال:

«وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ» الآية.

قوله: [وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي و نمكّن لبني إسرائيل في أرض مصر [وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل [ما كانُوا يَحْذَرُونَ لأنّهم يخافون ذهاب ملكهم على يد رجل من بني إسرائيل و قد أريناهم ما كانوا يتخوّفون منه. قال الضحّاك: عاش فرعون أربعمائة سنة و كان قصيرا دميما (1) و هو أوّل من خضب بالسواد.

و عاش موسى مائة و عشرين سنة.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 7 الى 9]

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)

لمّا قال سبحانه «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ» ابتدأ في هذه الآية بذكر نعمه في هذا الباب و كيف دبّر في إهلاك فرعون فقال:

[وَ أَوْحَيْنا] أي قذفنا في قلبها و ليس بوحي نبوّة، و قيل: أتاها جبرئيل بذلك.

و قيل: كان هذا الوحي رؤيا منام عبّرها من علماء بني إسرائيل [أَنْ أَرْضِعِيهِ ما لم تخافي عليه الطلب من فرعون [فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من القتل [فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ في النيل [وَ لا تَخافِي عليه الضيعة [وَ لا تَحْزَنِي من فراقه [إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب [وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ و الأنبياء.

فائدة: الخوف غمّ يحصل بسبب مكروه يتوقّع حصوله في المستقبل و الحزن غمّ يلحق بسبب مكروه حصل في الماضي.

قال وهب بن منبّه: لمّا حملت امّ موسى بموسى كتمت أمرها عن جميع الناس فلم

ص: 123


1- الحقير القبيح المنظر.

يطّلع على حملها أحد من خلق اللّه و ذلك شي ء ستره اللّه و لم ينبت بطنها و لم يظهر لبنها فلمّا كانت السنة الّتي يولد فيها موسى بعث فرعون القوابل و أمرهنّ أن يفتّشن النساء تفتيشا صعبا شديدا و كانت القوابل لا يعرض لها لأنّها ما كانت ممّن يظنّ بها الحبل و لمّا كانت اللّيلة الّتي ولد موسى عليه السّلام ولدته امّه و لا رقيب عليها و لا قابلة و لم يطّلع عليها أحد إلّا اخت موسى اسمها مريم أو كلثمة.

و لكن قال ابن عبّاس: لمّا قربت ولادة امّ موسى و كانت قابلة من النساء اللّاتي وكّلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل صديقة لأمّ موسى فلمّا ضربها الطلق أرسلت إليها فجاءت فعالجتها فلمّا ولد موسى رأت نورا بين عينيه فارتعش كلّ مفصل منها و دخل حبّ موسى في قلبها ثمّ قالت: يا هذه ما جئت إليك إلّا من ورائي قتل لأنّه أمر ربّي بقتل مولودك و لكن وجدت لابنك هذا حبّا ما وجدت حبّ شي ء مثل حبّه فاحفظي ابنك فإنّي أراه هو عدوّنا فما خرجت القابلة من عندها أبصرتها جواسيس فرعون و عيونه فجاءوا ليدخلوا على امّ موسى فقالت مريم: يا امّاه هذه الحرّس بالباب فلفّت موسى في خرقة و طاش (1) عقلها فوضعته في تنّور مسجور و لم تعقل ما تصنع فدخلوا فإذا التنوّر مسجور و رأوا امّ موسى و فتّشوا فلم يجدوا شيئا فخرجوا من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لاخت موسى: أين الصبيّ؟ قالت: لا أدري، فسمعت بكاء في التنوّر فانطلقت إليه و قد جعل اللّه النار عليه بردا و سلاما فأخذته.

ثمّ إنّ امّ موسى لمّا رأت فرعون جدّ في طلب الولدان خافت على ابنها فقذف اللّه في قلبها أن تتّخذ له تابوتا ثمّ تقذف التابوت في النيل فذهبت إلى نجّار من أهل مصر فاشترت منه تابوتا فقال لها النجّار: ما تصنعين به؟ فقالت: ابن لي أخشى عليه كيد فرعون أخبؤه فيه، و ما عرفت أنّه يفشي الخبر و إنّما قالت ذلك خوفا من الكذب فلمّا انصرفت ذهب النجّار ليخبر به الذبّاحين فلمّا جاءهم أمسك اللّه لسانه و جعل يشير بيده فضربوه و طردوه حملا بفعله السفاهة و الجنون فلمّا عاد إلى دكّانه ردّ اللّه عليه لسانه فذهب مرّة اخرى ليخبرهم فأخرسه اللّه فضربوه و طردوه فلمّا عاد إلى موضعه ردّ اللّه عليه نطقه فذهب مرّة

ص: 124


1- اى ذهب.

ثالثة فأخذ اللّه بصره و لسانه فجعل للّه تعالى: إن ردّ عليه بصره و لسانه يتوب، فعلم اللّه منه الصدق فردّ اللّه عليه بصره و لسانه.

و بالجملة انطلقت امّ موسى و ألقت التابوت في النيل و كان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها و كان لها كلّ يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها و كان بها برص شديد و كان فرعون شاور الأطبّاء و السحرة في أمرها فقالوا لها: إنّها لا تبرأ إلّا من قبل البحر يوجد منه طفل فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك و ذلك في يوم كذا في شهر كذا حتّى تشرق الشمس فلمّا كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل و معه آسية بنت مزاحم و أقبلت فرعون في جواريها حتّى جلست على الشاطئ إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج و تعلّق بشجرة فرأى فرعون و قال: ائتوني به فابتدروه بالسفن من كلّ جانب حتّى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح التابوت فلم يقدروا عليه و عالجوا كسره فلم يقدروا عليه فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت فعالجته ففتحته فإذا بصبيّ صغير في التابوت و نور بين عينيه فالقى اللّه محبّته في قلوب القوم و عمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها لمّا كانت سامعة هذا الخبر من الكهنة قبل ذلك فبرئت فضمّته إلى صدره، فقالت الغواة من قوم فرعون: إنّا نظنّ أنّ هذا هو الّذي نحذر منه رمي في البحر فرقا (1) منك فهمّ فرعون بقتله فاستوهبته آسية امرأة فرعون و و تبنّته فترك قتله.

و الحاصل [فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً] و الالتقاط إصابة الشي ء من غير طلب، و المراد بآل فرعون جواريه و اللام في «ليكون» لام العاقبة و معناه أنّهم ما التقطوه إلّا ليكون قرّة عين و راحة و لكن آل و انتهى هذا الالتقاط لهم بالحزن و العداوة عليهم و على ملكهم مثل قوله: «وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ» (2) و قول الشاعر: «لدوا للموت و ابنوا للخراب» و معلوم أنّه لا يلد أحد لأن يموت و لا يبني أحد لأن يخرب و لكن يؤول إلى الموت و الخراب، و قرئ حزنا بضمّ الحاء و سكون الزاي و هما لغتان مثل السقم و السقم.

[إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ فيما كانوا عليه من الكفر و الظلم، و قيل:

ص: 125


1- أى خوفا و فزعا.
2- الأعراف: 178.

المراد من الخطاء لا من الخطيئة لأنّهم ما شعروا أنّه الّذي يذهب بملكهم.

[وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ و لمّا أراد فرعون قتله بعد أن حذّروه قالت آسية: «لا تقتله عسى أن يكون قرّة عين لي و لك» فقال فرعون: أن يكون لك و أمّا أنا فلا حاجة لي فيه، قال ابن عبّاس: لمّا قال فرعون: و أمّا أنا فلا حاجة لي فيه قال: و الّذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون قرّة عين له كما أقرّت آسية لهداه اللّه كما هداها [أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً].

أمّا قوله: [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ابتداء كلام من اللّه أي لا يشعرون أنّ هلاكهم بسببه و على يده و إنّه هو الّذي يطلبونه.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 10 الى 15]

وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)

وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)

. أي أصبح خاليا قلبها من كلّ شي ء إلّا من ذكر موسى و قيل: فارغا من الحزن لعلمها بأنّ ابنها نجى سكونا و وعدا من اللّه. و قيل: فارغا من الوحي الّذي اوحي إليها و نسيت ما وعدها اللّه [إِنْ كادَتْ أي أنّها فربت تبدي بذكر موسى و تصيح يا ابناه من شدّة الغمّ و الوجد. و قيل: لمّا دعوها للإرضاع بولدها همّت بأن تقول: أنا امّه لشدّة سرورها به لمّا رأته.

و قيل: المعنى أنّها كادت تبدي بالوحي [لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها] بالصبر و اليقين، و الربط على القلب إلهام الصبر لمّا سمعت أنّه وقع بيد فرعون من شدّة الجزع و الخوف على ابنه، و قرئ فرغا أي هدر و خلى و بطل قلبها من شدّة ما ورد عليها و ذلك حين رأت يرفع تابوته و يضع [لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من المصدّقين بوعد اللّه.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 11 الى 15]

وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)

ص: 126

[وَ قالَتْ امّ موسى لاخت موسى و اسمها كلثمة: [قُصِّيهِ أي اتّبعي أثره و لعلّ تعرفي خبره [فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ و في الكلام حذف و اقتصار و تقديره فذهبت كلثمة فوجدت آل فرعون أخرجوا التابوت و أخرجوا موسى فبصرت به و رأت أخاها عن بعد و عن جانب تنظر إليه كأنّها لا تريده عن مكان جنب بعيد [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ و آل فرعون لا يشعرون أنّها أخته، و كرّر سبحانه هذا القول و هو عدم شعورهم بأنّه لو كان إلها لكان يشعر بمثل هذا الأمر.

[وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ أي لا تؤتى بمرضع فيقبلها أي منعناهنّ منه و بغضناهنّ إليه. و قيل: هو جمع مرضع بمعنى الرضاع أي منعناه عن الرضاع، و مرضع موضع الرضاع أي الثدي [مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن رددناه إلى امّه و من قبل مجي ء أخته و من قبل ولادته في حكمنا و قضائنا فعند ذلك لشدّة محبّة فرعون لموسى طلب له المراضع و كان موسى لا يقبل ثدي واحدة منهنّ بعد أن أتت مرضع بعد مرضع فلمّا رأت اخت موسى حبّهم له و رقّتهم عليه [قالت لهم هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ و يحسنون تربيته [وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ يشفقون عليه و النصح إخلاص العمل من شائبة الفساد. قيل: إنّها لمّا قالت: و هم له ناصحون. قال هامان: قد عرفت هذا الغلام فدلّينا على أهله، قالت: ما أعرفه و لكنّي إنّما قلت هم للملك ناصحون ليزول شغل قلبه.

قوله: [فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ فانطلقت كلثمة اخت موسى إلى امّها فجاءت بها إليهم فلمّا وجد موسى أمّه قبل ثديها و سكن بكاؤه. قال الضحّاك:

إنّ موسى لمّا قبل ثدي امّه تعجّب فرعون و هامان و قالا: إنّك لأمّه؟ قالت: لا، قال:

فما بالك قبل ثديك من بين النسوة؟ قالت أيّها الملك إنّي امرأة حلوة اللبن ما ارتضع صبيّ ثديي إلّا قبل فلم يبق أحد من آل فرعون إلّا أهدى إليها و أتحفها بالذهب و الجواهر.

ص: 127

[وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ و المراد بالوعد قوله تعالى: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ». قوله تعالى:

[وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ تحقيق وعد اللّه.

قوله تعالى: [وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى و قيل في معنى بلوغ الأشدّ و الاستواء: إنّهما واحد و هو استكمال القوّة و اعتدال المزاج و البنية. و قيل: المراد من بلوغ الأشدّ عبارة عن كمال القوّة الجسمانيّة و الاستواء عبارة عن كمال القوّة العقليّة. قال ابن عبّاس: الأشدّ ما بين ثمانية عشر سنة إلى الثلاثين ثمّ من الثلاثين إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة و لا نقصان فلهذا السرّ اختار اللّه هذا السنّ للوحي. و الأشدّ قيل: مفردة شدّة كما أنّ واحدة الأنعم نعمة، و قيل: لم يسمع لهذا الجمع مفرد.

و الحاصل: لمّا وصل موسى إلى هذه الدرجة [آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً] أعطينا النبوّة و العلم و أنّ موسى حين كبر كان يركب مراكب فرعون و يلبس ما يلبس و يدعى ابن فرعون و كان قد علم أنّ فرعون و قومه على الباطل و كان عليه السّلام يتكلّم بالحقّ و يعيب دينهم و اشتهر ذلك منه حتّى آل الأمر إلى أن أخافوه و خافهم و لمّا كان صغيرا ضرب يوما رأس فرعون بالعصا و نتف لحيته فقال فرعون: لا أقتله و لكن أخرجوه عن الدار و البلد فاخرج و لم يدخل عليهم حتّى كبر و القوم نسوا ذكره.

و ما كان موسى عليه السّلام من خوفه يدخل مدينة فرعون إلّا خائفا فدخلها يوما [عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها] و دخلها نصف النهار وقت ما هم قائلون، و قيل: بين المغرب و العشاء.

قوله تعالى: [فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ يختصمان أحدهما إسرائيليّ و الآخر قبطيّ يسخّره الإسرائيليّ ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون. قيل:

أحدهما مسلم من شيعته و من متابعي موسى و القبطيّ كافر من متابعي فرعون فاستغاث بموسى [الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ و استنصره الإسرائيليّ لينصره عليه. روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: ليهنّئكم الاسم، قال: قلت: و ما الاسم؟ قال: الشيعة، أما سمعت قول اللّه يقول: «فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوّه»؟ [فَوَكَزَهُ مُوسى أي دفع صدره بجمع

ص: 128

كفّه، و قيل: ضربه بعصاه [فَقَضى عَلَيْهِ أي مات المدفوع [قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ .

و اجتحّ الطاعنون في عصمة الأنبياء من وجوه:

أحدها: إنّ ذلك القبطيّ إمّا أن يكون مستحقّ القتل أو لم يكن كذلك فإن كان الأوّل فلم قال «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» و لم قال «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ» و لم قال في سورة اخرى: «فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» (1)؟ و إن كان الثاني و هو أنّ ذلك القبطيّ لم يكن مستحقّ القتل كان قتله معصية و ذنبا.

و ثانيها: أنّ قوله «وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ» على أنّه كان كافرا حربيّا فكان دمه مباحا فلم استغفر عنه و الاستغفار عن الفعل المباح غير جائز لأنّه يوهم في المباح كونه حراما.

و ثالثها أنّ الركز لا يقصد به القتل ظاهرا فكان ذلك القتل قتل خطأ فلم استغفر منه؟

و الجواب عن الأوّل لم لا يجوز أن يقال: إنّه كان لكفره مباح الدم أمّا قوله «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» لعلّ اللّه و إن أباح قتل الكافر إلّا أنّه قال: الأولى تأخّر قتلهم إلى زمان آخر فلمّا قتل فقد ترك المندوب فقوله: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان. و ثانيها أنّ قوله «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» إشارة إلى المقتول لا إلى عمل نفسه أي عمل هذا المقتول من عمل الشيطان و إنّه من جند الشيطان فقال فلان من عمل الشيطان أي من حزبه أمّا قوله «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي» فعلى نهج قول آدم عليه السّلام بقوله «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» و هو إمّا على سبيل الانقطاع إلى اللّه و الاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه و إن لم يكن هناك ذنب أو من حيث حرّم نفسه الثواب بترك المندوب أي فاغفر لي ترك هذا المندوب.

و قيل في تأويل هذه الآية وجه آخر و هو أن يكون مراده ربّي إنّي ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الملعون و لو عرف ذلك فرعون، لقتلني به فاغفر لي أي فاستره عليّ حتّى

ص: 129


1- الشعراء: 20.

لا يصل خبر هذا القتل إلى فرعون، و يؤيّد هذا التأويل أنّه عقّبه بهذا الكلام حيث قال:

«رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» و لو كانت إعانة المؤمن الإسرائيليّ سببا للمعصية لما قال عليه السّلام ذلك.

و أمّا قوله: «فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» فليس مراده عليه السّلام أنّي صرت بذلك القتل ضالًّا و لكن فرعون لمّا نسب إليه الكفر بسبب القتل نفي عن نفسه الكفر و قال: كنت متحيّرا لا أدري ما يجب عليّ و أمّا استغفاره عن قتله على كونه كافرا حربيّا قلنا لعلّ بسبب اختلاف الشرائع كان الأولى عدم قتله في ذلك الوقت.

و بالجملة قال الرازيّ: على أنّ لو فرضنا و سلّمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية لكنّا بيّنّا أنّه لا دليل البتّة على أنّه كان رسولا في ذلك الوقت فيكون ذلك صادرا منه قبل النبوّة و ذلك لا نزاع فيه (1).

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 16 الى 20]

قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

ثمّ حكى سبحانه أنّ موسى حين قتل القبطيّ ندم على ذلك و قال: [رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي في هذا القتل فإنّهم لو علموا بذلك يقتلوني. قال المرتضى: إنّما قاله على سبيل الانقطاع إلى اللّه و الاعتراف بالتقصير عن أداء حقوق نعمه أو من حيث حرّم نفسه الثواب المستحقّ بفعل الندب [فَاغْفِرْ لِي و قبول الاستغفار و التوبة قد يسمّى غفرانا [فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بهم المنعم عليهم.

ص: 130


1- و هذا يصح على مذهبهم، اما الامامية فلا يفرقون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بين زمن النبوة و قبله.

[قالَ موسى: [رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ من المغفرة و صرف بلاء الأعداء عنّي [فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أي فلك عليّ أن لا أكون مظاهرا للمشركين. و قيل: المراد بما أنعمت عليّ يعني من القوّة حتّى قتلت رجلا خطاء بوكزة فلن أكون ظهيرا للمجرمين بل اجاهدهم بهذه القوّة في سبيلك حتّى ترضى.

قوله: [فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فبعد موت ذلك الرجل القبطيّ من الوكز أصبح موسى من غد ذلك اليوم خائفا من أن يظهر أنّه هو القاتل فيطلب به و خرج على استتار [فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ و هو الإسرائيليّ بالأمس يطلب نصرته بصياح و صراخ [قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ يجوز أن يكون فعيل بمعنى المفعل أي أنت مغو فإنّي وقعت فيما وقعت فيه بسببك، و يجوز أن يكون بمعنى الفاعل يعني أنت الغاوي، و إنّما سمّاه غويّا لأنّ من تكثر منه المخاصمة على وجه يتعذّر عليه دفع خصمه و مع ذلك يطلب الخصومة فهو ضالّ عن طريق الرشد و لم يرد الغواية في الدّين.

قوله تعالى: [فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما] المعنى: فلمّا أخذته الرقّة على الإسرائيليّ و أراد أن يدفع القبطيّ الّذي هو عدوّ لموسى و الإسرائيليّ عنه و يبطش به أي يأخذه بشدّة فظنّ الإسرائيليّ أنّ موسى قصده لأنّه قال له: إنّك لغويّ مبين فقال: [يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ و قيل: هذا من كلام القبطيّ لا الإسرائيليّ و الظاهر هذا الوجه الثاني و يؤيّد هذا القول أنّه عقّب قوله بأن قال:

[إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ و هذا القول لا يليق إلّا بأن يكون قولا للكافر، و الجبّار هو الّذي يفعل ما يريد من الضرب و القتل و الظلم [وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ .

و بالجملة فأكثر المفسّرين على أنّ هذا الكلام و هو قوله: «أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي الآية» من قول الإسرائيليّ و لمّا قال الإسرائيليّ ذلك علم القبطيّ أنّ قاتل القبطيّ أمس موسى و لم يكن أحد يعلم بذلك فانطلق القبطيّ إلى فرعون و أخبر به فأمر فرعون بقتل موسى و طلبه.

ص: 131

قوله: [وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ] أي من آخر المدينة و اختار طريقا قريبا حتّى سبق خدمة فرعون و أتى إلى موسى [يَسْعى و يسرع و أخبره بذلك و كان الرجل حزقيل ابن عمّ فرعون، و قيل: شمعون [قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ] أي الأشراف من آل فرعون [يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي يتشاورون في قتلك أو يأمر بعضهم بعضا [لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ من أرض مصر [إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ .

قوله: [سورة القصص (28): الآيات 21 الى 25]

فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

ثمّ خرج موسى من مصر [خائِفاً] من أن يطلب فيقتل [يَتَرَقَّبُ الطلب، قال ابن عبّاس:

خرج موسى متوجّها نحو مدين و ليس له علم بالطريق إلّا حسن ظنّه بربّه [قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بغير زاد و لا حذاء و لا ظهر و كان لا يأكل إلّا حشيش الصحراء حتّى بلغ ماء مدين.

[وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ و التوجّه صرف الوجه إلى تلك الجهة، قال الزجّاج:

معناه: و لمّا سلك في الطريق الّذي يلقى مدين منها و هي على مسيرة ثمانية أيّام من مصر نحو ما بين البصرة إلى الكوفة و لم يكن له علم بالطريق و لذلك قال: [عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي يرشدني السبيل المؤدّي إلى النجاة، و قيل: إنّه عليه السّلام لم يقصد موضعا بعينه و لكنّه أخذ في طريق مدين. و من الناس من قال: جاءه جبرئيل و علّمه الطريق.

و قيل: جاءه ملك على فرس و بيده عنزة و علّمه الطريق، و قوله: «عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي» (1)

ص: 132


1- القصص: 22.

نظير قول جدّه إبراهيم حيث قال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (1) و هكذا الخلف الصدق للسلف الصالح صلوات اللّه عليهم أجمعين.

[وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ و هو الماء الّذي يسقون منه و كان بئرا [وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ وجد على شفير البئر و مستقاه جماعة كثيرة من أناس مختلفين [وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم [امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ تدفعان أغنامهما و تحبسان أغنامها عن السقي و كانتا تكرهان المزاحمة على الماء لأنّ على الماء من كان أقوى منهما و لئلّا يخلط أغنامهما بأغنامهم و لئلّا تختلطا بالرجال.

[قالَ موسى: [ما خَطْبُكُما] و شأنكما و ما مقصود كما من الذياد؟ فقالتا: [لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ] أي إنّا لا نطيق السقي فننتظر فضول الماء و انصراف الناس و أبونا لكبره و ضعفه لا يتمكّن أن يتولّى السقي، و إنّما قالتا ذلك تعريضا للطلب من موسى أن يعينهما على السقي [فَسَقى لَهُما] أي سقى موسى غنمهما الماء و رفع حجرا عن البئر ما كان يقدر على رفع ذلك الحجر عنها إلّا عشرة رجال و سألهم أن يعطوه دلوا فناولوه دلوا و قالوا له: انزح إن أمكنك فكان لا ينزحها إلّا عشرة فنزحها وحده و سقى أغنامهما و لم يستق إلّا ذنوبا واحدا حتّى رويت الغنم.

[ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ فانصرف إلى ظلّ سمرة فجلس تحتها من شدّة الحرّ و الواصب و الجوع. قيل: إنّه عليه السّلام ذهب يحفى رجليه من المشي في الطريق لأنّه ما كان له حذاء. و بالجملة فوقف في ظلّ الشجرة [فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] يعنى أي شي ء أنزلته إليّ من خير جلّ أو قلّ فقير له و محتاج إليه، و لتضمّن كلامه معنى السؤال و الطلب جي ء بلام الدعامة لتقوية العمل، و الجارّ و المجرور متعلّق بفقير و حاصل المعنى: إنّي فقير لأيّ شي ء أعطيتني جليلا كان أو حقيرا قال: ابن عبّاس: سأل نبيّ اللّه فلق خبز يقيم به صلبه. و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و اللّه ما سأله إلّا خبزا يأكله لأنّه كان يأكل بقلة الأرض و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله و تشذّب لحمه.

و بالجملة قال ابن إسحاق: فرجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها فأنكر

ص: 133


1- الصافات: 99.

شأنهما و سألهما فأخبرتاه الخبر، فقال لإحداهما: عليّ به، فرجعت الكبرى إلى موسى لتدعوه. و ذلك قوله تعالى: [فَجاءَتْهُ إِحْداهُما] و هي صفوراء [تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ] أي أنّها مستحيية غطّت وجهها بكمّ درعها (1). و قيل: المراد أنّها كانت تمشي عادلة عن الطريق و كانت من الخفرات (2) اللاتي لا يحسنّ المشي بين أيدي الرجال و ما كانت ولّاجة و لا خرّاجة.

[قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا] و يكافيك على سقيك لغنمنا، و قال أكثر المفسّرين: إنّ أباها شعيب. و قيل: هو بيرون ابن أخي شعيب و كان شعيب مات قبل ذلك بعد ما كفّ بصره و دفن بين المقام و زمزم. و لمّا قالت صفوراء هذا الكلام لموسى كره موسى لذلك و أراد أن لا يتبعها و لم يجد بدّا من أن يتبعها لأنّه كان في أرض مسبعة (3) و خوف فخرج معها و كانت الريح تضرب ثوبها فتبيّن وجهها فجعل يعرض موسى عنها تارة و يغضّ اخرى فناداها: يا أمة اللّه كوني خلفي و أريني السمت بقولك.

فلمّا دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيّأ فقال له شعيب: اجلس يا شاب فتعشّ، فقال له موسى: أعوذ باللّه، قال: شعيب و لم ذلك أ لست بجائع؟ قال: بلى و لكن أخاف أن يكون هذا عوضا للمعروف الّذي صنعت و إنّا أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بمل ء الأرض ذهبا فقال له شعيب: لا و اللّه يا شابّ و لكنّها عادتي و عادة آبائي نقري الضيف و نطعم الطعام، فجعل موسى يأكل و ذلك قوله: [فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي جاء موسى شعيبا و قصّ عليه أمره أجمع من أوّل ما التقطه فرعون إلى قتل القبطيّ [قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي من فرعون و قومه نجوت و لا سلطان له على أرضنا و لسنا في مملكته.

ص: 134


1- درع المرأة: قميصها.
2- المرأة المستحيية أشد الحياء.
3- ذات سباع ضارية.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 26 الى 30]

قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30)

ثمّ ذكر سبحانه أمر موسى في مدين و انصرافه عنه:

[قالَتْ إِحْداهُما] و هي صفورياء و هي الّتي تزوّج بها: [يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي اتّخذه أجيرا [إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي أحسن من استعملت من يكون قويّا على العمل و يكون أمينا، و لمّا قالت البنت هذا القول قال شعيب: و ما علمك بأمانته و قوّته؟

قالت: أمّا قوّته فلأنّه رفع حجرا عن البئر لا يرفعه كذا و كذا من الرجال، و أمّا أمانته فإنّه قال: امشى خلفي فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك.

فلمّا ذكر البنت من حاله زاده رغبة فيه [قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ و ازوّجك [إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي تكون أجيرا لي و تستخدمني ثمان سنين [فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أميل (1) [عَلَيْكَ و ذلك تفضّل منك و ليس بواجب إتمام العشر فزوّجه ابنته بمهر و استأجره للرعي و لم يجعل ذلك مهرا و إنّما شرط ذلك عليه [سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة و لين الجانب و الوفاء.

[قالَ ذلِكَ أي قال موسى ذلك الّذي وصفت و شرطت عليّ فلك و ما شرطت لي من تزويج بنتك فلي و تمّ الكلام، ثمّ قال موسى: [أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ من الثماني و العشر [قَضَيْتُ و أتممت فَلا عُدْوانَ عَلَيَ بأن اكلّف أكثر منها و أطالب بالزيادة عليها [وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي شهيد فيما بيني و بينك، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: أيّ الأجلين قضى

ص: 135


1- اى أجور و اظلم، من الميل بمعنى الخروج عن العدل و الاستواء.

موسى؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: أو فاهما و أبطأهما. و في رواية أنّه سئل أيّ الابنتين تزوّج موسى؟

فقال: الصغرى و هي الّتي جاءت و قالت: «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» و هي الّتي قالت لموسى: إنّ أبي يدعوك، قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: قبل انقضائه، قيل له: فالرجل يتزوّج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين أ يجوز ذلك؟ قال: لا.

و في الكافي و الفقيه عن عليّ عليه السّلام قال: لا يحلّ النكاح اليوم في الإسلام بإجارة بأن أعمل عندك كذا و كذا سنة على أن تزوّجني أختك أو ابنتك، قال: هو حرام لأنّه ثمن رقبتها و هي أحقّ بمهرها و إنّما كان ذلك لموسى بن عمران لأنّه علم أنّه يفي.

[فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ و قضى بأوفاهما و لمّا زوّجها منه أمر الشيخ أن يعطى موسى عصا يدفع السباع عن غنمه بها و هذه العصا لم يزل الأنبياء يتوارثونها حتّى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى. و قيل: كانت تلك العصا استودعها شعيبا ملك في صورة رجل فأمر شعيب ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت و أخذت العصا فأتته بها فلمّا عرفها الشيخ قال:

لا، ايته بغيرها فألقتها و أرادت أن تأخذ غيرها فكانت لا تقع في يدها إلّا هي و فعلت ذلك مرارا فأعطاها موسى.

قوله: [وَ سارَ بِأَهْلِهِ فمكث موسى عند شعيب بعد انقضاء الأجل عشرا اخرى و بقي عنده عشرين سنة ثمّ استأذنه في العود إلى مصر ليزور والدته و أخاه فأذن له فسار بأهله. و قيل: لمّا قضى الأجل سار بأهله أي بامرأته و بالغنم الّتي كانت له و كانت قطيعا فأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام و امرأته في شهرها فسار في البرّيّة فألجأه المسير إلى جانب الطور الأيمن في ليلة مظلمة شديد البرد و أخذ امرأته الطلق و ضلّ الطريق و تفرّقت ماشيته فأصابه المطر فبقي لا يدري أين يتوجّه.

فبينا هو كذلك [آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الأيمن ناراً] أي أبصر من طرف الطور نارا [قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها] أي من أهل النار بخبر من الطريق الّذي أريده [أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي أو آتيكم بقطعة و درنة من النار تستدفئون بها.

[فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ نودي موسى من الجانب الأيمن

ص: 136

للوادي [فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ] و هي البقعة الّتي قال اللّه فيها: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» (1) و إنّما كانت مباركة لأنّها معدن الوحي و الرسالة و كلام اللّه، و سمع موسى كلام اللّه من الشجرة و جعل اللّه الشجرة محلّ الكلام و كان كلامه سبحانه: [أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي إنّ المتكلّم لك هو اللّه ربّ العالمين أي خالق الكلام لك و خالق الخلق أجمعين تعالي من أن يحلّ في محلّ أو يكون في مكان لأنّه ليس بعرض و لا جسم.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 31 الى 35]

وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)

و في بعض الأخبار أنّ موسى عليه السّلام لمّا عقد العقد مع شعيب و أصبح من الغد و أراد الرعي قال له شعيب: اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك و لا تأخذ على يمينك و إن كان الكلاء بها أكثر فإنّ بها تنّينا عظيما فأخشى عليك و على الأغنام منه فذهب موسى بالأغنام فلمّا بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يستردّها فلم يقدر فسار على أثرها فرأى عشبا كثيرا ثمّ إنّ موسى عليه السّلام نام و الأغنام ترعى و إذا بالتنّين قد جاء فقامت عصا موسى فقاتلته حتّى قتلته و عادت إلى جنب موسى و هي دامية فلمّا استيقظ موسى رأى العصا دامية و التنّين مقتولا فارتاح لذلك و علم أنّ لموسى و عصاه شأنا.

فعاد موسى إلى شعيب و كان ضريرا فمسّ الأغنام فإذا هي أحسن حالا ممّا كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى بالقصّة ففرح بذلك فأراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما وصلة لابنته فقال: إنّي وهبت لك من السخال الّتي تضعها أغنامي في هذه

ص: 137


1- طه: 12.

السنة كلّ أبلق و بلقاء فأوحى اللّه إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء الّذي تسقي الغنم منه ففعل فما أخطأت واحدة منهنّ إلّا وضعت حملها ما بين أبلق و بلقاء فعلم شعيب أنّ ذلك رزق ساقه اللّه إليه.

و بالجملة قوله: [وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ اعلم أنّ اللّه سبحانه كرّر هذه القصّة تقريرا للحجّة على أهل الكتاب و استمالة بهم إلى الحقّ و إنّ أهل التوراة كانوا يحبّون موسى و من أحبّ شيئا أحبّ ذكره و لا يخلو التكرار من مزيد فائدة، و في الآية حذف تقديره:

فألقاها فانقلب بإذن اللّه ثعبانا.

[فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ أي في سرعة حركتها مع غاية عظمها و كبر جثّتها كالحيّة الصغيرة تتحرّك بسرعة [وَلَّى موسى عليه السّلام [مُدْبِراً] إلى عقبه من الخوف [وَ لَمْ يُعَقِّبْ أي لم يرجع إلى موضعه فنودي [يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من ضررها و في انقلاب العصا حيّة دلالة على أنّ البنية ليست بشرط في الإيجاد، و الأجسام و الجواهر متماثلة و لا حال أبعد من حال الحيوان و الخشب فلمّا صحّ قلب الخشب إلى الحيوان صحّ قلب الأسود إلى الأبيض.

قوله: [اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي أدخلها في جيبك [تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ] مثل البرص أو عيب و ذلك أنّ موسى عليه السّلام كان شديد السمرة فلمّا أخرج يده بعد ما أدخلها في جيبه فأضاءت له الدنيا، قيل: المعنى فإن أهالك أمر يدك لما تبصر من شعاعها [وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي ضمّ يدك إلى صدرك إن كنت خائفا فحينئذ لا خوف عليك، و قيل: معنى الخوف في الآية لا من اليد البيضاء بل من الحيّة عند معاينتها، أمره سبحانه أن لا يتّقي بيده عن الحيّة لأنّه عليه السّلام بسط يده كالمتّقي فقال له: لا تبسط يدك خوف الحيّة، فإنّ من هاله أمر أزعجه حتّى كأنّه يطير و آلة الطيران الجناح فسكن خوفه سبحانه بأن ضمّ منشور جناحك و أسكن.

[فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ قرئ مخفّفا و مشدّدا إشارة إلى العصاء و اليد فالتخفيف مثنّى ذاك و التشديد مثنّى ذلك أي حجّتان نيّرتان. و «برهان» فعلان أبره الرجل إذا أتى بالبرهان و بره الرجل إذا ابيض و يقال للمرأة البيضاء: برهاء، و هذا المعنى مأخوذ

ص: 138

من الظهور و الوضوح كالجسم الأبيض الواضح كما أنّ السلطان مأخوذ من السليط لإنارتها و الحاصل أنّه أعطاه هاتين المعجزتين قبل لقاء فرعون.

ثمّ أمره بالذهاب إلى فرعون و قال: [إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي اذهب إلى فرعون و أشراف قومه إنّهم خارجين من طاعة اللّه إلى أعظم المعاصي و هو الكفر.

[قالَ موسى: [رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بتلك النفس [وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً] و إنّما قال ذلك لأنّه كانت عقدة في لسانه و قد مرّ ذكر سببها [فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي فأرسله معي معينا على تبليغ رسالتك، و الردء الناصر [إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ و قيل لكي يصدّقني فرعون.

[قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ قال اللّه: سنجعله معك و نقرنه إليك في النبوّة و ننصرك به [وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً] و حجّة و قوّة [فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا] أي لا يصل فرعون و قومه إلى الإضرار بكما بسبب ما نعطيكم من الآيات و المعجزات و يخاف فرعون منكما بسبب الآيات.

ثمّ أخبر سبحانه أنّ الغلبة لكما عليهم فقال: [أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ على فرعون و قومه، و هذه الغلبة بالقهر لا بالبرهان و الدليل و ذلك حين هلك فرعون و قومه و ملك موسى و قومه.

و روي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل قال: فلمّا رجع موسى إلى امرأته قالت من أين جئت؟ قال موسى: من عند ربّ تلك النار فغدا إلى فرعون لكأنّي أنظر إليه طويل الباع ذو شعر آدم عليه جبّة من صوف في كفّه عصا مربوط حقوه بشريط نعله من جلد حمار شراكها من ليف فأتى على باب فرعون فقيل لفرعون: إنّ على الباب فتى يزعم أنّه رسول ربّ العالمين فقال فرعون لصاحب الأسود: حلّ سلاسلها و كان إذا غضب على رجل خلّاها، فخلّاها فقرع موسى الباب الأوّل و كانت تسعة أبواب فلمّا قرع الباب الأوّل انفتحت له الأبواب التسعة فلمّا دخل جعلن يتبصبصن تحت رجليه كأنّهن جراء فقال فرعون لجلسائه: أرأيتم مثل هذا الساحر قطّ؟ فلمّا أقبل إليه موسى عليه السّلام انتبه فرعون

ص: 139

فقال: «أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً» إلى قوله: «وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» (1) فقال فرعون لرجل من أصحابه قم فخذ بيده و قال للآخر: اضرب عنقه فضرب جبرئيل بالسيف حتّى قتل ستّة من أصحابه فقال فرعون: خلّوا عنه فأخرج يده فإذا هي بيضاء قد حال شعاعها بينه و بين وجه فرهون ثمّ ألقى العصا فإذا هي ثعبان فالتقمت الأيوان بلحييها فدعاه أن يا موسى أقلني (2) إلى غد ثمّ كان من أمره ما كان.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 36 الى 42]

فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

قوله تعالى: [فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى التقدير: بعد أن مضى موسى إلى فرعون و قومه و أتاهم و أراهم بالمعجزات الواضحات فوصفوا الآيات و حملوها على السحر المختلق و قالوا: [ما] هذه المعجزات [إِلَّا سِحْرٌ] و كذب [وَ ما سَمِعْنا بِهذا] الّذي يقوله موسى و يدّعيه [فِي آبائِنَا] الّذين كانوا قبلنا، و المعنى أنّ هذا الّذي يقوله موسى ما صدّقوا به آباؤنا و لا دانوا به، و ليس المعنى أنّه ما سمعنا بالدعوة إلى توحيد اللّه و كيف يكون لم يسمعوا بهذا الأمر و قد اشتهر قصّة نوح و هود و صالح و غيرهم من النبيّين الّذين يدعون الخلق إلى طاعة اللّه؟

[وَ قالَ مُوسى مجيبا لهم: [رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ أي ربّي شاهد و عالم بأنّي جئت بهذه الآيات الدالّة على الهداية فهو شاهد لي على ذلك إن

ص: 140


1- الشعراء: 20.
2- اى أمهلني.

كذّبتموني و يعلم أنّ العاقبة الحميدة لنا و لأهل الحقّ، و هذا الكلام كما يقال: اللّه أعلم بالمحقّ منّا و المبطل [إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ و لا يفوز بالخير من ظلم نفسه بالشرك و عصى ربّه بالمخالفة.

[وَ قالَ فِرْعَوْنُ منكرا لما أتى به موسى عليه السّلام لمّا عجز اللعين عن جواب موسى و حججه [يا أَيُّهَا الْمَلَأُ] يريد أشراف قومه [ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ بيان ذلك أنّ موسى عليه السّلام لمّا دعا فرعون إلى الإيمان باللّه قال فرعون لموسى و هارون: من ربّكما؟ قال: ربّ السماوات و الأرض، فأوهم الخبيث في هذا البيان أنّه أمّا في الأرض فليس إله غيري و لأجل أنّ موسى يدّعي أن اللّه ربّ السماوات موّه على أغمار الناس و أمر وزيره هامان بأن اتّخذ ألبانا (1) و أوقد عليها و ابن منها صرحا عاليا و قصرا متطاولا حتّى نرى أنّ موسى هل يصدق أو يكذب و نطّلع على حال ربّه و ما أظنّ أن يصدق بل أظنّه من الكاذبين في ادّعائه إلها غيري و أنّ موسى رسوله.

و اختلفوا في أنّ فرعون هل بنى هذا الصرح فقال قوم: قد بنى و جمع هامان العمّال حتّى اجتمع خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع و الأجراء و أمر بطبخ اللبن و الجصّ و نجر الخشب و ضرب المسامير فشيّدوه حتّى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق فبعث اللّه جبرئيل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع: قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل و قطعة وقعت في البحر و قطعة وقعت في المغرب و لم يبق أحد من عمّاله إلّا و قد هلك. و قد روي في هذه القصّة أنّ فرعون ارتقى فوقه و رمى نشابة نحو السماء فأراد اللّه أن يفتنهم فردّت إليهم و هي ملطوخة بالدم، فقال: قد قتلت إله موسى! فعند ذلك بعث اللّه جبرئيل لهدمه.

و من الناس من قال: إنّه لم يبن ذلك الصرح لأنّه يبعد من العقلاء أن يظنّوا أنّهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأنّ من علا أعلى الجبال الشاهقة يرى السّماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض و هكذا القول فيما يقال في كيفيّة السهم.

قال الرازيّ في المفاتيح: لا يليق بالعقل و الدين حمل القصّة الّتي حكاها اللّه في

ص: 141


1- جمع لبنة: الآجرّ.

القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل فيصير ذلك مشرعا قويّا لمن أحبّ الطعن في القرآن و الأقرب أنّه كان أو هم البناء و لم يبن أو بنى على سبيل المغالطة و التعمية من تتمّة قوله: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي».

قوله: [لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى و هذا تلبيس منه و إبهام على العوامّ [وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ أي رفع فرعون و جنوده أنفسهم في الأرض بالظلم و الباطل و أنفوا و تعظّموا عن قبول الحقّ [وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ أي أنكروا البعث و شكّوا فيه.

[فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ و طرحناهم في البحر و أهلكناهم بالغرق و عنى باليمّ نيل مصر، و قيل: بحر من وراء مصر يقال له أساف و أظنّ أنّه المراد من بحر سوف المذكور في دعاء السمات غرقهم اللّه فيه [فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي تدبّر بعين قلبك كيف و خامة عاقبة الظلم.

[وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ] و قد تمسّك بظاهر الآية الأشاعرة في كونه خالقا للخير و الشرّ و أجاب العدليّة و المعتزلة بأنّ المراد من الجعل في الآية التسمية أي سمّيناهم به و منه قوله: «وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (1) و قال الكعبيّ:

و جعلناهم أئمّة من حيث خلّى بينهم و بين ما فعلوه و لم يمنعهم بالقهر. و قال أبو مسلم: معنى الإمامة التقدّم فلمّا عجّل اللّه تعالى لهم العذاب صاروا متقدّمين لمن وراءهم من الكافرين و هذا معنى الإمامة في الآية و معنى دعوتهم إلى النار دعوتهم إلى موجباتها من الكفر و المعاصي فإنّ أحدا لا يدعو إلى النار و إنّما جعلهم اللّه أئمّة في هذا الباب لأنّهم بلغوا في الكفر أقصى النهايات و من بلغ إلى هذا الحدّ استحقّ أن يكون إماما يقتدى به في ذلك الباب.

قوله: [وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ و لا ينصر بعضهم بعضا كما كانوا يتناصرون في الدنيا.

[وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي لهم في الدنيا بعد

ص: 142


1- الزخرف: 19.

عن الرحمة و الخير و ألزمناهم اللّعنة و أمرنا المؤمنين بلعنهم و يوم القيامة من المشوّهين في الخلقة بسواد الوجه و زرقة العين و من الممقوتين المغضوبين.

قوله: [سورة القصص (28): الآيات 43 الى 50]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

ثمّ ذكر سبحانه من أخبار موسى ما فيه دلالة على معجزة نبيّنا فقال:

[وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة [مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا] الجموع الّتي كانت قبل موسى من الكفّار مثل قوم نوح و عاد و ثمود، و يجوز أن يريد بالقرون قوم فرعون لأنّه سبحانه أعطى موسى التوراة بعد إهلاكهم بمدّة و وصف التوراة بأنّه [بَصائِرَ لِلنَّاسِ من حيث يستبصر به في باب الدين [وَ هُدىً من حيث يستدلّ به و أنّه [رَحْمَةً] لمن عمل به لأنّ كتابه رحمة و نعمة على من تعبّد به، و روى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما أهلك اللّه قرنا من القرون بعذاب من السماء و لا من الأرض منذ أنزل اللّه التوراة غير أهل القرية الّتي مسخها قردة.

قوله: [لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ المعنى: لكي يتذكّروا. قال القاضي عبد الجبّار الهمدانيّ:

و ذلك يدلّ على إرادة اللّه التذكّر من كلّ مكلّف سواء اختار ذلك التذكّر أو لم يختره،

ص: 143

و فيه إبطال مذهب المجبّرة الذين يقولون ما أراد التذكّر إلّا ممّن يتذكّر فأمّا من لا يتذكّر فقد كره ذلك و نصّ القرآن دافع لهذا القول.

قوله تعالى: [وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ و الجانب الغربيّ المكان الواقع في شقّ الغرب و هو المكان الّذي وقع فيه ميقات موسى من الطور، و الأمر المقضيّ إلى موسى الوحي الّذي اوحي إليه، و الخطاب في قوله «و ما كنت» للرسول صلّى اللّه عليه و آله يقول سبحانه: و ما كنت حاضرا المكان الّذي أوحينا فيه إلى موسى و لا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه.

فلو قيل لمّا ثبت قوله: «و ما كنت» ثبت أنّه لم يكن شاهدا لأنّ الشاهد لا بدّ و أن يكون حاضرا فما الفائدة في إعادة قوله: «وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ»؟ قال ابن عبّاس: التقدير:

و لو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع.

أمّا قوله: [وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً] و هذا الاستدراك ما وجهه و كيف يتّصل؟ فالوجه أنّا أنشأنا بعد عهد موسى إلى عهدك قرونا كثيرة [فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ] و هو القرن الّذي أنت فيه و اندرست العلوم فوجب إرسالك إليهم و عرّفناك أحوالهم و لأنّه طال عهدهم بالمهلكين قبلهم و فترة النبوّة فحملهم ذلك على الاغترار فأرسلناك للناس رسولا كما جعلنا موسى رسولا و قيل: إنّ المعنى: خلقنا كثيرا عهدنا إليهم في نعتك و صفتك و أمرنا الأوّل بالإبلاغ إلى الطبقة الثانية و هكذا فامتدّ بهم الزمان فنسوا عهدنا إليهم فيك.

[وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي ما كنت مقيما في قوم شعيب [تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا] و لم تشهدهم فتقرأ على أهل مكّة خبرهم و لم تشاهد الأنبياء و قصصهم و ما تلوت من أخبارهم شيئا و لكنّا أوحينا إليك و قصصناها عليك حتّى تخبر قومك بهذه الأخبار فيدلّ ذلك العلم على صحّة نبوّتك و لو لا الوحي لما علمت ذلك [وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ إيّاك أي أرسلناك إلى أهل مكّة و غيرها و أنزلنا عليك هذه الأخبار لتتلو عليهم هذه الأخبار [وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ في كلّ زمان رسولا أرسلنا إلى أهل مدين شعيبا و أرسلناك لتكون خاتم الأنبياء و تتلو عليهم الأخبار ليصدّقوا نبوّتك.

[وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا] يريد مناداة موسى ليلة المناجاة و تكليمه أي و لم تك يا محمّد حاضرا بناحية الجبل الّذي كلّمنا عليه موسى و ناديناه يا موسى خذ الكتاب

ص: 144

بقوّة. و قيل: المراد المرّة الثانية الّتي كلّم اللّه فيها موسى حين اختار من قومه سبعين رجلا يسمعوا كلام اللّه [وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي و لكن أعلمك و عرّفك رحمة من ربّك و هو أن بعثك نبيّا و أخبرك هذه الأخبار لتكون معجزة لصدق نبوّتك [لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أي لتنذر الّذين لم يأتهم رسول في زمن الفترة لكي يتفكّروا و ينزعوا عن المعاصي.

قال الفيض في الصافي: و نقل الرازيّ عن وهب و جملة من المفسّرين في قوله: «إِذْ نادَيْنا وجوها:

أحدها: إذ نادينا أي قلنا لموسى: «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ- إلى قوله- أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

و ثانيها: قال ابن عبّاس: إذ نادينا امّتك في أصلاب آبائهم يا امّة محمّد أجبتكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم قبل أن تسألوني و غفرت لكم قبل أن تستغفروني قال: و إنّما قال اللّه ذلك حين اختار موسى عليه السّلام سبعين رجلا لميقات ربّه.

و ثالثها: قال وهب: لمّا ذكر اللّه لموسى فضل امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله قال: ربّ أرنيهم قال: إنّك لن تدركهم و إن شئت أسمعتك أصواتهم. قال: بلى يا ربّ فقال سبحانه: يا امّة محمّد، فأجابوه من أصلاب آبائهم فأسمعه اللّه أصواتهم ثمّ قال اللّه سبحانه: أجبتكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم قبل أن تسألوني و غفرت لكم قبل أن تستغفروني. و روى سهل بن سعد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قوله: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا» قال صلّى اللّه عليه و آله: كتب اللّه كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثمّ وضعه على العرش ثمّ نادى يا امّة محمّد إنّ رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني و غفرت لكم قبل أن تستغفروني من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا عبده و رسوله أدخلته الجنّة. انتهى بيان الرازيّ.

و في العيون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لمّا بعث اللّه موسى بن عمران و اصطفاه نجيّا و فلق له البحر و نجّى بني إسرائيل و أعطاه التوراة و الألواح رأى مكانته من ربّه فقال: ربّ لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدا من قبلي، فقال اللّه تعالى: يا موسى أما علمت أنّ محمّدا أفضل عندي من جميع ملائكتي و جميع خلقي؟ قال موسى: يا ربّ فإن كان محمّد أكرم م- 9-

ص: 145

عندك من جميع خلقك فهل في آل الأنبياء من أكرم عندك؟ قال اللّه: يا موسى أما علمت أنّ فضل آل محمّد على جميع آل النبيّين كفضل محمّد على جميع المرسلين؟ فقال موسى: يا ربّ فإن كان آل محمّد كذلك فهل في امم الأنبياء أفضل عندك من امّتي؛ ظلّلت عليهم الغمام، و أنزلت عليهم المنّ و السلوى، و فلقت لهم البحر؟ فقال جلّ جلاله: يا موسى أما علمت أنّ فضل أمّة محمّد على جميع الأمم كفضله على جميع خلقي؟ قال موسى: ليتني كنت أراهم فأوحى اللّه: يا موسى لن تراهم و ليس هذا أو ان ظهورهم و لكن سوف تراهم في الجنان جنّات عدن و الفردوس بحضرة محمّد في نعيمها ينقلبون، أ تحبّ يا موسى أن أسمعك كلامهم؟

قال: نعم يا إلهي، قال اللّه جلّ جلاله: قم بين يديّ و اشدد مئزرك قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل ففعل ذلك موسى عليه السّلام فنادى سبحانه يا امّة محمّد فأجابوه كلّهم و هم في أصلاب آبائهم و أرحام امّهاتهم بلبّيك، اللّهم لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد و النعمة لك و الملك، لا شريك لك، قال: فجعل اللّه تلك الإجابة شعار الحجّ.

ثمّ نادى ربّنا عزّ و جلّ يا امّة محمّد إنّ قضائي عليكم أنّ رحمتي سبقت غضبي و عفوي قبل عقابي فقد استجبت لكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم من قبل أن تسألوني من لقيني بشهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمّدا عبده و رسوله صادق في أقواله محسن في أفعاله و إنّ عليّ بن أبي طالب أخوه و وصيّة من بعده و وليّه و يلزم طاعته كما يلزم إطاعة محمّد و إنّ أولياءه المصطفين الطاهرين المطهّرين المثابين بعجائب آيات اللّه و دلائل حجج اللّه من بعدها أولياء و من تولّاهم ادخله جنّتي و إن كانت ذنوبه مثل زبد البحر، قال: فلمّا بعث اللّه عزّوجل محمّدا قال: يا محمّد و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا امّتك بهذه الكرامة، ثمّ قال اللّه لمحمّد. قل الحمد للّه ربّ العالمين على ما اختصّنا به من هذه الفضائل.

قوله تعالى: [وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و جواب لو لا محذوف أي لو لا قولهم إذا أصابتهم عقوبة و عذاب بسبب كفرهم: ربّنا هلّا أرسلت إلينا يبلّغنا آياتك فنتّبعها و نكون من المصدّقين ما أرسلناك و أرسلناك قطعا لعذرهم و إلزاما للحجّة عليهم. قال صاحب الكشّاف:

ص: 146

«لو لا» الاولى امتناعيّة و جوابها محذوف و الثانية تحضيضيّة و حاصل المعنى و لو لا أنّهم قائلون إذا عذّبوا بسبب إقدامهم على الشرك و المعاصي: لم ما أرسلت إلينا رسولا علينا؟ لما أرسلنا الرسول.

و احتجّ الكعبيّ بهذه الآية على أنّ اللّه يقبل حجّة العباد و ليس الأمر كما يقوله أهل السنّة و ظهر بهذا أنّه ليس المراد من قوله «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ» (1) ما يظنّه أهل الجماعة، و إذا ثبت أنّه يقبل الحجّة وجب أن لا يكون فعل العبد بخلق اللّه و إلّا لكان للكافر أعظم حجّة على اللّه.

قال القاضي: في الآية إبطال القول بالجبر من جهات: إحداها أنّه إذا خلق الكفر فيهم و أراد لوجب حصوله سواء أرسل الرسل أم لا فما الفائدة في هذا البيان و أيّ فائدة لإرسال الرسل و الكتب؟ و إذ كان إيمانهم و كفرهم موقوفا بخلق اللّه و إرادته فإرسال الرسل و إنزال الكتب و عدمها سواء و ليس لهذه الآية معنى و هي «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (2) فثبت أنّ العبد قادر و مختار على قبول الإيمان كما هو قادر على قبول الكفر.

أمّا قوله [فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا] أي محمّد و القرآن و الإسلام [قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ أي هلّا اعطي محمّد [مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من فلق البحر و اليد البيضاء و العصا، و قيل:

المراد منهم: هلّا اوتى كتابا جملة واحدة مثل التوراة. و ذلك القول من المشركين بتعليم اليهود فاحتجّ اللّه عليهم بقوله [أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ و قد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمّد [و قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا] يعنون التوراة و القرآن، و من قرأ «ساحران» فمعناه أنّهم قالوا: تظاهر موسى عليه السّلام و محمّد صلّى اللّه عليه و آله [وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ من التوراة و القرآن.

قال بعض المفسّرين: و كانت هذه المقالة حين بعثوا الرهط منهم إلى رؤساء اليهود بالمدينة في عيد لهم فسألوهم عن محمّد فأخبروهم بنعته و صفته في كتابهم التوراة فرجع الرهط

ص: 147


1- الأنبياء: 23.
2- النساء: 164.

إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود فقالوا عند ذلك: سحران تظاهرا.

[قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل يا محمّد لكفّار قومك: فأتوا بكتاب هو أهدى و أجمع و أنفع من التوراة و القرآن حتّى اتّبعه إن صدقتم في أنّ التوراة و القرآن سحران. و قيل: المعنى: فأتوا بكتاب من عند اللّه لم يكذّب به طائفة من الناس.

ثمّ قال لنبيّه: [فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي إن لم يأتوا بمثل التوراة و القرآن، و قيل:

فإن لم يستجيبوا لك إلى الإيمان مع ظهور الحقّ [فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ و يميل إليه طباعهم و يطاوعون مشتهيات أنفسهم و لا حجّة لهم بما اعترضوا.

ثمّ ذمّهم فقال: [وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أضلّ ممّن يتّبع هواه بغير رشاد من اللّه [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى طريق الجنّة و لا يحكم اللّه بهدايتهم إذا لم يهتدوا بهداية اللّه.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 51 الى 55]

وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)

التوصيل صيرورة الشي ء بعضه يلي بعضا بيّن سبحانه صفة القرآن بقوله: [وَ لَقَدْ وَصَّلْنا] أي فصّلنا لهم القول و آتينا بآية بعد آية و بيان بعد بيان و أخبرناهم بأخبار الأنبياء و المهلكين من أممهم ليتذكّروا و يتفكّروا و يتّعظوا.

قوله: [الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل مبعثه اثنان و ثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدمه و ثمانية قدموا من الشام منهم بحيراء الراهب و أبرهة و الأشرف و عامر و أيمن و إدريس و نافع و تميم. المعنى: الّذين آتيناهم الكتاب من قبل محمّد

ص: 148

هم بمحمّد يؤمنون. و قيل: من قبل القرآن هم بالقرآن يؤمنون.

[وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن [قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قبل نزول القرآن [مُسْلِمِينَ به و ذلك أنّ ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و القرآن كان مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل فهؤلاء لم يعاندوا.

فأثنى اللّه عليهم بقوله: [أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا] مرّة بسبب تمسّكهم بدينهم حتّى أدركوا محمّدا مثل عبد اللّه بن سلام و تميم الدارميّ و الجارود العبديّ و سلمان الفارسيّ و مرّة بإيمانهم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و قيل: بما صبروا و عملوا بالكتاب الأوّل و على الكتاب الثاني [وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] أي يدفعون بالكلام الحسن الكلام القبيح الّذي يسمعونه من الكتاب و يمنعون بالمعروف المنكر إن أمكنهم و بالحلم الجهل و بالمداراة مع الناس أذاهم عن أنفسهم [وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فمدحهم اللّه بالطاعات الماليّة.

ثمّ بيّن كيفيّة إعراضهم عن الجهّال فقال: [وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ و لم يقابلوه بمثله [وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لا نسأل نحن عن أعمالكم و لا تسألون أنتم عن أعمالنا بل كلّ يجازى على عمله أو المعنى لنا ديننا و لكم دينكم و لنا عملنا و لكم سفهكم [سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي أمان و سلامة منّا لكم أن نقابل لغوكم بمثله و نحن لا نطلب مجالسة الجاهلين و إنّما نبتغي الحكماء و العلماء.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 56 الى 60]

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (60)

المعنى: لمّا تقدّم ذكر الرسول و القرآن فبيّن في هذه الآية فقال:

ص: 149

[إِنَّكَ يا محمّد ليس عليك الإجبار على الاهتداء و لا تقدر على ذلك و قيل: المعنيّ و المراد من الهداية هنا اللطف الّذي يختار عنده الإيمان فإنّه لا يقدر عليه إلّا اللّه [وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي القابلين للهدى فيدبّر الأمور على علمه.

و هاهنا مسالة و هي أنّه قيل: نزلت هذه الآية في أبي طالب قال الزجّاج: أجمع المسلمون على أنّها نزلت في أبي طالب و ذلك أنّ أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمّدا و صدّقوه تفلحوا و ترشدوا فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا عمّ تأمرهم بالنصح لأنفسهم و تدعها لنفسك؟ قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة فإنّك في آخر يوم من أيّام الدنيا أن تقول: لا إله إلّا اللّه أشهد لك بها عند اللّه، قال: يا ابن أخي قد علمت أنّك صادق و لكنّي أكره أن يقال: جزع عند الموت، و لو لا أن يكون عليك و على بني أبيك غضاضة و مسبّة بعدي لقلتها و لكنّي سوف أموت على ملّة الأشياخ عبد المطّلب و هاشم و عبد مناف. انتهى كلام الزجّاج.

أقول: و الحق أنّ من عيّره و سمّاه بالزجّاج ما أخطأ لأنّه لو كان جوهريّا لعرف من هذه المقالة- أي مقالة أبي طالب- أنّه أوّل من آمن باللّه و لو لم يؤمن لمّا تكلّم بهذه الكلمات و ما كان يتكفّل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله مثل هذا التكفّل الّذي أربى على الوالد الشفيق و كيف يتعقّل أنّ الإنسان يفعل هذا الصنيع بمن هو أعدى عدوّ دينه. و على فرض أنّه على زعمكم ما أقرّ بهذه الكلمة لمصلحة تقوية أمر النبيّ كما ينبئ عن هذا المعنى قوله:

«و لو لا أن يكون عليك و على بني أخيك غضاضة و مسبّة». على أنّ أهل البيت أجمعوا على أنّ أبا طالب مات مسلما و تظاهرت الروايات بذلك و قد أشرنا إليه في سورة الأنعام و من المعلوم أنّ كلّ كلام يخالف إجماع أهل البيت فذلك كبندق فارغ خلّي من المعنى و لكن يقلقل.

و لنذكر شرذمة من امور تدلّ على إسلامه:

القميّ: قال نزلت قوله تعالى: «إِنَّكَ لا تَهْدِي» الآية في أبي طالب، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا عمّ قل: لا إله إلّا اللّه أنفعك بها يوم القيامة فيقول: يا ابن أخي أنا أعلم بنفسي فلمّا مات شهد العبّاس بن عبد المطّلب عند رسول اللّه أنّه تكلّم بها عند الموت فقال

ص: 150

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمّا أنا فلم أسمعها منه و أرجو أن أنفعه يوم القيامة و قال صلّى اللّه عليه و آله: لو قمت المقام المحمود لشفعت في امّي و أبي و عمّي و أخ لي كان مؤاخيا لي.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف؛ أسرّوا الإيمان و أظهروا الشرك فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين.

أقول: و إنّما أسرّ الإيمان ليكون أقدر على نصرة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كما يستفاد هذا المعنى من كلمات أبي طالب و أخبار أخر.

و عن الصادق عليه السّلام قيل له: إنّهم يزعمون أنّ أبا طالب كان كافرا فقال عليه السّلام كذبوا كيف يكون كافرا و هو يقول:

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّدانبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

و المراد من أوّل الكتاب اللّوح المحفوظ.

و في حديث آخر: كيف يكون أبو طالب كافرا و هو يقول:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

و عن الصادق عليه السّلام: قال: لمّا توفّي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول اللّه فقال:

يا محمّد اخرج من مكّة فليس لك بها ناصر و ثارت قريش بالنبيّ فخرج هاربا حتّى جاء إلى جبل يقال الجحون فصار إليه قال: فنزل جبرئيل عليه و قال: إنّ ربّك يقرؤك السلام و يقول: إنّي حرّمت النار على صلب أنزلك و بطن حملك و حجر كفلك فالصلب صلب أبيه عبد اللّه بن عبد المطّلب و البطن بطن آمنة بنت و هب و الحجر حجر أبي طالب. و زاد في رواية:

فاطمة بنت أسد.

و في كتاب بشارة المصطفى عنه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: كان ذات يوم جالسا بالرحبة و الناس مجتمعون فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنّك بالمكان الّذي أنزلك اللّه به و أبوك يعذّب بالنار؟ فقال له عليه السّلام مه! فضّ اللّه فاك و الّذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه اللّه تعالى فيهم ليعذّب أبي بالنار و ابنه قسيم الجنّة و النار؟ ثمّ قال و الّذي بعث محمّدا بالحقّ أنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفى ء أنوار الخلق في المحشر إلّا نور محمّد و نور عليّ و نور فاطمة و نور الحسن و نور الحسين

ص: 151

و أنوار الأئمّة من ولد الحسين عليهم السّلام.

و بالجملة فمن نظر إلى أشعار أبي طالب في مديح النبيّ و هو أهل النظر عرف أنّه موحّد مصدّق بنبوّته و ليست بقصيدة و لا عشرة بل استيفاء جميعه لا يستطيع الطوامير و أنّه لو صحّ عدم مجاهرة الأعداء في أمر إقراره استصلاحا لأمر النبيّ و حسن تدبيره في كيدهم عن الرسول شفقة عليه لئلّا يلجئوا الرسول ما ألجؤوه إليه بعد موته.

قوله تعالى: [وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا] نزلت في قريش حين دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الإسلام و الهجرة قال الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّا لنعلم أنّ قولك حقّ و لكن أن نتّبع الهدى معك و نؤمن بك نخاف أن يتخطّفنا العرب من أرضنا و لا طاقة لنا بالعرب فنخرج منها فأنزل اللّه هذه الآية رادّا عليهم:

[أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي أو لم نجعل لهم في أمن و أمان قبل هذا و دفعنا ضرر الناس عنهم فكيف يخافون زواله لو آمنوا بل حالة الإيمان و الطاعة أولى بالأمن و السلامة من حالة الكفر و يجتمع فيه ثمرات كلّ أرض و بلدة بالتجارة و المسافرات [رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا] و أعطاه منّا جاريا عليهم [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ جهلة لا يتفطّنون.

[وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها] أي و ربّ أهل قرية و بلدة كانت حالهم كحالكم في الأمن و خفض العيش حتّى أشروا و طغوا و بغوا فدمّر اللّه عليهم و خرب ديارهم [فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا] و تلك إشارة إلى ما يعرفونه من ديار عاد و ثمود و لوط لأنّهم كانوا يمرّون عليها و هي خاوية و خربة غير مسكونة إلّا قليل منها كالمسافر ساعة أو ساعتين فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف و هو موضع بين اليمن و الشام و ديار ثمود بواد القرى و ديار قوم لوط بسدوم و كانوا في تجاراتهم يمرّون بها [وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أي المالكين لديارهم.

ثمّ خاطب نبيّه بقوله: [وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا] كأنّ سائلا يسأل لمّا ذكر سبحانه أنّه أهلك تلك القرى بسبب بطر

ص: 152

أهلها لما ذا ما أهلك اللّه الكفّار و المشركين مع بطرها و طغيانها بمكّة فأجاب سبحانه: و ما كان ربّك يا محمّد مهلك القرى أي أهل القرى حتّى يبعث في امّها و أصلها و كرسيّها رسولا لإلزام الحجّة و قطع المعذرة فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلّا بعد البعثة أو المعنى إنّما ما عذّبنا أهل مكّة و الأعراب الّتي حولها لأنّه لا بدّ و إن نبعث في امّ القرى و هي مكّة و أصل الأرض رسولا و هو محمّد يتلو عليهم آياتنا و يؤدّي و يبلّغ عنّا.

[وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ بالشرك و المعاصي فإن قيل: فلم ما أهلك أهل مكّة؟ لأنّ أهل مكّة بعضهم قد آمن و بعضهم قد علم اللّه أنّه سيؤمن و آخرون علم اللّه أنّهم و إن لم يؤمنوا لكنّه يخرج من نسلهم من يكون مؤمنا أو لشرافة النبيّ رفع اللّه سبحانه عن امّته عذاب الاستيصال.

قوله تعالى: [وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ] أي ما أعطيتم من شي ء [فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا] أي هو شي ء تتمتّعون به في الدنيا و تتزيّنون به يوما أو عشرا [وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب و نعيم الآخرة [خَيْرٌ] من هذه النعم [وَ أَبْقى لأنّها فانية و نعيم الآخرة باقية [أَ فَلا تَعْقِلُونَ حتّى تميّزوا بين الباقي و الفاني.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 61 الى 66]

اشارة

أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)

فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)

النزول:

قيل: نزلت «أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ الآية» في رسول اللّه و أبي جهل. و قيل: نزلت في حمزة و علىّ بن أبي طالب عليه السّلام و في أبي جهل. و قيل: نزلت في عمّار و الوليد بن المغيرة، و الأولى أن يكون عامّا في كلّ من يكون بهذه الصفة.

المعنى: لمّا ذكر من اوتي من زينة الدنيا عقّب بالفرق بين هاتين النعمتين فقال:

ص: 153

[أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً] من ثواب الحسنة جزاء على طاعته [فَهُوَ لاقِيهِ و واصل إليه و مدرك تلك النعمة لا محالة كمن متّعناه متاع الحياة الدنيا من الأموال و غيرها [ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للجزاء و العقوبة و قيل: المعنى من المحضرين في النار و الحاصل أنّ حالهما لا يكون سواء.

[وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ و اذكر يوم ينادي تعالى الكفّار و هو يوم القيامة و هذا نداء تبكيت و تقريع [فَيَقُولُ اللّه سبحانه: [أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ شركائي في الإلهيّة و تعبدونهم و تحسبون أنّهم ينفعونكم.

[قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي حقّ عليهم الوعيد بالعذاب من الجنّ و الشياطين و الّذين أغووا من الإنس و المراد من القول في الآية هو قوله: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ»* (1) أي حقّ مقتضى القول [رَبَّنا هؤُلاءِ] مبتدء و «الَّذِينَ أَغْوَيْنا» صفة للمبتدأ من هؤلاء الموصوفين بالغيّ «أغويناهم» خبر للمبتدأ فغووا كما غوينا و المراد أنّه كما أنّ غيّنا باختيارنا فكذا غيّهم باختيارهم و إغوائنا ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين بالإقدام على تلك العقائد الفاسدة، و مثل هذا المعنى قد حكى اللّه عن الشيطان حيث قال: «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ» (2).

ثمّ قال الّذين حقّ عليهم القول [تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم و من أفعالهم و يتبرّأ بعض من بعض و صاروا أعداء [ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي لم يكونوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون الشيطان الّذين زيّن لهم عبادتنا.

قوله: [وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي و يقال للأتباع: ادعو الّذين عبدتموهم من دون اللّه و زعمتم أنّهم شركاء ليدفعوا عنكم العذاب و إنّما نسب الشركاء إليهم لأنّه لا يجوز أن يضاف إلى اللّه شريك و لكنّهم كانوا يزعمون أنّها شركاء اللّه [فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا] أي فيدعونهم فلا يجيبونهم إلى ملتمسهم [وَ رَأَوُا الْعَذابَ أي و يرون العذاب [لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ

ص: 154


1- هود: 119.
2- ابراهيم: 22.

أي لو أنّهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب و اعتقدوا انّ العذاب حقّ في الدنيا و ما أنكروا القيامة.

قوله تعالى: [وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ و من الأمور التي يسأل اللّه الكفّار في ذلك اليوم فيقول اللّه لهم ما الّذي أجبتم من دعوة المرسلين و ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيّين و هذا سؤال تقرير بالذنب فإنّ الرسل كانوا يدعون بالعلم و العمل كأنّه يقال لهم ماذا علمتم و ما الّذي عملتم.

[فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ] فخفيت عليهم طرق الجواب يومئذ كالأعمى لانسداد طرق الأخبار عليهم كما تنسدّ طرق الأرض على الأعمى و ألبست عليهم الحجج فلا ينطقون بالحجّة [فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله لشغله بنفسه، و قيل: لا يسأل بعضهم بعضا عن أن يحمل عنه ذنوبه.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 67 الى 70]

فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (69) وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

ثمّ لمّا بيّن حال المعذّبين من الكفّار أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيبا في التوبة و زجرا عن الثبات على الكفر فقال:

[فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ و في عسى وجوه:

أحدها أنّه من الكرام تحقيق و اللّه أكرم الأكرمين. و ثانيها أن يراد ترجّي التائب و طمعه كأنّه قال: فليطمع في الفلاح. و ثالثها عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة و الإيمان لجواز أن لا يدوموا. و إنّما أتى سبحانه بلفظة «عسى» مع أنّه مقطوع بفلاحه لأنّه على رجاء أن يدوم على ذلك فيفلح و قد يجوز أن يزلّ في ما بعد فيهلك على أنّه قد قيل: إنّ «عسى» من اللّه سبحانه لفظة وجوب في جميع القرآن.

قوله: [وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ] و في الآية ردّ على المشركين

ص: 155

حيث أو ردوا شبهة و قالوا: «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (1) فاختاروا عظيما من مكّة و هو الوليد بن المغيرة و من الطائف عروة بن مسعود الثقفيّ فأجاب اللّه سبحانه بقوله: «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ» لهم ما هو الأصلح «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» و «ما» في الآية بمعنى الّذي أي و يختار الّذي لهم الخيرة، و الخيرة اسم من الاختيار أقيم مقام المصدر و حاصل المعنى أنّ الاختيار له و ليس لغيره. و قيل: «ما» نافية فيكون الوقف في الآية حينئذ على قوله: «و يختار».

قوله: [سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تقدّس و تنزّه عن أن يكون له شريك و اختيار لأحد من دونه.

ثمّ أقام البرهان على صحّة اختياره بقوله [وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ أي هو العالم بما يخفونه و ما يظهرونه فإليه الاختيار و أمّا الّذي لا يعلم فلا اختيار له لأنّه غير قابل بعلم الأصلح [وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] و هذا الموصوف اللّه ليس إله غيره [لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ] و له الثناء و المدح و التعظيم على ما أنعم به على خلقه في الدنيا و العقبى [وَ لَهُ الْحُكْمُ بينهم بما يميّز به الحقّ و الباطل: يحكم لأهل طاعته بالفضل و المغفرة و لأهل معصية بالشقاء و الويل [وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و إلى حكمه مرجعكم.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 71 الى 75]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (72) وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)

المعنى: [قُلْ يا محمّد لقومك و الّذين عبدوا الآلهة تنبيها على خطائهم و بيانا لموجبات الحمد الّذي ذكره في الآية السابقة حيث قال: «لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ»

ص: 156


1- الزخرف: 31.

فنبّه سبحانه بأنّ اللّيل و النهار نعمتان يتعاقبان لأنّ الإنسان لا بدّ و أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه و لا يتمّ له ذلك لو لا ضوء النهار و الاجتماعات ليتمكّن الإنسان من المعاملات و أيضا لا يتمّ هذا الأمر لو لا الراحة و السكون باللّيل فلا بدّ منهما فقال:

[أَ رَأَيْتُمْ إذا بقي اللّيل من غير النهار من [يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ] و نهار و لا قادر على ذلك إلّا اللّه [أَ فَلا تَسْمَعُونَ ما بيّنه لكم من الأدلّة على التوحيد و تتفكّرون فيه، و كذلك [إِنْ جَعَلَ اللَّهُ النهار من غير ليل تسكنون فيه للراحة و يكون دائما النهار من غير ليل من [يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تستريحون فيه من النصب و الحركة غير اللّه [أَ فَلا تُبْصِرُونَ و تتبصّرون من البصيرة أو من المشاهدة فتعلموا أنّهما من صنيع مدبّر حكيم.

ثمّ قال: [وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي و من رحمته و إحسانه إليكم جعل اللّيل للسكونة و الراحة و النهار لابتغاء المعاش و الكسب و الفضل [وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ من نعم اللّه عليكم و تعرفون حقّه [وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مضى تفسيره كرارا و إنّما كرّر ذكر النداء للمشركين بأين شركائي تقريعا لهم بعد تقريع، أو أنّ النداء الأوّل في الآية السابقة لتقرير إقرارهم على أنفسهم بالغيّ و الثاني للتعجيز عن إقامة البرهان بحضرة الأشهاد.

[وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً] أي و أخرجنا من كلّ امّة من الأمم رسولها الّذي يشهد عليهم بالتبليغ و بما كان صدر منهم و هم عدول الآخرة و لا يخلو كلّ زمان منهم يشهدون على الناس بما علموا ليكون ذلك زائدا في غمّهم، و الشهداء الّذين يشهدون يعمّ الأنبياء و المؤمنين في أيّام الفترات فعلم الكفّار حينئذ [أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَ و غاب وضاع مفترياتهم من الباطل و الكذب.

قوله تعالى:

[سورة القصص (28): الآيات 76 الى 82]

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)

فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)

ص: 157

اعلم أنّ نصّ القرآن يدلّ على أنّ قارون كان من قوم موسى عليه السّلام و ظاهر ذلك يدلّ على أنّه ممّن قد آمن بموسى، و لا يبعد أيضا حمله على القرابة؛ و اختلفوا في كيفيّة القرابة قيل: إنّه كان ابن عمّ موسى عليه السّلام لأنّه كان قارون بن يصهر بن فاهث بن لاوي و موسى ابن عمران بن فاهث بن لاوي. و قيل: إنّه كان عمّ موسى لأنّ موسى ابن عمران ابن يصهر بن فاهث، و قارون ابن يصهر بن فاهث. و قال ابن عبّاس: إنّه كان ابن خالته.

ثمّ قيل: إنّه كان يسمّى المنوّر لحسن صورته و كان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلّا أنّه نافق كما نافق السامريّ.

أمّا قوله: [فَبَغى عَلَيْهِمْ قيل: إنّه بغى بسبب ماله و بغيه أنّه استخفّ بالفقراء و لم يرع لهم حقّ الإيمان و لا عظّمهم مع كثرة أمواله. و قيل: كان بغيه من الظلم ملّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم و بغى عليهم و طلب الفضل عليهم و جعلهم تحت يده.

و قيل: طغى عليهم و استطال فلم يوافقهم في أمر و قيل: بغيه عليهم أنّه زاد عليهم في الثياب شبرا للتكبّر.

و قيل: إنّ بغيه عليهم أنّه حسد هارون عليه السّلام على الحبورة (1)؛ يروى أنّ موسى عليه السّلام لمّا قطع البحر و أغرق اللّه فرعون جعل الحبورة لهارون عليه السّلام فخلصت له النبوّة و الحبورة و كان صاحب القربان و المذبح و كان لموسى عليه السّلام الرسالة فوجد قارون من ذلك

ص: 158


1- بالضم: الامامة.

في نفسه فقال: يا موسى لك الرسالة و لهارون الحبورة و لست في شي ء و لا أصبر أنا على هذا، فقال موسى: و اللّه ما صنعت ذلك لهارون و لكنّ اللّه جعله له. فقال: و اللّه لا اصدّقك أبدا حتّى تأتيني بآية أعرف بها أنّ اللّه جعل ذلك لهارون، قال: فأمر موسى عليه السّلام رؤساء بني إسرائيل أن يجي ء كلّ رجل منهم بعصاه فجاءوا بها فألقاها موسى عليه السّلام في قبّة له و كان ذلك بأمر اللّه فدعا ربّه أن يريهم بيان ذلك فباتوا يحرسون عصيّهم فأصبحت عصا هارون عليه السّلام تهتزّ، بها ورق أخضر و كانت من شجر اللوز فقال موسى عليه السّلام: يا قارون أما ترى ما صنع اللّه لهارون؟ فقال: و اللّه ما هذا بأعجب ممّا تصنع من السحر، فاعتزل قارون بأتباعه و كان كثير المال و التبع من بني إسرائيل فما كان يأتي موسى عليه السّلام و لا يجالسه.

و روى أبو أمامة الباهليّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: كان قارون من السبعين المختارة الّذين سمعوا كلام اللّه.

أمّا قوله: [وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ] ففيه أبحاث، فإن قيل: إنّ اللّه لا يعطي الحرام فكيف أضاف اللّه مال قارون إلى نفسه بقوله «و آتيناه» فأجيب بأنّه لا حجّة في أنّه حرام و لعلّ أنّه قد وصل إليه بعضه بالإرث و بعضه بالتكسّب، و قيل إنّه أصاب كنزا من كنوز يوسف.

و بالجملة «وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» و «ما» هذه موصولة أي أعطيناه من الأموال المدّخرة قدر الّذي نوّأ مفاتحه بالعصبة، و المفاتح المراد الخزائن مثل قوله: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» (1) أي خزائن، من قول أكثر المفسّرين و ابن عبّاس. و قيل: هي المفاتح الّتي تفتح بها الأبواب. و قيل: كانت مفاتيح قارون من جلود و كلّ مفتاح مثل الإصبع. و اختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر. و قيل: إلى أربعين. و قيل: أربعون رجلا و العشرة عصبة بدليل قوله تعالى في إخوة يوسف: «وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ»* (2) و كانوا عشرة لأنّ يوسف و أخاه لم يكونا معهم.

ص: 159


1- الانعام: 59.
2- يوسف: 8 و 14.

و بالجملة «لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ» أي تنوء و تعجز العصبة بها، و ناءت العصبة بها، و الباء لتعدّي الفعل و لكثرة هذه الأموال أو المفاتيح تتعب القائمين عليها أن يحفظوها و يحملوها.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه كان في قوم قارون من وعظه بأمور:

أحدها قوله: [إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ و المراد أن لا تبطر بالنعمة و لا يلهيك المال عن الآخرة لأنّ من يعلم أنّه سيفارق الدنيا لم يفرح بها.

و ثانيها قوله: [وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ] و الظاهر أنّه كان مقرّا بالآخرة.

و ثالثها: [وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا] أي لا بأس بوجوه التمتّع التمتّع المباحة، أو المراد الإنفاق في طاعة اللّه فإنّ ذلك هو نصيب المرء من الدنيا قال صلّى اللّه عليه و آله: فليأخذ العبد من نفسه لنفسه و من دنياه لآخرته و من الشبيبة قبل الكبر و من الحياة قبل الموت فو الّذي نفس محمّد بيده ما بعد الموت من مستعتب و لا بعد الدنيا دار إلّا الجنّة و النار.

و رابعها: [وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ و يدخل فيه وجوه الخير و الإعانات [وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ و المراد ما كان عليه من الظلم و البغي. و قيل: إنّ هذا القائل هو موسى. و قيل: القائل بل مؤمنو قومه لكن أبي أن يقبل بل زاد قارون بكفر النعمة فقال:

[إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي إنّ المال حصل لي على علم عندي بوجوه المكاسب و بأمور لا يتهيّأ لأحد أن يكتسبه من التجارات و الزراعات، و قيل: على علم عندي بصنعة الذهب و هو علم الكيمياء، حكي أنّ موسى علّم قارون الثلث من صنعة الكيمياء و علّم يوشع الثلث منها و علّم كالب بن هارون الثلث منها فخدعهما قارون حتّى علم ما عندهما و عمل بالكيمياء فكثرت أمواله فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضّة و النحاس فيجعله ذهبا.

فأجاب اللّه عن كلامه بقوله: [أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً] و المراد أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم أنّ اللّه قد أهلك قبله من القرون من هو أغنى منه و أقوى، و ذلك لأنّه قرأه في التوراة و اخبر به و سمعه

ص: 160

من الأحبار. و المراد من قوله: «أكثر جمعا» أكثر جمعا للمال أو أكثر جماعة في العدد.

و أمّا قوله: [وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي إذا جاء و نزل العذاب فالاغترار بالمال الكثير و العدد العظيم لا ينفع و يدخلون النار و الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا يسألون عنهم لعلامتهم و يأخذونهم بالنواصي و الأقدام فيصيّرونهم إلى النّار و هذا كقوله «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ» (1) فأمّا قوله: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (2) فإنّما ذلك سؤال تقريع و توبيخ لا ليعلم ذلك.

قوله [فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ فقوله «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» يدلّ على أنّه خرج بأطهر زينة و أكملها و ليس في القرآن إلّا هذا القدر إلّا أنّ الناس ذكروا وجوها كثيرة في كيفيّة تلك الزينة قال مقاتل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب و معه أربعة آلاف فارس على الخيول و عليها الثياب الأرجوانيّه و معه ثلاثمائة جارية بيض عليهنّ الحليّ و الثياب الحمر على البغال الشهب. و قال بعضهم: في تسعين ألفا هكذا. و الأولى ترك هذه التقريرات لأنّها متعارضة.

ثمّ إنّ الناس لمّا رأوه على ذلك الزيّ و الزينة قال من كان يرغب منهم في الدنيا:

«يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ» من هذه الأموال و الأمور و أمّا أهل الدين فقالوا للّذين تمنّوا هذا: [وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ] من هذه النعم لأنّه دائم، و كلمة ويلك أصله الدعاء بالهلاك ثمّ يستعمل في الزجر و الردع [وَ لا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي لا يوفّق لها، و الضمير إلى الكلمة أي كلمة ثواب اللّه خير إلّا الصابرون أو الضمير راجع إلى الإيمان و العمل الصالح أي لا يؤتيها إلّا الصابرون في الطاعة و الرضا بما قسم اللّه لهم.

و قوله: [فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ أي إنّ قارون لمّا أشر و بطر خسف اللّه به و بداره جزاء على عتوّه، و الفاء تدلّ على هذا المعنى لأنّ الفاء تشعر بالعلّيّة. قيل: إنّ قارون كان يؤذي موسى عليه السّلام كلّ وقت و هو يتحمّل عنه للقرابة الّتي بينهما حتّى نزلت التوراة و آية الزكاة فصالحه موسى عن كلّ ألف دينار على دينار و عن كلّ ألف درهم على درهم فاستكثره قارون بعد ما حسبه فشحّت نفسه فجمع بني إسرائيل و قال: إنّ موسى يريد أن

ص: 161


1- الرحمن: 39.
2- الحجر: 92.

يأخذ أموالكم فقالوا: أنت سيّدنا و كبيرنا فمرنا بما شئت قال: نبرطل (؟) فلانة البغيّ حتّى تنسبه إلى نفسه فرفضه بنو إسرائيل فجعل لها طستا مملوءا من الذهب.

فلمّا كان يوم عيد قام موسى فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه و من زنى و هو غير محصن جلدناه و إن أحصن رجمناه فقال قارون: و إن كنت أنت؟ قال: و إن كنت أنا.

قال: فإنّ بني إسرائيل يقولون: إنّك فجرت بفلانة! فأحضرت فناشدها موسى باللّه الّذي فلق البحر و أنزل التوراة أن تصدق فتداركها اللّه فقالت: كذبوا، بل جعل قارون لي جعلا على أن أقذفك بنفسي فخرّ موسى ساجدا للّه يبكي و قال يا ربّ: إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى اللّه إليه أن مر الأرض بما شئت فإنّها مطيعة لك.

فقال: يا بني إسرائيل إنّ اللّه بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه و من كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين ثمّ قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق؛ و قارون و أصحابه يتضرّعون إلى موسى و يناشدونه باللّه و الرحم و موسى لا يلتفت إليهم ثمّ قال موسى: يا أرض خذيهم، فانطبقت الأرض عليهم، فأوحى اللّه إلى موسى: استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم أما و عزّتي لو دعوني مرّة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا.

و نقل صاحب المجمع هذه الرواية عن السدّيّ مع اختلاف يسير في العبارة قال: دعا قارون امرأة من بني إسرائيل بغيّا فقال: إنّي أعطيك ألفين على أن تجيئين غدا إذا اجتمعت بنو إسرائيل عندي فتقولي: يا معشر بني إسرائيل مالي و لموسى قد آذاني؟ قالت: نعم فأعطاها خريطتين عليهما خاتمه فلمّا جاءت إلى بيتها ندمت و قالت: يا ويلتى قد عملت كلّ فاحشة فما بقي إلّا أن أفتري على نبيّ اللّه و كليمه فلمّا أصبحت أقبلت و معها الخريطتان حتّى قامت بين بني إسرائيل فقالت: إنّ قارون قد أعطاني هاتين الخريطتين على أن أقول هكذا و معاذ اللّه أن أفتري على نبيّ اللّه و هذه دراهمه عليها خاتمه فعرف بنو إسرائيل خاتم قارون فغضب موسى فدعا اللّه إلى آخر القصّة.

و قيل: لمّا صبّ قارون على رأس موسى رمادا قد خلط بالماء دعا عليه.

قال مقاتل: و لمّا أمر موسى الأرض فابتلعته قال بنو إسرائيل: إنّما فعل موسى

ص: 162

ذلك ليرثه لأنّه كان ابن عمّه فخسف بداره بعد ثلاثة أيّام.

قوله: [فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ و ما أفاده جمعه و لا ماله و ما تمكّن أحد أن ينصره من عذاب اللّه [وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ و الممتنعين من عذاب اللّه و كان يعذّب و يجلجل في طبقات الأرض إلى أن لاقى و سمع تسبيح يونس في بطن الحوت و سأله عن قومه و ترحّم عليهم فرفع اللّه عنه العذاب في الدنيا إلى آخر القصّة قوله: [وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ حين خرج عليهم في زينته [يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ] و في كلمة «وي كأنّ» أقوال من أئمّة النحاة و أهل اللغة: قال ابن جنّي: في «وي كأنّه» ثلاثة أقوال منهم من جعلها كلمة واحدة فلم يقف على وي، و منهم من وقف على «وي». و منهم من قال: «ويك» أي أعجب و الكاف للخطاب مثل ذلك فالمعنى أعجب أنّه لا يفلح الكافرون و اعجب أنت أنّه يبسط الرزق لمن يشاء، و على كون كلمة «وي» مفصولة عن «كأن» فهي مستعملة عند التنبّه للخطأ و إظهار التندّم فالمعنى في الآية: إنّهم لما قالوا: يا ليت لنا مثل ما اوتي قارون ثمّ شاهدوا الخسف تنبّهوا لخطائهم فقالوا: وي، ثمّ قالوا: كأنّ اللّه يبسط الرزق بحكمته لا لكرامته عليه و يضيق على من يشاء لا لهوانه عليه.

و قيل: «ويلك» أنّه بحذف اللام و جاز هذا الحذف لكثرتها في الكلام و أنّه مفتوحة بعدها بفعل مضمر كأنّه قال: ويك أعلم أنّه يبسط الرزق و يقدر.

قوله: [لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ثمّ قالوا: لو لا أن منّ اللّه علينا لخسف بنا و كنّا مثله وي كأنّه لا يفلح الكافرون لما قبله.

و النظم في قصّة قارون في الآيات لأنّ اللّه سبحانه قال: «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى فأكّد هذا البيان بحديث قارون و حاله.

قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 83 الى 88]

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)

وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

ص: 163

[تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ] الّتي سمعت خبرها و بلغك وصفها [نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا] و غلبة [فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً] و ظلما على الناس. في المجمع عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه كان يمشي في الأسواق و هووال يرشد الضالّ و يعين الضعيف، و يمرّ على البقّال و البيّاع و يقرء هذه الآية و يقول: نزلت في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة. و عنه عليه السّلام قال: إنّ الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية. يعني إنّ من تكبّر على غيره بلباس يعجبه فهو ممّن يريد علوّا في الأرض.

و عنه عليه السّلام أنّه قال لحفص بن غياث: يا حفص ما منزلة الدنيا من نفسي إلّا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها يا حفص إنّ اللّه علم ما العباد عاملون و إلى ما هم صائرون فحلم عنهم عند أعمالهم السيّئة لعلمه السابق فيهم فلا يغرنّك حسن الطلب ممّن لا يخاف الفوت ثمّ تلا «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ» الآية و جعل يبكي و يقول: ذهبت و اللّه الأمانيّ عند هذه الآية، فاز و اللّه الأبرار أ تدري منهم هم الّذين لا يؤذون الذرّ، كفى بخشية اللّه علما و كفى بالاغترار جهلا، الحديث.

قوله: [وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الّذين اتّقوا المعاصي و عقاب اللّه بأداء فرائضه.

قوله: [مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها] لمّا بيّن أنّ الدار الآخرة للمتّقين بيّن لهم ما يحصل فقال: من أتى بحسنة فله قد حصل خير من تلك الحسنة فيزوّد ثوابا [وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يزادوا على ما يستحقّون، ثبت أنّ في الحسنات مزيد الفضل و الثواب و لا يجزى بالسيّئة إلّا مثلها.

فلو قيل. كيف لا تجزى السيّئة إلّا بمثلها مع أنّ المتكلّم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذّب أبد الآباد؟

فالجواب أنّه كان على عزم أنّه لو عاش أبدا كان القائل بذلك فعومل بمقتضى عزمه و قصده كما أنّ الكافر لو كان مؤبّدا في الدنيا لكان مؤبّدا في كفره فيكون مؤبّدا في عذابه.

ص: 164

قوله: [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ] النزول: قيل: لمّا نزل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالجحفة في مسيره إلى المدينة مهاجرا اشتاق إلى مكّة فأتاه جبرئيل فقال: أ تشتاق إلى بلدك و مولدك؟ فقال: نعم، قال جبرئيل: فإنّ اللّه يقول: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ» الآية، أي إنّ الّذي أوجب عليك القرآن بما تضمّنه من الأحكام لرادّك إلى مكّة و يعيدك إليها كما كنت فيها و هذا أحد الدلالات على كونه نبيّا لأنّه تعالى أخبره عن الغيب و قد وقع كما أخبر فكان معجزا و صار المخبر مطابقا للخبر. و قيل: المعنى إلى المرجع يوم القيامة و يعيدك بعد الموت كما بدأك.

ثمّ ابتدأ بكلام آخر فقال سبحانه: [قُلْ يا محمّد [رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى الّذي يستحقّ الثواب [وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي لا يخفى عليه الضالّ و المهتدي و المؤمن و الكافر، و التأويل أنّي قد جئتكم بالهدى من عنده و إنّكم في ضلال و سينصرني عليكم.

ثمّ ذكر سبحانه النعم الّتي أنعم اللّه على نبيّه فقال: [وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي و ما كنت يا محمّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه إليك و يشرّفك بهذه الشرافة العظيمة من إنزال الكتاب عليك [إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ و إلّا في الآية قيل للاستداراك أي ما كنت ترجوا هذا الأمر العظيم لكن تداركتك رحمة عظيمة من اللّه خصّصت بها.

ثمّ أمره بأمور:

أحدها: بأن لا يكون مظاهرا للكفّار فقال [فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ و هذا الخطاب و أمثاله و إن كان للنبيّ لكنّ المراد قومه روي عن ابن عبّاس أنّه كان يقول:

القرآن كلّه إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

و ثانيها: قال سبحانه: [وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ الميل إلى المشركين و ذلك حين دعوه إلى دين طائفته ليزوّجوه و يقاسموه شطرا من أموالهم أي لا تلتفت إلى ما يقولون و لا تركن إليهم فيصدّوك عن اتّباع آيات اللّه.

و ثالثها: [وَ ادْعُ إِلى دين [رَبِّكَ و أراد التشدّد في دعوة الكفّار و المشركين فقال: [وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لأنّ من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم، و المراد الامّة و إن كان الخطاب إليه و هو للتعظيم.

ص: 165

و رابعها: قوله [وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] فإن قيل: إنّ الرسول كان معلوما منه أن لا يفعل شيئا من ذلك البتّة فما الفائدة في هذا النهي؟ و الجواب ما قاله ابن عبّاس و قد ذكرناه قبيل ذلك.

قوله: [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] أي لا تستدع حوائجك من غيره لا معبود إلّا هو.

[كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ و بائد و فان إلّا ذاته و هذا كما يقال: هذا وجه الرأي و وجه الطريق و وجه العمل، و في هذا دلالة على أنّ الأجسام تفنى ثمّ تعاد.

و قيل: معنى «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» يعني ما أريد به وجهه فإنّ ذلك يبقى ثوابه و هذا المعنى اختيار جماعة من المفسّرين مثل ابن عبّاس و أبي العالية و الكلبيّ. قال الفرّاء:

أستغفر اللّه ذنبا لست محصيه ربّ العباد إليه الوجه و العمل أي إليه اوجّه العمل.

و كلّ عمل مشروع أريد به وجه اللّه فهو باق و ثابت حتّى أنّ العيد يشرب من الماء فيستوجب الجنّة؛ قال الصادق عليه السّلام: إنّ الرجل يشرب الماء فيقطعه ثمّ ينحي الإناء و هو يشتهيه فيحمد اللّه ثمّ يعود فيه و يشرب ثمّ ينحّيه و هو يشتهيه فيحمد اللّه ثمّ يعود فيشرب فيوجب اللّه له بها الجنّة، و كذلك في البسملة يفعل كما فعل في التحميد يدخل به الجنّة.

[لَهُ الْحُكْمُ أي القضاء النافذ في خلقه و الفصل بين الخلائق في الآخرة [وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و تردّون. و النظم في الآيات أمّا قوله: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ» بما قبله على معنى أنّه سبحانه كما حرّم نعم الدنيا عليهم بالهلاك كذلك حرّم عليهم نعم الآخرة.

و أمّا وجه النظم في قوله «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ الآية» بما قبله فقد ذكر فيه من حمل المعاد على البعث أنّه اتّصل بقوله «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ» و من حمله على العود إلى مكّة قال:

إنّه سبحانه لمّا بيّن وعده لأمّ موسى و رجوعه إلى امّه كذلك وعده ربّه العود إلى مكّة مع الشرف العظيم و قد أنجز وعده كما أنجز وعده هناك.

تمّت السورة

ص: 166

سورة العنكبوت

اشارة

(مكية كلها و قيل: مدنية و قيل: بعضها مكية و بعضها) (مدنية. عدد آيها تسع و ستون آية)

فضلها:

ابيّ بن كعب عن النبيّ عليه السّلام قال: من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ المؤمنين.

و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ سورة العنكبوت و الروم في شهر رمضان ليلة ثلاث و عشرين فهو و اللّه يا أبا محمّد من أهل الجنّة و لا أستثني فيه أبدا و لا أخاف أن يكتب اللّه عليّ في يميني إثما و إنّ لهاتين السورتين من اللّه مكانا.

ص: 167

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العنكبوت (29): الآيات 1 الى 5]

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)

مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)

النزول:

قيل: نزلت الآية في عمّار بن ياسر و كان يعذّب في اللّه و كذلك عيّاش ابن ربيعة و الوليد بن الوليد و سلمة بن هشام و كانوا يعذّبون بمكّة. و قيل: إنّها نزلت في أقوام بمكّة هاجروا و تبعهم الكفّار فاستشهد بعضهم و نجا الباقون.

[أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا] يعني أ ظنّوا أنّهم يتركون بمجرّد قولهم آمنّا و هم لا يمتحنون بالفرائض البدنيّة كالجهاد و العبادات و الماليّة كالزكاة و أمثالها، لأنّ الإنسان إذا قال: آمنت باللّسان فقد ادّعى محبّة اللّه في القلب و لا بدّ له من شهود فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه حصل له على دعواه شهود كما أنّه إذا بذل في سبيل اللّه نفسه و ماله و زكّى، بترك ما سواه أعماله زكّى شهوده، فيثبت في جرائد المحبّين اسمه و يقرّر في دفتر المؤمنين و إليه الإشارة بهذه الآية أي دعوى بلا شهود و شهود بلا تزكية غير مقبول و هي أدنى درجات العبوديّة فإنّ ما دونه دركات الكفر.

و اعلم أنّ المستخدمين عند الملوك على أقسام: منهم من يكون ناهضا في شغله ماضيا في فعله فيترقّى من خدمة إلى خدمة أعلى منها مرتبة، و منهم من يكون كسلانا متخلّفا فينتقل من خدمة إلى خدمة أدنى منها، و منهم من يترك على شغله من غير تغيير، و منهم من يقطع اسمه بسبب الخيانة و يمحى عن الجرائد اسمه فكذلك العباد قد يكون العبد مقبلا على العبادة مقبولا للسعادة و هي درجة المقرّبين و منهم من يكون قليل الطاعة مشتغلا بالخلاعة فينتقل إلى مرتبة العصاة و منزلة الفسّاق و قد يكون يزيد على هذا الأمر

ص: 168

و يستصغر العيوب و يستكثر الذنوب فيصير محروما و يلحق بأهل العناد مرجوما. و الحاصل أنّ الإنسان بمجرّد قوله «آمنت» غير متروك و لا بدّ أن يفتن.

قوله: [وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ثمّ أقسم سبحانه فقال: و لقد ابتلينا الّذين من قبل امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله من سالف الأمم بالفرائض الّتي فرضناها عليهم و بالشدائد و المصائب مثل إبراهيم خليل الرحمن و قوم كانوا معه و من بعد إبراهيم نشروا بالمناشير على دين اللّه فلم يرجعوا عنه و مثل قوم بني إسرائيل ابتلوا بفرعون يسومونهم سوء العذاب.

«فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ» أي ليميّزنّ اللّه الّذين صدقوا من الّذين كذّبوا بالجزاء و المكافاة و عبّر عن الجزاء و التميّز بالعلم و أقام السبب مقام المسبّب و الملزوم مقام اللّازم و مثله من إقامة السبب مقام المسبب قوله تعالى «كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» (1) فهذا سبب قضاء الحاجة فكنّى بذكره عنها و الفائدة في اختلاف الصيغة بالماضي في صدقوا و بالفاعل في الكاذبين أنّ اسم الفاعل يدلّ على الثبوت و الاستمرار و الفعل لا يدلّ على الاستمرار لأنّه لا يفهم من معنى الفعل التكرار كما يقال: فلان شرب الخمر و شارب الخمر، و لمّا كانت الآية وقت نزولها حكاية عن قوم قريبي العهد في الإسلام و عن قوم مستديمي الكفر مستمرّين عليه فلهذه العلّة قال سبحانه في حقّ المؤمنين الّذين صدقوا بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق و قال في حقّ الكافر بالصيغة الفاعل المنبئة عن الثبوت.

و أمّا قوله [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ «أم» هذا استفهام منقطع عمّا قبله و ليست الّتي معادلة الهمزة و المعنى: بل أحسب الّذين يفعلون الكفر و القبائح أن يفوتونا و يعجزونا فلا نقدر على أخذهم و الانتقام منهم بئس الأمر الّذي يحكمون و يعتقدون، و حاصل المعنى: أنّ من امتحن بأمر و كلّف و لم يأت به إن لم يعذّب في الحال يعذّب في الاستقبال و لا يفوتنا عذابه و لا يتخيّلون أنّ الإمهال يفضي إلى الإهمال و التعجيل في العقوبة شغل من يخاف الفوت.

قوله: [مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ و بالعكس

ص: 169


1- الزمر: 68.

إنّ الّذين يعترفون بالآخرة و يعملون لها، و فسّر بعض الرجاء في الآية بمعنى الخوف و المراد من قوله «أجل اللّه» الموت أو الحياة الثانية بالحشر و لعلّ المراد من ذكر إتيان الأجل وقوع وعد المطيع من الثواب و وعيد العاصي من العقاب و حاصل المعنى: من كان يرجو الثواب و يخشى البعث و الحساب فليبادر بالطاعة قبل الأجل فإنّه لآت لا محالة.

و اعلم أنّ أكثر آيات القرآن لا ينفصل عن ذكر الأصول كما أنّ في هذه الآيات قد ذكر الأصول الثلاثة: و الأوّل الإيمان بوحدانيّته كما بيّن «أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا» و فيه إشارة إلى الأصل الأوّل و الأصل الثاني و هو إرسال الرسل و النبوّات و تصديقهم، كما أشار بقوله: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ» بالأصل الثاني و أشار بأصل الثالث في قوله: «مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ».

أمّا قوله: «وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» و لم يذكر في المقام صفة غيرهما لأنّه قد سبق في الآية ذكر القول بقوله «أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا» و سبق ذكر الفعل بقوله: «لا يُفْتَنُونَ» و مناسبة الإدراك في القول السّمع و في العمل العلم فقال: و هو السّميع لأقوالهم و العليم بأفعالهم و أصناف حسنات العبد ثلاثة: أحدها نيّته و قلبه في التصديق و هو لا يرى و لا يسمع و إنّما يعلم، و الثاني عمل لسانه و هو يسمع و عمل أعضائه و جوارحه و هو يرى فإذا أتى العبد بهذه الأمور الثلاثة جعل لمسموعه ما لا اذن سمعت و لمرئيّه ما لا عين رأت و لعمل قلبه ما لا خطر على قلب بشر، كما ذكر في الحديث في وصف الجنّة.

و بالجملة [سورة العنكبوت (29): آية 6]

وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6)

و لمّا بيّن سبحانه أنّ التكليف واقع و عليه وعد و وعيد ليس لهما دافع بيّن أن طلب اللّه ذلك من المكلّف ليس لنفع يعود إليه سبحانه فإنّه غنيّ مطلق فمن سعى في تكليف فقد سعى لنفسه و طلب أمرا يرجع نفعه إلى نفسه فليكن الإنسان دأبه أن يجاهد الشيطان بمخالفته و يدفع وسوسته عن نفسه و إغوائه و يجاهد أعداء الدين لإحيائه و يجاهد مع نفسه في شهواتها و كل ذلك نفع و فائدة للمكلّف و اللّه غنيّ عن جميع العوالم و أهلها و الآية تدلّ على أنّه ليس في مكان لا على العرش و لا على غيره فإنّه من العالم و هو غنيّ عنه.

ص: 170

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 7 الى 10]

اشارة

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10)

مسألة الإيمان هو التصديق كما قال: «وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا» (1) أي مصدّق لنا، و اختصّ في استعمال الشرع بالتصديق بجميع ما قال اللّه و الرسول إن علم على سبيل التفصيل أنّه قول اللّه أو قول الرسول أو على سبيل الإجمال فيما لم يعلم، و الأعمال الصالحة كاشفة عن وقوع التصديق و لا يتمّان إلّا معا و الأعمال داخلة فيما هو المقصود من الإيمان لأنّ تكفّر السيّئات و الجزاء بالأحسن معلّق على الأعمال و هي ثمرة الإيمان و مثاله شجرة مثمرة لا شكّ في أنّ عروقها و أغصانها منها و الماء الّذي يجري عليها و التراب الّذي حواليها غير داخل فيها لكنّ الثمرة لا تحصل إلّا بذلك الماء و التراب الخارج فكذلك العمل الصالح مع الإيمان، و أيضا الشجرة لو احتفّت بها الحشائش المفسدة و الأشواك المضرّة ينقص ثمرة الشجرة و إن غلبتها عدمت الثمرة بالكلّيّة و فسدت فكذلك الذنوب تفعل بالإيمان.

ثمّ إنّ العمل الصالح باق لأنّ الصالح في مقابلة الفاسد و الفاسد هو الهالك التالف يقال: فسد الزرع إذا هلك أو خرج عن حدّ الانتفاع به، و العمل كيف بنفسه يبقى مع أنّه عرض فلا يبقى إلّا بالعامل و العامل أيضا لا يبقى لأنّه هالك كما قال: «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ» فبقاء العمل لا بدّ و أن يكون بشي ء باق لكنّ الباقي هو وجه اللّه بقوله: «إِلَّا وَجْهَهُ» فإذا كان العمل لوجهه فباق و ما لا يكون من العمل لوجهه لا يبقى لا بنفسه و لا بالعامل و لا بالمعمول له لأن الكل فان فالإخلاص لوجهه سبب لبقاء العمل و هو المرفوع و المقبول لقوله: «وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» لكنّه لا يرتفع إلّا بالكلم الطيّب كما قال: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ»

ص: 171


1- الحاقة: 51.

و هو يرفع العمل، فالعمل من غير المؤمن لا يقبل و لهذا تقدّم الإيمان في الذّكر على العمل.

قوله تعالى: [لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ و لمّا ذكر من أعمال العبد نوعين الإيمان و العمل الصالح فذكر في مقابلتها أمرين فتكفير السيّئات في مقابلة الإيمان و الجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح و التكفير الستر و الإبطال.

و مقتضى ظاهر الآية أنّ المؤمن العاصي لا يخلد في النار لأنّ بإيمانه تكفّر سيّئاته فلا يخلّد في العذاب.

قوله تعالى: [وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً] و قرئ إحسانا و هو أنّ اللّه تعالى وصّى الإنسان بأن يفعل مع والديه حسن التأنّي بالفعل و القول و نكّر حسنا للعموم و للدلالة على الكمال و التكثّر مثل قولك إنّ لزيد مالا.

و هذا القول في الآية دليل على أنّ متابعتهم في الكفر لا يجوز و بيان ذلك أنّ الإحسان بالوالدين وجب و حسن بأمر اللّه فلو ترك العبد عبادة اللّه بقول الوالدين لترك طاعة اللّه و اتّباع العبد أبويه لأجل الإحسان إليهما يفضي إلى ترك الإحسان إليهما و ما يفضي وجوده إلى عدمه باطل فالاتّباع باطل.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما] أي و إن جاهداك أبواك أيّها الإنسان و ألزماك في دعوتهم إيّاك في الشرك على عبادتي و ليس لك و لأحد به علم و حجّة و دليل فلا يحسن اعتقاده فأمر سبحانه إطاعتهما في الواجبات و المباحات و نهى عن طاعتهما في المحذورات و من امور معرّاة من الأدلّة و غير صحيحة.

[إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي مآلكم و عاقبتكم إليّ و إن كان اليوم مخالطتكم مع الآباء و الأقارب فأخبركم بأعمالكم أي أنا حاضر و لست غائب عنكم و عالم بأعمالكم.

النزول:

روي عن سعد بن أبي وقّاص قال: كنت رجلا بارّا بامّي فلمّا أسلمت قالت:

يا سعد ما هذا الدين الّذي أحدثت لتدعنّ دينك هذا أولا آكل و لا أشرب حتّى أموت فتعيّربي فيقال فيك: يا قاتل امّه فقلت: لا تفعلي يا امّه إنّي لا أدع ديني هذا لشي ء فمكثت يوما

ص: 172

لا تأكل و ليلة ثمّ مكثت يوما آخر و ليلة، قال سعد: فلمّا رأيت ذلك قلت: يا امّه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي و اشربي و إن شئت فلا تأكلي و لا تشربي فلمّا رأت ذلك أكلت، فنزلت هذه الآية. و امّه كانت جمنة بنت أبي سفيان بن اميّة ابن عبد شمس.

و روي عن بهر بن حكيم عن أبيه عن جدّه قال: قلت: للنبيّ: يا رسول اللّه من أبرّ؟ قال أمّك، قلت: ثمّ من؟ قال أمّك، قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب.

قال أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: الجنّة تحت أقدام الأمّهات.

أمّا قوله: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرتهم و جملتهم في الجنّة.

قوله: [وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ لمّا ذكر حال خيار المؤمنين عقّبه بذكر المنافقين و الضعفاء في الدين أي بعض الناس يقولون آمنّا باللّه بلسانهم فإذا اوذي في دين اللّه أو في ذات اللّه مثلا إذا أذاه إنسان أو أصابه ضرّا و بليّة دخل في دينهم و يحسب أنّ ما يفعله الناس به هو مثل عذاب اللّه الّذي لا ينقطع فيسوّي بين عذاب فان منقطع و بين عذاب دائم غير منقطع و ذلك لقلّة تميّزه، و المراد من فتنة الناس عذاب الّذي يقع من الناس عليه.

قوله: [وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ يا محمّد من اللّه للمؤمنين و دولة لأولياء اللّه على الكافرين [لَيَقُولُنَ هؤلاء المنافقين [إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ على عدوّكم، و إنّما يقولون ذلك لطمعهم في الغنيمة بأن يشاركوا المؤمنين فيها فكذّبهم اللّه تعالى فقال: [أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإيمان و النفاق.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 11 الى 15]

وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)

ص: 173

و لمّا بيّن أنّه أعلم بما في القلوب بيّن أنّه يعلم المؤمن المحقّ و إن لم يتكلّم و المنافق و إن تكلّم فقال:

[وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ و أكّد هذا المعنى بلام القسم قال الجبّائيّ: معناه: و ليميّزنّ اللّه المؤمن من المنافق، فوضع العلم موضع التميّز توسّعا، و في الآية تهديد للمنافقين و بيّن لهم أن نفاقكم ظاهر عند من يملك الجزاء.

قوله: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] الآية، لمّا بيّن اللّه سبحانه الفرق الثلاثة من المؤمن و الكافر و المنافق و أحوالهم ذكر أنّ الكافر يدعو المؤمن إلى طريقته كأنّه يقول له: لأيّ شي ء تصبر في الذلّ و الإيذاء و لم لا تدفع عن نفسك الذلّ و العذاب بموافقتنا و كان المؤمن يقول و يجاوبه: خوفا من عذاب اللّه على خطيئة مذهبكم، فقال الكافر: لا خطيئة فيه و إن كان فيه خطيئة فعلينا فاتّبعوا طريقتنا و نحن نحمل آثامكم عنكم و قوله: «وَ لْنَحْمِلْ» بصيغة الأمر و فيه معنى الجزاء و تقديره إن تتّبعوا ديننا حملنا خطاياكم عنكم و لنحمل هو المتكلّم به نفسه في مخرج اللفظ و المراد به إلزام النفس هذا المعنى.

فإن قيل: و لنحمل صيغة أمر و المأمور لا بدّ أن يكون غير الأمر فكيف يصحّ أمر النفس من الشخص؟ فإذا كان المعنى معنى الجزاء صحّ أي ليكن منكم الاتّباع بطريقتنا و ليكن منّا الحمل من خطاياكم.

فأخبر اللّه سبحانه بقوله: [وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ] أي لا يمكنهم حمل ذنوبهم عنهم يوم القيامة فإنّ اللّه لا يعذّب أحدا بذنب أحد [إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما ضمنوا.

قوله [وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي يحملون عذاب ضلالتهم بسبب كفرهم و عذاب إضلال غيرهم و هذا كقوله صلّى اللّه عليه و آله: من سنّ سنّة سيّئة الخبر و هذا كقوله «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» (1).

قوله: [وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ و لمّا قالوا: أن تتّبعونا نحمل يوم القيامة خطاياكم يقال لهم فاحملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون لم افتريتم أو المعنى أنّ الكفّار إنّما تعهّدوا بحمل خطاياهم حيث إنّهم ما كانوا يعتقدون الحشر فإذا جاء يوم القيامة ظهر لهم خلاف ذلك فيسألون و يقال لهم: أما قلتم أن لا حشر فلم افتريتم؟ و هذا

ص: 174


1- النحل: 25.

السؤال سؤال تقريع.

قوله: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ النظم: لمّا بيّن أقسام الناس من المؤمن و الكافر و المنافق و بيّن لهم الوعد و الوعيد أراد أن يذكر أنّ هذا التكليف ليس مختصّا بالنبيّ و امّته بل جميع مكلّفون و من جملة من كلّف نوح و قومه و إبراهيم و قومه و لقد أرسلنا نوحا يدعو قومه إلى توحيد اللّه عزّ و جلّ [فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً] فلم يجيبوه و كفروا به و ذكر المدّة لتسلية خاطر النبيّ لأنّه عليه السّلام بسبب عدم دخول الكفّار في الإسلام كان يضيق صدره فقال: أنّ نوحا لبث قريب ألف في الدعوة و لم يؤمن من قومه إلّا قليل و صبر فأنت أولى بالصبر لقلّة مدّة بشك و أيضا أنّ كفّار قوم نوح مع طول هذا المدّة ما نجوا من العذاب فقومك مع هذه المدّة القليلة لا ينبغي أن يغترّوا فإنّ الذلّ يشملهم.

قوله: [فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ جزاء على كفرهم [وَ هُمْ ظالِمُونَ لأنفسهم بما فعلوه من الشرك و العصيان [فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ] فأنجينا نوحا من ذلك الطوفان و الّذي ركبوا معه في السفينة من المؤمنين [وَ جَعَلْناها] أي السفينة [آيَةً لِلْعالَمِينَ علامة للخلائق و الأمم يعتبرون بها إلى يوم القيامة و أنّها كانت آية لأجل أنّه قبل الطوفان أمر اللّه نوحا باتّخاذها و أنبأه بأمر السفينة فلهذا كانت آية و يمكن أن يكون ضمير الهاء راجعة إلى النجاة.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 16 الى 20]

وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

ثمّ عطف على نوح [إِبْراهِيمَ لمّا أرسلناه [إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أطيعوا اللّه و خافوه باجتناب

ص: 175

معاصيه [ذلِكُمْ أي التقوى [خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما هو خير لكم و ما هو شرّ لكم [إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً] من الحجارة أو غيرها لا تضرّ و لا تنفع و تخلقون و تقدّرون و تفعلون كذبا بأن تسمّون هذه الأوثان آلهة و قرئ تخلّقون بالتشديد من باب التفعيل أو معناه تخلقون بأيديكم و تصنعون أشكالا و تسمّونها آلهة ثمّ ذكر عجز آلهتهم عن رزق عابديها فقال: [إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً] و لا يقدرون أن يرزقوكم و من لا يملك و لا يحسّ كيف يرزق غيره و كيف يستحقّ العبادة؟ [فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي إلى حكمه تصيرون يوم القيامة.

ثمّ خاطب سبحانه العرب من قوم محمّد فقال: [وَ إِنْ تُكَذِّبُوا] محمّدا [فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أنبياءهم الّذين بعثوا إليهم [وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ و ليس على الرسل التبليغ الظاهر البيّن و ليس عليه حمل من أرسل إليه على الإيمان و قيل: الخطاب من قوله: و أن يكذّبوا إلى قوم إبراهيم أيضا.

فإن قيل: كيف يفهم من قوله: فقد كذّب امم مع أنّ إبراهيم لم يسبقه إلّا قوم نوح و هم امّة واحدة؟

فالجواب إنّ قبل نوح كان أقوام كقوم إدريس و شيث و آدم و إنّ نوحا عاش أكثر من ألف و كان القرن يموت و يجي ء أولاده و الآباء كانوا يوصون بالامتناع عن اتّباع نوح أبناءهم و كفى لقوم نوح امما و المراد من البلاغ ذكر الأحكام و المبين إقامة البرهان عليها.

و في الآية دلالة على أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرّسول إذا لم يبيّن لم يأت بالبلاغ المبين فلا يكون آتيا بما عليه.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يعني كفّار مكّة الّذين أنكروا البعث و أقرّوا بأنّ اللّه هو الخالق فقال سبحانه: أو لم يتدبّروا و يتفكّروا كيف أبدأ اللّه الخلق بعد العدم كذلك يعيدهم ثانيا إذ أعدمهم بعد وجودهم و المراد الخلق الأوّل في الدّنيا و الخلق الآخر في الآخرة [إِنَّ ذلِكَ الأمر و الخلق بعد العدم [عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ].

ص: 176

[قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ أي إن لم يحصل لكم هذا العلم بإبداء اللّه الخلق و إعدامه و إعادته فسيروا في الأرض و انظروا بالعلم النظريّ و أجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم من الآفاق فيؤدّيكم ذلك إلى العلم بربّكم فحينئذ تعلمون أنّ غير اللّه لا يكون خالقا بل لا يقدر أحد و لا يوجد أحد يدّعي هذا الادّعاء فإذا علمتم أنّه لا خالق إلّا اللّه لزمتكم الحجّة في الإعادة و هو قوله:

[ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ] أي ثمّ اللّه الّذي أنشأ خلقها ابتداء ينشئها ثانية و معنى الإنشاء الإيجاد من غير سبب و النشأة مثل الرأفة منصوبة على المصدريّة [إِنَّ اللَّهَ عَلى الإنشاء و الإفناء و الإعادة و [كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ].

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 21 الى 25]

يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (22) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)

لمّا ذكر النشأة الآخرة ذكر ما يكون فيه و هو تعذيب أهل التكذيب عدلا و حكمة و إثابة أهل الإنابة فضلا و رحمة فقال:

[يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ] أي هو المالك للثواب و العقاب فيعذّب من يشاء ممّن يستحقّ العقاب و يرحم من يشاء ممّن هو مستحقّ للرحمة بأن يغفر له بالتوبة و غير التوبة [وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ و تردّون و ترجعون و القلب هو الرجوع و الردّ و الحاصل إن تأخر عنكم التعذيب و الرحمة فلا تظنّوا أنّه مات فإنّ إليه و عليه حسابكم و لهذا قال بعدها:

[وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ] أي لا يمكنكم الهرب و الفرار في الأرض أو الصعود إلى محلّ السماك في السماء أو إلى السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة اللّه و لا مطمع في الإعجاز بالهرب و ما لكم من دون اللّه من وليّ يشفع أو نصير

ص: 177

يدفع لا بالهرب و لا بالثبات إلى ركن منيع.

قوله: [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي كذّبوا بالقرآن و بأدلّة اللّه في توحيده و بيانه و أنكروا بلقائه أي جحدوا بالبعث بعد الموت فأخبر سبحانه أنّه آيسهم من رحمته و جنّته أو المعنى يجب أن يئسوا من رحمتي [وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم، و في الآية دلالة على أنّ المؤمن باللّه و باليوم الآخر لا يكون ييأس من رحمته.

ثمّ عاد إلى قصّة إبراهيم فقال: [فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ حين دعاهم إبراهيم إلى اللّه و نهاهم عن عبادة الأصنام [إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فإن قيل: كيف سمّي هذا الكلام جوابا؟ لأنّ اللّه أراد أن يبيّن ضلالتهم و هو أنّهم ذكروا في معرض الجواب هذا الكلام مع أنّه ليس بجواب.

[فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ] و هاهنا حذف و تقديره: ثمّ اتّفقوا على إحراقه فأجّجوا نارا فألقوه فيها فأنجاه اللّه منها [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي علامات واضحات و حجج بيّنات [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بصحّة ما أخبرناه به و بتوحيد اللّه و قدرته.

[وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ و لمّا خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفّار و قال إبراهيم لقومه: إنّما اتّخذتم عبادة الأوثان و تركتم عبادة اللّه لأجل مودّة بعضكم بعضا فلا يريد أحدكم أن يفارق طريقة صاحبه و يخالف سيرته، أو بينكم و بين آبائكم مودّة فورثتموه و أخذتم ضلالتهم و جهالتهم و ليس لكم دليل أصلا بل اخترتم هذه العبادة الملعونة لتتوادّوا بها في الحياة الدنيا.

[ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي إذا كان يوم القيامة يتبرّأ القادة من الأتباع و يلعن الأتباع القادة فكلّ خلّة تنقلب ذلك اليوم عداوة إلّا خلّة المتّقين، و مستقرّكم النار و ما لكم من ناصرين يدفعون عنكم عذاب اللّه.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 26 الى 30]

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

ص: 178

قوله: [فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ] و هو ابن اخت إبراهيم يعني لمّا رأى معجزته آمن بنبوّته، و درجة لوط كانت عالية بأن لم يكن مؤمنا إلى ذلك الوقت و إليه الإشارة بقوله: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» و لم يقل: فآمن لوط و أمّا بالوحدانيّة فآمن قبل ذلك.

و بالجملة لمّا بالغ إبراهيم في الإرشاد و لم يهتد قومه و حصل له اليأس الكلّيّ حيث رأى القوم آياته الكبرى و لم يؤمنوا وجبت المهاجرة لأنّه إن لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة فقال: [إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي و أ؟؟؟ لب اللّه [إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ] الغالب يمنع أعدائي عن إيذائي [الْحَكِيمُ لا يفعل إلّا ما هو المقتضي للحكمة.

قوله: [وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ و خرج إبراهيم و معه لوط و سارة امرأة إبراهيم و كانت ابنة عمّه و خرجوا من كوثى قرية من سواد الكوفة إلى أرض الشّام مثل هجرة المسلمين من مكّة إلى أرض الحبشة أوّلا ثمّ إلى المدينة.

فبدّل اللّه جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها فبدّل اللّه عذابه بالنار بالبرد و السلام لمّا عذّبوه و انقلب وحدته بالكثرة حتّى ملأ الدنيا من ذرّيّته و لمّا كان أوّلا أقاربه القريبة ضالّين مضلّين من جملتهم عمّه آزر بدّل اللّه أقاربه بأقارب مهتدين هادين و هم ذرّيّته الّذين جعل فيهم النبوّة و الكتاب، و كثر ماله حتّى كان له من المواشي ما علم اللّه عدده حتّى قيل: إنّه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس لماشيته بأطواق ذهب هذا من الماليّة الدنيويّة و أمّا الجاه فالنبوّة و بقرن الصلاة عليه مع سائر الأنبياء إلى يوم القيامة و قد صار خليل الرحمن و معروفا بشيخ المرسلين بعد أن كان خامل الذكر حتّى قال قائلهم «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» (1) و هذا الكلام لا يقال إلّا في مجهول بين الناس

ص: 179


1- الأنبياء: 6.

و قال اللّه في حقّه: [وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ و معنى الصالح الباقي على ما ينبغي أي ليس هذه المقامات له في الدنيا فحسب كما يكون لمن قدّم له ثواب حسناته أو املي له استدراجا ليكثر من سيّئاته بل له هذه الأمور عجالة و له في الآخرة ثواب الدلالة و الرسالة و غيرها و قد يجمع اللّه لأقوام كرامة الدنيا و الآخرة.

قوله: [وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي و اذكر لوطا أو و أرسلنا لوطا إلى قومه حين قال لهم منكرا لفعلهم إذا قرئ بلفظ الاستفهام أو بلفظ الجرّ: [إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ] و المراد بالفاحشة هاهنا إتيان الذكران [ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ يحتمل أنّ قبلهم لم يأت أحد بهذا القبيح أو أنّ قبلهم ربّما أتى به واحد في الندرة لكنّهم بالغوا فيه فقال لهم: ما سبقكم بها من أحدكما يقال: فلان سبق البخلاء في البخل إذا زاد عليهم.

ثمّ قال: [إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء المشتمل على المصلحة الّتي هي بقاء النوع [وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ] يعني ما كفاكم قبيح فعلكم حتّى تضمّون إليه قبح الإظهار.

و قيل: معنى الآية في قوله: «وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» غير ما ذكر و هو أنّهم يقطعون الناس عن الأسفار و كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم و بالأضياف و كانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالحذف فأيّهم أصابه كان أولى به و يأخذ ماله و ينكحه و كان قاض لهم يقضي بذلك، و قيل: يقطعون الطريق على الناس و يأتون في ناديهم المنكر يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة و لا حياء و يأتون الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا و أنواع المنكرات و القمار و كشف العورات.

قوله: [فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ و لمّا أنكر لوط على قومه من أفعالهم قالوا له هزؤا:

ائتنا بعذاب إن كنت صادقا، و لمّا كرّر لوط لهم نصحه و يئس من إيمانهم طلب النصرة من اللّه عليهم و ما طلب نبيّ من الأنبياء هلاك قوم إلّا إذا علم أنّ عدمهم خير من وجودهم كما قال نوح لمّا علم حال قومه: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (1).

ص: 180


1- نوح: 26.

تحقيق: إنّما سمّي هذا الفعل الشنيع بالفاحشة لأنّ معنى الفاحشة القبيح الظاهر الفاحش قبحه، ثمّ إنّ الشهوة و الغضب صفتا قبيح لو لا مصلحة ما كان يخلقهما اللّه في الإنسان فمصلحة الشهوة الفرجيّة هي بقاء النوع بتوليد الشخص و هذه المصلحة لا تحصل إلّا بوجود الولد و بقائه بعد الأب فإنّه لو وجد و مات قبل الأب كان يفنى النوع بفناء القرن الأوّل لكنّ الزنا قضاء شهوة و لا يفضي إلى بقاء النوع لأنّا بيّنّا أنّ البقاء بالوجود و بقاء الولد بعد الأب لكنّ الزنا و إن كان يفضي إلى الوجود لكن لا يفضي إلى البقاء لأنّ المياه إذا اشتبهت لا يعرف الوالد ولده فلا يقوم بتربيته و الإنفاق عليه فالغالب أن يضيع و يهلك فحينئذ لا يحصل مصلحة البقاء فضلا عن مفاسد أخر.

فإذا الزّنا شهوة قبيحة خالية عن المصلحة الّتي لأجلها خلقت فهو قبيح ظاهر قبحه حيث لا تستره المصلحة فهو فاحشة فإذا كان الزنى فاحشة مع أنّه يفضي إلى وجود الولد و لكن لا يفضي إلى البقاء في الغالب فاللواطة الّتي لا تفضي إلى الوجود أولى بأن يكون فاحشة و قد اشتركت مع الزنا في كونهما فاحشة حيث قال سبحانه: «وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً» (1) و إنّ اللّه عذّب قوم لوط إمطار الحجارة حيث أمطر عليهم و جعل حدّها في الشرع بمن أتى بها الرجم.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 31 الى 35]

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه استجاب دعاء لوط و بعث جبرئيل و معه الملائكة لتعذيب قومه بقوله:

ص: 181


1- الإسراء: 32.

[وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي يبشّرونه بإسحاق و من ورائه يعقوب و من بعد ما بشّروه [قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ] يعنون قرية قوم لوط و هي قرية سدوم و إنّما قالوا: هذه، لأنّ قريتهم كانت قريبة من قرية قوم إبراهيم [إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ أي مشركين مرتكبين للفواحش فلذلك أمرنا اللّه بإهلاكهم و هذا الكلام بيان لحسن الأمر.

ثمّ إنّ إبراهيم لمّا سمع قولهم [قالَ لهم: [إِنَّ فِيها لُوطاً] إشفاقا عليه ليعلم حاله أو قال تعجيبا هذا الكلام لأنّه كان يعلم أنّ اللّه لا يهلك قوما و فيهم رسوله فقالت الملائكة: [نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها] أي نعلم أنّ فيهم لوطا فننجّينّه و أهله و نهلك الباقين و نخلصنّ لوطا من العذاب بإخراجه من القرية و أهله المؤمنين كذلك [إلا امرأته كانت من الغابرين فإنّها تبقى في العذاب و لا تنجو منه و ذلك قوله «كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» أي من الباقين في العذاب و المهلكين، و في استعمال الغابر في المهلك و جهان و ذلك لأنّ الغابر لفظ مشترك في الماضي و في الباقي؛ يقال: فيما غبر من الزمان أي فيما مضى من الزمان. فقالت الملائكة: إنّها من الغابرين أي الماضي ذكرهم لا من الّذين ننجّي منهم أو المعنى أنّها من الفانين الماضين زمانها لا من الناجين الباقين.

[وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ و «أن» زائدة أي ساء لوطا مجي ء الملائكة لمّا رآهم في أحسن صورة لما كان يعلم من سيرة خبيثة قومه أو ساءه هذا الأمر لما علم من عظيم البلاء النازل بهم [وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً] أي جاءه ما ساءه «وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» كناية عن العجز في تدبيرهم و هو قصير الذراع أي عاجز و يقال: ضاق ذرعه.

فلمّا رأى الملائكة حزنه و انقاضه و خوفه قالوا: [لا تَخَفْ ... إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ الكافرة [كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب.

[إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ و المراد من القرية المعلومة و فيها الماء الأسود اسمها سدوم بين القدس و الكرك قرب جبال لبنان و العذاب الّذي نزل بهم قيل: الخسف، و قيل: الحجارة، و قيل: نار و على هذا فلا يكون عينه من السّماء و المراد أنّ الأمر وقع من السماء.

ص: 182

فلو قيل: إنّ القوم عذّبوا بسبب ما كان يصدر عنهم من الفاحشة و امرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم؟ لأنّ للدّال على الشرّ نصيب كفاعل الشرّ كما أنّ الدالّ على الخير كفاعله و هي كانت تدلّ القوم على ضيوف لوط حتّى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت منهم.

ثمّ علّل الملائكة في سبب العذاب بقولهم: [بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب خروجهم من طاعة اللّه.

[وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي تركنا من تلك القرية عبرة واضحة و دلالة بيّنة و هي الحجارة الّتي أمطرت عليهم و قيل: آثار منازلهم الخربة لقوم يتعقّلون أنّ اختصاص قوم بالعذاب دون قوم و مكان دون مكان و وجود العذاب في زمان دون زمان لا يكون إلّا بأمر آمر قادر.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 36 الى 40]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

قوله [وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ و اختلف المفسّرون في مدين فقيل: إنّه اسم رجل في الأصل و حصل له ذرّيّة فاشتهر في القبيلة مثل تميم و قيس، و قال بعضهم: اسم ماء نسب القوم إليه و اشتهر في القوم، و لعلّ الأوّل أصحّ لأنّ اللّه أضاف الماء إلى مدين حيث قال: «وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ» و لو كان اسما للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقيّة و الأصل في الإضافة التغاير حقيقة. و قوله «أَخاهُمْ» لأنّ شعيبا كان منهم نسبا.

فأمرهم بعبادة اللّه [وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ] و أمّلوا ثواب اليوم الآخر و اخشوا عقابه

ص: 183

بفعل الطاعات و تجنّب السيّئات [وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ و لا تسعوا في الأرض بالفساد. ثمّ إنّ قومه كذّبوه بعد ما بلغ [فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فأخذتهم الزلزلة فأصبحوا باركين على ركبهم ميّتين.

و هنها مسألة و هي أنّه قال في هذه السورة و في الأعراف «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» (1) و قال في هود: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ»* (2) و الحكاية واحدة؟

فالجواب أنّه لا تعارض بينهما فإنّ الصيحة كانت سببا للرجفة إمّا لرجفة الأرض لأنّ جبرئيل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته و إمّا لرجفة الأفئدة فإنّ قلوبهم ارتجفت و تقطّعت منها و ماتوا، و الإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب إذ يصحّ أن يقال: روي فقوي و أن يقال شرب فقوي فكلاهما في صورة واحد.

قوله: [وَ عاداً وَ ثَمُودَ] أي أهلكنا أيضا عادا و ثمود جزاء على كفرهم [وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ معاشر الناس كثير [مِنْ مَساكِنِهِمْ و ظهر لكم يا أهل مكّة من منازلهم بالحجر و اليمن آية في إهلاكهم [وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ و منعهم الشيطان عن طريق الحقّ و كانوا عقلاء يمكنهم التمييز بين الحقّ و الباطل بالاستدلال و الرسل فإنّهم أوضحوا السبيل و لكنّهم أغفلوا و لم يتدبّروا.

[وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ أي و أهلكناهم كما أهلكنا عادا و ثمود و كانوا أيضا مستبصرين بالرسل [وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي الآيات [فَاسْتَكْبَرُوا] عن عبادة اللّه [فِي الْأَرْضِ و ذلك لأنّ من في الأرض أضعف و من في السماء أقوى و ما استكبروا [وَ ما كانُوا سابِقِينَ و لا يقدرون أن يفوتون اللّه.

ثمّ قال: [فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فذكر اللّه أربعة أشياء: العذاب بالحاصب، و قيل: إنّه كان بحجارة محماة يقع على كلّ واحد منهم و ينفذ من الجانب الآخر فحينئذ هذا العذاب هو عذاب النار، و الثاني

ص: 184


1- الآية: 77.
2- الآية: 73.

العذاب بالصيحة و هو هواء متموّج فإنّ الصوت قيل: سببه تموّج الهواء و وصوله إلى الغشاء الّذي على منفذ الاذن و هو الصماخ فيقرعه فيحسّ. و الثالث العذاب بالخسف و هو الغمر في التراب و الأرض. و الرابع العذاب بالإغراق، فحصل العذاب بالعناصر الأربعة و الإنسان مركّب منها و بها قوامه و بسببها بقاؤه و دوامه و مع ذلك فإذا أراد اللّه إهلاكه جعل ما منه وجوده سببا لعدمه و ما به بقاؤه سببا لفنائه.

ثمّ قال سبحانه: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» يعني لم يظلمهم اللّه بالهلاك و إنّما هم ظلموا أنفسهم بالإشراك و وضعوا أنفسهم في غير موضع الّذي وضعهم اللّه فإنّ موضعهم الكرامة كما قال سبحانه: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» (1) فظلموا أنفسهم بعبادة غير اللّه و اختاروا الدناءة و الخسّة و العذاب.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 41 الى 45]

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)

المعنى: شبّه اللّه تعالى حال الكفّار الّذين اتّخذوا غيره آلهة بحال العنكبوت أي من اتّخذ الأصنام آلهة و يريدون منها النصر و النفع و يرجعون إليها عند الحاجة [كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ و العنكبوت يذكّر و يؤنّث [اتَّخَذَتْ لنفسها [بَيْتاً] لتأوي إليه فكما أنّ بيت العنكبوت لا يغني عنها شيئا لكونه في غاية الوهن و الضعف كذلك الأصنام لا تغني عنها شيئا و لا يقدر الأصنام أن تدفع عذاب ساعة من عذاب العاجل و الآجل و إنّ حكم آلهتهم كحكم العنكبوت و بيته لا يجير آويا و لا يريح ثاويا لأنّ البيت ينبغي أن يكون له امور: حائط حائل و سقف مظلّ و باب يغلق للحفظ عن البرد و الحرّ و غيرهما فإذا

ص: 185


1- الإسراء: 70.

لم يحصل من البيت هذه الأمور فهو كالبيداء و كذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق و الرزق و النفع و دفع الضرر فإن لم يكن كذلك فهو و المعدوم سواء.

على أنّه أدنى مراتب البيت أنّه إذا لم يكن سبب ثبات و ارتفاق فلا أقلّ من أن لا يكون سبب شتات و افتراق لكن بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت فإنّ العنكبوت لو دام بيته في زاوية مدّة و اتّخذ بيتا أتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه و الكنس و يقدم بأمور مؤذية لجسم العنكبوت فكذلك العابد للوثن إن دام على عبادته فذلك يوجب له العذاب الدائم.

و إنّما عبّر سبحانه بقوله: «من دون اللّه أولياء» و لم يقل آلهة إشارة إلى الشرك الخفي و فساده فإنّ من عبد اللّه رياء لغيره فقد اتّخذو ليّا غيره فمثله مثل العنكبوت.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ صحّة ما أخبرناهم، و تقدير الآية: لو علموا أنّ اتّخاذهم الأولياء كاتّخاذ العنكبوت بيتا سخيفا لم يتّخذوهم أولياء.

قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هذا زيادة توكيد على التمثّل أي إنّ اللّه يعلم أنّ ما يدعونه ليس بشي ء و يعلم عبادتهم لغيره و هو قادر على إهلاكهم و حكيم في الأمور يمهلهم للمصلحة و وجه النظم مع الآية السابقة هو أنّه لما مثّل أهل عبادة غير اللّه كمثل العنكبوت و الكافر لو يقول أنا لا أعبد هذه الأوثان الّتي أتّخذها و هي تحت تسخيري و إنّما أعبد صورة كوكب أو شخص أنا تحت تسخيره و منه نفعي و ضرري و خيري و شرّي و وجودي و دوامي فله سجودي و إعظامي فقال: إنّ اللّه يعلم أنّ كلّ ما يعبدون من دون اللّه هو مثل بيت العنكبوت لأنّ الكوكب و الملك و الفلك و كلّ ما عدا اللّه لا ينفع و لا يضرّ إلّا بإذن اللّه فعبادتكم للغائب الّذي بزعمكم هو النافع و تزعمون هذا الحاضر الّذي تعبدونه مثال ذلك الغائب و هيكله و لهذا الهيكل تعلّق بذلك الأصل فكلّ هذه المزعومات مثل العنكبوت و لا يستحقّون العبادة.

قوله: [وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ قال الكافرون: كيف يضرب خالق السّماوات و الأرض الأمثال بالحشرات و الهوامّ مثل البعوض و الذباب

ص: 186

و العنكبوت؟ فيقال: الأمثال تضرب للنّاس و إن لم يكونوا كالبهائم يحصل لكم تدبّرو إدراك و التشبيه يؤثّر في النفس مثل تأثير الدليل فإنّ الحكيم إذا قال لمن يغتاب: إنّك بالغيبة كأنّك تأكل لحم ميّت لأنّك وقعت في هذا الرجل و هو غائب لا يفهم ما تقول و لا يسمع حتّى يجيب كمن يقع في لحم ميّت يأكل منه و الميّت لا يعلم و لا يقدر على دفعه فحينئذ ينفر الإنسان بعد هذا التشبيه من الغيبة، و ما يعقلها و ما يفهم هذه الأمثال إلّا العلماء الّذين عقلوا الطاعة عن المعصية فعمل بالطاعة و اجتنب عن المعصية.

ثمّ بيّن ما يدلّ على الهيته فقال: [خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أخرجهما من العدم إلى الوجود و لم يخلقهما عبثا بل خلقهما ليسكنهما خلقه و ليستدلّوا بهما على إلهيته و وحدانيّته [بِالْحَقِ أي حقيقة على وجه الحكمة و الإتقان و لإظهار الحقّ [إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق و الأمر [لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لأنّهم المنتفعون بذلك و لذلك خصّ المؤمنين بالذكر و إلّا أنّهما آية للمؤمن و الكافر و لمّا لم ينتفع الكافر أضيفت إلى المؤمن.

ثمّ خاطب نبيّه فقال: [اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي اقرأ ما اوحي إليك من القرآن على المكلّفين و اعمل بما تضمّنه [وَ أَقِمِ الصَّلاةَ] أي أدّها بحدودها في مواقيتها [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ].

و في الآية دلالة على أنّ فعل الصلاة لطف للمكلّف في ترك القبيح و المعاصي الّتي ينكرها الشرع و العقل فإذا كان أثرها أنّها تنهى عن القبيح يكون توفيقا. و قيل: إنّ الصّلاة بمنزلة الناهي بالقول إذا قال لا تفعل الفحشاء و المنكر و ذلك لأنّ فيها التكبير و التسبيح و القراءة و الوقوف بين يدي اللّه و غير ذلك من صنوف العبادة و كلّ ذلك يدعو إلى شكله و يصرف عن ضدّه لأن شبيه الشي ء ينجذب إليه فحينئذ يكون مثل الآمر و الناهي و مؤدّ إلى الخير و صارف عن الشرّ الّذي ضدّه.

و قيل: تنهى صاحبها عن الفحشاء و المنكر ما دام فيها كقوله: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» (1) و هذا ضعيف لأنّه ليس مدحا للصّلاة بل النوم كذلك.

و قال ابن عبّاس في الصّلاة منهى و مزدجر عن معاصي اللّه فمن لم تنهه صلاته عن

ص: 187


1- آل عمران: 97.

المعاصي لم يزدد من اللّه إلّا بعدا. و قال الحسن و قتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر فليست صلاته بصلاة و هي و مال عليه. و روى أنس بن مالك الجهنيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من اللّه إلّا بعدا. و روي عن أنس بن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا صلاة لمن لم يطع الصلاة و طاعة الصلاة أن ينتهي المصلّي عن الفحشاء و المنكر فإذا لم ينته عن المعاصي لم تكن صلاته بالصفة الّتي وصفها اللّه بها فإن تاب من بعد ذلك و ترك المعاصي فقد تبيّن أنّ صلاته كانت نافعة له و ناهية و إن لم ينته إلّا بعد زمان.

و روى أنس أنّ فتى من الأنصار كان يصلّي الصلاة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ صلاته تنهاه يوما. و عن جابر قال:

قيل لرسول اللّه: إنّ فلانا يصلّي بالنهار و يسرق بالليل فقال: إنّ صلاته لتردعه. و روى أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء و المنكر فبقدر ما منعته قبلت منه. انتهى.

و في المسألة تحقيق آخر و هو أنّ من كان من العقلاء و هو مشتغل بخدمة ملك عظيم الشأن كثير الإحسان في حقّه إذا رأى أنّ عبدا من عبيد ذلك الملك جنى جناية عظيمة بحيث طرده الملك طردا لا يتصوّر قبوله وفاته الخير بحيث لا يرجى حصوله فإذا هذا العبد المتقرّب عند الملك كيف يقرّب في طاعة ذلك المطرود و يخالف مولاه فكذلك المصلّي إذا صلّى و قام بين يدي اللّه و ناجى مولاه فكيف يترك طاعة اللّه و يدخل تحت طاعة الشيطان المطرود.

و هناك مثال آخر و هو أنّ من يباشر القاذورات كالزبّال و الكنّاس يكون له لباس نظيف فإذا لبسه لا يباشر معه القاذورات و كلّما كان ثوبه أرفع و أبهى كان امتناعه عن الخبائث أكثر فكذلك العبد إذا صلّى لبس لباس التقوى فكيف مع هذا اللباس يباشر قاذورات الفحشاء و المنكر؟ ثمّ إنّ الصلوات متكرّره واحدة بعد واحدة فيدوم هذا اللبس فيدوم الامتناع.

و في الآية وجه و تحقيق معقوليّ و هو أنّ المراد من قوله: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ

ص: 188

الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» هو أنّها تنهى عن التعطيل و الإشراك و التعطيل هو إنكار وجود اللّه و الإشراك إثبات الوهيّة لغير اللّه فالتعطيل عقيدة فحشاء لأنّ الفاحش هو القبيح الظاهر القبح لكن وجود اللّه أظهر من الشمس و الإشراك منكر و ذلك أنّ اللّه لمّا أطلق اسم المنكر على من نسب نفسا إلى غير الولد حيث قال: «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ» (1) فالمشرك الّذي يقول: الملائكة بنات اللّه، و ينسب الولد إلى من لم يلد كيف لا يكون قوله منكرا؟

فالصلاة تنهى عن الفحشاء أي هذه الفحشاء و هذا المنكر و ذلك لأنّ العبد أوّل ما يشرع في الصلاة يقول: «اللّه أكبر» فبقوله «اللّه» ينفي التعطيل و عقيدة الفحشاء و بقوله «أكبر» ينفي التشريك لأنّ الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فإذا قال «بِسْمِ اللَّهِ» نفى التعطيل و إذا قال «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» نفى الإشراك لأنّ الرحمن من يعطي الوجود بالخلق بالرحمة و الرحيم من يعطي البقاء بالرزق بالرحمة فإذا قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» أثبت بقوله «الحمد» خلاف التعطيل و بقوله «رَبِّ الْعالَمِينَ» خلاف الإشراك فإذا قال «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» نفى التعطيل و الإشراك و كذا بقوله «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» فإذا قال «اهْدِنَا الصِّراطَ» نفى التعطيل لأنّ طالب الصراط له مقصد و المعطّل لا مقصد له و «الْمُسْتَقِيمَ» نفى الإشراك لأنّ المستقيم هو الأقرب و المشرك يعبد الأصنام حتّى أنّه يعبد صورة صوّرها إله العالمين و يظنّون أنّهم يشفعون لهم و عبادة اللّه من غير واسطة أقرب و على هذا إلى آخر الصلاة فيقول: «أشهد أن لا إله إلّا اللّه» فينفي الإشراك و التعطيل و الصلاة أوّلها لفظة اللّه و آخرها لفظة اللّه فيقتضي أنّ المصلّي يكون من أوّلها إلى آخرها حاضر القلب مع اللّه و وجب شهادة الرسالة لمحمّد في الصلاة ليعلم المصلّي أنّه إنّما وصل بهذه المنزلة الرفيعة بأن يخاطب و يناجي ربّه بهداية محمّد صلّى اللّه عليه و آله فلا بدّ أن يذكر إحسان محمّد بالصلاة عليه.

ثمّ إنّ المصلّي إذا رجع من سفر معراجه يسلم أوّلا على نبيّه الّذي به نال هذه المرتبة ثمّ يسلّم على إخوانه المؤمنين. و اعلم أنّ الصلاة هيئة فيها هيبة فإنّ أوّلها وقوف العبد المملوك بين يدي مولاه و آخرها جثوّ كما يجثو بين يدي السلطان كمن

ص: 189


1- المجادلة: 2.

أكرمه السلطان بالشرافة في الجلوس لأنّ العبد بالوقوف في الصلاة و الثناء على اللّه يتكرّم عند اللّه بهذه العبادة فيشرّف بالجلوس ما جلسه و جثا.

و بالجملة [وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ أي و ذكر اللّه إيّاكم برحمته أكبر من ذكركم إيّاه بطاعته عن ابن عبّاس و سلمان و ابن مسعود و جماعة و قيل: ذكر العبد ربّه أفضل و أكبر من سائر أعماله الصالحة و يمكن أن يكون معناه إنّ أكبر شي ء للنهي عن الفحشاء ذكر العبد ربّه فإنّه أقوى لطف يدعو إلى الطاعة و ترك المعصية و هو أكبر من كلّ لطف أي من كان ذاكرا للّه فيجب أن ينهاه ذكره عن الفحشاء و المنكر.

و روى ثابت البنانيّ قال: إنّ رجلا أعتق أربع رقاب فقال رجل آخر و هو فقير:

سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر ثمّ دخل المسجد فأتى حبيب بن أو في السلميّ و أصحابه فقال: ما تقولون في رجل أعتق أربع رقاب و إنّي أقول: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر فأيّهما أفضل؟ فنظروا هنيئة فقالوا: ما نعلم شيئا أكبر و أفضل من ذكر اللّه. و عن معاذ بن جبل قال: ما عمل آدميّ عملا أنجا له من عذاب اللّه من ذكر اللّه عزّوجل قيل: و لا الجهاد في سبيل اللّه؟ قال: و لا الجهاد في سبيل اللّه فإنّ اللّه يقول:

«وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» و عنه: قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أي الأعمال أحبّ إلى اللّه؟

قال: أن تموت و لسانك رطب عن ذكر اللّه و قال: يا معاذ إنّ السابقين الّذين يسهرون و يذكرون اللّه عزّ و جلّ و من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر ذكر اللّه.

و روي عن عطاء بن السائب عن عبد اللّه بن ربيعة عن ابن عبّاس قال: قال عبد اللّه بن عبّاس: أ رأيت قول اللّه: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» قال: ذكر اللّه بالقرآن حسن و ذكره بالصلاة حسن و بالتسبيح و التكبير حسن و أحسن من ذلك أن يذكر الرجل ربّه عند المعصية فينحجز عنها فقال ابن عبّاس: لقد قلت قولا عجيبا و أمّا هو كما قلت و لكن ذكر اللّه إيّاكم أكبر من ذكركم إيّاه.

هذا كلّه إذا كان اللفظ بمعنى التفضيل و أمّا إذا كان بمعنى الوصف فمعناه أنّ ذكر اللّه له الكبر لا لغيره كما يقال في الصلاة: اللّه أكبر أي له الكبر لا لغيره، و لعلّ في ترك ذكر المفضّل عليه هذه النكتة و هي أنّه لا يقال: الجبل أكبر من الخردلة و إنّما يقال هذا الجبل

ص: 190

أكبر من ذلك الجبل إذ كلّ كبير و عظيم بالنسبة إلى كبريائه أصغر من الخردلة.

قوله: [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ عالم بصنائعكم من التلاوة و الصلاة و الذكر و جميع ما أنتم صانعون.

قوله: [سورة العنكبوت (29): آية 46]

وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

لمّا بيّن في الآية السابقة طريقة الدعاء و الذكر شرح في هذه الآية طريقة دعوة أهل الكتاب و إرشادهم فقال:

و لا تجادلوهم بالسيف و الخشونة و جادلوهم بالحجّة و الرفق و اللينة لحصول الخير و النفع بها و المراد من أهل الكتاب قيل: نصارى نجران، و قيل: اليهود و النصارى و في الآية دلالة على وجوب استعمال القول الجميل في التنبيه على آيات اللّه.

[إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي إلّا من أبي أن يقرّ بالجزية منهم و نصب الحرب فجادلوا هؤلاء بالسيف حتّى يسلموا أو يعطوا الجزية. و قيل: معنى «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» بالعناد و كتمان صفة بعد العلم به. و قيل: إلّا الّذين ظلموا منهم بالإقامة على الكفر بعد قيام الحجّة. و الأولى أن يكون معناه إلّا الّذين ظلموك في جدالهم أو في غيره ممّا يقتضي الإغلاظ لهم فيجوز أن يسلكوا معهم طريقة الغلظة و قيل: الآية منسوخه بآية السيف و الصحيح أنّها غير منسوخة لأنّ الجدال على الوجه الأحسن هو الواجب الّذي لا يجوز غيره.

[وَ قُولُوا] لهم في المجادلة و الدعوة: [آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي آمنّا بالكتاب الّذي انزل إلينا و بالكتاب الّذي انزل إليكم [وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ] لا شريك له [وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ و طائعون.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 47 الى 50]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

ص: 191

[وَ كَذلِكَ أي و مثل ما أنزلنا الكتاب على موسى و عيسى [أَنْزَلْنا] عليك القرآن [فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي علم الكتاب [يُؤْمِنُونَ بِهِ بالقرآن.

و قيل: المراد مؤمني أهل الكتاب مثل عبد اللّه بن سلام و نظرائه.

و قيل: الضمير في «به» راجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [وَ مِنْ هؤُلاءِ] يعني كفّار مكّة [مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي من أسلم منهم و يحتمل أن هو يريد بقوله: «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» المسلمين و الكتاب القرآن، وَ «مِنْ هؤُلاءِ» يعني و من اليهود و النصارى من يؤمن به [وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ أي و ما ينكر دلائلنا و آياتنا الشاهدة على توحيدنا إلّا الكافرون، القميّ ما يجحد بأمير المؤمنين و الأئمّة إلّا الكافرون.

ثمّ خاطب نبيّه: [وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ أي و ما كنت يا محمّد تقرأ قبل القرآن كتابا أي إنّك لم تكن تحسن القراءة قبل أن يوحي إليك بالقرآن [وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أي و ما كنت أيضا تكتبه بيدك أي و لو كنت تقرأ كتابا أو تكتبه لوجد المبطلون طريقا إلى اكتساب الشكّ و المناقشة في أمرك و إلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك و لقالوا: إنّما تقرء علينا ما جمعته من كتب الأوّلين فلمّا ساويتهم في المولد و المنشأ ثمّ آتيتهم بما عجزوا عنه وجب أن يعلموا أنّه من عند اللّه و ليس من عندك.

قال الشريف المرتضى علم الهدى قدّس اللّه روحه: هذه الآية تدلّ على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا بعد النبوّة فالّذي نعتقده في ذلك التجويز يكونه عالما بالكتابة و القراءة و بكونه غير عالم بالقراءة و الكتابة من غير قطع على أحد الأمر بن و ظاهر الآية يقتضي أنّ النفي قد تعلّق بما قبل النبوّة فأمّا ما بعد النبوّة فلا تعلّق له بالريبة و التهمة فيجوز أن يكون قد تعلّم من جبرئيل بعد النبوّة.

ثمّ قال سبحانه: [بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ في الكافي عن الباقر عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية فأومأ عليه السّلام إلى صدره و في حديث آخر و إيّانا عنى

ص: 192

و نحن. و قوله تعالى: «بَلْ هُوَ» يعني أنّ القرآن دلالات واضحات في صدور العلماء و هم النبيّ و الأئمة و المؤمنون حيث إنّ المؤمنين حفظوه و وعوه و رسخ في قلوبهم، و قيل: هم الأئمّة من آل محمّد خاصّة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

قوله: [وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ الّذين ظلموا أنفسهم بترك النظر فيها و العناد لها و قيل: المراد بالظالمين كفّار اليهود أو كفّار مكّة، أو المراد من الظالمين في الآية المشركون الّذين ظلموا أنفسهم بشرك كما قال اللّه: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» قوله: [وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أوردوا شبهة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنّك تقول: إنّه انزل إليك كتاب كما انزل إلى موسى و عيسى و ليس كذلك لأنّ موسى اوتي تسع آيات و أنت ما أوتيت شيئا منها، فأرشد اللّه نبيّه إلى جوابهم بقوله: «قل» يا محمّد لهم: «إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» ينزلها و يظهرها بحسب ما يعلم من مصالح عباده و ينزل على كلّ نبيّ منها ما هو الأصلح لأمّته و له و لذلك لم تتّفق آيات الأنبياء كلّها و إنّما جاء كلّ نبيّ بفنّ منها.

ثمّ إنّه ليس من شرط الرسالة الآية و المعجزة لأنّ الرسول يرسل أوّلا و يدعو إلى اللّه فإن توقّف الخلق في قبوله أو طلبوا منه دليلا فإن أراد اللّه أنزلها و إن لم يرد لا ينزلها و هذا لأنّ ما هو من ضرورات الشي ء إذا خلق اللّه الشي ء لا بّد أن يخلقها كالمكان من ضرورات الإنسان فلا يخلق اللّه إنسانا إلّا و يكون قد خلق مكانا أو يخلقه معه لكنّ الرّسالة و المعجزة ليستا كذا فاللّه إذا خلق رسولا و جعله رسولا ليس من ضروراته أن تعلم له معجزة نعم لا بدّ أن يثبت رسالته بقول من تثبت رسالته فنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله لا حاجة له إلى معجزة لأنّ رسالته علمت بقول من قبله مثل موسى و عيسى فتبيّن بطلان شبهتهم حيث قالوا: «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ».

«وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» أي منذر مخوّف من معصية اللّه مظهر طريق الحقّ و الباطل و قد فعل اللّه سبحانه ما يشهد بصدقه من المعجزات.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 51 الى 55]

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

ص: 193

لمّا تقدّم طلبهم للآيات أجابهم فقال:

[أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا محمّد القرآن [يُتْلى عَلَيْهِمْ و هذا لأنّ القرآن معجزة أتمّ من كلّ معجزة تقدّمتها لوجوه: أحدها أنّ تلك المعجزات وجدت و ما دامت فإنّ قلب العصا ثعبانا و إحياء الميّت لم يبق لنا منه أثر فلو لم يكن واحد يؤمن بكتب اللّه و يكذّب بوجود هذه الأشياء في غير زمان وقوعها لا يمكن إثباتها معه بدون الكتاب و أمّا القرآن فهو باق لو أنكره واحد فيقال له: فائت بآية من مثله.

ثمّ قال سبحانه: [إِنَّ فِي ذلِكَ أي إنّ في القرآن [لرحمة] أي نعمة عظيمة لأنّ من عمل به نال الثواب و فاز بالجنّة [وَ ذِكْرى مصدر أي تذكيرا و موعظة [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدّقون به، و قيل: إنّ قوما من المسلمين كتبوا شيئا من كتب أهل الكتاب فهدّدهم سبحانه في هذه الآية و نهاهم عنه و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: جئتكم بها بيضاء نقيّة.

[قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً] لي بالصدق و الإبلاغ و قد شهد اللّه سبحانه لي بالنبوّة و الصدق و شهادته له قوله: «محمّد رسول اللّه» و هو في كلام معجز قد ثبت أنّه من اللّه [يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فيعلم أنّي على الهدى و أنّكم على الضلالة.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ و صدّقوا بغير اللّه أو بعبادة الشّيطان [وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ و جحدوا وحدانيّته [أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ خسروا ثواب اللّه بارتكاب الجحود و المعاصي؛ فلو قيل: إنّ من آمن بالباطل فقد كفر باللّه فما الفائدة في العطف؟ الفائدة في العطف التأكيد مثل قوله: قم و لا تقعد و اقرب منّي و لا تبعد، على أنّ ذكر الثاني لبيان قبح الأوّل كقول القائل: أتقول بالباطل و تترك الحقّ؟ لبيان أنّ القول بالباطل قبيح.

قوله: [وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ أي يستعجلونك و يسألونك يا محمّد نزول العذاب عاجلا كما قال النضر بن الحارث: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً

ص: 194

مِنَ السَّماءِ» (1) و لو لا وقت قدّره اللّه تعالى أن يعاقبهم فيه و هو يوم القيامة و أجّل أن يبقيهم إلى ذلك الوقت لضرب من المصلحة لجاءهم العذاب الّذي استحقّوه [وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب فجأة [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجيئه.

ثمّ ذكر موعد عذابهم فقال: [يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ و قوله تعالى بالأوّل: «وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ» إخبارا عنهم و في الثاني تعجّب منهم [وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يعني إنّ العذاب و إن لم يأتيهم في الدنيا فإنّ جهنّم لتحيطهم و جامعة لهم و هم معذّبون بها لا محالة.

[يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي النار تغشاهم لا أنّه تصل إلى موضع منهم دون موضع فلا يبقى جزء منهم إلّا و هو معذّب في النار [وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و القائل الملك الموكّل بعذابهم ذوقوا جزاء أعمالكم و أفعالكم القبيحة، و هذا إطلاق اسم المسبّب على السبب.

قوله: [سورة العنكبوت (29): الآيات 56 الى 60]

يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

نزلت الآية في المستضعفين و الصعاليك بمكّة؛ أمروا بالهجرة و نزل قوله: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ» الآية، في جماعة كانوا بمكّة يؤذيهم المشركون فأمروا بالهجرة إلى المدينة فقالوا: كيف نخرج إليها و ليس لنا بها دار و لا عقار و من يطعمنا و من يسقينا.

و الحاصل بيّن اللّه سبحانه أنّه لا عذر للعباد في ترك طاعته فقال:

[يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ أي إن تعذّرت العبادة عليكم في بعض البلاد فهاجروا إلى غيرها. و بهذا علم أنّ السكنى في دار لا يمكن العبادة للّه و الكون على الإسلام حرام و الخروج منها واجب.

ص: 195


1- الأنفال: 32.

ثمّ خوّفهم بالموت ليهوّن عليهم الهجرة فقال سبحانه: [كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يعني كلّ نفس أحياها اللّه بحياة خلقها فيه ذائقة مرارة الموت بأيّ أرض كانت فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت في غيرها [ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ بعد الموت.

ثمّ ذكر سبحانه ثواب من حفظ إيمانه و هاجر فقال: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني المؤمنين المهاجرين [لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي لننزلنّهم [مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً] أي أماكن عاليات و غرف الدرّ و الزبرجد و الياقوت [تَجْرِي من تحت تلك الغرف [الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها] مؤبّدين ببقاء اللّه [نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أجورهم للّه تلك الغرف كما أنّ بئس للكافرين تغشى الكافرين من فوقهم و من تحت أرجلهم.

ثمّ وصف المؤمنين فقال: [الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لم يتركوا دينهم لشدّة تنالهم و أذى يلحقهم و صبروا في مشقّة الطاعات و هم متوكّلون على اللّه في مهمّات أمورهم و مهاجرة دورهم.

قوله تعالى: [وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا] لمّا ذكر سبحانه حال المتوكّلين أي و كم من دابّة لا يكون رزقها مدّخرا معدّا و مع ذلك فاللّه يرزقها و هي لا تدخّر القوت لغدها إلّا قليلا من الدوابّ كالنملة و الفارة و ابن آدم و باقي الحيوانات تأكل بقدر كفايتها فقط.

«و كأيّن» إذا كانت بمعنى «كم» لا تستعمل مع «من» إلّا نادرا و في «كأيّن» لغات: كائن على وزن راع و على أوزان آخر و هي مركّبة من كاف التشبيه و أيّ الّتي تستعمل استعمال «من» و «ما» ركّبتا و جعل المركّب بمعني «كم» و لم تكتب إلّا بالنون للفرق بين «كأيّن» بمعنى «كم» الّتي هي المركّبة و بين «كايّ» الّتي ليست مركّبة و الّتي غير مركّبة لا يجوز إدخال من بعدها.

و بالجملة فمعنى الآية على هذا البيان أنّ الحيوان مع عدم إدراكها الكلّيّ إذا كان لا يدّخر شيئا لقوتها فالإنسان المتوكّل العارف أولى بأن لا يحرص و يدّخر فكما أنّ اللّه يرزقه كذلك يرزقكم فتوكّلوا.

فإن قال قائل: من يقول بأنّ اللّه يرزق الدوابّ من النبات في الصحراء ينبت

ص: 196

يسعى إليه و يرعى.

فالجواب بأنّ اللّه يرزقها من ثلاثة أوجه: نظرا إلى الرزق و إلى المرتزق و إلى مجموع الرزق و المرتزق أمّا بالنظر إلى الرزق فلأنّ اللّه لو لم يخلق النبات لم يكن للحيوان رزق و أمّا بالنظر إلى المرتزق فلأنّ الاغتذاء ليس بمجرّد الابتلاع بل لا بدّ من تشبّثه بالأعضاء حتّى يصير الحشيش عظما و لحما و دما و ما ذاك إلّا بحكمة اللّه تعالى حيث خلق فيه جاذبة و ما سكة و هاضمة و دافعة و غيرها من القوى و ذلك لمحض قدرة اللّه فهو الّذي يرزقها و أمّا بالنظر إلى المرتزق و الرزق فلأنّ اللّه لو لم يهد الحيوان إلى الغذاء ليعرفه من الشمّ ما كان يحصل له الغذاء ألا ترى أنّ من الحيوان ما لا يعرف نوعا من أنواع الغذاء حتّى يوضع في فمه بالشدّة ليذوق فيأكله بعد ذلك فإنّ كثيرا ما يكون البعير لا يعرف الخمير و لا الشعير حتّى يلقم مرّتين أو ثلاثا فيعرفه فيأكله بعد ذلك.

فإن قيل: كيف يصحّ قياس الإنسان على الحيوان فيما يوجب التوكّل و الحيوان رزقه لا يتعرّض إليه إذا أكل منه اليوم شيئا و ترك بقيّة يجدها غدا ما مدّ إليه أحد يدا و الإنسان إن لم يأخذ اليوم لا يبقى له غدا شيئا. و أيضا حاجات الإنسان كثيرة فإنّه يحتاج إلى أجناس اللباس و أنواع الأطعمة و ليس كذلك الحيوان، و أيضا قوت الحيوان مهيّأ و قوت الإنسان يحتاج إلى تكلّف كالزرع و الحصاد و الطحن و الخبز فلو لم يجمعه قبل الحاجة و يهيّأه ما كان يجده وقت الحاجة.

فالجواب أنّه إذا كان حاجات الإنسان كثيرة فمكاسبه أيضا كثيرة فإنّه يكتسب بيده كالخيّاط و النسّاج و برجله كالساعي و بعينه كالناطور و بلسانه كالحادي و المنادي و بفهمه كالمهندس و التاجر و بعلمه كالفقيه و الطبيب ثمّ الأكمل من الكلّ الإدراك الكلّيّ و الحيوان ليس له شي ء من هذه الأمور فالإنسان مع هذه الأسباب أولى بالتوكّل ثمّ إنّ اللّه ملّك الإنسان عمائر الدنيا و جعلها تدخل في ملكه شاء أم أبى حتّى أنّ نتاج الأنعام و ثمار الأشجار تدخل في ملكه و إن لم يرده مالك الأنعام و الأشجار و إذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر شاءوا أم أبوا و ليس كذلك الحيوان أصلا فإذا الإنسان لو توكّل أقرب للعقل.

ص: 197

و قيل: معنى قوله تعالى: «لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» أي لا تطيق حمل رزقها لضعفها «اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ» يرزق تلك الدابّة الضعيفة الّتي لا تقدر على حمل رزقها و يرزقكم أيضا فلا تتركوا الهجرة بهذا السبب من خوف الفقر.

و عن عطا و غيره عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط التمر و يأكل فقال: يا ابن عمر مالك لا تأكل؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول اللّه قال: لكنّي أشتهيه و هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما و لو شئت لدعوت ربّي فأعطاني مثل ملك كسرى و قيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت مع قوم يخبؤون رزق سنتهم لضعف اليقين؟ فو اللّه ما برحنا حتّى نزلت الآية «وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ».

[وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم عند مفارقة أوطانكم [الْعَلِيمُ بأحوالكم.

قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 61 الى 69]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (62) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)

لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

المعنى: عجّب نبيّه و المؤمنين من إيمان المشركين بالباطل مع اعترافهم بأنّ اللّه هو الخالق الفاعل فقال:

[وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمّد هؤلاء المشركين [مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أخرجهما من العدم إلى الوجود و ذلّل الشمس و القمر و سيّرهما في دورانهما على طريقة واحدة لا تختلف [لَيَقُولُنَ في جواب ذلك [اللَّهُ الخالق لذلك لأنّهم كانوا يقولون بحدوث

ص: 198

العالم و النشأة الاولى [فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يقلّبون الأمر و يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره من أشياء الّتي لا تضرّ و لا تنفع.

و إنّما ذكر سبحانه أمرين: أحدهما خلق السماوات و الأرض و الآخر تسخير الشمس و القمر لأنّ الإيجاد قد يكون للذوات و قد يكون للصفات فخلق السماوات و الأرض إشارة إلى إيجاد الذوات، و تسخير الشمس و القمر إشارة إلى إيجاد الصفات و هي الحركة فذكر من القبيلين.

قوله تعالى: [اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي الخلق و الرزق له و هو وليّ الإحسان يبسط لمن يكون صلاحه البسط [وَ يَقْدِرُ] لمن يكون صلاحه القبض فكيف يعبدون غير اللّه! و إنّما خصّ الذكر ببيان الرزق لئلا يتخلّف أهل الهجرة خوف العيلة [إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يعلم مصالح عباده فيرزقهم بحسب المصلحة.

[وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ يا محمّد عند ذلك: [الْحَمْدُ لِلَّهِ على كمال قدرته و تمام نعمته و بيّن سبب الرزق.

ثمّ قال: [بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ توحيد ربّهم مع إقرارهم بأنّه خالق الأشياء و منزّل المطر من السّماء لأنّهم لا يتدبّرون و عن الطريق المفضي إلى الحقّ يعدلون فلذلك لا يعقلون.

[وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ و الفرق بين اللهو و اللعب أنّ المقبل على الباطل لاعب و المعرض عن الحقّ لاه فقال: «وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا» لأنّها تزول كما يزول اللهو و اللعب فيستمتع الإنسان مدّة ثمّ تنصرم و تنقطع و يبقى و بالها.

[وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ] أي الجنّة [لَهِيَ الْحَيَوانُ أي الحياة على الحقيقة لأنّها الدائمة الّتي لا زوال و لا موت فيها أي دار الآخرة ذات الحياة [لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الفرق بين الزائل و الثابت و لو علموا لرغبوا في الباقي و زهدوا في الفاني.

قوله تعالى: [فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ثمّ أخبر اللّه عن حال المقبلين إلى الدّنيا المعرضين عن عبادة اللّه فقال: إنّهم إذا ركبوا في البحر و هاجت به الريح و تلاطمت به الأمواج و خافوا الهلاك

ص: 199

أخلصوا الدعاء للّه مستيقنين أنّه لا يكشف السوء إلّا هو و تركوا شركاءهم فلم يطلبوا منهم إنجاءهم فلمّا نجّاهم إلى البرّ و خلصهم من الهلاك و أمنوا منه عادوا إلى ما كانوا عليه.

[لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إن جعلت اللام للأمر فمعناه التهديد أي ليجحدوا نعم اللّه في إنجائه إيّاهم و ليتمتّعوا بباقي عمرهم «فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، و إن جعلتها لام كي فالمعنى: إنّهم يشركون ليكفرون نعمة الإنجاء و سائر النعم.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وجه تعلّق الآية بما قبلها هو أنّ المراد من الآية أنّكم في أخوف ما كنتم في لجّة البحر دعوتم اللّه على سبيل الإخلاص و في آمن مكان حصل لكم في بيوتكم كفرتم به و رجعتم إلى التوجّه بالأصنام و الحالة أنّ حال الأمن و حصول نعمته أولى بأن تتوجّهون إلى اللّه و تعبدونه.

«أَ وَ لَمْ يَرَوْا» أي أولم يعلم هؤلاء الكفّار «أَنَّا جَعَلْنا» مسكنهم «حَرَماً آمِناً» يأمنون فيه من القتل و الغارة يقتل بعضهم بعضا في ما حولهم من ذئاب العرب و الحالة أنّهم آمنون و لا يصيبهم أذى و هم يبدلون هذه النعمة بالكفران.

ثمّ قال مهدّدا لهم: [أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ .

ثمّ قال: [وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] أي لا ظالم أظلم ممّن أضاف إلى اللّه ما لم يقله من عبادة الأصنام و ما لا يرضاه من أمورهم [أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ بالقرآن.

و قيل: بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله [لَمَّا جاءَهُ الضمير راجع إلى المكذّب [أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ استفهام تقريريّ أي أما لهؤلاء الكفّار المكذّبين مثوى و مقام في جهنّم أي إنجاز هذا الوعيد واجب لهم لأنّ من يكذّب صادقا لا يجوز عليه الكذب أظلم الظالمين فإنّهم قبلوا المتّخذ من خشب منحوت بالإلهيّة و لم يقبلوا ذا حسب منعوت رفيع مبعوث بالرسالة و العجب ممّن يقبل العجل الّذي يساوي قيمته عشرة دراهم بالربوبيّة و لا يقبل موسى بالنبوّة و مثل هذا أظلم من كلّ ظالم و يستحقّ العذاب لا محالة.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ لمّا

ص: 200

فرغ البيان من تقريع الكفّار سلّى سبحانه قلوب المؤمنين أي من جاهد بالطاعة هداه اللّه سبل الجنّة و إنّه مع من أحسن في الطاعة و في معنى المعيّة إشارة زيادة على حسناته كقوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ» (1).

و في الآية معنى حكميّ و هو أي إنّ الّذين نظروا في آياتنا و دلائلنا يحصل فيهم الهداية و العلم كما قال المتكلّمون: إنّ النظر كالشرط للعلم الاستدلاليّ و اللّه يخلق في الناظر علما عقيب نظره، و وافقهم الفلاسفة على هذا المعنى و قالوا: النظر معدّ للنفس لقبول الصورة المعقولة و إذا استعدّت النفس حصل لها العلم من فيض واهب الصور الجسمانيّة و العقليّة فإذا إذا لم ينظروا و لم يجتهدوا لم يهتدوا فالهداية تشمل الّذين يتّقون التعصّب و المخالفة فينظرون فيهتدون.

و قوله: «إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأنّه قد تقسّم الناس ثلاثة أقسام: منهم من يكون بعيدا لا يتقرّب للهداية و هم الكفّار، و منهم من يتقرّب بالسلوك و النظر فيهديهم اللّه و يقرّبهم، و منهم من يكون اللّه معه و يستعلم الأشياء من اللّه و لا يعلمه من النظر و الأشياء و درجته فوق درجة الاستدلال و النظر و صعد عن هذه الدرجة إلى أعلى منها فقوله:

«وَ الَّذِينَ جاهَدُوا» إشارة إلى الثاني من الأقسام و قوله: «وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» إشارة إلى الثالث و اللّه أعلم بأسرار كتابه.

تمّت السّورة

ص: 201


1- يونس: 26.

سورة الروم

اشارة

(مكية الا آية «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ») عن ابيّ بن كعب قال: و من قرأها كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ ملك سبّح للّه ما بين السّماء و الأرض.

ص: 202

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الروم (30): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)

بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)

و قد ذكرنا في سورة البقرة مفتتحات بعض السورة و بيانها في الجملة، و قد قيل:

أيضا إنّ هذه الحروف الّتي في أوائل السور لا يعلم تفسيرها إلّا من انزل عليه لتنبّه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع لأنّ ما بعدها في الأغلب إخبار عن امور سيأتي و هو إخبار بالغيب و معجزة.

و وجه تعلّق هذه السورة بما قبلها أنّ في السورة المتقدّمة قال اللّه و أمر نبيّه بقوله: «وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» و كان صلّى اللّه عليه و آله يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل و عنادهم.

و كان أهل الكتاب يوافقون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الإله كما قال: «وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ» (1) و كانوا يؤمنون ببعض ما يقوله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و شرذمة منهم آمنوا به كما قال سبحانه: «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» (2) فأبغض المشركون أهل الكتاب و تركوا مراجعتهم و كانوا من قبل يراجعونهم في الأمور فلمّا وقعت الكرّة على الروم حتّى قاتلهم الفرس و هم المجوس فرح المشركون بذلك لغلبة الفرس أهل الكتاب فأنزل اللّه هذه الآيات لبيان أنّ الغلبة لا تدلّ على الحقّ و كان ذلك على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 203


1- العنكبوت: 46.
2- العنكبوت: 47.

و ساء ذلك المسلمين و كان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين فدفعهم فارس عنه [فِي أَدْنَى الْأَرْضِ و بيت المقدس قريب بأرض العرب.

قوله تعالى: [وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ «و هم» يعني الروم من بعد مغلوبيّتهم من فارس يصيرون غالبين على فارس في بضع سنين بين مدّة أقلّ من عشرة و لا أنقص من سبع سنة يقع هذا الأمر.

و في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن من عند اللّه لأنّ إنباء ما سيكون لا يعلم به إلّا اللّه و قد وقعت بعد السنة التاسعة عام الحديبيّة.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إنّ لها تأويلا لا يعلمها إلا اللّه و الراسخون في العلم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله؛ إنّ رسول اللّه لمّا هاجر إلى المدينة و أظهر الإسلام كتب إلى ملك الروم كتابا و بعث به مع رسول يدعوه إلى الإسلام و كتب إلى ملك فارس كتابا يدعوه إلى الإسلام و بعثه إليه مع رسوله فأتى ملك الروم فعظّم كتاب رسول اللّه و أكرم رسوله و أمّا ملك فارس فإنّه استخفّ بكتاب رسول اللّه و مزّقه و استخفّ برسوله و كان ملك الروم يومئذ يقاتل ملك فارس و كان المسلمون يهوون أن يغلب ملك الروم ملك فارس فلمّا غلب ملك فارس ملك الروم كره ذلك المسلمون و اغتمّوا به فأنزل اللّه بذلك الآية. و المراد بأدنى الأرض الشامات و ما حولها «وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» و المراد يغلبهم المسلمون «فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ» قال: فلمّا غزا المسلمون فارس و افتتحوها فرح المسلمون بنصر اللّه.

قيل: أليس اللّه يقول: «فِي بِضْعِ سِنِينَ» و قد مضى للمؤمنين سنون كثيرة مع رسول اللّه و في إمارة أبي بكر و إنّما غلب المؤمنون فارس في إمارة عمر فقال: ألم أفل لك إنّ لهذا تأويلا و تفسيرا و القرآن ناسخ و منسوخ أما تسمع لقول اللّه: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ» يعني إليه المشيّة أن يؤخّر ما قدّم و يقدّم ما أخّر في القول إلى يوم تحتّم القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنين و ذلك قوله: «وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» أي يوم تحتّم القضاء.

ص: 204

و في تأويل هذه الآية قول آخر: و هو على قراءة «غلبت» بفتح الغين على المعلوم و في «سيغلبون» على المجهول بضمّ حرف المضارعة و فتح اللّام و هذا البيان و القول لابن ميثم قال: لقد روينا من طريق علماء أهل البيت في أسرارهم و علومهم الّتي خرجت منهم إلى علماء شيعتهم أنّ قوما ينسبون من قريش و ليسوا من قريش بحقيقة النسب و هذا ممّا لا يعرفه إلّا معدن النبوّة و ورثة علم الرسالة و ذلك مثل بني اميّة أنّهم ليسوا من قريش و إنّ أصلهم من الروم و فيهم تأويل الآية «الم* غُلِبَتِ الرُّومُ» فمعناه أنّهم غلبوا على الملك و سيغلبهم على ذلك بنو العبّاس.

و بالجملة فالبيان الأوّل في خصوص السنة التاسعة عام الحديبية من غلبة الروم على الفرس يكون تفسير ظاهر الآية و هذه الرواية يكون تأويل الآية.

و تمام القصّة عن الزهريّ قال: كان المشركون يجادلون المسلمين بمكّة يقولون:

إنّ الروم أهل كتاب و قد غلبهم الفرس و أنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الّذي انزل إليكم إلى نبيّكم فنحن المشركون سنغلبكم كما غلبت فارس الروم فأنزل اللّه الآية إلى قوله: «فِي بِضْعِ سِنِينَ» قال: فأخبرني عبد اللّه بن عتبة بن مسعود أنّ أبا بكر ناحب أي خاطر بعض المشركين قبل أن يحرم القمار على شي ء إن لم تغلب فارس في سبع سنين فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لم فعلت؟ فكلّ ما دون العشرة بضع، فكان ظهور فارس على الروم إلى مدّة تسع سنين ثمّ في العاشرة أظهر اللّه الروم على فارس زمن الحديبية ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب.

و روى أبو عبد اللّه الحافظ بالإسناد عن ابن عبّاس في قوله: «الم* غُلِبَتِ الرُّومُ» قال:

قد غلبت فارس على الروم ثمّ غلبت الروم على فارس و لقى رسول اللّه مشركي العرب و التقت الروم و فارس فنصر اللّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من معه من المسلمين على مشركي العرب و نصر اللّه أهل الكتاب على مشركي العجم في تلك السنة ففرح المسلمون بنصر اللّه إيّاهم و نصر أهل الكتاب على العجم. و سألت أبا سعيد الخدريّ عن ذلك فقال: التقينا مع رسول اللّه و مشركو العرب و التقت الروم و فارس فنصرنا اللّه على مشركي العرب و نصر أهل الكتاب على المجوس ففرحنا بذلك لوقوع النصر لنا و لهم.

ص: 205

و روي أنّ الروم استردّوا بيت المقدس من فارس و أنّ ملك الروم مشى إليه شكرا و بسطت له الرياحين فمشى عليها. و قال الشعبيّ: لم تمض تلك المدّة الّتي عقدها أبو بكر مع ابيّ بن خلف حتّى غلبت الروم فارسا و ربطوا خيولهم بالمدائن و بنوا الروميّة فأخذ أبو بكر الخطر من ورثته و جاء به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتصدّق به.

روي أنّ أبا بكر لمّا أراد الهجرة بأهله تعلّق به ابيّ و أخذ ابنه عبد اللّه بن أبي بكر كفيلا فلمّا أراد أن يخرج ابيّ إلى احد تعلّق به عبد اللّه بن أبي بكر و أخذ منه ابنه كفيلا و خرج ابيّ بن خلّف في احد جرحه رسول اللّه و عاد ابيّ بعد الجراحة إلى مكّة فمات من تلك الجراحة. و جاءت الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لفارس نطحة أو نطحتان ثمّ لا فارس بعدها أبدا و الروم ذات القرون كلّما ذهب قرن خلق قرن إلى آخر الأبد انتهى.

قوله: [بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي يوم يغلب الروم فارسا يكون بنصر اللّه ينصر من يشاء من عباده و هو الغالب في الانتقام من أعدائه الرحيم بمن هو أهل الرحمة و من أناب إليه من خلقه.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): آية 7]

يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)

أي [يَعْلَمُونَ منافع الدنيا و مضارّها و متى يزرعون و متى يحصدون و كيف يبنون و كيف يجمعون المال و هم جهّال بالآخرة فعمروا دنياهم و خربوا آخرتهم، قيل: بلغ من علم أحدهم بدنياه أن يقلّب الدرهم و الدينار على ظهره فيخبرك بوزنه حتّى القيراط و يعلم الزجر و النجوم و حركات الأفلاك و ما يحسن أن يصلّى.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 8 الى 10]

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

ص: 206

ثمّ حثّ سبحانه على التفكّر فيما يدل على توحيده من خلق السماوات و الأرض و في قرون الحالية و الأمم الماضية فقال:

[أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا] عند أنفسهم في حال الخلوة لأنّ الإنسان في تلك الحالة يحضر ذهنه و يتمكّن من التدبّر، و قيل: معنى الآية: أولم يتفكّروا في خلق اللّه أنفسهم فيعلموا، و حذف لدلالة الكلام.

قوله: [ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ أي إلّا لإقامة الحقّ و للدلالة على وجود الصانع و معرفته و إطاعته [وَ أَجَلٍ مُسَمًّى أي لوقت معلوم توفّى فيه كلّ نفس ما كسبت و خلقها في أوقات قدّرها اقتضت المصلحة خلقها فيها.

فلو قيل: كيف يعلم المتفكّر في نفسه أنّ اللّه لم يخلق عبثا؟

فالجواب إذا علم بالنظر في نفسه أنّه محدث مخلوق علم أنّ له محدث قديما قبله و يستكشف من خلقة بدنه و تركيبه بهذه الكيفيّة المخصوصة أنّ خالق هذا التركيب قادر حكيم لا يعادل حكمته و قدرته أحد مثلا خلقهم على أحسن تقويم فخلق للإنسان معدة فيها ينهضم غذاؤه لتقوى به أعضاؤه و لها منفذان: أحدهما لدخول الطعام فيه و الآخر لخروج الطعام منه فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرّة و لا بالرشح و تمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجا صالحا ثمّ يخرج من المنفذ الآخر، و خلق تحت المعدة عروقا دقاقا صلابا كالمصفاة الّتي يصفى بها الشي ء فينزل منها الصافي إلى الكبد و ينصبّ الثفل و الدرديّ إلى معى مخلوق تحت المعدة مستقيم متوجّها إلى الخروج و ما يدخل في الكبد من العروق المذكورة يسمّى الماساريقا بالعبريّة و العبريّة عربيّة مفسودة في الأكثر يقال: لموسى ميثا و للإله إيل، إلى غير ذلك فالماساريقا معناها ما ساء ريق، فاشتمل عليه الكبد و أنضجه نضجا آخر و يكون مع الغذاء المتوجّهة من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقّق و ينذرق في العروق الدقاق المذكورة و في الكبد ثمّ يستغني الكبد عن ذلك الماء فيتميّز عنه ذلك الماء و ينصبّ من جانب جذبة الكبد إلى الكلية و معه دم يسير تغتذي به الكلية

ص: 207

و غيرها ثمّ يخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير ثمّ يتشعّب ذلك النهر الكبير إلى جداول و الجداول إلى سواق و السواقي إلى رواضع و يصل بها إلى جميع البدن و هذه حكمة واحدة جزء من ألف جزء و بهذه كفاية لمن أراد أن يعرف خالقه و حكمته و من يكون كذلك لا بدّ و أن يكون واحدا فاعلا مختارا و إلّا لكان عاجزا عند إرادة شريكه ضدّ ما أراده لأنّ الشريك هل هو قادر على إيجاد أمر هو ضدّ ما أراده شريكه أم لا؟ فإن كان قادرا فالأوّل عاجز و إن لم يقدر فالثاني عاجز و العاجز ناقص لا يصلح للإلهيّة.

فبهذا ثبت التوحيد و المبدء و أمّا المعاد لأنّ الإنسان إذا تفكّر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال و أجزائه مائلة إلى الانحلال فله فناء ضروريّ كأبيه و امّه فلو لم يكن له حياة اخرى لكان خلقه على هذا الوجه للفناء عبثا مع هذه المفاسد الّتي باشرها الإنسان في هذه النشأة فلا بدّ و أن يكون له حياة اخرى و عود آخر للجزاء فثبت المعاد، و مع ذلك.

[وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ و بيوم البعث و القيامة جاحدون و غير معترفين به.

ثمّ نبّههم سبحانه تنبيها آخر فقال: [أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم [كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً] فهلكوا و بادوا فيعتبروا بهم لأنّهم إنّما هلكوا بتكذييبهم و كانوا أقوى منهم [وَ أَثارُوا الْأَرْضَ و قلّبوها و حرثوها [وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها] هؤلاء لأنّهم كانوا أكثر أموالا منكم و أطول أعمارا و أعدادا و حفروا الأنهار مثل دجلة و فرات و غرسوا الأشجار و شيّدوا القصور و بنوا الدور ثمّ انتقلوا إلى القبور و إلى الهلاك و الثبور.

[وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و أتتهم رسلهم بالدلالات الواضحات من عند اللّه، و في الكلام حذف تقديره: فجحدوا الرسل و أشركوا في العبادة فأهلكهم اللّه بالعذاب [فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بأن يهلكهم من غير استحقاق [وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بأن جحدوا و كذّبوا بآيات اللّه.

ص: 208

[ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أي أساءوا إلى نفوسهم الخلّة الّتي يسوء صاحبها إذا أدركها و هي عذاب النار [أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ أي لتكذيبهم و استهزائهم بآيات اللّه و رسله استحقّوا العذاب الدائم.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 11 الى 20]

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)

المعنى: ثمّ أكّد سبحانه بيان الإعادة فقال:

[اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يخلقهم ابتداء ثمّ يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا [ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء.

ثمّ بيّن سبحانه ما يكون وقت الرجوع إليه فقال: [وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي بيّن إبلاسهم و يأسهم و إفلاسهم و معنى «الإبلاس» يأس مع حيرة و مثّلوا حال المجرم و الإبلاس و غرور إبليس بمثال من يكون في بستان و حوله الملاعب و الملاهي و عنده ما يفتخر به و يباهي فيخبره صادق بمجي ء عدوّ قويّ لا يردّه رادّ و لا يعدّه صادّ إذا جاءه لا يبلغه ريقا و لا يترك له إلى الخلاص طريقا و ينبّهه ذلك المخبر الصادق بسلوك طريق الخلاص ثمّ يقول: له طفل أو مجنون أنّ هذه الشجرة الّتي أنت تحتها لنا من الخواص دفع الأعادي عمّن يكون تحتها فيقبل ذلك الغافل على استيفاء ملادّه معتمدا على الشجرة بقول ذلك الطفل: فيجي ء العدوّ و يحيط به فأوّل ما يريه العدوّ قلع تلك الشجرة فيبقى هذا الغافل

ص: 209

متحيّرا آيسا فكذلك المجرم في دار الدنيا أقبل على استيفاء اللّذّات و أخبره النبيّ الصادق بأنّ اللّه يجزيه و يأتيه عذاب يخزيه فقال له النفس الأمّارة و الشيطان: إنّ هذه الأخشاب و الأحجار الّتي تعبدها دافعة عنك كلّ بأس و شافعة لك عند خمود الحواسّ فاشتغل بما هو غيّه و استمرّ على غيّه حتّى إذا جاءته الطامّة الكبرى فأوّل ما يرى إلقاء الأصنام في النار فلا يجد إلى الخلاص من طريق و يحيق عليه عذاب الحريق فييأس أيّ أياس و يبلس أشدّ إبلاس فيكفرون بأصنامهم حينئذ.

ثمّ قال سبحانه: [وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ و «يوم» ظرف «ليتفرّقون» و «يومئذ» بدل منه. ثمّ بيّن سبحانه أمرا آخر و هو التفرّق بعد الإبلاس و تميّز بينهم و يجعل فريق في الجنّة و فريق في السعير و يتفرّقون أصحاب اليمين عن أصحاب الشمال هؤلاء في أعلا علّيّين و هؤلاء في أسفل السافلين و هو قوله:

[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ يسرّون بكلّ مسرّة و منه كلّ حبرة تتبعها عبرة و إنّما أعاد قوله: «وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ» لأنّها أمر هائل فكرّره تأكيدا للتخويف و لذا اعتاد الخطباء تكرير يوم القيامة في الخطب لتذكير أهواله.

«و الروضة» البستان المتناهي منظرا و طيبا.

و قيل: معنى «يحبرون» أي يكرمون. و قيل: يلذّذون بالسماع.

و عن يحيى بن كثير و الأوزاعيّ أخبرنا أبو الحسن عبيد اللّه بن محمّد بن أحمد البيهقيّ قال: أخبرنا جدّي أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقيّ قال: حدّثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد قال: أخبرنا أبو الحسن عليّ بن بندار قال: حدّثنا جعفر بن محمّد بن الحسن القربانيّ قال: حدّثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقيّ قال: حدّثنا خالد بن زيد بن أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أمامة الباهليّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما من عبد يدخل الجنّة إلّا و يجلس عند رأسه و عند رجليه ثنتان من الحور العين تغنّيانه بأحسن صوت ما سمعه الإنس و الجنّ و ليس بمزمار الشيطان و لكن بتمجيد اللّه و تقديسه.

و عن أبي الدرداء قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يذكّر الإنسان فذكر الجنّة و ما فيها من الأزواج و النعيم و في القوم أعرابيّ فجثا على ركبتيه و قال: يا رسول اللّه أهل في الجنّة

ص: 210

من سماع؟ قال: نعم، يا أعرابيّ إنّ في الجنّة نهرا حافتاه الأبكار من كلّ بيضاء يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قطّ فذلك أفضل نعيم الجنّة قال الراوي: سألت أبا الدرداء بم يتغنّين؟ قال: بالتسبيح.

و عن إبراهيم: إنّ في الجنّة لأشجارا عليها أجراس من فضّة فإذا أراد أهل الجنّة السماع بعث اللّه ريحا من تحت العرش فيقع في تلك الأشجار فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا.

و عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه: الجنّة مائة درجة ما بين كلّ درجتين منها كما بين السماء و الأرض و الفردوس أعلاها سموّا و أوسطها محلّة و منها تنفجر أنهار الجنّة فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه إنّي رجل حبّب إليّ الصوت فهل في الجنّة صوت حسن؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده إنّ اللّه يوحي إلى شجرة في الجنّة أن أسمعوا عبادي الّذين اشتغلوا بعبادتي و ذكري عن عزف البرابط و المزامير فيرفع صوت لم يسمع الخلائق بمثله قطّ من تسبيح الربّ.

و بالجملة ثمّ أخبر سبحانه بعد حال المؤمنين حال الكافرين فقال: [وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي بدلائلنا و بالقيامة «محضرون» و لفظ الإحضار لا يستعمل إلّا فيما يكره الإنسان يقال: احضر فلان مجلس القضاء إذا جي ء به لما لا يؤثره و منه حضور الوفاة.

ثمّ ذكر سبحانه ما يدرك به النجاة و الجنّة فقال: [فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ* وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ و هذا خبر و المراد به الأمر أي فسبّحوه و نزّهوه عمّا لا يليق به أو ينافي تعظيمه من صفات النقص بأن تصفوه بما لا يليق من الصفات و الأسماء، و الإمساء الدخول في المساء و هو مجي ء ظلام اللّيل و الإصباح نقيضه و هو الدخول في الصباح، و له الثناء و المدح في السماوات و الأرض أي هو المستحقّ لمدح أهلها لإنعامه عليهم، و سبّحوا في العشيّ و حين تدخلون في الظهيرة و هي نصف النهار.

و هاهنا بيان في معنى «سبحان» و لفظه أمّا لفظه «فعلان» اسم للمصدر الّذي هو

ص: 211

التسبيح سمّي التسبيح سبحان و جعل علما له، و أمّا المعنى فقال بعض المفسّرين: المراد منه الصلاة أي صلّوا و قالوا: أشار إلى الصلوات الخمس. و قال بعضهم: أراد به التنزيه أي نزّهوه في هذه الأوقات و إنّما خصّ هذه الأوقات بالذكر و الحمد و إن كان حمده واجبا في جميع الأوقات لكنّ الإنسان ما دام في الدنيا لا يمكن أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لكونه محتاجا إلى امور منها الأكل و الشرب و تحصيل المأكول و المشروب فأشار اللّه إلى أوقات إذا أتى العبد بتسبيح اللّه فيها أدرك الأوّل و الآخر و الأوسط فكأنّه لم يفتر مثل الملائكة الّذين ملازمون للتسبيح على الدوام.

و اعلم أنّ في وضع الصلاة في أوقاتها و ركعاتها و هيآتها حكمة بالغة و قد شرحها العلماء في كتب أسرار الصلاة على القول بأنّ الآية تدلّ على الصلوات الخمس فقوله تعالى: «حِينَ تُمْسُونَ» يقتضي المغرب و العشاء الآخرة و قوله: «وَ حِينَ تُصْبِحُونَ» يقتضي صلاة الصبح «و عشيّا» يقتضي صلاة العصر «وَ حِينَ تُظْهِرُونَ» صلاة الظهر، عن ابن عبّاس و مجاهد. و إذا كان المراد من التسبيح و التحميد مطلق ذكر اللّه فهو حسن في كلّ وقت و في هذه الأوقات المخصوصة أحسن.

و في رواية مسندا إلى رواة العامّة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قال وقت منامه مرّة: «سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر» تكتب له ألف حسنة و من قال خلف كلّ صلاة مكتوبة عشر مرّات: سبحان اللّه و عشر مرّات الحمد للّه و عشر مرّات اللّه أكبر اللّه أكبر ادخل الجنّة.

و اعلم أنّ اللّه له صفات لازمة لا من فعله و صفات ثابتة له من فعله:

فالاولى صفات كمال و جلال و خلافها نقص مثلا إذا أدرك المكلّف بأنّ اللّه لا يجوز أن يخفى عليه شي ء لكونه عالما بكلّ شي ء فقد نزّهه عن الجهل و وصفه بضدّه و إذا عرفه بأنّه سبحانه لا يعجز عن شي ء لكونه قادرا على كلّ شي ء فقد نزّهه عن العجز و إذا بان له أنّه لا يسبقه العدم لاتّصافه بالقدم فقد نزّهه و هكذا فحينئذ إذا قال قائل متحضّرا بقلبه: سبحان اللّه، متنبّها لما يقوله من كونه منزّها له عن كلّ نقص فإتيانه بهذا التسبيح على هذا الوجه من الإجمال يقوم مقام إتيانه به على سبيل التفصيل فكأنّه هذا العبد المسبّح

ص: 212

بهذه الكيفيّة مسبّح طول عمره و مدّة بقائه إذا ثبت على هذه العزيمة فيخلع بخلع الكرامة من ربّه الكريم و كما أنّ العبد ينزّه اللّه في أوّل النهار و آخره و وسطه فإنّ اللّه يطهّره في أوّله و هو دنياه و آخره و هو عقباه و في وسطه و هو حالة كونه في قبره و هو مغناه.

و أمّا الثانية و هو صفات الفعل فالإنسان إذا نظر إلى خلق اللّه السماوات يعلم أنّها نعمة و كرامة و رزق فيقول: الحمد للّه، أو رأى الشمس و يعلم أنّها نعمة و عافية للدنيا فيقول:

الحمد للّه، و كذلك القمر و الماء و كلّ حيوان و نبات فيقول: الحمد للّه، و لو أنّ الإنسان لو حمد اللّه على كلّ شي ء على حدة لا يفي عمره به فإذا استحضر في ذهنه النعم الّتي لا تحصى كما قال: «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» (1) و يقول: الحمد للّه، متنبّها بالنعم فهذا الحمد على وجه الإجمال يقوم منه مقام الحمد على سبيل التفصيل فهذا الحامد بهذا الترتيب مع عزمه على دوام الحمد و ثبوته كالمستغرق في الحمد طول دهره و قد وعد اللّه سبحانه الشاكر الحامد بالزيادة له فهو مستغرق في كرامة اللّه و كذلك المتدبّر في صفات الأفعال فكلّ ما يقع عقله من حقيقته فينبغي أن يقول: اللّه أكبر بما أدركه و أتصوّره بعقلي لأنّ عقلي لا يدرك جميع المدركات و عاجز عن إدراكات لا نهاية لها فإذا أراد أن يقول على سبيل التفصيل: اللّه أكبر من هذا الّذي أدركته من هذا الوجه و أكبر ممّا أدركته من ذلك الوجه طول عمره فلا يفي فيقول على وجه الإجمال: اللّه أكبر من كلّ شي ء من مدركاتي و إليه الإشارة بقوله: العجز عن درك الإدراك إدراك، فهذا خاصّيّة التسبيح و الحمد و به الكفاية.

قوله تعالى: [يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ و في تعلّق الآية بما تقدّم أنّ الإنسان عند الإصباح يخرج من شبه الموت و هو النوم إلى شبه الوجود و هو اليقظة و عند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم.

و اختلف المفسّرون في قوله: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» قيل: يخرج الدجاجة من البيضة و البيضة من الدجاجة و كذلك الحيوان من النطفة و النطفة من الحيوان، و قال بعضهم: المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن أو اليقظان من النائم و النائم من اليقظان.

ص: 213


1- النحل: 18.

[وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ و يحيي الأرض بالنبات بعد جدوبها و كما أحيا الأرض بالنبات كذلك يحييكم و تخرجون من قبوركم أحياء.

[وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق آدم الّذي هو أبوكم و أصلكم من تراب ثمّ خلقكم منه [ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ ذرّيّة [بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ من لحم و دم تنبسطون في الأرض و تنصرفون على ظهرها و تتفرّقون في أطرافها فهلّا دلّكم هذا الأمر على أنّه لا يقدر على ذلك غيره و هو مستحقّ أن يعبد لا غيره.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 21 الى 25]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)

المعنى: قوله: [وَ مِنْ آياتِهِ عطف على ما تقدّم من تنبيه العباد على شواهد القدرة و دلائل التوحيد كإخراج الحيّ من الميّت و إحياء الأرض بعد الإمامة و خلق آدم الّذي هو أصلنا من تراب الّذي هو أبعد الأشياء و العناصر عن درجة الأحياء و ذلك من حيث كيفيّته فإنّ التراب بارد يابس و الحياة بالحرارة و الرطوبة و كذلك من حيث لونه فإنّ التراب كدر و الروح نيّر و من حيث فعله فإنّه ثقيل و الأرواح الّتي بها تحصل لها الحياة خفيفة و من حيث السكون فإنّ التراب بعيد عن الحركة غاية و الحيوان متحرّك يمنة و يسرة و خلفا و قدّ اما فثبت أنّ التراب أبعد من قبول الحياة مادّة عن سائر العناصر لأنّ الماء فيه الصفاء و الرطوبة و الحركة و كلّها على طبع الأرواح و النار أيضا أقرب إلى الحياة لأنّها كالحركة الغريزيّة منضجة جامعة مفرّقة و كذا الهوى أقرب إلى الروح و الحياة لخفّته و لطافته فهو سبحانه بقدرته خلق آدم من أبعد الأشياء عن مرتبة الأحياء

ص: 214

حيّا هو في أعلى المراتب من الأجسام و النبات و الحيوان و كيف لا يكون و هو المسبّح و الحامد للّه و قد شابه هذا الخلق الملائكة المسبّحين فهذه آية من شواهد ربوبيّته و وحدانيّته.

و أيضا [مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها] أي جعل لكم شكلكم أنفسكم و جنسكم أزواجا لأنّ الشكل إلى الشكل أميل و قيل: معناه أنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» أي لتأتلفوا بها و يستأنس بعضكم بعضا.

[وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً] يريد بين المرأة و زوجها فهما يتوادّان و يتراحمان و يحبّ أحدهما الآخر من غير رحم بينهما و نسب و المودّة تفضي إلى الرحمة فإنّ الزوجة قد تخرج عن محلّ الشهوة بكبر أو مرض و يبقى قيام الزوج بها و بالعكس و ليس ذلك إلّا بجعله سبحانه فيهما [إِنَّ فِي ذلِكَ خلق الأزواج بهذه الكيفيّة المطبوعة [لَآياتٍ لأهل التدبّر و الفكر.

[وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و لمّا بيّن سبحانه دلائل الأنفس ذكر سبحانه دلائل الآفاق و أظهر دلائلها خلق السماوات و الأرض فإنّ بعض الكفّار يقول و يناقش في خلق البشر و غيره أنّه بسبب ما في العناصر من الكيفيّات و لكن لا يقدر أن يقول:

خلق السماوات بسبب امتزاج العناصر، لأنّها ليست من العناصر.

[وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ فإنّ واحدا منهم مع كثرة عددهم لا يشتبه بغيره مع أنّ الغير قد حصل له في الخلقة ما حصل لمثله و كذلك اختلاف الألسنة و اختلاف كلامهم فإنّ عربيّين هما أخوان إذا تكلّما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر حتّى أنّ من يكون محجوبا عنهما لا يبصرهما يقول: هذا صوت فلان و هذا صوت فلان الآخر، و فيه حكمة بالغة و ذلك لأنّ الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحقّ من غيره و العدوّ من الصديق و ذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور و قد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات و أمّا اللّمس و الشمّ و الذوق فلا يفيد هذه الفائدة فلا يقع بها التميّز.

ص: 215

و قيل: المراد اختلاف اللّغات كالعربيّة و الفارسيّة و الروميّة و الأوّل أصحّ.

ثمّ قال: [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ .

ثمّ قال: [وَ مِنْ آياتِهِ الدالّة على توحيده [مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ لمّا ذكر بعض العرضيّات اللّازمة و هو الاختلاف ذكر في هذه الآية الأعراض المفارقة و من جملتها النوم باللّيل و الحركة طلبا للرزق بالنهار و ابتغاء الفضل و المعاش و التقدير: و من آياته منامكم و ابتغاؤكم باللّيل و النهار من فضله [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ذلك فيقبلونه و يتفكّرون في الأدلّة.

[وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] ذكر سبحانه في هذه الآية المرضيّات الّتي في الآفاق فيرى الإنسان من العوارض الآفاقيّة أمطارا هاطلة و بروقا هائلة و كما أنّ في إنزال المطر و إنبات الشجر منافع كذلك في تقدّم البرق و الرعد على المطر منفعة و ذلك لأنّ البرق إذا لاح فالّذي لا يكون تحت كنّ (1) يخاف الابتلاء فيستعدّ له خوفا من الصواعق و طمعا في الغيث و الّذي له زرع و يحتاج إلى الماء أو مصنع أو صهريج فيصلح مجاري الماء و يطمع في السقي و أيضا أهل البوادي و العرب منهم لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللّائحة من جانب دون جانب و البرق فيه آية عظيمة لأنّه يخرج من السحاب و ليس في السحاب إلّا ماء و هواء و خروج النار منهما بحيث تحرق الجبال أمر عظيم.

قالت الفلاسفة: السحاب فيه كثافة فإذا هبّت ريح قويّة تخرّق السحاب بعنف فيحدث صوت الرعد و يخرج منه النار كمساس جسم بجسم بعنف و هذا كما أنّ النار يخرج من وقوع الحديد على الحجر.

فالجواب أنّه هب كما يقولون فهبوب الريح القويّة من الأمور الحادثة الّتي لا بدّ من سبب و ينتهي إلى خالق الأسباب فهو آية على قدرة اللّه كيف ما كان.

قوله تعالى: [فَيُحْيِي بِهِ بذلك الماء [الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] بعد انقطاع الماء الأرض و جدوبها [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي للعقلاء المكلّفين.

ص: 216


1- الكن- بالكسر- الستر.

[وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ بلا دعامة تدعمها و لا علاقة تتعلّق بهما بأمره سبحانه لهما بالقيام كقوله: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ».

و قيل: أي بفعله و إمساكه إلّا أنّ أفعال اللّه يضاف إليه بلفظ الأمر لأنّه أبلغ في الاقتدار و معنى القيام الثبات و الدوام يقال: السوق قائمة.

فإن قيل: إنّها تتحرّك في مكانها كالرحى و لكن اتّفق العقلاء على أنّها في مكانها لا تخرج عن مكانها و هذه آية ظاهرة لأنّ كونهما في الموضع الّذي هما فيه و على الموضع الّذي هما عليه من الأمور الممكنة و كونهما في غير ذلك الموضع جائز فكان يمكن أن يخرجا منه فلمّا لم يخرجا كان ذلك ترجيحا للجائز على غيره و ذلك لا يكون إلّا بتقدير فاعل مختار.

[ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ أي من القبر عن ابن عبّاس، يأمر اللّه سبحانه إسرافيل فينفخ في الصور بعد ما يصوّر الصور في القبور فيخرج الخلائق كلّهم من قبورهم [إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ من الأرض أحياء و عبّر ذلك بالدعاء إذ هو بمنزلة الدعاء و بمنزلة «كُنْ فَيَكُونُ»* في سرعة تأتي ذلك و امتناع التعذّر.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 26 الى 30]

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)

و لمّا ذكر الدلائل الّتي مفادها الحشر و هي الأصل الآخر و التوحيد و هو الأصل الأوّل أشار بأنّ له و ملكه كلّ من في السماوات و كلّ من في الأرض و نفس السماوات و الأرض فكلّ منقادون قانتون مطيعون له طوعا و كرها في الحياة و البقاء و الموت و البعثة

ص: 217

و الخلقة و إن عصوا في العبادة و لو كان له شريك لكان الشريك منازعا له و مماثلا و ما كان يحصل اختصاص الملكيّة من السماوات و الأرض له سبحانه.

[وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي يخلقهم إنشاء و يخترعهم ابتداء ثمّ يعيدهم بعد أن يفنيهم ثمّ أكّد بيان الإعادة بعد الإفناء بقوله: «وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» يعني الإعادة هيّن و سهل عنده كقوله: «اللّه أكبر» يعني اللّه كبير لا يدانيه أحد في كبريائه قال للفرزدق:

إنّ الّذي سمك السماء بنى لنابيتا دعائمه أعزّ و أطول

أي عزيزة طويلة. و قيل: المعنى على صيغة التفضيل و معناه أنّ الإعادة أهون من الإبداء فإذا كان الإبداء سهلا فالإعادة أهون و أسهل، و الهيّن هو ما لا يتعب فيه الفاعل.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي و له الصفات العليا في السماوات و الأرض و هي لا إله إلّا هو وحده لا شريك له و له الوصف العجيب الشأن الّذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه أحد. في توحيد الصدوق عن الصادق عليه السّلام: «و للّه المثل الأعلى» الّذي لا يشبهه شي ء و لا يوصف و لا يتوهّم فذلك المثل الأعلى.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: و أنت المثل الأعلى.

و في رواية قال صلّى اللّه عليه و آله في آخر خطبة: نحن كلمة التقوى و سبيل الهدى و المثل الأعلى. و في زيارة الجامعة الجواديّة عليه السّلام: السلام على أئمّة الهدى و مصابيح الدّجى و أعلام التقى و ذوي النهى و اولي الحجى و كهف الورى و ورثة الأنبياء و المثل الأعلى إلى قوله: «وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى .

قوله: [فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني يصفه به ما فيهما أجمع نطقا و دلالة [وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب على أمره الكامل في قدرته.

ثمّ احتجّ على المشركين فقال: [ضَرَبَ لَكُمْ أيّها المشركون [مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي بيّن ذلك المثل شبها لحالكم و أنفسكم [هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من عبيدكم و إمائكم [مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من المال و الأملاك و النعم أي هل يقدرون أن يشاركونكم

ص: 218

فيها؟ [فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ] أي هل أنتم و عبيدكم و إمائكم فيما أعطيناكم سواء.

[تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي هل تخافون أن يشاركونكم هؤلاء العبيد فيما ترثونه من آبائكم و فيما حصل لكم من أموالكم كما تخافون من أحراركم و ذوي قرابتكم؟

لأنّ الرجل يخاف شريكه الحرّ في المال الّذي يكون بينهما أن ينفرد دونه فيه بأمر و كما يخاف الرجل شريكه في الميراث أن يشاركه لأنّه يحبّ أن ينفرد به فهو يخاف شريكه، و معنى «أنفسكم» أي أمثالكم من الأحرار كقوله: «ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً» (1) أي بأمثالهم.

و حاصل المعنى أنّه كما لا يشارك العبد الحرّ كذلك لا يشارك هذه الأصنام المنحوتة المخلوقة الخالق القادر و كما أنّكم لا ترضون في عبيدكم أن يكونوا شركاءكم في أموالكم فكيف تجعلون لربّكم الّذي خلقكم أن يكون له شركاء في العبادة و هذه الآية نزلت بعد تلبية قريش بهذه التلبية الّتي علّمها إبليس و هي: «لبّيك اللهمّ لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك» فأنزل اللّه هذه الآية ردّا عليهم و إنكارا لقولهم فما تدّعون إلهيّته و تعبدونه لا يملك خردلة و لا يعظّم بالعبادة مثل ذلك العبد الّذي لا يشارككم في المال.

[كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كما ميّزنا و بيّنّا لكم نفصّل الأدلّة و البيان لأهل العقل و التدبّر.

ثمّ قال سبحانه مبيّنا: [بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ في الشرك [بِغَيْرِ عِلْمٍ يعلمونه جاءهم من اللّه أو بيان من رسله بل صرف اتّباع هوى أنفسهم و اقتفاء آبائهم [فَمَنْ يَهْدِي أي من يهدي إلى الثواب و الجنّة [مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ عن ذلك.

و قيل: معناه إنّ اللّه الّذي هو خالقهم و رازقهم و المنعم عليهم مع ما نصب لهم من الأدلّة و ما اهتدوا فمن يهديهم بعد ذلك الضلال عن أبي مسلم و هو من قولهم: أضلّ فلان بعيره يعني ضلّ بعيره عنه و هو كقول الشاعر:

هبوني امرءا منكم أضلّ بعيره له ذمّة إنّ الذمام كبير

ص: 219


1- النور: 12.

و إنّما المعنى ضلّ بعيره عنه [وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم و يدفعون عنهم العذاب إذا حلّ بهم.

ثمّ خاطب نبيّه و المراد جميع المكلّفين و قال: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أقم قصدك و توجّهك للدين و كن معتقدا له و دم على الاستقامة و الخلوص [حَنِيفاً] أي مائلا إلى الدين ثابتا عليه لا ترجع فيه إلى غيره.

[فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها] أي الزم فطرة اللّه و هي التوحيد فإنّ اللّه خلق الناس عليه حيث أخذ منهم العهد في ظهر آدم من ذرّاتهم و سألهم: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى و قيل: معناه اتّبع من الدين ما دلّك عليه فطرة اللّه و هو ابتداء خلقة الأشياء لأنّه خلقهم و صوّرهم على وجه صانع حكيم يستدلّ بهذه الخلقة على صانعها و الفطرة دلّت على هذا المعنى.

[لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا تغيير لدين اللّه الّذي أمر الناس بالثبات عليه من اصول الدّين و قالوا: إنّ «لا» هاهنا بمعنى النهي أي لا تبدّلوا دين اللّه الّذي أمرتم بالثبات عليه و قيل: المراد به النهي عن الخصاء عن ابن عبّاس و عكرمة.

و يحتمل أن يكون المعنى خلق اللّه الخلق لعبادته و هم كلّهم عبيد و لا خروج للخلق عن العبادة و العبوديّة؛ و هذا البيان يفسد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال و العبد يكمل بالعبادة فإذا كمل لا يبقى عليه تكليف. و كذلك يفسد قول المشركين: إنّ الناقص لا يصلح لعبادة اللّه و إنّما الإنسان عبد الكواكب و الكواكب عبيد اللّه فنحن نعبد الكواكب و الأصنام، و كذلك يفسد قول النصارى: إنّ عيسى عليه السّلام حلّ اللّه فيه و صار إلها فقال سبحانه: لا تبديل لخلق اللّه الّذي خلقهم له و هو أن يعبدوه خاصّة و لا يشركوا به شيئا.

[ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي ذلك هو الدين المستقيم الّذي لا عوج فيه [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لعدولهم عن النظر و التدبّر.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 31 الى 35]

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)

ص: 220

الإنابة الانقطاع إلى اللّه بالطاعة و منه الناب لأنّه قاطع المعنى أي فأقيموا وجوهكم حالكونكم منقطعين و راجعين إلى اللّه لأنّ مخاطبة النبيّ يدخل فيها الامّة و لذا أتى بلفظ الجمع و الدليل عليه قوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» [وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ] أي إذا أقبلتم عليه فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه و الزموا التقوى و داوموا على العبادة و إقامة الصلاة.

[وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بعد الإيمان و لا تقصدوا بذلك غير اللّه [مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً] و لا تكونوا من الّذين وقع فيهم الاختلاف في دينهم و صاروا ذوي أديان مختلفة فصار بعضهم يعبدوننا و بعضهم يعبد نارا و بعضهم يعبد شمسا إلى غير ذلك [كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي أهل كلّ ملّة بما عندهم من الدين راضون و مسرورون و معجبون يظنّون أنّهم على حقّ. و قوله: «شيعا» يعنى فرقة فرقة و حزبا حزبا.

قوله تعالى: [وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ أي إذا أصابهم مرض أو فقر أو شدّة دعوا اللّه نادوا ربّهم منقطعين و [مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ من الضرّ، و الضمير في «منه» راجع إلى الضرّ [رَحْمَةً] بأن يعافيهم من المرض أو يعافيهم من الفقر و ينجيهم من الشدّة [إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يعودون إلى عبادة غير اللّه و يقابلوا النعم بالكفران.

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم يفعلون ذلك [لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعم إذ قابلوا النعم بالكفران [فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي انتفعوا بنعيم الدنيا كيف شئتم فسوف تعلمون عاقبة كفركم.

و قيل: إنّ اللام في «ليكفروا» للأمر على سبيل التهديد مثل قوله: «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (1).

قوله: [أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ هذا استفهام

ص: 221


1- العنكبوت: 29.

مستأنف أي بل هل أنزلنا عليهم برهانا و حجّة فيسلّطون بذلك البرهان على ما ذهبوا إليه من الشرك و ذلك البرهان كأنّه ينطق بصحّة شركهم و بكون لهم حجّة في هذا الأمر يعني لا يقدرون على تصحيح ذلك و لا يمكنهم ادّعاء برهان بل صرف الضلالة و الهوى منهم.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 36 الى 40]

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

المعنى: لمّا تقدّم ذكر المشركين شرح أحوالهم من البطر عند النعمة و البأس عند الشدّة بقوله:

[وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ الآية، أي إذا آتيناهم نعمة من عافية و صحّة جسم أو سعة رزق أو أمن [فَرِحُوا بِها] و سرّوا بتلك الرحمة [وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ و إن أصابهم قحط و بلاء و عقوبة بذنوبهم الّتي قدّموها و سمّي ذلك «سيّئة» توسّعا لكونه جزاء على السيّئة أو لأنّها تسوء بصاحبها [إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ و ييئسون من رحمة اللّه و قوله: «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» على التغليب فإنّ أظهر العمل و أكثره باليدين.

ثمّ نبّههم سبحانه على معرفته و توحيده فقال: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ] و يوسّعه أو لم يعلموا أنّ الكلّ من اللّه فالمحقّق العارف ينبغي أن لا يكون نظره على ما يوجد بل إلى من يوجد و يكون فرحه بمن وصل من لطفه إليه.

فإن قيل: الفرح بالنعمة و الرحمة مأمور به حيث يقول: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» و هاهنا ذمّهم على الفرح بالرحمة فكيف ذلك؟

فالجواب أنّ هناك فرحوا برحمة اللّه من حيث إنّها مضافة إلى اللّه و هاهنا فرحوا بنفس

ص: 222

الرحمة و النعمة حتّى مثلا لو كان المطر من غير اللّه لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من اللّه مثاله كما أنّ الملك لو وضع عند أمير رغيفا على السماط أو أمر الغلمان بأن يحطّوا عنده زبديّة طعام أو دجاجة مشويّة يفرح ذلك الأمير به و لو أعطى الملك فقيرا غير ملتفت إليه رغيفا أو زبديّة طعام فيفرح الفقير أيضا لكن فرح الأمير بكون ذلك من الملك و فرح الفقير بكون ذلك رغيفا و زبديّة.

و بالجملة فهو الّذي يبسط و يضيّق و يقدر على حسب ما يقتضيه مصالح العباد [إِنَّ فِي ذلِكَ في بسط الرزق لقوم و تضييقه لقوم آخرين [لَآياتٍ و دلالات [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ باللّه.

ثمّ خاطب فقال: [فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ و أعط يا محمّد ذوي قرباك حقوقهم الّتي جعلها اللّه لهم من الأخماس عن مجاهد و الواقديّ و روى أبو سعيد الخدريّ و غيره أنّه نزلت هذه الآية في حقّ فاطمة عليها السّلام و لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطى فاطمة فدكا و سلّمه إليها و هو المرويّ عن الصادق و الباقر عليهما السّلام «وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ» يعني و آت المسكين و المسافر المحتاج ما فرض اللّه لهم من مالك، و قيل: إنّه خطاب له صلّى اللّه عليه و آله و لغيره و المراد قرابة الرجل و هو أمر بصلة الرحم و لكن لمّا قال سبحانه:

«فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» ثمّ عطف المسكين و ابن السبيل ففي الآية دلالة في تعظيم حقّ ذي القربى بالنسبة إلى المسكين و ابن السبيل و لو أنّ العطف اقتضى التشريك كما إذا قال الملك: خلّ فلانا يدخل يكون في التعظيم فوق ما إذا قال: خلّ فلانا و فلانا يدخلان، و إلى هذا أشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: «بئس خطيب القوم أنت» حيث قال الرجل: من أطاع اللّه و رسوله فقد اهتدى و من عصاهما فقد غوى و لم يقل و من عصى اللّه و رسوله انتهى.

قوله تعالى: [ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ يمكن أن يكون معناه ذلك خير من غيره و يمكن أن يكون خير في نفسه فيكون بمعنى الوصفيّة لا الأفضليّة و معنى الثاني أولى لعدم الاحتياج إلى الإضمار و لكونه أكثر فائدة لأنّ الخير من الغير قد يكون نازل الدرجة كما يقال: السكوت خير من الكذب و قوله: «لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ» إشارة إلى أنّ الاعتبار بالقصد لا بنفس الفعل فإنّ من أنفق جميع أمواله رياء الناس لا ينال درجة

ص: 223

من يتصدّق برغيف للّه، يريدون بذلك وجه اللّه يعني رضاه و لا يطلبون بها المكافاة من أحد غير اللّه [أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بالجنّة.

قوله تعالى: [وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ قيل:

في الرباء المذكور في الآية قولان: أحدهما إنّه ربا حلال و هو أن يعطي الرجل العطيّة أو يهدي الهديّة ليثاب و ينتفع أكثر منها فليس فيه أجر و لا وزر، عن ابن عبّاس و طاوس و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و القول الآخر أنّه الربا المحرّم فعلى هذا يكون المعنى «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ» قال الرازيّ: يعني إذا طلب منكم واحدا باثنين ترغبون فيه و تؤتونه و ذلك لا يربو عند اللّه و لكنّ الصدقة تنمو عند اللّه كما أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ الصدقة تقع في يد الرحمن فتربو حتّى تصير مثل الجبل فينبغي أن يكون إقدامكم على الصدقة أكثر.

قوله تعالى: [وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي و ما أعطيتموه أهله على وجه الزكاة تريدون بذلك الإعطاء ثواب اللّه و رضاه و لا تطلبون بها المكافاة و العوض فأهلها هم المضعفون يضاعف لهم الثواب و قيل: المضعفون ذوو الأضعاف في الحسنات. و قيل: معناه هم المضعفون للمال في العاجل و الثواب في الآجل لأنّ اللّه سبحانه جعل الزكاة سببا لزيادة المال؛ في الحديث: إنّ الملك يدعو اللهمّ أعط كلّ منفق خلفا و كلّ ممسك تلفا و منه الحديث: ما نقص مال من صدقة و قال أمير المؤمنين: فرض اللّه تعالى الصلاة تنزيها عن الكبر و الزكاة تسبيبا للرزق و الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق أي لتبيّن إطاعتهم و خلوصهم و صلة الأرحام منماة للعدد.

قوله: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ عاد سبحانه إلى دليل التوحيد أي أنشأكم و أوجدكم [ثُمَّ رَزَقَكُمْ و أعطاكم أنواع النعم [ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد ذلك ليصحّ إيصالكم إلى ما عرّضكم له من الثواب الدائم [ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ليجازيكم على أفعالكم [هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ] أي هل من شركائكم الّتي عبدتموها من دونه تقدر على هذه الأمور فيجوز لذلك توجّه العبادة إليه؟

ص: 224

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن أن يشرك معه في العبادة فقال: [سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ .

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 41 الى 45]

ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)

المعنى: لمّا بيّن أنّ الكفّار يشركون في العبادة غير اللّه أخبر سبحانه أنّ إظهارهم الشرك مورث لظهور الفساد و لو فعل بهم ما يقتضيه قولهم و فعلهم لفسدت السماوات و الأرض كما قال: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» و إلى هذا المعنى أشار بقوله: «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» فذكر ما أصاب الخلق بسبب ترك التوحيد و ارتكاب المعاصي فقال:

[ظَهَرَ الْفَسادُ] أي ظهر قحط المطر و قلّة النبات [فِي الْبَرِّ] حيث لا يجري نهر و البرّ البوادي و أصل البرّ من البرّ لأنّه يبرّ بصلاح المقام فيه و كذلك البرّ لأنّه يبرّ بصلاحه في الغذاء أتمّ صلاح [وَ الْبَحْرِ] و هو كلّ قرية على شاطئ نهر عظيم فعلى هذا المراد: ظهر الفساد في أهل البوادي و أهل الأمصار و ليس المراد «بالبرّ و البحر» في كلّ برّ و بحر في الدنيا و قال الفرّاء: معناه أجدب البرّ و انقطعت مادّة البحر بذنوبهم و شركهم و بما كسبوا من المعاصي و كان ذلك ليذوقوا الشدّة في العاجل و قيل: «البرّ» ظهر الأرض «و البحر» هو المعروف و قيل: فساد البرّ قتل قابيل هابيل و فساد البحر أخذ السفينة غصبا و قيل: ولاة السوء في البرّ و البحر و قيل: فساد البرّ ما يحصل فيه من المخاوف المانعة من سلوكه و يكون ذلك بخذلان اللّه تعالى لأهله و فساد البحر اضطراب أمره و قيل:

البرّ البرّيّة و البحر الرسف و المواضع الخصبة.

قوله: ليصيبهم و [لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي ليرجعوا عنها في

ص: 225

المستقبل أو ليرجع من يأتي بعدهم عن المعاصي إذا سمع ما صنع بمن سلف من آبائهم.

[قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ قل يا محمّد، «سيروا» ليس بأمر و لكنّه مبالغة في العظة أو أمر على سبيل الاستحباب و روي عن ابن عبّاس أنّه قال: من قرأ القرآن و فهمه سار في الأرض لأنّ فيه أخبار الأمم فتدبّروا كيف صنع بهم من قبل من الملوك العاتية و القرون العاصية كيف أهلكهم اللّه و صارت قصورهم قبورهم و محاضرهم مقابرهم.

ثمّ بيّن العلّة أنّه سبحانه فعل بهم لسوء صنيعهم فقال: [كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ و اعلم أنّ العذاب العاجل لم يختصّ بالمشركين حين يقع و قد يكون العذاب بالفسق و المخالفة كما كان على أهل السبت و غيرهم كما قال سبحانه: «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (1) بل كان على الصغار و المجانين و لكنّ الأغلب في عذاب الاستيصال بسبب الشرك.

قوله تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ لمّا نهى الكافر عمّا هو عليه أمر المؤمن بما هو عليه و خاطب النبيّ للتشريف و ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلّف به فإنّ هذا التكليف امر به أشرف الأنبياء كما قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين أي استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنّة [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ أي لا يقدر على ردّه أحد «من اللّه» أي يأتي من اللّه [يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أصله يتصدّعون و يتفرّقون فريق في الجنّة و فريق في السعير.

ثمّ أشار إلى التفرّق بقوله تعالى: [مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي عقوبة كفره عليه لا يعاقب أحد بذنبه [وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي بالعمل الصالح يوطّئون لأنفسهم منازلهم يقال: مهّدت لنفسي خيرا. و هذا توسّع و من أصلح عمله فكأنّه فرش لنفسه في القبر و سوى مضجعه و مثواه.

و روى منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمه فراشه.

ص: 226


1- الأنفال: 25.

قوله: [لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ أي ليجزيهم (متعلّق بيصّدّعون) على قدر استحقاقهم و يزيدهم من فضله و بسبب فضله لأنّه تعالى خلقه و هداه و مكّنه [إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لا يريد كرامتهم جزاء على كفرهم.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 46 الى 50]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (50)

أي و من أفعاله الدالّة على معرفته [أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ كأنّها ناطفات بالبشارة بالخير و المطر و منفعة الزرع و صلاح الأهوية و الأحوال فإنّ الرياح لو لم تهب لظهر الفساد و الوباء و العفونات.

[وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي ليبشّركم بالمطر و هذه المنافع المذكورة و يصيبكم من رحمته بالمطر، و عبّر بالإذاقة لأنّ الإذاقة يقال في القليل و لمّا كان مطلق نعم الدنيا و راحتها بالنسبة إلى نعم الآخرة نزر عبّر سبحانه بالإذاقة [وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ و لمّا أسند الفعل إلى الفلك عقّبه بأمره أي الجري بأمره [وَ لِتَبْتَغُوا] الخير [مِنْ فَضْلِهِ أي ابتغاء الخير لا بدّ و أن يكون من فضله و لا استقلال لشي ء بشي ء [وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعم اللّه.

ثمّ خاطب نبيّه تسلية له فقال: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا] و لم يكن لهم شغل غير شغلك و لم يظهر عليهم غير ما ظهر عليك [فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و أتوا لقومهم دلائل على نبوّتهم فمن كذّبهم أصابهم البوار و من آمن بهم كان لهم الانتصار فكان في قومهم كافر و مؤمن كما في قومك.

[فَانْتَقَمْنا مِنَ الكافرين و نصرنا المؤمنين [وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ و هذه

ص: 227

بشارة للمؤمنين الّذين آمنوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و جاءت الرواية عن امّ الدرداء أنّها قالت:

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّا على اللّه أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة ثمّ قرأ صلّى اللّه عليه و آله «و كان حقّا علينا نصر المؤمنين».

ثمّ قال سبحانه: مفسّرا لما أجمله في الآية المتقدّمة: [اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً] فمن شواهد القدرة أنّه سبحانه يهيّئ و يرسل الرياح فتهيج سحابا فتزعج السحاب و يجعل من الهواء اللطيف الّذي يشقّه البقّ بسبب التموّج يصير بحيث يقلع الشجر بل الجبل و هو ليس بذاته كذلك بل بفعل فاعل مختار و يحصل من هبوب الرياح إثارة السحب و يبسط السحب و يبسط السحب مسيرة يوم و أكثر و يجريها إلى أيّ جهة شاء.

[و يجعل السحاب [كِسَفاً] أي قطعا متفرّقة أو متراكبا بعضه على بعض و تغلظ بحيث تغطّي ضوء الشمس [فَتَرَى الْوَدْقَ أي القطر [يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من خلال السحاب [فَإِذا أَصابَ بِهِ أي بذلك الودق [مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ و يفرحون و يبشّر بعضهم بعضا [وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ يعني و إنّهم كانوا من قبل إنزال المطر عليهم قانطين و آيسين من نزول المطر و التكرار في «من قبله» قيل: للتأكيد و قيل: من قبل إنزال المطر و «من قبله» أي قبل إرسال الريح.

[فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ حتّى أنبتت شجرا و مرعى و صارت الأرض خصبة مريعة [بَعْدَ مَوْتِها] بعد أن كانت يابسة مواتا و جعل سبحانه الجدوبة و اليبس للأرض بمنزلة الموت و ظهور النبات فيها بمنزلة الحياة توسّعا.

[إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] أي و هو اللّه ليحي الموتى في الآخره بعد كونهم رفاتا و أمواتا و إنّما عبّر بقوله تعالى: «لَمُحْيِ الْمَوْتى باللام المؤكّدة و باسم الفاعل لأنّ الإنسان إذا قال: إنّ الملك يعطيك لا يفيد ما يفيد قوله: إنّه معطيك لأنّ قوله: معطيك يفيد أنّه أعطاك و هو متّصف بالعطاء و قوله: يعطيك يفيد أنّه سيتّصف به كما في قوله:

«إِنَّكَ مَيِّتٌ» آكد من قوله: «إنّك تموت» و الغرض تحقيق وقوع الإحياء بعد الإماتة.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 51 الى 55]

وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55)

ص: 228

المعنى: ثمّ عاب كافر النعمة فقال:

[وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً] مؤدّية إلى الهلاك للزرع باردة فرأوا النبت و الزرع الّذي كان من أثر رحمة اللّه [مُصْفَرًّا] من البرد بعد الخضرة و قيل: إنّ «الهاء» يعود إلى السحاب أي فرأوا السحاب مصفرّا لأنّه إذا كان مصفرّا لم يكن فيه مطر [لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ أي لصاروا من بعد أن كانوا مستبشرين [يَكْفُرُونَ باللّه و بنعمته و لم يرضوا بقضاء اللّه.

و سمّى النافعة الرياح و الضارّة الريح لأنّ الرياح النافعة تهبّ في أغلب الأوقات ليلا و نهارا و أكثر أفرادا و الريح الضارّ كالسموم أو أمثاله أقلّ أفرادا و أيضا إنّ النافعة لا يكون إلّا رياحا فإنّ ما يهبّ مرّة واحدة لا يصلح الهواء و لا ينشئ السحاب و لا يجري السفن و أمّا الضارّة تقتل بنفحة واحدة كريح السموم و لذلك قال في المضرّة: ريح و في النافعة: رياح.

ثمّ بعد أن علّم رسول اللّه أنواع الأدلّة و أصناف الأمثلة و وعد و أوعد و لم يزدهم دعاؤه إلّا فرارا و أبوه إلّا كفرا و إصرارا قال له: [فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ شبّههم في ترك تدبّرهم فيما يدعوهم إليه النبيّ تارة بالأموات و تارة بالصمّ لأنّهم لا يسمعون إذا أعرضوا عن أدلّتنا ذاهبين إلى الضلال.

[وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي لا تقدر على ردّهم عن العمى و الكفر إذ لم يطلبوا الاستبصار [إن تسمع إلّا من يصدّق بآياتنا] فإنّهم المنتفعون بدعائك [فَهُمْ منقادون [مُسْلِمُونَ لأمرك.

ثمّ أعاد ذكر الأدلّة فقال: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي من نطف و قيل:

معناه خلقكم أطفالا لا تقدرون على البطش و المشي و التصرّفات [ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً] و شبابا [ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً] يعني حال الشيخوخة و الكبر [يَخْلُقُ ما يَشاءُ] من ضعف و قوّة [وَ هُوَ الْعَلِيمُ بما فيه مصالح خلقه [الْقَدِيرُ] على فعله.

ثمّ بيّن حال البعث فقال: [وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي يحلف المشركون

ص: 229

[ما لَبِثُوا] في القبور [غَيْرَ ساعَةٍ] أو ما لبثوا في الدنيا «غير ساعة» فإن قيل: كيف يحلفون ما مكثوا «غير ساعة» مع أنّ معارفهم في الآخرة ضروريّة؟ لأنّهم استقلّوا الدنيا لما عاينوا من أمر الآخرة و علموا دوامها فكأنّهم قالوا: ما الدنيا في الآخرة إلّا ساعة أو أنّ ذلك القول منهم: قبل أن تصير معارفهم ضروريّة و قبل أن يعرفوا حقيقة الأمر على حسب الكمال و يكمل عقولهم، عن أبي بكر بن الإخشيد.

و للرازيّ بيان لطيف في الآيتين: هذه الآية و ما بعدها و هو أنّ الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل و يزيد تعجيله و الموعود بوعيد إذا ضرب له أجل يستقلّ المدّة و يطلب تأخيرها فالمجرم إذا حشر و علم أنّ النار مصيره يستقلّ المدّة من اللبث و المؤمن إذا حشر علم أنّ مصيره إلي الجنّة فيستكثر المدّة و ذلك قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ» فطال علينا و صبرنا.

[كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي مثل ذلك الكذب كانوا في دار الدنيا يكذبون و يصرفون جهلهم عن الحقّ في الدارين و من استدلّ بهذه الآية على نفي عذاب القبر مردود لأنّه يجوز أنّهم يريدون لم يلبثوا بعد العذاب إلّا ساعة.

قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 56 الى 60]

وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

ثمّ أخبر سبحانه عن الّذين آتاهم اللّه العلم بما نصب لهم من الأدلّة الموجبة للعلم.

القميّ: هذه الآية مقدّمة و مؤخّرة و إنّما هو: «و قال الّذين أوتوا العلم و الإيمان في كتاب اللّه لقد لبثتم إلى يوم البعث» و معناه: [وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ في كتاب اللّه و هم الّذين يعلمون كتاب اللّه [وَ الْإِيمانَ من الأنبياء و الملائكة للمجرمين: [لَقَدْ لَبِثْتُمْ إلى يوم

ص: 230

البعث [فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الّذي كنتم تنكرونه في الدنيا [وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن.

[فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر [مَعْذِرَتُهُمْ فلا يمكّنون من الاعتذار و لو اعتذروا لم يقبل عذرهم [وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب الإعتاب؛ استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته و الرجوع إلى الحقّ و المراد أنّ التوبة و الرجوع لا تفيد و العتب من شأنه أن يزيل آثار الجرم و كذلك التوبة و لكن لا يطلب منهم و لا يقبل.

ثمّ قال: [وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ إشارة إلى إزالة الأعذار و بيان أنّه لم يبق من جانب الرسول تقصير و بالغنا في البيان للمكلّفين في هذا القرآن الّذي أنزلناه على نبيّنا من كلّ مثل يدعوهم إلى التوحيد و الإيمان.

[وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ] أي معجزة باهرة ممّا اقترحوها منك [لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أي أصحاب أباطيل و هذا إخبار عن عناد القوم و تكذيبهم بالآيات [كَذلِكَ أي مثل ما أنّ قلوب هؤلاء مطبوعة [يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ توحيد اللّه و لا يعرفون.

[فَاصْبِرْ] يا محمّد على أذى هؤلاء الكفّار و إصرارهم على كفرهم [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ بالعذاب و التنكيل لأعدائك و النصر و التأييد لك و لدينك [وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ أي و لا يحملنّك كفر هؤلاء على الخفّة و القلق و العجلة لشدّة الغضب عليهم لكفرهم بآياتك.

تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 231

سورة لقمان

اشارة

(مكية سوى ثلاث آيات)

فضلها:

ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة لقمان كان لقمان له رفيقا يوم القيامة و اعطي من الحسنات عشرا بعدد من عمل بالمعروف و عمل بالمنكر.

و روى محمّد بن جبير الغروميّ عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ سورة لقمان في كلّ ليلة وكّل اللّه به في ليلته ثلاثين ملكا يحفظونه من إبليس و جنوده حتّى يصبح و من قرأها بالنهار لم يزالوا يحفظونه من إبليس و جنوده حتّى يمسي.

ص: 232

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة لقمان (31): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)

وجه النصب في «هدى» انتصب عن الاسم المبهم على الحال أي [تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ في حال الهداية و الرحمة و يجوز الرفع على إضمار المبتداء أي هو آياته هدى و رحمة و بيان و نعمة للمطيعين و للّذين يحسنون العمل.

ثمّ وصفهم فقال: المحسنون هم [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ] و غير شاكّين بالبعث و متيقّنين بالآخرة و هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات على سبيل الهداية من ربّهم و مفلحون و ناجون من عذاب اللّه.

ثمّ وصف سبحانه حال من يخالف حاله حال هؤلاء فقال: [وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ نزلت الآية في النضر بن الحارث بن علقمة بن عبد الدار بن قصيّ بن كلاب

ص: 233

كان يتّجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم و يحدّث بها قريشا و يقول لهم: إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد و ثمود و أنا احدّثكم بحديث رستم و إسفنديار و أخبار الأكاسرة فيتوجّهون إلى حديثه و يتركون استماع القرآن.

و قيل: نزلت في رجل اشترى جارية تغنّيه ليلا و نهارا و يؤيّده ما رواه أبو امامة عن النبيّ قال: لا يحلّ تعليم المغنّيات و لا بيعهنّ و أثمانهنّ حرام و قد نزل تصديق ذلك في كتاب اللّه: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي» (1) الآية ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: و الّذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته يتغنّى إلّا ارتدفه شيطانان و يضربان أرجلهما على صدره حتّى يسكت.

و بالجملة فأكثر المفسّرين على أنّ المراد بلهو الحديث الغناء و هو قول ابن عبّاس و ابن مسعود و غيرهما، و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و أبي الحسن الرضا عليه السّلام قالوا:

منه الغنا و روي أيضا عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: هو الطعن في الحقّ و الاستهزاء و ما كان أبو جهل و أصحابه يجيئون به إذ قال: يا معشر قريش ألا أطعمكم من الزقّوم الّذي يخوّفكم به محمّد ثمّ أرسل إلى زبد و تمر فقال: هذا هو الزقّوم الّذي يخوّفكم به فعلى هذا فإنّه يدخل فيه كلّ شي ء يلهي عن سبيل اللّه و عن طاعته من الأباطيل و المزامير و الملاهي و المعازف و يدخل فيه السخريّة بالقرآن و اللّغو فيه و الترّهات و البسابس على ما قاله عطاء و كلّ لهو و لعب على ما قاله قتادة و الأحاديث الكاذبة و الأساطير الملهية عن القرآن على ما قاله الكلبيّ و روى الواحديّ بالإسناد عن نافع عن ابن عمر أنّه سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» قال: باللّعب و الباطل كثير النفقة سمح فيه و لا تطيب نفسه بدرهم يتصدّق به و روى أيضا بالإسناد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة قيل: و ما الروحانيّون يا رسول اللّه؟ قال: قرّاء أهل الجنّة انتهى.

قوله: [لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ليضلّ غيره و من أضلّ غيره فقد ضلّ هو قال ابن عبّاس: سبيل اللّه قراءة القرآن و ذكر اللّه [وَ يَتَّخِذَها هُزُواً] أي يتّخذ آيات القرآن

ص: 234


1- البقرة: 207.

و سبيل اللّه هزؤا يستهزئ بها [أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مذلّ يهينهم اللّه به.

[وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا] و قرئ القرآن عليه [وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها] أي أعرض عن سماعه إعراض من لا يسمعه و هو سامع رافعا نفسه فوق مقدارها [كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً] كأن في مسامعه ثقلا يمنعه عن سماع تلك الآيات [فَبَشِّرْهُ يا محمّد [بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم موجع في القيامة فأعلمه بأنّ العذاب المفرط في الإيلام لا حق به لا محالة، و التعبير بالبشارة للتهكّم.

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لحال المؤمنين إثر بيان حال الكافرين بالآيات أي «الَّذِينَ آمَنُوا» و صدّقوا بآياته «و عملوا» بموجبها [لَهُمْ بمقابلة إيمانهم و أعمالهم [جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي جنان ذات نعمة أو المعنى «نعيم جنّات» فعكس للمبالغة و توحيد العذاب و جمع الجنّات إشارة إلى أنّ الرحمة و الرحمة واسعة أكثر من الغضب و أيضا تنكير العذاب و تعريف الجنّة بالإضافة إلى المعرّف إشارة إلى أنّ الرحيم عرّف النعمة إيصالا للراحة إلى القلب و ما بيّن النقمة بل نبّه عليها تنبيها.

و أكّد الوعد بقوله: [خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا] أي وعد وعدا حقّا لا خلف فيه [وَ هُوَ الْعَزِيزُ] الغالب في انتقامه [الْحَكِيمُ في جميع أفعاله و أحكامه و لا يفعل إلّا ما يقتضيه الحكمة.

ثمّ قال: [خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها] إذ لو كان لها عمد لرأيتموها لأنّها لو كانت كانت أجساما حتّى تصحّ منها أن تقلّ السماوات و لو كانت كذلك لاحتاجت إلى عمد آخر فكان يتسلسل فإذا لا عمد لها.

و قيل: إنّ المراد: بغير عمد مرئيّة و المعنى أنّ لها عمدا لا ترونها، و الصحيح الأوّل.

و اعلم أنّ أكثر علماء الإسلام يقولون: إنّ السماوات مبسوطة كصحيفة مستوية و المهندسون و الغزاليّ قالوا: مستديرة و قالوا: يؤيّد قولنا: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»* و الفلك اسم لشي ء مستدير و على الاختلاف سواء كانت مستديرة أو مصحفة فهي مخلوقة بقدرة اللّه لا موجودة بإيجاب و طبع لأنّ السماء في فضاء و كون السماء في بعض الفضاء

ص: 235

دون بعض ليس إلّا بقدرة مختار متصرّف.

قوله تعالى: [وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي جعل فيها جبالا ثابتة راسخة كراهية أن تتحرّك و تزول عن موضعها بسبب المياه و الرياح و لو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما ترى الأراضي الرملة ينتقل الرمل الّذي فيها من موضع إلى موضع [وَ بَثَّ فِيها] و فرّق في الأرض [مِنْ كُلِّ دابَّةٍ] تدبّ و تتحرّك على وجهها من أنواع الحيوانات [وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً] أي غيثا و مطرا [فَأَنْبَتْنا فِيها] في الأرض بذلك الماء [مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي من كلّ صنف حسن البنية طيّب الثمرة فسكون الأرض فيه مصلحة و كذلك حركة الدوابّ فأسكنّا الأرض و حرّكنا الدوابّ و لو كانت الأرض متحرّكة و متزلزلة لكانت الدابّة الّتي لا تعيش في موضوع تقع ذلك الموضع فيكون فيه هلاكها، أمّا إذا ا كانت الأرض ساكنة و الحيوانات متحرّكة تتحرّك في المواضع الّتي تناسبها و ترعى فيها و تعيش.

و العدول من المغايبة إلى النفس بقوله: «وَ أَنْزَلْنا» فيه فصاحة لصنعة الالتفات لأن السامع إذا سمع كلاما طويلا من نمط واحد ثمّ ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنّك إذا قلت: قال زيد كذا و كذا و قال خالد كذا و كذا و قال عمر كذا و كذا ثمّ إنّ بكرا قال قولا حسنا يستطاب لما قد تكرّر القول مرارا.

[هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني اللّه خالق و غيره ليس بخالق فكيف تتركون عبادة الخالق و تشتغلون بعبادة المخلوق؟

ثمّ قال: [بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ المعنى إنّ العادلين و الظالمين لا يجدون لهذا الكلام جوابا و لا يمكنهم أن يشيروا إلى خالق غيره و هم في ضلالة و قد وضعوا الشي ء في غير موضعه.

قوله تعالى: [سورة لقمان (31): الآيات 12 الى 15]

وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

ص: 236

و لمّا ذكر سبحانه الأدلّة الدالّة على قدرته و حكمته بيّن قصّة لقمان و ما آتاه من الحكمة فقال:

[وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ] أي أعطيناه العقل و إصابة الأمور و اختلف فيه فقيل: إنّه كان حكيما و لم يكن نبيّا عن ابن عبّاس و جماعة من المفسّرين و قال عكرمة و السدّيّ و الشعبيّ: إنّه كان نبيّا و فسّروا الحكمة هنا بالنبوّة و قيل: إنّه كان عبدا حبشيّا أسود غليظ المشافر في زمن داود عليه السّلام و قال: له بعض الناس: أ لست كنت ترعي معنا فقال: نعم قال: فمن أين أوتيت ما أري قال: قدر اللّه و أداء الأمانة و صدق الحديث و الصمت عمّا لا يعنيني و قيل: إنّه كان ابن اخت أيّوب و قيل: كان ابن خالة أيّوب.

و روى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللّه يقول: حقّا أقول لم يكن لقمان نبيّا و لكن كان عبدا كثير التفكّر حسن التدبّر و حسن اليقين أحبّ اللّه فأحبّه و منّ عليه بالحكمة كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك اللّه خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحقّ فأجاب الصوت إن خيّرني ربّي قبلت العافية و لم أقبل البلاء و إن عزم عليّ سمعا و طاعة فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني فقالت الملائكة: بصوت لا يريهم لم يا لقمان؟ قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل و أكدّها يغشاه الظلم من كلّ إن وقى فبالحري أن ينجو و إن أخطأ أخطأ طريق الجنّة و من يكن في الدنيا ذليلا و في الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا و في الآخرة ذليلا و من يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة فتعجّب الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلّم بها ثمّ كان يوازر داود بحكمته فقال له داود عليه السّلام: طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة و صرفت عنك البلوى.

قوله: [أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي قلنا له: أن أشكر للّه على ما أعطاك من الحكمة القمّي عن الصادق عليه السّلام إنه سئل عن لقمان و حكمته الّتي ذكرها اللّه عزّ و جلّ فقال: أما و اللّه ما اوتي لقمان الحكمة بحسب و لا حال و لا أهل و لا بسط في جسم و لا جمال و لكنّه كان

ص: 237

رجلا قويّا في أمر اللّه متورّعا في اللّه ساكتا عميق النظر طويل الفكر مستغن عن الغير لم ينم ليلا قطّ و لا اغتسال لشدّة تستّره و تحفّظه في أمره و لم يضحك في شي ء مخافة الإثم و لم يغضب قطّ و لم يمازح إنسانا قطّ و لم يفرح بشي ء إن أتاه من أمر الدنيا و لا حزن منها على شي ء قطّ و قد نكح من النساء و ولد له الأولاد الكثير و قدّم أكثرهم- أي مات- إفراطا فما بكى على موت أحد منهم و لم يمرّ برجلين يختصمان و يقتتلان إلّا أصلح بينهما و لم يمض عنهما حتّى تحابّا و لم يسمع قولا من أحد استحسنه إلّا سأل عن تفسيره و عمّن أخذه فكان يكثر مجالسة الفقهاء و الحكماء و كان يعشي القضاة و الملوك و السلاطين فيرثى القضاة فيما ابتلوا به و يرحب الملوك و السلاطين لعزّتهم باللّه و طمأنيتهم في ذلك و يعتبر و يتعلّم ما يغلب به نفسه و يجاهد هواه و يحترز به من الشيطان و يداوي قلبه بالتفكّر و العبر فبذلك اوتي الحكمة و منح العصمة فغشي بالحكمة من قرنه إلى قدمه.

قوله تعالى: [وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ بيّن سبحانه أنّ الشكر لا ينتفع به إلّا الشاكر و بيّن أنّ بالكفران لا يتضرّر غير الكافر فقال: [وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] أي اللّه غير محتاج إلى شكر و هو سبحانه في ذاته محمود سواء شكروه الناس أو لم يشكروا.

قوله تعالى: [وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ اذكر إذ قال لقمان لابنه [وَ هُوَ يَعِظُهُ و يؤدّبه و يذكّره: [يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ و لا تعدل باللّه شيئا في العبادة [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ و أصل معنى الظلم النقصان و منع الواجب فمن أشرك باللّه فقد منع ما وجب للّه عليه من معرفة التوحيد و أوبق و ظلم نفسه ظلما عظيما.

[وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ لمّا منعه من العبادة لغير اللّه و الخدمة قريبة من العبوديّة بحسب الصورة بين أنّها غير ممتنعة بل هي واجبة لغير اللّه في بعض الصور مثل خدمة الأبوين.

ثمّ بيّن السبب فقال: [حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً] يعني للّه على العبيد نعمة الإيجاد أبتداء بالخلق و نعمة الإبقاء بالرزق و جعل بحكمة للامّ ماله صورة ذلك و إن لم يكن لها في الحقيقة فإنّ الحمل به يظهر الوجود و بالرضاع يحصل البقاء فقال: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ» أي

ص: 238

صارت بقدرة اللّه سبب وجوده [وَهْناً عَلى وَهْنٍ يعني ضعفا على ضعف؛ ضعف نطفة الوالد على ضعف نطفة الأمّ و قيل: لإنّ الحمل يؤثّر فيها فكلّما ازداد الحمل ازدادت ضعفا على ضعف. و قيل: لأنّها ضعيفة الخلقة فازدادت ضعفا بالحمل و شدّة على شدّة و جهد على جهدا.

[وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي و فطامه من الرضاع في انقضاء عامين لأنّ «العامين» كلّه مدّة الرضاع و المراد أنّها بعد ما تلده ترضعه عامين و تربّيه فتلحقها المشقّة بعد المشقّة بذلك فإذا كان منها ماله صورة الوجود و البقاء وجب عليه الخدمة فإنّ الخدمة لها صورة العبادة في الجملة فوصّى اللّه بالوالدين و ذكر السبب في حقّ الأمّ و خصّ الأمّ بالذكر و في الأب ما وجد في الأمّ فإنّ الأب حمله في صلبه و ربّاه بكسبه سنين فهو أبلغ.

و قوله: [أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ هذا تفسير قوله: «وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ» أي وصّيناه بشكرنا و شكر والديه فشكر اللّه الحمد و الطاعة و شكر الوالدين بالبرّ و الصلة.

ثمّ بيّن الفرق و قال: [إِلَيَّ الْمَصِيرُ] يعني نعمتهما مختصّة بالدنيا و نعمتي في الدنيا و الآخرة فإنّه «إِلَيَّ الْمَصِيرُ» و الجزاء وقت المصير إليّ.

ثمّ قال: [وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً] أي إنّ خدمتهما واجبة لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة اللّه أمّا إذا أفضى إلى الشرك و معصية اللّه فلا.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام في حديث و أمر سبحانه بالشكر له و للوالدين فمن لم يشكر والديه لم يشكر اللّه.

و عن الرضا عليه السّلام قال: من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر اللّه عزّ و جلّ.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام إنّ رجلا أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال يا رسول اللّه: أوصني فقال: لا نشرك باللّه شيئا و إن حرّقت بالنار و عذبت إلّا و قلبك مطمئنّ بالإيمان و والديك فأطعمها و برّهما حيّين كانا أو ميّتين و إن أمراك أن تخرج من أهلك و مالك فافعل فإنّ ذلك من الإيمان و عنه عليه السّلام جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه من أبّر؟ قال:

امّك قال: ثمّ من؟ قال: امّك قال: ثمّ من قال: امّك قال: ثمّ من؟ قال: أباك.

ص: 239

و عن الرضا عليه السّلام قيل له: أ أدعو لوالديّ إن كانا لا يعرفان الحقّ؟ قال: ادع لهما و تصدّق عنهما و إن كانا حيّين لا يعرفان الحقّ فدارهما فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه بعثني بالرحمة لا بالعقوق.

و في العيون عنه عليه السّلام و برّ الوالدين واجب و إن كانا مشركين و لا طاعة لهما في معصية الخالق و لا لغيرهما فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

و في مصباح الشريعة قال الصادق عليه السّلام: برّ الوالدين من حسن معرفة العبد باللّه إذ لا عبادة أسرع بلوغا بصاحبها إلى رضاء اللّه من حرمة الوالدين المسلمين لوجه اللّه تعالى لأنّ حقّ الوالدين مشتقّ من حقّ اللّه إذا كانا على منهاج الدين و السنّة بشرط أن لا يمنعان الولد من طاعة اللّه إلى معصية و من اليقين إلى الشكّ و من الزهد إلى الدنيا و لا يدعوانه إلى خلاف ذلك فإذا كانا كذلك فمعصيتهما طاعة و طاعتهما معصية قال اللّه: «وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» و أمّا في باب العشرة و المرافقة فدارهما و احتمل أذاهما نحو ما احتملا عنك في حال صغرك و لا تضيق عليهما بما قد وسع اللّه عليك في المأكول و الملبوس و لا تحول بوجهك عنهما و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما فإنّ تعظيمها من اللّه و قل لهما بأحسن القول و ألطفه فإنّ اللّه لا يضيع أجر المحسنين.

[وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ أي و اسلك طريقة من رجع إلى طاعتي و اقبل [إِلَيَ بقلبه و هو النبيّ و المؤمنون فإنّه مربّي عقلك كما أنّ الوالدين مربّي جسمك.

ثمّ قال سبحانه: [ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي إلى حكمي مرجعكم و منقلبكم [فَأُنَبِّئُكُمْ و أخبركم [بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الأعمال في الدنيا و اجازيكم عليها بحسبها.

فصل: في ذكر نبذة من حكم لقمان: ذكر في التفسير أنّ مولاه دعاه فقال: له اذبح لي شاة و ائتني بأطيب مضغتين منها فذبح شاة فأتاه بالقلب و اللسان فسأله عن ذلك فقال: إنّهما أطيب شي ء إذا طابا و أخبث شي ء إذا خبثا (1).

و قيل: إنّ مولاه دخل المخرج فأطال الجلوس فيها فناداه لقمان إنّ طول الجلوس على الحاجة يفجع فيه الكبد و يورث منه الباسور و يصعد الحرارة إلى الرأس فاجلس هونا

ص: 240


1- في الرواية سقط و تمامه في البحار.

و قم هونا قال: فكتب حكمته على باب الحشّ (1).

قال عبد اللّه بن دينار: قدم لقمان من سفر فلقى غلامه في الطريق فقال: ما فعل أبي؟ قال:

مات قال لقمان: ملكت أمري قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت قال: جدّد فراشي قال: ما فعلت اختي؟ قال: ماتت قال قد سترت عورتي قال: ما فعل أخي؟ قال: مات قال: انقطع ظهري.

و قيل للقمان: أيّ الناس شرّ قال: الّذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا.

و قيل له: ما أقبح وجهك! قال: تعيب على النقش أو على فاعل النقش؟

و قيل: إنّه دخل على داود و هو يسرد الدرع و قد ليّن اللّه له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت فلمّا أتمّها لبسها و قال: نعم لبوس الحرب أنت و قال:

الصمت خير و قليل فاعله.

و في كتاب فقيه من لا يحضر قال لقمان لابنه: يا بنيّ إنّ الدنيا بحر عميق و قد هلك فيها عالم كثير فاجعل سفينتك فيها الإيمان باللّه و اجعل شراعها التوكّل و زادك تقوى اللّه فإن نجوت فبرحمة اللّه و إن هلكت فبذنوبك.

و روى سليمان بن داود المنقريّ عن حمّاد بن عيسى عن الصادق عليه السّلام قال: في وصيّة لقمان لابنه: يا بنيّ سافر بسيفك و خفّك و عمامتك و خبائك و سقائك و خيوطك و تزوّد معك من الأدوية ما تنتفع به أنت و من معك و كن لأصحابك مرافقا إلّا في معصية اللّه يا بنيّ إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك و اكثر التبسّم في وجوههم و كن كريما على زادك بينهم فإذا دعوك فأجبهم و إذا استعانوا بك فأعنهم، و استعمل طول الصمت، و كثرة الصلاة، و سخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد، و إذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم، و اجهد رأيك لهم إذا استشارك ثمّ لا تعزم حتّى تنتظر، و لا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها و تقعد و تنام و تصلّي و أنت مستعمل فكرتك في مشورته فإن من لم يمحّض النصيحة لمن استشاره سلبه اللّه رأيه، و إذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم و إذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم و اسمع لمن هو أكبر منك سنّا، و إذا أمروك بأمر و سألوك شيئا فقل: نعم، و لا؛ تقل، لا فإنّ «لا» عيّ و لوم، و إذا تحيّرتم في الطريق فانزلوا، و إذا شككتم في المقصد فقفوا

ص: 241


1- محل قضاء الحاجة.

تؤامروا، و إذا رأيتم شخصا واجدا فلا تسألوه عن طريقكم و لا تسترشدوه فإنّ الشخص الواحد في الفلاة مريب لعلّه يكون من اللصوص أو يكون هو الشيطان الّذي حيّركم، و احذروا الشخصين أيضا إلّا أن ترون ما لا أرى؛ فإنّ العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحقّ، و الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، يا بنيّ إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشي ء صلّها و استرح فإنّها دين و صلّ في جماعة و لو على رأس زجّ و لا تنامنّ على دابّتك فإنّ ذلك سريع في دبرها، و ليس ذلك من فعل الحكماء إلّا أن تكون في محمل يمكنك التمدّد لاسترخاء المفاصل فإذا قربت من المنزل فانزل عن دابّتك و ابدأ بعلفها قبل نفسك فإنّها تقيك، و إذا أردتم النزول فعليكم في بقاع الأرض بأحسنها لونا و ألينها تربة و أكثرها عشبا، و إذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس، و إذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض، و إذا ارتحلت فصلّ ركعتين ثمّ ودّع الأرض الّتي حللت بها و سلّم على أهلها فإنّ لكلّ بقعة من الأرض أهلا من الملائكة، و إن استطعت أن لا تأكل طعاما حتّى تبتدئ فتصدّق منه فافعل و عليك بقراءة كتاب اللّه مادمت راكبا و عليك بالتسبيح ما دمت عاملا عملا، و عليك بالدعاء مادمت راكبا، و إيّاك أن تسير في أوّل الليل إلى آخره، و إيّاك أن ترفع الصوت في مسيرك.

قوله تعالى: [سورة لقمان (31): الآيات 16 الى 20]

يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)

المعنى: و لأجل أن لا يتوهّم ابنه أنّ ما يفعله في الخفية يخفى على اللّه قال:

[يا بُنَيَّ إِنَّها] أي الحسنة و السيّئة إن كانت في الصغر مثل خردلة و تكون مع ذلك الصغر في موضع حريز كالصخرة لا يخفى على اللّه، و قرئ «مثقال» بالرفع و قد ألحق علامة

ص: 242

التأنيث في الفعل فباعتبار الحسنة و السيّئة أي إن كانت الحسنة مثقال خردلة يعلمها اللّه كقوله: «فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» (1).

و يروى أنّ ابن لقمان سأل أباه أ رأيت الحبّة تكون في قعر البحر أ يعلمها اللّه؟

فقال لقمان: «إنّها» أي الّتي سألتني عنها [إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ] أي جبل أو صخرة عظيمة [أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ذكر السماوات و الأرض بعد ذكر الصخرة و إن كان لا بدّ و أن تكون الصخرة في الأرض على وجه التأكيد كما قال: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» ثمّ قال: «خَلَقَ الْإِنْسانَ» (2).

و قيل: هذه الصخرة ليست في الأرض و هي تحت سبع أرضين و القائل السدّيّ قال:

إنّها صخرة عظيمة عليها الثور و هي لا في الأرض و لا في السماء و قيل: في الآية تقديم الخاصّ و تأخير العامّ و مثل هذا التقسيم جائز أو المراد أنّه خفاء الشي ء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصغر فقوله: «مِثْقالَ حَبَّةٍ» إشارة إلى الصغر و منها أن يكون من وراء حجاب فقوله: «فِي صَخْرَةٍ» إشارة إلى هذا المعنى و منها أن يكون الخفاء بسبب البعد فقوله: «أَوْ فِي السَّماواتِ» إشارة إلى أبعد البعاد و منها أن يكون خفاؤه بسبب الظلمة فقوله: «أَوْ فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى الظلمات فإنّ جوف الأرض أظلم الأماكن.

و قوله: [يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أبلغ من «يعلمها اللّه» لأنّه يدلّ على العلم و القدرة.

[إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] أي نافذ الحكم و القدرة عالم ببواطن الأمور.

[يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ] لمّا منع و حذّر ابنه من الشرك و خوّفه بعلم اللّه بالخفيّات أمره بإظهار التوحيد و هو الصلاة و العبادة لوجه اللّه مخلصا و بهذا يعلم أنّ الصلاة كانت في الملل السابقة غير أنّ هيئتها اختلفت «وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ» أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة اللّه فكمّل غيرك فإنّ شغل الأنبياء و ورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم و يكمّلوا غيرهم.

ص: 243


1- الانعام: 160.
2- العلق: 1- 2.

ثمّ قال: [وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ لأنّ من يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر يؤذى فأمره بالصبر على مكارهه.

و إذا بغى باغ عليك بجهله فاقبله بالمعروف لا بالمنكر

[إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] المعزومة الواجبة و يكون المصدر بمعنى المفعول كما تقول: أكلي خبز أي مأكولي خبز.

قوله تعالى: [وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ] ثمّ نهاه عن التكبّر على الناس و الخيلاء، و لا تكن مفتخرا عليهم. و أصل الصعر داء يأخذ الإبل في رؤوسها و أعناقها و تلوي عنقها بسبب ذلك الداء و حاصل المعنى أنّه لا تمل وجهك من الناس تكبّرا و لا تمش بطريق البطر و الخيلاء إنّ اللّه لا يحبّ كلّ متكبّر فخور على الناس.

[وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ] أي و اجعل في مشيك قصدا مستويا على وجه السكون و الوقار و التواضع و لا تختال فيه بل امش بطريق التوسّط لا بطريق المتكبّرين و لا بطريق المتماوت الّذي يري من نفسه الضعف تزهّدا.

«وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ» و لمّا كان الإنسان محتاجا في أموره كما أنّ الحيوانات كذلك محتاجة في أمورها بالمشي فأقدر اللّه للإنسان المشي و قد تكون يعجز عن إدراك مطلوبه فيحصل له ذلك المطلوب بالصوت و النداء كما أنّ الحيوانات تشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت كالغنم تطلب السخلة و البقر العجل و الناقة الفصيل بالثغاء و الخوار و الرغاء فإذا كان المشي و الصوت مفضيين إلى مقصود واحد فلمّا أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر فقال: «وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ» إشارة إلى التوسّط في الأفعال و الأقوال.

ثمّ قال: «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» لأنّ رفع الصوت يؤذي السامع و يقرع الصماخ بقوّة و آلة السمع على باب القلب و المعنى أنّ أنكر أصوات الحيوانات لصوت الحمير و إلّا فمسّ المنشار بالمبرد و حتّ النحاس بالحديد أشدّ تنفيرا، و «أنكر» أفعل التفضيل من باب أطوع له و أشدّ من أمثاله لأنّ أفعل ليس في باب العيوب و الألوان إلّا ما شذّ. و بالجملة فأقبح الأصوات صوت الحمير أوّله زفير و آخره شهيق.

ص: 244

و قيل: المعنى أراد صوت الحمير من الناس و هم الجهّال شبّههم بالحمير كما شبّههم بالأنعام و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: هي العطسة المرتفعة القبيحة و الرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا إلّا أن يكون داعيا و يقرء القرآن.

ثمّ نبّههم سبحانه نعمه على خلقه للمعرفة بوحدانيّة فقال: [أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من الشمس و القمر و النجوم و غيرها [وَ ما فِي الْأَرْضِ من الحيوان و النبات و غير ذلك ممّا تنتفعون و تتصرّفون فيه.

[وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ و أوسع لكم و أتمّ عليكم [نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً] فالظاهرة ما لا يمكنكم جحده من خلقكم و إحيائكم و إقداركم على أموركم و خلق الشهوة فيكم و غيرها من ضروب النعم و الباطنة ما لا يعرفها إلّا من أمعن النظر و تدبّر فيها.

و قيل: الباطنة مصالح الدين و الدنيا ممّا يعلمه اللّه و غاب عن العباد علمه.

و في رواية عن ابن عبّاس قال: سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا ابن عبّاس أمّا ما ظهر فالإسلام و ما سوّى اللّه خلقك و أفاض عليك من الرزق و أمّا ما بطن فستر مساوي عملك و لم يفضحك به يا ابن عبّاس إنّ اللّه تعالى يقول: ثلاثة جعلتهنّ للمؤمن و لم تكن له الأولى صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله و الثانية جعلت له ثلث ما له اكفّر به عنه خطاياه و الثالثة سترت مساوي عمله و لم أفضحه بشي ء منه و لو أبديتها لنبذه أهله.

و قيل: الظاهرة تخفيف الشرائع و الباطنة الشفاعة، عن عطا. و قيل: الظاهرة نعم الدنيا و الباطنة نعم الآخرة. و قيل: الظاهرة نعم الجوارح و الباطنة نعم القلب.

و قيل: الظاهرة ظهور الإسلام و الباطنة الإمداد بالملائكة. و قيل: الظاهرة حسن الصورة و امتداد القامة و تسوية الأعضاء و الباطنة المعرفة. و قيل: الظاهرة القرآن و الباطنة تأويله و معانيه و قال الباقر عليه السّلام: النعمة الظاهرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به من معرفة اللّه عزّ و جلّ و أمّا النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت و عقد مودّتنا و يجوز حمل الآية على كلّها لأنّ جميعها نعم اللّه.

و في الأمالي عن الباقر عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: قل: ما أوّل نعمة أنعمك اللّه بها؟ قال: قد خلقني و لم أك شيئا مذكورا قال صلّى اللّه عليه و آله: صدقت فما الثانية؟ قال:

ص: 245

أن أحسن إليّ إذ خلقني فجعلني حيّا لا مواتا قال: صدقت فما الثالثة؟ قال: أنشأني في أحسن صورة و أعدل تركيب قال: صدقت فما الرابعة؟ قال: أن جعلني متفكّرا واعيا لا ساهيا قال: صدقت فما الخامسة؟ قال: أن هداني اللّه لدينه و لم يضلّني عن سبيله قال:

صدقت فما السادسة؟ قال: أن جعل لي مردّا في حياة لا انقطاع لها قال: صدقت فما السابعة؟

قال: أن جعلني مالكا لا مملوكا قال: فما الثامنة؟ قال: أن سخّرلي سماءه و أرضه و ما فيهما و ما بينهما من خلقه قال: صدقت فما التاسعة؟ قال: جعلنا ذكرانا قوّاما على حلائلنا لا إناثا قال: صدقت فما بعدها؟ قال: كثرت نعم اللّه يا رسول اللّه فطابت «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» فتبسّم رسول اللّه و قال: ليهنّئك الحكمة و العلم يا أبا الحسن فأنت وارث علمي و المبيّن لأمّتي ما اختلفت فيه من بعدي، الحديث.

قوله: [وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ أي يخاصم [فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بما يقوله [وَ لا هُدىً أي و لا دلالة و حجّة [وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ] يكون من عند اللّه واضح، فالعلم تدخل فيه الأشياء الواضحة الّتي تعلم و الهداية يدخل فيها الّذي يكون في كتاب من اللّه. و حاصل المعنى أنّ المجادل الجاهل يجادل لا بعلم آتيناه من لدنّا كشفا و لا بهدى أرسلناه إليه وحيا و لا بكتاب يتلى عليه وعظا.

و وصف الكتاب «بالمنير» لأنّ المجادل قد يجادل عن كتاب و لكن يحرّفه أو الكتاب محرّف كالتوراة كما أنّ المجوس و النصارى يقولون بالتثنية و التثليث عن كتابهم و هو محرّف و غلط فذلك الكتاب غير منير بل مظلم.

قوله تعالى: [سورة لقمان (31): الآيات 21 الى 25]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25)

بيّن سبحانه أنّ مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القبح فإنّ النبيّ

ص: 246

صلّى اللّه عليه و آله يدعوهم إلى العلم و كتاب اللّه و هم يأخذون بكلام آبائهم و [قالُوا] نترك القول النازل من اللّه و [نَتَّبِعُ ما قال آباؤنا [أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ استفهام على سبيل التعجّب في الإنكار و أدخل على واو العطف همزة الاستفهام على وجه الإنكار، و جواب «لو» محذوف تقديره: هل لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير المشتعل لاتّبعوهم و الشيطان يدعوهم إلى تقليد آبائهم و ترك اتّباع ما جاءت به الرسل و ذلك موجب لهم عذاب النار فهو في الحقيقة يدعوهم إلى النار.

ثمّ قال: [وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ و يخلص دينه للّه و يقصد في أفعاله التقرّب إليه [وَ هُوَ مُحْسِنٌ فيها و يفعلها على موجب العلم و الكتاب و الشرع و الانقياد إلى أمر اللّه هو الإسلام و التسليم و ذلك يوجب العلم و العمل [فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التوحيد و ولاية عليّ عليه السّلام، فقد تعلّق بالوثيقة المحكمة الّتي لا يخشى انفصامها، و الوثقى تأنيث الأوثق [وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ] يعني و عند اللّه ثواب ما صنع.

[وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ لمّا بيّن حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر أي لا تحزن إذا كفر كافر و لا يغمّك يا محمّد ذلك [إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا] و نخبرهم بأعمالهم و نجازيهم بسوء أفعالهم [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] و بمخفيّات الأمور و ما يضمره الصدور [نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا] أي نعطيهم من متاع الدنيا و نعيمها ما يتمتّعون به مدّة قليلة [ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ] نصيّرهم مكرهين إلى عذاب يغلظ عليهم و يصعب و حاصل المعنى أنّ بقاءهم في نعيم الدنيا قليل ثمّ وبال كفرهم و تكذيبهم بأن نسلّط عليهم أغلظ عذاب حتّى يدخلوا بأنفسهم عذابا غليظا فيضطرّون إلى عذاب النار فرارا من العذاب الأغلظ و من الملائكة الغلاظ الشداد الّذين يعذّبونهم بمقامع من نار.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بيّن أنّهم معترفون بأنّ اللّه خالق السماوات و الأرض غير منكرين له فهذا الإقرار يوجب أن يكون الحمد كلّه له لأنّه خالقهما و يحتاج أنّ كلّ ما في السماوات و الأرض أن يعبده و يلزم أن لا يعبد غيره و مع ذلك يشركون غيره معه في العبادة.

[بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ هذا و لا يتعقّلون و ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك

ص: 247

مع أنّهم معترفون بأنّ اللّه خالقهما و هذا الاعتراف تكذيب أنفسهم و تصديقك و مع ذلك لا يعلمون.

[سورة لقمان (31): الآيات 26 الى 30]

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)

ثمّ أكّد بيان خالقيّته و مالكيّته بقوله: [لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأنّ ما فيهما لمن خلقهما لأنّ من يملك أرضا فكلّ ما حصل من تلك الأرض لصاحب الأرض و هو مالكه فكذلك كلّ ما في السماوات و الأرض و حاصل فيهما و منهما فهو لمالك السماوات و الأرض فتحقّق أنّ العبوديّة له خاصّة.

قوله: [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] أي غير محتاج إلى الحمد و لا ينتفع بحمد الحامدين لكن للحامد منافع، و حميد أي شكور لأنّه يقضي حوائجكم و مصالحكم، و هو حميد أي محمود.

لمّا قال اللّه سبحانه «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و كان ذلك موهما لتناهي ملكه لانحصار ما في السّماوات و ما في الأرض بيّن أنّ ما في قدرته و علمه عجائب لا نهاية لها فقال:

[وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ و يكتب بها و الأبحر مدادا لا تفنى عجائب صنع اللّه و قدرته فالكلمة مفسّرة بالعجيبة لأنّ العجائب بقوله: «كن» كلمة فإطلاق اسم السبب على المسبّب شائع يقول الشجاع لمن يبارزه: أنا موتك، و يقال للدواء في حقّ المريض: هذا شفاؤك. و دليل صحّة هذا هو أنّ اللّه سمّى المسيح «كلمة» لأنّه كان أمرا عجيبا و صنعا غريبا.

النزول: قيل: إنّ الآية نزلت في واحد قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك تقول: «وَ ما

ص: 248

أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» و تقول: «وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» فنزلت الآية دالّة على أنّه خير كثير بالنسبة إلى العباد و أمّا بالنسبة إلى اللّه و علومه قليل و قيل: واردة في اليهود حيث قالوا: اللّه ذكر كلّ شي ء في التوراة و لم يبق شي ء لم يذكره فقال: سبحانه: الّذي في التوراة بالنسبة إلى كلمات اللّه ليس إلّا قطرة من بحار و أنزل هذه الآية.

و لا تنافي بين التفسير الّذي فسّرنا في صدر الآية مع النزول لأنّ الحاصل من الكلّ أن عجائب صنع اللّه لا نهاية لها. و وحّد الشجرة و جمع الأقلام إشارة إلى التكثير يعني و لو أن بعدد كلّ شجرة أقلاما و تعريف البحر «باللام» لاستغراق الجنس و كلّ بحر مداد ثمّ قوله: [يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ] إشارة إلى بحار غير موجودة يعني لو مدّت البحار الموجودة مع سبعة أبحر أخر، و قوله: «سبعة» ليس لانحصارها في سبعة و إنّما الغرض الكثرة و لو بألف بحر و السبعة خصّصت بالذكر من بين الأعداد لأنّها تستعمل في عدد كثير في حصر المعدودات بحسب العادة فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كلّ كثير.

قال قتادة: معنى الآية لو كان شجر الأرض أقلاما و مع البحر سبعة أبحر مدادا إذا لانكسرت الأقلام و نفد ماء البحر قبل أن تنفد عجائب اللّه و خلقه و علمه.

[إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غالب في اقتداره على جميع ذلك، حكيم يفعل من ذلك ما يليق بحكمته.

ثمّ قال سبحانه: [ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ يا معشر الخلائق [إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ] أي كخلق نفس واحدة في قدرته و لا يشقّ عليه ابتداء جميع الخلق و لا إعادتهم بعد إفنائهم.

قيل في النزول: إنّ كفّار قريش قالوا: إنّ اللّه خلقنا أطوارا نطفة علقة مضغة لحما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة فنزلت الآية [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع ما يقوله القائلون [بَصِيرٌ] بما يضمرونه.

[أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ] بنقص من اللّيل في النهار و من النهار في اللّيل و كلّ منهما يتعقّب الآخر أي إيلاج اللّيل في زمان النهار أي يجعل زمان اللّيل

ص: 249

في النهار و يوجده في وقت كان فيه النهار.

[وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قال: «يولج» بصيغة المستقبل و قال: في الشمس و القمر بصيغة الماضي لأنّ إيلاج اللّيل في النهار أمر يتجدّد كلّ فصل بل كلّ يوم و تسخير الشمس و القمر أمر مستمرّ أي و ذلّل الشمس و القمر على نسق و وتيرة واحدة مقهورة لا يختلفان «كُلٌّ يَجْرِي» إلى وقت عيّنه قدرة اللّه و جعله.

[وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] و وجه تعلّق هذا الكلام أنّه لمّا كان اللّيل و النهار محلّ الأفعال بيّن أنّ ما يقع في هذين الزمانين اللّذين هما بتصرّف اللّه لا يخفى على اللّه، و قوله تعالى في صدر الآية: «أَ لَمْ تَرَ» لأنّ الغرض من البيان شرح التكليف و الوعظ، و الواعظ يخاطب و لا يعيّن أحدا مثلا يقول لجمع عظيم: يا مسكين اتّق اللّه أو يقول:

يا أيّها الغافل لم تعصي اللّه فهذا الخطاب و أمثاله من هذا القبيل.

قوله: [ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ و لمّا ذكر سبحانه تعالى أوصافه الكماليّة بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» و قوله: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» و «سَمِيعٌ بَصِيرٌ» و بقوله: «ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» و في هذه الصفات إشارة إلى الصفات السلبيّة و الثبوتيّة فقال: [ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ أي ذلك الاتّصاف بأنّه هو الحقّ و الحقّ هو الثبوت و الثابت اللّه و لا زوال له فهو الحقّ و ما عداه الباطل لأنّ الباطل هو الزائل يقال: «بطل ظلّه» إذا زال.

و اعلم أنّ الحكماء جعلوا الأشياء على أربعة أقسام: ناقص و مكتف و تامّ و فوق التمام فالناقص ما ليس له ما ينبغي أن يكون له كالصبيّ و المريض و الأعمى و أمثاله و المكتفي و هو الّذي اعطي ما يدفع به حاجته في وقته كالإنسان و الحيوان الّذي له ما يدفع به حاجته في وقتها لكنّها في التحلّل و الزوال و التامّ ما حصل له كلّ ما جاز له و إن لم يحتج إليه كالملائكة المقرّبين لهم درجات لا تزداد و لا ينقص اللّه منها لهم شيئا كما قال جبرئيل:

لو دنوت أنملة لاحترقت. لقوله تعالى: «وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ» و فوق التمام هو الّذي حصل له ما جاز له من صفات الكمال و نعوت الجلال فهو تامّ و حصّل لغيره كلّ ما ينبغي له و يحتاج إليه فهو سبحانه فوق التمام و إلى هذا المعنى أشار قوله:

ص: 250

[هُوَ الْعَلِيُ أي في صفاته و قوله: [الْكَبِيرُ] أي في ذاته و ذلك ينافي أن يكون جسما في مكان لأنّه يكون حينئذ جسدا مقدّر بمقدار فيمكن فرض ما هو أكبر منه فيكون صغيرا بالنسبة إلى المفروض لكنّه تعالى في ذاته مطلقا أكبر من كلّ ما يتصوّر فهو المستحقّ للإلهيّة.

قوله تعالى: [سورة لقمان (31): الآيات 31 الى 34]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

أي ألم تعلم أيّها الإنسان مثل هذا الأمر الواضح من آيات الأرضيّة و أشار إلى ذكر السبب و المسبّب بأنّ السفائن تجري بسبب نعمة اللّه و هي الريح الّتي يجري بأمر اللّه و تسوق السفينة إلى حيث تقصدون و لو اجتمع خلق كثير ليجروا الفلك في بعض الجهات المخالفة للرياح لما قدروا عليه.

[لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيات قدرته [إِنَّ فِي ذلِكَ أي في تسخير الرياح و الفلك [لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ] أي صبّار على مشاقّ العبوديّة و التكليف، شكور لنعماء اللّه عليه.

و في الآية دلالة على أنّ الصبر على البلاء و الشكر للنعماء أفضل الطاعات كما قيل: الصبر نصف الإيمان و الشكر نصف الإيمان و اليقين كلّه. و في الحديث: الإيمان نصفان: نصف صبر و نصف شكر فالمؤمن يكون صبّارا في الشدّة شكورا في الرخاء فالتكاليف أفعال و تروك و الأفعال شكر و التروك صبر كما قال صلّى اللّه عليه و آله: الصوم صبر و الأفعال شكر على المعروف.

ثمّ قال: [وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ في الآية بيان و هو أنّ البصير العاقل يدرك

ص: 251

آياته و شواهد قدرته و يعترف بإلهيّته و من هو في بصيرته ضعف لا يدركه أوّلا فإذا وقع في شدّة عظيمة مثل أن يغشاه موج و طوفان دعاه مخلصا وحده و يترك كلّ من عداه و ينسى جميع من سواه فإذا نجّاه من تلك الشدّة قد يبقى على تلك الحالة و هو المراد بقوله:

[فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ] و قد يعود إلى الشرك و هو المراد بقوله: [وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ] و الختّار كثير الغدر، و الظلل قيل: معناه كالجبال و قيل: كالسحب و الختّار الكفور في مقابلة الصبّار الشكور و معنى المقتصد قيل: هو الّذي انزجر بعض الانزجار من الكفر أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شي ء من الإخلاص و لم يبق على ما كان عليه من الإخلاص و قيل: معنى قوله: «فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» أي على طريقة مستقيمة و صلاح من الأمر و قيل: ثابت على إيمانه موف بعهده الّذي عاهد في البحر من الخلاص و روي أنّه لمّا كان يوم فتح مكّة أمّن رسول الناس إلّا أربعة نفر قال صلّى اللّه عليه و آله:

اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة و هم عكرمة ابن أبي جهل و عبد اللّه بن بطل و قيس بن ضبابة و عبد اللّه سعد بن أبي سرح فأمّا عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة فقال أهل السفينة: أخلصوا فإنّ آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة:

لئن لم ينجني في البحر إلّا الإخلاص ما ينجيني في البرّ غيره اللّهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني ممّا أنا فيه أن آتي محمّدا حتّى أضع يدي في يده فلأجدنّه عفوّا كريما فجاء فأسلم.

قوله تعالى: [يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ يعني يوم القيامة لا يغني فيه أحد عن أحد و لا والد يغني عن ولده أولا يقضي الوالد عن ولده على أن يكون الفعل من «جزى» و بالمعنى الأوّل من أجزأ أي أغنى.

قوله: [وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً] كلّ امرئ يهمّه نفسه و المقصود قطع طمع من توقّع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة و لا يقدر أن على الإعانة أو دفع الإهانة بعضهم عن بعض و في قوله «يجزي» و قوله «جاز» إشارة إلى نكتة لطيفة و هي أنّ الفعل يتأتّى و إن كان ممّن لا ينبغي و لا يكون من شأنه مثل أنّ الإنسان إذا كان يخيط شيئا يقال:

أنّه يخيط و لا يقال: إنّه خيّاط و إنّما يقال له: خيّاط إذا كانت الخياطة حرفة إذا علمت هذا

ص: 252

فالابن من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما له عليه من الحقوق لكنّ الوالد يجزي عن ولده لما فيه من الشفقة و ليس عليه بواجب ذلك و لهذا قال سبحانه: في الوالد «لا يجزي» و قال: في الولد «و لا مولود هو جاز».

قوله: [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ أي اخشوا يوما هذا شأنه و هو كائن لوعد اللّه و وعده حقّ لا يتخلّف [فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا] أي لا يغرّنك الإمهال عن الانتقام و كذا الآمال و الأموال عن الإسلام و لا تغترّوا بطول السلامة و كثرة النعمة فإنّها عن قريب إلى الزوال.

[وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ] و الغرور هو الشيطان و يغرّك بالمغفرة من اللّه في عمل المعصية و تترك ما أمرك اللّه به و كلّ شي ء غرّك حتّى تعصي اللّه فهو غرور شيطانا كان أو غيره، و في الحديث، الكيّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و الفاجر من اتّبع نفسه هواها و تمنّى على اللّه. و قرئ «غرور» بضم الغين فيكون المعنى لا يغرّنّكم غرور الدنيا بخدعها الباطلة و بشهواتها الموبقة.

قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ] أي استأثر سبحانه به و لم يطّلع عليه أحد من خلقه فلا يعلم وقت قيام الساعة سواه. قال بعض المفسّرين: المقصود إنّ اللّه نفى علم امور خمسة بهذه الآية عن غيره و هو كذلك لعلّ المقصود من الآية ليس أنّه غير هذه الأمور الخمسة يعلم غيره أو ما يعلمه سبحانه و لا يعلمه غيره مقصورة بهذه الخمسة لأنّ اللّه يعلم الجوهر الفرد الّذي كان في كثيب رمل في زمان الطوفان و نقله الريح من المشرق إلى المغرب كم مرّة و يعلم أنّه أين هو و لا يعلمه غيره فلا وجه لاختصاص هذه الخمسة بالذكر.

و إنّما التحقيق في الآية أنّه لمّا قال: «اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ» و ذكر سبحانه أنّه كائن بقوله: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» فلو قال قائل: فمتى يكون هذا اليوم؟

كما سألوا و قالوا: «مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»* فأجاب اللّه بأنّ هذا العلم ممّا لا يحصل لغير اللّه و لكن هو كائن.

[وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ فيما يشاء من زمان أو مكان و يعلم نزول الغيث في مكانه و زمانه

ص: 253

كما جاء في الحديث: إنّ مفاتيح الغيب لا يعلمهنّ إلّا اللّه و قرأ هذه الآية.

قوله: [وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ من الحوامل أذكر أم أنثى أ صحيح أم سقيم واحد أم أكثر.

[وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً] أي ماذا تكسب في المستقبل و ما يعلم بقاه غدا و ما يعلم تصرّفاته في الأمور.

[وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي في أيّ أرض يكون موته و إذا رفع خطوة لا يدري أنّه يموت قبل أن يضع الخطوة أم لا، و المراد بالأرض المكان، و روي أنّ هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل غيره تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بها [خَبِيرٌ] عنها.

و في الآية بيان أنّك أيّها السائل عن الساعة: أيّان مرساها؟ كيف تستعلم وقتها و أنت لا تعلم من نفسك ماذا تكسب غدا مع أنّه فعلك و شغلك و زمانك و لا تعلم أيّ مكان تموت و لا تعلم ما في بطنك أيّها الإنسان فكيف تستعلم قيام القيامة؟ و في قوله: «خبير» إشارة إلى أنّ علمه ليس علما بظاهر الأشياء فحسب بل هو خبير و علمه واصل إلى بواطن الأشياء.

تمّت السورة

ص: 254

سورة السجدة

اشارة

(مكية) و تسمّى سورة المضاجع.

فضلها:

ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: و من قرأ «الم تَنْزِيلُ» و «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ» الملك فكأنّما أحيا ليلة القدر.

و عن جابر كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا ينام حتّى يقرأهما قال الليث بن أبي الزبير:

ذكرت ذلك لطاوس فقال: فضّلتا على كلّ سورة في القرآن و من قرأهما كتب له ستّون حسنة و محي عنه ستّون سيّئة و رفع له ستّون درجة.

و روى الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة أعطاه اللّه كتابه بيمينه و لم يحاسبه بما كان منه و كان من رفقاء محمّد و أهل بيته.

ص: 255

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة السجده (32): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

«تَنْزِيلُ الْكِتابِ» خبر مبتدء محذوف تقديره: هذا تنزيل الكتاب، أو يجوز أن يكون مبتدء و «لا رَيْبَ فِيهِ» خبره أي هذه الآيات [تَنْزِيلُ الْكِتابِ الّذي وعدتم به [لا رَيْبَ و لا شكّ [فِيهِ أنّه وحي [مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي لا ريب فيه للمهتدين و إن كان قد ارتاب فيه المبطلون، و اللفظ بصورة الخبر و معناه النهي أي لا ترتابوا فيه و الريب أقبح الشكّ.

[أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي أ يعترفون به أم يقولون: هو مفترى؟ و قيل: «أم» منقطعة أي بل يقولون افتراه و ليس الأمر على ما يقولونه [بَلْ هُوَ الْحَقُ نزل عليك من ربّك.

[لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني قريشا إذ لم يأتهم نبيّ قبل نبيّنا و إن أتى غيرهم من قبائل العرب مثل خالد بن سنان العبسيّ. و قيل: المراد أهل الفترة بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله لم يأتهم نبيّ قبل محمّد في هذه المدّة فكانوا كأنّهم في غفلة عمّا لزمهم من حقوق اللّه و العبادة [لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بمعارفهم و ما عليهم من حقوق العبوديّة، و معنى قوله: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» ليس أنّه ما أتاهم من قبل محمّد نذير لهم فإنّهم كانوا من أولاد إبراهيم و جميع أنبياء بني إسرائيل من أولاد أعمامهم لكن لمّا مضت عليهم و على غيرهم السنون المتطاولة و أهل عصرهم ضلّوا بالكلّيّة و لم يبق فيهم من يهديهم و قال سبحانه:

ص: 256

«وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (1) أرسله عليهم و على غيرهم لينذرهم و يمنعهم عن الضلالة و إنذاره ليس مختصّا بهم.

فإن قيل: التخصيص بالذكر يدلّ على الاختصاص.

فنقول: هذا الكلام فاسد لأنّ التخصيص لا يستلزم نفي ما عداه و لأنّ قوله: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (2) لم يفهم منه أنّه لا ينذر غيرهم أو لم يؤمر بإنذار غيرهم و لكن لمّا كان إنذار المشركين أولى لأنّ إنذارهم كان بالتوحيد و الحشر و أهل الكتاب لم ينذروا إلّا بسبب إنكارهم الرسالة فكانوا أولى بالذكر فوقع التخصيص لأجل ذلك كذلك هاهنا.

ثمّ قال سبحانه: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ استدلّ على قدرته على خلق السماوات و الأرض و في الآية إشارة إلى أنّ الرسول عليه الدعوة إلى توحيد الخالق أي هو الّذي خلق و لم يخلقهما غيره فلا خالق و لا إله غيره فهو واحد [وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي فيما لو يقدّر لكان مقداره ستّة أيّام لأنّ قبل الشمس لم يكن ليل و لا نهار لأنّ الإنسان إذا نظر إلي الخلق رآه فعلا و الفعل ظرفه الزمان و الأيّام أشهر الأزمنة.

قوله: [ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ و هاهنا تحقيق شريف و هو أنّ مذهب العلماء في أمثال هذه الآيات المتشابهات على وجهين: أحدهما ترك التعرّض إلى بيان المراد، و الثاني التعرّض إليه، و الأوّل أسلم و إلى الحكمة و السلام أقرب لأنّ من قال: إنّي لا أتعرّض إلى بيان هذا أو لا أعرف المراد في هذا لا يكون حاله إلّا حال من لا يتكلّم عند عدم وجوب الكلام أو لا يعلم شيئا لم يجب علمه مثلا كما في الأصول بأنّ الحشر و الاعتراف به و العلم بوقوعه واجب قطعا لكنّ العلم بأنّه متى يكون غير واجب و كذلك اللّه يجب معرفة وجوده و وحدانيّته و اتّصافه بصفات الجلال و نعوت الكمال على سبيل الإجمال و يجب تعاليه سبحانه عن و صمات الإمكان و الحدوث و صفات النقصان و لكنّ العلم بجميع صفاته كما هي ممّا لا يجب العلم بها فصفة الاستواء في الآية مثلا ممّا لا يجب العلم بها فمن ترك

ص: 257


1- الإسراء: 15.
2- الشعراء: 214.

التعرّض إليه لم يترك واجبا و أمّا من يتعرّض إليه لعلّ أن يخطى فترك التعرّض من هذا القبيل أسلم غاية ما في الباب أنّه لا يعلم أمرا لكنّ المتعرّض لعلّ أن يقع في جهل مركّب و عدم العلم و الجهل المركّب نسبتهما كالسكوت و الكذب و السكوت خير من الكذب.

و ليس لقائل أن يقول بأنّ اللّه بيّن كلّ ما أنزله لأنّ تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز و لعلّ في القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غير نبيّه فبيّن له لا لغيره و هو يعلم و لكن هذا المذهب له شرط و هو أن ينفي بعض ما يعلمه قطعا من امور يوجب نقصا في ذاته كالاستقرار المكانيّ في معنى «ثُمَّ اسْتَوى أو الجلوس مثلا فيجب القطع بنفي ذلك التوقّف هذا بيان مذهب التاركين للتعرّض في مثل هذه الآيات.

و المذهب الثاني خطر و من يذهب إليه فريقان: أحدهما من يقول في معنى الآية:

ظاهر الآية و هو القيام و الانتصاب أو الاستقرار المكانيّ و هو جهل محض بل كفر و بدعة. و ثانيهما:

الاستيلاء و المراد أنّه سبحانه استوى على ملكه و استولى على عرشه كما يقال للرجل المقهور الهارب: فلان هارب لم يبق له مكان مع أنّ المكان واجب له كذلك يقال للقادر القاهر: «هو متمكّن على عرش عظمته و سرير مملكته و سلطانه و له عرش» و إن كان التنزّه عن المكان واجب له.

إذا علمت هذه المقدّمات فعلى هذا يكون معنى «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» أنّ اللّه تعالى خلق السماوات و الأرض ثمّ القصّة فثمّ استعملت للحكاية لا للمحكيّ أي خلق السماوات و الأرض ثمّ هاهنا ما هو أعظم منه استوى على العرش و خلقته فإنّ خلقه أعظم من الكرسيّ و السماوات و الأرض و هذا كما يقول القائل: فلان أكرمني و أنعم عليّ مرارا و يحكي عنه مكارمه ثمّ يقول: إنّه ما يعرفنيّ و أحسن إليّ. و قد جاء «استوى» بمعنى استولى نقلا و استعمالا أمّا النقل فمنقول كثيرا في كتب اللغة منها في ديوان الأدب و غيره ممّا يعتبر النقل عنه و أمّا الاستعمال قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف و دم مهراق

فعلى هذا لا يفيد معنى الآية أنّه سبحانه في مكان.

و في الآية بيان آخر و هو أنّ المراد من الاستقرار على فرض معنى الاستقرار لا يفيد أنّه سبحانه في مكان و ذلك لأنّ الإنسان يقول: استقرّ رأي فلان على الخروج و معلوم

ص: 258

أنّه لا يريد أنّ الرأي في مكان و هو الخروج لما أنّ الرأي لا يتصوّر و لا يجوز فيه أن يقال:

إنّه متمكّن أو هو ممّا يدخل في مكان، إذا علم هذا فحينئذ فهم التمكّن عند استعمال كلمة الاستقرار مشروط بجواز التمكّن حتّى إذا قال: استقرّ زيد على الفلك أو على التخت يفهم منه التمكّن و كونه في مكان و لكن إذا قال القائل: استقرّ الملك على فلان لا يفهم أنّ الملك يحيّز في فلان فقول القائل: «اللّه استقرّ على العرش» لا ينبغي أن يفهم منه كونه في مكان مادام لم يعلم أنّه ممّا يجوز عليه أن يكون في مكان.

و الّذي يدلّ على أنّه لا يجوز كون العرش مكانا له وجوه من القرآن و القرآن يبيّن بعضه بعضا: أحدها «وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ» و كلّ ما هو في مكان فهو في بقائه محتاج إلى مكان لأنّ الحيّز إن لم يكن لا يكون المتحيّز باقيا فالمتحيّز ينتفي عند انتفاء الحيّز و كلّما ينتفي عند انتفاء غيره فهو محتاج إليه. الثاني قوله تعالى: «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (1) فالعرش يهلك و كذلك كلّ مكان فلا يبقى و هو سبحانه يبقى. الثالث قوله: «وَ هُوَ مَعَكُمْ» (2) و وجه التمسّك به هو أنّ «على» إذا استعمل في المكان يفهم منه عليه بالذات كقولنا: فلان على السطح، و كلمة «مع» إذا استعملت في متمكّنين يفهم منها اقترانهما بالذات كقولنا: زيد مع عمرو و إذا استعمل هذا فإن كان اللّه في مكان و نحن متمكّنون فقوله: «إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» و قوله:

«وَ هُوَ مَعَكُمْ» كان ينبغي أن يكون للاقتران و ليس كذلك بل معنى المعيّة في الآية العلم و النصرة و الإعانة فكذلك «عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أي حكمه و نظره عليه.

فإن قيل: كلمة «مع» تستعمل في هذا المعنى أي معنى النصرة و الإعانة يقال: فلان مع الفلان أي ناصره و معينه.

فنقول: إنّ كلمة «على» أيضا تستعمل في الحكم و النظر يقال: لو لا فلان على أملاك فلان لما حصل له شي ء و لا أكل من حاصلها و معناه الإشراف و النظر فكيف لا تقول في «اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» إنّه سبحانه استوى بحكمه كما نقول: معنا بحكمه و نصرته؟

ثمّ إنّك إذا فسّرت قوله: «عَلَى الْعَرْشِ» على الاستقرار و الملكان فأمّا إن حصل

ص: 259


1- القصص: 88.
2- الحديد: 4.

عليه بعد ما لم يكن عليه فقبل الاستقرار و التمكّن إمّا أن يكون في مكان أولم يكن فكان ففي صورة الكون في المكان يلزم أن يكون المكان أزليّا فيلزم القول بتعدّد القديم و كون سماء قديم من السماوات و صاحب هذا القول فلسفيّ لا إسلاميّ و على القول الثاني لا بدّ من القول بالحركة و الانتقال و التغيّر و كلّ هذه يفضي إلى الحدوث و ما ثبت حدوثه ثبت زواله فالقول بالتحيّز باطل إجماعا، انتهى.

قوله تعالى: [ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أي ليس لكم من دون عذابه وليّ و قريب ينفعكم و يردّ عذابه عنكم «وَ لا شَفِيعٍ» يشفع لكم و ناصر ينصركم من دون اللّه [أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ و تتفكّرون فتعلموا صحّة ما بيّنّاه لكم.

قوله: [يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي يدبّر الأمور و يقدّرها على حسب إرادته فيما بين السماء و الأرض و ينزله مع الملك إلى الأرض و لمّا بيّن سبحانه الخلق في قوله: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» بيّن في هذه الآية عالم الأمر كما قال في موضع آخر: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» و أمره ينزل من السماء على عباده من امور تقديرهم و أحكامهم من امور التكليفيّة و التكوينيّة و ينزله من الملك إلى الأرض.

[ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ الملك إلى المكان الّذي أمره اللّه أن يصعد إليه [فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة ممّا يعدّه البشر خمسمائة عام نزوله من السماء إلى الأرض و خمسمائة صعوده إلى السماء.

و حاصل المعنى أنّه ينزل الملك بالأمر و الوحي و التقدير إلى الأرض ثمّ يصعد الملك و يعرج إليه أي إلى الموضع الّذي يكون أن يعرج إليه و عروج الملائكة كذهاب إبراهيم حيث قال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (1) أي إلى أرض الشام الّتي أمرني بالذهاب إليها و كذلك قوله: «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ» (2) يعني إلى المدينة و لم يكن سبحانه بالشام و لا بالمدينة.

ص: 260


1- الصافات: 99.
2- النساء: 99.

و قيل: معناه أنّه يدبّر سبحانه و يقضي أمر كلّ شي ء لألف سنة في يوم واحد ثمّ يلقيه إلى الملائكة فإذا مضى الألف يدبّر أمر ألف سنة اخرى في يوم و كذلك أبدا.

و قيل: معناه يدبّر أمر الدنيا فينزل القضاء و التدبير من السماء إلى الأرض مدّة أيّام الدنيا ثمّ يرجع الأمر و يعود التدبير إليه بعد انقضاء الدنيا و فنائها حتّى ينقطع أمر الأمراء و حكم الحكّام و ينفرد اللّه بالتدبير في يوم كان مقداره ألف سنة و هو يوم القيامة فالمدّة المذكورة مدّة يوم القيامة إلى أن يستقرّ الخلق في الدارين عن ابن عبّاس أيضا.

فأمّا قوله: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» و هو يوم القيامة فإنّه أراد سبحانه على الكافر جعل اللّه ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف فإنّ المقامات في يوم القيامة للطبقات مختلفة.

قوله: [سورة السجده (32): الآيات 6 الى 10]

ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)

و لمّا ذكر سبحانه عالم الأشباح من قبل بقوله: «خَلَقَ السَّماواتِ» و عالم الأرواح بقوله: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» أي ذلك الّذي يفعل و يقدّر هو العالم بما يشاهد و ما لا يشاهد و بما غاب عن الخلق و ما حضر [الْعَزِيزُ] الغالب المنيع في ملكه [الرَّحِيمُ بأهل طاعته ثمّ قال: [الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ و هو سبحانه كذلك لأنّك إذا نظرت إلى الأشياء رأيتها على ما ينبغي صلابة الأرض للنبات و الثبات و لطافة الهواء للاستنشاق و الاسترواح و لقبول الانشقاق و سهولة الاستطراق و حركة النار إلى فوق لأنّها لو كانت مثل الماء في السيلان و الحركة يمنة و يسرة لاحترقت الدنيا فخلقت طالبة لجهة فوق حيث لا شي ء هناك يقبل الاحتراق و في الآية دلالة على أنّ الكفر و القبائح لا يجوز أن يكون من خلقه.

قوله: [وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ أي ابتدأ خلق آدم الّذي هو أوّل البشر

ص: 261

من طين كان ترابا ثمّ صار طينا ثمّ صلصالا ثمّ حيوانا.

[ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي نسل الإنسان الّذي هو آدم يعني ولده من [سُلالَةٍ] و هي الصفوة الّتي تنسلّ من غيرها و يسمّى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه [مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي ضعيف حقير «مهان» لا ثمن له و إنّما يصير جليلا إذا صار ذا عمل و علم.

[ثُمَّ سَوَّاهُ أي جعله بشرا سويّا معدّلا و رتّب جوارحه [وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ و إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف و النصارى يفترون على اللّه الكذب و يقولون بأنّ عيسى روح اللّه فهو ابن و لا يعلمون أنّ كلّ أحد روحه روح اللّه بقوله: «وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» (1) أي الروح الّتي ملكي كما يقول القائل: داري و عبدي [وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ و قوله: «وَ جَعَلَ لَكُمُ» مخاطبا و لم يخاطب من قبل لأنّ الخطاب يكون مع الحيّ لأنّ الخطاب وقع بعد نفخ الروح، جعل لكم أيّها الخلق السمع و الأبصار لتسمعوا المسموعات و تبصروا المبصرات و جعل لكم القلوب لتعقلوا بها و مع ذلك «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» «ما» تأكيديّة مثل «هو» فإمّا بيان لكفرهم بتلك النعم بطريق الاعتراض أي شكرا قليلا أو زمانا قليلة تشكرون و يمكن أن يكون القلّة إشعارا للنفي.

قوله: [وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ كلام مسوق لبيان أباطيلهم و عدم شكرهم بتلك النعم فقالوا: «أَ إِذا ضَلَلْنا» و غبنا في الأرض و صرنا ترابا و خلطنا بترابها بحيث لا نتميّز من التراب، و قرئ بالصاد المهملة من صلّ اللحم إذا أنتن و كلّ شي ء غلب عليه غيره حتّى يغيب فيه فقد ضلّ. و قيل: معنى «ضللنا» أي هلكنا.

[أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ] أي أ نبعث و نحيا؟ استفهام بمعنى الإنكار كيف نخلق جديدا و نعاد بعد أن هلكنا و تفرّقت أجسامنا؟

ثمّ قال سبحانه: [بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي هؤلاء الكفّار «بِلِقاءِ رَبِّهِمْ» أي بما وعدهم من الثواب و أوعدهم من العقاب [كافِرُونَ و جاحدون فلهذا قالوا: هذا القول.

ص: 262


1- الحجر: 29.

قوله تعالى: [سورة السجده (32): الآيات 11 الى 15]

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)

ثمّ أمر نبيّه [قُلْ يا محمّد لهم: لا بدّ من الموت تمّ من الحيات بعد الموت و إليه الإشارة بقوله: [إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ و بقوله: «الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» أنّه لا يغفل عنكم و إذا آن أجلكم لا يؤخّركم ملك الموت إذ لا شغل له غير هذا و التوفّي الاستيفاء يقال: استوفى الدين إذا قبضه على كماله و الملك وكّل بقبض أرواحكم عن ابن عبّاس قال: جعلت الدنيا بين يدي ملك الموت مثل جام يأخذ منها ما يشاء إذا قضى عليه الموت من غير عناء و خطوته ما بين المغرب و المشرق.

و قيل: إنّ له أعوانا كثيرة من ملائكة الرحمة و العذاب و يؤيّد هذا القول قوله:

«تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا» (1) و قوله تعالى: «تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ»* (2) فعلى هذا المراد بالملك الجنس و أمّا إضافة التوفّي إلى نفسه سبحانه في قوله: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» (3) فلأنّه خلق الموت.

و روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الأمراض و الأوجاع كلّها بريد الموت و رسل الموت فإذا جان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال: يا أيّها العبد كم خبر بعد خبر و كم رسول بعد رسول و كم بريد بعد بريد؟ أنا الخبر الّذي ليس بعدي خبر و أنا الرسول أجب ربّك طائعا أو مكروها فإذا قبض روحه و تصارخوا عليه قال: على من تصرخون و على من تبكون؟ فو اللّه ما ظلمت له أجلا و لا أكلت له رزقا بل دعاه ربّه فليبك الباكي على نفسه فإنّ لي فيكم عودات حتّى لا ابقيكم.

ص: 263


1- الانعام: 61.
2- النحل: 28.
3- الزمر: 42.

و بالجملة ثمّ إنّ الروح الزكيّ الطاهر بعد القبض عند الملائكة مثل الشخص عند أهله و الخبيث الفاجر كأسير بين قوم لا يعرفهم و لا يعرف لسانهم و الأوّل ينمو و يزيد صفاؤه و قوّته و الآخر يزداد شقاؤه و كدورته. و الحكماء يقولون: إن الأرواح الطاهرة تتعلّق بجسم سماويّ خير من بدنها و تكمل به و الأرواح الفاجرة لا كمال لها بعد التعلّق الثاني.

قوله: [وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ أي عند رجوعهم إلى ربّهم ترى المجرمين حالهم و استخجالهم لترى عجبا و يمكن أن يكون خطابا للرسول تشفّيا لصدره فإنّهم يؤذونه بالتكذيب و يحتمل أن يكون عاما مع كلّ أحد قوله: [عِنْدَ رَبِّهِمْ أي عند ما يتولّى اللّه حساب خلقه يقولون:

[رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا] أي أبصرنا الرشد و صدق وعدك و سمعنا منك تصديق الرسل أو المعنى أنّا كنّا بمنزلة العمى فأبصرنا و بمنزله الصمّ فسمعنا [فَارْجِعْنا] فارددنا إلى دار التكليف [نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ اليوم لا نرتاب شيئا من الحقّ و الرسالة.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها] بأن نفعل أمرا من الأمور يلجئهم إلى الإقرار بالتوحيد و لكن ذلك يبطل الغرض بالتكليف لأنّ المقصود به استحقاق الثواب و الإلجاء لا يثبت معه استحقاق الثواب، قال الجبّائي: و يجوز أن يكون المراد به و لو شئنا لأجبناهم إلى ما سألوه من الردّ إلى دار التكليف ليعملوا بالطاعات.

[وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أن اجازيهم بالعقاب و لا أردّهم و قيل: معناه و لو شئنا لهديناهم إلى الجنّة [وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ من كلا الصنفين بكفرهم باللّه و كفرانهم نعمته و القول من اللّه بمنزلة القسم فلذلك أتى بجواب القسم و هو قوله: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ» أي وقع القول «منّي» و هو قوله تعالى:

لإبليس «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ» هذا من حيث النقل.

و أمّا بحسب وجه العقل أنّه تعالى لم يفعل فعلا خاليا عن الحكمة و هذا أمر متّفق عليه و الخلاف في أنّه هل قصد الفعل للحكمة أو فعل الفعل و لزمته الحكمة لا بحيث تحمله الحكمة على الفعل و إذا علم أنّ فعله لا يخلو عن الحكمة و حكمة أفعاله بأسرها لا تدرك على سبيل التفصيل فكلّ ضرب يكون في العالم الكون و الفساد يخرج من تقسيم عقليّ إلى ثلاثة و هو أنّ الفعل إمّا أن يكون خيرا محضا أو شرّا محضا أو خيرا مشوبا

ص: 264

بشرّ و القسم الوسط ما خلق أصلا فانحصرت القسمة إلى قسم و هو خير محض كعالم الملائكة و الأنبياء و العالم العلويّ و إلى قسم فيه خير و شرّ و هو عالمنا و هو العالم السفليّ.

ثمّ إنّ العالم السفليّ الّذي هو عالمنا و إن كان الخير و الشرّ موجودين فيه لكنّه من القسم الّذي خيره غالب فإنّك إذا قابلت المنافع بالمضارّ تجد المنافع أكثر و إذا قابلت الشرّ بالخير تجد الخير أكثر حتّى أنّ الكافر لا يمكن أن يكون وجوده شرّا محضا غاية ما في الباب أنّ الكفر يحيط خيره كفره و لا ينفعه و يستحيل أن لا يوجد منه خيرا مثلا لا يسقي العطشان شربة و لا يطعم الجائع لقمة خبز و لا يذكر ربّه في عمره و كيف يكون كذلك و هو في زمن صباه كان مخلوقا على الفطرة المقتضية للخيرات و قد اختار الكافر بسوء اختياره و قلّة تدبّره كفره فقد جعل الشرّ لنفسه لسوء اختيار فإذا الشر الّذي خلط بالخير أو غلب على الخير في الكافر ليس من فعل اللّه فما فعله سبحانه في الكلّ خير محض فيرجع القسم الثاني إلى القسم الأوّل و الفاعل صيّر الخير شرّا فحينئذ ترك الخير الكثير للشّر القليل لا يناسب الحكمة.

فإن قال قائل: فاللّه قادر على تخليص هذا القسم من الشرّ بحيث لا يوجد فيه شرّ.

فالجواب أنّ معنى هذا الكلام أن يكون اللّه مقهورا بدفع ما أفسده أنا و تفسده أنت و يكون يمنع غيره قهرا عن القبيح و هذا خلاف مقتضى عالم التكليف و الخلق و الأمر كما قال سبحانه: «وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» (1).

قوله: [مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ أي حالا مجموعين من الجنّ و الإنس لا من الملائكة و لا يقتضي ذلك دخول الكلّ لأنّ القائل يقول: ملأت الكيس من الدراهم، و لا يلزم أن لا يبقى دراهم خارج الكيس.

قوله تعالى: [فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ يقال لهؤلاء الّذين طلبوا الرجعة إلى دار التكليف إذا جعلوا في العذاب: فذوقوا بما فعلتم فعل من نسي جزاء هذا اليوم فتركتم ما أمر كم اللّه، و النسيان الترك و الإشارة بقوله: [هذا] إشارة إلى العذاب [وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ الّذي لا فناء له بسبب [ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي.

ص: 265


1- الم السجدة: 13.

ثمّ أخبر عن حال المؤمنين فقال: [إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي يصدّق بالقرآن و سائر حججنا الّذين إذا وعظوا بها تذكّروا و اتّعظوا بمواعظها بأن سقطوا على جباههم ساجدين شكرا للّه على أن هداهم بمعرفته و نزّهوه عمّا لا يليق به من الصفات و عظّموه و حمدوه و هم لا يستكبرون عن عبادته و لا يأنفون أن يعفروا وجوههم صاغرين له و من كان قلبه خاشعا و لسانه ذاكرا و لا يستكبر عن عبادة ربّه فهو مؤمن حقّا.

ثمّ بيّن أيضا صفاتهم بقوله تعالى:

[سورة السجده (32): الآيات 16 الى 20]

تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)

التجافي تعاطي الارتفاع عن الشي ء و قال عبد اللّه بن رواحة يصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

أي ترتفع جنوبهم عن مواضع اضطجاعهم لصلاة الليل و هم المتهجّدون بالليل الّذين يقومون عن فرشهم للصلاة و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و روى الواحديّ بالإسناد عن معاذ بن جبل قال: بينما نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة تبوك و قد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقربهم منّي فدنوت منه فقلت: يا رسول اللّه أنبئني بعمل يدخلني الجنّة و يباعدني من النار قال: لقد سألت عن عظيم و إنّه ليسير على من يسّره اللّه تعبد اللّه و لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة المكتوبة و تؤدّي الزكاة المفروضة و تصوم رمضان قال: و إن شئت أنبئتك بأبواب الخير قال: قلت يا رسول اللّه: أجل قال: الصوم جنّة و الصدقة تكفّر الخطيئة و قيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه اللّه ثمّ قرأ هذه الآية.

ص: 266

و بالإسناد عن بلال قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصالحين قبلكم و إنّ قيام الليل قربة إلى اللّه تكفير للسيّئات و مطردة للداء عن الجسد.

و قيل: هم الّذين يصلّون ما بين المغرب و العشاء الآخرة و هي صلاة الأوّابين. و قيل: هم الّذين يصلّون العشاء و الفجر بالجماعة و في الآية الاولى و هي «إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا» (1) إشارة إلى المرتبة العالية و هي العبادة لوجه اللّه مع الذهول عن الخوف و الطمع و في الثانية إشارة إلى المرتبة الأخيرة و هي العبادة للخوف كمن يخدم ملكا مخافة سطوته أو يخدم الملك الجواد طمعا في برّه.

ثمّ بيّن جزاء فعلهم بقوله: [فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ يعني بما تقرّ العين عنده و لا يلتفت إلى غيره و لا يعلم أحد ما جي ء لهؤلاء الّذين «ذكّروا» قال ابن عبّاس «ما» لا تفسير له فالأمر أعظم و أجلّ ممّا يعرف تفسيره و قد ورد في الصحيح أنّه قال: إنّ اللّه يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر بل هو ممّا اطّلعتكم هذا عليه اقرءوا إن شئتم «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» رواه البخاريّ و مسلم جميعا.

و قد قيل في فائدة الإخفاء وجوه: أحدها أنّ الشي ء إذا عظم خطره و جلّ قدره لا يستدرك صفاته على كنهه إلّا بشرح طويل و مع ذلك فيكون إبهامه أبلغ، و ثانيها أنّه جعل ذلك في مقابلة صلاة الليل و هي خفيّة فكذلك ما بارأها من جزائها و يؤيّد ذلك ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: ما من حسنة إلّا و لها ثواب مبيّن في القرآن إلا صلاة الليل فإنّ اللّه عزّ اسمه لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها قال: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ الآية» و قرّة العين رؤية ما تقرّ به العين يقال: أقرّ اللّه عينك أي صادف فؤادك ما يرضيك و المستبشر الضاحك يخرج من عيونه دمع بارد و المحزون المهموم يخرج من عينيه دمع حارّ و يقال: فلان سخين العين و فلان قرير العين.

ص: 267


1- الم السجدة: 13.

قوله تعالى: [أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ استفهام إنكاريّ أي أ يكون من هو مصدّق بآيات اللّه على الحقيقة عارف باللّه عامل بما أوجبه اللّه عليه مثل من هو فاسق خارج عن طاعة اللّه مرتكب لمعاصي اللّه «لا يَسْتَوُونَ» لأنّ منزلة المؤمن درجات الجنان و منزلة الفاسق دركات النيران.

ثمّ فسّر سبحانه ذلك بقوله: [أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى يأوون إليها [نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي عطاء و تشريفا ينزله اللّه فيها كما ينزل الضيف يعني إنّهم في حكم الأضياف.

[وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا] و خرجوا من الدين و الطاعة [فَمَأْواهُمُ النَّارُ] و يأوون إلى النار [كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها] و همّوا بالخروج منها لما يلحقهم من ألم العذاب [أُعِيدُوا] و ردّوا [فِيها] بالمقامع.

و قيل لهم: [ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ و تجحدونه و في هذا دلالة على أنّ المراد بالفاسق هنا الكافر المكذّب قال ابن أبي ليلى: نزل قوله: «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً» في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و رجل من قريش و قال: غيره: في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و الوليد بن عقبة فالمؤمن عليّ و الفاسق الوليد و ذلك أنّه قال لعليّ عليه السّلام:

أنا أبسط منك لسانا و أحدّ منك سنانا فقال عليه السّلام: لست كما تقول يا فاسق، قال قتادة:

لا و اللّه ما استووا لا في الدنيا و لا عند الموت و لا في الآخرة.

قوله تعالى: [سورة السجده (32): الآيات 21 الى 25]

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)

ثمّ أقسم سبحانه في هذه الآية فقال:

[وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أمّا العذاب الأكبر فهو عذاب جهنّم في

ص: 268

الآخرة و أمّا العذاب الأدنى ففي الدنيا. و اختلف فيه فقيل: إنّه المصائب و المحن في الأنفس و الأموال عن ابن عبّاس و جماعة و قيل: هو عذاب بدر بالسيف و قيل: هو ما ابتلوا به من الجوع سبع سنين بمكّة حتّى أكلوا الجيف و الكلاب و قيل: هو الحدود و قيل: هو هو عذاب القبر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و الأكثر في الرواية عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّ «الْعَذابِ الْأَدْنى خروج دابّة الأرض و الدجّال.

[لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى الحقّ و يتوبوا من كفرهم و قيل: ليرجعوا الآخرون عن أن يذنبوا مثل ذنوبهم.

فإن قيل: إنّ «لعلّ» للترجّي و اللّه سبحانه محال ذلك عليه؟ معناه لنذيقهم إذاقة الراجين كقوله: إنّا أنسيناكم، يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا فكذلك هاهنا نذيقهم على الوجه الّذي يفعل بالراجي من التدريج و كلّ فعل يتلوه أمر مطلوب يصحّ تعليل ذلك الفعل بذلك الأمر و لو علم وقوع ذلك المطلوب أو علم سبحانه وقوعه و هذا مثل قوله: «وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ» مع أنّ الجزم به لازم غاية ما في الباب أنّ الرجاء في أكثر الأمر استعمل فيما لا يكون الأمر معلوما فأوهم أن لا تجوز الإطلاق في حقّ اللّه و ليس كذلك بل الترجّي يجوز في حقّ اللّه و لا يلزم منه عدم العلم و إنّما يلزم عدم الجزم بناء على ذلك الفعل و علم اللّه ليس مستفاد من الفعل.

قوله تعالى: [وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها] يعني لنذيقهم و لا يرجعون فيكونون قد ذكّروا بآيات اللّه من النعم أوّلا و النقم ثانيا و لم يؤمنوا فلا أظلم منهم أحد لأنّ من يكفر باللّه ظالم و أنّ اللّه لذوي البصائر ظاهر لا يحتاج المستنير الباطن إلى شاهد يشهد عليه بل هو شهيد على كلّ شي ء كما قال سبحانه: «أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» (1) و لذا قال العارفون: من لم يكفه اللّه فسائر الموجودات كاف في شواهد وجوده سبحانه و قدرته فالأوّل الّذي لا يحتاج إلى غير اللّه هو عدل و الثاني الّذي يحتاج إلى دليل فهو متوسّط، و الثالث الّذي لم تكفه الموجودات الآفاقيّة و الأنفسيّة

ص: 269


1- المائدة: 120.

ظالم، و الرابع الّذي لم تقنعه نعم اذيق العذاب في الدنيا لا يرجع عن ضلالته فلا أظلم منه أصلا فقال: و من أظلم ممّن ذكّر بآيات ربّه ثمّ أعرض عنها جانبا و لم ينظر فيها.

[إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ الّذين يخالفون اللّه [مُنْتَقِمُونَ بأن يحلّ العذاب بهم فكيف بمن كان أظلم من كلّ ظالم؟

قوله: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ و المراد بالكتاب التوراة فلا تشكّ من لقائك موسى كما أنّه صلّى اللّه عليه و آله لقاه ليلة الإسراء به صلّى اللّه عليه و آله عن ابن عبّاس في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ليلة اسري بي رأيت موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنّه من رجال شنوءة و رأيت عيسى رجلا مربوعا المائل إلى الحمرة و البياض سبطا الرأس فعلى هذا قد وعده سبحانه أنّه سيلقى موسى قبل أن يموت.

و قيل: المعنى فلا تكن من لقاء موسى إيّاك في الآخرة.

و قيل: معناه فلا تكن في شكّ من لقاء الأذى كما لقي موسى الأذى، فحينئذ يكون المعنى فلا تك في مرية ممّا تلقى من الأذى كما لقي موسى من قومه فإنّه لقي ما لقيت و اوذي كما أوذيت فعلى هذا اختصاص موسى بالذكر إشعار لمعنى و هو أنّ سائر الأنبياء لم يؤذيه قومه إلّا من لم يؤمن بهم و أمّا الّذين آمنوا فلم يخالفوه غير قوم موسى فإنّ من لم يؤمن به أذاه مثل فرعون و من آمن به من بني إسرائيل أيضا أذاه بالمخالفة و طلبوا منه أشياء مثل طلب الرؤية و غيره.

ثمّ بيّن سبحانه له صلّى اللّه عليه و آله أنّ هدايتك لقومك غير خالية عن المنفعة كما أنه لم تخل هداية موسى فقال: [وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ* وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا] جعل اللّه كتاب موسى هدى و جعل من بني إسرائيل أنبياء و أئمّة في الدين كذلك نجعل كتابك هدى و من ذرّيّتك و امّتك أصحابا يهدون الناس.

ثمّ بيّن ذلك أنّ ذلك يحصل بالصبر فقال: [لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ فكذلك اصبروا و تحمّلوا فإنّ وعد اللّه حقّ [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] و يحكم بين المؤمن و الكافر و الفاسق في مختلفاتهم من التصديق و التكذيب و من أعمالهم و امور دينهم.

ص: 270

قوله تعالى: [سورة السجده (32): الآيات 26 الى 30]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ (26) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ (27) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

و لمّا أعاد ذكر الرسالة في الآية السابقة أعاد ذكر معرفة التوحيد فقال:

[أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ و فاعل «يهد» مضمر يفسّره و يدلّ عليه «كَمْ أَهْلَكْنا» أي ما هداهم إلى معرفتنا إهلاك من أهلكناه، و الواجب من الهدي ما يؤدّي إلى ما ليس للعبد عنه غني في دينه أي أولم يبصرهم و يتبين لهم إهلاكنا قرونا قبلهم بسبب كفرهم باللّه فهلكوا و أبادهم اللّه و يمشون هؤلاء في مساكنهم و ديارهم و يرون آثارهم. و قيل:

معناه: أنّا أهلكناهم و هم مشاغيل بنفوسهم و كانوا يمشون في مساكنهم و جاءهم العذاب و الهلاك بغتة.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ أي في إهلاكنا إيّاهم دلالات على الحقّ [أَ فَلا يَسْمَعُونَ هؤلاء الكفّار ما يوعظون به من المواعظ.

ثمّ نبّههم على وجه آخر فقال: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا] و يعلموا [أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ] بالمطر و الثلج و الأنهار و العيون و سيلان طبيعة الماء [إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ] و الجرز فيه أربع لغات بضمّ الجيم و الراء و بفتحهما و بضمّ الجيم و إسكان الراء و فتح الجيم و إسكان الراء أي الأرض المقطوع عنها الماء اليابسة الّتي لا نبات فيها [فَنُخْرِجُ بِهِ بسبب سوق الماء منها [زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ من ذلك الزرع [أَنْعامُهُمْ أوّلا [وَ أَنْفُسُهُمْ أي الأرض تنبت ما يأكله الإنسان و الحيوان [أَ فَلا يُبْصِرُونَ نعم اللّه عليهم.

[وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قيل: المراد فتح مكّة و قيل: هو القضاء بعذابهم في الدنيا و هو يوم «بدر» و قيل: هو الحكم بالثواب و العقاب يوم القيامة و كانوا يسمعون المسلمين يستفتحون باللّه عليهم فقالوا: «مَتى هذَا الْفَتْحُ» أي متى هذا الحكم فينا.

ص: 271

[قُلْ يا محمّد: [يَوْمَ الْفَتْحِ يوم [لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ بيّن سبحانه أنّ يوم الفتح يكون يوم القيامة و ذلك اليوم لا ينفع الكافرين إيمانهم [وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤخّر عنهم العذاب كما أنّ الّذين قتلوا يوم بدر لم ينفعهم إيمانهم بعد القتل.

[فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يا محمّد فإنّه لا ينجح الدعاء و الوعظ [وَ انْتَظِرْ] حكم اللّه فيهم و انتظر موعدي لك بالنصر على أعدائك [إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ بك حوادث الزمان من موت أو قتل فيستريحوا منك أو انتظر النصر من اللّه فإنّهم ينتظرون النصر من آلهتهم تمّت السورة

ص: 272

سورة الأحزاب

اشارة

(مدنية)

فضلها:

ابيّ بن كعب قال: و من قرأها و علّمها أهله و ما ملكت يمينه اعطي الأمان من عذاب القبر.

و روى عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و أمر سبحانه نبيّه في تختيم تلك السورة بالانتظار و أمره في مفتتح هذه السورة أن يكون في انتظاره متيقّنا فقال:

ص: 273

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأحزاب (33): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)

ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)

و هاهنا تحقيق و هو أنّ الفرق بين قوله: يا رجل و يا أيّها الرجل أنّ «يا رجل» يدلّ على النداء و «يا أيّها الرجل» يدلّ على النداء أيضا و ينبئ عن خطر خطب الأمر أو تنبيه غفلة المخاطب أو اعلم هذا فلا يجوز حمل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» على غفلته لأنّ قوله سبحانه: النبيّ ينافي الغفلة لأنّ النبيّ خبير فلا يكون غافلا فيجب حمله على خطر الخطب و الأمر و كلمة «أيّ» و كلمة «ها» تأكيد على تأكيد لعظمة المنادى له فقال:

[يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ .

فلو قيل: إنّ الأمر بالشي ء لا يكون إلّا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به إذ لا يصلح أن يقال للجالس: اجلس، و للساكت: اسكت، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان متّقيا فما لوجه فيه؟

فالجواب أنّه امر بالمداومة فإنّه يصحّ أن يقول القائل للجالس: اجلس هنا إلى

ص: 274

أن أجيئك، و للساكت: قد نجوت فاسكت و دم على ما أنت عليه. و تقريره و هو أنّ الملك يتّقي منه عباده على ثلاثة أوجه بعضهم يخاف من عقابه و بعضهم يخاف من قطع ثوابه و ثالث يخاف من احتجابه فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يؤمر بالتقوى بالمعنى الأوّل و لا بالمعنى الثاني و أمّا الثالث فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا و كيف و الأمور الدنيويّة شاغلة و الآدميّ في الدنيا تارة مع اللّه و اخرى مقبل على ما لا بدّ منه و إن كان معه اللّه و إلى هذا إشارة بقوله: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ»* يعني أنّه يرفع الحجاب عنّي وقت الوحي ثمّ أعود إليكم كأنّي منكم فالأمر بالتقوى يوجب استدامة الحضور.

و بعبارة اخرى إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلّ لحظة كان يزداد علمه و مرتبته حتّى حاله فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه تركا للأفضل فكان له في كلّ ساعة تقوى متجدّدة فقوله:

«اتَّقِ اللَّهَ» على هذا البيان أمر بما ليس فيه و إلى هذا أشار صلّى اللّه عليه و آله بقوله: من استوى يوماه فهو مغبون، و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: ربّ زدني علما، و هذه نكتة استغفاره صلّى اللّه عليه و آله في كلّ يوم سبعين مرّة ليجدّد له مقام فوق مقام كان عليه.

قوله: [وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ يقرّر قولنا: اتّق اللّه تقوى تمنعك من طاعتهم. و سبب النزول: نزلت في أبي سفيان بن حرب و عكرمة بن أبي جهل و أبي أعور السلميّ قدموا المدينة و نزلوا على عبد اللّه بن ابيّ بعد غزوة احد بأمان من رسول اللّه ليكلّموه فقاموا و قام معهم عبد اللّه بن ابيّ و عبد اللّه بن أبي سرح و طعمة بن أبيرق فدخلوا على رسول اللّه فقالوا: يا محمّد ارفض ذكر آلهتنا اللّات و العزّى و مناة و قل: إنّ لها شفاعة لمن عبدها، و ندعك و ربّك فشقّ، ذلك على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال عمر بن الخطّاب:

ائذن لنا في قتلهم فقال: إنّي أعطيتهم الأمان و أمر صلّى اللّه عليه و آله فاخرجوا من المدينة فنزلت:

«وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ».

و قيل: نزلت في أناس من ثقيف قدموا على رسول اللّه فطلبوا منه أن يمتّعهم باللّات و العزّى سنة قالوا: لتعلم قريش مكانتنا منك.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً] أي عليم بما يكون قبل كونه، حكيم فيما يخلقه.

لمّا نهاه عن متابعة الكفّار أمر باتّباع أو امره و نواهيه على الإطلاق فقال: [وَ اتَّبِعْ

ص: 275

ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن و الشرائع فبلّغه و اعمل به [إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً] أي لا يخفى عليه شي ء من أعمالكم فيجازيكم بحسبها إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ.

[وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و فوّض أمرك إليه حتّى لا تخاف غيره و لا ترجو إلّا خيره [وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا] قائما بتدبيرك حافظا لك و دافعا عنك [ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت في أبي معمر الفهريّ و اسمه جميل و كان لبيبا حافظا لما يسمع و كان يقول:

إنّ في جوفي لقلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد فكانت قريش تسمّيه ذا القلبين فلمّا كان يوم بدر هزم المشركون و فيهم أبو معمر و تلقّاه أبو سفيان بن حرب و هو أخذ بيده إحدى نعليه و الاخرى في رجله فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال:

انهزموا قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك و الاخرى في رجلك؟ فقال أبو معمر: ما شعرت إلّا أنّهما في رجلي فعرفوا يومئذ أنّه لم يكن إلّا قلب واحد. و قيل: إنّ المنافقين كانوا يقولون: إنّ لمحمّد قلبين ينسبونه إلى الدهاء فأكذبهم اللّه بذلك و قيل: إنّ رجلا كان يقول: إنّ لي نفسين نفسا تأمرني و نفسا تنهاني فنزل ذلك فيه.

و حاصل المعنى: ليس لأحد قلبان يؤمن بأحد هما و يكفر و إنّما هو قلب واحد فإمّا أن يؤمن و إمّا أن يكفر و نزلت الآية ردّا على قولهم في هذا المعنى صراحة و مطابقة و تفيد التزاما معنى آخر بأنّه كما لا يمكن أن يكون لرجل واحد قلبان لأنّ أمر الرجل الواحد لا ينتظم و معه قلبان و كيف يمكن الجمع بين اتّباع أمرين متضادّين اتّباع الوحي و القرآن و اتّباع الكفر و الطغيان؟ فالاعتقاد ينشئ من فعل القلب فحينئذ لا يجوز أن يحبّ قوما بهذا القلب و يعادي قوما بهذا القلب فإذا كان لا يجوز كون قلبين لرجل واحد كيف يمكن و ينتظم امور العالم و له إلهان و خالقان و معبودان؟

قوله تعالى: [وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ طاهر من امرأته: قال لها: أنت عليّ كظهر امّي، و كانت العرب تطلّق نساءها في الجاهليّة بهذا اللّفظ فلمّا جاء الإسلام نهوا عنه و أوجب الكفّارة عن من ظاهر من امرأته، و المعنى أنّ الزوجة لا تصير امّا فبيّن سبحانه أنّ هذه النسوة اللّاتي ظاهرتموهنّ لسن امّهاتكم فإنّ امّهاتكم

ص: 276

على الحقيقة هنّ اللّائي ولدنكم أو أرضعنكم.

[وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ و «الأدعياء» جمع الدعيّ و هو الّذي يتبنّاه الإنسان فبيّن اللّه سبحانه أنّه ليس بابن على الحقيقة و نزلت في زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبيّ من بني عبد ودّ تبنّاه النبيّ قبل الوحي و كان قد وقع عليه السبي فاشتراه رسول اللّه بسوق عكاظ فدعاه صلّى اللّه عليه و آله إلى الإسلام فأسلم فقدم أبوه إلى مكّة و أتى أبا طالب و قال: سل ابن أخيك فإمّا أن يبيعه و إمّا أن يعتقه فلمّا قال ذلك أبو طالب لرسول اللّه قال: هو حرّ فليذهب حيث شاء، فأبى زيد أن يفارق رسول اللّه فقال حارثة: اشهدوا يا معشر قريش إنّه ليس ابني، فقال رسول اللّه: اشهدوا أنّه ابني، فكان يدعى زيد بن محمّد فلمّا تزوّج النبيّ زينب بنت جحش و كانت تحت زيد بن حارثة قالت اليهود و المنافقون: تزوّج محمّد امرأة ابنه و هو ينهى الناس عنها! فقال اللّه: ما جعل من تدعونه ولدا و هو ثابت النسب من غيركم ولدا لكم.

[ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي إنّ قولكم: «الدعيّ ابن الرجل» شي ء تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له عند اللّه [وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَ الّذي يلزم العمل به [وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ يرشد إلى طريق الحقّ.

[ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الّذين ولّدوهم و أنسبوهم إليهم أو إلى من ولدوا على فراشهم [هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي نسبة الأبناء إلى الآباء أعدل عند اللّه قولا و حكما [فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ و لم تعرفوه بأعيانهم [فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ فهم إخوانكم في الدين و الملّة فتقولوا: يا أخي «و مواليكم» أي بنو أعمامكم. و قيل: المعنى أولياؤكم في وجوب النصرة. و قيل: معناه أي إذا أعتقتموهم من رقّ فلكم و ولاؤهم.

[وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي ليس عليكم حرج في نسبته إلى المتبنّين إذا ظننتم أنّه أبوه و لم تعلموا أنّه ليس بابن له فلا يؤاخذكم اللّه به و لكنّ الإثم و الجناح في ما تعمّدت قلوبكم و قصدتموه من دعائهم إلى غير آبائهم فإنّكم حينئذ تؤاخذون به و قيل: ما أخطأتم قبل النهي و ما تعمّدتم بعد النهي [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً] لما سلف من قولكم [رَحِيماً] بكم.

ص: 277

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 6 الى 10]

اشارة

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)

النزول:

قال الكلبيّ آخى رسول اللّه بين الناس فكان يؤاخي بين الرجلين فإذا مات أحدهما ورثه الثاني منهما دون أهله فمكثوا بذلك ما شاء اللّه حتّى نزلت: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ» فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة و الهجرة و ورث الأدنى فالأدنى من القربات و قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة و كان لا يرث الأعرابيّ المسلم من المهاجرين شيئا فلمّا نزلت هذه الآية فصارت المواريث بالقرابات.

قوله: [النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي هو أولى بهم منهم بأنفسهم، و قيل:

في معناه وجوه:

أحدهما: أنّه صلّى اللّه عليه و آله أحقّ بتدبيرهم و حكمه أنفذ عليهم من حكمهم على أنفسهم لوجوب طاعته الّتي هي مقرونة بطاعة اللّه.

و ثانيها: أنّه أولى بهم في الدّعوة فإذا دعاهم النبيّ إلى شي ء و دعتهم أنفسهم إلى شي ء كانت طاعته أولى من طاعة أنفسهم و هذا قريب من معنى الأوّل.

و ثالثها: أنّه أولى بهم من أنفسهم فإذا كان هو أحقّ بهم و هو لا يرث امّته مع هذا الحقّ فكيف يرث من توجبون حقّه بالتبنّي؟

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أراد غزوة تبوك و أمر الناس بالخروج قال قوم:

ص: 278

نستأذن آباءنا و امّهاتنا، فنزلت هذه الآية.

و في قراءة ابيّ بن كعب و ابن مسعود أنّهم كانوا يقرءون: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» و هو أب لهم. و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

قال مجاهد: كلّ نبيّ أب لأمّته و لذلك صار المؤمنون إخوة و اشتقاق الأنفس من النفاسة و الجلالة لأنّ هذه الصفة أكرم ما فيه أو من التنفّس الّذي هو التروّح و بمعنى الأوّل فهي خاصّة الحيوان الحسّاسة الدرّاكة.

قوله: [وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ المعنى أنّهن للمؤمنين كالامّهات في الحرمة و تحريم النكاح و لسن امّهات لهم على الحقيقة إذ لو كنّ كذلك لكانت بناته أخوات المؤمنين على الحقيقة فكان لا يحلّ للمؤمن التزويج بهنّ فثبت أنّ المراد به يعود إلى حرمة العقد عليهنّ لا غير لأنّه لم يثبت شي ء بين المؤمنين و بينهنّ من الأمومة سوى هذه الواحدة ألا ترى أنّه لا يحلّ للمؤمنين رؤيتهنّ و لا يرثن المؤمنين كالامّهات و لا يرثهنّ.

[وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ و أولو الأرحام هم ذوي الأنساب و لا توارث إلّا بالولادة و الرحم و المعنى أنّ ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض المؤمنين من الأنصار و المهاجرين الّذين هاجروا من مكّة إلى المدينة و المتؤاخين فصارت هذه الآية ناسخة للتوارث بالهجرة و المؤاخاة و يتعيّن أنّ الميراث بالنسب فمن كان أقرب في قرباه فهو أحقّ بالميراث من الأبعد.

[إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً] هذا استثناء منقطع و معناه لكن إن فعلتم إلى أوليائكم المؤمنين و خلفائكم ما يعرف حسنه و صوابه، قيل: المراد بذلك وصيّة الرجل لإخوانه و أحبّائه في معروف و قيل: لمّا نسخ آية التوارث بالمؤاخاة و الهجرة أباح الوصيّة فيوصي لمن يتولّاه بما أحبّ من الثلث. و فسّروا المعروف بالوصيّة، و حكي عن محمّد بن الحنفيّة و عكرمة و قتادة أنّ معناه الوصيّة لذوي القرابات. الكافرة و قيل: لا يصحّ هذا لأنّه تعالى نهى عن ذلك بقوله: «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ». و قال أصحابنا الإماميّة:

ص: 279

إنّها جائزة للوالدين و الولد.

[كانَ ذلِكَ نسخ الميراث بالهجرة و ردّه إلى اولي الأرحام [فِي الْكِتابِ أي في القرآن أو في اللوح أو في التوراة [مَسْطُوراً] و مكتوبا.

قوله: [وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ و المراد من الميثاق المأخوذ منهم إرسالهم و أمرهم بالتبليغ و خصّ بالذكر أربعة من الأنبياء في الآية لأنّ عيسى و موسى كان لهما في زمان نبيّنا قوم و امّة فذكرهما احتجاجا و بيانا عليهما و إبراهيم كان العرب يقولون بفضله و يتّبعونه في الشعائر بعضها و نوحا لأنّه كان أصلا ثانيا للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان.

فلو قيل: آدم كان أولى بالذكر على هذه الصورة.

فالجواب أنّه في زمان آدم ما كان إهلاك و تعذيب و لكن نوح كان مخلوقا للإنذار و النبوّة.

و بالجملة المعنى: و اذكر يا محمّد حين أخذ اللّه الميثاق و العهد على النبيّين خصوصا بأن يصدّق بعضهم بعضا. و قيل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا اللّه و يدعو إلى عبادة اللّه و أن ينصحوا لأمّتهم.

[وَ مِنْكَ يا محمّد و إنّما قدّمه لفضله و شرفه [وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ و تخصيص ذكرهم مرّ بيانه و لأنّهم أصحاب الشرائع [وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً] أي عهدا شديدا على الوفاء بما حمّلوا من إعباء الرسالة و تبليغ الشرائع، و قيل:

المعنى: أخذنا منهم عهدا على أن يعلنوا أنّ محمّدا رسول اللّه و كذلك يعلن محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنّه لا نبيّ بعده.

ثمّ بيّن سبحانه الفائدة في أخذ الميثاق فقال: [لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي فعلنا ذلك ليسأل اللّه يوم القيامة الأنبياء الّذين صدقوا عهدهم فيظهر صدقهم و يعترفون بأنّا قد بلّغنا قومنا و بيّنّا لهم ما كلّفنا اللّه إبلاغه أو أن يسأل عنهم هل ظلم اللّه أحدا هل نجازي كلّ إنسان بفعله هل عذاب بغير ذنب؟ و نحو ذلك فيقولون: عدل في حكمه و

ص: 280

جازى كلّا بفعله، فهذا حال الصادقين و فيه إشارة إلى تبكيت الكاذب [وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً].

ثمّ خاطب سبحانه المؤمنين فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ذكّرهم عظيم نعمته عليهم في دفع الأحزاب عنهم [إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ] هم الّذين تحزّبوا على رسول اللّه و هم قريش و غطفان و بنو قريظة و بنو النضير أيّام الخندق [فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ ريح الصبا حتى أكفئت قدورهم (1) و نزعت فساطيطهم [وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها] من الملائكة و قيل: إنّ الملائكة لم يقاتلوا يومئذ و لكن كانوا يشجّعون المؤمنين و يخوّفون الكافرين [وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً] من قرء بالتاء وجّه الخطاب إلى المؤمنين و من قرء بالياء وجّه الضمير إلى الكافرين.

قوله تعالى: [إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا] أي و اذكروا حين جاءكم جنود المشركين «من فوقكم» أي من فوق الوادي من قبل المشرق قريظة و النضير و غطفان «وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» أي قبل المغرب من ناحية مكّة أبو سفيان في قريش و من تبعه «وَ إِذْ زاغَتِ» و مالت عن كلّ شي ء فلم ينظر إلّا إلى عدوّها مقبلا من كلّ جانب. و قيل: معناه عدلت الأبصار عن مقرّها من الدهش و الحيرة «وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» و الحنجرة جوف الحلقوم أي شخصت القلوب من مكانها فلو لا أنّه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت، و قوله: «بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» لأنّهم جبنوا و جزع أكثرهم و إنّ الجبان إذا اشتدّ خوفه لا بدّ و أن ينتفخ ريته و إذا انتفخت الريّة دفعت القلوب إلى الحنجرة.

قال أبو سعيد الخدريّ: قلنا يوم الخندق: يا رسول اللّه هل من شي ء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: قولوا: اللهمّ استر عوراتنا و آمن روعاتنا، قال: فقلناها فضرب وجوه أعداء اللّه بالريح فهزموا.

«وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» أي اختلفت الظنون فظنّ بعضكم باللّه النصر و بعضكم آيس و قنط و ظنّوا ظنونا مختلفة و من كان منهم ضعيف الإيمان و القلب ظنّ ما ظنّه المنافقون من أنّ ما وعده من نصرة الدين غرور.

ص: 281


1- جمع القدر- بالكسر- ما يطبخ فيه.

و قصّة غزوة الخندق مختصرها ذكر أصحاب السير كان من حديث الخندق أنّ نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق و حيّ بن أخطب في جماعة من بني النضير الّذين أجلاهم رسول اللّه خرجوا حتّى قدموا على قريش بمكّة فدعوهم إلى حرب رسول اللّه و قالوا: إنّا سنكون معكم عليهم حتّى نستأصلهم فقال لهم قريش: يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الأوّل فديننا خير أم دين محمّد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه و أنتم أولى بالحقّ منه فهم الّذين أنزل اللّه فيهم: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا- إلى قوله- وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» (1) فسرّ قريشا ما قالوا و نشطوا لما دعوهم فأجمعوا لذلك و استعدّوا له ثمّ أتوا أولئك النفر من اليهود حتّى جاءوا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول اللّه و أخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه و إنّ قريشا قد بايعوهم على ذلك فأجابوا غطفان و قبلوا فخرجت قريش و قائدهم أبو سفيان بن حرب و خرجت غطفان و قائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاريّ و جماعة من أشجع و حلفائهم من بني أسد و غطفان و بني سليم مددا لقريش.

فلمّا علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضرب الخندق على المدينة و كان الّذي أشار عليه سلمان الفارسيّ و كان أوّل مشهد شهد سلمان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يومئذ حرّ قال: يا رسول اللّه إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون حتّى أحكموه.

فما ظهر من دلائل النبوّة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد اللّه الحافظ بإسناده قال:

خطّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعا بين عشرة فاختلفت المهاجرون و الأنصار في سلمان الفارسيّ و كان رجلا قويّا فقال الأنصار: سلمان منّا، و قال المهاجرون:

سلمان منّا، قال عمرو بن عوف: فكنت أنا و سلمان و حذيفة بن اليمان و النعمان بن مقرّن و ستّة من الأنصار نقطع أربعين ذراعا فحفرنا إذا بلغنا الثرى أخرج اللّه صخرة بيضاء مدوّرة من بطن الخندق فكسرت حديدنا و شقّت علينا فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول اللّه و أخبره عن الصخرة فأمّا إن نعدل عنها فإنّ المعدل قريب و أمّا إن نأمرنا فيه بأمره فإنّا

ص: 282


1- النساء: 54.

لا نحبّ أن نجاوز خطّه فرقى سلمان حتّى أتى رسول اللّه و هو مضروب عليه قبّة فقال: يا رسول اللّه خرجت صخرة بيضاء مدوّرة فكسرت حديدنا حتّى ما يحكّ فيها قليل و لا كثير فمرنا فيه بأمرك، فهبط رسول اللّه مع سلمان في الخندق و أخذ المعول و ضرب به ضربة فتألّق منها برقة أضاءت ما بين لابتيها- يعني لابتي المدينة- حتّى لكأنّ مصباحا في جوف ليل مظلم فكبّر رسول اللّه تكبيرة فتح فكبّر المسلمون ثمّ ضرب ضربة اخرى فلمعت برقة اخرى فقال سليمان: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه ما هذا الّذي أرى فقال: أمّا الاولى فإنّ اللّه عزّ و جلّ فتح عليّ بها اليمن و أمّا الثانية فإنّ اللّه فتح عليّ بها الشام و المغرب و أمّا الثالثة فإنّ اللّه فتح عليّ بها المشرق فاستبشر المسلمون بذلك و قالوا: الحمد للّه موعود صادق.

قال: و طلعت الأحزاب فقال المؤمنون: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ» و قال المنافقون:

ألا تعجبون يحدّثكم و يعدكم الباطل و يخبركم أنّه يبصر في يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى و أنّها تفتّح لكم و أنتم تحفرون الخندق و لا تستطيعون أن تبرزوا؟

و ممّا ظهر أيضا من آيات النبوة ما رواه أبو عبد اللّه الحافظ بالإسناد عن عبد الواحد ابن أمين المخزوميّ قال: حدّثني أيمن المخزوميّ قال: سمعت جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: كنّا يوم الخندق نحفر فعرضت فيه كدّانة و هي القطعة من الجبل فقلنا: يا رسول اللّه عرضت فيه كدّانة فقال صلّى اللّه عليه و آله: رشّوا عليها ماء ثمّ قام فأتاها و بطنه معصوب بحجر من الجوع فأخذ المعول أو المسحاة فسمّى ثلاثا ثمّ ضرب فعادت كثبا اهيل فقلت له: ائذن لي يا رسول اللّه إلى المنزل ففعل فقلت: للمرأة هل عندك من شي ء؟ فقالت: عندي صاع من شعير و عناق فطحنت الشعير و عجنته و ذبحت العناق و سلختها و خلّيت بين المرأة و بين ذلك ثمّ أتيت إلى رسول اللّه فجلست عنده ساعة ثمّ أتيت إلى المرأة فإذا العجين و اللّحم قد أمكنا فرجعت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت: إنّ عندنا طعاما فقم أنت يا رسول اللّه و رجلان من أصحابك فقال: و كم هو؟ قلت: صاع من شعير و عناق، فقال صلّى اللّه عليه و آله للمسلمين جميعا: قوموا إلى جابر، فقاموا فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلّا اللّه و قلت: جاء بالخلق على صاع و عناق فدخلت على المرأة و قلت: قد افتضحت جاءك رسول اللّه بالخلق أجمعين فقالت: هل سألك كم

ص: 283

طعامك؟ قلت: نعم، فقالت: اللّه و رسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا فكشفت عنّي غمّا شديدا فدخل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال لها: دعيني من اللّحم فجعل صلّى اللّه عليه و آله يثرّد و يفرّق اللّحم ثمّ يجمّ هذا و يجمّ هذا فما زال يقرب إلى الناس حتّى شبعوا جميعا و يعود التنوّر و القدر على حاله ثمّ قال رسول اللّه: كلي و أهدي قالت: فلم نزل نأكل و نهدي قومنا أجمع، أورده البخاريّ في الصحيح.

و عن البراء بن عازب قال: كان رسول اللّه ينقل معنا التراب يوم الأحزاب و قد وارى التراب بياض بطنه و هو يقول: اللّهمّ لو لا أنت ما اهتدينا، و لا تصدّقنا و لا صلّينا، فأنزلن سكينة علينا، و ثبّت الأقدام إن لاقينا، إنّ الاولى و قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا يرفع بها صوته صلّى اللّه عليه و آله رواه البخاريّ أيضا في الصحيح عن أبي الوليد عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء.

قالوا: و لمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الخندق و أقبلت قريش حتّى نزلت بين الجرف و الغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم و من تابعهم من بني كنانة و أهل تهامة و أقبلت غطفان و من تابعهم من أهل نجد حتّى نزلوا إلى جانب احد و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى جعلوا ظهورهم إلى الهلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره و الخلق بينه و بين القوم و أمر بالذراري فرفعوا في الأطام.

و خرج عدوّ اللّه حيّ بن أخطب النضيريّ حتّى أتى كعب بن أسيد القرظيّ صاحب بني قريظة و كان قد وادع رسول اللّه على قومه و عاهد على ذلك فلمّا سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه فاستأذن ابن أخطب عليه فأبى كعب أن يفتح له الباب فناداه يا كعب افتح لي اكلّمك قال: يا حيّ إنّك رجل مشئوم إنّي عاهدت محمّدا و لست بناقض ما بيني و بينه و لم أر منه إلّا وفاء و صدقا، قال: و يحك افتح لي اكلّمك، قال: ما أنا بفاعل قال: ما أغلقت دوني إلّا على جشيشة (الجشيشة طعام يصنع من البرّ و اللّحم و التمر) نكره أن آكل منها معك فاستحيا كعب و فتح الباب فقال حيّ: و يحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر و ببحر طام جئتك بقريش على قادتها و سادتها و بغطفان على سادتها و قادتها قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمّدا و من معه فقال كعب: جئتني و اللّه بذلّ

ص: 284

و بجهام قد هراق ماؤه يرعد و يبرق و ليس فيه شي ء فدعني و محمّدا و ما أنا عليه فلم أر من محمّد إلّا صدقا و وفاء فلم يزل بكعب حتّى سمح له على أن أعطاه عهدا و ميثاقا لئن رجعت قريش و غطفان و لم يصيبوا محمّدا أن أدخل معك في حصنك حتّى يصيبني ما أصابك فنقض كعب عهده مع رسول اللّه.

فلمّا انتهى الخبر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعث سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس و هو يومئذ سيّد الأوس و سعد بن عبادة سيّد الخزرج و بعث صلّى اللّه عليه و آله معهما عبد اللّه بن رواحة و خوات بن جبير فقال: انطلقوا حتّى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقّا فالحنوا لنا لحنا نعرفه و لا تفشوه عند الناس و إن كانوا على الوفاء فأجهروا به فخرجوا حتّى أتوهم فوجدوهم على أخبث ممّا بلغهم عنهم قالوا: لا عقد بيننا و بين محمّد و لا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة و شاتموه فقال سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فإنّ ما بيننا و بينهم أعظم من المشاتمة ثمّ أقبلوا على رسول اللّه و قالوا: عضل و القارة، و هما رجلان من قبيلتين دخلا في الإسلام ثمّ رجعا و غدرا فيضرب بهما المثل لغدر عضل و القارة بأصحاب رسول اللّه و هم حبيب بن عديّ و أصحابه أصحاب الرجع فقال رسول اللّه: اللّه أكبر ابشروا يا معشر المسلمين.

و عظم عند ذلك البلاء و اشتدّ الخوف و أتاهم عدوّهم من فوقهم و من أسفل منهم حتّى ظنّ المؤمنون كلّ الظنّ و ظهر النفاق من بعض المنافقين.

فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقام المشركون عليه بضعا و عشرين ليلة لم يكن بينهم قتال إلّا الرمي بالنبل إلّا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ أخو بني عامر بن لؤيّ و عكرمة بن أبي جهل و ضرار بن الخطّاب و هبيرة بن أبي وهب و نوفل بن عبد اللّه قد تلبّسوا للقتال و خرجوا على خيولهم حتّى مرّوا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيّأوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان.

ثمّ أقبلوا حتّى وقفوا على الخندق فقالوا: إنّها و اللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ثمّ يتمسّموا مكانا ضيّقا من الخندق فاقتحموا فجالت خيولهم في فسحة بين الخندق و سلع و خرج عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في نفر من المسلمين حتّى أخذ عليهم الثغرة الّتي اقتحموا

ص: 285

فيها و أقبلت الفرسان نحوهم.

و كان عمرو بن عبد ودّ فارس قريش و كان قد قاتل يوم بدر حتى ارتثّ و أثبته الجراح و لم يشهد أحدا فلمّا كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده و كان يعدّ بألف فارس و كان يسمّى بفارس يليل؛ لأنّه أقبل في ركب من قريش حتّى إذا كانوا بيليل- و هو واد قريب- عرضت لهم بنو بكر في عدّة فقال لأصحابه: امضوا فمضوا فقام في وجوه بني بكر حتّى منعهم من أن يصلوا إليه فعرف بذلك و كان اسم الموضع الّذي حفر فيه الخندق المداد و كان أوّل من طفره عمرو و أصحابه فقيل في حقّه: فارس جزع المداد و كان ينادي: من يبارز؟

و هو مقنّع بالحديد فقام عليّ و قال: أنا له يا رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه عمرو اجلس و نادى عمرو ألا رجل و هو يؤنّبهم و يوبّخهم و يقول: أين جنّتكم الّتي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها فقام عليّ و قال: يا رسول اللّه أنا له، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه عمرو فقال عليّ عليه السّلام و إن كان ثمّ نادى الثالثة فقال:

و لقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز و وقفت إذ جبن المشجّع موقف البطل المناجز إنّ السماحة و الشجاعة في الفتى خير الغرائز فقام علىّ و قال: يا رسول اللّه أنا لها فقال: إنّه عمرو فقال عليّ: و إن كان عمروا فاستأذن رسول اللّه فأذن له.

و في ما رواه لنا (1) السيّد أبو محمّد الحسينيّ القائنيّ عن الحاكم أبي القاسم الحسكانيّ بالإسناد عن حذيفة قال: فألبسه رسول اللّه درعه ذات الفضول و أعطاه سيفه ذا الفقار و عمّمه عمامة السحاب تسعة أكوار ثمّ قال له: تقدّم فقال صلّى اللّه عليه و آله لمّا ولّى عليّ: اللّهمّ احفظه من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله و من فوق رأسه و من تحت قدميه. قال ابن إسحاق:

فمشى عليّ عليه السّلام إليه و هو يقول.

لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجزذو نيّة و بصيرة و الصدق منجا كلّ فائز

إنّى لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز قال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا عليّ قال: ابن عبد مناف؟ فقال: أنا عليّ بن أبي طالب

ص: 286


1- الرواية من مجمع البيان.

فقال: غيرك يا بن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك فإنّى أكره أن أريق دمك فقال عليّ عليه السّلام: و لكنّي و اللّه ما أكره أن أريق دمك فغضب و نزل و سلّ سيفه كأنّه شعلة نار ثمّ أقبل نحو عليّ مغضبا فاستقبل عليّ بدرقته فضربه عمرو بالدرقة فقدّها و أثبت فيها السيف و أصاب رأسه فشجّه و ضربه عليّ على حبل العائق فسقط.

و المراد من قولهم ضرب زيد عمروا هذا الخبيث المقتول و المراد من زيد عليّ عليه السّلام لأنّ من أسمائه عليه السّلام زيد؛ كما روى الصدوق في حديث أنّه عليه السّلام قال يوما على المنبر في البصرة: أنا زيد بن عبد مناف فقام ابن الكوّا في المسجد قال: إنّا لا نعرفك إلّا بعليّ بن أبي طالب فقال عليه السّلام: يا لكع إنّ أبي سمّاني زيدا باسم جدّه.

و في رواية حذيفة: و تسيّف على رجليه من أسفل فوقع على قفاه و ثارت بينهما عجاجة فسمع عليّ عليه السّلام يكبّر فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قتله و الّذي نفسي بيده فكان أوّل من ابتدر العجاج عمر بن الخطّاب فإذا يمسح عليّ سيفه بدرع عمرو فكسّر عمر بن الخطّاب و قال: يا رسول اللّه قتله.

فجزّ عليّ عليه السّلام رأسه و أقبل نحو رسول اللّه و وجهه يتهلّل فقال عمر: هلّا سلبته درعه فإنّه ليس للعرب درع أنفس منها؟ فقال عليه السّلام: ضربته فاتّقاني بسوأته فاستحيت أن أستلبه.

قال حذيفة: فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أبشر يا عليّ فلو وزن اليوم عملك بعمل امّة لرجح عملك بعملهم و ذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلّا و قد دخله و هن بقتل عمرو و لم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا و قد دخله عزّ بقتل عمرو.

و بحذف الأسانيد عن عبد اللّه بن مسعود أنّه كان يقرأ «و كفى اللّه المؤمنين القتال بعليّ». و خرج أصحاب عمرو منهزمين و تبادر المسلمون فوجدوا نوفل بن عبد العزّى جوف الخندق فجعلوا يرمونه بالحجارة فقتله الزبير بن العوّام. و ذكر ابن إسحاق أنّ عليّا طعنه في ترقوته حتّى أخرجها من مرارته فمات في الخندق و بعث المشركون إلى رسول اللّه يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى.

و روي عن أبي بكر بن عيّاش أنّه قال: ضرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام أعزّ

ص: 287

منها و ضرب عليه السّلام ضربة ما كان أشأم منها. يعني ضربة ابن ملجم ألجمه اللّه بلجام النار.

و بالجملة فكان الأمر على المسلمين في غاية الشدّة و الخوف بالغا إلى الغاية؛ قال حذيفة بن اليمان و اللّه لقد رأينا يوم الخندق و بنا من الجهد و الجوع و الخوف ما لا يعلمه إلّا اللّه و قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فصلّى ما شاء اللّه من اللّيل ثمّ قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله اللّه رفيقي في الجنّة قال حذيفة: فو اللّه ما قام منّا أحد ممّا بنا من الجوع فلمّا لم يقم أحد دعاني فلم أجد بدّا من إجابته قلت: لبّيك قال: اذهب فجئني بخبر القوم و لا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع قال: و أتيت القوم فرأيت أنّ اللّه خذلهم فإذا ريح اللّه و جنوده يفعل بهم ما يفعل من إرسال ريح باردة عليهم في ليلة شاتية و إرسال الملائكة و قذف الرعب في قلوبهم حتّى كان البعض يلتزق بالبعض من خوف الخيل في جوف الليل و هذا معنى.

قوله تعالى: [فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها] فما يستقرّ لهم عزم و لا تثبت لهم نار و لا يطمأنّ لهم قدر قال حذيفة: فلمّا رأيت الأمر على ذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله ثمّ قال: يا معشر قريش لينظر أحدكم من جليسه قال حذيفة: فبدأت بالّذي عن يميني فقلت: من أنت قال: أنا فلان ثمّ عاد أبو سفيان براحلته فقال: يا معشر قريش و اللّه ما أنتم بدار مقام هلك الخفّ و الحافر و أخلفنا بنو قريظة بسبب دهاء رجل يقال له نعيم بن مسعود الأشجعيّ- و قصّته مشهورة- و هذه الريح لا يستمسك لنا معها شي ء ثمّ عجّل فركب راحلته و إنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلّا بعد ما ركبها قال حذيفة: قلت في نفسي:

لو رميت عدوّ اللّه فقتلته كنت صنعت شيئا فوترت قوسي و وضعت السهم في كبد القوس و أنا أريد أن أرميه فأقتله فذكرت قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع، فحططت القوس و رجعت إلى رسول اللّه و هو يصلّي فلمّا فرغ من صلاته قال: ما الخبر؟ فأخبرته و قد كان دعا عليهم: اللهمّ أنت منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللّهم اهزمهم و زلزلهم.

و عن أبي هريرة قال: كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: لا إله إلّا وحده أعزّ جنده، و نصر عبده، و غلب الأحزاب وحده، فلا شي ء بعده.

و عن سليمان صرد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حين أجلي عنه الأحزاب: الآن

ص: 288

نغزوهم و لا يغزونا فكان كما قال: فلم تغزهم قريش بعد ذلك.

و قوله: [وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا] أي كلّ قسم من أقسام الظنون لأنّ عند الأمر العظيم كلّ أحد يظنّ شيئا، و يمكن الألف و اللام للاستغراق و يمكن أن يكون العهد فإنّ المعهود من المؤمن ظنّ الخير باللّه و الكافر ظنّ السوء كما قال تعالى: «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» (1).

فإن قيل: المصدر لا تجمع فما الفائدة في جمع الظنون؟ فالمراد من بيان أقسام ظنون مختلفة بعضهم صائبين و بعضهم مخطئين و بعضهم كاذبين و لو كان يقول: تظنّون ظنّا، ما أفاد هذا المعنى.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 11 الى 20]

هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15)

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)

قوله: [هُنالِكَ يقال: «هنا» للقريب و «هنالك» للبعيد و «هناك» للمتوسّط

ص: 289


1- ص: 27.

بين القريب و البعيد و سبيله سبيل ذا و ذلك و ذاك.

و لمّا وصف سبحانه شدّة الأمر يوم الخندق قال: [هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ و اختبروا ليظهر حسن إيمانهم و صبرهم في جهاد أعدائه فظهر من كان ثابتا قويّا في الإيمان و من كان ضعيفا [وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً] و حرّكوا بالخوف تحريكا شديدا عظيما و ذلك أنّ الخائف يكون قلقا لا يستقرّ على مكانه بل بعض اضطربوا على دينهم أو في دينهم، و هذا الابتلاء ليس لاستبانة الأمر له سبحانه لأنّه عالم بما سيكون بل استحقاق الثواب و العقاب لا يتحقّق إلّا بعد الوقوع و أراد سبحانه إظهار الأمر للملائكة و الأنبياء.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ فسّر الظنون فظنّ المنافقون أنّ ما قال اللّه و رسوله كان زورا و وعدهما كان غرورا حيث قطعوا بأنّ الغلبة الكفّار واقعة.

و اذكر [إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ أي يا أهل مدينة الرسول لا وجه لإقامتكم مع محمّد، و «يثرب» اسم للمدينة و لها أسماء أخر؛ ذكر السيّد المرتضى قدّس اللّه سرّه أنّ من أسماء المدينة طيبة و طابة و الدار و السكينة و جائزة و المحبورة و المحيّة و المحبوبة و العذراء و المرحومة و القاصمة و يندد و ذلك ثلاثة عشر أسماء. أي لا مكان لكم يا أهل يثرب تقومون فيه للقتال إذا فتح الميم [فَارْجِعُوا] إلى منازلكم بالمدينة و القائلون المنافقون من أصحاب الرسول مثل عبد اللّه بن ابيّ و أصحابه أو بنو سالم أو أوس ابن قبطيّ و من وافقه قوله: [وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ صلّى اللّه عليه و آله و استأذنوا من النبيّ و تعلّلوا بأنّ [بُيُوتَنا عَوْرَةٌ] أي فيها خلل لا يأمن صاحبها السارق على متاعه يعني ليست بحصينة أو المعنى، أنّ بيوتنا خالية من الرجال نخشى عليها و لا نأمن على أهلها فكذّبهم اللّه فقال: [وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ] بل حصينة، عن الصادق عليه السّلام. [إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً] أي ما يريدون إلّا هربا من القتال.

[وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها] أي و لو دخل هؤلاء الّذين يريدون القتال و هم العدوّ و الأحزاب على الّذين يقولون: إنّ بيوتنا عورة، و هم المنافقون من أقطار المدينة و نواحيها و البيوتات [ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها] أي ثمّ دعوا هؤلاء إلى الشرك لأشركوا

ص: 290

و المراد بالفتنة الشرك عن ابن عبّاس. [وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً] أي و ما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلّا قليلا أو المعنى و ما أقاموا بالمدينة بعد إعطائهم الكفر و قبولهم إلّا قليلا من الزمان حتّى يعاجلهم اللّه بالعذاب.

ثمّ وبّخهم سبحانه و ذكر عهدهم مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالثبات في المواطن فقال: [وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ الخندق [لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ] و بايعوا و حلفوا له صلّى اللّه عليه و آله أنّهم ينصرونه و يدفعون عنه كما يدفعون عن نفوسهم و لا يرجعون عن مقاتلة العدوّ و لا ينهزمون قال مقاتل: يريد ليلة العقبة. [وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا] يسألون عنه في الآخرة، و إنّما جاء بلفظ الماضي تأكيدا و تحقّقا للوقوع من السؤال.

ثمّ قال: [قُلْ يا محمّد للذين يستأذنوك للرجوع و اعتلّوا بأنّ بيوتنا خالية:

[لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً] في هذه الوقعة [لا تُمَتَّعُونَ في الدنيا [إِلَّا] أيّاما قلائل إن لم يحضركم آجالكم و إن قدّر لكم فالهرب و الفرار لا ينفعكم و لا يزيد في آجالكم و لا تسلمون من القتل أو الموت.

[قُلْ يا محمّد: [مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ و يدفع عنكم قضاء اللّه و يمنعكم من اللّه [إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً] و عذابا و عقوبة [أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً] أي نصرا و عزّا فإنّ أحدا لا يقدر على ذلك [وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا] يلي أمورهم [وَ لا نَصِيراً] يدفع عنهم السوء.

ثمّ قال سبحانه: [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ و هم الّذين يمنعون غيرهم من النصرة و الجهاد مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يثبّطوهم و يشغلونهم لينصرفوا عنه و ذلك لأنّهم كانوا يقولون: ما محمّد و أصحابه إلّا آكلة رأس و لو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان و الأحزاب.

قوله: [وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ يعني اليهود قالوا: لإخوانهم المنافقين [هَلُمَّ إِلَيْنا] أي أقبل إلينا. و أهل الحجاز يقولون للواحد و الاثنين و الجمع و المذكّر و المؤنّث بلفظ الواحد و إنّما هي «لمّ» ضمّت إليها هاء الّتي للتنبيه و حذفت الألف إذ صار شيئا واحدا كقولهم «ويله» و أصله: ويل لأمّه فلمّا جعلوهما شيئا واحدا حذفوا و غيّروا، و أمّا بنو تميم فيصرفونه تصريف الفعل يقولون: هلمّ يا رجل و هلمّا و هلمّوا و هلمّي يا امرأة و هلمن يا نساء إلّا

ص: 291

أنّهم يفتحون آخر الواحد البتّة و بالجملة فالمعنى: تعالوا و أقبلوا إلينا و دعوا محمّدا.

و قيل: القائلون هم المنافقون قالوا لإخوانهم من ضعفة المسلمين: لا تحاربوا و خلّوا محمّدا فإنّا نخاف عليكم الهلاك.

[وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ و لا يحضرون القتال في سبيل اللّه [إِلَّا قَلِيلًا] يخرجون رياء و سمعة قدر ما يوهمون أنّهم معكم و لا يحضرون القتال إلّا كارهين و يكون قلوبهم مع المشركين [أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بأبدانهم و أنفسهم و أموالهم في القتال و في النفقة و بخلاء بالنفقة و النصرة، ثمّ وصف سبحانه جبنهم و جرأتهم [فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي إذا عرض لهم أمر صعب في القتال تشخص أبصارهم و تخار أعينهم من شدّة خوفهم كعين الّذي يغشى عليه و يقع عليه غشوة الموت و هي الحالة الّتي تحدث عند الموت من ذهاب العقل و شخوص البصر فلا تطرف العين حينئذ.

[فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ و الفزع و جاء الأمن و الغنيمة [سَلَقُوكُمْ (و إيّاك و بذاءة اللسان حضورا و غيابا فقد قيل: من لا حاك فقد عاداك و في الحديث: إنّ أوّل ما نهاني ربّي عنه بعد عبادة الأوثان شرب الخمر و ملاحاة الرجال و قيل: من اغتاب خرق و من استغفر رفع و عليك بحفظ اللسان و لو من الطيّب من القول في غير محلّه قال صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم المازحين فاحثوا في أفواههم إنّ البلاء موكّل بالمنطق و شرّ الناس من شرّفوا لبذاءة لسانه مثل عمر و عاص). و آذوكم و خاصموكم [بِأَلْسِنَةٍ] سليطة ذريّة و أيضا [أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ] حتّى أنّهم يبخلون بكلام فيه خير و قيل: معناه: بخلاء بالغنيمة يشاحّون المؤمنين عند القسمة [أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا] أي من تقدّم و صفهم لم يؤمنوا كما آمن غيرهم و إلّا لما فعلوا ذلك [فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] لأنّها لم تقع على وجوه الإخلاص و لم يقصدوا بها وجه اللّه و لا يستحقّ عليها الثواب.

و في هذا دلالة على صحّة مذهبنا في الإحباط لأنّ المنافقين ليس لهم ثواب فيحبط و جهادهم الّذي لم يقارنه إيمان لم يستحقّوا عليه ثوابا.

[وَ كانَ ذلِكَ الإحباط أو ذلك النفاق منهم [عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] هيّنا.

ص: 292

ثمّ وصف سبحانه هؤلاء المنافقين فقال: [يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا] أي يظنّون أنّ الأحزاب الّذين تحزّبوا على رسول اللّه من قريش و غطفان و أسد و اليهود لم ينصرفوا و قد انصرفوا و إنّما ظنّوا ذلك لجبنهم [وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ أي و إن يرجع الأحزاب إليهم ثانية للقتال [يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي يودّ هؤلاء المنافقون أن يكونوا في البادية مع الأعراب يسألون عن أخباركم و لا يكونوا معكم حذرا من القتل تربّصا للدوائر.

[وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا] أي و لو كان هؤلاء المنافقون معكم و فيكم لم يقاتلوا معكم إلّا قدرا يسيرا ليوهموا أنّهم في جملتكم لا لينصروكم.

قوله: [سورة الأحزاب (33): الآيات 21 الى 25]

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)

ثمّ حثّ سبحانه على الجهاد و الصبر عليه فقال:

[لَقَدْ كانَ معاشر المكلّفين [لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ] قدوة صالحة أي لكم برسول اللّه اقتداء لو اقتديتم به في نصرته و الصبر معه في مواطن القتال كما فعل هو يوم أحد إذا انكسرت رباعيّته و شجّ حاجبه و قتل عمّه فواساكم مع ذلك بنفسه فهلّا فعلتم ما فعله؟

و قوله: [لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل من قوله «لكم» و هو تخصيص بعد التعميم للمؤمنين أي إنّما الأسوة برسول اللّه إنّما يكون لمن كان يرجو اللّه و يرجو ما عند اللّه من الثواب و النعيم، أو المعنى: من يخشى اللّه و يخشى البعث الّذي فيه جزاء الأعمال و هو قوله: [وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] أي ذكرا كثيرا و ذلك لأنّ المتذكّر بخلاف الغافل.

ص: 293

ثمّ عاد إلى ذكر الأحزاب فقال: [وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ أي و لمّا عاين المصدّقون باللّه و رسوله الجماعة الّتي تحزّبت على قتال النبيّ مع كثرتهم [قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ و اختلف في معناه على قولين: أحدهما أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان قد أخبرهم أنّه يتظاهر عليهم الأحزاب و يقاتلونهم و وعدهم الظفر بهم فلمّا رأوهم تبيّن لهم مصداق قوله، و كان ذلك معجزا له و القول الثاني: أنّ اللّه وعدهم في سورة البقرة بقوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا- إلى قوله- إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (1) ما سيكون من الشدّة الّتي تلحقهم من عدوّهم.

فلمّا رأوا الأحزاب يوم الخندق قالوا: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ» علما منهم أنّه لا يصيبهم إلّا ما أصاب الأنبياء و المؤمنين قبلهم و زادهم كثرة المشركين يقينا و ثباتا في الحرب و قولهم: «وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ» ليس إشارة إلى ما وقع فإنّهم كانوا يعرفون صدق اللّه قبل الوقوع و إنّما هي إشارة إلى أنّ جميع ما وعد اللّه سيقع مثل فتح مكّة و فتح الروم و فارس.

قوله: [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أي بايعوا أن لا يفرّوا فصدقوا في لقائهم العدوّ [فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ و النحب النذر و العهد و الموت و الخطر أي مات و قتل في سبيل اللّه فأدرك ما تمنّى و فرغ من عمله الّذي يكون أن يعمل و رجع إلى ربّه، و المراد منهم الّذين استشهدوا يوم احد.

روي عن أنس بن النضر أنّ عمّه غاب عن قتال بدر فقال أنس: غبت عن أوّل قتال قاتله رسول اللّه مع المشركين لئن أراني اللّه قتالا للمشركين ليرينّ اللّه ما أصنع فلمّا كان يوم احد انكشف المسلمون و انهزموا فقال: اللّهم إنّي أعتذر إليك بما صنع هؤلاء يعني المسلمين و أبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء يعني المشركين ثمّ تقدّم فلقيه سعد دون احد و قال سعد: أنا معك، قال سعد: و لم أستطع أن أصنع ما صنع فوجد فيه بضع و ثمانون ما بين ضربة بسيف و طعنة برمح و رمية بسهم.

ص: 294


1- البقرة: 214.

و في أصحابه صلّى اللّه عليه و آله نزلت: «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ» [وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ] روى البخاريّ في الصحيح فمنهم من قضى نحبه المراد من استشهد يوم بدر و احد و منهم ينتظر ما وعد اللّه من نصرة أو شهادة من أصحابه صلّى اللّه عليه و آله [وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] أي ما غيّروا العهد الّذي عاهدوا ربّهم كما غيّر المنافقون. قال ابن عبّاس: من قضى نحبه حمزة بن عبد المطّلب و من قتل معه و أنس بن النضر و أصحابه. و في رواية صحيحة بحذف الأسانيد أنّ عليّا عليه السّلام قال: نزلت فينا الآية «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» فأنا و اللّه المنتظر و ما بدّلت تبديلا.

قوله: [لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي صدق المؤمنون من عهودهم ليجزيهم اللّه بصدقهم [وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ بنقض العهد [إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي إن شاء قبل توبتهم فأسقط عقابهم و إن شاء لم يقبل توبتهم و عذّبهم فإنّ إسقاط العذاب على المذهب الصحيح بالتوبة فضل من اللّه لا يجب عقلا و إنّما علمنا ذلك بالسمع و الإجماع على أنّ اللّه سبحانه يفعل ذلك و الآية قاضية بما يقتضيه العقل من الحكم و يؤيّد ذلك قوله: «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» لأنّ المدح إنّما يحصل إذا رحم سبحانه من يستحقّ العقاب و يغفر ما جاز له المؤاخذة به و لا مدح في مغفرة و رحمة من يجب غفرانه و رحمته و قيل: معناه: و يعذّب المنافقين بعذاب عاجل في الدنيا إن شاء أو يتوبوا.

ثمّ عاد سبحانه إلى تعداد نعمه فقال: [وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا] يعني الأحزاب أبا سفيان و جنوده و غطفان و من معهم من القبائل [بِغَيْظِهِمْ أي بغمّهم الّذي جاءوا به و ما نالوا ما أرادوا و [لَمْ يَنالُوا خَيْراً] أمّلوه و أرادوه من الظفر بالنبيّ و المؤمنين، و إنّما سمّاه خيرا لأنّ ذلك كان عندهم خير، و قيل: أراد بالخير المال لقوله تعالى: «وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» (1).

قوله تعالى: [وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي مباشرة القتال بما أنزل اللّه على المشركين من الريح الشديدة الباردة الّتي أزعجتهم عن أماكنهم و بما أرسل من الملائكة و قذف الرعب في قلوبهم. و قيل: بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام كما أنّه قد قيل: إنّ الآية نزلت

ص: 295


1- العاديات: 8.

«كفى اللّه المؤمنين القتال بعليّ» و ذلك بقتله عليه السّلام عمرو بن عبد ودّ و كان ذلك سبب هزيمة القوم، عن عبد اللّه بن مسعود و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام [وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا] و قادرا على ما يشاء [عَزِيزاً] لا يمتنع عليه شي ء.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 26 الى 27]

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (27)

ثمّ ذكر سبحانه ما فعل باليهود من بني قريظة فقال: [وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي الّذين عاونوا المشركين من الأحزاب أنزلهم اللّه من قلاعهم [وَ قَذَفَ اللّه [فِي قُلُوبِهِمُ أي أوقع في قلوب بني قريظة [الرُّعْبَ حتّى سلّموا أنفسهم للقتل و أولادهم و نساءهم للسبي [فَرِيقاً تَقْتُلُونَ و هم الرجال [وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً] و هم الصبيان و النسوان، و تقديم المفعول على الفعل في قوله: «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» شدّة الاهتمام ببيان المفعول كما أنّ الإنزال بعد قذف الرعب حصل و لكن لمّا كان بيان الإنزال أهمّ من بيان قذف الرعب قدّم ذكر الإنزال مع أنّ قذف الرعب كان قبل وقوع الإنزال.

ثمّ قال سبحانه: [وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ لأنّ المؤمنين نزلوا أرضهم و استولوا عليها ثمّ أخذوا أموالهم [وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها] بعد، قيل: المراد قلاعهم. و قيل:

المراد الروم و أرض فارس و لمّا ملّكهم تلك البلاد و وعدهم بغيرها دفع استبعاد الضعفاء بقوله:

[وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً].

و روى الزهريّ عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لمّا انصرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع المسلمين عن الخندق و وضع عنه اللامة و اغتسل و استحمّ تبدّا له جبرئيل عليه السّلام غديرك من محارب أراك قد وضعت عنك اللامة و ما وضعناه بعد فوثب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فزعا فعزم على الناس أن لا يصلّوا صلاة العصر حتّى يأتوا قريظة فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بني قريظة حتّى كادت الشمس أن تغرب و اختصم الناس فقال بعضهم:

إنّ رسول اللّه عزم علينا أن لا نصلّي حتّى نأتي قريظة فإنّما نحن في عزمة رسول اللّه

ص: 296

فليس علينا إثم و صلّى طائفة من الناس احتسابا و تركت طائفة منهم الصلاة حتّى غربت الشمس فصلّوها حين جاءوا قريظة.

قال عروة: إنّه صلّى اللّه عليه و آله بعث عليّا على المقدّم و دفع عليه اللّواء و أمره أن ينطلق حتّى يقف بهم على حصن بني قريظة ففعل و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على آثارهم فمرّ صلّى اللّه عليه و آله على مجلس من الأنصار في بني غنم ينتظرون رسول اللّه فزعموا أنّه قال: مرّ بكم الفارس آنفا فقالوا: مرّ بنا دحية الكلبيّ على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج فقال رسول اللّه: ليس ذلك بدحية و لكنّه جبرئيل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم و يقذف في قلوبهم الرعب.

قالوا: و سار عليّ عليه السّلام حتّى دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول اللّه فرجع حتّى لقي رسول اللّه بالطريق فقال: يا رسول اللّه عليك أن لا تدنو من هؤلاء، قال: أظنّك سمعت لي منهم أذى فقال: نعم فقال صلّى اللّه عليه و آله: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلمّا دنا رسول اللّه من حصونهم قال: يا إخوة القردة و الخنازير هل أخزاكم اللّه و أنزل بكم نقمة؟

فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا.

و حاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمس و عشرين يوما حتّى جهدهم الحصار و قذف اللّه في قلوبهم الرعب و كان حيّ بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت غطفان و قريش فلمّا أيقنوا أنّ رسول اللّه غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم قال كعب بن أسيد: يا معشر يهود قذ نزل بكم من الأمر ما ترون و إنّي عارض عليكم خلالا (1) ثلاثا فخذوا أيّها شئتم قالوا: ما هنّ؟ قال: نبايع هذا الرجل و نصدّقه فو اللّه لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل و أنّه الّذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم و أموالكم و نسائكم فقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا و لا نستبدل به غيره، فقال: فإذا أبيتم عليّ هذا فهلمّوا فنقتل أبناءنا و نساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد رجالا مصلتين بالسيوف لم نترك وراءنا ثقلا يهمّنا حتّى يحكم اللّه بيننا و بين محمّد فإن نهلك لم نترك و راءنا نسلا يهمّنا و إن نظهر لنجدنّ النساء و الأبناء بعد ذلك فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم عليّ هذه فإنّ الليلة ليلة السبت و عسى أن يكون محمّد و أصحابه قد أمنوا فانزلوا لعلّنا نصيب

ص: 297


1- جمع الخلة- بالفتح- الخصلة.

منهم غيرة (1) فقالوا: نفسد سبتنا و نحدث فيها ما أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ، فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته امّة ليلة واحدة من الدهر حازما.

قال الزهريّ: و قال رسول اللّه حين سألوه أن يحكّم فيهم رجلا: اختاروا من شئتم من أصحابي فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر رسول اللّه بسلاحهم فجعل في قبّة و أمرهم فكفوا و أوثقوا و جعلوا في دار اسامة و بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى سعد بن معاذ فجي ء فحكم بما هو الأصلح بأن تقتل مقاتليهم و تسبى ذراريّهم و نساءهم و تغنم أموالهم و أنّ عقارهم للمهاجرين دون الأنصار و قال للأنصار:

إنّكم ذوو عقار و ليس للمهاجرين عقار فكبّر رسول اللّه و قال لسعد: قد حكمت فيهم بحكم اللّه عزّ و جلّ. و في رواية: قد حكمت فيهم يا سعد بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة. و «أرقعة» جمع رقيع اسم سماء الدنيا.

فقتل رسول اللّه مقاتليهم و كانوا في ما زعموا ستّمائة مقاتل و سبى سبعمائه و خمسين و روي أنّهم قالوا لكعب بن أسيد و هم يذهب بهم إلى رسول اللّه إرسالا: يا كعب ما ترى يصنع بنا؟ فقال كعب: هو و اللّه القتل. و اتي بحيي بن أخطب عدوّ اللّه عليه حلّة فاختيّة قد شقّقها عليه من كلّ ناحية كموضع الأغلّة لئلّا يسلبها و يداه مجموعة إلى عنقه بحبل فلمّا بصر به رسول اللّه فقال: أما و اللّه ما لمت نفسي على عداوتك و لكنّه من يخذل اللّه يخذل؟ ثمّ جلس فضرب عنقه ثمّ قسّم رسول اللّه نساءهم و أبناءهم و أموالهم على المسلمين و بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن الأنصاريّ فابتاع بهم خيلا و سلاحا.

قالوا: فلمّا انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فرجعه رسول اللّه إلى خيمته الّتي ضربت عليه في المسجد و روي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: جاء جبرئيل؟

إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات؟ فتحت له أبواب السماء و تحرّك و اهتزّ له العرش فخرج رسول اللّه فإذا سعد بن معاذ قد قبض، انتهى.

ص: 298


1- الغيرة. الغارة.
قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 28 الى 31]
اشارة

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)

النزول:

قال المفسّرون: إنّ أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سألته شيئا من عرض الدنيا و طلبن منه زيادة في النفقة فأبى رسول اللّه منهنّ شهرا فنزلت آية التخيير و هو قوله: «قُلْ لِأَزْواجِكَ» و كنّ يومئذ تسعا عائشة و حفصة و امّ حبيبة بنت أبي سفيان و سودة بنت زمعة و امّ سلمة بنت أبي اميّة فهؤلاء من قريش و صفيّة بنت حيّ بن أخطب الخيبريّة و ميمونة بنت الحارث الهلاليّة و زينب بنت جحش الأسديّة و جويريّة بنت الحارث المصطلقيّة.

المعنى:

[قُلْ يا محمّد [لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ سعة العيش في الدنيا و كثرة المال [فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ أي اعطيكنّ متعة الطلاق بتوفير المهر و اعطيكنّ نحلة [وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا] و السراح الجميل الطّلاق بغير خصومة و مشاجرة.

القميّ: كان سبب النزول أنّه لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة خيبر و أصاب كنز آل أبي الحقيق قلن أزواجه: أعطنا ما أصبت فقال لهنّ النبيّ: قسّمته بين المسلمين على ما أمر اللّه فغضبن من ذلك و قلن: لعلّك ترى أنّك إن طلّقتنا إذا لا نجد الأكفاء من قومنا فأنف اللّه لرسوله فأمره أن يعتزلهنّ فاعتزلهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غرفة امّ إبراهيم تسعة و عشرين يوما حتّى حضن و طهرن.

ثمّ أنزل هذه الآية فلمّا قرأها رسول اللّه فأوّل من قامت منهنّ أمّ سلمة فقالت:

قد اخترت اللّه و رسوله فقمن كلّهنّ فعانقنه و قلن مثل ذلك فأنزل اللّه «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ» (1) قال الصادق عليه السّلام: من آوى فقد نكح و من أرجى فقد طلّق فقوله:

«تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ» مع هذه الآية «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية» و قد أخّرت

ص: 299


1- السورة: 51.

عنها في التأليف و عن الباقر عليه السّلام: إنّ بعض نساء النبيّ قال: أ يرى محمّد أنّه لو طلّقنا إذا لا نجد الأكفاء فغضب اللّه عزّ و جلّ له من فوق سبع سماوات فأمره فخيّرهنّ. و سئل الباقر عليه السّلام عن رجل خيّر امرأته فاختارت نفسها هل تبين؟ قال: لا إنّما هذا كان شي ء لرسول اللّه خاصّة امر بذلك ففعل و لو اخترن أنفسهنّ لطلّقهنّ.

قوله تعالى: [وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ] أي و إن أردتنّ طاعة اللّه و طاعة رسوله و الصبر على ضيق المعاش و الجنّة [فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ العارفات المطيعات له [مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً].

قوله تعالى: [يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ] أي بمعصية ظاهرة فأدّبهنّ اللّه و هدّدهنّ المتوقّي عمّا يسوء النبيّ و أوعدهنّ بتضعيف العذاب فقال سبحانه: [يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ في الآخرة ضعفين أي مثلي ما يكون على غيرهنّ و ذلك لأنّ نعم اللّه عليهنّ أكثر لمكانة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منهنّ و لنزول الوحي في بيوتهنّ فإذا كانت النعمة عليهنّ أعظم و أوفر كانت المعصية منهنّ أفحش و العقوبة بها أعظم و أكثر.

فالمعنى أنّها يزاد في عذابها ضعف كما زيد في ثوابها ضعف كما في قوله: «نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ» [وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] أي كان عذابها على اللّه هيّنا.

قوله تعالى: [وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً] بيّن سبحانه زيادة في ثوابهنّ كما بيّن زيادة عقابهنّ [نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ في مقابلة قوله تعالى:

«يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» و هاهنا لطيفة و هي عند إتيان الأجر ذكر المؤتي و هو اللّه و عند العذاب لم يصرّح بالمعذّب فقال: «يضاعف» إشارة إلى كمال الرحمة و الكرم.

[وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً] وصف رزق الآخرة بكونه «كريما» مع أنّ الكريم لا يكون إلّا وصفا للرازق لأنّ رزق الدنيا و لو أنّه منه سبحانه لكنّه مقدّر على أيدى الناس مثل أنّ التاجر يسترزق من السوق و الصنّاع من المستعملين و الملوك من الرعيّة و الرعيّة بعضهم من بعض بالأسباب فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه و إنّما هو مسخّر للغير

ص: 300

يمسكه و يرسله و أمّا في الآخرة فلا يكون له مرسل و ممسك فهو الّذي يأتي بنفسه فلذلك يوصف رزق الآخرة بالكريم و بالجملة فمعنى الرزق الكريم ما سلم من كلّ آفة و نقصان.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 32 الى 35]

يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (35)

ثمّ أظهر سبحانه فضلهنّ على سائر النساء بقوله:

[يا نِساءَ النَّبِيِ و لم يقل: كواحدة من النساء لأنّ «أحد» للنفي العامّ أي ليس قدر كنّ كقدر غير كنّ من النساء و أنتنّ أكرم و أنا بكنّ أرحم و ثواب عملكنّ أعظم لمكانتكنّ من رسول اللّه [إِنِ اتَّقَيْتُنَ اللّه و شرط لهنّ هذا الشأن بشرط التقوى فإنّ الأكرم عند اللّه هو الأتقى.

قوله: [فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فأدّبهنّ اللّه عن كلّ قبيح و منعهنّ عن مقدّماته و هي المحادثة مع الرّجال بالرقّة أي لا ترفقن القول و لا تلنّ الكلام مع الرجال و لا تخاطبن الأجانب مخاطبة يؤدّي إلى طمعهم [فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ و فجور و شهوة فإنّ ذلك أبعد من الطمع لأهل الريبة [وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً] مستقيما جميلا بريئا من التهمة موافقا للدين [وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ أمرهنّ بالاستقرار في بيوتهنّ أي أثبتن في منازلكنّ و ألزمنها و إن كانت مادّة الكلمة من وقر يقر فمعناه كنّ من أهل الوقار و السكينة [وَ لا

ص: 301

تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي لا تخرجن على عادة النساء اللّاتي في الجاهليّة و لا تظهرن زينتكنّ كما كنّ يظهرن ذلك.

و «التبرّج» إظهار المرأة محاسنها مأخوذ من «البرج» و هو السعة في العين، و قيل:

التبرّج التبختر و التكبّر في المشي. و قيل: هو أن تلقي الخمار على رأسها و لا تشدّه فتوارى قلائدها و قرطيها فيبدو ذلك منها. و المراد «بالجاهليّة الاولى» ما كان قبل الإسلام و قبل ما كان بين آدم و نوح ثمانمائة سنة و قيل: ما بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و قيل برج الجاهليّة الاولى أنّهم كانوا يجوّزون أن تجمع امرأة واحدة زوجا و خلّا فتجعل لزوجها نصفها الأسفل و تجعل لزوجها و لخلّها نصفها الأعلى يقبّلها و يعانقها.

ثمّ قال سبحانه: [وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ] أي الأداء في أوقاتها و شرائطها [وَ آتِينَ الزَّكاةَ] المفروضة في أموالكنّ [وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يأمركنّ به و ينهاكنّ عنه.

ثمّ قال: [إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] و الرجس عمل الشيطان و ما ليس للّه فيه رضى. و التعريف في «البيت» للعهد و المراد به بيت النبوّة و الرسالة و العرب تسمّي ما ينتسب به بيتا و لهذا سمّوا الأنساب بيوتا فقالوا:

بيوتات العرب يريدون النسب قال الشاعر:

ألا يا بيت بالعلياء بيت و لو لا حبّ أهلك ما أتيت

و قيل: البيت «بيت الحرام» و قيل: البيت مسجد رسول اللّه، و أهله من مكّنه رسول اللّه فيه و لم يخرجه و لم يسدّ بابه.

و قد اجتمعت الامّة بأجمعها على أنّ المراد بأهل البيت في الآية أهل بيت نبيّنا ثمّ اختلفوا فقال عكرمة: أراد أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال أبو سعيد الخدريّ و أنس بن مالك و واثلة بن الأسقع و عائشة و امّ سلمة: إنّ الآية مختصّة برسول اللّه و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام. و إنّما ترك خطاب المؤمنات و خاطب بخطاب المذكّرين بقوله:

«لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ» القميّ قال: ثمّ انقطعت مخاطبة النساء و خاطب أهل بيت الرسول فقال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ الآية».

و عن الباقر عليه السّلام قال: نزلت هذه الآية في رسول اللّه و عليّ و فاطمة و الحسن و

ص: 302

الحسين و ذلك في بيت امّ سلمة زوجة الرسول فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام ثمّ ألبسهم كساء له خيبريّ و دخل معهم فيه ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي الّذين وعدتني فيهم ما وعدتني اللّهمّ أذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، فقالت امّ سلمة: و أنا معهم يا رسول اللّه قال: أبشري يا امّ سلمة فإنّك على خير.

و عن زيد بن عليّ بن الحسين عليه السّلام أنّ جهّالا من الناس يزعمون أنّه إنّما أراد اللّه بهذه الآية أزواج النبيّ و قد كذبوا و أثموا و أيمن اللّه أنّه لو عنى سبحانه أزواج النبيّ لقال: «ليذهب عنكنّ الرجس و يطهّركنّ تطهيرا» و لكان الضمير مؤنّثا كما قال:

«اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ» و لا تبرّجن و لستنّ لأحد من النساء.

و العيّاشيّ عن الباقر ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن إنّ الآية ينزل أوّلها في شي ء و أوسطها في شي ء و آخرها في شي ء ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ... وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» من ميلاد الجاهليّة و من الذنوب و المعاصي و يلبسكم خلع الكرامة.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: يعني الأئمّة و ولايتهم من دخل فيها دخل في بيت النبيّ و عنه عليه السّلام عن النبيّ أنّه قال في حديث: اوصيكم بكتاب اللّه و أهل بيتي فإنّي سألت اللّه أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما عليّ الحوض فأعطاني ذلك و قال: لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم و قال: إنّهم لن يخرجوكم عن باب هدى و لن يدخلوكم في باب ضلالة و قال: لو سكت رسول اللّه و لم يبيّن من أهل بيته لادّعاها إلّا فلان و لكنّ اللّه أنزل في كتابه «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ الآية» و كان عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين فأدخلهم رسول اللّه تحت الكساء في بيت امّ سلمة ثمّ قال: اللّهم إنّ لكلّ نبيّ أهلا و ثقلا و هؤلاء أهل بيتي و ثقلي فقالت امّ سلمة: أ لست من أهلك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّك على خير و لكنّ هؤلاء أهلي و ثقلي و قال: في آخر الحديث: الرجس هو الشكّ و اللّه لا نشكّ في ربّنا أبدا.

و في الخصال في احتجاج عليّ على أبي بكر. فأنشدك باللّه ألي و لأهلي و ولدي نزلت آية التطهير أم لك و لأهل بيتك؟ قال: بل لك و لأهل بيتك قال: فأنشدك باللّه أنا صاحب دعوة رسول اللّه و أهلي و ولدي يوم الكساء حين قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ هؤلاء

ص: 303

أهلي إليك لا إلى النار أنا أم أنت؟ قال: بل أنت و أهل بيتك. و في احتجاجه على الناس يوم الشورى قال: أنشدكم اللّه هل فيكم أحد أنزل اللّه فيه آية التطهير على رسول اللّه فأخذ رسول اللّه كساء خيبريّا فضمّني فيه و فاطمة و الحسن و الحسين ثمّ قال: يا ربّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا غيري قالوا: اللّهمّ بلى.

و في العلل عن الصادق عليه السّلام نزلت هذه الآية في النبيّ و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين فلمّا قبض اللّه نبيّه كان أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين ثمّ وقع تأويل قوله تعالى: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ»* لهم و كان عليّ بن الحسين ثمّ حرت في الأئمّة من ولده الأوصياء فطاعتهم طاعة اللّه و معصيتهم معصية اللّه.

و بالجملة فالروايات في نزول هذه الآية في شأن الخمسة من طريق الخاصّة و العامّة أكثر من أن تحصى، مثل الثعلبيّ. و قد روى في المجمع من طريق العامّة منها ما ذكر من أراده فليطلبه هناك.

و استدلّت الشيعة على اختصاص الآية بهذه الخمسة الطاهرة بأن قالوا: إنّ لفظة «إنّما» محقّقة لما أثبت بعدها نافية لما لم يثبت فإنّ قول القائل: إنّما لك عندي درهم و إنّما في الدار زيد يقتضي أنّه ليس عنده سوى الدرهم و ليس في الدار سوى زيد و إذا تقرّر هذا فلا تخلو الإرادة أن يكون إرادة محضة أو الإرادة الّتي يتبعها التطهير و إذهاب الرجس، و لا يجوز الوجه الأوّل لأنّ اللّه أراد من كلّ مكلّف هذه الإرادة المطلقة و لا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق و المكلّفين و لأنّ هذا القول يقتضى المدح و التعظيم لشأنهم بغير شكّ و شبهة و لا مدح و اختصاص في الإرادة المجرّدة فثبت الوجه الثاني.

و أيضا قد اتّفقوا أنّ هذه الإرادة قد وقعت لأنّ عصمتهم قد ثبتت بالإجماع من جميع القبائح و قد علمنا أنّ من عدا هؤلاء من أهل البيت غير مقطوع في عصمته.

فثبت أنّ الآية مختصّة لهم لبطلان تعلّقها بغيرهم حيث لم يقطع بعصمة غيرهم و متى قيل. إنّ صدر الآية و ما بعدها في الأزواج فالجواب أنّ هذا أمر لا ينكره من عرف

ص: 304

عادة الفصحاء و أهل المحاورة في الكلام فإنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره و يعودون إليه و القرآن مملوء من ذلك و كذلك كلام العرب مثل الجمل الواقعة في الكلام انتهى.

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر حكم الأزواج فقال: [وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ] المعنى و اشكرن اللّه تعالى إذ صيّركنّ في بيوت يتلى فيها الوحي و القرآن و السنّة و قيل: المعنى احفظن ما يتلى عليكنّ من القرآن لتعملنّ بموجبه و هذا حثّ لهنّ على حفظ القرآن و السنّة و مذاكرتهنّ بهما و الخطاب و إن كان لهنّ فغيرهنّ يشاركهنّ فيه لأنّ بناء الشريعة على القرآن و السنّة [إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً] بأوليائه [خَبِيراً] بجميع أعمال خلقه فيأمرهم بفعل ما فيه صلاحهم و ينهاهم عن ما فيه فسادهم.

قوله تعالى: [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ النزول: قال مقاتل بن حيّان: لمّا رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: هل نزل فينا شي ء من القرآن؟ قلن لا فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت يا رسول اللّه إنّ النساء لفي خبية و خسار فقال صلّى اللّه عليه و آله: و ممّ ذلك؟ قالت: لأنّهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال فأنزل اللّه هذه الآية «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ» أي إنّ الداخلين في الإسلام خالصا من الرجال و النساء المخلصين منهم و المخلصات أو المعنى المستسلمين و المنقادين من الرجال و النساء لطاعة اللّه.

[وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ أي و المصدّقين بالتوحيد و المصدّقات و عند بعض المفسّرين أنّ الإسلام و الإيمان واحد و إنّما كرّر لاختلاف اللفظين و لكنّ البعض منهم يقولون:

إنّهما مختلفان فالإسلام الإقرار باللسان و الإيمان التصديق بالقلب و يعضد هذا المعنى قوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا» (1) و قيل: الإسلام اسم الدين و الإيمان التصديق به قال البخاري: فسّر رسول اللّه المسلم و المؤمن بقوله صلّى اللّه عليه و آله:

المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه و المؤمن من أمن جاره بوائقه و ما آمن بي من بات شبعان و جاره طاو.

ص: 305


1- الحجرات: 14.

و قوله: [وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ يعني الدائمين على الأعمال الصالحة و الدائمات و الداعين و الداعيات [وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ في أقوالهم و إيمانهم و فيما سرّهم و ساءهم [وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ على الطاعة و على ما ابتلاهم اللّه به [وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ المتواضعين للّه الخاضعين، و قيل: معناه الخائفين و الخائفات [وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ أي المخرجين الصدقات و الزكاة من أموالهم [وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ للّه بنيّة صادقة [وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ من الزنا و الفجور، و حذف لدلالة الكلام عليه.

[وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ و روى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضّأ و صلّيا كتبا من الذاكرين اللّه كثيرا و الذاكرات و قال بعض: لا يكون العبد من الذاكرين حتّى يذكر اللّه قائما و قاعدا و مضطجعا.

و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: من بات على تسبيح فاطمة عليها السّلام كان من الذاكرين كثيرا و الذاكرات.

[أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ لهؤلاء الموصوفين بهذه الصفات و الخصال [مَغْفِرَةً] لذنوبهم [وَ أَجْراً عَظِيماً] في الآخرة و لعلّ المراد أنّهم في جميع هذه الأحوال يذكرون اللّه و يكون إسلامهم و إيمانهم و قنوتهم و صدقهم و صبرهم و خشوعهم و صدقتهم و صومهم بنيّة صادقة متوجّهة إلى قرب اللّه و قد قرّر سبحانه في أكثر المواضع الذكر بالكثرة مثل قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً» (1) و كذلك قال سبحانه: «لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (2) و إنّ الإنسان الأفضل له أن يكثر من الأفعال البدنيّة مثل الصلاة و التسبيح و لكنّه لمّا كان محتاجا إلى الأكل و الشرب و تحصيل مأكوله و مشروبه و ذلك يمنعه أن يشتغل دائما بالصلاة و هو غير ممكن للغالب أو متعسّر و لكن لا مانع له من أن يذكر اللّه و هو آكل و يذكره و هو شارب أو ماش أو بائع أو شار و جعل سبحانه لخلقه هذا الذكر مندوحة للعباد في العبادة و إلى هذا أشار سبحانه بقوله: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ

ص: 306


1- الأحزاب: 41.
2- الأحزاب: 21.

قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ» (1).

ثمّ قال سبحانه:

[سورة الأحزاب (33): الآيات 36 الى 40]
اشارة

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (40)

قوله: [وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ .

النزول:

نزلت في زينب بنت جحش الأسديّة و كانت بنت اميمة بنت عبد المطّلب عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فخطبها رسول اللّه على مولاه زيد بن حارثة و رأت أنّه يخطبها على نفسه فلمّا عرفت أنّه يخطبها على زيد أبت و أنكرت و قالت: أنا ابنة عمّتك فلم أكن لأفعل و كذلك قال أخوها عبد اللّه بن جحش فنزلت: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ الآية» أي لعبد اللّه و أخته فلمّا نزلت الآية قالت: رضيت يا رسول اللّه و جعلت أمرها بيد رسول اللّه و كذلك أخوها فأنكحها رسول اللّه زيدا فدخل بها و ساق إليها رسول اللّه عشرة دنانير مهرا و خمارا و ملحفة و درعا و إزارا و خمسين مدّا من الطعام و ثلاثين صاعا من تمر.

و قالت زينب: خطبني عدّة من قريش فبعثت اختي حمنة بنت جحش إلى رسول اللّه لتستشيره فأشار صلّى اللّه عليه و آله بزيد فغضبت اختي و قالت: أ تزوّج بنت عمّتك مولاك ثمّ أعلمتني اختي بالأمر فغضبت أشدّ من غضبها فنزلت الآية فأرسلت إلى رسول اللّه و قلت: زوّجني

ص: 307


1- آل عمران: 191.

ممّن شئت فزوّجني من زيد.

و قيل: نزلت في امّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و كانت و هبت نفسها للنبيّ فقال:

قد قبلت و زوّجتها زيد بن حارثة فسخطت هي و أخوها و قالا: إنّا أردنا رسول اللّه فزوّجنا عبده، فنزلت الآية.

و ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّ رسول اللّه كان شديد الحبّ لزيد و كان إذا أبطأ عليه زيد أتى منزله فيسأل عنه فأبطأ عليه يوما فأتى رسول اللّه منزله فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها قال: فدفع رسول اللّه الباب فلمّا نظر إليها قال:

سبحان اللّه خالق النور تبارك اللّه أحسن الخالقين، و رجع فجاء زيد و أخبرته زينب بما كان فقال لها: لعلّك وقعت في قلب رسول اللّه فهل لك أن اطلّقك حتّى يتزوّجك رسول اللّه فقالت أخشى: أن تطلّقني و لا يتزوّجني. فجاء زيد إلى رسول اللّه إلى تمام القصّة فنزلت الآية: «وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ» الآية.

و بالجملة فمعنى قوله تعالى: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ» أي إذا أوجب اللّه و رسوله أمرا و حكما به لا يكون الاختيار لهم بما شاءوا من أمرهم و ليس لأحد مخالفته و ترك ما امر به إلى غيره.

[وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يختاران [فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً] و ذهب عن الحقّ ذهابا ظاهرا.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: [وَ إِذْ تَقُولُ و اذكر يا محمّد حين تقول: [لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالهداية و الإيمان [وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعتق و هو زيد و قيل: أنعم اللّه عليه بمحبّة الرسول و أنعم الرسول عليه بالتبنّي [أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعني زوجك زينب و تقول:

لا تطلّقها و احبسها و هذا الكلام يقتضي مشاجرة جرت بينهما حتّى وعظه الرسول و قال له: أمسكها و اتّق اللّه في مضارّتها و مفارقتها [وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ و الّذي أخفاه صلّى اللّه عليه و آله في نفسه هو أنّه إن طلّقها زيد و يزوّجها خشي لائمة الناس أن يقولوا: أعجبته و أمره بطلاقها ثمّ تزوّجها و قيل: إنّ الّذي أخفاه في

ص: 308

نفسه هو أنّ اللّه سبحانه أعلمه أنّها ستكون من أزواجه و أنّ زيدا سيطلّقها فلمّا جاء زيد و قال له: أريد أن اطلّق زينب قال له: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» فقال سبحانه: لم قلت:

«أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» و قد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك؟

و روي ذلك عن عليّ بن الحسين عليه السّلام و هذا التأويل مطابق لتلاوة الآية لأنّه سبحانه أعلم أنّه يبدئ ما أخفاه و لم يبد سبحانه غير التزويج فقال: «زَوَّجْناكَها» فلو كان الّذي أضمره صلّى اللّه عليه و آله محبّتها أو إرادة طلاقها لأظهره اللّه ذلك مع وعده بأنّه يبديه فدلّ ذلك على أنّه صلّى اللّه عليه و آله عوتب على قوله: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» مع علمه بأنّها ستكون زوجته و كتمانه فيما أعلمه اللّه السبب فيه أنّه صلّى اللّه عليه و آله استحيا أن يقول لزيد: إنّ الّتي تحتك ستكون امرأتي أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استحسنها تمنّى أن يفارقها زوجها فيتزوّجها.

و قيل: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يريد أن يتزوّج بها إذا فارقها زيد و لكن عزم أن لا يتزوّجها مخافة أن يطعنوا عليه فأنزل اللّه هذه الآية كيلا يمتنع عن فعل المباح خشية ملامة الناس و لم يرد بقوله: «وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» خشية التقوى لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يخشى اللّه حقّ الخشية و يتّقي حقّ تقاته و لكنّه أراد خشية الاستحياء لأنّ الحياء كان غالبا على شيمته الكريمة كما قال سبحانه: «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ».

و قيل: إنّ زينب كانت شريفة فلمّا زوّجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من زيد مولاه و لحقها بذلك بعض العار فأراد أن يزيدها شرفا بأن يتزوّجها لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان السبب في تزويجها لزيد فعزم أن يتزوّج بها إذا فارقها زيد.

و قيل: إنّ العرب كانوا ينزلون الأدعياء منزلة الأبناء في الحكم فأراد أن يبطل ذلك بالكلّيّة و ينسخ سنّة الجاهليّة فكان يخفي في نفسه تزويجها لهذا الغرض كيلا يقول الناس: إنّه تزوّج بامرأة ابنه و لهذا قال: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» و يؤيّد هذا التأويل قوله: [فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً] و المعنى: فلمّا قضى زيد حاجته من نكاحها فطلّقها و انقضت عدّتها و لم يكن في قلبه ميل إليها و لا وحشة له من فراقها فإنّ معنى القضاء هو

ص: 309

الفراغ من الشي ء على التمام زوّجناكها و أذنّا لك في نكاحها و إنّما فعلنا ذلك توسعة للمؤمنين حتّى لا يكون عليهم إثم و يعلموا جواز أزواج أدعيائهم الّذين تبنّوهم إذا قضى الأدعياء حاجتهم و فارقوهنّ و الغرض بيان حكم أنّ المتبنّي غير الابن من النسب أو الرضاع في تحريم امرأته إذا طلّقها على الأب.

[وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا] كائنا لا محالة و في الحديث إنّ زينب كانت تفتخر على سائر نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تقول: زوّجني اللّه من النبيّ و أنتنّ زوّجكنّ أولياؤكنّ.

و روى ثابت عن أنس بن مالك قال: لمّا انقضت عدّة زينب قال رسول اللّه لزيد:

اذهب فاذكرها عليّ، قال زيد: فانطلقت فقلت: يا زينب ابشري قد أرسلني رسول اللّه بذكرك و جاء رسول اللّه فدخل عليها بغير إذن لقوله تعالى: «زَوَّجْناكَها».

و في رواية اخرى فانطلقت فإذا هي تخبز عجينها فلمّا رأيتها عظمت في نفسي حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أنّ رسول اللّه ذكرها فولّيتها ظهري و قلت:

يا زينب ابشري فإنّ رسول اللّه يخطبك ففرحت بذلك و قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتّى يأمرني ربّي فقامت إلى مسجدها و نزل: «زَوَّجْناكَها» فتزوّجها النبيّ و دخل بها و ما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها؛ ذبح شاة و أطعم الناس الخبز و اللحم حتّى امتدّ النهار. و عن الشعبيّ قال: كانت زينب تقول للنبيّ: إنّي لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك تدلّ بهنّ: جدّي و جدّك واحد، و إنّي أنكحنيك اللّه في السماء، و إنّ السفير لجبرئيل.

و بالجملة ثمّ قال سبحانه: [ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي ما كان على النبيّ من إثم و ضيق فيما أحلّ اللّه له من التزويج بامرأة الابن المتبنّي بل أوجب عليه من التزويج بزينب ليبطل حكم الجاهليّة.

[سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي هذا الحكم و هذه السنّة كسنّة اللّه في الأنبياء الماضين و شريعة اللّه فيهم في زوال الحرج عن هذا الأمر أو في كثرة الأزواج سنّة سنّها اللّه في الأنبياء و أممهم كما فعله داود و سليمان و كان لداود مائة امرأة و لسليمان ثلاثمائة

ص: 310

امرأة و سبعمائة سريّة كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي أو الحديث فمن رغب عنه فقد رغب عن سنّتي.

[وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً] أي كان ما ينزله اللّه على أنبيائه من الأمر الّذي يحكم به قضاء مقضيّا جاريا على مقدار من غير زيادة و لا نقصان.

ثمّ وصف سبحانه الأنبياء الماضين و أثنى عليهم فقال: [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ أي يؤدّونها إلى من بعثوا إليهم و لا يكتمونها [وَ يَخْشَوْنَهُ و يخافون اللّه مع ذلك في ترك ما أوجبه عليهم [وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فيما يتعلّق بالأداء و التبليغ و في هذا دلالة على أنّ الأنبياء لا يجوز عليهم التقيّة في تبليغ الرسالة.

و متى قيل: فكيف ما قال: لنبيّنا «وَ تَخْشَى النَّاسَ»؟

فالقول و الجواب أنّه لم يكن ذلك فيما يتعلّق بالتبليغ و إنّما خشي المقالة القبيحة فيه و العاقل كما يتحرّز عن المضارّ يتحرّز عن إساءة الظنون به و القول المسي ء به و لا يتعلّق شي ء من ذلك بالتكليف.

[وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً] حافظا لأعمال خلقه و محاسبا مجازيا عليها.

و لمّا تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زينب قال الناس: إنّ محمّدا تزوّج امرأة ابنه فقال سبحانه: [ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ الّذين لم يلدهم فبيّن سبحانه أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس بأب لزيد فيحرم عليه زوجته فإنّ تحريم زوجة الابن متعلّق بثبوت النسب فمن لا نسب له لا حرمة لامرأته و لهذا أشار إليهم فقال: «مِنْ رِجالِكُمْ» و قد ولد له أولاد ذكور إبراهيم و القاسم و الطيّب و المطهّر فكان أباهم و قد صحّ عنه أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال للحسن و الحسين: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا.

[وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ لا يترك ما أباحه اللّه بقول الجهّال و يجب عليكم طاعته لا بسبب الأبوّة بل بسبب النبوّة الّتي حقّها أعظم من حقّ الأبوّة [وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ أي ختمت النبوّة به فشريعته ناسخة لجميع الشرائع و باقية إلى يوم القيامة و هذه فضيلة اختصّ صلّى اللّه عليه و آله بها من دون الأنبياء و كذلك دينه.

ص: 311

[وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً] لا يخفى عليه شي ء من مصالح العباد و صحّ الحديث عن جابر بن عبد اللّه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّما مثلي في الأنبياء مثل رجل بنى دارا فأكملها و حسّنها إلّا في موضع لبنة فكان من دخلها فيها و نظر إليها قال: ما أحسنها إلّا في موضع هذه اللبنة قال: فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء أورده البخاريّ و مسلم في صحيحيهما.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 41 الى 48]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45)

وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (46) وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)

ثمّ خاطب سبحانه عباده المؤمنين بعد أن أحكم أمر النبيّ فشرع بتأديب المؤمنين فأمرهم بكثرة الذكر و دوامهم عليه و إذا ذكرتموه فينبغي أن يكون ذكركم إيّاه على وجه التعظيم و التنزيه عن كلّ سوء و هو المراد بقوله: [وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا] و قيل:

المراد من التسبيح الصلاة و المراد من البكرة و الأصيل المداومة و ذلك لأنّ مريد العموم قد يذكر الطرفين و يفهم منهما الوسط كقوله صلّى اللّه عليه و آله: لو أنّ أوّلكم و آخركم، و لم يذكر وسطكم و فهم منه المبالغة في العموم.

و روى ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من عجز عن الليل أن يكابده و جبن عن العدوّ أن يجاهده و بخل بالمال أن ينفقه فليكثر ذكر اللّه عزّ و جلّ ثمّ اختلف في الذكر الكثير فقيل: أن لا ينساه أبدا و قيل: أن يذكره بصفاته العليا و أسمائه الحسنى و ينزّهه عمّا لا يليق به و قيل: هو أن يقول: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر على كلّ حال.

و قد ورد عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّهم قالوا: من قالها ثلاثين مرّة فقد ذكر اللّه ذكرا كثيرا و عن زرارة و حمران بن أعين عن الصادق عليه السّلام قال: من سبّح تسبيح فاطمة الزهراء

ص: 312

فقد ذكر اللّه ذكرا كثيرا.

و روى الواحديّ بإسناده عن الضحّاك بن مزاحم عن ابن عبّاس قال: جاء جبرئيل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا محمّد قل: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه عدد ما علم وزنة ما علم و مل ء ما علم فإنّ من قالها كتب اللّه له بها ستّ خصال: كتب في الذاكرين اللّه كثيرا، و كان أفضل من ذكره بالليل و النهار، و جعل له غرسا في الجنّة و تحاتّت عنه خطاياه كما تحاتّ ورق الشجرة اليابسة فينظر اللّه إليه و من نظر اللّه إليه لم يعذّبه.

و قد قيل في قوله: «وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا»: المراد صلاة الصبح و صلاة العصر. و قال الكلبيّ: أمّا «البكرة» فصلاة الفجر و أمّا «الأصيل» فصلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء الأخيرة و سمّي الصلاة تسبيحا لما فيها من التسبيح و التنزيه.

قوله: [هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ و الصلاة من اللّه المغفرة و الرحمة و الكرامة و من الملائكة طلبهم إنزال الرحمة لكم من اللّه [لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ] من الجهل إلى المعرفة و من الضلالة إلى الهدى أو من ظلمات النار إلى نور الجنّة [وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً] و خصّ المؤمنين بالرحمة دون غيرهم لأنّه جعل الإيمان بمنزلة العلّة في إيجاب الرحمة.

[تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ أي يحيّي بعضهم بعضا يوم يلقون كرامة اللّه و ثوابه بأن يقولوا: السلامة لكم. و لقاء اللّه لقاء ثوابه.

و روي عن البراء بن عازب أنّه قال: يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلّا سلّم عليه. فعلى هذا يكون المعنى تحيّة من ملك الموت يوم يلقونه أن يسلّم عليهم و ليس إضمار قبل الذكر لأنّ ملك الموت مذكور في الملائكة [وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً] و ثوابا جزيلا.

قوله: [يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً] على امّتك فيما يفعلونه من طاعة أو معصية و إيمان أو كفر لتشهد عليهم و لهم يوم القيامة و نجازيهم بحسبه [وَ مُبَشِّراً] لمن

ص: 313

أطاعني و أطاعك بالجنّة [وَ نَذِيراً] لمن عصاني و عصاك بالنار.

[وَ داعِياً] و بعثناك داعيا [إِلَى اللَّهِ و الإقرار بوحدانيّته [بِإِذْنِهِ أي بعلمه و و أمره [وَ سِراجاً مُنِيراً] يهتدى بك في الدين كما يهتدى بالسراج «و المنير» الّذي يصدر النور من جهته إمّا بفعله و إمّا لأنّه سبب له فالقمر منير و السراج منير بهذا المعنى.

و قيل: المراد بالسراج المنير القرآن و التقدير: بعثناك ذا سراج منير، و حذف المضاف.

[وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً] زيادة على ما يستحقّونه من الثواب.

[وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ نهى عن المداراة في الدعوة بسبب تصلّبهم أي لا تستعمل لين الجانب في التبليغ و الإنذار، كنّي عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في الزجر و المنع عن المنهيّ عنه [وَ دَعْ أَذاهُمْ أي دع أذاهم إلى اللّه فإنّه يعذّبهم بأيديكم و بالنار.

و بيّن هذا المعنى قوله: [وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا] أي فوّض أمرك إليه و اللّه كاف عبده و اللّه وكيل عباده لعجزهم عن التصرّف.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 49 الى 50]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)

المعنى: لمّا بيّن سبحانه شأن نبيّه و أمره بتقوى اللّه و أدّب عباده المؤمنين بمكارم الأخلاق فذكر في هذه الآية ما يتعلّق بجانب من تحت أيديهم بقوله:

ص: 314

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ و التخصيص في الذكر بالمؤمنات إشعار و إرشاد بأنّ المؤمن ينبغي أن يتزوّج بالمؤمنة فإنّها أشدّ تحصينا لدينه أي إذا تزوّجتم من المؤمنات ثمّ بعد العقد طلّقتموهنّ و لم تقاربوهنّ و تمسّوهنّ لم يثبت لكم عليهنّ عدّة [تَعْتَدُّونَها] و تستوفونها بالعدد و تحصون عليها بالأقراء و الأشهر و أسقط اللّه العدّة عن المطلّقة قبل المسيس لبراءة رحمها فإن شاءت تزوّجت عن يومها.

[فَمَتِّعُوهُنَ قال ابن عبّاس: هذا إذا لم يكن سمّي لها صداقا فإذا سمّي لها صداقا فلها نصفه و لا تستحقّ المتعة و هو المرويّ عن أئمّتنا و العمل عليه فحينئذ الآية عندنا الإماميّة محمولة على الّتي لم يسمّ لها مهرا فيجب لها المتعة أي أن يجعلوا و يعطوها شيئا و نحلة و يحسنون بها إحسانا يليق بها و عند الجماعة فمنهم من قال: يجب مع نصف المهر أيضا المتعة بناء على حمل الأمر للوجوب و منهم من قال: للاستحباب فيستحبّ أن يمتّعها مع نصف الصداق بشي ء.

قوله: [وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا] أي طلّقوهنّ طلاقا للسنّة من غير ظلم عليهنّ و قيل: معناه سرّحوهنّ عن البيت فإنّه ليس عليها عدّة فلا يلزمها المقام في منزل الزوج سراحا بغير أذيّة و قيل: السراح الجميل هو دفع المتعة بحسب الميسرة و المعسرة.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: [يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ أي اللاتي أعطيت مهورهنّ حلال لك لأنّ المهر أجر على البضع و الإيتاء قد يكون بالأداء و قد يكون بالالتزام، و قيل: هذا الحكم خاصّ للنبيّ دون امّته و المشهور أنّ تقييد الإحلال له عليه السّلام ليس لبيان توقّف الحلّ على إتيان الصداق بل لإيثار الأولى و الأفضل له صلّى اللّه عليه و آله كتقييد إحلال المملوكة المسبيّة في قوله: «وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ».

و بالجملة فذكر سبحانه للنبيّ ما هو الأولى فإنّ الزوجة الّتي أوتيت مهرها أطيب قلبا من الّتي لم تؤت و المملوكة المسبيّة أطيب من الّتي اشتراها الرجل لأنّها لا تدري كيف حالها و هذا معنى [وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء [مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ من الغنائم

ص: 315

و الأنفال و كانت مارية القبطيّة من الغنائم و من الأنفال صفيّة و جويرية أعتقهما و تزوّجهما.

[وَ بَناتِ عَمِّكَ أي و أحللنا لك بنات عمّك [وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ من قريش [وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ من نساء بني زهرة اللاتي [هاجَرْنَ من قريش إلى المدينة و هذا الحكم كان قبل تحليل غير المهاجرات ثمّ نسخ شرط الهجرة في التحليل و عمّ الحكم.

[وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ أي و أحللنا لك امرأة مصدّقة بتوحيد اللّه و هبت نفسها منك بغير صداق أمّا غير المؤمنة إن وهبت نفسها لا يجوز [إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها] أي إذا رغب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نكاحها تحلّ له و ينعقد النكاح له بلفظ الهبة و تحلّ له و هذا الحكم [خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي لا يشاركك أحد من المؤمنين في هذا الأمر.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدخلت عليه و هو في منزل حفصة و المرأة ملبّسة متمشّطة فدخلت على رسول اللّه فقالت: يا رسول اللّه إنّ المرأة لا تخطب الزوج و أنا امرأة أيّم لا زوج لي منذ دهر و لا ولد فهل لك من حاجة فيّ؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني فقال لها رسول اللّه: خيرا فدعا لها ثمّ قال:

يا اخت الأنصار جزاكم اللّه عن رسول اللّه خيرا فقد نصرني رجالكم و رغبت فيّ نساؤكم فقالت لها حفصة: ما أقلّ حياك و أجرأك و أنهمك للرجال! فقال رسول اللّه: كفّي عنها يا حفصة فإنّها خير منك رغبت في رسول اللّه. ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله للمرأة: انصرفي رحمك اللّه فقد أوجب اللّه لك الجنّة لرغبتك فيّ و تعرّضك لمحبّتي و سروري سيأتيك أمري إن شاء اللّه فأنزل اللّه «وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً» الآية.

و في الخصال عن الصادق قال: تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخمس عشر امرأة و دخل بثلاثة عشر منهنّ و قبض عن تسع فأمّا اللّتان لم يدخل بهما فعمرة و الشنباء، و أمّا الثلاثة عشر اللّواتي دخل بهنّ فأوّلهنّ خديجة بنت خويلد، ثمّ سودة بنت زمعة، ثمّ امّ سلمة و اسمها هند بنت أبي اميّة، ثمّ امّ عبد اللّه ثمّ عائشة بنت أبي بكر، ثمّ حفصة بنت عمر، ثمّ زينب بنت خزيمة بن الحارث امّ المساكين، ثمّ زينب بنت جحش، ثمّ جويرية بنت

ص: 316

الحارث، ثمّ صفيّة بنت حيّ بن أخطب، فالّتي و هبت نفسها للنبيّ خولة بنت حكيم السلمى و كان له سريّتان: مارية القبطيّة و ريحانة الخندقيّة. و التسع الّتي قبض عنهنّ عائشة و حفصة و أم سلمة و زينب بنت جحش و ميمونة بنت الحارث و امّ حبيب بنت أبي سفيان و صفيّة و جويرية و سودة. و أفضلهنّ خديجة بنت خويلد ثمّ امّ سلمة ثمّ ميمونة.

و اختلف في أنّه هل كانت عند النبيّ امرأة و هبت نفسها له أم لا؟ فقيل: لم يكن عنده امرأة و هبت له نفسها. و قيل: كانت عنده ميمونة بنت الحرث و هبت نفسها للنبيّ و زينب بنت خزيمة و قيل: خولة بنت حكيم و لمّا و هبت نفسها للنبيّ قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟ فنزلت الآية فقالت عائشة: ما أرى اللّه إلا يسارع في هواك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و إنّك إن أطعت اللّه يسارع في هواك.

قوله تعالى: [قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ .

المعنى: أنّ ما ذكرنا فرضك و حكمك مع نسائك و أمّا حكم امّتك فعندنا علمه و نبيّنه لهم في أزواجهم و ملك يمينهم و إنّما ذكر هذا البيان لئلّا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّ له صلّى اللّه عليه و آله في النكاح خصائص ليست لغيره و كذلك في السراري.

و حاصل المعنى أنّا قد علمنا ما أخذنا و فرضنا على المؤمنين في أزواجهم من حيث العدد و الحصر و المهر و وضعناه عنك تخفيفا عنك و تشريفا لك و كذلك في ملك اليمين للمؤمنين بأن لا يقع لهم الملك إلّا بوجوه معلومة من الشراء و الهبة و الإرث و أبحنا لك غير ذلك و هو الصفيّ الّذي تصطفيه لنفسك من السبي و إنّما خصّصناك على علم منّا بالمصلحة فيه.

[لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي ليرتفع عنك الحرج و الضيق و الإثم [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] غفورا لذنوب عباده رحيما بك و بهم في مصالحهم و مصالحك.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 51 الى 55]

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (52) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (55)

ص: 317

[تُرْجِي مَنْ تَشاءُ] جاء هذه الكلمة بالهمزة و بغير الهمزة و الإرجاء التأخير و تبعيد وقت الشي ء نزلت الآية حين غار بعض نساء النبيّ على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و طلب منه بعضهنّ زيادة النفقة فهجرهنّ شهرا حتّى نزلت آية التخيير فأمره اللّه أن يخيّرهنّ بين الدنيا و الآخرة و أمره صلّى اللّه عليه و آله أن يخلّي سبيل من اختار الدنيا و يمسك من اختار اللّه و رسوله على أنّهنّ امّهات المؤمنين و لا ينكحن أبدا و على أنّه يؤوي و يضمّ من يشاء منهنّ و يرجي من يشاء منهنّ و على أن يرضين به قسّم لهنّ أو لم يقسّم أو قسّم لبعضهنّ و لم يقسّم لبعضهنّ أو فضّل بعضهنّ على بعض في النفقة و العشرة أو سوّى بينهنّ و الأمر في ذلك إليه يفعل ما يشاء و هذه من خصائصه فرضين بذلك كلّه و اخترنه على هذا الشرط إلّا امرأة منهنّ أراد طلاقها و هي سودة بنت زمعة فرضيت بترك القسم و جعلت يومها لعائشة و مع ذلك فكان صلّى اللّه عليه و آله يسوّي مع هذا بينهنّ.

و قيل: لمّا نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلّقن فقلن: يا رسول اللّه اجعل لنا من مالك و نفسك ما شئت و دعنا على حالنا فنزلت الآية.

و كان ممّن أرجى منهنّ سودة و جويرة و صفيّة و ميمونة و امّ حبيبة فكان يقسّم

ص: 318

لهنّ ما شاء كما شاء و كان ممّن آوى إليه عائشة و حفصة و امّ سلمة و زينب و كان يقسّم بينهنّ على السواء لا يفضّل بعضهنّ على بعض.

و نزلت آية الحجاب لمّا بنى رسول اللّه بزينب بنت جحش و أولم عليها قال أنس: أولم عليها بتمر و سويق و ذبح شاة و بعثت امّي يحيس أمرني رسول اللّه أن أدعو أصحابه إلى الطعام فدعوتهم فجعل القوم يجيئون و يأكلون الطعام و يخرجون قلت: يا نبيّ اللّه قد دعوت حتّى ما أجد أحدا أدعوه فقال: ارفعوا طعامكم فرفعوا و خرج القوم و بقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت فأطالوا المكث فقام صلّى اللّه عليه و آله و قمت معه لكي يخرجوا فمشى حتّى بلغ حجرة عائشة ثمّ رجع و رجعت معه فإذا هم جلوس مكانهم فنزلت هذه الآية و هي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ الآية».

و عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريد أن يخلو له المنزل لأنّه كان حديث عهد بالعرس و كان يكره أذى المؤمنين. و قيل: كان يطعم رسول اللّه و معه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة و كانت معهم فكره صلّى اللّه عليه و آله ذلك فنزلت آية الحجاب و نزلت قوله تعالى: «وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ» إلى آخر الآية في رجل من الصحابة قال: لئن قبض رسول اللّه لأنكحنّ عائشة بنت أبي بكر و الرجل هو طلحة بن عبيد اللّه.

و بالجملة قوله: [وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي و إن أردت أن تؤوي إليك ممّن عزلتهنّ و تضمّها إليك فلا سبيل عليك بلؤم و لا إثم عليك و لك أن تردّ المعزولة [ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ المعنى أنّهن إذا علمن أنّ له ردّهنّ إلى فراشه صلّى اللّه عليه و آله بعد ما اعتزلهنّ قرّت أعينهنّ و لم يحزنّ و يرضين بما فعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من التسوية و التفضيل و أطيب لنفوسهنّ إذا علمن أنّ لك الرخصة بذلك من اللّه، و قيل: نزول الرخصة من اللّه أقرّ لعينهنّ و أدنى إلى رضاهنّ لعلمهنّ بما لهنّ من الثواب.

[وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من الميل إلى بعض دون بعض و يعلم من الرضا و السخط [وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] بمصالح عباده [حَلِيماً] عنهم في ترك المعاجلة بالعقوبة.

ص: 319

قوله تعالى: [لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ] أي من بعد النساء اللواتي أحللناهنّ لك في قوله: «إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» الآية و هنّ ستّة أصناف:

النساء اللاتي آتيت، و بنات عمّه و بنات عمّاته و بنات عمّاته و بنات خاله و بنات خالاته اللاتي هاجرن معه، و من وهبت نفسها له و لا يحلّ له غيرهنّ من النساء و قيل: يريد المحرّمات في سورة النساء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و قيل: المراد اليهوديّات و لا النصرانيّات.

[وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أي و لا يحلّ لك أن تبدّل المسلمات بالكتابيّات لأنّه لا ينبغي أن يكنّ امّهات المؤمنين إلّا ما ملكت يمينك من الكتابيّات فأحلّ له أن يتسرّاهنّ. و قيل: معناه: لا يحلّ لك النساء من بعد نسائك اللاتي خيّرهنّ اللّه فاخترن اللّه و رسوله و هنّ التسع و صرت مقصورا عليهنّ و ممنوعا من غيرهنّ و من أن تستبدل بهنّ غيرهنّ.

[وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ أي وقع في قلبك حسنهنّ مكافاة لهنّ على اختيارهنّ اللّه و رسوله. و قيل: إنّه منعت من طلاق من اختارته من نسائه كما امر بطلاق من لم يختره فأمّا تحريم النكاح عليه فلا. و قيل: إنّ هذه الآية منسوخة و أبيح له بعد تزويج من شاء فروي عن عائشة أنّها قالت: ما فارق رسول اللّه الدنيا حتّى حلّل له النساء ما أراد.

قوله: «وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ» فقيل: إنّ معناه أنّ العرب كانت تتبادل بأزواجهم فيعطي أحدهم زوجته رجلا فيأخذ بها زوجته منه بدلا عنها فنهي عن ذلك و قيل في معنى قوله:

«وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» يعني إن أعجبك حسن ما حرم عليك من جملتهنّ و لم يحللن لك و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: إنّما عني بقوله: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» النساء اللاتي حرّم اللّه في هذه الآية و هو «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ إلى آخر الآية» و لو كان الأمر على ما يقولون: كان قد أحلّ لكم ما لا يحلّ له لأنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد و لكنّ الأمر ليس كما يقولون إنّ اللّه أحلّ لنبيّه أن ينكح من النساء كلّما أراد إلّا ما حرّم في هذه الآية الّتي في سورة النساء و مثله عن

ص: 320

الصادق عليه السّلام في عدّة روايات و في بعضها: أراكم تزعمون أنّه يحلّ لكم ما لم يحلّ لرسول اللّه، انتهى.

[وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً] عالما حافظا للأمور.

قوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ المعنى: أدّب اللّه عباده المؤمنين فنهاهم عن دخول دار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بغير إذن و هو قوله: «إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» في الدخول إلّا أن يدعوكم إلى طعام فادخلوا غير ناظرين أي منتظرين إدراك الطعام فيطول مقامكم أي لا تدخلوها بغير إذن و قبل نضج الطعام انتظار النضجة فيطول مكثكم و قد ذكرنا شأن نزول الآية في قصّة الوليمة و أنى الطعام يأني أنى مقصورا إذا بلغ حالة النضج.

[وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا] أي إذا أكلتم فتفرّقوا و اخرجوا [وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي و لا تدخلوا فتقعدوا بعد الأكل يحدث بعضكم بعضا.

ثمّ بيّن السبب في المنع فقال: [إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي قعودكم و لبثكم في منزل النبيّ يؤذيه فيمنعه الحياء أن يأمركم بالخروج من منزله [وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ و لا يترك إبانة الحقّ فيأمركم بما هو أدب و صلاح لكم، قال بعض العلماء: هذا أدب أدّب اللّه الثقلاء.

[وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ يعني إذا سألتم أزواج النبيّ شيئا تحتاجون إليه فاسألوهنّ متاعا من وراء ستر قال مقاتل: أمر اللّه المؤمنين ألّا يكلّموا نساء النبيّ إلّا من وراء حجاب.

[ذلِكُمْ أي سؤالكم المتاع إيّاهنّ من وراء الحجاب [أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَ من الريبة و من دسائس الشيطان الّتي تدعو إلى ميل الرجال إلى النساء و النساء إلى الرجال.

[وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ أي ليس لكم إيذاء رسول اللّه بمخالفة ما أمر به في نسائه و لا في شي ء من الأشياء [وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً] أي بعد

ص: 321

وفاته [إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً] أي إيذاء الرسول بما ذكرنا كان ذنبا عظيم الوقع عند اللّه.

قوله: [إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ أي تظهروا أو تضمروا ممّا نهيتم عنه [فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً] من الظواهر و السرائر و هذا تهديد لهم بأنّكم إذا تعزمون على إيذائه أو نكاح أزواجه فهو عليم بذات الصدور.

ثمّ إنّه لمّا أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله: [لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ و في الآية لطيفة و هي أنّ عند الحجاب أمر اللّه الرجل بالسؤال من وراء حجاب فيفهم منه كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى، و قدّم في الآية الآباء لأنّهم أقرب إلى بناتهم و كيف و قد رأوا جميع بدن البنات في الصغر ثمّ الأبناء ثمّ الأبناء ثمّ الإخوة ثمّ بني الإخوة ثمّ بني الأخوات.

[وَ لا نِسائِهِنَ يريد نساء المؤمنين لا نساء اليهود و النصارى فيصفن نساء رسول اللّه و نساء المؤمنين لأزواجهنّ و رجالهنّ إن رأينهنّ. و قيل: جميع النساء.

[وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ من الوصائف أو الوصائف و العبيد قبل البلوغ أو مطلقا.

و إنّما لم يذكر اللّه العمّ و الخال مع أنّهما من المحارم فلم يقل: و لا أعمامهنّ و لا أخوالهنّ لوجهين: أحدهما أنّ ذلك علم من بني الإخوة و من بني الأخوات لأنّ من علم أنّ بني الأخ للعمّات محارم علم أنّ بنات الأخ للأعمام محارم و كذلك الحال في أمر الخال.

و الوجه الثاني أنّ الأعمام ربّما يذكرون بنات الأخ عند أبنائهم و هم غير محارم و كذلك الحال في ابن الخال و هو غير محرم.

و من الأئمّة من قال «في ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ»: من العبيد من كان دون البلوغ.

[وَ اتَّقِينَ اللَّهَ من دخول الأجانب عليكنّ من عقاب اللّه [إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً] أي حفيظا لا يغيب عنه شي ء.

قوله: [سورة الأحزاب (33): الآيات 56 الى 62]

إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60)

مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)

ص: 322

المعنى: لمّا أمر اللّه المؤمنين بالاستيذان في دخول بيته صلّى اللّه عليه و آله احتراما له فبيّن في هذه الآية أنّ شرفه صلّى اللّه عليه و آله في الملأ الأعلى أعظم فقال:

[إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ الآية، و الصلاة الدعاء أي دعاله و هذا المعنى غير معقول في حقّ اللّه لأنّ الدّعاء للغير طلب نفعه من ثالث فمعناه أنّه تعالى يرحمه و يثني عليه بالثناء الجميل [وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عليه و يثنون عليه بأحسن الثناء و يدعون له بأزكى الدعاء.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً] قال أبو حمزة الثماليّ: حدّثني السدّيّ و حميد بن سعد الأنصاريّ و يزيد بن أبي زياد عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجزة قال:

لمّا نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول اللّه هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك قال:

قولوا: اللّهم صلّ على محمّد و آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد و بارك على محمّد و آل محمّد كما باركت على إبراهيم و آل ابراهيم إنّك حميد مجيد.

و عن عبد اللّه بن مسعود قال: إذا صلّيتم على النبيّ فأحسنوا الصلاة عليه فإنّكم لا تدرون لعلّ ذلك تعرض عليه قالوا: فعلّمنا قال: قولوا: اللّهم اجعل صلواتك و رحمتك و بركاتك على سيّد المرسلين و إمام المتّقين و خاتم النبيّين محمّد عبدك و رسولك إمام الدين و قائد الخير و الرسول الرحمة اللهمّ ابعثه مقاما محمودا يغبطه الأوّلون و الآخرون اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.

و عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن هذه الآية فقلت: كيف صلاة اللّه على رسوله؟

فقال: يا أبا محمّد تزكيته له في السماوات العلى فقلت: قد عرفت صلواتنا عليه فكيف التسليم؟ فقال: هو التسليم له في الأمور فعلى هذا يكون معيى قوله: «وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً»

ص: 323

انقادوا لأوامره و ابذلوا الجهد في طاعته و في جميع ما يأمركم به و قيل: معناه سلّموا عليه بالدعاء أي قولوا: السلام عليك يا رسول اللّه.

و عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: دخلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم أره أشدّ استبشارا منه يومئذ و لا أطيب نفسا قلت: يا رسول اللّه ما رأيتك قطّ أطيب نفسا و لا أشدّ استبشارا منك اليوم فقال: و ما يمنعي و قد خرج جبرئيل آنفا من عندي قال: قال اللّه تعالى: من صلّى عليك صلاة صلّيت بها عشر صلوات و محوت عنه عشر سيّئات و كتبت له عشر حسنات.

و فيما ورد عن الصادق عليه السّلام قيل له: كيف نصلّي على محمّد و آله؟ قال: تقولون: صلوات اللّه و صلوات ملائكته و أنبيائه و رسله و جميع خلقه على محمّد و آله و السلام عليه و عليهم و رحمة اللّه و بركاته، قيل: فما ثواب من صلّى على النبيّ بهذه الصلوات؟ قال: الخروج من الذنوب كهيئة يوم ولدته امّه.

و في المحاسن عن الصادق أنّه سئل عن هذه الآية فقال: أثنوا عليه و سلّموا له بالولاية تسليما.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام في مجلسه مع المأمون قال: و قد علم المعاندون منهم أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه قد عرفنا التسليم عليك فكيف الصلوات عليك؟

فقال: تقولون: اللّهم صلّ على محمّد و آل محمّد كما صلّيت و باركت على إبراهيم و آل ابراهيم إنّك حميد مجيد فهل بينكم معاشر الناس في هذا خلاف؟ قالوا: لا، قال المأمون: هذا ممّا لا خلاف فيه أصلا و عليه إجماع الامّة فهل عندك في الآل شي ء أوضح من هذا في القرآن؟ قال عليه السّلام نعم أخبروني عن قول اللّه: «يس* وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» فمن عني بقوله تعالى: «يس» قال العلماء: «يس» محمّد صلّى اللّه عليه و آله لم يشكّ فيه أحد قال عليه السّلام: فإنّ اللّه أعطى محمّدا و آل محمّد من ذلك فضلا لا يبلغ أحد كنه فضله إلّا من عقله و ذلك أنّ اللّه لم يسلّم على آل أحد من الأنبياء فقال تعالى: «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ» (1) و قال: «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ» (2) و قال: «سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ» (3) و لم

ص: 324


1- الصافات: 79.
2- الصافات: 109.
3- الصافات: 120.

يقل: سلام على آل نوح و لم يقل: سلام على آل إبراهيم و لم يقل: سلام على آل موسى و هارون و لكن قال: «سلام على آل يس» (1) يعني آل محمّد.

و عنه عليه السّلام فيما كتبه في شرائع الدين: و الصلاة على النبيّ واجبة في كلّ وقت يذكر اسمه الشريف.

و في الكافي و الفقيه عن الباقر عليه السّلام: و صلّ على النبيّ كلّما ذكرته أو ذكر ذاكر عندك في أذان و غيره.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: سمعت رسول اللّه يقول: إنّما أنزلت هذه الآية عليّ في الصلوات بعد قبض اللّه لي.

و روي مرفوعا أنّ موسى لمّا ناجاه اللّه و في مناجاته قد ذكر محمّد فقال اللّه تعالى:

صلّ يا ابن عمران عليه فإنّي أصلّي عليه و ملائكتي.

و في الاحتجاج عن عليّ عليه السّلام قال: لهذه الآية ظاهر و باطن و الظاهر قوله:

«صَلُّوا عَلَيْهِ» و الباطن قوله: «سَلِّمُوا تَسْلِيماً» أي سلّموا لمن وصّاه و جعله النبيّ وصيّا و ما عهد به إليه قال: و هذا ممّا أخبرتك أنّه لا يعلم تأويله إلّا من لطف و صفا ذهنه.

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ قيل: هم المنافقون و الكافرون و الّذين و صفوا اللّه بما لا يليق به و كذّبوا رسله و على هذا يكون معنى «يُؤْذُونَ اللَّهَ» يخالفون أمره و يصفونه بما هو منزّه عنه فإنّ اللّه تعالى لا يلحقه أذى و المخالفة تسمّى إيذاء خوطبنا بما نتعارفه و قيل: معناه: يؤذون رسول اللّه فقدّم ذكر اللّه على وجه التعظيم حيث جعل أذى رسول اللّه أذى له تشريفا و تكريما له فكأنّه سبحانه يقول: لو جاز أن ينالني أذى من شي ء لكان ينالني من هذا.

و اتّصال الآية بما قبلها حيث أمرهم بالصلاة و الثناء عليه و نهاهم عن أذاه فإنّ من من أذاه فهو كافر.

ثمّ أوعد عليه بقوله: [لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ] أي يبعدهم من رحمته و يحلّ

ص: 325


1- الصافات: 130 في قراءة غير مشهورة.

بهم نقمته بحرمان زيادات الهدى في الدنيا و الخلود في النار في الآخرة [وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً] مذلّا لهم.

حدّثني (1) السيّد أبو الحامد قال: حدّثني الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ قال:

حدّثنا أبو عبد اللّه الحافظ قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن أبي دارم قال: حدّثنا عليّ بن أحمد العجليّ قال: حدّثنا عباد بن يعقوب قال: حدّثنا أرطاة بن حبيب قال: حدّثنا أبو خالد الواسطيّ و هو آخذ بشعره قال: حدّثني زيد بن عليّ بن الحسين و هو آخذ بشعره قال:

حدّثني عليّ بن الحسين و هو آخذ بشعره قال: حدّثني الحسين بن عليّ عليه السّلام و هو آخذ بشعره قال: حدّثني عليّ بن أبي طالب قال: حدّثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو آخذ بشعره فقال: يا عليّ من آذى شعرة منك فقد آذاني و من آذاني فقد أذى اللّه و من أذى اللّه فعليه لعنة اللّه و اللعن أشدّ التهديدات و المحذورات لأنّ العبد من اللّه لا يرجى معه خير بخلاف التعذيب بالنار و من أبعده اللّه و طرده فمن الّذي يقرّبه و يمكن أن يكون الطرد جزاء إيذاء اللّه و العذاب جزاء إيذاء الرسول.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا] أي الّذين يؤذونهم بالقول أو بالفعل لسانيّا كانت الأذيّة أو عمليّا و يفعلون بهم ما يتأذّون و قيّد سبحانه بقوله: «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا» أي بغير جناية يستحقّون بها الأذيّة فإنّ أذى المؤمنين يكون بغير حقّ و منه أن يكون بحقّ كحدّ الشارب مثلا و لذلك قيّد الكلام.

فقد احتمل المؤذين [بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً] قيل: إنّ الآية نزلت في الّذين كانوا يؤذون عليّا و يسمعونه ما لا خير فيه و قيل: نزلت في زناه يتّبعون النساء إذا برزن بالليل و كانوا يمشون في الطرقات ليلا فإذا رأوا امرأة غمزوها. و الحاصل أنّ الموصوفين بصفة الإيذاء للمؤمنين فقد فعلوا معصية ظاهرة و تحمّلوا إثم البهتان لأنّ من أذى و سبّ رجلا يتحقّق في نسبته البهتان لا محالة.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: [يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ

ص: 326


1- هذا قول صاحب مجمع البيان

الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ كان في الجاهليّة تخرج الحرّة و الأمة مكشوفات يتبعهنّ أهل الريبة فأمرهنّ باجتناب المواضع الّتي فيها التهم الموجبة للتأذي بالتستّر لئلّا يحصل الإيذاء الممنوع منه لأنّ مثل هذا التهم ممّا يتأذى منه الرجال و النساء خصوصا الأقارب منها فأمر سبحانه بالتجلبب.

[ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ و الحاصل قل يا محمّد لهنّ: أن يسترن موضع الجيب بالجلباب و هو الملأة الّتي تشتمل بها المرأة و قيل: الجلباب مقنعة المرأة أي تغطّين جباههنّ و رؤوسهنّ إذا خرجن للحاجة و قيل: الجلباب ما تستر به المرأة ذلك أقرب أن تعرفن أنّها حرائر و لسن بإماء فلا يؤذيهنّ أهل الريبة فإنّهم كانوا يمازحون الإماء و ربّما كان يتجاوز المزاح إلى ممازحة الحرائر فإذا قيل لهم في ذلك قالوا: حسبناهنّ إماء و الفتيات فقطع اللّه عذرهم. أو المعنى أنّ التستّر أقرب أن يعرفن بالصلاح فلا يتعرّض لهنّ لأنّ المرأة إذا عرفت بالعصمة لا يتعرّض لها الفاسق في الغالب.

[وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] بهم.

ثمّ أوعد سبحانه الفسّاق فقال: [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي فجور و ضعف في الإيمان و لم يمتنعوا من مراودة النساء و إيذاء الناس [وَ] كذلك [الْمُرْجِفُونَ و أصل الإرجاف من الزلزلة لأنّ الأخبار الكاذبة متزلزلة غير ثابتة، و هم المنافقون الّذين يرجفون في المدينة الأخبار الكاذبة المضعّفة لقلوب المسلمين مثل أن يقولوا:

اجتمع المشركون في موضع كذا و عددهم كذا قاصدين لحرب المسلمين و نحو ذلك.

لئن لم يمتنعوا عن مثل هذه الأمور [لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنسلّطنّك عليهم و أمرناك بقتلهم و قد حصل الإغراء بهم بقوله: «جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ»* و قيل: لم يحصل و لو حصل لقتلوا و شردوا و اخرجوا من المدينة [ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا] أي لا يساكنوك إلّا يسيرا من الزمان و هو ما بين الأمر بالقتل و بين قتلهم.

[مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا] أي في ذلك الزمان القليل الّذي يجاورونك ملعونين مطرودين من رحمة اللّه و إذا أخرجوا أينما وجدوا أخذوا و قتّلوا و لا

ص: 327

يجدون ملجأ بل أينما يكونوا يطلبون.

ثمّ قال: [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا] يعني ليس هذا الأمر دعابكم بل هو سنّة جارية و عادة مستمرّة نفعل بالمكذّبين و ليس هذه السنّة مثل الحكم الّذي يبدّل و ينسخ فإنّ النسخ يكون في الأحكام أمّا في الأخبار فلا تنسخ.

ثمّ قال: [سورة الأحزاب (33): الآيات 63 الى 69]

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)

رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)

المعنى: [يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ القيامة [قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يعلمها غيره [وَ ما يُدْرِيكَ يا محمّد أي أيّ شي ء يعلّمك أمر الساعة و متى يكون قيامها أي أنت لا تعرفه.

ثمّ قال: [لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً] أي قريبا مجيئها و يجوز أن يكون أمر سبحانه أن يجيب كلّ من يسأله عن الساعة بهذا و يقول: ما نستبطئه قريب و ما ننكر كائن و يجوز أن بكون تسلية له صلّى اللّه عليه و آله لضيق صدره باستهزائهم و إنّما أخفاها اللّه لحكم و مصالح منها امتناع المكلّف عن الاجتراء و خوفهم منها في كلّ وقت.

[إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً] أي نارا تستعير و تلتهب [خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً] وليّا ينصرهم و نصيرا يدفع العذاب عنهم.

[يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ] العامل في «يوم» تقلّب و المعنى تقلّب وجوه هؤلاء

ص: 328

السائلين عن الساعة و أشباههم من الكفّار الّذين لم يعتقدوا بها فتسودّ فتصفرّ و تصير كالحة بعد أن لم تكن و تنتقل من جهة إلى جهة في الدنيا بما يصل إليها من العذاب [يَقُولُونَ متمنّين متأسّفين [يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ فيما أمرنا به و نهانا عنه [وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا] فيما دعانا إليه.

[وَ قالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا] فيما فعلنا [سادَتَنا وَ كُبَراءَنا] و أصل السادة سودة مثل قودة قادة و تجمع بالألف و التاء للكثرة و معنى السيّد المالك المعظّم الّذي يملك تدبير السواد الأعظم و الجمع الأكبر و قيل: هم العلماء و الوجه الصحيح أنّ المراد جميع قادة الكفر و أئمّة الضلال، و الألف في «الرسولا» «و السبيلا» للإطلاق [رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ بضلالهم و إضلالهم إيّانا [وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً] مرّة بعد أخرى و زدهم غضبا إلى غضبك و سخطا إلى سخطك.

ثمّ خاطب سبحانه المظهرين للإيمان فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا] أي لا تؤذوا محمّدا كما آذى بنو إسرائيل موسى فإنّ حقّ النبيّ أن يعظّم و يبجّل.

و اختلفوا فيما اوذي به موسى على أقوال:

أحدها أنّ موسى و هارون صعدا الجبل فمات هارون في الجبل فقالت بنو إسرائيل حسده موسى فقتله فأمر اللّه الملائكة فحملته حتّى مرّوا به على بني إسرائيل و تكلّمت الملائكة بموته حتّى عرفوا أنّه قد مات و برّأه اللّه من ذلك عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و ابن عبّاس.

و ثانيها أنّ موسى كان حييّا ستيرا يغتسل وحده فقالوا: ما يستتر منّا إلّا لعيب بجلده إمّا برص أو غيره و قال بعضهم: إنّ قارون يرطّل امرأة فاحشة لتقذفه فألقى اللّه في قلبها و قالت: إنّ قارون يرطلني لأن أنسبه إلى الزنا فبرّأه اللّه.

القول الثالث: قالوا: إنّ موسى ذهب ليغتسل مرّة فوضع ثوبه على حجر فمرّ الحجر بثوبه فطلبه موسى فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا فبرّأه اللّه ممّا

ص: 329

قالوا لكن قيل: إنّ ذلك لا يجوز لأنّ فيه إشهار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إبداء سوأته على رؤوس الأشهاد و ذلك ينفّر عنه في حقّ النبيّ.

و القول الرابع أنّهم نسبوه إلى السحر و الجنون و الكذب فبرّأه اللّه.

[وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً] أي عظيم القدر و رفيع المنزلة يقال: فلان وجيه إذا كان ذا جاه و قدر، قال ابن عبّاس: كان موسى عند اللّه خطيرا لا يسأله شيئا إلّا أعطاه.

قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 70 الى 73]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)

المعنى: لمّا نهاهم سبحانه عمّا يؤذي الأنبياء و منعهم عن ما لا يصلح لهم في الآية السابقة أردفها في هذه الآية بذكر ما يصلح لهم و أمرهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم و هو ملازمة التقوى و الأقوال الصادقة الحسنة قال بعض المفسّرين: القول السديد كلمة لا إله إلّا اللّه و قيل: [قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً] بريئا من الفساد و الكذب و اللّغو موافق الظاهر للباطن.

و قال جماعة: الكلام متّصل بالنهي عن الإيذاء فالمراد أن لا تنسبوا إلى رسول اللّه ما لا يليق به.

[يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي إن فعلتم ذلك يصلح لكم أعمالكم بأن يلطف لكم فيها حتّى تستقيموا على الطريقة السليمة من الفساد. و قيل: معناه يزكّ أعمالكم و يتقبّل حسناتكم [وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ بسبب استقامتكم في الأقوال و الأفعال [وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأوامر و النواهي فقد أفلح فلاحا عظيما و ظفر برضوان و كرامة.

قوله: [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ الآية لمّا أرشد اللّه تعالى المؤمنين إلى مكارم الأخلاق و أدّبهم بأحسن الآداب بيّن في هذه الآية أنّ التكليف أمر عظيم فقال:

ص: 330

«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ».

و اختلف في المراد من الأمانة: قيل: هي التكليف و سمّي أمانة لأنّ من قصّر فيه فعليه الغرامة و من أدّاها فله الكرامة و قيل: هو قول لا إله إلّا اللّه و هذا الكلام بعيد لأنّ الملك و الفلك و الجبال و الرمال بألسنتها ناطقة بأنّ اللّه واحد و قيل: المراد الأعضاء فالعين أمانة ينبغي أن يحفظها و الاذن و اليد كذلك و الرجل و الفرج و اللّسان و هكذا و بعض هذه الوجوه متقارب للبعض.

و بعض المفسّرين فسّروا معنى «الحمل» بالخيانة قال الزجّاج: كلّ من خان الأمانة فقد حملها و من لم يحمل الأمانة فقد أدّاها و كذلك كلّ من أثم فهو احتمل الإثم قال اللّه: «وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ» و أنشد بعضهم في حمل الأمانة بمعنى الخيانة قول الشاعر:

إذا أنت لم تبرح تؤدّي أمانةو تحمل اخرى أترحتك الودائع

قال الطبرسيّ: إنّ الظاهر لا يدلّ على ذلك لأنّه يجوز أن يكون المراد بالحمل قبول الأمانة.

و قيل: المعنى في قوله «عَرَضْنَا الْأَمانَةَ» أي عارضنا و قابلنا و الأمانة تكاليف اللّه من إنزال الكتب و إرسال الرسل فالمعنى أنّ هذه الأمانة في جلالة موقعها و عظم شأنها لو قيست بالسماوات و الأرض و الجبال و قوبلت بها لكانت هذه الأمانة أرجح و أثقل وزنا و معنى و السماوات و الأرضين ضعفن عن حملها [وَ أَشْفَقْنَ مِنْها] و الشفقة ضعف القلب و لذلك صار كناية عن الخوف الّذي يضعف عنده القلب.

ثمّ قال سبحانه: هذه الأمانة الّتي صفتها كذلك و أثقل و أعظم من السماوات و الأرض و الجبال تقلّدها الإنسان فلم يحفظها و ضيّعها لظلمه على نفسه و لجهله بمبلغ الثواب و العقاب.

و قيل: المراد من السماوات ليس هي بأعيانها بل أهل السماوات و الأرض و لم يكن إباؤهنّ كإباء إبليس لأنّ السجود كان فرضا و الأمانة عرضا و إباء إبليس كان استكبارا و إباؤهنّ استصغارا.

ص: 331

و قيل: المعنى لو كانت السماوات و الأرض و الجبال عاقلة ثمّ عرضت عليها وظائف التكليف لاستثقلت ذلك مع عظمها و قوّتها و لامتنعت من حملها خوفا من القصور عن أداء حقّها.

[ف حَمَلَهَا الْإِنْسانُ مع ضعف جسمه لجهله و المراد بقوله: «الْإِنْسانُ» لم يرد جميع الناس بل هو مثل قوله: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» (1) «و إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ» (2) و الأنبياء و الأولياء و المؤمنون الماحضون خارجون و لا يجوز أن يكون الإنسان محمولا على آدم لقوله: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ» و كيف يكون من اصطفاه اللّه من بين خلقه موصوفا بالظلم و الجهل و من المعلوم أنّ التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة و هذا النوع من التكليف ليس في السماوات و لا في الأرض لأنّ الأرض و الجبل و السماء كلّها على ما خلقت عليه فالجبل لا يطلب منه السير و الأرض لا يطلب منها الصعود و لا من السماء الهبوط و لا من الملائكة لأنّ الملائكة و إن كانوا مأمورين بأمور و منهيّين عن امور لكن ذلك لهم كالأكل و الشرب لنا فيسبّحون اللّيل و النهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه و لذلك إذا أطاع الإنسان ما امر به و انتهى عمّا نهي عنه و أعرض عن موجبات ما كره اللّه و انغمر في العبادة فضّل على الملك.

قوله تعالى: [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثمّ بيّن سبحانه الغرض الصحيح في عرض هذه الأمانة يعني بتضييع الأمانة يعذّب المنافقين و المنافقات و المعنى أنّا عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق و شرك المشرك فيعذّبهم اللّه و يظهر إيمان المؤمن فيتوب اللّه عليه إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات لعدم خلعهم ربقة الطاعة بالكلّيّة و يمكن أن يكون اللام للعاقبة أي كان عاقبة أمرها ما كان.

[وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] غفورا لظلوم رحيما على الجهول إن عاد عن الظلم و الجهل كما وعد عباده بغفران الظلم إلّا الظلم العظيم الّذي هو الشرك كما قال تعالى:

ص: 332


1- العصر: 2
2- العاديات: 6

«إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»*.

قال أبو السعود صاحب التفسير: فمجمل تفسير الآية أنّ اللّه تعالى لمّا خلق هذه الأجرام السماويّة و الأرضيّة خلق فيها فهما و قال لها: إنّي فرضت فريضة و خلقت جنّة و نارا لمن أطاعني و عصاني فقلن: نحن مسخّرات لما خلقتنا لا نحتمل فريضة و لا نبغي ثوابا و لا عقابا و الإباء إباء الاستصغار لا إباء الاستكبار مثل إبليس و الأمر و العرض مفهومان متغايران.

تمّت السورة بحمد اللّه.

هنا ينتهي الجزء الثامن من الكتاب و قد جمع بين دفّتيه سور الفرقان، الشعراء النحل، القصص العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة و الأحزاب و من اللّه التوفيق.

ص: 333

المجلد 9

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

كلمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي نزل القرآن نورا و سراجا و قمرا منيرا. و الصلاة و السلام على رسوله الذي انزل عليه الكتاب بيانا للناس و هدى و موعظة للمتقين، و على آله الطيبين ثانى الثقلين. و لعنة الله على أعدائهم أجمعين.

و بعد فقد بذل علماء الإسلام قديما و حديثا جهدهم في تفسير علوم القرآن و تبيين لغاته و مشكلاته، ففريق فسروا ألفاظه و بينوا حقائقه من مجازه، و جمع جمعوا أحكامه و بينوا حلاله و حرامه، و طائفة كشفوا عن تأويلاته قناعه؛ و كيفما كان ما وصلوا الا الى مبلغ علمهم و منتهى همهم، و أنى لهم الوصول الى حقائق التنزيل و دقائق التأويل، لان القرآن هو النور الذي أنزل الله على قلب جبيبه محمد صلى الله عليه و آله. الا أن المتمسكين بولاء أهل بيت الوحى المستضيئين بنور علمهم المأمورين بالتمسك بهم في حديث الثقلين قد اغترفوا من بحار علوم أهل بيت النبي غرفا و غاصوا فيها و اقتنوا منها دررا.

و ها هي المقتنيات الدرر، قد اقتناها علم من الأعلام ثمرة الشجرة الطيبة و النخبة من السلالة الطاهرة: «الحاج المير سيد على الحائرى» تغمده الله بغفرانه، و اوتى كتابه هذا بيمينه. قد اقتنى من الدرر أغلاها و من الغرر أسناها فحقيق أن يتنافس المتنافسون في الاستفادة منها.

و قد وفق الله تلميذه المستضي ء بنور علمه المقتفى أثره: الحاج ميرزا عبد الحسين المعروف بمحسنيان لبذل الجهد باحياء هذا السفر الجليل القيم.

هذا و منّ الله سبحانه على عبده الزاكي صاحب الهمة القعساء و ارومة الفضل: الحاج محمود الكاشاني؛ فأنعم عليه و شرفه بإعطاء نفقة طبع الكتاب خدمة للدين و اتحافا للطيفة والده السعيد الحاج محمد حسين الكاشاني طيب الله رمسه، و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

و نشكر جميل مساعى الشاب الفاضل الأريب السيد الكاظم الموسوي المياموى حيث بذل جل أوقاته لمقابلة أجزاء الكتاب مع نسخة الأصل و تخرج الآيات المنثورة في ثناياه و اسناد ما يهم من رواياته و بعض الإصلاح فيه. و نسأل الله تعالى أن يوفقنا لإتمامه بمحمد و آله.

لجنة التحقيق و التصحيح لدار الكتب الإسلامية

ص: 2

أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم

سورة سبأ

اشارة

* (مكية)* ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ و لا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا و مسافحا.

و روى ابن اذينة عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ الحمدين جميعا: سبأ و فاطر في ليلة لم يزل ليلته في حفظ اللّه و كلاءته و من قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه و اعطي من خير الدنيا و خير الآخرة ما لم يخطر على قلبه و لم يبلغ منتهاه.

التفسير:

اشارة

لمّا ختم اللّه سورة الأحزاب ببيان الغرض في التكليف و أنّه يجازي المحسن بإحسانه و المسي ء بإساءته افتتح هذه السورة بالحمد له على نعمته و كمال قدرته:

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة سبإ (34): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)

الحمد هو الوصف بالجميل على جهة التعظيم و نقيضه الذمّ و هو الوصف بالقبيح على جهة التحقير ثمّ ينقسم فمنه ما هو أعلى و منه ما هو أدنى و الأعلى ما يقع على وجه العبادة و لا يستحقّها إلّا اللّه لأنّ إحسان اللّه لا يوازيه إحسان أحد من المخلوقين و يستحقّ سبحانه الحمد على الإحسان و الإنعام و السور المفتتحة بالحمد خمس سور:

الفاتحة و الأنعام و الكهف و سبأ و فاطر.

و من المعلوم أنّ نعم اللّه مع كثرتها غير مقدور على الإحصاء لكنّها واضحة في قسمين نعمة الإيجاد و نعمة الإبقاء قلنا: في هاتين النعمتين حالتان الابتداء و الإعادة و في كلّ من الحالتين له علينا منّة و يقتضي أن نقوم بشكرها و حمده فأشار سبحانه بنعمة الإيجاد بقوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و بنعمة الإبقاء و الإعادة بقوله: [وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ] الحكيم الفاعل الّذي فعله على وفق العلم و المصلحة و الخبير هو الّذي يعلم عواقب الأمور و بدؤها.

[يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي ما يدخل في الأرض من مطر أو ميّت أو كنز أو حبّة [وَ ما يَخْرُجُ مِنْها] من الأشجار و السنابل [وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ] من أنواع

ص: 4

رحمته و منها المطر و الملائكة و الوحي و القرآن [وَ ما يَعْرُجُ فِيها] منها الكلم الطّيب لقوله: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» (1) و منها الأرواح و منها الأعمال الصالحة لقوله:

«وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» و قدّم ما يلج في الأرض على غيره لأنّ الحبّة تبذر ثمّ تسقى و هو تعالى يدبّر كلّ هذه الأمور بعلمه و حكمته [وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ] أي هو الرحيم بعباده مع علمه بالمعاصي منهم فلا يعاجلهم بالعقوبة و يمهلهم للتوبة و غفور و ساتر عليهم ذنوبهم في الدنيا و متجاوز عنها في العقبى [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي منكروا البعث [لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ] يعني يوم القيامة فردّ سبحانه عليهم بقوله: [قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ و أكّد إتيانها باليمين.

فلو قيل: كيف يتأكّد باليمين مع أنّهم مشركون و المسألة الأصوليّة لا تثبت باليمين؟

فالجواب أنّه سبحانه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل و هو قوله: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» و بيان كونه دليلا هو أنّ المسي ء قد يبقى في الدنيا مدّة مديدة في اللّذات العاجلة و يموت عليها و المحسن قد يدوم في دار الدنيا في الآلام الشديدة مدّة مديدة و يموت عليها فلو لا دار يكون الجزاء فيها لكان الأمر في نهاية الظلم و على خلاف الحكمة و الدين.

هو [عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي في اللوح المحفوظ يقدر على جمعها فالساعة ممكنة القيام و قد أخبر عنها الصادق فتكون واقعة و قوله: «فِي السَّماواتِ» إشارة إلى علمه بالأرواح «وَ لا فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى علمه في الأجسام و الإنسان روح و جسم و لا يستبعد معاده و الإعادة للجزاء.

فقال: [لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي ليكافيهم بما يستحقّونه من الثواب على صالح أعمالهم [أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ستر لذنوبهم و لهم مع ذلك رزق هيّئ لا تنقيص فيه و لا تكدير، و قيل: معنى الرزق الكريم الجنّة. و الرزق الكريم ما يأتي من غير طلب.

ص: 5


1- فاطر: 10.

و عن محمّد بن إسماعيل البخاريّ أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يخرج من النار من قال: لا إله إلّا اللّه و في قلبه وزن ذرّة من الإيمان. و وصف الرزق بقوله: «كَرِيمٌ» و لم يصف المغفرة لأنّ المغفرة واحدة و هي للمؤمنين و الرزق منه شجرة الزقّوم و الحميم و منه الفواكه و الشراب الطهور فميّز الرزق لحصول الانقسام فيه و لم يميّز المغفرة لعدم الانقسام فيها.

ثمّ قال سبحانه: [وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أي الّذين سعوا في إبطال حججنا و في تزهيد الناس عن قبولها مقدّرين إعجاز ربّهم بزعمهم و ظانّين أنّهم يفوتونه و يسعون في ترويج كذبهم و باطلهم [لَهُمْ في مقابلة الرزق الكريم [عَذابٌ من جنس سوء العذاب شديد الإيلام و الزجر سوء العذاب كأنّه قال: عذاب مولم من أسوء العذاب.

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 6 الى 9]

وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

قوله: [وَ يَرَى الَّذِينَ يجوز أن يكون منصوبا عطفا على «لِيَجْزِيَ» و يجوز أن يكون مرفوعا على الاستيناف أي و يعلم الّذين اعطوا العلم و المعرفة بوحدانيّة اللّه و هم أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قتادة و قيل: و هم المؤمنون من أهل الكتاب عن الضحّاك. و قيل:

هم كلّ من اوتي العلم بالدين و هذا أولى لعمومه.

[الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ يعني القرآن لأنّهم يتدبّرون و يتفكّرون فيه فيعلمون أنّه ليس من قبل البشر و هو أي القرآن [يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] أي دين اللّه القادر الّذي لا يغالب و هو المحمود في جميع أفعاله و في الآية دلالة على فضل العلم و فضيلة العلماء.

ص: 6

ثمّ عاد سبحانه إلى الحكاية عن الكفّار و قال: [الَّذِينَ كَفَرُوا] بعضهم لبعض أو القادة للأتباع على وجه الاستبعاد و التعجّب [هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ] أي يزعم أنّكم تبعثون بعد أن تكونوا عظاما و رفاتا و ترابا أي إذا تفرّقت أوصالكم و قطعتم كلّ تقطيع و أكلتكم الأرض أو السباع و الطيور، و المراد بالجديد المستأنف المعاد أي كيف يتجدّد خلقكم بأن تنشروا و تبعثوا [أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] أي هل كذب على اللّه متعمّدا حين زعم أنّا نبعث بعد الموت و هو استفهام تعجّب منهم و إنكار [أَمْ بِهِ جِنَّةٌ] أي أو به جنون فهو يتكلّم بما لا يعلم.

ثمّ ردّ سبحانه عليهم قولهم: فقال: ليس الأمر على ما قالوا من الافتراء و الجنون [بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] أي هؤلاء المنكرون للبعث و الجزاء [فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ] من الحقّ.

ثمّ وعظهم سبحانه فقال: [أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي أ فلم ينظر هؤلاء الكفّار إلى ما بين أيديهم [وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ كيف أحاطت بهم و ذلك لأنّ الإنسان حين نظر رأى السماء و الأرض قدّامه و خلفه و عن يمينه و عن شماله و لا يقدر على الخروج منها فيستدلّ بهما على قدرة اللّه و يعرفون أنّا قادرون على إهلاكهم.

فقال: [إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسفنا بأقوام و كما خسفنا بقارون [أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ] أي قطعة من السماء نوقعها عليهم و نغطّيهم و نهلكهم [إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ترون من السماء و الأرض و القدرة [لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ لدلالة لكلّ عبد رجع عن معصيته إلى طاعته فلم لا يرتدعون هؤلاء من التكذيب و الكفر؟

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 10 الى 14]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)

ص: 7

لمّا تقدّم ذكر عباد اللّه المنيبين إليه ذكر منهم من أناب و أصاب فقال سبحانه:

[وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا] أي أعطينا داود منّا نعمة و إحسانا و فضّلناه على غيره بما أعطيناه من النبوّة و الكتاب و فصل الخطاب.

ثمّ فصّل سبحانه ما أعطاه فقال: [يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ] أي قلنا للجبال: يا جبال سبّحي معه إذا سبّح، و أمر اللّه الجبال أن تسبّح معه إذا سبّح فسبّحت معه، و تأويله: ارجعي معه التسبيح من آب يؤوب، و يجوز أن يكون سبحانه فعل في الجبال ما يأتي به منها التسبيح معجزا له و أمّا الطير فيجوز أن يسبّح و يحصل له من التمييز ما يتأتّى منه ذلك بأن يزيد اللّه في فطنته فيفهم ذلك.

و قيل: المعنى: يا جبال سيري معه فكانت الجبال و الطير تسير معه أينما سار و كان ذلك معجزا له و التأويب السير بالنهار. و قيل: معناه ارجعي إلى مراد داود فيما يريده من استنباط عين و استخراج معدن و وضع طريق.

القميّ قال: كان داود إذا مرّ بالبراري يقرأ الزبور تسبّح الجبال و الطير و الوحوش معه و ألان اللّه الحديد بيده كالشمع حتّى كان يتّخذ منه ما أراد و قال: اعطي داود و سليمان ما لم يعط أحدا من الأنبياء من الآيات علّمهما منطق الطير و ألان لهما الحديد و الصفر من غير نار و مطرقة و جعلت الجبال أن يسبّحن مع داود.

[أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي قلنا له: أن اعمل من الحديد دروعا تامّات. و إنّما ألان اللّه الحديد لداود لأنّه أحبّ أن يأكل من كسب يده فألان له الحديد و أمره بصنعة الدرع و كان أوّل من اتّخذها و كان يبيعها و يأكل من ثمنها و يطعم عياله و يتصدّق منه.

قال الصادق عليه السّلام: و ذلك لأنّ اللّه أوحى إليه يا داود نعم العبد أنت إلّا أنّك تأكل من بيت المال فبكى داود أربعين صباحا فألان اللّه له الحديد فكان يعمل في كلّ يوم درعا

ص: 8

و يبيعها بألف درهم فاستغنى عن بيت المال.

قوله: [وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ] أي عدّل في نسج الدروع و منه قيل لصانعها: سرّاد و زرّاد، المعنى: لا تجعل الحلق دقاقا فتكسر الحلق و لا غلاظا فتثقل. و قيل: معناه اجعله و اصنعه بقدر الحاجة.

حكي أنّ لقمان حضر داود عند أوّل درع عملها فجعل يتفكّر فيها و لا يدري ما يريد أن يصنع داود و لكن لم يسأله حتّى فرغ داود منها ثمّ قام فلبسها و قال: نعم جنّة الحرب هذه فقال لقمان عند ذلك: الصمت حكمة و قليل فاعله.

[وَ اعْمَلُوا صالِحاً] أي و قلنا: اعمل أنت و أهلك الصالحات و هي الطاعات شكرا للّه على عظيم نعمة [إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] أي أنا عالم بما تفعلونه لا يخفى عليّ شي ء ممّا تفعلونه من أفعالكم.

ثمّ ذكر سبحانه ما آتى سليمان و أعطاه من الفضل و الكرامة فقال: [وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي و سخّرنا لسليمان الريح [غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ] أي مسير الريح في النهار إلى الظهر مسيرة شهر و من الظهر إلى العشاء مسيرة شهر فكانت تسير في تمام اليوم مسيرة شهرين للراكب. قيل: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر فارس و بينهما مسيرة شهر للمسرع و يروح من إصطخر و يبيت بكابل و بينهما مسيرة شهر تحمله الريح مع جنوده أعطاه اللّه الريح بدلا من الصافنات الجياد.

[وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ] أي أذبنا له عين النحاس و أظهرناها له قالوا: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيّام بلياليهنّ جعلها اللّه له كالماء.

[وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي و سخّرنا له من الجنّ من يعمل له بحضرته و أمام عينه ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الآدميّ بين يدي الآدميّ بإذن اللّه و كان عليه السّلام يكلّفهم الأعمال مثل عمل الطين. قال ابن عبّاس: سخّرهم اللّه لسليمان و أمرهم بطاعته فيما يأمرهم به و في الآية دلالة على أنّه قد كان من الجنّ من هو غير مسخّر له.

قوله: [وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا] منهم من المسخّرين [نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ] أي

ص: 9

و من يعدل من هؤلاء الجنّ المسخّرين نذقه عذاب النار في الآخرة و في الآية دلالة على أنّهم قد كانوا مكلّفين. و قيل: معناه نذقه عذاب النار في الدنيا و أنّ اللّه سبحانه و كلّ بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته.

قوله: [يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ و هي بيوت العبادة أو البيوت الشريفة العالية و كان ممّا عملوه بيت المقدس و قد كان اللّه عزّ و جلّ سلّط على بني إسرائيل الطاعون فهلك خلق كثير في يوم واحد فأمرهم داود أن يغتسلوا و يبرزوا إلى الصعيد بالذراريّ و الأهلين و يتضرّعوا إلى اللّه لعلّه يرحمهم و ذلك صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد و ارتفع داود فوق الصخرة فخرّ ساجدا يبتهل إلى اللّه و سجدوا معه فلم يرفعوا رؤوسهم حتّى كشف اللّه عنهم الطاعون.

فلمّا أن شفّع اللّه داود في بني إسرائيل جمعهم داود بعد ثلاث و قال لهم: إنّ اللّه قد منّ عليكم و رحمكم فجدّدوا له شكرا بأن تتّخذوا من هذا الصعيد الّذي رحمكم اللّه فيه مسجدا ففعلوا و أخذوا في بناء بيت المقدس و كان داود ينقل الحجارة لهم على عاتقه و كذلك خيار بني إسرائيل حتّى رفعوه قامة و لداود يومئذ سبع و عشرون و مائة سنة فأوحى اللّه إلى داود أنّ تمام بنائه تكون على يدي ابنه سليمان.

فلمّا صار داود ابن أربعين و مائة سنة توفّاه اللّه و استخلف سليمان فأحبّ إتمام بيت المقدس فجمع الجنّ و الشياطين و قسّم عليهم الأعمال يخصّ كلّ طائفة منهم بعمل فأرسل الجنّ و الشياطين في تحصيل الرخام و المها (1) الأبيض الصافي من معادنه و أمر ببناء المدينة من الرخام و الصفائح و جعلها اثني عشر ربضا و أنزل كلّ ربض منها سبطا من الأسباط.

و لمّا فرغ من بناء المدينة ابتدأ في تتميم المسجد فوجّه الشياطين فرقا فرقة يستخرجون الذهب و اليواقيت من معادنها و فرقة يقلعون الجواهر و الأحجار من أماكنها و فرقة يأتون بالمسك و العنبر و سائر الطيب و فرقة يأتونه بالدرّ من البحار فاوتي بشي ء من ة.

ص: 10


1- الرخام: المرمر و المها جمع المهاة مثل لها جمع لهات: البلور، و الصفائح جمع الصفيحة: الحجر العريض، و الربض: مسكن القوم او ما حول المدينة من بيوت و مساكن او هو سور المدينة.

ذلك لا يحصيه إلّا اللّه ثمّ أحضر الصنّاع و أمرهم بنحت تلك الأحجار حتّى صيّروها ألواحا و معالجة تلك الجواهر و اللآلي قال: و بنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض و الأصفر و الأخضر و عمّده بأساطين المها الصافي و سقّفه بألواح الجواهر و فضّض سقوفه و حيطانه باللآلي و اليواقيت و الجواهر و بسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن في الأرض بيت أبهى و لا أنور من ذلك المسجد كان يضي ء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.

فلمّا فرغ منه جمع إليه أخبار بني إسرائيل فأعلمهم أنّه بناه اللّه فاتّخذوا ذلك اليوم عيدا.

فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتّى غزا بخت نصّر بني إسرائيل و خرب المدينة و هدمها و نقض المسجد و أخذ ما في سقوفه و حيطانه من الذهب و الفضّة و الدرّ و الجواهر فحملها إلى دار مملكته من أرض اليمن.

قال سعيد بن المسيّب: لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه فعالجها سليمان فلم تنفتح حتّى قال في دعائه: بصلوات أبي داود إلّا فتحت الأبواب فتتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل خمسة آلاف بالليل و خمسة آلاف بالنهار فلا يأتي ساعة من ليل و لا نهار إلّا و يعبد اللّه فيها فهذا معنى قوله:

«يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ» إشارة إلى الأبنية الرفيعة و «التَّماثِيلُ» ما يكون فيها من النقوش أي صورا من نحاس و شبه (1) و رخام و زجاج كانت الجنّ تعملها ثمّ اختلفوا فقال بعضهم: كانت صورا للحيوانات و قال آخرون: كانوا يعملون صور السباع و البهائم على كرسيّه ليكون أهيب له فذكروا أنّهم صوّروا أسدين أسفل كرسيّه و نسرين فوق عمودي كرسيّه فكان إذا أراد أن يصعد الكرسيّ بسط الأسدان ذراعيهما و إذا علا على الكرسيّ نشر النسران أجنحتهما فظلّلاه. و يقال: إنّ ذلك كان ممّا لا يعرفه أحد من الناس فلمّا حاول بخت نصّر صعود الكرسيّ بعد سليمان حين غلب على بني إسرائيل لم يعرف كيف كان يصعد سليمان فرفع الأسد ذراعيه فضرب ساقه فقدّها فخرّ مغشيّا عليه فما جسر أحد بعده أن يصعد ذلك الكرسيّ.ر.

ص: 11


1- الشبه: النحاس الأصفر.

و قالوا: و لم تكن ذلك اليوم التصاوير محرّمة و هي محظورة في شريعة نبيّنا فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لعن اللّه المصوّرين و يمكن أن يكره ذلك في زمن دون زمن كما أنّ المسيح كان يصوّر بأمر اللّه من الطين كهيئة الطير. و قال ابن عبّاس: كانوا يعملون صور الأنبياء و العبّاد في المساجد ليقتدى بهم و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: و اللّه ما هي تماثيل النساء و الرجال و لكنّها الشجر و ما أشبهه و التماثيل واحدها تمثال و أصلها من المثول و هو القيام كأنّه نصب قائما. و منه الحديث: من سرّه أن يمثّل له الناس فليتبوّأ مقعده من النار.

قوله تعالى: [وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ أي يعملون له صحافا في الكبر كالجابية و هي الحياض الّتي يجمع و يجبى فيها الماء و كان سليمان يطعم جنده و يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان فإنّه لم يمكنه أن يطعمهم في مثل قصاع الناس لكثرتهم و كان يجمع على كلّ جفته ألف رجل يأكلون بين يديه [وَ قُدُورٍ راسِياتٍ أي مراجل ثابتات لا يزلن عن أمكنتهنّ لعظمهنّ و كانت باليمن. و قيل: كانت كالجبال عظيمة يحملونها مع أنفسهم.

ثمّ خاطب سبحانه آل داود و أمرهم بالشكر فقال: [اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً] أي اعملوا بطاعة اللّه شكرا له و فيه دلالة على وجوب شكر النعمة و أنّ الشكر طاعة تعظيم للمنعم و خصّ الأمر بآل داود فإنّ لقرابة الأنبياء أثرا في القرب. قوله [وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ] و الشكور من تكرّر منه الشكر لأنّه المبالغة في الشاكر و في هذا دلالة على أنّ المؤمن الشاكر يقلّ في كلّ عصر.

قوله: [فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ فلمّا حكمنا على سليمان بالموت [ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أي مطردة، آلة الطرد، من نسأت البعير إذا طردته.

أي ما دلّ على موته إلّا الأرضة و لم يعلموا بموته حتّى أكلت عصاه فسقط فعلموا أنّه ميّت و ذلك لأنّ سليمان كان يعتكف في مسجد بيت المقدس الشهر و الشهرين و السنة و السنتين و اليوم و اليومين يقف للعبادة منتصبا و إذا عجز عن القيام في العبادة يتّكئ على عصاه و يتعبّد و لا يخرج من معبده و يدخل فيه طعامه و شرابه.

ص: 12

و كان آصف يدبّر أمره في الملك فلمّا كان في المرّة الّتي مات فيها و لم يكن يصبح يوما إلّا و تنبت شجرة كان يسأله سليمان فتخبره عن اسمها و نفعها و ضرّها فرأى يوما نبتا فقال: ما اسمك؟ قال: الخرنوب قال: لأيّ شي ء أنت؟ قال: للخراب فعلم أنّه سيموت فقال: اللّهم عمّ (1) على الجنّ موتي ليعلم الإنس أنّهم لا يعلمون الغيب و كان قد بقي من بنائه سنة و قال لأهله: لا تخبروا الجنّ موتي حتّى يفرغوا من بنائه و دخل محرابه و قام و اتّكأ على عصاه فمات و بقي سنة و تمّ البناء ثمّ سلّط اللّه على منسأته الأرضة حتّى أكلتها فخرّ ميّتا فعرف الجنّ موته و كانوا يحسبونه حيّا لمّا كانوا يشاهدون طول قيامه قبل ذلك.

و كان في إماتته قائما و بقائه كذلك أغراض: منها إتمام البناء، و منها أن يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلم الغيب و أنّهم في ادّعاء ذلك كاذبون و منها أن يعلم أنّ من حضر أجله فلا يتأخّر إذ لم يؤخّر سليمان مع جلالة شأنه.

و روي أنّه اطّلعه اللّه على حضور وفاته فاغتسل و تحنّط و تكفّن و الجنّ في عملهم.

و روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ سليمان أمر الشياطين فعملوا له قبّة من قوارير فبينا هو قائم متّكئ على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف يعملون و هم ينظرون إليه و لا يصلون إليه إذا رجل معه في القبّة فقال: من أنت فقال: أنا الّذي لا أقبل الرشى و لا أهاب الملوك فقبضه و هو قائم متّكئ على عصاه في القبّة قال:

فمكثوا سنة يعملون له حتّى بعث اللّه الأرضة فأكلت منسأته و قد تمّ البناء.

[فَلَمَّا خَرَّ] سليمان ميّتا [تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ تبيّنت الشي ء إذا علمته بعد التباسه عليك أي علمت الجنّ علما بيّنا بعد التباس الأمر عليهم أن لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته و لم يلبثوا بعده حولا في تسخيره.

و في قوله: «تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ» أقوال: قيل: ظهر أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فحينئذ قوله: «أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» بدل اشتمال من الجنّ و قرئ «تبينت الجن» على البناءة.

ص: 13


1- امر من عمى يعمى تعمية.

للمفعول (1) على أنّ المتبيّن في الحقيقة هو «أَنْ» و ما في حيّزها لأنّه بدل و التقدير قال أبو عليّ:

فلمّا خرّ تبيّن أمر الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب فالتبيّن حصل للإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب و انكشف هذا الأمر للإنس و ذلك لأنّ الجنّ ما ادّعوا علم الغيب و لكنّ الإنس اعتقدت فيهم أنّهم يعلمون الغيب فأبطل اللّه عقيدتهم و هذا المعنى يؤيّد قراءة ابن عبّاس و الضحّاك حيث أنّهما قرءا «تبيّنت الإنس» و هو قراءة عليّ بن الحسين و أبي عبد اللّه عليهما السّلام و هكذا هو في قراءة عبد اللّه بن مسعود و مصحفه فقراءة يعقوب على البناء للمجهول يؤول إلى قراءة على بن الحسين و الصادق عليهما السّلام.

و ذكر أهل التاريخ أنّ عمر سليمان عليه السّلام كان ثلاثا و خمسين سنة مدّة ملكه منها أربعون سنة، و ملك يوم ملك و هو ابن ثلاث عشر سنة و ابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه.

و أمّا الوجه في عمل الجنّ تلك الأعمال العظيمة فهو أنّ اللّه تعالى زاد في أجسامهم و قوّتهم و غيّر خلقهم عن خلق الجنّ الّذين لا يرون للطافتهم و رقّة أجسامهم على سبيل الإعجاز الدالّ على نبوّة سليمان فكانوا بمنزلة الإسراء في يده فلمّا مات عليه السّلام جعل اللّه خلقهم على ما كانوا عليه فلا يتهيّأ لهم في هذا الزمان شي ء من ذلك.

و في العلل و العيون عن الرضا عليه السّلام عن آبائه أنّ سليمان قال ذات يوم لأصحابه:

إنّ اللّه وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي سخّر لي الريح و الإنس و الجنّ و الطير و الوحوش و علّمني منطق الطير و آتاني من كلّ شي ء و مع جميع ما أتيت ما تمّ لي سرور يوم إلى الليل و قد أحببت أن أدخل قصري في غد فأصعد أعلاه و أنظر إلى ممالكي و لا تأذنوا لأحد عليّ لئلّا يرد عليّ ما ينغض عليّ يومي قالوا: نعم فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده و صعد إلى أعلى موضع من قصره و وقف متّكئا على عصاه ينظر إلى ممالكه مسرورا ممّا اوتي فرحا بما اعطي إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه و اللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره فلمّا بصر به سليمان قال له: من أدخلك إلى هذا القصر و قد أردت أن

ص: 14


1- اى على قراءة يعقوب و هو ضم التاء و الباء و كسر الياء من تبينت و لا فرق فان لفظ تبين هاهنا لازم غير متعد. انظر مجمع البيان ج 4 ص 381.

أخلو فيه هذا اليوم فبإذن من دخلت؟ قال الشابّ: أدخلني هذا القصر ربّه و بإذنه دخلت فقال: ربّه أحقّ به منّي فمن أنت؟ قال: أنا ملك الموت قال: و فيما جئت؟ قال: جئت لأقبض روحك قال: امض لما أمرت به فهذا يوم سروري و أبى اللّه عزّ و جلّ أن يكون لي سروري دون لقائه فقبض ملك الموت روحه و هو متّكئ على عصاه.

فبقي سليمان متّكئا على عصاه و هو ميّت ما شاء اللّه و الناس ينظرون إليه و هم يقدّرون أنّه حيّ فافتتنوا فيه و اختلفوا فمنهم من قال: قد بقي سليمان متّكئا على عصاه هذه الأيّام الكثيرة و لم يتعب و لم ينم و لم يأكل و لم يشرب إنّه لربّنا الّذي يجب علينا أن نعبده، و قال قوم: إنّ سليمان ساحر يرينا أنّه واقف متّكئ على عصاه سحر أعيننا و ليس كذلك و قال المؤمنون: إنّ سليمان هو عبد اللّه و نبيّه يدبّر اللّه أمره بما يشاء.

فلمّا اختلفوا بعث اللّه الأرضة فدبّت في عصاه فلمّا أكلت انكسرت العصا و خرّ سليمان من قصره على وجهه فشكرت الجنّ الأرضة صنيعها فلأجل ذلك لا يوجد في مكان إلّا و عندها ماء و طين.

و في الإكمال عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عاش سليمان بن داود سبعمائة و اثني عشر سنة.

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 15 الى 19]

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

[لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ] ثمّ بيّن عن قصّة سبأ بما دلّ على حسن عاقبة الشكور مثل داود و سوء عاقبة الكفور مثل سبأ، و سبأ أبو عرب اليمن كلّها و قد سمّي به القبيلة و في الحديث عن فروة بن مسيك أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن سبأ أرجل هو أم امرأة؟

ص: 15

فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستّة و تشاءم منهم أربعة فأمّا الّذين تيامنوا فالأزد و كندة و مذحج و الأشعرون و أنمار و حمير فقال رجل من القوم: ما أنمار قال: الّذين منهم خثعم و بجيلة و أمّا الّذين تشاءموا فعاملة و جذام و لخم و غسّان فالمراد بسبإ هاهنا القبيلة الّذين هم أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود و أظنّ أنّ سبأ لقب و اسمه عبد شمس و إنّما لقّب بهذا اللقب لأنّه أوّل من سبى و غار.

[فِي مَسْكَنِهِمْ و قرئ «في مساكنهم» وفقا للمعنى و «فِي مَسْكَنِهِمْ» على المصدريّة و التقدير: في مواضع سكنّاهم فلمّا جعل المسكن كالسكنى و السكون أفرد كما يفرد المصادر [آيَةٌ] أي علامة و حجّة على معرفة اللّه و قدرته.

ثمّ فسّر الآية فقال: [جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ أي بستانان عن يمين البلد و شماله لمن أتى البلدة و المراد جماعتان من البساطين و الجماعتان في تقاربهما و تضامّهما كأنّهما جنّة واحدة و لم يرد جنّتين اثنين و المعنى أنّها متّصلة بعضها ببعض و كان من كثرة النعم أنّ المرأة كانت تمشي و المكتل على رأسها فيمتلئ بالفواكه من غير أن تمسّ و تقطف بيدها شيئا و لم يكن في قريتهم بعوضة و لا ذباب و لا برغوث و لا عقرب و لا حيّة و كان الغريب إذا دخل بلدهم و في ثيابه قمّل و دوابّ ماتت و المراد بالآية قيل:

هذه الأمور و قيل: الآية كانت ثلاث عشرة قرية في كلّ قرية نبيّ يدعوهم إلى اللّه.

[كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أي كان الأنبياء يقولون لهم: كلوا من هذه النعم [وَ اشْكُرُوا لَهُ يزدكم من نعمه و استغفروه يغفر لكم [بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ] أي كلّ نبيّ قرية يقول لأهلها: هذه بلدة مخضّبة نزهة عذبة و ليست بسبخة، طاهرة عن المؤذيات حتّى الوباء و الأمراض و ما كان فيها حرّ يؤذي في القيظ و لا برد يؤذي في الشتاء [وَ رَبٌّ غَفُورٌ] كثير المغفرة للذنوب [فَأَعْرَضُوا] عن الحقّ و لم يشكروا و لم يقبلوا ممّن دعاهم إلي اللّه من أنبيائه [فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ و ذلك أنّ الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن و كان هناك جبلان يجتمع ماء المطر و السيول بينهما فسدّوا بين الجبلين فإذا احتاجوا إلى الماء نقّبوا السدّ بقدر الحاجة و يسقون زروعهم و بساتينهم فلمّا كذّبوا رسلهم و تركوا

ص: 16

أمر اللّه فبعث اللّه في الردم جرذا نقبت ذلك الردم و فاض الماء عليهم فأغرقهم. قال ابن الأعرابيّ: «الْعَرِمِ» السيل الّذي لا يطاق و قصّة كهانة طريقه الكاهنة و عمرو بن عامر المزيقياء معروفة لا حاجة لذكرها (1).

[وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ اللتين فيهما أنواع الفواكه [جَنَّتَيْنِ أخراوين، سمّاهما جنّتين لازدواج الكلام كما قال: «وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ» (2) و «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» (3) [ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ أي صاحبتي أكل و هو اسم للثمر من كلّ شجر قال ابن عبّاس: «الخمط» الأراك و ثمر الخمط البرير. و قيل: الخمط شجر الغضا. و قيل: هو كلّ شجر له شوك و «الأثل» الطرفاء. و قيل: هو السمر [وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ يعني إنّ الأثل و الخمط كانا أكثر فيهما من سدر و هو النبق و كان شجرهم خير شجر فصيّره اللّه شرّ شجر بسوء أعمالهم.

[ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا] أي ذلك الّذي فعلنا بهم بسبب كفرهم [وَ هَلْ نُجازِي بهذا الجزاء [إِلَّا الْكَفُورَ] الّذي يكفر نعم اللّه.

و قد استدلّ الخوارج بهذا على أنّ مرتكب الكبيرة كافر و هذا الاستدلال غير سديد من حيث إنّه سبحانه إنّما بيّن بذلك أنّه لا يجازي بهذا النوع من العذاب الّذي هو الاستيصال إلّا الكافر و يجوز أن يعذّب الفاسق بغير ذلك العذاب.

و قيل: معنى الآية هل نجازي بجميع سيّئاته إلّا الكافر لأنّ المؤمن قد يكفّر عنه بعض سيّئاته. و قيل: معنى الآية أنّ المجازاة من التجازي، و هو التقاضي أي لا يقتضي و لا يرتجع ما اعطي إلّا الكافر و أنّهم لمّا كفروا ارتجع منهم النعمة.

قوله: [وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً] أي إنّا جعلنا بينهم و بين قرى الشام الّتي باركنا فيها بالماء و الشجر قرى مواصلة قرية متّصلة بقرية و كان متجرهم من أرض اليمين إلى الشام و كانوا يبيتون بقرية و يقيلون بأخرى حتّى

ص: 17


1- بل سيجي ء ذكرها عن قريب.
2- آل عمران: 54.
3- البقرة: 194.

يرجعوا و كانوا لا يحتاجون إلى زاد في طريقهم من وادي سبأ إلى الشام و معنى الظاهرة أنّ الثانية كانت ترى من الاولى لقربها منها.

[وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ] أي و جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا واحدا و هو نصف يوم و قلنا لهم: [سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً] أيّ ليلا شئتم المسير بلا خوف أو نهار [آمِنِينَ من الجوع و العطش و السباع و السارق و كلّ المخاوف و المراد بيان تكامل النعمة عليهم سفرا و حضرا.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم بطروا و بغوا [فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا] أي اجعل بيننا و بين الشام فلوات و مفاوز لنركب إليها الرواحل و نقطع المنازل و هذا كما قالت بنو إسرائيل:

لمّا ملّوا النعمة حيث قالوا: اخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها بدلا من المنّ و السلوى.

[وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب المعاصي و الكفر [فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم يتحدّثون بأمرهم و شأنهم و يضربون بهم المثل فيقولون: تفرّقوا أيادي سبأ إذا تشتّتوا أعظم التشتّت [وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرّقناهم في البلاد كلّ تفريق [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي دلالات [لِكُلِّ صَبَّارٍ] على الشدائد [شَكُورٍ] على النعماء أو صبور عن المعاصي شكور للنعم بالطاعات.

و مختصر قصّة طريفة الكاهنة أنّها ألقت (1) إلى عمرو بن العامر الّذي يقال له مزيقيا ابن ماء السماء و كانت رأت في كهانتها أنّ سدّ مأرب سيخرب و إنّه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنّتين فباع عمرو أمواله و سار هو و قومه إلى مكّة فأقاموا بها و ما حولها فأصابتهم الحمّى و كانوا ببلد لا يعرفون فيه الحمّى فدعوا طريفة و شكوا إليها الّذي أصابهم فقالت لهم: قد أصابني الّذي أصابكم و هو مفرّق بيننا قالوا: فما ذا تأمرين قالت:

من كان منكم ذا همّ بعيد و جمل شديد و مزاد جديد فيلحق بقصر عمّان المشيد و كانت أزد عمّان ثمّ قالت: من كان منكم ذا جلد و صبر على أزمّات الدهر فعليه بالأراك من بطن مرّان و كانت خزاعة ثمّ قالت: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل و كانت الأوس و الخزرج ثمّ قالت: من كان منكم يريد الخمر و الخمير و الملك ا.

ص: 18


1- اى ابلغتة الرؤيا التي رأتها.

و التأمير و ملابس الديباج و الحرير فليلحق ببصرى و غوير- و هما من أرض الشام- و كان الّذين سكنوها آل جفنة بن غسّان ثمّ قالت: من كان منكم يريد الثياب الرقاق و الخيل العتاق و كنوز الأرزاق و الدم المهراق فليلحق بأرض العراق و كان الّذين سكنوها آل جذيمة الأبرش و من كان بالحيرة و آل محرق.

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 20 الى 25]

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)

قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)

الضمير قيل: في «عَلَيْهِمْ» راجع إلى أهل سبأ و قيل: إلى الناس كلّهم إلّا من أطاع اللّه.

و المعنى أنّ إبليس كان قال: «لَأُغْوِيَنَّهُمْ* و لَأُضِلَّنَّهُمْ» و ما كان ذلك عن علم و تحقيق و إنّما قاله ظنّا فلمّا تابعه أهل الزيغ و الشرك صدّق ظنّه و حقّقه [فَاتَّبَعُوهُ فيما دعاهم إليه [إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني المؤمنين كلّهم و «من» هنا للتبيين أي و علموا قبح متابعة إبليس فلم يتّبعوه و اتّبعوا أمر اللّه.

[وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أي لم يكن لإبليس عليهم من سلطنة و لا ولاية يتمكّن بها من إجبار هم على الضلال و إنّما كان يمكنه الوسوسة فقط كما قال: «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي».

[إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ أي إنّا لم نمكّنه من إغوائهم و وسوستهم إلّا لنميّز بين من يقبل منه و من يمتنع متابعته فنعذّب من يتابعه و نثيب من خالفه فعبّر عن التمييز بين الفريقين بالعلم، و هذا التميّز متجدّد لأنّه

ص: 19

لا يكون إلّا بعد وقوع ما يستحقّون به ذلك و أمّا العلم فبخلاف ذلك فإنّه سبحانه كان عالما بأحوالهم و بما يكون منهم في الأزل و قيل: معناه لنعلم طاعاتهم موجودة أو معاصيهم إن عصوا فنجازيهم بحسبها لأنّه سبحانه لا يجازي أحدا على ما يعلم من حاله إلّا بعد أن يقع ذلك منه [وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ] أي عالم لا يفوته علم شي ء من أحوالهم.

و هاهنا تحقيق و هو أنّ علم اللّه من الأزل إلى الأبد محيط بكلّ معلوم و علمه عين ذاته لا يتغيّر و هو في كونه سبحانه عالما لا يتغيّر و لكن يتغيّر متعلّق علمه فإنّ العلم يظهر به كلّ ما في نفس الأمر فعلم اللّه في الأزل أنّ العالم سيوجد فإذا وجد علمه موجودا بذلك العلم و إذا عدم يعلمه معدوما بذلك العلم مثاله أنّ المرآة المصقولة فيها الصفاء فيظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثمّ إذا قابلها عمرو يظهر فيها صورته و المرآة لم تتغيّر في ذاتها و لا تبدّلت في صفاتها إنّما التغيير في الخارجات الّتي قابلت فكذلك هاهنا فقوله: «إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ» أي ليقع في العلم صدور الإيمان من المؤمن و الكفر من الكافر و كان قبله في علمه أنّه سيكفر زيد و يؤمن عمرو.

قوله تعالى: [قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ قل يا محمّد لهؤلاء المشركين:

ادعوا الّذين زعمتم أنّهم آلهة و أنّهم شركاء للّه تعالى و أنّهم شفعاؤكم هل يستجيبونكم إلى ما تسألونهم و هذا نوع توبيخ ليعلموا أنّ أوثانهم لا تنفعهم و لا تضرّهم لأنّهم لا يتمكّنون من أن يجيبوهم.

ثمّ قال سبحانه: [لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ أي لا يقدرون زنة ذرّة من خير و شرّ و نفع و ضرّ فيهما [وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ و ليس لهم في خلق السماوات و الأرض من نصيب و مدخليّة [وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ] أي ليس له معاون على خلقهما.

[وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي لا تنفع الشفاعة عند اللّه إلّا لمن رضيه اللّه و ارتضاه و أذن له الشفاعة مثل الأنبياء و الملائكة و الأولياء و إلّا لمن يأذن له في الشفاعة، و إنّما قال سبحانه ذلك لأنّ الكفّار و المشركين كانوا يقولون: نعبدهم

ص: 20

ليقرّبونا إلى اللّه زلفى فحكم اللّه ببطلان عقائدهم.

[حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي كشف الفزع عن قلوبهم، و اختلف في الضمير في قوله: «عَنْ قُلُوبِهِمْ» على قولين:

الأوّل أنّ الضمير راجع إلى المشركين الّذين تقدّم ذكرهم فيكون المعنى حتّى إذا أخرج عن قلوبهم الفزع وقت الفزع ليسمعوا كلام الملائكة [قالُوا] إذا قالت الملائكة لهم: [ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ أي قال هؤلاء المشركون مجيبين للملائكة إنّ ما جاء به الرسل كان حقّا و يعترفون حينئذ بالحقّ.

و القول الثاني أنّ الضمير راجع إلى الملائكة ثمّ اختلف في معناه على وجوه:

أحدها أنّ الملائكة إذا صعدوا بأعمال العباد و لهم زجل و صوت عظيم فتحسب الملائكة أنّها الساعة فيخرّون سجّدا و يفزعون فإذا علموا أنّه ليس ذلك قالوا: «ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ».

و ثانيها أنّ الفترة لمّا كانت بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعث اللّه محمّدا أنزل اللّه سبحانه جبرئيل بالوحي فلمّا نزل ظنّت الملائكة أنّه نزل بشي ء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبرئيل يمرّ بكلّ سماء و يكشف عنهم الفزع فرفعوا رؤوسهم و قالت الملائكة بعضهم لبعض: «ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ» يعني الوحي و القرآن.

و القول الثالث أنّ اللّه إذا أوحى إلى بعض الملائكة لحق الملائكة غشى عند سماع الوحي و يخرّون و يصعقون سجّدا للآية العظيمة فإذا فزّع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الّذي اوحي إليه ما ذا قال ربّك، و يسأل بعضهم بعضا فيعلمون أنّ الأمر في غيرهم، عن ابن مسعود و اختاره الجبّائيّ.

[وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ] السيّد القادر العليّ في صفاته الكبير في قدرته.

القميّ: قال الصادق عليه السّلام: لا يشفع أحد من أنبيائه و رسله يوم القيامة حتّى يأذن اللّه في الشفاعة إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّ اللّه قد أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة و الشفاعة له في أمّته و لنا الشفاعة في شيعتنا و لشيعتنا الشفاعة في أهاليهم ثمّ قال: إنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة و مضر و إنّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه يقول:

ص: 21

يا ربّ خدمني و كان يقيني الحرّ و البرد.

و عن الباقر عليه السّلام قال: ما من أحد من الأوّلين و الآخرين إلّا و هو محتاج إلى شفاعة رسول اللّه ثمّ قال: إنّ لرسول اللّه الشفاعة و قرى «حتّى إذا فرّغ» بالراء المهملة و الغين المعجمة بمعنى فراغ القلوب و خلوّها عن الوجل من فرغ الزاد إذا لم يبق منه شي ء.

قال العلّامة أبو السعود صاحب التفسير العلّامة المعروف في بيان الآية في قوله: «وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ» قال: (أي لا تقع الشفاعة في حال من الأحوال الكائنة لمن أذن له في الشفاعة من النبيّين و الملائكة و نحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة فتبيّن حرمان الكفرة من الشفاعة بالكلّيّة أمّا من جهة أصنامهم فلظهور انتفاء الإذن لها ضرورة استحالة الإذن في الشفاعة لجماد لا يعقل و لا ينطق و أمّا من جهة من يعبدونه من ملائكة فلأنّ إذنهم مقصور على الشفاعة للمستحقّين لها لقوله تعالى:

«لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً» (1) و من المعلوم أنّ الشفاعة للكفرة بمعزل من الصواب فعلى هذا ثبت حرمانهم عن الشفاعة و هي غير صادرة عن الشفعاء إذ لم يؤذن لهم و قوله: «حَتَّى إِذا فُزِّعَ» و التفزيع إزالة الفزع أي زال الفزع عن قلوب الشفعاء و المشفوع لهم من المؤمنين و كلمة «حتى» غاية لما ينبئ عنه قبل الكلام من الإشعار بوقوع الإذن لمن أذن له لأنّه سأل كيف يؤذن لهم؟ فقيل: يتربّصون الشفعاء من موقف الاستيذان و الاستدعاء على وجل و خوف و فزع مليّا حتّى ازيل الفزع عن قلوبهم بعد اللتيّا و اللتي و ظهرت لهم تأثير الإجابة.

«قالُوا» أي المشفوع لهم و المحتاجون: «ما ذا قالَ رَبُّكُمْ» في شأن الإذن «قالُوا» أي الشفعاء لأنّهم المتباشرون للاستئذان المتوسّطون بين المذنبين و المحتاجين إلى الشفاعة و بينه عزّ و جلّ «الْحَقَّ» أي قال ربّنا قول الحقّ، و هو الأذن في الشفاعة للمستحقّين و قرئ «الْحَقَّ» مرفوعا أي ما قاله الحقّ.

«وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» و هو من تمام كلام الشفعاء قالوه اعترافا لغاية عظمة ربّهم) انتهى كلام أبي السعود.

ص: 22


1- النبأ: 38.

قوله تعالى: [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّهم لا يمكنهم أن يقولوا:

ترزقنا آلهتنا الّتي نعبدها ثمّ عند ذلك [قُلِ اللَّهُ الّذي يرزقكم [وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إنّما قال ذلك على وجه النصفة في الحجّة دون الشكّ كما يقول القائل: أحدنا كاذب و إن كان هو عالما بالكاذب و هذا العنوان من الكلام شائع بأن يجمع المتكلّم بين الخبرين و يفوّض التميز إلى العقول فيكون الكلام معناه: إنّا على هدى و أنتم على ضلال و إنّما يقال مثل هذا الكلام على وجه الاستعطاف و المداراة لتنبيه المخاطب و لا ينسب المحقّ نفسه إلى الهدى و خصمه إلى الضلال بل يحثّه على التأمّل و النظر.

قوله: [قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قل يا محمّد: إذا لم ينقادوا للحجّة لا تسألون أيّها الكفّار عن ما اقترفنا و اكتسبنا من المعاصي و لا نسأل نحن عمّا تعملونه أنتم بل كلّ إنسان يسأل عمّا يعمله و في هذا دلالة على أنّ أحدا لا يجوز أن يؤخذ بذنب غيره و أضاف الإجرام إلى النفس و قال في حقّهم: «وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ذكر بلفظ العمل لئلّا يحصل الإغضاب المانع من الفهم.

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 26 الى 30]

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه أن يحاكمهم و يكلّمهم إلى اللّه لإعراضهم عن الحجّة فقال:

[قُلْ يا محمّد: [يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا] يوم القيامة [ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا] أي يحكم [بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الحاكم العالم بالحكم لا يخفى عليه شي ء من الحكم [قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ] أي أروني الّذين زعمتم أنّهم شركاء اللّه تعبدونهم معه فوبّخهم اللّه فيما اعتقدوه من الأشراك مع اللّه [كَلَّا] أي ليس كما تزعمون أي ارتدعوا

ص: 23

عن هذا المقال [بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب الحكيم في أفعاله فكيف يكون له شريك؟

ثمّ بيّن سبحانه نبوّة نبيّه فقال: [وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي أنت رسول إلى عامّة البشر كلّهم كالعرب و العجم و سائر الأمم، روي عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أعطيت خمسا و لا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر و الأسود و جعلت لي الأرض طهورا و مسجدا و احلّ لي الغنم و لم يحلّ لأحد قبلي و نصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر و أعطيت الشفاعة فادّخرتها لأمّتي يوم القيامة. و قيل: «كافّا للنّاس» أي مانعا لهم عمّاهم عليه من الكفر و المعاصي بالأمر النهي و الهاء للمبالغة، عن أبي مسلم.

[بَشِيراً] لهم بالجنّة [وَ نَذِيراً] بالنار [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ رسالتك لإعراضهم عن النظر في معجزتك و لا يعلمون ما لهم في الآخرة في اتّباعك من الثواب و النعيم و ما عليهم في مخالفتك من العذاب الأليم.

ثمّ حكى سبحانه عن الكفّار فقال: [وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تقولونه يا معشر المؤمنين ثمّ أمر نبيّه بجوابهم [قُلْ يا محمّد: [لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ أي لا تتأخّرون عن ذلك اليوم و لا تتقدّمون عليه بأن يزاد في آجالكم أو ينقص منها.

و في قوله: «لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ» قراءات: رفعهما مع التنوين و على هذا «يوم» بدل و الثانية نصب «يوم» و رفع «ميعاد» و التنوين فيهما و وجه النصب بفعل محذوف أي أعني يوما أو على الظرفيّة كأنّه يقول: لكم ميعاد تعلمون يوما كقول القائل:

«إنّك مقتول يوما» و الثالثة الإضافة أي لكم ميعاد يوم.

و قوله تعالى:

[سورة سبإ (34): الآيات 31 الى 35]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)

ص: 24

ثمّ بيّن سبحانه حالهم في القيامة: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] قيل: اليهود، و قيل:

هم مشركو العرب، و هو الأصحّ [لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ و لا نصدّق بأنّه من اللّه تعالى [وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من أمر الآخرة أو أحكام القرآن، و قيل: المراد «بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» يعنون به التوراة و الإنجيل و ذلك لأنّه لمّا قال مؤمنو أهل الكتاب: إنّ صفة محمّد في كتابنا كذا و هو نبيّ مبعوث، كفر المشركون بكتابهم.

ثمّ قال: [وَ لَوْ تَرى يا محمّد [إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي محبوسون للحساب يوم القيامة [يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي يردّ بعضهم إلى بعض القول في الجدال.

[يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا] و هم الأتباع [لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا] و هم الأشراف و القادة [لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ مصدّقين بآيات اللّه أي أنتم منعتمونا من الإيمان و لو لا دعاؤكم إيّانا إلى الكفر لآمنّا باللّه في الدنيا و جواب «لَوْ تَرى محذوف و تقديره:

لرأيت عجبا.

قوله: [قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا] أي قال المتبوعون للتابعين على سبيل الإنكار: [أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ أي لم نصدّكم نحن عن قبول الهدى [بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أنتم كفرتم و لم نحملكم على الكفر قهرا فكلّ واحد من الفريقين ورك (1) الذنب على صاحبه و اتّهمه و لم يضف واحد منهم الذنب إلى اللّه.

[وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا] يعني الأتباع للمتبوعين [بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] أي بل صدّنا مكركم بنا في الليل و النهار، فحذف المضاف إليه و أقيم مقامه الظرف اتّساعا و قرئ «بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» بالتنوين عوض عن المضاف إليه ه.

ص: 25


1- ورك الذنب عليه: حمله.

و قرئ «بَلْ مَكْرُ (1) اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» بالرفع و النصب أي تكرّون الإغواء مكرّا دائبا فالرفع على الفاعليّة أي صدّنا مكركم في الليل و النهار و النصب على المصدريّة أي تمكرون مكرّ الليل و النهار أي مكرّا دائما.

[إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً] حين أمرتمونا بجحد وحدانيّة اللّه و دعوتمونا إلى أن نجعل له شركاء في العبادة.

[وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ] فيه و جهان: أحدهما: أضمر الفريقان الندامة و أخفاها كلّ منها عن الآخر مخافة التعيير و الثاني أظهروها فإنّه من الأضداد و هو المناسب لحالهم، كما فسّر بيت امرئ القيس على الوجهين حيث يقول:

تجاوزت أحراسا إليها و معشراعليّ حراصا لو يسرّون مقتلي

[لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي حين رأوا نزول العذاب بهم [وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي غلّوا بها في النيران [هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يجزون إلّا بأعمالهم الّتي عملوها على قدر استحقاقهم.

[وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ] أي من نبيّ مخوّف باللّه [إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها] جبّاروها و أغنياؤها المتنعّمون فيها [إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ و في الآية بيان للنبيّ أنّ أهل قريته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهجوا على مناهج الأوّلين و أنّ إيذاء الأنبياء من جانب الكفّار ليس بدعا بل ذلك عادة جرت من قبل.

ثمّ بيّن علّة كفرهم [وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً] أي فاستدلّوا على كونهم مصيبين بكثرة المال و الولد ظنّا منهم بأنّ اللّه إنّما خوّلهم المال و الولد كرامة لهم عنده و قالوا: إذا رزقنا و حرمتم فنحن أكرم منكم و أفضل عند اللّه.

[وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ و لم يعلموا أنّ الأموال و الأولاد ليس للإكرام و التفضّل و تستوجب الشكر لا الكفر و إنّما قالوا ذلك إمّا للإنكار منهم للعذاب رأسا أو اعتقاد الحسن حالهم في الآخرة قياسا بالدنيا.

فبيّن اللّه خطاءهم بقوله:ع.

ص: 26


1- مصدر ميمى من كر، يكر، كرورا: بمعنى رجع.
[سورة سبإ (34): الآيات 36 الى 40]

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40)

[قُلْ يا محمّد [إِنَّ رَبِّي الّذي خلقني [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ] عن ما يعلم من المصلحة للمرتزق أو لغيره [وَ يَقْدِرُ] أي و يضيق أيضا على حسب المصلحة و المراد من «البسط» الزيادة على قدر الكفاية «و القدر» تضييقه عن قدر الكفاية فالسعة و الضيق لا تدلّ على حال المحقّ و المبطل فكم من مؤسر شقيّ و معسر تقيّ [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حكمته و صلاحه سبحانه.

ثمّ كشف سبحانه عن هذا المعنى بقوله: [وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا] فإنّ المال لا يقرّب إلى اللّه و لا اعتبار بالتعزّز به حيث تقولون: «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا» و إنّما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان بل إنّ المال و الولد في الغالب يشغل عن اللّه و يبعد العبد عنه فكيف يقرّب به [زُلْفى أي قربى و زلفى اسم المصدر أي يقرّبكم قربة أو تقريبا.

[إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً] أي و ما الأموال و الأولاد تقرّب أحدا إلّا المؤمن الصالح الّذي أنفق ماله في سبيل اللّه و علّم أولاده الخير و الصلاح فحينئذ الاستثناء متّصل و يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا مفرّغا أي لكن من آمن باللّه و صدّق نبيّه و أطاعه فيما أمره.

[فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا] و جزاء الضعف الحسنة فإنّ الضعف لا يكون إلّا في الحسنة و في السيّئة لا يكون إلّا المثل أي يضاعف اللّه حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشرا إلى ما زاد و الضعف اسم جنس يدلّ على الكثير و القليل [وَ هُمْ

ص: 27

فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ أي في غرف الجنّة و هي البيوت المرتفعة فوق الأبنية مأمونين غير خائفين.

[وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ و يجتهدون في إبطال آياتنا و تكذيبها معاجزين لأنبيائنا أو زاعمين أنّهم يفوتوننا أو مثبّطين غيرهم عن أفعال الخير [أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي ثابتون و دائمون.

[قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ مرّ تفسيره و إنّما كرّره سبحانه لاختلاف فالأوّل توبيخ للكافرين و الثاني وعظ للمؤمنين و إشارة إلى معنى و هو أنّ نعيم الآخرة قد يكون لا ينافي نعيم الدنيا بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم مع حصول النعم لهم في العقبى كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و قد يجمعها اللّه لأقوام» كأنّه قال: إنّ وجود الرزق لا يدلّ على عدم الشرف و لا يدلّ على الشرف.

قوله: [وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي و ما أخرجتم من أموالكم في وجوه البرّ فإنّه سبحانه يعطيكم خلفه و عوضه إمّا في الدنيا بزيادة النعم و إمّا في الآخرة بثواب الجنّة.

[وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنّه يعطي المنافع لا لدفع ضرر أو جرّ نفع لاستحالة المنافع و المضارّ عليه، و روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: قال اللّه عزّ و جل لي: أنفق أنفق عليك. و عن جابر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: كلّ معروف صدقة و ما اوتي به الرجل عوضه فهو صدقة و ما أنفق المؤمن من نفقة فعلى اللّه خلفها ضامنا إلّا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية.

و خيريّة الرازق في امور: أحدها أن لا يؤخّر عن وقت الحاجة إذا عرف الصلاح لأنّه عالم و لا ينقص عن قدر الحاجة و لا ينكده بالحساب لأنّه غنيّ و لا يكدره بطلب الثواب لأنّه كريم و قد ذكر سبحانه بقوله: «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ»* (1) أنّ هبة الأعلى للأدنى لا يقتضي ثوابا و بقوله تعالى: «وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ» أنّه قد حصل الضمان و الوعد و الخلف لا يقع منه تعالى فإذا إمساكك عن البذل و الإقراض

ص: 28


1- البقرة: 212.

إمّا سوء ظن بالربّ أو من قلّة العقل مع أنّ المال في يد العبد على سبيل العارية.

فلو قيل: «خَيْرُ الرَّازِقِينَ» ينبئ أن يكون رازق غيره و لا رازق إلّا اللّه فالمراد:

اللّه خير الرازقين الّذين تظنّونهم رازقين مثل قوله: «أَحْسَنُ الْخالِقِينَ»*.

و تحقيق المسألة هو أنّ الصفات منها ما حصل للّه و للعبد حقيقة و منها ما يقال للّه بطريق الحقيقة و للعبد بطريق المجاز و منها يقال للّه بطريق الحقيقة و لا يقال للعبد لا بطريق الحقيقة و لا بطريق المجاز لعدم حصوله للعبد لا حقيقة و لا صورة؛ مثال الأوّل العلم بكون النار حارّة فإنّ اللّه يعلم و العبد يعلم غاية ما في الباب أنّ علمه قديم و علمنا حادث، مثال الثاني الرازق و الخالق فإنّ العبد إذا أعطى غيره شيئا فإنّ اللّه هو المعطي و لكن لأجل صورة العطاء منه سمّي معطيا كما يقال للصورة المنقوشة على الحائط:

إنسان و فرس، مثال الثالث الأزليّ و الإله فإنّه له لا لغيره سبحانه و قد يقال في أشياء في الإطلاق و التعبير على العبد حقيقة و على اللّه مجازا كالاستواء و المعيّة و يد اللّه و جنب اللّه، انتهى.

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما أنفق المؤمن من نفقه فعلى اللّه خلفها بشرط أن لا يبلغ إلى حدّ السرف كما في الحديث روى أبو أمامة قال: إنّكم تؤوّلون في هذه الآية غير تأويلها «وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ» و قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلّا فصمّتا يقول:

إيّاكم و السرف في المال و النفقة و عليكم بالاقتصاد، فما افتقر قوم قطّ اقتصدوا.

قوله: [وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً] أي يوم القيامة نجمع العابدين لغير اللّه و المعبودين من الملائكة للحساب.

[ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ] الكفّار [إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ و يقصدون بالعبادة و هذا الخطاب و الاستشهاد للملائكة على اعتقاد الكفّار حتّى تبرّأ الملائكة منهم و من عبادتهم كما يقال لعيسى عليه السّلام: «أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (1) فينكر عيسى و يقول: «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» (2).

و النظم في الآية بما قبلها أنّهم قالوا: «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا» بيّن سبحانه أنّ

ص: 29


1- المائدة: 119.
2- المائدة: 119.

دعواهم مردودة و أنّهم معذّبون.

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 41 الى 45]

قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَ قالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)

المعنى: [قالُوا] أي الملائكة: [سُبْحانَكَ أي تنزيها لك من أن نعبد سواك و نتّخذ معبودا غيرك [أَنْتَ يا اللّه [وَلِيُّنا] و ناصرنا و أولى بنا [مِنْ دُونِهِمْ من دون هؤلاء الكفّار و كلّ أحد و ما كنّا نرضى بعبادتهم إيّانا مع علمنا بأنّك ربّنا و ربّهم.

[بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ بطاعتهم إيّاهم فيما دعوهم إليه من عبادة الملائكة و قيل: المراد «بالجنّ» إبليس و ذريّته و أعوانه [أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي مصدّقون بالشياطين مطيعون لهم و قيل: إنّ الشياطين يتمثّلون لهم و يخيّلون لهم أنّهم الملائكة فيعبدونهم و قيل: يدخلون أجواف الأصنام إذا عبدت و الضمير في «أَكْثَرُهُمْ» للإنس و المشركين و الضمير في «بِهِمْ» للجنّ و الأكثر بمعنى الكلّ.

ثمّ يقول اللّه: [فَالْيَوْمَ يعني في الآخرة [لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ يعني العابدين و المعبودين [نَفْعاً] بالشفاعة [وَ لا ضَرًّا] بالتعذيب و الفاء لترتيب بيان عدم النفع و الضرّ من الملائكة للعبدة و العبدة للملائكة.

[وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا] بأن عبدوا غير اللّه [ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ و لا تعترفون بها و تجحدونها لأنّ بعضهم كانوا جاحدين وقوع العذاب رأسا و بعضهم يدفعونها بشفاعة أصنامهم و بعضهم ينكرون العذاب الدائم و يقولون: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» (1) فيقال لهم: ذوقوا عذاب الدائم.

ص: 30


1- البقرة: 80.

ثمّ بيّن سبحانه حال الكفّار في الدنيا فقال: [وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي متى ما يقرء عليهم حججنا البيّنة الواضحة من القرآن الّذي أنزلناه على نبيّنا [قالُوا] عند ذلك: [ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ و يمنعكم [عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ و يقول بعضهم لبعض هذا القول و فرغوا إلى تقليد الآباء لمّا أفحمتهم الحجّة.

[وَ قالُوا ما هذا] القرآن [إِلَّا إِفْكٌ أي كذب مفترى تخرّصه و افتراه هذا النبيّ [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ أي للقرآن [لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا] أي ما هذا [إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم لم يقولوا ذلك عن بيّنة فقال: [وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها] أي و ما أعطينا مشركي قريش كتابا قطّ يعلّمون درسه حتّى يعلموا أنّ ما جئت به حقّ أو باطل و إنّما يكذّبونك بهوى أنفسهم لاعن علم أي إنّ الآيات البيّنات لا تعارض إلّا بالبراهين العقليّة أو بالنقليّات الصحيحة و هم ما كان عندهم من كتاب و لا رسول غيرك و المعتبر كتاب اللّه أو خبر الرسول.

[وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ] أي ما بعثنا رسولا أمرهم بتكذيبك و أخبرهم ببطلان قولك يعني إنّهم لا يرجعون في تكذيبك إلّا إلى الجهل و العناد.

ثمّ أخبر سبحانه عن عاقبة من كذّب الرسل تخويفا لهم فقال: [وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بمن بعث إليهم من الرسل و ما آتاهم اللّه من الكتب [وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أي و ما بلغ قومك يا محمّد معشار ما أعطينا من قبلهم من القوّة و العمر و المال فأهلكهم اللّه.

[فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ] أي عقوبتي انظر في آثارهم كيف كان إنكاري عليهم بالهلاك و ما بلغ هؤلاء الضعفاء من قومك معشار أولئك الذين وقع عليهم أخذي و عقوبتي مع كثرة أموالهم و أعمارهم مثل عاد و ثمود و يمكن أن يكون المعنى: إنّ أولئك المتقدّمين الّذين وقع عليهم العذاب ما آتيناهم عشر ما آتينا قومك من البيّنات و الحجج و مع ذلك كيف كان إنكاري لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك و ذلك لأنّ كتاب محمّد أكمل من سائر الكتب و أوضح و لذلك محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل و أفصح و برهانه و بيانه أشفى.

ص: 31

[سورة سبإ (34): الآيات 46 الى 50]

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

المعنى: أشار سبحانه في هذه الآية بالأصول الثلاثة فقوله: «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ» إشارة إلى التوحيد و قوله: «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ» إشارة إلى الرسالة و قوله: «بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» إشارة إلى اليوم الآخر.

فخاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [قُلْ يا محمّد: لهم [إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ] أي آمركم بخصلة واحدة أو بكلمة واحدة و هي كلمة التوحيد أو طاعة اللّه فمن قال بالأوّل:

فسّر الواحدة بما بعده فقال: [أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى أي اثنين اثنين و واحدا واحدا [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ] معناه أن يقوم الرجل منكم وحده أو مع غيره ثمّ تتساءلون و تتباحثون هل جرّبنا على محمّد كذبا و هل رأينا به جنّة ففي ذلك بطلان قولكم فيما تقولون: إنّه لمجنون و ساحر و معنى القيام في الآية ليس القيام على الأرجل بل المراد به القصد للنظر و الفهم و التعقّل لتبيين الحقّ.

فلو قيل: إنّ قوله: «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» أن يتمّ الأمر بالتوحيد و الحالة أنّ الإيمان لا يتمّ إلّا بالاعتراف بالرسالة و الحشر و امور أخر فكيف يصحّ الحصر المذكور بقوله: «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ».

فالجواب أنّ الأمور الباقية و الأركان الاخر غير منفكّة عن هذه الواحدة و لازمة لها لأنّ من وحّد اللّه حقّ التوحيد لا بدّ و أن يؤمن بكتابه و وحيه فالإيمان بالكلّ يلزمه ثمّ إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما قال: إنّي لا آمركم في جميع عمري إلّا بشي ء واحد بل قال: إنّي أعظكم أوّلا بالتوحيد و لا آمركم في أوّل الأمر بغيره لأنّه سابق على الكلّ كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أوّل الأمر قولوا: لا إله إلّا اللّه تفلحوا و هو الأصل الأصيل.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: إنّ اللّه تعالى أنزل عزائم

ص: 32

الشرائع و آيات الفرائض في أوقات مختلفة كما خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام و لو شاء أن يخلقهما في أقلّ من لمح البصر لخلق و لكنّه جعل الأناة و المداراة مثالا لأمنائه و تعليما لخلقه في أمورهم فكان أوّل ما قيّدهم به الإقرار بالوحدانيّة و الربوبيّة فلمّا أقرّوا بذلك تلا بالإقرار لنبيّه و الشهادة له بالرسالة فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثمّ الحجّ ثمّ الجهاد ثمّ الزكاة ثمّ الصدقات و ما يجري مجراها من الأحكام من الفي ء و غيرها فقال المنافقون: هل بقي لربّك علينا بعد الّذي فرض علينا شي ء آخر فتذكره ليسكن أنفسنا إلى أنّه لم يبق غيره فأنزل اللّه في ذلك «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» يعني الولاية و إذا نظر الإنسان بعين التأمّل و الدّقة يعرف أنّ من أتى بالولاية لعليّ بن أبي طالب فقد أتى بجميع الأصول الخمسة و الملازمة بينهما ثابتة بل ملازمة الفروع ثابتة لأنّ الجحود و الإطاعة نقيضان كما أنّ الولاية و القبول متلازمان.

قوله تعالى: [إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ] و لمّا قال سبحانه:

قبيل هذا «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» أي أنتم ما رأيتم من منشئه إلى مبعثه و صمة تنافي النبوّة من كذب أو ضعف في العقل أو اختلاف في القول و العمل نبّههم سبحانه عن طريقة النظر بأنّ مثل هذا الأمر العظيم الّذي تحته ملك الدنيا و الآخرة لا يتصدّى لادّعائه إلّا مجنون لا يبالي بافتضاحه عند مطالبته بالبرهان، أو مؤيّد من عند اللّه مرشّح للنبوّة واثق بحجّته و قد عرفتم ذلك منه و قد انضمّ إلى ذلك معجزات تخرّ لها الجبال و يظهر منه أشياء لا تكون مقدورا للبشر مثل القرآن و آيات و معجزات أخر فالصادرة منه بواسطة الملك و قدرة اللّه و تثبت النبوّة و لزمتهم الحجّة فقال:

ما هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا رسول منذركم و مخوّفكم من مخالفته و من معاصي اللّه «بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» أي عذاب القيامة.

ثمّ قال سبحانه: [قُلْ يا محمّد لهم: [ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أي لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئا من عرض الدنيا و ما طلبته منكم من أجر أداء الرسالة و بيان الشريعة، فهو لكم و «ما» في قوله: «ما سَأَلْتُكُمْ» يجوز أنّها موصولة و يجوز أن تكون شرطيّة [إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ و ليس ثواب عملي إلّا على اللّه [وَ هُوَ عَلى كُلِ

ص: 33

شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] لم يغب عنه شي ء و يعلم ما يلحقني من أذاكم.

[قُلْ يا محمّد: [إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي يلقيه و يرمي الحقّ و هو الوحي إلى أنبيائه و القرآن أو يتكلّم بالقرآن و هو الحقّ و ينزله على من يجتبيه من عباده أو يرمي بالحقّ على الباطل فيدمغه أو المعنى أنّه سبحانه يقذف بالقرآن في أقطار الآفاق لإظهار الدين و إعلاء كلمته و هو الّذي علم جميع الخفيّات.

[قُلْ يا محمّد: [جاءَ الْحَقُ و هو أمر اللّه تعالى بالإسلام و التوحيد و قيل: هو الجهاد بالسيف عن أبي مسعود و لمّا ذكر اللّه أنّه يقذف بالحقّ و كان ذلك بصيغة الاستقبال ذكر سبحانه أنّ ذلك الحقّ قد جاء، و في الحقّ وجوه و ذكرنا الوجهين الثالث: أنّ المراد المعجزات الدّالة على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يمكن أن يكون المراد من قوله: «جاءَ الْحَقُّ» يعني ظهر الحقّ لأنّ كلّ ما جاء فقد ظهر.

و قوله: [وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ] أي ما يبدئ الباطل لأهله خيرا في الدنيا و لا يعيد خيرا في الآخرة و قيل: إنّ «ما» استفهاميّة على معنى «و أيّ شي ء يبدي الباطل و أيّ شي ء يعيده» و قيل: معنى الآية: ذهب الباطل إذهابا لم يبق منه إبداء و لا إدبار لأنّ الحقّ إذا جاء لا يبقى للباطل بقيّة.

قال ابن مسعود: دخل رسول اللّه مكّة و حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما فجعل يطعنها بعود في يده الشريفة و يقول: «جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ... جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ».

قوله تعالى: [قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ أي إن ضللت عن الحقّ كما تدّعون و تزعمون فإنّما يرجع وبال ضلالي عليّ لأنّي مأخوذ به دون غيري و إن اهتديت إلى الحقّ [فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي بتفضّل ربّي حيث أوحى إليّ و ليس اهتدائي بالنظر و الاستدلال كاهتدائكم و إنّما هو بالوحي [إِنَّهُ سَمِيعٌ لأقوالنا [قَرِيبٌ بالإحاطة لا يخفى عليه المحقّ و المبطل.

قوله: [سورة سبإ (34): الآيات 51 الى 54]

وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

ص: 34

جواب لو محذوف و تقديره: لرأيت عجبا.

المعنى: لمّا قال سبحانه: «إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» فإنّه إن لم يعذّب عاجلا أولا يعيّن صاحب الحقّ في الحال فيوم الفزع آت لا فوت فيه و إنّما يستعجل العقوبة من يخاف الفوت [وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يعني القبور و حيث ما كانوا فهم من اللّه قريب و قيل: المراد من قوله: «إِذْ فَزِعُوا» في الدنيا حين رأوا بأس اللّه عند معاينة الملائكة لقبض أرواحهم.

القميّ عن الباقر عليه السّلام قال: إذا فزعوا من الصوت و ذلك الصوت من السماء. «وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» قال عليه السّلام: من تحت أقدامهم خسف بهم و عنه عليه السّلام لكأنّي أنظر إلى القائم و قد أسند ظهره إلى الحجر و ساق الحديث إلى أن قال: فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفيانيّ فيأمر اللّه عزّ و جلّ للأرض فتأخذ بأقدامهم و هو قوله تعالى: «وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ».

[وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ قال: يعني بالقائم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ] أي التناول يعني تناول الإيمان بعد زمان التكليف قال:

إنّهم طلبوا الهدى من حيث لا ينال و قد كان لهم مبذولا من حيث ينال.

[وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ في أوان التكليف و لمّا جعل اللّه الفعل مأخوذا كالجسم جعل ظرف الفعل و هو الزمان كظرف الجسم و هو المكان فقال: «مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» و الضمير في قوله: «وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ» راجع إلى القائم بموجب الرواية أو بمحمّد أو بالقرآن.

و عن حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ذكر فتنة تكون بين أهل المشرق و المغرب قال: فبيناهم كذلك يخرج عليهم السفيانيّ من الوادي اليابس حتّى ينزل دمشق فيبعث جيشين جيشا إلى المشرق و آخر إلى المدينة حتّى ينزلوا بأرض بابل من المدينة الملعونة يعني بغداد فيقتلون أكثر من ثلاثمائة آلاف و يفتضحون أكثر من مائة امرأة و يقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العبّاس ثمّ ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما بها ثمّ يخرجون متوجّهين إلى الشام فيخرج راية هدى من الكوفة فيلحق ذلك

ص: 35

الجيش فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر و يستنقذون ما في أيديهم من السبي و الغنائم و يحلّ الجيش الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيّام بلياليها ثمّ يخرجون متوجّهين إلى مكّة حتّى إذا كانوا بالبيداء يبعث اللّه جبرئيل فيقول: اذهب يا جبرئيل فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف اللّه بهم عندها و لا يفلت منهم إلّا رجلان من جهينة فلذلك جاء القول «و عند جهينة الخبر اليقين» فلذلك قوله تعالى: «وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا» أورده الثعلبيّ في تفسيره و روى أصحابنا مثله عن الباقر و الصادق عليه السّلام انتهى.

قوله تعالى: [وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ] أي يرجمون بالظنّ كالشي ء الّذي يرمى في موضع بعيد فيقولون: لا جنّة و لا نار و لا بعث و قيل: معناه يرمون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالظنون من غير يقين و ذلك قولهم: هو ساحر و هو شاعر و هو مجنون و يبعّدون أمر الآخرة فيقولون لأتباعهم: «هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ». و قيل: معناه أنّهم في الآخرة يقولون: «رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً» (1) و هو قذف بالغيب من مكان بعيد و هو الدنيا.

ثمّ قال: [وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من العود إلى الدنيا أو حيل بينهم و بين لذّات الدنيا بالموت و منعوا من كلّ مشتهى فيلحق اللّه النفار فيهم فلا يدركون شيئا إلّا و يتألّمون به.

[كَما فُعِلَ مثل ذلك [بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي بأمثالهم من الكفّار و بأهل دينهم من الأمم الماضية حين لم يقبل منهم التوبة وقت رؤية البأس و العذاب قال الضحّاك: أراد بذلك أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة [إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ من البعث و النشور و في وقوع العذاب بهم [مُرِيبٍ أي مشكّك و معنى «شَكٍّ مُرِيبٍ» مثل قولك: عجب عجيب و هو مبالغة في بيان الشكّ.

تمّت السورة

ص: 36


1- السجدة: 12.

سورة الملائكة

اشارة

* (مكية)* إلّا آيتين: الاولى: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ» الآية (1) و الثانية «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ» الآية (2).

فضلها

قال ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنّة أن ادخل من أيّها شئت.

ص: 37


1- الآية: 19.
2- الآية: 31.

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة فاطر (35): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)

المعنى: حمد سبحانه نفسه ليعلّمنا كيف نحمده و ليبيّن لنا أنّ الحمد كلّه له فقال: [الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي حقيقة الحمد لمن خلقهما مبتدئا على غير مثال و مبدعها أو المعنى شافعهما لنزول الأرواح من السماء و خروج الأجساد من الأرض.

[جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا] إلى الأنبياء بالرسالة و الوحي [أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ و كلمة «مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» معدولة عن اثنين اثنين و ثلاثة ثلاثة و أربعة أربعة و إنّما جعلهم سبحانه اولي أجنحة ليتمكّنوا بها من العروج إلى السماء و من النزول إلى الأرض فمنهم من له جناحان و منهم من له ثلاثة أجنحة و منهم من له أربعة أجنحة و يزيد فيها ما يشاء و هو قوله: [يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ] قال ابن عبّاس: رأى رسول اللّه جبرئيل ليلة المعراج و له ستّ مائة جناح و قيل: معنى قوله: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» أراد حسن الصورة و الصوت و الملاحة و الشعر و الحسن.

[إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] و لا شي ء إلّا و هو قادر عليه.

ثمّ بيّن إحسانه فقال: [ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها] «ما» شرطيّة

ص: 38

أي مهما يأتهم و يفتح اللّه للناس من خير و مطر و عافية أو أيّ نعمة شاء فإنّ أحدا لا يقدر على إمساكه [وَ ما يُمْسِكْ من ذلك [فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي إنّ أحدا لا يقدر على إرساله.

و قيل: معنى الآية: ما يرسل اللّه من رسول إلى عباده في وقت دون وقت فلا مانع له لأنّ إرسال الرسول رحمة من اللّه و لو لا ناموس الشريعة في الناس لانجرّ الأمر في الخلق إلى النفاق و الهلاك.

أقول: و قد وجدت في بعض كلمات أفلاطون الحكيم أنّ إرسال الرسل و بيان الناموس للخلق من أعظم النعم و إنّه من موجبات البقاء و لولاه لآل أمورهم إلى الفناء و الاضمحلال.

[وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب في أمره لا يعجز الحكيم في أفعاله إن أمسك أو أنعم بما يقتضيه حكمته.

ثمّ خاطب المؤمنين فقال: [يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الظاهرة و الباطنة الّتي من جملتها أنّه خلقكم و أوجدكم و أقدركم و خلق لكم أنواع الملاذّ و المنافع و النعم مع كثرتها منحصرة في قسمين: نعمة الإيجاد و نعمة الإبقاء فقال: [هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء و قال: [يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق إلى الانتهاء و هذا الكلام استفهام تقريريّ و معناه النفي ليقرّوا بأنّه لا خالق إلا اللّه و لا رازق للعباد غيره مثل أن يرزق من السماء بالمطر و من الأرض بالنبات.

[لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] و ليس معبود يستحقّ العباد سواه [فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي كيف تصرفون عن طريق الحقّ إلى الضلال و تقلبون الأمر و تعكسون هذه الأدلّة مع وضوحها؟

ثمّ سلّى نبيّه عن تكذيب قومه إيّاه فقال: [وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] فيجازي من كذّب رسله و ينصر من صدّقهم.

ثمّ خاطب الخلق فقال: [يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ من الجنّة و النار و البعث و النشور و الجزاء و الحساب [حَقٌ و صدق كائن لا محالة [فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا]

ص: 39

فلا تغترّوا بملاذّها و نعيمها و لا يخد عنّكم حبّ الجاه و الرياسة و طول البقاء فإنّ ذلك نافد بائد و يبقى الوزر و لمّا كان الإنسان بعضهم سخيف الرأي قليل العقل فيغترّ بأدنى شي ء و قد يكون فوق ذلك و لا يغترّ به و لكن إذا جاءه غارّ و شيطان كامل و زيّن له ذلك الشي ء و هوّن عليه مفاسده و بيّن له ملاذّ و منافع يغترّ به و يوقع نفسه في المعصية فقال اللّه: «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» إشارة إلى الدرجة الاولى و قال: [وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ] إشارة إلى الطبقة الثانية و الغرور الّذي عادته أن يغرّ غيره و الشيطان و الدنيا و زينتها بهذه الصفة و إنّ الخلق يغترّون بها و قيل: المراد من الغرور إبليس.

ثمّ أشار إلى الطبقة الثالثة و هي الطبقة العليا الّذين لم يكونوا من عبيد الدنيا و من حزب الشيطان و قال سبحانه:

[سورة فاطر (35): الآيات 6 الى 10]

إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

المعنى: لمّا حذّرهم سبحانه عن الانغمار في الدنيا و متابعة الشيطان فصرّح [إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ] يدعوكم إلى ما فيه الهلاك و الخسر و يصرفكم عن أفعال الخير و البرّ و يدعوكم إلى الشرّ [فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا] و عادوه و لا تتّبعوه بأن تعملوا على وفق مراده.

[إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي أتباعه و أصحابه [لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ] أي النار المسعرة و المعنى أنّه لا سلطان له على المؤمنين و لكنّه يدعو أتباعه إلى ما يستحقّون به

ص: 40

النار ثمّ بيّن حال من اتّبعه و حال من خالفه و العاقل إذا علم أنّه عدوّ لا مهرب له منه و جزم بذلك فإنّه يقف على قباله حتّى يهزمه فهزيمة الشيطان بعزيمة الإنسان على الثبات في طاعة اللّه و الإعمال على العبادة.

ثمّ بيّن سبحانه حال حزب الشيطان و حال حزب اللّه فقال: [الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ] جزاء على كفرهم [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ] من اللّه لذنوبهم [وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ] أي ثواب عظيم.

ثمّ قال سبحانه على سبيل الإنكار مقرّرا لهم [أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً] يعني الكفّار زيّنت لهم نفوسهم و مشتهياتهم أعمالهم السيّئة فتصوّروها حسنة أو زيّنه الشيطان لهم بأن أمالهم إلى الشبه المضلّة و تركوا النظر في الأدلّة و أغواهم حتّى تشاغلوا بما فيه عاجل اللّذّة و جواب الاستفهام محذوف أي أهو كمن علم الحسن و القبيح و لم يزيّن له سوء عمله و قيل: تقديره: كمن هداه اللّه و زيّن له صالح عمله و الآية تقرير لبيان التباين بين حال الفريقين.

قوله: [فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ] لاستحسانهم و استحبابهم الضلالة على الهدى و بسوء اختياره اقتضى العذاب فردّه إلى أسفل السافلين [وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ] بصرف اختيارهم إلى الهداية فيرفعه إلى أعلى علّيّين.

قوله: [فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي لا تهلك نفسك يا محمّد عليهم حسرة و لا يغمّك حالهم إذا كفروا و استحقّوا العذاب و هو كقوله: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» و الحسرة شدّة الحزن على ما فات من الأمر [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم على صنيعهم.

قوله: [وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً] ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر أدلّة التوحيد و شواهد القدرة و ذلك أنّ هبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار لأنّ الهواء قد يسكن و قد يتحرّك و يتموّج و عند حركته قد يتحرّك إلى اليمين و إلى اليسار و في حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب و قد لا ينشئ و هذه الاختلافات من طبيعة واحدة دليل على مسخّر و مدبّر حيث تختلف آثارها و أتى الإرسال بلفظ الماضي و الإثارة بلفظ

ص: 41

المستقبل لأنّه لمّا أسند فعل الإرسال إلى اللّه و ما يفعل اللّه يكون بقوله: «كُنْ» لوجوب وقوعه و سرعة كونه كأنّه كان فهو سبحانه قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعيّنة و التقدير وقع فهو كالإرسال و أمّا الإثارة لمّا أسنده إلى الريح و هو يؤلّف في زمان فأتى بلفظ المستقبل على هيئتها التدريجيّ.

قوله: [فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ أي أرض مجدبة فيمطر على ذلك البلد [فَأَحْيَيْنا بِهِ أي بالمطر الماء [الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] بأن أنبتنا فيها الزرع و الكلاء بعد أن لم يكن [كَذلِكَ النُّشُورُ] أي كما لعل بهذه الأرض المجدبة الميّتة من إحيائها بالزرع و النبات ينشر الخلائق بعد موتهم و يحشرهم للجزاء من الثواب و العقاب و وجه التشبيه معلوم أي كما أنّ الريح يجمع القطع السحابيّة كذلك تجتمع أجزاء الأعضاء و أبعاض الأشياء و أيضا كما نسوق الريح و السحاب إلى البلد الميّت لإحيائه كذلك نسوق الروح و الحياة إلى البدن ثانيا و أيضا كما أنّ الأرض الميّتة قبلت الحياة اللائقة بها كذلك أعضاء الإنسان قبل الحياة.

قوله تعالى: [مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً] اختلف في معناه فقيل:

المعنى: من كان يريد علم العزّة و هي القدرة على القهر و الغلبة لمن هي فإنّها للّه جميعا و قيل: معناه من أراد العزّة فليتعزّز بطاعة اللّه فإنّ اللّه يعزّه كما يقال: من أراد المال فالمال لفلان فليطلب من عنده و يؤيّد هذا المعنى ما رواه أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

إنّ ربّكم يقول كلّ يوم: أنا العزيز فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز.

و لعلّ المراد في الآية منع الكفّار عن العزّة الّتي كانوا يتوهّمونها من حيث إنّهم ما كانوا في طاعة أحد و لم يكن من يأمرهم و ينهاهم فكانوا ينحتون الأصنام و يقولون:

إنّ هذه آلهتنا ثمّ إنّهم كانوا ينقلونها مع أنفسهم و كانوا يطلبون العزّة لأنفسهم و هي عدم التذلّل للرسول و ترك الاتّباع فقال سبحانه: إن كنتم تطلبون بهذا الكفر العزّة فهي كلّها للّه و من يتذلّل له فهو العزيز و من يتعزّز عليه فهو الذليل كما قال سبحانه: في آية اخرى «وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ» (1) فله العزّة بالذات و لرسوله بواسطة

ص: 42


1- الفتح: 8.

القرب من العزيز و هو اللّه و للمؤمنين بواسطة قربهم للرسول.

قوله تعالى: [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ تقرير لبيان العزّة و ذلك أنّ الكفّار كانوا يقولون: نحن لا نعبد من لا نراه و لا نحضر عنده فقال تعالى: إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامكم و يقبل الطيّب من القول و الكلم جمع «الكلمة» يقال: هذا كلم و هذه كلم فيذكّر و يؤنّث و كلّ جمع ليس بينه و بين واحده إلّا الهاء يجوز فيه التذكير و التأنيث و معنى الصعود هاهنا القبول من صاحبه و الإثابة عليه و كلّ ما يتقبّله اللّه من الطاعات يوصف بالرفع و الصعود لأنّ الملائكة يكتبون أعمال بني آدم و يرفعونها إلى حيث شاء اللّه و هذا كقوله: «إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» (1) و يمكن أن يكون المعنى يصعد إلى سمائه فجعل صعود العمل إلى سمائه صعودا إليه و المراد من «الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» الكلمات الحسنة من التعظيم و التقديس و أحسن الكلم «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»*.

قوله: [وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قيل فيه وجوه: أحدها أنّ العمل الصالح يرفع الكلم الطيّب إلى اللّه فالهاء من يرفعه يعود إلى الكلم. و الثاني على القلب من الأوّل أي الكلم الطيّب يرفع العمل الصالح إلى اللّه حيث لا ينفع العمل الصالح إلّا إذا صدر عن التوحيد.

و الثالث أنّ العمل الصالح يقبله اللّه و يرفعه و على هذا يكون الكلام ابتداء إخبار لا يتعلّق بما قبله.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي الّذين مكروا برسول اللّه في دار الندوة و تبانيهم في إحدى ثلاث: حبسه أو قتله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو إجلائه و يشمل مكرات أصحاب السقيفة و قيل: يمكرون أي يعملون السيّئات و لذا عدّاه بالسيّئات و إلّا فهو لازم أو المعنى يمكرون المكرات السيّئات و يشركون باللّه [لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ] في الآخرة ثمّ أخبر سبحانه أنّ مكرهم يبطل و يفسد فقال: [وَ مَكْرُ أُولئِكَ الماكرين [هُوَ يَبُورُ] و يفنى.

قال الفيض في قوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» القميّ قال: هو كلمة الإخلاص و الإقرار بما جاء به النبيّ من عند اللّه من الفرائض و الولاية ترفع العمل الصالح إلى اللّه و عن الصادق عليه السّلام الكلم الطيّب قول المؤمن: لا إله إلّا اللّه

ص: 43


1- المطففين: 18.

محمّد رسول اللّه عليّ وليّ اللّه و خليفة رسول اللّه قال: و العمل الصالح الاعتقاد بالقلب بأنّ هذا لهو الحقّ من عند اللّه.

و عن الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه: إنّ لكلّ قول مصدّقا من عمل يصدّقه أو يكذّبه فإذا قال ابن آدم و صدّق قوله عمله، رفع قوله بعمله إلى اللّه و إذا خالف عمله قوله ردّ قوله على عمله الخبيث و هوي به في النار.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: ولايتنا أهل البيت و أومأ بيده إلى صدره فمن لم يتولّنا لم يرفع اللّه له عملا.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام: من قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا طمست ذنوبه كما ينطمس الحرف الأسود من الرقّ الأبيض فإذا قال ثانية: لا إله إلّا اللّه مخلصا خرقت أبواب السماء و صفوف الملائكة حتّى يقول الملائكة بعضها لبعض: اخشعوا لعظمة أمر اللّه فإذا قال ثالثة مخلصا: لا إله إلّا اللّه لم تنته دون العرش فيقول الجليل: اسكني فو عزّتي و جلالي لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه ثمّ تلا هذه الآية «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» يعني إذا كان علمه صالحا ارتفع قوله و كلامه انتهى.

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 11 الى 17]

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)

ص: 44

اعلم أنّ الدلائل مع كثرتها و عدم دخولها في عدد محصور منحصرة في قسمين:

دلائل الآفاق و دلائل الأنفس فلمّا ذكر سبحانه شطرا من دلائل الآفاق من السماوات و ما يرسل منها من الملائكة و الأرض و ما يرسل فيها من الرياح ذكر في هذه الآية من دلائل الأنفس فقال:

[وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق آباءكم و أصلكم من تراب [ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ] أي ماء قليل و هي من الأضداد و قوله: «مِنْ نُطْفَةٍ» إشارة إلى أولاده أو المراد أنّ أصل النطفة من التراب أيضا. و قوله: [ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً] أي ذكورا و إناثا و قيل:

ضروبا و أصنافا.

[وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إشارة إلى كمال العلم فإنّ ما في الأرحام قبل الانخلاق بل بعده مادام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف و الأمّ الحامل لا تعلم منه شيئا؟

[وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ] معناه و ما يمدّ في عمر معمّر و لا يطول عمر أحد [وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي من عمر ذلك المعمّر بانقضاء الأوقات عليه و لا يذهب بعض عمره بمضيّ الليل و النهار أو يكون المعنى: إنّ فلانا لو أطاع لبقي إلى وقت كذا و إذا عصا نقص عمره.

[إِلَّا فِي كِتابٍ أي إلّا و ذلك مثبت في الكتاب و هو الكتاب المحفوظ فأثبت اللّه في امّ الكتاب عمر فلان كذا سنة ثمّ يكتب أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان و ذهب ثلاثة أيّام حتّى يأتي على آخر عمره فبيّن سبحانه أنّه هو القادر على مثل هذا الخلقة و العالم بهذه الجزئيّات و الأصنام الّتي تعبدونها لا قدرة و لا علم لها فكيف تستحقّ العبادة؟

[إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] أي الخلق و التعمير و النقصان على اللّه سهل يسير.

ثمّ قال: [وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ يعني العذب و المالح ثمّ ذكر الفرق فقال:

[هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي طيّب بارد [سائِغٌ شَرابُهُ جائز في الحلق هني ء [وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ فيه الملوحة و المرورة. قال أهل اللغة: لا يقال في ماء البحر إذا كان فيه ملوحة:

ص: 45

مالح و إنّما يقال له: ملح كما أنّ الماء العذب إذا القي فيه ملح حتّى ملح لا يقال له إلّا مالح و إنّما يقال للماء الّذي أصل خلقته مملوحة: ملح لأنّ المالح شي ء فيه ملح و ماء البحر ليس ماء و ملح بخلاف الطّعام الّذي وقع فيه الملح فيقال لهذا: مالح و لذلك:

ماء ملح و لو أنّ ماء البحر اكتسب الملوحة من أجزاء سبخة أرضيّة و ماؤه بسبب المجاورة اكتسب الملوحة لكن لمّا ملح بسبب المجاورة كأنّهم جعلوا ملوحته أصلا و خلقة و فرّقوا بين اللغتين بهذا السبب.

و بالجملة قال المفسّرون: إنّ المراد من الآية ضرب المثل في حقّ الكفر و الإيمان أو الكافر و المؤمن قالوا: إنّ الكفر و الإيمان لا يتساويان كما لا يتساوى الماء الملح و الماء العذب.

و قوله تعالى: [وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ] أي ماخرات و شاقّات البحر بالجري بيان بأنّ حال الكافر دون حال البحرين لأنّ الأجاج يشارك الفرات في الخير و النفع إذ اللحم الطريّ يوجد فيهما و الحلية توجد منهما و الفلك تجري فيهما و لا نفع في الكفر و الكافر و هذا الكلام على نسق قوله تعالى: «كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ» (1).

و في الآية إشارة إلى أمر آخر و هو الدليل على كمال القدرة و بيانه أنّ البحرين يستويان في الصورة و يختلفان في الماء فإنّ أحدهما «عَذْبٌ فُراتٌ» و الآخر «مِلْحٌ أُجاجٌ» و لو كان ذلك بإيجاب لما اختلف المتساويان ثمّ إنّهما بعد اختلافهما يوجد فيهما امور متشابهة فإنّ اللحم الطريّ يوجد منهما و من يوجد في المتشابهين اختلافا و من المختلفين أشباها لا يكون إلّا قادرا مختارا و هذا دليل على كمال قدرته و نفوذ إرادته.

[لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و هذه النعم لمعاشكم و لأن تعرفوا نعم اللّه عليكم فتشكروه و تعرفون خالقكم.

قوله تعالى: [يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ]

ص: 46


1- البقرة: 74.

مرّ بيانه مرارا و أمّا بيان قوله: «وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ» جواب لسؤال مقدّر المشركون و هو أنّهم قالوا: اختلاف الليل و النهار بسبب اختلاف القسي الواقعة فوق الأرض و تحتها فإنّ في الصيف تمرّ الشمس على سمت الرؤوس في بعض البلاد المائلة في الآفاق و حركة الشمس هناك حمائليّة فيقع تحت الأرض أقلّ من نصف دائرة الزمان مكثها تحت الأرض فيقصر الليل و في الشتاء بالضدّ فيقصر النهار فقال اللّه سبحانه «وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ» يعني سبب الاختلاف و إن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس و القمر بإرادة اللّه و قدرته و هو الّذي فعل ذلك.

ثمّ قال: [ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ] أي ذلك الّذي فعل هذه الأمور «لَهُ الْمُلْكُ» فلا معبود إلّا هو و إذا كان الملك له كلّه فله العبادة كلّها ثمّ بيّن ما ينافي صفة الإلهيّة و هو قوله: «وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ» من لفّافة النواة فكيف تعبدونها؟ و ذلك البيان لأجل أنّهم كانوا يقولون: إنّ اللّه فوّض أمر الأرض و الأرضيّات إلى الكواكب الّتي هذه الأصنام على صورتها و طوالعها فقال: «لا يملكون قطميرا».

قوله تعالى: [إِنْ تَدْعُوهُمْ لكشف ضرّ [لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنّها جماد لا تنفع و لا تضرّ [وَ لَوْ سَمِعُوا] على زعمكم أو أن يخلق اللّه لها سمعا [مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ .

ثمّ بيّن سبحانه على أنّ النفع لا يحصل لكم منها في الدنيا يحصل لكم منها الضرر في الآخرة بقوله: [وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بإشراككم باللّه شيئا فينطقهم اللّه يوم القيامة لتوبيخ عابديها و يجوز أن يكون المراد بهم الملائكة و عيسى فعلى هذا المعنى يكون معنى «لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ» أي لا يلتفتون إليكم و هم مشغولون عنكم و الظاهر المراد بالأصنام المعبودة.

قوله: [وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير أخبرك به و هو الحقّ سبحانه فإنّه الخبير بكنه الأمور و هو يخبرك بما هو الصلاح و الفساد و المنافع و المضارّ.

ص: 47

قوله تعالى: [يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ] المحتاجون [إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُ عن عبادتكم لا يحتاج إلى شي ء [الْحَمِيدُ] المستحقّ للحمد على جميع أفعاله فلا يفعل إلّا ما يستحقّ به حمدا و لمّا بالغ الرسول في الدعوة قال الكفّار: لعلّ اللّه يحتاج إلى عبادتنا حتّى يأمرنا بها أمرا بالغا و يهدّدنا على تركها مبالغا فقال تعالى: «أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ» و لا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم و إنّما هو لإشفاقه عليكم. و اعلم أنّ التعريف في الخبر قليل و الأكثر أن يكون الخبر نكرة و المبتدء معرفة و ذلك لأنّ المخبر لا يخبر في الأكثر إلّا بأمر لا يكون عند المخبر به علم أوفي ظنّ المتكلّم أنّ السامع لا علم له به و المبتدء لا بدّ من أن يكون معلوما عند السامع حتّى يقول له:

أيّها السامع الأمر الّذي تعرفه أنت فيه المعنى الفلانيّ كقول القائل: زيد قائم فإن كان الخبر معلوما عند السامع و المبتدء كذلك يقع الخبر تنبيها لا تفهيما و يحسن تعريف الخبر كقول القائل: اللّه ربّنا و محمّد نبيّنا حيث عرف كون اللّه ربّا و كون محمّد نبيّا فيحتمل أن يكون قوله: «أَنْتُمُ الْفُقَراءُ» من هذا القبيل.

قوله تعالى: [إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ] بيان لغناه و في العبارة بلاغة كاملة أي ليس إذهابكم موقوفا إلّا على مشيّته بخلاف الشي ء المحتاج إليه فإنّ المحتاج لا يقول فيه إن يشأ فلان هدم داره و أعدم عقاره و إنّما يقول: لو لا حاجة السكنى إلى الدار لبعتها و لو لا الافتقار إلى العقار لتركتها.

ثمّ زاد في بيان الاستغناء بقوله: «وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» أي إن كان يتوهّم متوهّم أنّ هذا الملك له عظمة و كمال فلو أذهبه لزال ملكه و عظمته فبيّن سبحانه أنّه قادر بأن يخلق خلقا جديدا أحسن و أتمّ و أكمل.

[وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ] أي الإذهاب و الإتيان غير معسور عليه و لا يغلب العجز عليه و «العزيز» في اللغة الغالب من قوله: «و من عزّ بزّ» أي من غلب سلب فاللّه عزيز أي غالب و الفعل إذا كان لا يطيقه شخص يقال: هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله:

«وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» أي لا يغلب اللّه ذلك الفعل و لا يعجزه بل هو هيّن على اللّه.

ص: 48

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 18 الى 26]

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ (19) وَ لا الظُّلُماتُ وَ لا النُّورُ (20) وَ لا الظِّلُّ وَ لا الْحَرُورُ (21) وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)

إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)

المعنى: ثمّ أخبر سبحانه عن عدله في حكمه و أجاب الرؤساء و المتبوعون بما كانوا يقولون للتابعين: اتّبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم فقال:

[وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ] الآية أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس [أُخْرى و لا يؤخذ أحد بذنب غيره و إنّما يؤاخذ كلّ بما يقترفه من الآثام.

[وَ إِنْ تَدْعُ نفس [مُثْقَلَةٌ] بالآثام و المعاصي [إِلى حِمْلِها] إلى أن يتحمّل عنها شيئا من إثمها و في قوله: «مُثْقَلَةٌ» زيادة بيان لأنّ المثقل قد يعان [لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ] أي لا يحمل غيرها شيئا من ذلك الحمل [وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى أي و لو كان المدعوّ إلى التحمّل ذا قرابة منها و أقرب الناس إليها ما حمل عنها فكلّ نفس بما كسبت رهينة قال ابن عبّاس: يقول الأب و الأمّ: يا بنيّ احمل عنّي فيقول: حسبي ما عليّ.

[إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ و هذا كقوله: (1) «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» أي إنّ إنذارك لا ينفع إلّا الّذين يخشون ربّهم في خلواتهم و غيبتهم عن الخلق أو المعنى: هم غائبون عن أهوال الآخرة و معتقدون بها.

[وَ أَقامُوا الصَّلاةَ] أي أداموها و قاموا بشرائطها و إنّما عطف الماضي على المستقبل إشعارا باختلاف المعنى لأنّ الخشية لازمة في كلّ وقت و الصلاة لها أوقات مخصوصة.

ص: 49


1- النازعات: 45.

[وَ مَنْ تَزَكَّى أي فعل الطاعات و قام بما يجب عليه من الزكاة و غيرها من الواجبات و قيل: أي تطهّر من المعاصي [فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ لأنّ جزاء ذلك يصل إليه دون غيره [وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] أي مرجع الخلق إليه فيجازي كلّا على عمله.

[وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ] أي لا يتساوى الأعمى عن طريق الحقّ و الّذي اهتدى إليه أو المشرك و المؤمن [وَ لَا الظُّلُماتُ أي ظلمات الشرك و الضلال [وَ لَا النُّورُ] أي نور الإيمان و الهداية و تكرار كلمة «لا» في قوله: [وَ لَا النُّورُ] زائدة مؤكّدة للنفي [وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ] يعني الجنّة و النار و قيل: الظل الليل و الحرور سموم النهار الحارّة [وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ يعني المؤمنين و الكافرين و قيل: يعني العلماء و الجهّال و بالجملة كما لا يستوي هذه الأشياء و لا يتماثل و لا يتشاكل فكذلك عبادة اللّه لا تشبه عبادة غيره و لا يستوي المؤمن و الكافر و الحقّ و الباطل.

[إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ] أي ينفع بالأسماع من يشاء أن يلطف له و لم يرد به نفي حقيقة السماع لأنّهم كانوا يسمعون آيات اللّه [وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ] أي إنّك لا تقدر على أن تنفع الكفّار بإسماعك إيّاهم إذ لم يقبلوا كما لا تسمع من في القبور من الأموات [إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ] أي ما أنت إلّا مخوّف لهم باللّه.

[إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ أي بالدين الصحيح [بَشِيراً وَ نَذِيراً] أي مبشّرا للمؤمنين و نذيرا للكافرين [وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ] خلا أي مضى أي كما أنت مبشّر و منذر لقومك كذلك قبلك كان الرسل يخوّفونهم و ينذرونهم و أقاموا الحجّة على قومهم.

[وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمّد و لم يصدّقوك [فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفّار أنبياء أرسلهم اللّه إليهم [جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الباهرات [وَ بِالزُّبُرِ] أي و بالكتب [وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ] و لعلّ المراد «بِالزُّبُرِ» صحف إبراهيم و «بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ» كالتوراة و الإنجيل و إنّما كرّر ذكر الكتاب و عطفه على الزبر لاختلاف الصفتين فإنّ الزبور أثبت في الكتاب من الكتاب لأنّه يكون منقّرا منقّشا فيه كالنقر في الحجر.

ص: 50

[ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ] فلمّا كذّبوا رسلهم و لم يعترفوا بنبوّتهم أخذتهم بالعذاب و أهلكتهم و دمّرت عليهم فكيف كان تغييري و إنكاري عليهم و إنزالي العقاب بهم؟

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 27 الى 30]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ (27) وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

أي أ لم تعلم [أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ] غيثا و مطرا [فَأَخْرَجْنا] أخبر عن نفسه بنون الكبرياء و العظمة [بِهِ أي بذلك الماء [ثَمَراتٍ جمع «ثمرة» و هي ما يجتنى من الشجرة [مُخْتَلِفاً أَلْوانُها] و طعومها و روائحها، اقتصر على ذكر الألوان لأنّها أظهر في التنوّع و لدلالة الكلام على الطعوم و الروائح و قوله تعالى: «أَ لَمْ تَرَ» استفهام تقريريّ و الاستفهام التقريريّ لا يقال إلّا في الشي ء الظاهر جدّا كما أنّ من أبصر الهلال و هو خفيّ جدّا فقال له غير: أين هو فإنّه يقول له: في الموضع الفلاني فإن لم يره يقول له: الحقّ معك إنّه خفيّ و أنت معذور و إذا كان بارزا يقول له: أما ترى هذا هو ظاهر و لمّا كانت الشواهد ظاهرة فكأنّه سبحانه قال له: أنت صرت بصيرا و لم يبق ما يوجب الخفاء أما ترى هذه الآية؟

ثمّ إنّه سبحانه لمّا ذكر الدلائل و لم تنفعهم قطع الكلام معهم و التفت إلى غيرهم كما أنّ السيّد إذا نصح بعض العبيد و أرشدهم و ما نفعهم الإرشاد يقول لغيره: اسمع و لا تكن مثل هذا و يكرّر معه ما ذكره مع الأوّل و يكون فيه إشعار بأنّ الأوّل فيه نقيصة لا يستأهل الخطاب و بعض الخطابات في القرآن للنبيّ من هذا العنوان.

و في الآية بيان آخر بقوله: «فَأَخْرَجْنا» لأنّ الجاهل قد يكون يتصوّر في ذهنه

ص: 51

أنّ نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له: فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه: إنّه بالطبع فهو بإرادة اللّه فلمّا كان ذلك أسنده إلى المتكلّم مع أنّ قبله بصيغة الغائب.

قوله تعالى: [وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ] أي و ممّا خلقنا من الجبال جدد بيض و حمر و في الآية دلالة على القدرة و رادّة على من ينكر الإرادة في اختلاف الألوان و الطعوم كأنّ قائلا يقول: اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع ألا ترى أنّ بعض النباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزعفران و الدارچين فردّ سبحانه زعمهم الباطل بأنّ بعض الجبال بل جبل واحد فيه مواضع حمر و الجدد جمع جدّة و هي الخطّة و الطريقة فطريقة حمراء متّصلة بخطّ أسود.

[مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها] الظاهر أنّ الاختلاف راجع إلى كلّ لون أي بيض مختلف ألوانها و حمر مختلف ألوانها لأنّ الأبيض قد يكون على لون الجصّ و قد يكون على لون التراب الأبيض و كذلك الأحمر و لو كان المراد أنّ البيض و الحمر مختلف الألوان لكان مجرّد تأكّد و معنى الأوّل آكد و أولى و قوله: «وَ غَرابِيبُ سُودٌ» «وَ غَرابِيبُ» تأكيد «للسود» أي سود غرابيب كالفاقع للأصفر.

فإن قيل: إنّ التأكيد لا يجي ء إلّا متأخّرا فكيف جاء «غَرابِيبُ سُودٌ»؟ قال الزمخشريّ: «غَرابِيبُ» تأكيد لذي لون مقدّر في الكلام و تقديره سود غرابيب ثمّ أعاد السود مرّة اخرى فحينئذ فيه زيادة التأكيد لكونه ذكره مضمرا و مظهرا و قيل:

هو على التقديم و التأخير و يجوز أن يكون «سُودٌ» عطف بيان يبيّن غرابيب.

قوله: [وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ و كذلك خلق سبحانه من النّاس و الدوابّ الّتي تدبّ على وجه الأرض و الأنعام كالإبل و الغنم و الإبل كذلك مختلف اللون كاختلاف الثمرات و الجبال و كما أنّها في أنفسها دلائل كذلك في اختلافها دلائل.

ثمّ تمّ الكلام و قال: [إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ] الخشية بقدر المعرفة فالعالم يعرف اللّه فيخافه و يرجوه و «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» فبيّن أنّ الكرامة بقدر التقوى ثمّ قال: [إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ] ذكر سبحانه ما يوجب الخوف و الرجاء فكونه عزيرا ذا انتقام يوجب الخوف التامّ و كونه غفورا يوجب الرجاء البالغ و قراءة من قرأ

ص: 52

بنصب العلماء و رفع اللّه فالمعنى أنّه سبحانه يبجّل و يعظّم.

و حاصل المعنى أنّه ليس يخاف اللّه حقّ خوفه و لا يحذّر معاصيه خوفا من نقمته إلّا العلماء. و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله و من لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم و في الحديث: أعلمكم باللّه أخوفكم للّه قال مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى اللّه و كفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه و إنّما خصّ العلماء بالخشية لأنّ العالم أحذر لعقاب اللّه من الجاهل حيث يختصّ بمعرفة التوحيد و العدل و يصدّق بالبعث و الحساب و الجنّة و النار.

ثمّ وصف سبحانه العلماء فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يقرءون القرآن في الصلاة و غيرها فأثنى عليهم بقراءة القرآن [وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي ملّكناهم التصرّف فيه [سِرًّا وَ عَلانِيَةً] في حال السرّ و العلن أي أنفقوا في حال كونهم مسرّين و معلنين و عن عبد اللّه بن عمر الليثيّ قال: قام رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه مالي لا أحبّ الموت؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألك مال؟ قال: نعم قال: فقدّمه قال: لا أستطيع قال: فإنّ قلب الرجل مع ماله إن قدّمه أحبّ أن يلحق به و إن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه.

[يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ] أي راجين بذلك تجارة لن تكسد و لن تفسد و لن تهلك إشارة إلى الإخلاص و ينفقون لوجهه لا أن يقال له: إنّه كريم.

[لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أي أنفقوا لأن يوفّيهم اللّه أجورهم بالثواب [وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ] لذنوبهم [شَكُورٌ] لحسناتهم و روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال في قوله: «وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفا في الدنيا و قيل: معنى «شَكُورٌ» أنّه يقبل اليسير و يثيب عليه الكثير تقول: أشكر من بردفة و هي شجرة عارية من الورق تغيم السماء فوقها فتخضرّ و تورق من غير مطر.

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 31 الى 35]

وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)

ص: 53

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

[وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد و أنزلنا [مِنَ الْكِتابِ و هو القرآن [هُوَ الْحَقُ الصحيح الّذي لا يشوبه فساد و الصدق الّذي لا يمازجه كذب و هو يدعو إلى الحقّ و يصرف عن الباطل [مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ «مُصَدِّقاً» حال مؤكّدة لكونه حقّا و مصدّقا لما قبله من الكتب مثل التوراة و الإنجيل لأنّه جاء موافقا لما بشّرت به تلك الكتب و يحتمل أن يكون معنى قوله: «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» أي من الكتاب الكبير و هو اللوح المحفوظ.

[إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ] و هذا جواب لما كانوا يقولونه: إنّه لم لم ينزل هذا القرآن على رجل عظيم فقال: «إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ» يعلم صلاحهم و بواطنهم و «بَصِيرٌ» يرى ظواهرهم و هذا مثل قوله: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (1) فاختار محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يختر غيره فهو أصلح من الكلّ.

ثمّ قال: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا] و معنى الإرث انتهاء الأمر و الحكم إليهم و الميراث انتقال الشي ء من قوم إلى قوم و اختلف في الّذين اصطفاهم اللّه من عباده في الآية فقيل: هم الأنبياء اختارهم اللّه برسالته و كتبه عن الجبّائيّ و قيل:

هم المصطفون الداخلون في قوله: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً» إلى قوله: «وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ» (2) و قيل: هم امّة محمّد أورثهم اللّه كلّ كتاب أنزله عن ابن عباس و قيل:

هم علماء امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما ورد في الحديث: العلماء ورثة الأنبياء و المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّهما قالا: هي لنا خاصّة و إيّانا عنى و هو الأقرب من الأقوال و الأصحّ لأنّهم أحقّ الناس بوصف الاصطفاء و الاجتباء و استيراث علم الأنبياء إذ هم

ص: 54


1- الانعام: 126.
2- آل عمران: 32.

المتعبّدون بحفظ الوحي و القرآن و بيان حقائقه و دقائقه.

قوله: [فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ اختلف في أنّ الضمير في «مِنْهُمْ» إلى من يعود على قولين: أحدهما أنّه يعود إلى العباد و تقدير الكلام:

فمن العباد ظالم لنفسه و روي نحو ذلك عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة و اختاره المرتضى من أصحابنا قال: و الوجه أنّه لمّا علّق توريث الكتاب بمن اصطفاه من عباده بيّن عقبه أنّه إنّما علّق وراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض لأنّ في العباد من هو ظالم لنفسه و من هو مقتصد و من هو سابق بالخيرات و القول الثاني أنّ الضمير يعود إلى المصطفين من العباد عن أكثر المفسّرين.

ثمّ اختلف في أحوال الفرق الثلاث على قولين: أحدهما أنّ جميعهم ناج و يؤيّد ذلك ما ورد في الحديث عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللّه يقول في الآية: أمّا السابق فيدخل الجنّة بغير حساب و أمّا المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا و أمّا الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثمّ يدخل الجنّة فهم الّذين قالوا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» و عن عائشة أنّها قالت: كلّهم في الجنّة أمّا السابق فمن مضى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجنّة و أمّا المقتصد فمن اتّبع أثره من أصحابه حتّى لحق بهم و أمّا الظالم فمثلي و مثلكم و روي عنها أنّها قالت: السابق الّذي أسلم قبل الجهرة و المقتصد الّذي أسلم بعد الهجرة و الظالم نحن. و روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: سابقنا سابق و مقتصد ناج و ظالمنا مغفور له. و قيل: إنّ الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه و المقتصد الّذي استوى ظاهره و باطنه و السابق الّذي باطنه خير من ظاهره. و قيل:

«فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» بالصغائر «وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» بالطاعات في الدرجة الوسطى و «مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» في الدرجة العليا عن جعفر ابن حرب.

و روى أصحابنا عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: الظالم لنفسه منّا من لا يعرف حقّ الإمام و المقتصد منّا العارف بحقّ الإمام و السابق بالخيرات هو الإمام و هؤلاء كلّهم مغفور لهم.

و عن زياد من المنذر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أمّا الظالم لنفسه منّا من عمل

ص: 55

صالحا و آخر سيّئا و أمّا المقتصد المتعبّد المجتهد و أمّا السابق بالخيرات فعليّ و الحسن و الحسين و من قتل من آل محمّد شهيدا.

و القول الآخر أنّ الفرقة الظالمة لنفسها غير ناجية قال قتادة: الظالم لنفسه أصحاب المشأمة و المقتصد أصحاب الميمنة و السابق بالخيرات هم السابقون المقرّبون من الناس كلّهم كما قال سبحانه: «وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً» (1) و قال عكرمة عن ابن عبّاس: إنّ الظالم هو المنافق و المقتصد و السابق من جميع الناس و قال الحسن: السابقون هم الصحابة و المقتصدون هم التابعون و الظالمون هم المنافقون و في الصافي نقلا عن بصائر الدرجات عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ،» الآية هي في ولد فاطمة عليها السّلام.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: إنّها في الفاطميّين فقال: ليس حيث تذهب ليس يدخل في هذا من سلّ سيفه و دعا الناس إلى الضلال فقيل: من الظالم لنفسه قال:

الجالس في بيته لا يعرف حقّ الإمام و المقتصد العارف بحقّ الإمام و السابق الإمام و عن الكاظم أنّه تلا هذه الآية و قال: نحن الّذين اصطفانا اللّه عزّ و جلّ و أورثنا هذا الكتاب فيه تبيان كلّ شي ء.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: أراد اللّه بذلك العترة الطاهرة و لو أراد الامّة لكانت بأجمعها في الجنّة لقول اللّه: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» الآية، ثمّ جمعهم كلّهم في الجنّة فقال: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها» الآية، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم.

و عن الصادق عليه السّلام أنّ فاطمة لعظمها على اللّه حرّم اللّه ذرّيّتها على النار و فيهم نزلت «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ» الآية و في الاحتجاج عن الصادق أنّه سئل عنها و قيل له:

إنّه لولد فاطمة خاصّة فقال: أمّا من سلّ سيفه و دعا الناس إلى نفسه إلى الضلال من ولد فاطمة فليس بداخل في هذه الآية قيل له: من يدخل فيها؟ قال: الظالم لنفسه الّذي لا يدعو الناس إلى ضلال و لا هدى و المقتصد منّا أهل البيت العارف حقّ الإمام و السابق الإمام.

ص: 56


1- الواقعة: 7.

و في المعاني عنه عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: نزلت فينا أهل البيت فقيل له: فمن الظالم لنفسه؟ قال: الّذي استوت حسناته و سيّئاته منّا أهل البيت فهو الظالم لنفسه فقيل: من المقتصد منكم قال: العابد للّه في الحالين حتّى يأتيه اليقين فقيل: فمن السابق منكم بالخيرات؟ قال: من دعا و اللّه إلى سبيل ربّه و أمر بالمعروف و نهى عن المنكر و لم يكن للمضلّين عضدا و لا للخائفين خصيما و لم يرض بحكم الفاسقين إلّا من خاف على نفسه و دينه و لم يجد أعوانا انتهى.

قوله تعالى: [بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ] المعنى: إنّ إيراث الكتاب و اصطفاء اللّه إيّاهم بإذن اللّه و أمره و هو الفضل العظيم.

فإن قيل: لم قدّم الظالم و أخّر السابق و إنّما يقدّم الأفضل؟

فالجواب أنّه قد يقدّم الأدنى في الذكر على الأفضل قال سبحانه: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ»* (1) و قال: «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» (2) و قال: «خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ» (3) و قال: «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (4) و يمكن أن يقال: إنّما قدّم الأدنى على الأفضل لئلّا يئس الظالم من رحمته و أخّر السابق لئلّا يعجب بعمله أو رتّب هذا الترتيب على مقامات الناس لأنّ أحوال الناس ثلاثة معصية ثمّ التوبة ثمّ القربة فإذا عصا فهو ظالم و إذا تاب فهو مقتصد و إذ تمحّض في عبادة اللّه اتّصل باللّه و عدّ من السابقين.

قوله: [جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها] هذا تفسير للفضل كأنّه قيل: ما ذلك الفضل الكبير؟ فقال: هي جنّات أي جزاء جنّات أو دخول جنّات و يجوز أن يكون بدلا من الفضل أي ذلك الفضل دخول جنّات.

[يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ] جمع «أسورة» و هي جمع «سوار» و هي حلية اليد من ذهب و لؤلؤ أي و يحلّون فيها أساور من لؤلؤ أو من ذهب صفائه صفاء اللؤلؤ أو

ص: 57


1- الحج: 61.
2- الشورى: 49.
3- الملك: 2.
4- التغابن: 2.

مرصّع باللؤلؤ من حليت المرأة فهي حالية و متحلّية و التحلّي بالأساور كاشف عن الفراغ من السعي و البطش و يدلّ على الغناء و الراحة و زوال كلّ مكروه [وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ] و هو الأبريسم المحض.

[وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ] فأخبر سبحانه عن حال الداخلين بأنّهم إذا دخلوا الجنّة يقولون: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» اعترافا منهم بنعمته لا على وجه التكليف بل شكرا على هذه النعمة من الفرح و يعنون من «الْحَزَنَ» الحزن الّذي أصابهم قبل دخول الجنّة لأنّهم كانوا يخافون دخول النار «إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ» لذنوب عباده و قبيح أفعالهم و «شَكُورٌ» يقبل اليسير من محاسن أعمالهم و شكر اللّه هو مكافاته على شكرهم و قبول يسير طاعتهم و إن كان حقيقه الشكر لا يجوز عليه و لا يصحّ أن يكون سبحانه منعما عليه لأنّ تمام النعم منه فهو المنعم لا المنعم.

قوله [الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ] هذا من كلامهم أي أنزلنا دار الخلود يقيمون فيها أبدا لا يموتون و لا يتحوّلون عنها من فضله [لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي لا يمسّنا في الجنّة عناء و مشقّة و لا يمسّنا و لا يصيبنا فيها إعياء و تعب أي ليس في الجنّة كالدنيا مظانّ المتاعب و قيل: النصب التعب الممرض و اللغوب هو ما يلغب منه و ما يحصل من ذلك المرض فكأنّه قال: لا يمسّنا مرض و لا دون ذلك.

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 36 الى 40]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)

ص: 58

المعنى: لمّا قدّم سبحانه ذكر ما أعدّه لأهل الجنّة من أنواع الثواب عقّبه بذكر ما أعدّه للكفّار من أليم العقاب فقال:

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا] بوحدانيّة اللّه و جحدوا نبوّة نبيّه [لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ جزاء على كفرهم [لا يُقْضى عَلَيْهِمْ بالموت [فَيَمُوتُوا] أو يستريحوا [وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها] و لا يسهّل عليهم عذاب النار [كَذلِكَ أي و مثل هذا العذاب و نظيره [نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ] جاحد كثير الكفران مكذّب لأنبياء اللّه.

[وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ و يتصايحون [فِيها] في النار بالاستغاثة يقولون [رَبَّنا أَخْرِجْنا] من عذاب النار [نَعْمَلْ صالِحاً] و نؤمن بدل الكفر و نطع بدل المعصية و ردّنا إلى الدنيا لنعمل بالطاعات الّتي تأمرنا بها [غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من المعاصي.

فوبّخهم اللّه تعالى فقال: [أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ] أي ألم نعطكم من العمر مقدار ما يمكن أن يتفكّر و يعتبر و ينظر في امور دينه و عواقب حاله من يريد أن يتذكّر و اختلف في هذا المقدار فقيل: هو ستّون سنة و هو المرويّ عن أمير المؤمنين قال عليه السّلام: العمر الّذي أعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستّون سنة و هو إحدى الروايتين عن ابن عبّاس و روي عن النبيّ أيضا مرفوعا أنّه قال: من عمّره اللّه ستّين سنة فقد أعذره اللّه و قيل: هو أربعون سنة عن ابن عبّاس و مسروق و قيل: هو توبيخ لابن ثماني عشر سنة، عن وهب و قتادة و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام.

قوله: [وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ] أي المخوّف من عذاب اللّه و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ابن زيد و جماعة و قيل: النذير القرآن و قيل: الشيب و البياض في الشعر عن عكرمة و جماعة و منه قول الشاعر:

رأينا الشيب من نذر المنايالصاحبه و حسبك من نذير

و قال عديّ بن زيد:

و بياض السواد من نذر الموت و هل بعده يجي ء نذير

و قيل: «النَّذِيرُ» موت الأهل و الأقارب و قيل: كمال العقل.

[فَذُوقُوا] العذاب و حسرة الندم [فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ] يدفع العذاب عنهم.

ص: 59

قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تقرير لدوامهم في العذاب و بيان لأمر آخر و هو أنّه سبحانه لمّا قال: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» (1) و لا يزاد عليها فلو قال قائل: الكافر ما كفر باللّه إلّا أيّاما معدودة فكان ينبغي أن لا يعذّب إلّا مثل تلك الأيّام فأجاب اللّه تعالى أنّ اللّه لا يخفى عليه غيب السماوات و الأرض و لا يخفى عليه ما في الصدور و كان يعلم من الكافر أنّ في قلبه تمكّن الكفر بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع اللّه و لا عبده و بالجملة لا يخفى عليه شي ء ممّا يغيب عن الخلائق علمه فلا تضمروا في أنفسكم ما يكرهه.

[هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي جعلكم معاشر الكفّار امّة بعد امّة و خلائف القرون الماضية و أحدثكم بعده و أورثكم ما كان لهم [فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ ضرر [كُفْرُهُ و عقاب كفره [وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً] أي شدّة البغض [وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً] أي خسرانا و هلاكا و الكفر لا ينفع عند اللّه حيث لا يزيد إلّا المقت و لا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلّا خسارا فإنّ العمر كرأس المال من اشترى به رضا اللّه ربح و من اشترى به سخطه خسر.

قوله تعالى: [قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قل لهم يا محمّد:

أخبروني أيّها المشركون عن الأوثان الّذين أشركتموه مع اللّه في العبادة [أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ و بأيّ شي ء أوجبتم لها العبادة و أيّ شي ء خلقوه من الأرض؟ فإن قيل: كيف يفسّر قوله: «أَ رَأَيْتُمْ» في معنى أخبروني؟ لأنّ الاستفهام يستدعي جوابا مثاله يقول القائل: أ رأيت ما ذا فعل فلان فيقول السامع: باع أو اشترى و لو لا تضمّنه معنى أخبروني لما كان الجواب إلّا قوله لا أو نعم فحينئذ يستخبر المستفهم الخبير و يطلبه فيصحّ معنى أخبروني.

قوله: [أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي ألهم شرك في خلقها [أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً] و أنزلنا عليهم كتابا و أمرا يصدّق دعواهم فيما هم عليه من الشرك [فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ]

ص: 60


1- الشورى: 4.

فيكونون على حجّة واضحة لعبادتهم إيّاها من ذلك الكتاب و الضمير في قوله «أَمْ آتَيْناهُمْ» يمكن أن يعود إلى الشركاء أي هل آتينا الشركاء كتابا فتصحّ العبادة و يمكن أن يعود الضمير إلي المشركين.

و حاصل المعنى أنّ هذه العبادة الباطلة لا عقليّة بسبب أنّها مخلوقة عاجزة و لا عقل لمن يعبد من لم يخلق من الأرض جزء من الأجزاء و لا شيئا في السماء و لا نقليّة لأنّا ما آتيناهم كتابا فيه يكون أمرا بجواز العبادة لها فهذه العبادة لا عقليّة و لا نقليّة بل صرف التقليد فوعد بعضهم بعضا في فائدة عبادة الأصنام من الشفاعة أو الرزق ليس إلّا غرورا لا حقيقة له و طمع في مالا يطمع فيه.

النظم في قوله: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ» متّصل بقوله: «نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» فالمراد أنّه تعالى يعلم أنّه لو ردّكم إلى الدنيا لعدتم إلى كفركم.

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 41 الى 45]

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

المعنى: لمّا بيّن اللّه شرك المشركين قال: مقتضى شركهم زوال السماوات و الأرض و كانتا جديرتين بأن تهدّا هدّا كما قال عزّ و جلّ: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» (1) و بيّن أنّه تعالى يمسسكهما لئلّا تزولا أو المعنى

ص: 61


1- مريم: 90 و بعده «أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» فشركهم كدعواهم للرحمن ولدا يقتضى زوال السموات و الأرض لكنه يصفح عنهم حلما.

أنّه يمسكهما من غير علاقة فوقها و لا دعامة تحتها.

[وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي إن قدّر أن تزولا عن مراكزهما ما أمسكهما أحد و لا يقدر على إمساكهما أحد «مِنْ بَعْدِهِ» أي من بعد اللّه أو من بعد زوالهما [إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً] و ما ترك تعذيبهم إلّا حلما منه تعالى و إلّا كانوا يستحقّون إسقاط السماء و انطباق الأرض عليهم و لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على الشرك و هو لمن تاب و يرحمه بعد التوبة و إن استحقّ العقاب.

في الكافي عن أمير المؤمنين أنّه سئل عن اللّه عزّ و جلّ يحمل العرش أم العرش يحمله فقال عليه السّلام: اللّه عزّ و جلّ حامل العرش و السماوات و الأرض و ما بينهما و ذلك قول اللّه تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» الآية.

و في الإكمال عن الرضا عليه السّلام في حديث بنا يمسك اللّه السماوات و الأرض أن تزولا.

و عنهم عليهم السّلام: لو لا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها.

ثمّ حكى سبحانه عن الكفّار فقال [وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي إنّهم بعد أن أشركوا و المراد كفّار مكّة حلفوا باللّه بأيمان غليظة قبل أن يأتيهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ] أي رسول مخوّف من جهة اللّه [لَيَكُونُنَّ أَهْدى إلى قبول قوله و اتّباعه [مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الماضية يعني اليهود و النصارى و ذلك أنّ قريشا لمّا بلغهم أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم قالوا: لعن اللّه اليهود و النصارى لو أتانا رسول لنكوننّ أهدى من إحدى الأمم.

[فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ] أي محمّد و صحّ مجيئه بالبيّنة و الظهور [ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً] فإنّهم قبل البعثة كانوا كافرين باللّه و بعدها كفروا برسوله و تباعدوا عن الحقّ.

[اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي عتوّا على اللّه و أنفة من أن يكونوا تبعا لغيرهم و كانوا على حالة الاستكبار في الأرض [وَ مَكْرَ السَّيِّئِ إضافة الجنس إلى نوعه كما يقال: علم الفقه و حرفة الحدادة و أضيف المصدر إلى صفة المصدر فالتقدير: و مكروا المكر السيّئ و المراد المكر برسول اللّه و بالمؤمنين و مكر السيّئ كلّ مكر أصله الخدعة و الكذب و كان تأسيسه على فساد لأنّ من المكر ما هو حسن و هو مكر المؤمنين بالكافرين إذا

ص: 62

حاربوهم من الوجه الّذي يحسن أن يمكروا بهم.

قوله: [وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي لا ينزل جزاء المكر السيّئ إلّا بمن فعله.

[فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي فهل ينتظرون إلّا عادة اللّه في الأمم الماضية أن يهلكهم إذا كذّبوا رسله و ينزل بهم العذاب جزاء على كفرهم فإن كانوا ينتظرون ذلك [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا] أي لا يغيّر اللّه عادته من عقوبة الكافر و لا يبدّلها و هذا أمر واقع لا محالة ليس له من دافع [وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا] بأن ينقله من المكذّبين إلى غيرهم.

فإن قيل: التبديل تحويل فما وجه التكرار؟

فالجواب أنّ قوله: «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» أي العذاب للكافر لا يتبدّل بغيره و بقوله: «وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» أي لا يتحوّل العذاب عن مستحقّه إلى غيره فتبيّن الفرق بين التبديل و التحويل لأنّ التبديل تغيير الشي ء مكان الشي ء و تعويضه و لكنّ التحويل تصيير الشي ء في غير المكان الّذي كان فيه فحينئذ ليس تكرارا و لو فرضنا التكرار فليتمّ تهديد المسي ء و لعلّ المراد من «سنة الله» أنّ عادة اللّه جرت بأن إذا كان في القوم من يؤمن أو يكون في أصلاب الكافرين من يؤمن فلا يعذّبهم بعذاب الاستئصال فلذلك أمهلهم و ليس لهذه العادة من تحويل و تغيير.

قوله تعالى: [أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي ألم يسر هؤلاء الكفّار الّذين أنكروا هلاك الأمم الماضية في الأرض و الآية استشهاد على ما قبله من جريان سنّته على تعذيب المكذّبين بما يشاهدونه في أسفارهم إلى الشام و العراق و اليمن من آثار ديار الأمم العاتية و الهمزة للإنكار و النفي و الواو للعطف على مقدّر يليق بالمقام.

و تقدير الكلام: أقعدوا و لم يسيروا في الأرض حتّى ينظروا [كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مثل قوم لوط و عاد و ثمود [وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً] و أطول أعمارا و ما أغنى عنهم طول المدى و شدّة القوى و الحالة أنّ أولئك كانوا أشدّ من هؤلاء قوّة.

[وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ] أي لم يكن اللّه يفوته شي ء [فِي السَّماواتِ وَ لا فِي

ص: 63

الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً] بجميع الأشياء [قَدِيراً] على ما لا نهاية له و في قوله: «وَ ما كانَ اللَّهُ» الآية، قطع لأطماع الجهّال بأن لو قال قائل: هب أنّ الأوّلين كانوا أشدّ قوّة و أطول أعمارا لكنّا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم و نستعين بأمور أرضيّة لها خواصّ أو كواكب سماويّة لها آثار مخصوصة فقال تعالى: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ» إلى قوله «عَلِيماً» بأفعالهم قديرا على إهلاكهم.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا] لمّا هدّد اللّه المكذّبين بمن مضى و كانوا يستعجلون العذاب من شدّة عنادهم و فساد عقائدهم و يقولون: عجّل لنا عذابنا فقال اللّه تعالى في هذه الآية: للعذاب أجل و اللّه لا يؤاخذ الناس سريعا بنفس الظلم فإنّ الإنسان ظلوم جهول و إنّما يؤاخذ بالإصرار و حصول يأس الناس عن إيمانهم و وجود الإيمان ممّن كتب اللّه إيمانه فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك المكذّبين و لو أخذهم بنفس الظلم لكان كلّ يوم إهلاك فقال سبحانه: و لو يؤاخذ اللّه جميعا بما كسبوا من السيّئات كما فعل بأولئك ما ترك على ظهر الأرض من نسمة تدبّ عليها من بني آدم و قيل: من غيرهم أيضا من شؤم معاصيهم و هو المرويّ عن ابن مسعود و أنس.

و يعضد القول الأوّل قوله تعالى: «وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» و هو يوم القيامة و الضمير في قوله: «ظَهْرِها» عائد إلى الأرض و لم يجر لها ذكر لدلالة الكلام على ذلك و العلم الحاصل به ممّا تقدّم في الآية و ما تأخّر أمّا ما تقدّم فقوله: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ» فهو أقرب المذكورات الصالحة لعود الهاء إليها و أمّا ما تأخّر فقوله: «مِنْ دَابَّةٍ» لأنّ الدوابّ على ظهر الأرض.

فلو قيل: إذا كان اللّه يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدوابّ يهلكون؟

فالجواب أنّ خلق الدوابّ نعمة فإذا كفر الناس يزيل اللّه النعم و الدوابّ أقرب النعم خصوصا للإنسان و أعلى درجات المخلوقات في النفع من عالم العناصر للإنسان الدوابّ فيزيل اللّه هذه النعمة و إزالة هذه النعمة ليست عقوبة للدوابّ بل عقوبة للإنسان و الدوابّ المخلوقة تبعا و نفعا للإنسان فإذا كان الهلاك عامّا للإنسان فلا يبقى من الإنسان من يعمر فلا تبقى الدوابّ.

ص: 64

ثمّ من أعظم نعم اللّه المطر لأنّ به يحصل نعمة البقاء فإذا لم يستحقّوا قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت الدوابّ الأرضيّة و أمّا حيوانات البحريّة فتعيش بماء البحر و هو سبحانه قال: [ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ].

فإن قيل: كيف يقال لما عليها: ظهر الأرض؟ لأنّ الأرض كالدابّة الحاملة للأثقال و الحمل يكون على الظهر و وجه الأرض ظهرها على أنّ الظهر في مقابلة البطن و الظهر و الظاهر من باب واحد و البطن و الباطن من باب واحد فوجه الأرض ظهر لأنّه هو الظاهر و غيره منها باطن و بطن.

[وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً] فإذا جاء وقت الهلاك فاللّه بالعباد بصير إمّا ينجّيهم و يكون توفّيهم تقريبا من اللّه لا تعذيبا في حقّ المؤمنين و تعذيبا للكافرين كما قال سبحانه:

«وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (1).

تمّت السورة.

ص: 65


1- الأنفال: 25.

سورة يس

اشارة

* (مكية)* إلّا آية منها و هي قوله: «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» الآية (1) نزلت بالمدينة.

فضلها أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة يس يريد وجه اللّه عزّ و جلّ غفر اللّه له و اعطي من الأجر كأنّما قرأ القرآن اثني عشرة مرّة و أيّما مريض قرئت عنده سورة يس نزل عليه بعدد كلّ حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا صفوفا يستغفرون له و يشهدون قبضه و يتبعون جنازته و يصلّون عليه و يشهدون دفنه و أيّما مريض قرأها و هو في سكرات الموت أو قرئت عنده أتاه رضوان خازن الجنّة بشربة من شراب الجنّة فسقاه إيّاها و هو على فراشه فيشرب فيموت ريّان و يبعث ريّان و لا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتّى يدخل الجنّة و هو ريّان.

و عن أبي بكر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: سورة يس تدعى في التوراة المنعمة فقيل:

و ما المنعمة؟ تعمّ صاحبها خير الدنيا و الآخرة و تكابد عنه بلوى الدنيا و تدفع عنه أهاويل الآخرة و تدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كلّ شرّ و تقضي له كلّ حاجة و من قرأها عدلت له عشرين حجّة و من سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل اللّه و من كتبها ثمّ شربها أدخلت جوفه ألف دواء و ألف نور و ألف يقين و ألف بركة و ألف رحمة و نزعت عنه كلّ داء و غلّ.

و أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ لكلّ شي ء قلبا و قلب القرآن يس.

و عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفّف عنهم يومئذ و كان له بعدد من فيها حسنات.

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ لكلّ شي ء قلبا و قلب القرآن يس فمن قرأها في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين و المرزوقين حتّى يمسي

ص: 66


1- يس: 47.

و من قرأها في ليلة قبل أن ينام وكّل به ألف ملك يحفظونه من كلّ شيطان رجيم و من كلّ آفة و إن مات في نومه أدخله اللّه الجنّة و حضر غسله ثلاثون ألف ملك كلّهم يستغفرون له و يشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له فإذا ادخل لحده كانوا في جوف قبره يعبدون اللّه و ثواب عبادتهم له و فسّح في قبره مدّ بصره و أمن من ضغطة القبر و لم يزل له في قبره نور ساطع إلى عنان السماء إلى أن يخرجه اللّه من قبره فإذا أخرجه لم تزل الملائكة معه يحدّثونه و يضحكون في وجهه و يبشّرونه بكلّ خير حتّى يجوزوا به الصراط و الميزان و يوقفوه من اللّه موقفا لا يكون عند اللّه خلق أقرب منه إلّا ملائكة اللّه المقرّبون و أنبياؤه المرسلون و هو مع النبيّين واقف بين يدي اللّه لا يحزن مع من يحزن و لا يهتمّ مع من يهتمّ و لا يجزع مع من يجزع ثمّ يقول له الربّ تعالى: اشفع عبدي اشفّعك في جميع ما تشفع و سلني عبدي أعطك جميع ما تسأل فيسأل فيعطى و يشفع فيشفّع و لا يحاسب فيمن يحاسب و لا يذلّ مع من يذلّ و لا يبكت بخطيئته و لا بشي ء من سوء عمله و يعطى كتابا منشورا فيقول الناس بأجمعهم: سبحان اللّه ما كان لهذا العبد خطيئة واحدة و يكون من رفقاء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و روى محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ لرسول اللّه اثني عشر اسما خمسة منها في القرآن: محمّد و أحمد و عبد اللّه و يس و نون.

ص: 67

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة يس (36): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10)

المعنى: قد تكرّر الكلام في الحروف المقطّعة عند مفتتح السور في أوّل البقرة و قيل: [يس معناه يا إنسان و تصغير الإنسان انيسين حذف الصدر منه و بقي العجز فيحتمل أن يكون الخطاب إلى الإنسان الكامل ابتداء و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: معناه: يا محمّد و هو اسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن عليّ بن أبي طالب و أبي جعفر عليهما السّلام و قد ذكرنا الرواية فيه قبيل هذا و قيل: معناه يا سيّد الأوّلين و الآخرين و قيل: معناه يا رجل بلغة.

[وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أقسم سبحانه بالقرآن المحكم من الباطل أو سمّاه حكيما لما فيه من الحكمة فكأنّه المظهر للحكمة الناطق بها.

و يختلف إعراب كلمة «يس» باختلاف معانيها؛ فمن قرأ بالرفع على أنّها خبر لمبتدء محذوف أي هذه يس و أمّا بالضمّ على النداء المفرد و اكتفى من الاسم بحرف واحد و هو السين و الياء حرف نداء و نظير حذف بعض الاسم قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كفى بالسيف شا» أي شاهدا فحذف العين و اللام من شاهد فكذلك حذف من «إنسان» الفاء و العين و جعل ما بقي منه اسما قائما برأسه و هو السين فقيل: «ياسين» و هو شبيه بقول الشاعر حيث قال:

«قلنا لها قفي لنا قالت ق» أي وقفت أو تكون الكلمة مبنيّة على الضمّ كحيث

ص: 68

و أمّا بالنصب فتقديره: اتل يس أو يكون مبنيّة بالفتح كأين و كيف و قرئ بالكسر مثل جير لإسكان الياء و كسرة ما قبلها و لا يجوز أن يقال بالكسر لأنّ إضمار الجارّ غير جائز و ليس فيه حرف جرّ و قسم.

[إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ هذه الجملة مقسم عليه.

فإن قيل: إنّ المطالب تثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة في الإقسام في القرآن؟

فيه وجوه:

الاول: أنّ العرب كانوا يتوقّون الأيمان الكاذبة و كانوا يقولون و يعتقدون أنّ اليمين الكاذبة توجب خراب العالم و صحّح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك بقوله: اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع، ثمّ إنّهم كانوا يقولون: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصيبه من آلهتهم عذاب و هي الكواكب و كان النبيّ يحلف بأمر اللّه و ما كان يصيبه عذاب بل كان كلّ يوم أمنع مكانا و أرفع شأنا فكان القسم يوجب اعتقاد أنّه ليس بكاذب و ما يراد من الدليل إلّا إثبات المدّعى و حصول المطلوب.

الوجه الثاني: أنّ المناظر إذا أقام برهانه و لم يقبل طرفه بقوّة جدله و كابر لا يجوز أن يأتي المناظر بدليل آخر لأنّ المكابر يقول في الدليل الآخر مثل ما قاله في الدليل الأوّل و لا يقبل فلا يجد المناظر بدّا لإثبات مراده إلّا اليمين فكذلك النبيّ لمّا أقام البراهين و قالت العرب: «ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ و قالوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (1) تعيّن التمسّك بالأيمان لعدم فائدة الدليل.

الثالث: هو أنّ هذا ليس مجرّد الحلف و إنّما هو دليل خرج في صورة اليمين لأنّ القرآن معجزة و دليل كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرسلا هو المعجزة و القرآن كذلك.

قوله: [عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر بعد خبر أي إنّك ثابت على صراط مستقيم و المستقيم أقرب الطرق إلى المقصد و الدين كذلك فإنّه توجّه إلى اللّه و المقصود أنّ محمّدا على الصراط المستقيم الّذي يكون عليه المرسلون و فيه معنى لطيف يعلم منه فساد قول المباحيّة الّذين يقولون: المكلّف يصير و أصلا إلى الحقّ فلا يبقى عليه تكليف و ذلك ط.

ص: 69


1- سبأ: 44 و في الآية سقط.

أنّ اللّه بيّن أنّ المرسلين ما داموا في الدنيا فهم سالكون و منتهجون إلى السبيل المستقيم فكيف ذلك الجاهل العاجز؟

[تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي هذا القرآن تنزيل الغالب في ملكه الرحيم بخلقه قرئ بالجرّ على أنّه بدل من القرآن كأنّه قال: و القرآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم و قرئ بالنصب و فيه وجهان: أحدهما مصدر فعله منويّ أي نزل تنزيل العزيز الرحيم و الثاني أنّه مفعول فعل معنويّ كأنّه قال: و القرآن الحكيم أعني تنزيل العزيز الرحيم لكنّ الزمخشريّ اختار الرفع على الخبريّة للمبتدأ و هو هذا.

[لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ لتخوّف به من معاصي اللّه قوما لم ينذر آباؤهم قبلهم لأنّهم كانوا في زمان الفترة بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: المعنى لم يأتهم نذير من أنفسهم و قومهم و إن جاءهم من غيرهم و قيل: معناه لم يأتهم من أنذرهم بالكتاب حسب ما أتيت و هذا على قول من قال: كان في العرب قبل نبيّنا من هو نبيّ كخالد بن سنان و قسّ بن ساعدة الأياديّ و غيرهما و قيل: معناه لتنذر قوما كما انذر آباؤهم فمعنى قوله «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» أي ما انذروا بعد ما ضلّوا عن طريق الرسول المتقدّم «فَهُمْ غافِلُونَ» عمّا تضمّنه القرآن و عمّا أنذر اللّه به من نزول العذاب و الغفلة مثل السهو و هو ذهاب المعنى عن النفس.

ثمّ أقسم سبحانه فقال: [لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ أي وجب الوعيد و استحقاق العقاب عليهم [فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و يموتون على كفرهم و قد سبق ذلك في علم اللّه و قيل:

معناه لقد سبق القول على أكثرهم أنّهم لا يؤمنون و ذلك أنّه سبحانه أخبر ملائكته أنّهم لا يؤمنون فحقّ قوله عليهم لأنّه قد سبق في علمه أنّ هذا يؤمن و أنّ هذا لا يؤمن فقال في حقّهم: إنّهم لا يؤمنون و قوله تعالى: «حَقَّ الْقَوْلُ» جواب القسم و تقدير الكلام و اللّه يحقّق عدم إيمان أكثرهم لكن لا بطريق الجبر بل بسبب إصرارهم الاختياريّ على الكفر و الإنكار و عدم تأثّرهم من الإنذار بحيث لا يثنيهم عاطف.

قوله: [إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ قيل: إنّ هذه الآية نزلت في أبي جهل و صاحبيه المخزوميّين كان حلف أبو جهل لئن رأى محمّدا يصلّي ليرضخنّ

ص: 70

رأسه فأتاه و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي و معه حجر ليدمغه فلمّا رفعه انثنت يده إلى عنقه و لزق الحجر بيده فلمّا عاد إلى أصحابه و أخبرهم بما رأى سقط الحجر من يده فقال صاحبه المخزوميّ: أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه و هو يصلّي ليرميه بالحجر فأغشى اللّه بصره فجعل يسمع صوته و لا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتّى نادوه: ما صنعت فقال: ما رأيته و لقد سمعت صوته و حال بيني و بينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني.

و روى أبو حمزة الثماليّ عن عمّار بن عاصم عن شقيق بن سلمة عن عبد اللّه بن مسعود أنّ قريشا اجتمعوا بباب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فخرج إليهم فطرح التراب على رؤوسهم و هم لا يبصرونه قال عبد اللّه بن مسعود: هم الّذين سحبوا في القليب قليب بدر.

و روى أبو حمزة الثماليّ عن مجاهد أنّ قريشا اجتمعوا بباب النبيّ فقالت: لئن دخل محمّد لنقومنّ إليه قيام رجل واحد فدخل النبيّ فجعل اللّه من بين أيديهم سدّا و من خلفهم سدّا فلم يبصروه و صلّى النبيّ ثمّ أتاهم فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينشر على رؤوسهم التراب و هم لا يرونه فلمّا خلّى عنهم رأوا التراب و قالوا: هذا ما سحركم ابن أبي كبشة.

رجعنا إلى تفسير قوله «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ» و روي عن ابن مسعود و ابن عبّاس أنّهما قرءا «إنّا جعلنا في أيمانهم» و قرأ بعضهم في أيديهم و قال بعضهم على القراءة المشهورة و استعاروا الأعناق بالكناية عن الأيدي فالمعنى واحد في الجميع لأنّ الغلّ لا يكون في العنق دون اليد و لا في اليد دون العنق و مثله في التنزيل «وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» (1) و لم يقل: و البرد لأنّ المعنى اللازم أنّ ما يقي من الحرّ يقي من البرد.

و اختلف في معنى الآية على وجوه:

أحدها أنّه سبحانه بسوء اختيارهم و استحقاقهم جعلهم ممسكين لا ينفقون في سبيل اللّه و لا يبسطون أيديهم إلى الخير و الزكاة و إنّما ذكره ضربا للمثل و تقديره: إنّ هؤلاء في إعراضهم عمّا تدعوهم إليه كمثل رجل غلّت يده إلى عنقه لا يمكنه أن يبسطهما و طامح

ص: 71


1- النحل: 81.

برأسه لا يمكنه من أن يطأطئ رأسه لأنّ المغلول تكون يده مجموعة في الغلّ إلى عنقه و المغلول الّذي بلغ الغلّ ذقنه بقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر طريق قدميه و هو كناية عن عدم هدايته إلى الطريق الحقّ فهذا الّذي يهديه النبيّ إلى الصراط المستقيم و هو يعاند و يمتنع عن قبول قوله جعل ممنوعا كالمغلول.

و ثانيها أنّ المعنى كان هذا القرآن أغلالا في أعناقهم يمنعهم عن الخضوع لتدبّره و استماعه لاستثقالهم أحكامه و أنّهم لمّا استكبروا عنه و أنفوا من اتّباعه و كان المستكبر رافعا رأسه و لاويا عنقه شامخا بأنفه لا ينظر إلى الأرض صاروا كأنّما غلّت أيديهم إلى أعناقهم و هذا المعنى قريب في الجملة إلى الوجه الأوّل.

و ثالثها أنّ المعنى على سبيل الحقيقة و ذلك أنّ ناسا من قريش همّوا بقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فجعلت أيديهم إلى أعناقهم فلم يستطيعوا أن يبسطوا إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما بيّنّا في نزول الآية هذا المعنى.

و رابعها أنّ المراد به وصف حالهم يوم القيامة فهو مثل قوله: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ» و إنّما ذكره بلفظ الماضي للتحقيق و قوله: «فَهُمْ مُقْمَحُونَ» أي متأبّون قهرا أن يطأطئون رؤوسهم بسبب الغلّ يقال: بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء و لم يطأطئه للشرب و الإيمان كالماء الزلال الّذي به الحياة و هذا الكافر يمتنع عن قبول الإيمان فيهلك كما يهلك البعير القامح.

قوله تعالى: [وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ و في الآية بيان معبّر عن خذلان اللّه إيّاهم لمّا كفروا أي تركناهم مخذولين فصار خذلانهم سدّا بين أيديهم و من خلفهم و إذا فسّر الآية بأنّها وصف حال المشركين في الآخرة على بيان الوجه الرابع من الوجوه المذكورة الأربعة فالكلام على حقيقته و يكون عبارة عن ضيق المكان في النار بحيث لا يجدون متقدّما و لا متأخّرا إذ سدّ عليهم جوانبهم و إذا حملناه على صفة القوم الّذين همّوا بقتل النبيّ فالمراد جعلنا بين أيدي أولئك الكفّار منعا و من خلفهم منعا حتّى لم يبصروا النبيّ فأغشينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبيّ و قرئ بالعين المهملة و المعنى مناسب مأخوذ من العشواء و قيل: فأغشيناهم

ص: 72

العذاب فهم لا يبصرون النار.

و يمكن أن يكون في الآية إشعار بنكتة لطيفة و هي أنّ الإنسان له هداية فطريّة و الكافر تركها و هداية نظريّة و الكافر بسبب عناده ما أدركها فكأنّه تعالى قال:

جعلنا من بين أيديهم سدّا فلا يسلكون طريقة الاهتداء الّتي هي نظريّة و جعلنا من خلفهم سدّا فلا يرجعون إلى الهداية الجبلّيّة الفطريّة.

[وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي الإنذار و عدمه سيّان بالنسبة إلى الإيمان منهم.

فإن قيل: إذا كان الإنذار و عدمه سواء فلما ذا الإنذار؟

فالجواب أنّه تعالى قال: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ» و لم يقل: «سواء عليك» فالإنذار بالنسبة إلى النبيّ واجب و خروج عن العهدة و سبب في زيادة سيادته عاجلا و سعادته آجلا و لكن بالنسبة إليهم على السواء و انتفاء الفائدة في الإنذار قد صدر منهم.

ثمّ قال تعالى: [سورة يس (36): الآيات 11 الى 20]

إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15)

قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَ ما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)

المعنى: لمّا بيّن سبحانه أنّ الكفّار لا يؤمنون أكثرهم بسبب إنكارهم النبوّة و القرآن عقّبه بذكر من ينتفع بالإنذار فقال:

[إِنَّما] ينتفع بتخويفك و إنذارك [مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ] و المراد القرآن [وَ خَشِيَ

ص: 73

الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي في حال غيبته عن الناس بخلاف المنافق و قيل: معناه و خشي الرحمن فيما غاب عنه من أمر الآخرة [فَبَشِّرْهُ يا محمّد من هذه صفته [بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ أي ثواب خالص من الشوائب و الغفران جزاء الإيمان فكلّ مؤمن مغفور و الأجر الكريم جزاء العمل.

و هاهنا بيان لطيفة و هي أنّ بعض العلماء قالوا: اللّه و الرحمن اسمان علمان كما قال سبحانه: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» فاللّه اسم ينبئ عن الهيبة و الجلالة و الرحمن ينبئ عن الرحمن و العاطفيّة و قال: في موضع «يَرْجُوا اللَّهَ»* و قال هاهنا: «وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ» يعني مع كونه تعالى ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم عنه و مع كونه ذا رحمة لا تأمنوه.

قوله: [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا] لمّا ذكر أصلا من الأصول و هو النبوّة ذكر أصلا آخر في هذه الآية بقوله: «إِنَّا نَحْنُ» الآية و في قوله: «إِنَّا نَحْنُ» يحتمل وجهين:

أحدهما أن يكون مبتدءا و خبرا كقول القائل:

«أنا أبو النجم و شعري شعري» و مثل هذا الكلام يقال عند الشهرة العظيمة و ذلك لأنّ من لا يعرف يقال له: من أنت فيقول: أنا ابن فلان فيعرف و من كان معروفا إذا قيل له: من أنت يقول: أنا أنا أي لا معرّف لي أظهر من نفسي فقال سبحانه «إِنَّا نَحْنُ».

و ثانيهما أن يكون الخبر «نُحْيِ» كأنّه قال: «إنّا نحيي الموتى» و نحن يكون تأكيدا قادرين كمال القدرة و نحيي الموتى و نكتب ما قدّموا أي نحصي ما قدّموا و أسلفوا من الأعمال الصالحة و الفاسدة و ما أخّروا و قصّروا و اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر مثل قوله: «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» و المراد البرد و قيل: نكتب ما قدّموه من عمل ليس له أثر.

[وَ آثارَهُمْ أي ما يكون أثر و قيل: المراد بآثارهم أعمالهم الّتي صارت بعدهم سنّة يقتدى فيها بهم حسنة كانت أم قبيحة و قيل: المراد خطاهم إلى المسجد و سبب ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري أنّ بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد منازلهم من المسجد و الصلاة معه فنزلت الآية و في الحديث عن أبي موسى قال:

ص: 74

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أعظم الناس في الصلاة ثوابا أبعدها إليها ممشى و لمّا نزلت الآية و كانوا قبل ذلك ناوين النقلة ظلّوا في دورهم ثابتين فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه يكتب خطوتكم و يثيبكم عليه فألزموا بيوتكم.

[وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي و أحصينا و عدّدنا كلّ شي ء من الحوادث في كتاب مبين ظاهر لا يدرس أثره و هو اللوح المحفوظ و الوجه في إحصاء ذلك اعتبار الملائكة به إذ قابلوا به ما يحدث من الأمور ليكون فيه دلالة على معلومات اللّه سبحانه على التفصيل و قيل: أراد صحائف الأعمال و عن عليّ عليه السّلام قال: أنا و اللّه الإمام المبين ابيّن الحقّ من الباطل و ورثته من رسول اللّه.

و في المعاني عن الباقر عليه السّلام عن أبيه عن جدّه قال نزلت هذه الآية على النبيّ «وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» قام أبو بكر و عمر من مجلسهما و قالا: يا رسول اللّه هو التوراة؟ قال: لا قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا قالا: هو القرآن؟ قال: لا قالا: فما فأقبل أمير المؤمنين عليه السّلام فقال رسول اللّه: هو هذا إنّه الإمام الّذي أحصى اللّه فيه علم كلّ شي ء.

و في الاحتجاج عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث قال معاشر الناس: ما من علم إلّا علّمنيه ربّي و أنا علّمته عليّا و قد أحصاه اللّه فيّ و كلّ علم علّمت فقد أحصيته في إمام المتّقين و ما من علم إلّا علّمته عليّا (1).

[وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ] هؤلاء أضراب أي هؤلاء أمثال أي و مثّل لهم يا محمّد مثالا أو اذكر لهم مثلا «أَصْحابَ الْقَرْيَةِ» و ترك المثل و أقيم الأصحاب مقامه في الإعراب.

[إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ و هذه البلدة الأنطاكية و قيل: المعنى مثّل قومك بأصحاب القرية الأنطاكية حيث جاءهم ثلاثة رسل و لم يؤمنوا و صبر الرسل على القتل و الإيذاء و هم بعثوا على قرية و أنت بعثت على العالم فتكون تتحمّل أذاهم و مكارههم.

[إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما] فكذّبوا الرسولين قال ابن عبّاس: ضربوهما و سجنوهما [فَعَزَّزْنا] هما [بِثالِثٍ و قوّيناهما برسول ثالث و كان اسم الرسولين شمعون و يوحنّا و اسم الثالث يونس و قال ابن عبّاس: اسمهما صادق و صدوق و الثالث اسمه شلوم و قيل:

ص: 75


1- العبارة هنا مضطربة. انظر الاحتجاج: 34- 41.

إنّهم رسل عيسى و هم الحواريّون و إنّما أضافهم تعالى إلى نفسه لأنّ عيسى أرسلهم بأمره.

[فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أي قالوا: يا أهل القرية إنّ اللّه أرسلنا إليكم.

[قالُوا] يعني أهل القرية: [ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا] فلا تصلحون للرسالة كما لا نصلح نحن لها كما قال قوم محمّد هذا الكلام «أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» أي أنتم بشر مثلنا فكيف صرتم رسل اللّه و لا يجوز رجحانكم علينا [إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي ما أنتم إلّا كاذبون في ادّعائكم.

[قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ إشارة إلى أنّهم بمجرّد التكذيب لم يسأموا و لم يتركوا بل أعادوا و كرّروا القول عليهم و أكّدوه بلام التأكيد و استشهدوا بعلم اللّه في رسالتهم و إنّما قالوا ذلك بعد ما قامت الحجّة منهم بظهور المعجزة فلم يقبلوها.

قوله [وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ليس يلزمنا إلّا أداء الرسالة و ليس علينا أن نحملكم قهرا على الإيمان فإنّا لا نقدر.

[قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي قال هؤلاء الكفّار: إنّا تشأمنا بكم [لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا] عمّا تدعونه من الرسالة [لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة و قيل: معناه لنشتمنّكم [وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ .

[قالُوا] يعني الرسل: [طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي الشؤم كلّه معكم بإقامتكم على الكفر باللّه تعالى فأمّا الدعاء إلى التوحيد و عبادة اللّه ففيه غاية البركة و الخير و اليمن و قيل: معنى «طائِرُكُمْ» أي نصيبكم و حظّكم من الخير و الشرّ معكم [أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ ثمّ قال المرسلون جوابا عن قول الكفّار حيث قالوا: «لَنَرْجُمَنَّكُمْ» يعني أ تفعلون بنا ذلك و إن ذكّرتم و تبيّن لكم صدقنا و ظهر الأمر بالمعجزة و البرهان [بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ و ليس فينا ما يوجب التشأم بنا و لكنّكم قوم متجاوزون عن الحدّ في التكذيب للرسل، و الإسراف الإفساد أي أنتم تقصدون إيلام من يجب في حقّه الإكرام و المسرف هو المجاوز الحدّ بحيث يبلغ الضدّ لأنّ الواجب اتّباع الدليل فإن لم يوجد الاتّباع فلا أقلّ من أن لا يجزم بنقيضه و هم جزموا بالكفر.

ص: 76

[وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى فكان اسمه حبيب النجّار عن ابن عبّاس و جماعة من المفسّرين و كان قد آمن بالرسل عند ورودهم القرية و كان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة فلمّا بلغه أنّ قومه قد كذّبوا الرسل و همّوا بقتلهم جاء يعدو.

[قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الّذين أرسلهم اللّه إليكم و أقرّوا برسالتهم و إنّما علم هو بنبوّتهم لأنّهم لمّا دعوه قال: أ تأخذون على ذلك أجرا؟ قالوا: لا و قيل: إنّه كان به زمانة أو جذام فأبرءوه فآمن بهم عن ابن عبّاس.

و شأن القصّة أنّ عيسى عليه السّلام بعث رسولين إلى مدينة أنطاكية فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له و هو حبيب النجّار فسلّما عليه فقال الشيخ لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن. فقال:

أ معكما آية؟ قالا: نعم نشفي المريض و نبرء الأكمه و الأبرص بإذن اللّه، فقال الشيخ: إنّ لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن اللّه صحيحا ففشا الخبر في المدينة و شفى اللّه على أيديهما كثيرا من المرضى.

و كان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه فدعاهما و قال لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى جئنا ندعوك من عبادة الأوثان عبادة ما لا يسمع و لا يبصر إلى عبادة من يسمع و يبصر فقال الملك: أولنا إله سوى آلهتنا؟ قال: نعم من أوجدك و أوجد آلهتك قال: قوما حتّى أنظر في أمر كما فأخذهما الناس في السوق و ضربوهما.

و قال وهب بن منبّه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياه و لم يصلا إلى ملكها و طالت مدّة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبّرا و ذكرا اللّه فغضب الملك و أمر بحبسهما و جلّد كلّ واحد منهما مائة جلدة فلمّا كذّب الرسولان و ضربا بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريّين على أثرهما لينصرهما فدخل شمعون البلدة متنكّرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتّى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه و رضي عشرته و أنس به و أكرمه ثمّ قال له شمعون ذات يوم: أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن و ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما؟ قال الملك: حال الغضب

ص: 77

بيني و بين ذلك قال: فإن رأى الملك دعاهما حتّى نطّلع ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: اللّه الّذي خلق كلّ شي ء لا شريك له قال شمعون لهما: و ما آتاكما ربّكما؟ قالا: ما نتمنّاه فأمر الملك حتّى جاءوا بغلام مطموس العينين و موضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعو ان اللّه حتّى انشقّ موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعا حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجّب الملك فقال شمعون للملك:

أ رايت لو سألت إلهك حتّى يصنع صنيعا مثل هذا فيكون لك و لإلهك شرفا فقال الملك:

ليس لي عنك سرّ إنّ إلهنا الّذي نعبده لا يضرّ و لا ينفع ثمّ قال الملك للرسولين:

إن قدر إلهكم على إحياء ميّت آمنّا به و بكما قالا: إلهنا قادر على كلّ شي ء فقال الملك:

إنّ هاهنا ميّتا مات منذ سبعة أيّام لم ندفنه حتّى يرجع أبوه و كان غائبا فجاءوا بالميّت و قد تغيّر و أروح فجعلا يدعوان ربّهما علانية و جعل شمعون يدعو ربّه سرّا فقام الميّت و قال لهم: إنّي قد متّ منذ سبعة أيّام و ادخلت في سبعة أودية من النار و أنا احذّركم ما أنتم فيه فآمنوا باللّه فتعجّب الملك فلمّا علم شمعون أنّ قوله أثّر في الملك دعاه إلى اللّه فآمن و آمن من أهل مملكته قوم و كفر آخرون.

و قد روى مثل ذلك العيّاشيّ بإسناده إلى الثماليّ و غيره عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام إلّا أنّ في بعض الروايات: بعث اللّه الرسولين إلى أهل أنطاكية ثمّ بعث الثالث و في بعضها أنّ عيسى أوحى اللّه إليه أن يبعثهما ثمّ بعث وصيّه شمعون ليخلصهما و أنّ الميّت الّذي أحياه اللّه بدعائهما كان ابن الملك و إنّه خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له: يا بنيّ ما حالك قال: كنت ميّتا فرأيت رجلين ساجدين يسألان اللّه تعالى أن يحييني قال: يا بنيّ أفتعرفهما إذا رأيتهما قال: نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمرّ عليه رجل بعد رجل فمرّ أحدهما بعد جمع كثير فقال: هذا أحدهما ثمّ مرّ الآخر فعرفهما و أشار بيده إليهما فآمن الملك و أهل مملكته.

و قال ابن إسحاق: بل كفر الملك و أجمع هو و أهل مملكته على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا و هو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكّرهم و يدعوهم إلى طاعة الرسل.

ص: 78

قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 21 الى 30]

اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)

ثمّ ذكر سبحانه تمام الحكاية عن الرجل الّذي جاءهم من أقصى المدينة فقال:

[اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً] أي أيّها الكفّار اتّبعوا من لا يطلبون الأجر و لا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى [وَ هُمْ مُهْتَدُونَ إلى طريق الحقّ فلمّا قال هذا الكلام أخذوه و رفعوه إلى الملك فقال له الملك: أ فأنت تتّبعهم؟ فقال: [وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي و أيّ شي ء لي لم أعبد خالقي الّذي أنشأني و هداني و في الكلام إشعار بأنّ المانع مفقود و المقتضي موجود و قد وجب شكر المنعم لأنّه أنعم عليّ بالإيجاد و الهداية.

و في قوله: «فَطَرَنِي» لطيفة و هي أنّه معنى فطرني و لو أنّ معناه أنشأني و لكن مشعر بأنّه جعلني عين الفطرة الّتي فطر الناس عليها فأنا باق عليها و المراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كما ينبئ عنه قوله: [وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و في العدول من التكلّم إلى الخطاب معنى لطيف و هو إشارة إلى الخوف و الرجاء لأنّ من يكون إليه المرجع يخاف منه و يرجى و العابد عابد يعبد اللّه لكونه إلها مالكا يستحقّ العبادة سواء أنعم أو لم ينعم و قسم يعبد اللّه خوفا من المخالفة و قسم يعبد اللّه للنعمة الواصلة إليه فجعل هذا الرسول نفسه من الطبقة الاولى و جعلهم دون ذلك من الطبقة الثانية و الثالثة لأنّه علم أنّهم ليسوا قابلين أن يكونوا من الطبقة الاولى.

و هاهنا بيان و هو أنّه لم فتح الياء في قوله: «وَ ما لِيَ» و الحال أنّ الأصل

ص: 79

سكون الياء؟ قال أبو عمرو: لئلّا يكون الابتداء «ب لا أَعْبُدُ» و لكن قرأ في الباقي على الأصل كما في قوله: «ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ» (1) بسكون الياء.

و بالجملة ثمّ أنكر عبادة الأصنام فقال: [أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً] أعبدهم [إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ] أي إذا أراد اللّه إهلاكي و الإضرار بي [لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً] أي لا تدفع و لا تمنع شفاعة الأوثان عنّي شيئا أي لا شفاعة لهم فتغني و لا يخلصوني [وَ لا يُنْقِذُونِ من ذلك الضرر و الإهلاك و المكروه و في قوله: «أَ أَتَّخِذُ» إشارة إلى أنّ غيره ليس بإله لأنّ المتّخذ لا يكون إلها لأنّ المتّخذ يجدّد أمرا ما كان و إلهيّة الإله كان ثابتا في أزل الآزال.

[إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إنّي إن فعلت ذلك و أتّخذ إلها غير اللّه و أعدل إذن أكون في ضلال واضح [إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي آمنت و صدّقت بربّكم الّذي أخرجكم و خلقكم فاسمعوا قولي و اقبلوه.

و اختلف في المخاطبين في الآية قيل: الخطاب إلى الرسولين قال المفسّرون:

أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل هو على المرسلين و قال: إنّي آمنت بربّكم فاسمعوا قولي و اشهدوا لي عند اللّه و قيل: المعنى أيّها السامعون إنّي آمنت بربّكم.

ثمّ إنّ القوم لمّا سمعوا ذلك القول وطئوه بأرجلهم حتّى مات فأدخله اللّه الجنّة و هو حيّ فيها يرزق [قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ] و قيل: رجموه حتّى قتلوه و قيل: لمّا أرادوا أن يقتلوه رفعه اللّه إليه فهو في الجنّة لا يموت إلّا بفناء الدنيا و هلاك الجنّة و قيل: إنّ القوم قتلوه إلّا أنّ اللّه سبحانه أحياه و أدخله الجنّة.

فلمّا دخلها [قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي تمنّى أن يعلم قومه بما أعطاه اللّه من جزيل النعمة و الثواب ليرغبوا فيه و ليؤمنوا و لينالوا ذلك و في تفسير الثعلبيّ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين عليّ أمير المؤمنين و صاحب يس و مؤمن آل فرعون فهم الصدّيقون و أفضلهم عليّ عليه السّلام.

ص: 80


1- النمل: 20.

[وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ أي من المدخلين في الجنّة و الإكرام هو إعطاء المنزلة الرفيعة على وجه التعظيم و في هذا دلالة على نعيم القبر لأنّه إنّما قال ذلك و قومه أحياء في الدنيا و إذا جاز نعيم القبر جاز عذاب القبر فإنّ الخلاف فيهما واحد.

و كلمة «ما» في قوله: «بِما غَفَرَ لِي» مصدريّة أو أن تكون موصولة أي بالّذي غفر لي و يجوز أن يكون المعنى: بأيّ شي ء غفر لي ربّي فيكون استفهاما.

ثمّ حكى سبحانه ما أنزله بقومه من العذاب و الاستئصال فقال: [وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد قتله أو من بعد رفعه [مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ] أي الملائكة أي لم ننتصر منهم لإهلاكهم بعد قتلهم الرسل جندا كثيرا من الملائكة يقاتلونهم و المراد الإشارة إلى هلاكهم بعده سريعا على أسهل وجه و ما كان يحتاج الأمر إلى إرسال جند يهلكهم و إنّما النازل من العذاب عليهم بصيحة ملك واحد أخمدت نارهم و خربت ديارهم.

ثمّ بيّن اللّه سبحانه فقال: [إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً] أي ما كانت الواقعة إلّا صيحة قال الزمخشريّ: أصله: إن كان شي ء إلّا صيحة فكان الأصل أن يذكّر لكنّه انّث لما بعده من المفسّر و هو صيحة و واحدة تأكيد لبيان أنّ الأمر عندنا هيّن [فَإِذا هُمْ خامِدُونَ إشارة إلى سرعة الهلاك فإنّ خمودهم كان مع الصيحة و في وقتها و وصفهم بالخمود لأنّهم لمّا قتلوا حبيبا النجّار غضب اللّه عليهم فبعث جبرئيل حتّى أخذ بعضا دنا باب المدينة و كانت المدينة عظيمة ثمّ صاح بهم صيحة فماتوا دفعة عن آخرهم لا يسمع لهم حسّ كالنار إذا طفئت و سكنت أنفاسهم في أسرع وقت كما أنّ النار و السراج و الشعلة تنطفئ دفعة واحدة.

فإن قيل: إذا كانت صيحة واحدة تكفي لقوم و امّة و أهل بلدة عظيمة مثل أنطاكية من ملك واحد فكيف أنزل جنودا لم تروها من الملائكة يوم بدر مع أنّه كان ذلك الملك و هو جبرئيل مع الملائكة؟ فذلك لجلالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلّا كان تحريك ريشة واحدة من جناح ملك كان كافيا في إهلاك العالم و ما كان رسل عيسى في درجة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قوله تعالى: [يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ] أي هذا وقت الحسرة فاحضري و التنكير

ص: 81

للتكثير، و العباد هم الّذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة و ندامة عليهم و تشمل هذه الحسرة لجميع المكذّبين بالرسل و المراد أنّه تحقّقت الندامة عند تحقّق العذاب.

و هاهنا بيان و هو أنّه من المتحسّر في الآية و فيه وجوه: الأوّل أنّه لا متحسّر أصلا في الحقيقة و المقصور أنّ ذلك الوقت وقت الندامة و الحسرة لأنّ الفاعل يرفض إذا كان غير مقصود به أو القائل بقوله: «يا حَسْرَةً» هو اللّه على الاستعارة تعظيما و تهويلا للأمر فحينئذ كالألفاظ الّتي وردت في حقّ اللّه كالنسيان و الاستهزاء و أمثاله.

أو المعنى أنّه تعالى مخبر عن وقوع الندامة و الحسرة في ذلك الوقت بصورة النداء لا بصورة الإخبار و المقصود الإخبار. الثالث: المتحسّر المسلمون و الملائكة كما حكي عن حبيب النجّار أنّه لمّا قتلوه كان يقول: «اللّهم اهد قومي» و بعد ما قتلوه و ادخل الجنّة يتمنّى و كان يقول: «يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ».

قوله: [ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فبيّن سبحانه سبب الحسرة و سبب وقوع العذاب فحينئذ هذا الكلام من قول اللّه: و المعنى أنّهم حلّوا محلّ من يتحسّر عليه و عذّبوا بسبب استهزائهم بالرسل و يحتمل أن يكون من كلام حبيب و يحتمل أن يكون قوله: «يا حَسْرَةً» إلى قوله: «يَسْتَهْزِؤُنَ» من كلام القوم لمّا عاينوا العذاب قالوا: «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ» يعني على الرسل حيث لم نؤمن بهم و قتلناهم فندموا حين لم ينفعهم الندامة و معنى الحسرة أن يرتكب الإنسان أمرا ثمّ يشتدّ ندمه على ذلك الفعل ما لا نهاية له حتّى يبقى قلبه حسيرا.

قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 31 الى 35]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (35)

المعنى: ثمّ هدّد سبحانه كفّار مكّة فقال:

[أَ لَمْ يَرَوْا] و لم يعلموا [كَمْ أَهْلَكْنا] قرنا [قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ مثل قوم عاد

ص: 82

و ثمود و غيرهم [أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ و لا يعودون في الدنيا أفلا تعترون بهم و أنّكم ستصيرون إلى مثل حالهم فانظروا ألّا تصيروا مثلهم و احذروا أن يأتيكم العذاب و الهلاك و أنتم في غفلة و غرّة. و يسمّى أهل كلّ عصر قرنا لاقترانهم في الوجود (1).

ثمّ بيّن أنّ من أهلكه اللّه هو غير متروك بل بعده حساب و عقاب و حبس و عذاب، و إن ترك من هلك لكان الموت راحة قال الشاعر:

و لو أنّا إذا متنا تركنالكان الموت راحة كلّ حيّ

و لكنّا إذا متنا بعثناو نسأل بعده عن كلّ شي ء

و قوله: [وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ و في «إن» وجهان: أحدهما أنّها مخفّفة من المثقّلة و اللام في «لَمَّا» فارقة بينها و بين النافية و «ما» زائدة مؤكّدة للمعنى فالقراءة حينئذ بالتخفيف في «لما» و ثانيهما أنّها نافية فحينئذ «لما» بمعنى «إلا» و مشدّدة. و حاصل المعنى أنّ الأمم يوم القيامة يحضرون فيقفون على ما عملوه في الدنيا من الماضين و الباقين مبعوثون للحساب و الجزاء.

ثمّ قال: [وَ آيَةٌ لَهُمُ أي و حجّة و دلالة قاطعة لهم على قدرتنا على البعث [الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها] أي الأرض القحطة المجدبة الّتي لا تنبت أحييناها بالنبات [وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا] أي كلّ حبّ يتقوّتونه مثل الحنطة و الشعير و الأرز و غيرها من الحبوب [فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ و من ذلك الحبّ يأكلون و ينتفعون.

[وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ في الأرض بساتين [مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ و إنّما خصّ النوعين لكثرة منافعهما و أنواعهما [وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أي و فجّرنا في تلك الأرض الميتة أو في تلك الجنّات عيونا من الماء ليسقوا بها الكرم و النخيل.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه إنّما فعل ذلك [لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ من ثمر النخيل، و عود الضمير إلى أحد المذكورين لحصول العلم بأنّ الأعناب في حكم النخيل كما قال سبحانه:

«وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (2) و ترك الذهب حيث الإرجاع في الضمير به و قيل: الضمير

ص: 83


1- كذا قال الراغب في المفردات، و قيل فيه وجوه أخر.
2- وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية. التوبة: 35.

عائد إلى اللّه أي ليأكلوا من ثمر اللّه لأنّ سبب وجود الثمار ليس إلّا باللّه و إرادته و يمكن أن يكون الضمير عائد إلى التفجير أي و فجّرنا فيها من العيون تفجيرا ليأكلوا ثمر ذلك التفجير.

قوله: [وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قيل: إنّ «ما» نافية أي تلك الثمار ما عملته أيديهم بل نحن الزارعون و اللّه أثمر النخل و أنبت البقل و قيل: «ما» موصولة فإنّه قال: و الّذي عملته أيديهم من الغراس بعد التفجير و من السقاية و أمثالها و قيل: «ما» مصدريّة أي ليأكلوا من ثمره و عمل أيديهم يعني يغرسون و اللّه ينبتها و يخلق ثمرها فيأكلون مجموع عمل أيديهم و خلق اللّه و هذا المعنى على قراءة من قرأ «و ما عملت أيديهم» و لا يجوز ذكر الهاء المفعول على هذا المعنى و مع هذه النعم العديدة و القدرة الكاملة [أَ فَلا يَشْكُرُونَ منعمهم و خالقهم.

قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 36 الى 40]

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

لفظة «سُبْحانَ» علم دالّ على التسبيح و تقديره: اسبّح تسبيحا للّذي خلق أصناف الأشياء.

و وجه تعلّق الآية بما قبلها هو أنّه لمّا قال: «أَ فَلا يَشْكُرُونَ» و هم تركوه و عبدوا غيره فقال:

[سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ و غيره لم يخلق شيئا و قد خلق سبحانه الأصناف و الأشكال من الأشياء فالحيوان على مشاكلة الذّكر للأنثى و كذلك النخل و الحبوب أشكال فلذلك قال: [مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من سائر النبات [وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي و خلق منهم أولاد أزواجا ذكورا و إناثا [وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ ممّا في بطون الأرض و قعر البحار و لم يشاهدوه و لم يتّصل خبره بهم.

ص: 84

[وَ آيَةٌ لَهُمُ و دلالة اخرى لهم [اللَّيْلُ نَسْلَخُ و ننزع من الليل [النَّهارَ] و نخرج ضوء الشمس و المراد من النهار الضوء أي نضمحلّ الضوء و نسلبه فيبقى الهواء مظلما كما كان لأنّ اللّه يضي ء الهواء بضياء الشمس فإذا سلخ منه الضياء كشط و ازيل يبقى مظلما.

و قيل: إنّما قال سبحانه «نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ» لأنّه تعالى جعل الليل كالجسم لظلمته و جعل النهار كالجلد و القشر و هو عارض فالنهار كالكسوة و الليلة أصل فهو كالجسم فإذا تميّز و انتزع منه الضوء [فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي داخلون في ظلام الليل لا ضياء لهم فيه.

[وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها] أي و دلالة اخرى لهم الشمس أي إنّها تجري لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا فلا تزال تجري حتّى تنقضي الدنيا و قرئ «لا مستقرّ لها» و المعنى واحد أي لا قرار لها إلى انقضاء الدنيا و يمكن أن يكون اللام للوقت و السبب نحو «لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» فالجري بسبب حصول الوقت و قيل: معناه أنّها تجري لوقت واحد لا تعدوه و لا يختلف. أو المعنى أنّها تجري إلى أقصى منازلها في الشتاء و الصيف لا يتجاوزها و لها في الارتفاع غاية لا تنقطع دونها و في الهبوط غاية لا يتجاوزها و لا تقصر عنها فمستقرّها [ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ] القادر الّذي لا يعجزه شي ء [الْعَلِيمِ الّذي لا يخفى عليه.

و هاهنا بيان و هو أنّ المكان يدفع شبه الفلاسفة و الزمان يدفع شبه المشبّهة.

أمّا بيان الأوّل و هو أنّ الفلسفيّ يقول: لو كان عدم العالم قبل وجوده لكان عند فرض عدم العالم قبل، و قبل و بعد لا يتحقّق إلّا بالزمان فقبل العالم زمان و الزمان من جملة العالم فيلزم وجود الشي ء عند عدمه و هو محال فنقول: إنّه قد وافقتمونا على أنّ الأمكنة متناهية لأنّ الأبعاد متناهية بالاتّفاق فإذن فوق السطح الأعلى من العالم يكون عدما و هو موصوف بالفوقيّة و فوق و تحت لا يتحقّق إلّا بالمكان ففوق العالم مكان و المكان من العالم فيلزم وجود الشي ء عند عدمه فإن قالوا: فوق السطح الأعلى لا خلأ و لا ملأ نقول: قبل وجود العالم لا آن و لا زمان موجود.

و أمّا بيان الثاني فلأنّ المشبّه يقول: لا يمكن وجود موجود إلّا في مكان فاللّه في

ص: 85

مكان فنقول: فيلزمكم أن تقولوا: اللّه في زمان لأنّ الوهم كما لا يمكنه أن يقول: هو موجود و لا مكان لا يمكنه أن يقول: هو كان موجودا و لا زمان و كلّ زمان فهو حادث و قد أجمعنا على أنّ اللّه قديم.

قوله تعالى: [وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أي و قدّرنا و عيّنّا للقمر مجاري و منازل أي جعلنا القمر ذا منازل حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و هي ثمانية و عشرون منزلا ينزل كلّ يوم و ليلة منزلا منها لا يختلف حاله إلى أن يقطع الفلك إلى أن يعود في آخر الشهر دقيقا كالعذق اليابس العتيق المعوجّ المقوّس ثمّ يخفى يومين آخر الشهر.

و شبّهه سبحانه بالعذق لأنّه إذا مضى على العذق أيّام جفّ و يقوّس فيكون أشبه الأشياء بالهلال و الهلال به و الغالب أنّ العذق يصير كذلك و يتقوّس إذا مضى عليه ستّة أشهر.

و روى عليّ بن إبراهيم بإسناده قال: دخل أبو سعيد المكاري- و كان واقفيّا- على أبي الحسن الرضا عليه السّلام فقال: أبلغ من قدرك أنّك تدّعي ما ادّعاه أبوك فقال له أبو الحسن: مالك أطفأ اللّه نورك و أدخل الفقر بيتك أما علمت أنّ اللّه سبحانه أوحى إلى عمران إنّي واهب لك ذكرا يبرأ الأكمه و الأبرص فوهب له مريم و وهب لمريم عيسى فعيسى من مريم و مريم من عيسى و عيسى و مريم شي ء واحد و أنا من أبي و أبي منّي فقال له أبو سعيد:

فأسألك عن مسألة قال: سل و لا إخالك تقبل منّي و لست من غنمي و لكن هلمّها قال: ما تقول في رجل قال عند موته: كلّ مملوك لي قديم فهو حرّ لوجه اللّه؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام:

ما ملكه لستّة أشهر فهو قديم و هو حرّ قال: و كيف صار كذلك؟ قال: لأنّ اللّه يقول:

«وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» سمّاه اللّه قديما و يعود العرجون كذلك لستّة أشهر قال: فخرج أبو سعيد من عنده و ذهب بصره و كان يسأل على الأبواب حتّى مات.

قوله تعالى: [لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ] في سرعة سير القمر لأنّ الشمس أبطأ سيرا من القمر فإنّ الشمس تقطع منازلها في سنة و القمر يقطعها في شهر فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر و خلقهما على وفق الحكمة و جعل لكلّ منهما و من الكواكب مطالع

ص: 86

و مجاري مخصوصة متعيّنة فالشمس لم تكن تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر و إلّا لكان في شهر واحد صيف و شتاء فحينئذ لا تدرك الثمار و لا تنضج.

[وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ] و لا يسبق الليل النهار و لا يجتمع ليلتان ليس بينهما يوم بل يتعاقبان [وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي و كلّ من الشمس و القمر و النجوم و ذكر الشمس و القمر مشعر بالكواكب و النون عوض عن الضمير الّذي ذكر الشمس و القمر يشعر بوجود الضمير. في فلك يسيرون بانبساط و سهولة و كلّ ما انبسط في شي ء فقد سبح فيه و منه السباحة في الماء.

و إنّما قال: «يَسْبَحُونَ» بالواو و النون لما أضاف إليها فعل مثل الآدميّين و وصفها بصفة من يعقل كما قال: «ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ» قال ابن عبّاس: تدور كما تدور الغزل في الفلكة.

و يستنبط من بعض الأخبار كما ورد عن الرضا عليه السّلام أنّ النهار خلق قبل الليل (1).

قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 41 الى 50]

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)

ثمّ امتنّ اللّه على خلقه بذكر فنون نعمه دالّا بذلك على وحدانيّته فقال:

[وَ آيَةٌ] و حجّة و علامة لهم على اقتدارنا [أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي آباءهم و أجدادهم الّذين هؤلاء من نسلهم و انتشر منهم خلق كثير و تسمّى الآباء

ص: 87


1- راجع مجمع البيان.

«ذرية» من ذرء اللّه الخلق لأنّ الأبناء و الأولاد خلقوا منهم و سمّي الأولاد ذرّيّة لأنّهم خلقوا من الآباء و قيل: الذرّيّة هم الصبيان و النساء و خصّ الذرّيّة بالذكر في السفينة مع أنّ الآباء أيضا حملوا لضعفهم و لأنّه لا قوّة لهم على السفر كقوّة الرجال.

«فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» أي سفينة نوح المملوّة من الناس و ما يحتاج إليه من فيها فسلموا من الغرق و الفلك السفينة لأنّ السفينة تدور في الماء و منه الفلك لأنّها تدور بالنجوم و فلك ثدي المرأة إذا استدار.

[وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ* وَ إِنْ نَشَأْ] إذا حملناهم في السفن [نُغْرِقْهُمْ بتهييج الرياح و الأمواج [فَلا صَرِيخَ و لا مغيث [لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ و لا يخلصون من الغرق.

و هاهنا بيان لغويّ صرفيّ و هو أنّه جعل الفلك تارة جمعا مثل قوله: «وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ» (1) و اخرى فردا مثل قوله: «فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» و هذا ليس من قبيل لفظ المشترك الّذي وضعت بحركة واحدة لمعنيين بل الحركة الأصليّة في المعنيين مختلفة و لكن في الصورة متّحدة مثلها قولك: سجد يسجد سجودا للمصدر و هم قوم سجود في جمع ساجد نظنّ أنّها كلمة واحدة لمعنيين و ليس كذلك بل السجود عند كونه مصدرا حركة أصليّة و حركة السجود عند كونه للجمع حركة متغيّرة حيث إنّ الجمع يشتقّ من الواحد و هو ساجد و لا بدّ أن يلحق المشتقّ تغيير في الحركة أو في الحروف أو في مجموعها فساجد لمّا أردنا أن نشتقّ منه لفظ جمع غيّرناه و جئنا بلفظ السجود إذا عرفت هذا فالفلك عند كونه واحدا مثل «قفل» و عند كونها جمعا مثل «خشب» فإذا استعملت الكلمة بمعنى الجمع فيكون واحدها فلكة انتهى.

[وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ أي و خلقنا لهم من مثل سفينة نوح سفنا يركبون فيها هؤلاء كما ركب أولئك و المراد السفن الّتى عملت بعد سفينة نوح على صورتها و شكلها و حاصل المعنى أنّ خلقنا لهؤلاء مثل ما خلقنا للمتقدّمين منهم و «من» في قوله: «مِنْ مِثْلِهِ» قيل: صلة زائدة مثل ما جاءني من أحد لكن سيبويه يقول «من» لا تقع

ص: 88


1- النحل: 14.

صلة إلّا بعد النفي لكن هي مبيّنة و قيل: المراد و خلقنا ممّا يماثل الفلك ما يركبون من الإبل فإنّها سفائن البرّ و قيل: ممّا يماثل السفينة المراد الحمولة من الدوابّ كالإبل و البقر و الحمير و إنّما جعلها مخلوقة للّه مع كونها من مصنوعات العباد ليس لمجرّد كون صنعهم بإقدار اللّه و إلهامه بل لمزيد اختصاص أصلها بحكمته و قدرته كما يعرب عن هذا المعنى قوله: «وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا» (1).

قوله تعالى: «وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ* إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ» أي لا يغاثون و لا ينقذون «إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا» فيمن علم اللّه منه أنّه مؤمن أو سيؤمن أو ننقذهم للتمتّع زمانا قليلا في الدنيا و نمتّعه إلى حين قدّرناه لتقضي آجالهم.

[وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ أي للمشركين [اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ من أمر الآخرة و اعملوا لها [وَ ما خَلْفَكُمْ من أمر الدنيا و احذروها و لا تغترّوا بها أو اتّقوا ما مضى من الذنوب و ما تأتى من الذنوب بالتوبة للماضي و الاجتناب للمستقبل و قيل: معناه: اتّقوا العذاب المنزل على الأمم الماضية و ما خلفكم من العذاب الآخرة و جواب «إِذا قِيلَ لَهُمُ» محذوف أي إذا قيل لهم اتّقوا لعلّكم ترحمون لا يتّقون و يعرضون و يدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى: [وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أي أعرضوا عن التفكّر في الحجج و المعجزات و «من» في قوله: «مِنْ آيَةٍ» هي الّتي تزاد بعد النفي للتأكيد و الاستغراق و من الثانية للتبعيض أي ليس تأتيهم آية إلّا أعرضوا عنها و ذلك سبيل من ضلّ الهدى و خسر الآخرة.

[وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أيضا [أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في طاعته و أخرجوا من أموالكم ما أوجب اللّه عليكم [قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ أي احتجّوا في منع الإنفاق و الحقوق بأن قالوا: كيف نطعم من يقدر اللّه على إطعامه و لو شاء اللّه إطعامه أطعمه فإذا لم يطعم دلّ على أنّه لم يشأ إطعامه.

و اختلف في هؤلاء القائلين: فقيل: هم اليهود حين أمروا بإطعام الفقراء و قيل:

هم مشركو قريش قال لهم أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أطعمونا من أموالكم ما

ص: 89


1- هود: 37.

زعمتم أنّه للّه و ذلك قوله: «هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ» (1) و قيل: هم الزنادقة من الناس الّذين أنكروا الصانع تعلّقوا بقوله: «رَزَقَكُمُ اللَّهُ» فقالوا: إن كان هو الرازق فلا فائدة في التماس الرزق منّا و قد رزقنا و حرّمكم فلم تأمرون بإعطاء من حرمه اللّه؟

[إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ هذا من بقيّة قول الكفّار لمن أمرهم بالإطعام.

و قيل: إنّه من قول اللّه حين ردّوا هذا الجواب.

[وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ] الّذي تعدنا به نزول العذاب بنا [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنت و أصحابك و هذا استهزاء منهم بخبر النبيّ و خبر المؤمنين.

فقال تعالى في جوابهم: [ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً] أى ما ينتظرون إلّا صيحة واحدة يريد النفخة الاولى عن ابن عبّاس، أي إنّ القيامة تأتيهم بغتة [تَأْخُذُهُمْ الصيحة [وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ أي يختصمون و يتناظرون في الأسواق و في الحديث: تقوم الساعة و الرجلان قد نشروا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم الساعة و الرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم الساعة و الرجل يليط حوضه ليسقي إبله و ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم و قيل: و هم يختصمون هل ينزل بهم العذاب أم لا؟

فإن قيل: إنّهم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها.

فالجواب أنّ الانتظار فعليّ لأنّهم كانوا يفعلون ما يستحقّون به البوار و تقريب الساعة و العذاب. و التنكير في الصيحة لبيان عظمتها و هولها كقولك: إنّ لفلان مالا أي كثير عظيم و قوله: «واحِدَةً» للتأكيد و المبالغة في شدّة الصيحة أي لا يحتاج معها إلى ثانية و تأخذهم و تعمّهم بالأخذ و تصل إلى من في المشارق و المغارب.

[فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ فبيّن اللّه سبحانه شدّة الأخذ بحيث لا يمهلهم إلى أن لا يتمكّنوا من الوصيّة، و التوصية بالقول و القول يوجد أسرع ممّا يوجد الفعل كأنّه قال سبحانه: لا يستطيعون كلمة فكيف فعلا يحتاج إليه زمان معتدّ به من أداء الواجبات و ردّ المظالم؟

و لفظ التوصية ذكر في الآية لبيان أنّه لا قدرة له على أهمّ الأمور فإنّ وقت الموت

ص: 90


1- الانعام: 136.

الحاجة إلى الوصيّة أقدم من كلّ الأمور و التنكير في التوصية للتعمّم و لأنّ التوصية قد يحصل بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها و الحاصل أنّ الساعة إذا أخذتهم بغتة لم يقدروا على الإيصاء بشي ء و لا يقدرون إلى الرجوع إلى أهليهم.

ثمّ بيّن سبحانه ما بعد الصيحة فقال:

[سورة يس (36): الآيات 51 الى 60]

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55)

هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)

أخبر اللّه عن النفخة الثانية و ما يلقونه فيها إذا بعثوا بعد الموت فقال:

[وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ] فإن قيل: إنّ في هذا الموضع يقول: [فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ و في موضع آخر «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» (1) و القيام غير النسلان و قوله: في الموضعين «فَإِذا هُمْ»* يقتضي أن يكونا معا فالجواب أنّ القيام لا ينافي المشي السريع و لا ينافي النظر و الماشي قائم أو أنّ المواضع كثيرة أو أنّ لسرعة الأمور كان الكلّ في زمان واحد كقول امرئ القيس:

«مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا» . و بالجملة فصارت النفختان مؤثّرتين في أمرين متضادّين الإحياء و الإماتة و الصوت الهائل يزلزل الأجسام فعند الحياة لمّا كانت الأجزاء مجتمعة فزلزلها فحصل فيها تفريق و أمّا حالة الموت كانت الأجزاء متفرّقة فزلزلها فحصل فيها اجتماع فعند

ص: 91


1- الزمر: 68.

الاجتماع تتفرّق و عند الافتراق تجتمع.

فائدة: اعلم أنّ «إذا» الّتي للمفاجاة هي «إذا» الّتي للظرف لكنّ الشي ء قد يكون ظرفا للشي ء معلوما كونه ظرفا فعند الكلام يعلم كونه ظرفا و عند المشاهدة لا يتجدّد علم كقول القائل: إذا طلعت الشمس أضاء الجوّ و إذا رأى إضاءة الجوّ عند الطلوع لم يتجدّد علم زائد و أمّا إذا قلت: خرجت فإذا أسد بالباب كان ذلك الوقت ظرف كون الأسد بالباب لكنّه لم يكن معلوما فإذا رآه علمه فحصل العلم بكونه ظرفا مفاجاة عند الإحساس فقيل: «إذا» للمفاجاة.

مسألة فلو قيل: أين يكون ذلك الوقت أجداث و قد زلزلت الصيحة الجبال؟ و ذلك بأن يجمع اللّه الأجزاء كلّ واحد في الموضع الّذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع و هو جدثه.

و في الآية إشعار بكمال القدرة حيث إنّه في زمان واحد يجتمعون و ينسلون إلى الموضع الّذي يحكم اللّه فيه و لا حكم لغيره سراعا فلمّا رأوا أهوال القيامة [قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا] أي يقولون: «يا ويلنا» و قرئ «يا ويلتنا» أي كلّ واحد منهم يقول: يا ويل احضر فهذا أوان حضورك و قرئ من أهبّنا من هبّ من نومه إذا انتبه و إنّما يقولون: «مِنْ مَرْقَدِنا» مع أنّهم كانوا معذّبين في القبر فكيف قالوا «مِنْ مَرْقَدِنا»؟

قيل: إنّ للكفّار هجعة بين النفختين و يرفع اللّه العذاب عنهم بين النفختين فيرقدون و يجدون فيها طعم النوم فإذا بعثوا بالنفخة الثانية و شاهدوا أهوال القيامة دعوا بالويل و الثبور و قالوا ذلك أو أنّهم لكثرة ما يشاهدون من الأهوال يختلط عقولهم يظنّون أنّهم كانوا نياما و قيل: إذا عاينوا جهنّم و ما فيها من أنواع العذاب يصير عندهم عذاب القبر في جنبها مثل النوم فيقولون ذلك.

و قرئ «من بعثنا» بمن الجارّة و المصدر. و «المرقد» إمّا مصدر أي رقادنا أو اسم مكان أريد به الجنس أي المراقد و القبور.

ثمّ يقولون: [هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ فيما أخبرونا عن هذا المقام و هذا البعث قال قتادة: أوّل الآية من قول الكافرين و آخرها للمسلمين: قال الكافرون:

ص: 92

«يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» و قال المسلمون: «هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ».

ثمّ أخبر سبحانه عن سرعة بعثهم فقال: [إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً] أي لم تكن المدّة و النفخة إلّا مدّة صيحة واحدة [فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي فإذا الأوّلون و الآخرون مجموعون في عرصات القيامة محصورون في موقف الحساب و قوله: «مُحْضَرُونَ» يدلّ على أنّ كونهم ينسلون إجباريّ لا اختياريّ.

ثمّ بيّن سبحانه ما يكون في ذلك اليوم بقوله: [فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فقوله: «لا تُظْلَمُ نَفْسٌ» ليأمن المؤمن «وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» لييأس الكافر و المعنى أنّه لا ينقص من له حقّ شيئا من حقّه من الثواب و العوض بل الأمور جارية على مقتضى العدل.

ثمّ ذكر سبحانه حال أوليائه فقال: [إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ شغلهم النعيم عن أهوال القيامة و غمرهم سرورهم عمّا فيه أهل النار من العذاب و أنّ أهل العذاب أقاربهم قال ابن عبّاس: شغلوا بافتضاض العذارى و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام قال: و حواجبهنّ كالأهلّة و أشفار أعينهنّ كقوادم النسور (1) و قيل: باستماع الألحان مشغولون.

و قيل: شغلهم في الجنّة سبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء فثواب الرجل بقوله: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» (2) و ثواب اليد «يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها» (3) و ثواب الفرج «وَ حُورٌ عِينٌ» و ثواب البطن «كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً»* الآية، و ثواب الأذن «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً»* (4) يسمعون أصوات المطربة و ثواب العين «وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ» (5) فاكهون فرحون و الفكه الطيّب النفس الضحوك فظهور البشر في الوجه

ص: 93


1- القوادم: الريشات التي في مقدم الجناح و هي كبارها و النسور جمع نسر: الطائر المعروف.
2- الحجر: 46.
3- الطور: 23- 19.
4- - الواقعة: 22- 62.
5- الزخرف: 81.

و الجبهة يقال: رجل فكه و فاكه و لم يسمع لهذا فعل في الثلاثيّ أو مأخوذ من الفكاهة فهو كناية عن الأحاديث الطيّبة و قيل: «فاكِهُونَ» أي ذوو فكاهة كما يقال: لاحم و شاحم أي ذو لحم و شحم.

قوله: [هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ هم و حلائلهم في الدنيا ممّن وافقهم على إيمانهم في أستارهم من الظلال الّتي لا حرّ فيها و لا برد و قيل: المراد من الأزواج اللّاتي زوّجهم اللّه من الحور العين في ظلال أشجار الجنّة أي في ظلال تسترهم من نظر العيون إليهم [عَلَى الْأَرائِكِ و هي السرر و عليها الحجال و قيل: هي الوسائد [مُتَّكِؤُنَ عليها و جالسون جلوس الملوك إذ ليس عليهم من الأعمال شي ء و كلّما اتّكئ عليه فهو أريكة و الجمع «أرائك».

[لَهُمْ فِيها] أي في الجنّة [فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي ما يتمنّون و يشتهون و «ما» موصولة أو موصوفة و يدعون يفتعلون من الدعاء عبّر بها عن مدعوّ عظيم الشأن أي كلّ ما يدعونه حاصل لهم قال أبو عبيدة: يقول العرب: ادّع عليّ ما شئت أي تمنّ عليّ.

ثمّ بيّن سبحانه ما يشتهون فقال: [سَلامٌ أي لهم سلام و منى أهل الجنّة أن يسلم اللّه عليهم [قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ و سلام بدل من «ما يَدَّعُونَ» كأنّه لمّا قال:

«لَهُمْ ما يَدَّعُونَ» بيّنه ببدله فقال: «لهم سلام» فيكون في المعنى «سلام» كالمبتدء الّذي خبره «لهم» كما يقال: لزيد مال أو سلام خبر لمبتدء محذوف و المعنى ما يدّعونه لهم و هو سلام يقال لهم.

[قَوْلًا] كائنا من واسطته تعالى و من جهة لطفه و إكرامه إمّا بواسطة الملك أو بدونها مبالغة في تكريمهم قال ابن عبّاس: و الملائكة يدخلون عليهم بالتحيّة من ربّ رحيم.

ثمّ ذكر سبحانه أهل النار فقال: [وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي يقال لهم: انفصلوا و اعتزلوا معاشر العصاة و الكفرة من جملة المؤمنين و كونوا على حدة قيل:

إنّ لكلّ كافر بيتا في النار يدخل فيه فيردم و يسدّ بابه لا يرى و لا يرى.

ص: 94

ثمّ خصّهم بالتوبيخ فقال: [أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ألم أنهاكم على ألسنة الأنبياء و الرسل في الكتب المنزلة أن لا تطيعوا الشيطان فيما يأمركم به و قلت لكم: [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة عليكم.

و في هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يخلق عبادة الشيطان لأنّه حذّر عباده عن عبادته و وبّخ عليه و لا يجور أن يوبّخ ما خلقه.

قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 61 الى 65]

وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)

ثمّ بيّن سبحانه ما يقوله للكفّار يوم القيامة [وَ أَنِ اعْبُدُونِي فوصف عبادته بأنّه طريق مستقيم من حيث كان طريقا إلى الجنّة و ذكر عداوة الشيطان لبني آدم فقال:

[وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً] أي أضلّ الشيطان خلقا كثيرا منكم بأن دعاهم و أغواهم و حملهم على الضلال [أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ أنّه يغويكم و يصدّكم عن الحقّ فتنبّهون و صورة الكلام صورة الاستفهام و معناه الإنكار عليهم و التبكيت لهم.

و في هذا بطلان مذهب أهل الجبر في أنّ اللّه لم يرد إضلالهم لأنّه سبحانه أنكر إضلال الشيطان إيّاهم و وبّخهم على متابعتهم إيّاه.

و هاهنا بيان و هو أنّه إن دعتك نفسك إلى فعل فانظر أهو مأذون فيه أو ممنوع عنه و النظر في هذا الأمر لا بدّ و أن يكون من جهة الشرع و من بيان الشارع فإن لم تكن مأذونا فيه فنفسك هي الشيطان أو معها الشيطان يدعوك فإن اتّبعته فقد عبدته ثمّ إنّ الشيطان يأمر أوّلا بمخالفة اللّه ظاهرا فمن أطاعه فقد عبده و من لم يطعه فلا يرجع عنه بل يقول له: اعبد اللّه كي تكون عزيزا عند الناس و ليرتفع شأنك عندهم و ينتفع بك إخوانك و أعوانك و ذلك لأنّ غرضه اللعين أن يفسد عملك و ينتزعه عن القربة و يدخله في الشرك و يجعله هباء منثورا و أنت بزعمك أنّك عبدت اللّه فهذا نوع من عبادة الشيطان و إطاعته و نوع آخر أن يحملك على المعاصي و ذلك أيضا على تفاوت

ص: 95

فمن المعاصي ما يقع و العامل فيه موافق جنانه و لسانه و أركانه و منها ما يقع و الجنان و اللسان مخالف للجوارح و يرتكب جريمة كارها بقلبه لما يقترف من ذنبه مستغفرا لربّه يعترف بسوء ما يقترف فهو أيضا عبادة الشيطان بالأعضاء الظاهرة و متى كان العاصي منزجرا مستكرها بالقلب فهو مصداق الحديث النبويّ حيث قال قال اللّه: لو لم تذنبوا لخلقت أقواما يذنبون و يستغفرون فأغفر لهم.

إذا عرفت هذا فالطاعة الّتي تقع بالأعضاء الظاهرة للشيطان إذا كانت البواطن طاهرة فمكفّرة بالأسقام و الآلام كما ورد في الأخبار و من ذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الحمّى من فيح جهنّم و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: السيف محاء للذنوب أي لمثل هذه الذنوب و يدلّ عليه ما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الحدود أنّها كفّارات و ما يكون بالقلوب فلا خلاص عنه إلّا بالتوبة و الندم و إقبال القلب على الربّ فالقلب أمير و اللسان خاصّته و الأعضاء خدمه فما يصدر من القلب فهو العظيم من الذنب لأنّه أعرض عن اللّه و أقبل على محبّة غير اللّه فهو المستعقب للعقاب الأليم و العمدة في سبب عداوة إبليس لآدم تكرمة آدم فحسده و شقاوة إبليس بسبب ترك السجود لآدم فإذا كان الشيطان للإنسان عدوّا مبينا فما بال الإنسان يميل إلى مراضيه من الشراب و الزنا و يكره مساخطه من العبادة و المجاهدة و السبب أنّ اللعين يستولي على الإنسان بمعونة من نفس الإنسان و ترك الإنسان الاستعانة باللّه فيستعين الشيطان بشهوة الّتي خلقها تعالى فيه لجواز التكليف و لمصالح بقائه و بقاء نوعه و الجاهل يجعلها سببا لفساد حاله و تتقوّى الشيطان بالدعوة بها إلى مسالك المهالك كما أنّ اللعين يستعين بغضبه الّذي خلقه اللّه فيه لدفع المفاسد عنه فيجعله سببا لوباله و فساد أحواله و ميل الإنسان إلى المعاصي كميل المريض إلى المضارّ فترى المحموم يريد الماء البارد و هو يزيد في مرضه و صحيح المزاج و العاقل لا يشتهي إلّا ما ينفعه فالدنيا كالهواء الوبي ء لا يستغني الإنسان عن الاستنشاق و هو المفسد لمزاجه و لا طريق له في الاستخلاص إلّا الاستصلاح بالهواء الطيّب و الروائح العطرة و الرشّ بالخلّ و الماورد فكذلك طريقة الإصلاح في الدنيا ترك استنشاق الهواء الوبي ء الّذي هو الشيطان، و ترك هوى النفس الّذي يعين عدوّ اللّه و تحريف الهوى بالتذكّر و الذكر الطيّب الّذي هو بمنزلة الخلّ و العطر لفساد

ص: 96

الهواء، فإذا صحّ مزاجه فحينئذ لا يميل إلّا إلى الحقّ و يحصل له مع العبادة الفة فهنالك يعترف الشيطان بأنّه ليس له عليه سلطان و لا يكون من حزب الضالّين بل من المفلحين.

مسألة: في الجبلّ ستّة لغات: كسر الجيم و الباء مع تشديد اللام و ضمّهما مع التشديد و كسرهما مع التخفيف و ضمّهما مع التخفيف و تسكين الباء و تخفيف اللام مع ضمّ الجيم و مع كسره و في معنى الجبلّ الجيم و الباء و اللام لا يخلو عن معنى الاجتماع و الجبلّ فيه اجتماع الأجسام الكثيرة فالمراد من الجبلّة الجمع العظيم انتهى.

قوله تعالى: [هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بيّن سبحانه مآل أهل الضلال يخاطبون بعد التوبيخ و يقال لهم: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» و ذلك عند إشرافهم على شفير جهنّم أي كنتم توعدونها على ألسنة الرسل بمقابلة عبادة الشيطان.

[اصْلَوْهَا الْيَوْمَ أمر إهانة و تنكيل كقوله: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» (1) أي ادخلوها و قاسوا فنون عذابها و أصل الصلاء اللزوم و منه المصلّي الّذي يجي ء في أثر السابق للزومه أثره و قيل: معناه: صيروا صلاها أي وقودها بما كنتم تكفرون جزاء على كفركم باللّه و تكذيبكم أنبياء اللّه.

[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ و المراد الختم حقيقة يوضع على أفواه الكفّار يوم القيامة فلا يقدرون على النطق [وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ أي تستنطق الأعضاء الّتي لا تنطق في الدنيا لتشهد عليهم.

و اختلف في كيفيّة الشهادة من الجوارح على وجوه: أحدها أنّ اللّه يجعلها خلقة يمكن أن تتكلّم و تعترف بذنوبها. و ثانيها أنّ اللّه يجعل فيها كلاما و إنّما نسب الكلام إليها لأنّه لا يظهر إلّا من جهتها. و ثالثها أنّ اللّه يجعل فيها آيات دالّة على أنّ أصحابها عصوا المعاصي فسمّي ذلك شهادة منها كما يقال: عيناك تشهدان كذا.

قوله: [بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي تنطق الأعضاء بما كسبوا في الدنيا من الذنوب فجعل اللّه الشاهد عليهم منهم.

قوله تعالى:

ص: 97


1- الدخان: 49.

[سورة يس (36): الآيات 66 الى 70]

وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ (67) وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ (68) وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)

أخبر سبحانه عن قدرته على إهلاكهم و بيان استحقاق هؤلاء الكفّار الّذين جحدوا وحدانيّته فقال:

[لَوْ نَشاءُ] عقوبتهم بما ذكر من الطمس و المسخ. و الطمس محو الشي ء حتّى يذهب أثره و لا يدرك منه شي ء و لو أردنا أن نفعل بهم ما يوجب جناياتهم المستدعية لها لطمسنا على أعينهم [فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ] يعني فأرادوا أن يستبقوا إلى الطريق الّذي اعتادوا سلوكه [فَأَنَّى يُبْصِرُونَ الطريق و كيف يتوجّهون حينئذ جهة السلوك و كيف يتردّدون إلى منازلهم لأنّه إذا طمست أعينهم لم يهتدوا إليها و قيل: المعنى «وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا» أي لأعميناهم عن الهدى «فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ» أي فطلبوا طريق الحقّ و قد عموا عنه فكيف يبصرون؟ عن ابن عبّاس.

[وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ كأنّ قائلا يقول:

الأعمى قد يهتدي بالأمارات العقليّة أو الحسّيّة غير الحسّ البصر كالأصوات و اللمس فقال:

و لو نشاء مسخناهم و سلبنا قوّتهم و غيّرنا صورهم و عذّبناهم بنوع آخر من العذاب فأقعدناهم في منازلهم ممسوخين قردة و خنازير كما فعلنا بغيرهم أو جعلناهم حجارة في منازلهم ليس فيهم أرواحهم فلم يقدروا على ذهاب و لا مجي ء و لا رجوعا إلى الخلقة الاولى بعد المسخ و هذا تهديد من اللّه لهم و المكان و المكانة واحد.

ثمّ قال سبحانه: [وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي من نطوّل عمره نصيّره بعد القوّة إلى الضعف و بعد زيادة الجسم إلى النقصان و بعد الجدة و الطراوة إلى البلى و الخلوقة فكأنّه نكس خلقه و ردّه إلى حال الهرم الّتي تشبه حال الصبى في ضعف القوّة و غروب الغلم.

[أَ فَلا يَعْقِلُونَ و يتدبّرون في أنّ اللّه يقدر على الإعادة كما قدر على ذلك و قرئ «أَ فَلا يَعْقِلُونَ» بصيغة الغائب.

ص: 98

ثمّ أخبر عن نبيّه و وصفه توكيدا لقوله: «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» فقال: [وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ] أي ما علّمناه صناعة الشعر و إنشائه [وَ ما يَنْبَغِي لَهُ أن يقول الشعر عن عند نفسه و ما يتسهّل له الشعر و ما كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتزيّن له بيت شعر حتّى أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تمثّل بيت شعر جرى على لسانه: «كفى الإسلام و الشيب للمرء ناهيا» فقال بعض الأصحاب:

يا رسول اللّه إنّما قال الشاعر: «كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا» أشهد أنّك لرسول اللّه و ما علّمك الشعر و ما ينبغي لك و عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللّه يتمثّل ببيت أخي بني قيس:

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلاو يأتيك بالأخبار من لم تزوّد

فجعل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

«و تأتيك من لم تزوّد بالأخبار» فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول اللّه فيقول: إنّي لست بشاعر و ما ينبغي لي فأمّا قوله:

«أنا النبيّ لا كذب أنا بن عبد المطّلب»

فقد قال قوم: إنّ هذا ليس بشعر و قال آخرون: إنّما هو اتّفاق منه و ليس بقصد منه إلى قول الشعر.

و قيل: إنّ معنى الآية «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ» بتعليم القرآن و ما ينبغي للقرآن أن يكون شعرا فإنّ نظمه ليس بنظم الشعر على معنى أنّ القرآن ليس بشعر فإنّ الشعر كلام متكلّف موضوع منسوج على منوال الوزن و القافية مبنيّ على خيالات واهية و مثل هذا لا يصلح للنبيّ و لا يتأتّى له لو طلبه فرضا كما جعلناه امّيّا لا يهتدي للخطّ لتكون الحجّة أثبت و الشبهة أدحض و قد صحّ أنّه كان يسمع الشعر و يحثّ عليه لكن شعر الحكمة و قال لحسّان بن ثابت: لا تزال يا حسّان مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.

[إِنْ هُوَ] أي ما الّذي أنزلناه عليه [إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ من عند ربّ العالمين ليس بشعر و لا رجز و لا خطبة و المراد بالذكر أنّه يتضمّن ذكر الحلال و الحرام و الدلالات و أخبار الأمم الماضية للاعتبار فجمع سبحانه بينها لاختلاف فائدتها [لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا] أي من كان مؤمنا لأنّ الكافر كالميّت بل أقلّ من الميّت لأنّ الميّت و إن كان لا ينتفع و لا يتضرّر لكنّ الكافر لا ينتفع بدينه و يتضرّر به و قيل: المراد من الحيّ العاقل روي ذلك عن عليّ عليه السّلام.

ص: 99

[وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ و يجب الوعيد و العذاب على الكافرين بكفرهم و كلمة «القول» كما قال تعالى: «وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ» (1) و قوله: «حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ» (2) لأنّه قال: «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (3) فلمّا وجد منهم التكذيب جاء التعذيب.

ثمّ إنّه أعاد دلائل الوحدانيّة فقال:

[سورة يس (36): الآيات 71 الى 83]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (73) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)

فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (76) أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)

أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

أي ألم يعلموا علما يقينيّا متآخم للمعاينة [أنّا] لأجلهم [خلقنا ممّا] تولّينا إحداثه بالذات من غير وليّ و ناصر و ذكر «الأيدي» استعارة يفيد المبالغة في التفرّد و الاختصاص و «اليد» في اللغة تطلق على الجارحة و القوّة و النعمة [أَنْعاماً] يعني الإبل و البقر و الغنم [فَهُمْ لَها مالِكُونَ و لو لم نخلقها لما ملكوها و لما انتفعوا بها و بألبانها و ركوب ظهورها و لحومها و قيل: المراد هم لها ضابطون لم نخلقها وحشيّة لا يقدرون على ضبطها.

[وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ و سخّرناها لتصرّفهم حتّى صارت منقادة غير نافرة [فَمِنْها رَكُوبُهُمْ

ص: 100


1- الم السجدة: 13.
2- الزمر: 71.
3- اسرى: 15.

على تقدير حذف المضاف أي ذو ركوبهم و ذو الركوب هو المركوب و يجوز أن يكون المعنى:

فمن منافعها ركوبهم و أمّا ركوبتهم فهي المركوبة كالحلوبة و الجروزة لما يحلب و يجرز [وَ مِنْها يَأْكُلُونَ قسّم الأنعام و جعل منها ما يركب و منها ما يذبح.

[وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ فمن منافعها لبس أصوافها و أوبارها و أشعارها و أكل لحومها و ركوب ظهورها [أَ فَلا يَشْكُرُونَ اللّه على هذه النعم.

ثمّ ذكر سبحانه جهلهم فقال: [وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ يعبدون تلك الآلهة لكي ينصروهم و يدفعوا عنهم عذاب اللّه [لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ يعني هذه الآلهة الّتي عبدوها لا يقدر على نصرهم و الدفع عنهم [وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي الكفّار جند للأصنام يغضبون لهم و يحضرونهم في الدنيا كالجند و هي لا تسوق إليهم خيرا و لا تدفع عنهم شرّا و قيل: المعنى أنّ هذه الآلهة معهم في النار محضرون لأن كلّ حزب مع ما عبدته من الأوثان في النار كما قال سبحانه «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» (1).

[فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ في تكذيبك [إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في ضمائرهم [وَ ما يُعْلِنُونَ بألسنتهم فنجازيهم على ذلك أي نعلم عقائدهم الفاسدة و ما يعلنون من الأفعال القبيحة.

[أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ و يعلم [أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ] و التقدير ثمّ نقلناه من النطفة إلى العلقة و من العلقة إلى المضغة و من المضغة إلى العظم و من العظم إلى أن جعلناه خلقا سويّا ثمّ جعلنا فيه الروح و أخرجناه من بطن امّه و نقلناه من حال إلى حال إلى أن كمل عقله و صار متكلّما خصيما جدليّا و ذلك قوله: [خَصِيمٌ مُبِينٌ أي ذو بيان و نطق.

و إنّما ذكر «الخصيم» مكان الناطق لأنّه أعلى أحوال الناطق لأنّ الناطق مع نفسه لا يبيّن كلامه و المتكلّم مع غيره أظهر في النطق و أبين فمن قدر على جميع ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة و هي أسهل من الإنشاء و الإبداع و لا يجوز أن يكون خلق الإنسان واقعا بالطبيعة لأنّ الطبيعة ليست بقادرة و لا حسّاسة و في حكم الموات فكيف يصلح منها الفعل و لا يجوز أن يكون الوقوع بسبب الاتّفاق لأنّ المحدث لا بدّ له من محدث

ص: 101


1- الأنبياء: 98.

قادر قبل زمان الحدوث.

و في الآية دلالة على صحّة استعمال النظر في الدين لأنّه سبحانه أقام الحجّة على قيام النشأة الثانية بوجود النشأة الاولى و ألزم من أقرّ بالأولى أن يقرّ بالثانية.

ثمّ أكّد سبحانه هذا البيان بقوله: [وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا] أي ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم البالي و فتّته بيده و يتعجّب ممّن يقول: إنّ اللّه يحييه [وَ نَسِيَ خَلْقَهُ أي و ترك النظر و التدبّر في خلق نفسه إذ خلق من نطفة.

ثمّ بيّن سبحانه قول المنكر للحشر و المتمثّل [قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ أي البالية المتفتّتة و اختلف في القائل لذلك فقيل: هو ابيّ بن خلف و هو المراد بالإنسان في الآية عن الصادق عليه السّلام و قيل: هو العاص بن وائل السهميّ و قيل: اميّة بن خلف.

ثمّ ردّ سبحانه عليه بقوله: [قُلْ لهذا المنكر من الإعادة يا محمّد: [يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ] لأنّ من قدر على الاختراع فهو قادر على الإعادة [وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ من الابتداء و الإعادة فكما خلقه و لم يكن كذلك شيئا يعيده و إن لم يبق منه شيئا مذكورا.

ثمّ زاد في بيان القدرة و أخبر من صنعه سبحانه بما هو عجيب الشأن فقال: [الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ و المراد أنّكم إذا تستبعدون الإعادة بسبب فناء و حياة سارية في الإنسان فلا تستبعدوا الإعادة لهذا السبب فإنّ النار في الشجر الأخضر الّذي يقطر منه الماء أعجب و أغرب و أنتم تشاهدون حيث منه توقدون و جعل لكم من الشجر الرطب المطفئ للنار نارا محرقة يعني بذلك الشجر المرخ و العفاروهما شجرتان يتّخذ الأعراب نارها منها فمن قدر على أن يخرج من الشجر الّذي هو في غاية الرطوبة نارا حارّة مع مضادّة النار للرطوبة و يخرج الضدّ من الضدّ فيقدر على إعادتكم قال الكلبيّ: كلّ شجر ينقدح منه النار إلّا العنّاب لكنّ العرب استمجد المرخ و العفار لكثرة هذه المادّة فيهما.

ثمّ ذكر سبحانه من خلقه ما هو أعظم من الإنسان و هو خلق السماوات و الأرض فقال: [أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ مع عظمهما و كثرة أجزائهما يقدر على إعادة البشر.

ص: 102

ثمّ أجاب فقال: [بَلى أي هو قادر على ذلك [وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ يخلق خلقا بعد خلق العالم بجميع ما خلق.

و ذكر قدرته على إيجاد الأشياء فقال: [إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فعبّر عن هذا المعنى بكلمة «كُنْ» لأنّه أبلغ في القدرة و ليس هنا قول و إنّما المراد إخبار بحدوث ما يريده تعالى و قيل: إنّما هو في التحويلات نحو قوله: «كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ»* (1) «و كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً» (2) و ما أشبه ذلك.

و لفظ الأمر على عشر أوجه: أحدها: الأمر لمن هو دونك، و الثاني: الندب كقوله:

«فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» (3)، و ثالثها: الإباحة نحو قوله: «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا» (4) «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» (5) و الرابع: الدعاء نحو «رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» (6) الخامس: الترفية كقوله: ارفق بنفسك، السادس: الشفاعة نحو قولك: شفّعني فيه، السابع: التحويل نحو «كُونُوا قِرَدَةً»* الثامن: التهديد نحو «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» (7) التاسع: الاختراع و الإحداث و الوقوع نحو قوله: «كُنْ فَيَكُونُ»* العاشر: التعجّب نحو «أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ» (8).

و بالجملة حاصل المعنى أنّه سبحانه إذا أراد فعل شي ء بمنزلة ما يقول للشي ء:

«كُنْ» فيكون في الحال كقول الشاعر:

فقالت له العينان سمعا و طاعةو حدّرتا كالدرّ لمّا يثقّب

ص: 103


1- البقرة: 65.
2- اسرى: 50.
3- النور: 33.
4- الجمعة: 10.
5- المائدة: 3.
6- الكهف: 10.
7- حم السجدة: 40.
8- مريم: 83.

و إنّما أخبر الشاعر عن سرعة دمعه دون أن يكون ذلك قولا على الحقيقة.

قوله: [فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي تنزيها عن نفي القدرة على الإعادة و غير ذلك ممّا لا يليق بصفاته الّذي بيده أي بقدرته ملك كلّ شي ء [وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة إلى حيث لا يملك الأمر و النهي أحد سواه.

تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 104

سورة و الصافات

اشارة

* (مكية)* فضلها: قال ابيّ بن كعب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من قرأ سورة الصافّات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ جنّيّ و شيطان و تباعدت عنه مردة الشيطان و برأ من الشرك و شهد له حافظاه يوم القيامة إنّه كان مؤمنا بالمرسلين.

و روى الحسين بن أبي العلاء عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ سورة الصافّات في كلّ يوم جمعة لم يزل محفوظا من كلّ آفة مدفوعا عنه كلّ بليّة في حياته الدنيا مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق و لم يصبه اللّه في ماله و لا في ولده و لا بدنه بسوء من شيطان رجيم و لا من جبّار عنيد و إن مات في يومه أو ليلته بعثه اللّه شهيدا و أماته شهيدا و أدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة.

التفسير:

اشارة

افتتح اللّه هذه السورة بمثل ما اختتم به سورة يس من ذكر التوحيد و البعث فقال:

ص: 105

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)

إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)

قرئ [وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا] بإدغام التاء في الصاد و كذلك بإدغام التاء في الزاي في «فَالزَّاجِراتِ» و كذلك بإدغام التاء في «فَالتَّالِياتِ» قالوا: إدغام هذه الحروف الثلاثة فيما يليها حسن لمقاربة الحرفين في الثلاثة.

و اعلم أنّ هذه الأشياء الثلاثة المقسم بها يحتمل أن يكون صفات للملائكة أي واقفين صفوفا إمّا في السماوات للعبادة كما أخبر اللّه عنهم أنّهم قالوا: «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ» (1) و قيل: إنّهم يصفّون أجنحتهم في الهواء منتظرين لأمر اللّه أو أنّ لكلّ واحد منهم درجة و مرتبة معيّنة في الذات و الشرف و ذلك يشبه الصفوف أو صفّ الغزاة المجاهدين في سبيل اللّه.

و أمّا قوله: [فَالزَّاجِراتِ زَجْراً] يقال: زجرت البعير إذا أحشته ليمضي و زجرت فلانا عن سوء أي نهيته ففي وصف الملائكة بالزجر قيل: المراد الملائكة الّذين وكّلوا بالسحاب يزجرونها من موضع إلى موضع و قيل: المراد منه أنّ الملائكة لهم تأثيرات في قلوب بني آدم على سبيل الإلهام فيزجرونهم عن المعاصي زجرا أو يزجرون الشياطين عن التعرّض لبني آدم بالشرّ و الإيذاء و إلقاء الهداية في قلوب البشريّة في مقابلة إغواء الشياطين و إضلالهم للبشر فقوله: «فَالزَّاجِراتِ» إشارة إلى تأثير الجواهر الملكيّة في

ص: 106


1- السورة: 169.

تنوير الأرواح القدسيّة البشريّة كما قال سبحانه: «فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً» و ذلك إشارة إلى كيفيّة تأثيراتها في إزاله ما لا ينبغي عن الأرواح البشريّة و حاصل المعنى أنّ اللّه سبحانه يوصل مفهوم زجر الملائكة إلى قلوب العباد كما يوصل مفهوم إغواء الشيطان إلى قلوبهم ليصحّ التكليف. و قيل: المراد رفع المؤمنين أصواتهم عند قراءة القرآن لأنّ الزجرة الصيحة.

قوله تعالى: [فَالتَّالِياتِ ذِكْراً] اختلف فيها أيضا أحدها أنّها الملائكة تقرء كتب اللّه تعالى و الذكر الّذي ينزل على الموحى إليه أو الكتب الّتي كتب اللّه لملائكته و فيه ذكر الحوادث فتزداد يقينا بوجود المخبر على وقوع الخبر و الثالث ذكر جماعة قرّاء القرآن من المؤمنين يتلونه في الصلاة و إنّما لم يقل: «تلوا» كما قال: «زَجْراً» لأنّ التالي قد يكون بمعنى التابع و منه قوله: «وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها» (1) فلمّا كان اللفظ مشتركا بيّنه بلفظ يزيل الإبهام.

و كلّ هذه الأمور أقسام أقسم اللّه تعالى بها أنّه واحد ليس له شريك فقال في جواب الأقسام [إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ] و اختلف في مثل هذه الأقسام فقيل: أقسام باللّه كلّها على تقدير و ربّ الصافّات و ربّ الزاجرات و ربّ التين و ربّ الزيتون.

فإن قيل: ذكر القسم أمّا للمؤمن فهو مقرّ بالتوحيد و أمّا للكافر فهو منكر و الحلف لا يكون دليلا فما الفائدة.

فالجواب أنّ القرآن نزل بلغة العرب و عندهم إثبات الأمر بالحلف و اليمين طريقة مألوفة و لو أنّه ليس بدليل لكنّه سبحانه ما اقتصر على ذكر الدليل بالحلف بل أتى بالدليل اليقينيّ في كون الإله واحدا لأنّه عقّب اليمين بالدليل بقوله:

[رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما] و النظر في انتظام العالم و خلقة دليل يقينيّ فالقسم للتأكيد و لذلك قال سبحانه: «رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما» أي خالقهما [وَ رَبُّ الْمَشارِقِ و هي مشارق الشمس و مطالعها بعدد أيّام السنة ثلاثمائة و ستّون مشرقا و المغارب كذلك يطلع كلّ يوم من مشرق و يغرب في مغرب و الشروق قبل الغروب

ص: 107


1- الليل: 2.

و لذلك قدّم في الذكر.

و يحتمل أن يكون المراد من المشارق و المغارب مشارق الكواكب و مغاربها فإنّ لكلّ كوكب مشرقا و مغربا و ذكر المشارق يغني عن ذكر المغارب كقوله «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» (1) على أنّ الشروق أكثر نفعا من الغروب.

[إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا] الّتي هي أقرب السماوات إلينا و إنّما خصّها بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة [بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ قرئ «بِزِينَةٍ» منوّنة «الْكَواكِبِ» بالجرّ و هو ردّ معرفة على نكرة مثل «بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ» و الكواكب بدل من الزينة مثل قولك:

مررت بأبي عبد اللّه زيد و قرأ عاصم بالتنوين في الزينة و نصب الكواكب يريد زيّنّا الكواكب قال الزجّاج: يجوز أن تكون «الكواكب» في النصب بدلا من قوله: «بِزِينَةٍ» لأنّ «بِزِينَةٍ» في موضع النصب و قرأ الباقون «بزينة الكواكب» بالجرّ على الإضافة من غير تنوين «الزينة».

و الحاصل أنّه سبحانه بيّن أنّه زيّن سماء الدنيا لمنفعتين إحداهما للزينة و الثانية للحفظ من الشيطان المارد و بيان زينة السماء بالكواكب أي بنور الكواكب و ضوئها و النور و الضوء أحسن الصفات في الزينة ثمّ إنّ أشكالها متزيّنة و مختلفة كشكل الجوزاء و بنات نعش و الثريّا و أمثالها و كيفيّة طلوعها و غروبها و إنّ الإنسان إذا نظر في الليلة الظلماء إلى سطح الفلك و رأى هذه الجواهر الزواهر مشرقة لامعة متلألئة على ذلك السطح الأزرق يرى أمرا عجيبا مزيّنا.

قوله: [وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ] قال المبرّد: إذا ذكرت فعلا ثمّ عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنّه قد دلّ على فعله مثل قولك افعل و كرامة لأنّه لمّا قال: افعل علم أنّ الأسماء لا تعطف على الأفعال فالمعنى افعل ذلك و أكرمك كرامة و كذلك قوله: «وَ حِفْظاً» أي حفظناها من كلّ شيطان خبيث متمرّد أن لا يدنو منها فإنّهم كانوا يسترقّون السمع و يستمعون إلى كلام الملائكة و يلقون ما يستمعون و يوسوسونها في قلوب الكهنة و يوهمونهم أنّهم يعرفون الغيب فمنعهم اللّه تعالى عن ذلك بهذه الشهب و يرميهم بها.

ص: 108


1- النحل: 81.

قوله تعالى: [لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أي لكيلا يتسمّعونا إلى الكتبة من الملائكة في السماء و المراد من «الْمَلَإِ الْأَعْلى الملائكة لأنّهم أهل الملأ الأعلى.

[وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً] أي يرمون بالشهب من كلّ جانب من جوانب السماء إذا أرادوا الصعود طردوا دفعا لهم بالعنف [وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أي و لهم مع ذلك أيضا عذاب دائم يوم القيامة لكفرهم و تمرّدهم.

[إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ] استثناء من الاستماع و التقدير لا يسّمّعون إلى الملائكة إلّا من وثب الوثبة إلى قريب من السماء فاختلس خلسة و استلب استلابا بسرعة [فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ فلحقه و أصابه نار مضيئة محرقة و «الثَّاقِبُ» النيّر المضي ء فإن قيل: إنّ الجنّ من النار فكيف يحترقون؟ نعم نار القويّة تؤثّر في النار الضعيفة كالسراج ينطفئ بالنار القويّة (1).

[سورة الصافات (37): الآيات 11 الى 20]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (12) وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَ إِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَ قالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)

أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)

المعنى: في الآية استدلال على وقوع الحشر و إمكانه فقال: استفت يا محمّد و اسأل من هؤلاء المنكرين [أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا] من خلق السماوات و الأرض و الملائكة و ما بينهما و لا شكّ أنّهم يعترفون بأنّ خلق هذا القسم أشدّ من خلقهم فحينئذ بالحريّ أن يكون قادرا على إعادة الحياة في هذه الأجساد و لا شكّ أنّ خلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الإنسان.

قوله: [إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لاصق لازم أي إنّ هذه الأجسام قابلة للحياة إذ لو لم تكن قابلة للحياة لما صارت حيّة في المرّة الاولى و لو لا كونه تعالى قادرا

ص: 109


1- كذا في تفسير الامام و لكن النار القوى انما تطفئ بلهيبها لا بذاتها بل الجواب ان البشر من الطين فكيف يوجعه و يزجره المواد الطينية إذا ضرب بها مع انه قال عز و جل «فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» و لم يقل يحرقه و يفنيه.

على إحيائهم لما حصلت الحياة في المرّة الاولى و لا شكّ أنّ القابليّة باقية و أنّ قادريّته تعالى باقية لأنّ هذه القابليّة و القادريّة من الصفات الذاتيّة فامتنع زوالها.

و قيل: المعنى: اسألهم يا محمّد صلّى اللّه عليك أهم أحكم صنعا و أشدّ قوّة أم من خلقنا قبلهم من الأمم الماضية و القرون السالفة و المراد أنّكم لستم بأحكم خلقا من غيركم من الأمم و قد أهلكناهم بالعذاب فإن قالوا: نحن أشدّ قوّة فأعلمهم أنّ اللّه خلق أصلهم من طين لاصق لازم و أنّ هؤلاء من نسله و ذرّيّته فكأنّهم خلقوا منه.

[بَلْ عَجِبْتَ يا محمّد من هذه الخلائق العظيمة و إنكارهم للعبث [وَ] هم [يَسْخَرُونَ من تعجّبك و تقريرك للبعث و قرئ بضمّ التاء على تقدير قل يا محمّد: بل عجبت أو أنّ العجب نسبه إلى ذاته تعالى على معنى الاستعظام اللازم للعجب أي ينبغي أن يقع العجب فرضا و العجب من اللّه خلاف عجب الآدميّين كما قال: «وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ» (1) و قال:

«سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ» (2) و قال تعالى: «وَ هُوَ خادِعُهُمْ» (3) و المكر و الخداع و السخريّة من اللّه بخلاف هذه الأحوال من العباد و قد دلّ القرآن و الخبر على جواز إضافة العجب إلى اللّه أمّا القرآن فقوله: «وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ» (4) و المعنى و إن تعجب يا محمّد من قولهم فهو أيضا عجب عندي و أمّا الخبر فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عجب ربّكم من شابّ ليس له صبوة و عجب ربّكم من ذلّكم و قنوطكم و أنكر شريح فقال: إنّ اللّه لا يعجب إنّما يعجب من لا يعلم قال الأعمش: فذكرت إنكار الشريح عند إبراهيم الخوّاص فقال: إنّ شريحا معجب برأيه إنّ عبد اللّه قرأ بضمّ التاء و هو أعلم من شريح.

قوله: [وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ و لمّا بيّن سبحانه تباعد الكفّار عن حالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غاية التباعد بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتعجّب من إنكارهم المعاد مع هذه الأدلّة و هم يسخرون منه في إصراره على إثبات المعاد حتّى أنّهم إذا رأوا آية من آيات اللّه و معجزة مثل انشقاق القمر و غيرها أو خوّفوا باللّه و وعظوا بالقرآن لا يتذكّرون و لا يقبلون

ص: 110


1- الأنفال: 30.
2- التوبة: 80.
3- النساء: 141.
4- الرعد: 5.

و يستسخرون و يستهزءون و يحملونه على السحر.

[وَ قالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ و قالوا: لتلك الآية: ما هذا إلّا سحر و تمويه [أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بعد ذلك و كيف نبعث بعد ما صرنا ترابا.

[أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ يبعثون الّذين اتّصفوا بصفة الترابيّة و العظاميّة و المراد منهم الإنكار من البعث «أَ وَ آباؤُنَا» مبتدء و خبره محذوف تقديره مبعوثون أي ليس الأمر كذلك هذا إذا كان الواو ساكنة و من فتح الواو جعلها واو العطف دخل عليها همزة الاستفهام كقوله: «أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى .

ثمّ قال لنبيّه: [قُلْ لهم [نَعَمْ تبعثون و أنتم صاغرون ذليلون أشدّ الذلّة.

ثمّ ذكر أنّ بعثهم بزجرة و صيحة واحدة فقال: [فَإِنَّما هِيَ أي قصّة البعث صيحة [واحِدَةٌ] من إسرافيل و الزجرة الصرفة عن الشي ء بالمخافة فكأنّهم زجروا عن الحال الّتي هم فيها إلى المحشر [فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ إلى الأمر الّذي كذّبوا به أو المعنى أحياء ينتظرون ما ينزل بهم من عذاب اللّه.

[وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ فيعترفون بالعصيان و يقولون: «يا ويلنا» من العذاب و هو كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة كقوله «يا حَسْرَتَنا» و يقولون:

هذا يوم الجزاء.

قوله: [سورة الصافات (37): الآيات 21 الى 30]

هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25)

بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30)

قوله تعالى: [هذا يَوْمُ الْفَصْلِ قيل: من بقيّة قول الكفّار يقولون بعضهم لبعض بعد قولهم: «هذا يَوْمُ الدِّينِ» و قيل: تمّ كلام الكفّار بعد قولهم: «هذا يَوْمُ الدِّينِ» و قوله: «هذا يَوْمُ الْفَصْلِ» من كلام الملائكة لهم و هو أليق بالعبارة لأنّ قوله: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا» كلام غير الكفّار و سوق على قوله: «هذا يَوْمُ الْفَصْلِ».

ص: 111

قوله تعالى: [احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ فحكى سبحانه ما يأمر الملائكة به بأن يأمرهم «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بارتكاب المعاصي أي اجمعوهم من كلّ جهة و قيل: ظلموا أنفسهم بمخالفتهم أمر اللّه و بتكذيبهم الرسل و قيل: ظلموا الناس و أزواجهم أي و أشباههم و الزوج بمعنى الشبه و الشكل نحو قوله: «وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً» أي أشباها و أشكالا ثلاثة فيكون المعنى إنّ صاحب الزنا يحشر مع أصحاب الزنا و صاحب الخمر مع أصحاب الخمر و كذلك اليهوديّ مع اليهوديّ و قيل: المراد و أشياعهم من الكفّار و قيل: المراد و أزواجهم المشركات فكأنّه سبحانه قال: احشروا المشركين و المشركات.

قوله: [وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام زيادة في تخسيرهم و تخجيلهم [فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي خذوهم إلى ذلك الطريق و دلّوهم عليه. فإن قيل:

ما معنى «احْشُرُوا» مع أنّهم قد حشروا و حضروا من قبل في الموقف لأنّهم قالوا: «هذا يَوْمُ الدِّينِ» فالمراد احشروهم و اجمعوهم إلى دار الجزاء و هي جهنّم و لذلك قال: «فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ».

فلو قيل: كيف يصحّ ذلك و قد قال: بعده «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» و معلوم أنّ حشرهم إلى الجحيم إنّما يكون بعد المسألة؟

فالجواب أنّه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب.

و لعلّ المراد من الظالم المطلق في الآية مصروف إلى الكفّار و يؤكّد هذا قوله تعالى: «وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» و يمكن بل الأولى أن يكون المراد ب «الَّذِينَ ظَلَمُوا» الرؤساء لأنّك لو جعلت «الَّذِينَ ظَلَمُوا» عامّا في كلّ من أشرك لم يكن للأزواج معنى و قيل: في معنى «الأزواج» القرناء من الشياطين و المراد ما كانوا يعبدون من دون اللّه من الأوثان و الأصنام و نظيره «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ» (1).

فإن قيل: إنّ تلك الأحجار جمادات فما الفائدة في حشرها إلى جهنّم؟ أجاب القاضي بانّه ورد الخبر بأنّها تعاد و تحيا لتحصيل المبالغة في توبيخ الكفّار و تخجيلهم

ص: 112


1- البقرة: 24.

و هذا القول بعيد لأنّه لم يصدر عنها ذنب فكيف تعذيبها و لكن يبقون على الجماديّة و لكن للتخجيل يحشرون مع عابديهم.

قوله: [وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي إذا انتهوا إلى الصراط قيل للملائكة: «قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» عن أعمالهم و يسألهم الخزنة «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ بالبيّنات قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» (1).

و قيل لهم على سبيل التوبيخ: [ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا و ذلك أنّ أبا جهل كان يقول يوم بدر: نحن جميع منتصر فقيل لهم يوم القيامة: مالكم غير متناصرين و ما لشركائكم أيّها الكفّار لا يمنعونكم من العذاب.

[بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ يقال: استسلم للشي ء إذا انقاد له و خضع له أي صاروا منقادين لا حيلة لهم يتخاصمون لهم في دفع تلك المضارّ لا العابد و لا المعبود.

[فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي الرؤساء و الأتباع يسأل بعضهم بعضا و هذا التساؤل عبارة عن التخاصم يقولون: غررتمونا و يقول أولئك: لم قبلتم منّا.

[قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ فشرح سبحانه ذلك التساؤل فيقول الكفّار لغواتهم: «إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا» من جهة النصيحة و اليمن و البركة و قيل: معناه كنتم تأتوننا من قبل القوّة فتخدعونا بأقوى الوجوه أو المراد من «الْيَمِينِ» الدّين و الحقّ أي تنبّئون لنا ما نضلّ به و على المعنى الأوّل لاستعارة اليمين للأعمال الخيريّة لأنّ مباشرة الأعمال الخيريّة غالبا باليمين مثل مصافحة الأخيار و الأكل و ما على العكس منه يباشرونه باليد اليسرى و يتمنون بالجانب الأيمن و يسمّونه بالبارح أو المراد بأنّ أئمّة الكفّار كانوا يحلفون للأتباع: أنّ ما يدعونهم إليه هو الحقّ فوثقوا بأيمانهم و تمسكوا بعهودهم أي آتيتمونا من ناحية المواثيق و الأيمان الّتي قدّمتموها لنا.

فأجاب الرؤساء لهم [قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مصدّقين باللّه و موصوفين بالإيمان حتّى يقال: إنّا أزلناكم عنه.

ثمّ قالوا: [وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي ما كان لنا قدرة عليكم حتّى

ص: 113


1- الزمر: 81.

نقهركم [بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ضالّين غالين في معصية اللّه و باغين و متجاوزين إلى أفحش الظلم و أعظم المعاصي.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 31 الى 40]

فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)

وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)

هذا تمام الحكاية عن قول الكفّار الّذين قالوا: «وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» ثمّ قالوا: [فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا] إشارة إلى قول اللّه لإبليس «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» (1) أي إذا لا نؤمن و نموت على الكفر فقد أوجب العذاب الّذي نستحقّه على الكفر و الإغواء [إِنَّا لَذائِقُونَ العذاب ندركه كما ندرك الطعام بالذوق.

ثمّ يعترفون المغوين بأن أغويناكم عن الحقّ و أضللناكم و دعوناكم إلى الغيّ [إِنَّا كُنَّا غاوِينَ و داخلين في الضلالة و خيّبناكم و خيّبنا [فَإِنَّهُمْ يومئذ في ذلك اليوم [فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ و اشتراكهم و اجتماعهم [إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ الّذين جعلوا للّه شركاء و قيل: معنى الآية إنّا مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بجميع المجرمين.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه إنّما فعل ذلك بهم من أجل [إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول ذلك [وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي يأنفون من هذه المقالة و يقولون: لا ندع آلهتنا و عبادة أصنامنا لقول شاعر مجنون يعنون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فردّ اللّه عليهم و كذّبهم بأن قال: [بَلْ جاءَ بِالْحَقِ ليس بشاعر و لا مجنون و لكنّه أتى بما يقبله العقول من الدّين الحقّ أو الكتاب الحقّ [وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ و حقّق ما أتى به المرسلون من بشاراتهم بمقدمه الشريف أو صدّقهم بأن أتى بمثل ما أتوا به من

ص: 114


1- ص: 85.

الدعوة إلى التوحيد.

ثمّ خاطب الكفّار فقال سبحانه: [إِنَّكُمْ أيّها المشركون [لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ على كفركم و نسبتكم إيّاه إلى الشعر و الجنون لأنّ مقالاته ليست إلّا وحي و هو أعقل الخلق [وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على قدر أعمالكم ثمّ استثنى فقال:

[إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ و هذا الاستثناء منقطع أي لكن عباد اللّه المخلصين الّذين أخلصوا العبادة للّه و أطاعوه في كلّ ما أمرهم به فإنّهم لا يذوقون العذاب و إنّما ينالون الثواب.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 41 الى 50]

أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)

بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50)

بيّن سبحانه ما أعدّه لعباده المخلصين من أنواع النعم فقال:

[أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ جعل لهم التصرّف فيه و حكم لهم به في الأوقات ثمّ فسّر ذلك الرزق بأن قال: [فَواكِهُ جمع فاكهة يقع على الرطب و اليابس من الثمار كلّها يتفكّهون بها و يتنّعمون بالتصرّف فيها [وَ هُمْ مُكْرَمُونَ مع ذلك معظّمون قيل: المراد من الرزق المعلوم معلوم الوقت و هو مقدار غدوة و عشيّة و إن لم يكن هناك بكرة و عشيّا و قيل: معناه إنّ ذلك الرزق معلوم الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلقها اللّه فيه من طيب طعم و رائحة و لذّة و حسن منظرة أو يتيقّنون دوامه لا كرزق الدنيا الّذي لا يعلم متى يحصل و متى ينقطع و التعبير بالفاكهة لأنّ الفاكهة عبارة عمّا يؤكل لأجل التلذّذ لا لأجل الحاجة و أرزاق أهل الجنّة كلّها فواكه لأنّهم مستغنون عن حفظ الصحّة بالأقوات فإنّهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فكلّ ما يأكلونه فهو على سبيل التلذّذ و لمّا كانت الفاكهة حاضرة أبدا كان غيرها أولى بالحضور.

و لمّا ذكر مأكولهم وصف مساكنهم فقال: [فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ و معناه أنّه لا كلفة عليهم في التلاقي للتخاطب و الانس و في بعض الأخبار أنّهم إذا أرادوا

ص: 115

القرب سار السرير تحتهم و لا يجوز أن يكونوا متقابلين إلّا مع حصول الخواطر و الميل إلى القرب.

و لمّا شرح اللّه صفة المأكل و المسكن ذكر بعده صفة الشراب فقال: [يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ يقال للزجاجة الّتي فيها الخمر: «كأسا» و تسمّى الخمر نفسها كأسا قال الشاعر:

و كأس شربت على لذّةو اخرى تداويت منها بها

و عن الأخفش كلّ «كَأْسٍ»* في القرآن فهي الخمر.

قوله: «مِنْ مَعِينٍ» أي من شراب أو من نهر «مَعِينٍ» مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء و سمّي «معينا» لظهوره و يجوز أن يكون فعيلا من المعين و هو الماء الشديد الجري و منه أمعن في السير إذا اشتدّ فيه.

[بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ صفة للخمر أشدّ بياضا من اللبن و قوله: «لَذَّةٍ» و صفت باللذّة كأنّها نفس اللذّة و عينها كما يقال: فلان جود و كرم إذا أرادوا المبالغة أو المعنى ذات لذّة بحذف المضاف.

[لا فِيها غَوْلٌ و الغول أن يغتال عقولهم قال مطيع بن أياس:

و ما زالت الكأس تغتالهم و تذهب بالأوّل فالأوّل

و قال الليث: «الغول» الصداع أي ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا قال الواحديّ:

و حقيقته الإهلاك يقال: غاله إذا أهلكه و سمّي الصداع «غولا» لأنّه يؤدّي إلى الهلاك.

[وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ و قرئ بكسر الزاي يقال: أنزف الرجل إذا نفدت خمرته و أنزف إذا ذهب عقله من السكر و المعنى على الفتح: لا يذهب عقولهم و لا يسكرون و ليس فيها نوع فساد من صداع أو خمار أو سكر.

و لمّا ذكر سبحانه مشروبهم عقّب بذكر منكوحهم فقال: [وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ و معنى القصر الحبس أي إنّهنّ يحبسن نظرهنّ و لا ينظرن إلى غير أزواجهنّ «عِينٌ» جمع عيناه أي نجلاء كبار الأعين حسانها [كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ شبّههنّ ببيض النعام

ص: 116

المكنونة عن الغبار و الكدورة المصونة من كلّ شي ء و معنى هذا التشبيه أنّ ظاهر البيض بياض يشوبه قليل من الصفرة فإنّ ذلك من أحسن ألوان البدن.

ثمّ قال: [فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ عطف على قوله: «يُطافُ عَلَيْهِمْ» و المعنى يشربون و يتحادثون على الشراب قال الشاعر:

و ما بقيت من اللذّات إلّامحادثة الكرام على المدام

فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عمّا جرى لهم و عليهم فيخبر كلّ صاحبه بإنعام اللّه عليه.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 51 الى 60]

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55)

قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)

هذا تمام الحكاية عن أحوال أهل الجنّة و إقبال بعضهم على بعض في المسألة عن الأحوال.

[قالَ قائِلٌ من أهل الجنّة [إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ في دار الدنيا و صاحب يختصّ بي إمّا من الإنس على قول ابن عبّاس: و إمّا من الشيطان [يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي كان يوبّخني على التصديق بالبعث و القيامة و يقول إنكارا و تعجّبا: [أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ و محاسبون و مجازون أي ذلك القرين كان يقول على وجه الاستنكار: أن إذا متنا نحشر و نبعث بعد أن صرنا ترابا أي هذا لا يكون أبدا و هذا أبلغ في النفي.

[قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أي ثمّ هذا المؤمن قال لإخوانه في الجنّة بعد ما حكى لجلسائه مقالة قرينه في الدنيا: «هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ» أي إلى أهل النار و هل في الجنّة موضع يرى منه هذا القرين في النار و هل تحبّون أن تطلّعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم قيل: إنّ في الجنّة كوى ينظر منها أهلها إلى أهل النار.

ص: 117

[فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ فاطّلع هذا المؤمن فرأى قرينه في وسط النار قيل: القائل في قوله «قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ» هو اللّه أو بعض الملائكة و قرئ «فَاطَّلَعَ» على لفظ المضارع المنصوب و على لفظ الماضي و إذا كان بلفظ المضارع يكون المعنى: هل أنتم مطّلعون فأطّلع أنا أيضا و إذا كان بصيغة الماضي يكون المعنى عرض عليهم الاطّلاع فقبلوا ما عرضه.

فاطّلع هو بعد ذلك [قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي قال القائل: بعد ما اطّلع إلى حال قرينه مخاطبا له: تاللّه قد كان قريبا أن تهلكني بالإغواء و تجعل حالي كحالك و «إن» هي المخفّفة من المثقّلة بدلالة مصاحبته لام الابتداء لها أي إنّك كدت تهلكني بما دعوتني إليه في الدنيا بقولك: لا نبعث و لا نعذّب فقد ظهر الأمر خلاف ذلك.

[وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي و لو لا لطفه تعالى و عصمته و هدايته حتّى آمنت لكنت أنا معك في النار و لا يستعمل «أحضر» إلّا في الشرّ.

قوله تعالى: [أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ المعنى:

أنّ هذا المؤمن يقول لهذا القرين السوء الّذي في النار يخاطبه و يقول له على وجه التوبيخ و التقريع: أ ليس كنت تقول: «فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ» و قرئ بمائتين و لا نموت إلّا الموتة الّتي تكون في الدنيا و لا عذاب و لا رجوع أ فرأيتم أنّ الأمر ظهر بخلاف ما زعمتم و قيل: إنّ هذا الكلام من مكالمات أهل الجنّة بعضهم لبعض على وجه إظهار السرور بدوام نعيم الجنّة و لهذا عقّبه بقوله:

[إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فحينئذ يكون معنى الآية: ما نحن بميّتين في هذه الجنّة إلّا موتتنا الّتي كانت في الدنيا و ما نحن بمعذّبين كما وعدنا اللّه و يريدون به التحقيق لا الشكّ و إنّما قالوا هذا القول لأنّ لهم في ذلك سرورا مجدّدا و فرحا مضاعفا و إن كانوا قد عرفوا أنّهم سيخلدون في الجنّة و هذا كما أنّ الرجل يعطي المال الكثير فيقول:

أ كلّ هذا الملك لي و هذا كقوله:

أ بطحاء مكّة هذا الّذي أراه عيانا و هذا أنا

ص: 118

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 61 الى 70]

لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65)

فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)

ثمّ قال سبحانه تمام الحكاية عن قول أهل الجنّة: [لِمِثْلِ هذا] الثواب و الفوز و الفلاح [فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ في دار التكليف و قيل: إنّ هذا من قول اللّه أي لمثل هذا النعيم الّذي ذكرناه «فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» و المذكور من قوله: «لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ» إلى قوله:

«بَيْضٌ مَكْنُونٌ» و المراد الترغيب في طلب الثواب بالطاعة.

قوله تعالى: [أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أي أذلك الّذي ذكرناه من قرى أهل الجنّة و ما أعدّ لهم خير من حيث النزل و «النزل» ما يصلح أن ينزلوا عليه من الغداء و التشريفات و ما يتقوّت به أم نزل أهل النار و هو الزّقوم مع أنّه لا خير فيه و إنّما قال: «خَيْرٌ» على وجه المقابلة مثل قوله: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا» (1) أو جاء بلفظ «خَيْرٌ» مع أنّ في الزقّوم ليس إلّا الألم و الغمّ فهو على سبيل السخريّة بهم و سوء اختيارهم قال العلّامة أبو السعود في تفسيره: «الزَّقُّومِ» شجرة صغيرة الورق زفرة كريهة الرائحة مرّة تكون في تهامة سمّيت به الشجرة الموصوفة.

قوله: [إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ و هذه الشجرة يقتاتها أهل النار و إنّما صارت هذه الشجرة فتنة للظالمين لأنّ الكفّار لمّا سمعوا هذه الآية أنكروا و قالوا: كيف يعقل أن تنبت الشجرة في جهنّم مع أنّ النار تحرق الشجرة و لهذه الجهة صارت فتنة لهم و الحالة أنّ خالق النار قادر على أن يمنع النار من إحراق الشجر كما أنّ اللّه يقدر أن يخلق الزقّوم من جوهر و من مادّة لا تأكله النار و لا تحرقه كما أنّها لا تحرق السلاسل

ص: 119


1- الفرقان: 24.

و الأغلال فيها و كما أنّه لا تحرق حيّاتها و عقاربها و كذلك الضريع و ما أشبه ذلك فمعنى كونها «فِتْنَةً لَهُمْ» وقعت هذه الشبهة الركيكة في قلوبهم و صارت سببا لإنكارهم.

و القول الثاني في تفسير الآية في كون الشجرة فتنة لهم في النار لأنّهم كلّفوا بتناولها و شقّ ذلك عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنة في حقّهم أي شدّة عذاب لهم من قوله:

«يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» (1) أي يعذّبون.

قوله: [إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي إنّ الزقّوم شجرة تنبت في قعر جهنّم و أغصانها ترفع إلى دركاتها [طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «الطلع» للنخلة غلاف الثمرة و سمّي بالطلع لطلوعه كلّ سنة في النخل فاستعير لشجرة الزقّوم لفظيّة و هذا التشبيه حيث إنّ الناس لمّا اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة و السيرة و اعتقدوا في الشياطين نهاية القبح و التشويه في الصورة فحسن التشبيه في القبح برءوس الشياطين و هذا من باب التشبيه بالمتخيّل لا بالمحسوس قال امرؤ القيس:

أ تقتلني و المشرفيّ مضاجعي و مسنونة رزق كأنياب أغوال

مع أنّ الغول لم يره أحد. و قيل: إنّ رؤوس الشياطين ثمرة يقال لها: الأستن تشبه بني آدم و قيل: إنّ الشيطان نوع من الحيّات.

[فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها] أي أهل النار يأكلون من ثمرة تلك الشجرة فيملئون بطونهم منها من شدّة ألم الجوع و قد روي أنّ اللّه تعالى يجوعهم حتّى أنسوا عذاب النار من شدّة الجوع فيصرخون إلى مالك فيحملهم إلى تلك الشجرة و منهم أبو جهل فيأكلون منها فيغلي بطونهم كغلي الحميم فإذا شبعوا من أكل الزقّوم يشتدّ عطشهم فيحتاجون إلى الشراب.

فعند هذه وصف اللّه شرابهم فقال: [ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ و «الشوب» كلّ ما خلط بغيره فالمعنى إذا غلبهم العطش الشديد سقوا من ذلك المشوب من غسّاق أو صديد جهنّم حارّ مغبور الّذي بلغ نهاية في الحرارة حتّى إذا قربوها من وجوههم ليشربوا شوت وجوههم كما قال: «يَشْوِي الْوُجُوهَ» (2) فإذا وصلت إلى بطونهم صهر

ص: 120


1- الكهف: 29.
2- الكهف: 29.

ما في بطونهم و الجلود فذلك شرابهم و طعامهم و قوله: «ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ» على شجرة الزقّوم زيادة لشوبا و خليطا بهذا الشراب المذكور و يكرهون على هذا الأكل الشراب و ثمّ يرجعون بعد الأكل و الشرب و يردّون إلى الجحيم و ذلك أنّهم يوردون الحميم لشربه و هو خارج عن الجحيم كما يورد الإبل الماء و «الْجَحِيمِ» النار الموقدة الّتي منازلهم فيها فينقلبون بعد الأكل و الشرب إلى منقلبهم.

قوله: [إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ* فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ المعنى إنّه سبحانه علّل الاستحقاق و الوقوع في تلك الشدائد كلّها بترك الإيمان و تقليد الآباء من غير دليل و اقتفائهم بآبائهم و تسرّعهم إلى اتّباعهم و معنى الإهراع الإسراع.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 71 الى 82]

وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)

وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

ذكر سبحانه ما يوجب التسلية لنبيّه فقال:

[وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ اللام هي الّتي تدخل في جواب القسم المحذوف و «قد» للتأكيد أي قبل هؤلاء الّذين في عصرك و كذّبوك ضلّ أكثر الأمم الماضية.

[وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ من الأنبياء و المرسلين يخوّفونهم من عذاب اللّه و حاصل المعنى أنّ إرساله تعالى الرسل و تكذيب الأمم الرسل قد سلف و يجب لك- صلّى اللّه عليك- أسوة بهم و تصبّر كما صبروا و في الآية دلالة على أنّ أهل الحقّ في كلّ زمان كانوا أقلّ من أهل الباطل.

[فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي من المكذّبين المعاندين الحقّ كيف أهلكهم و ما ذا حلّ بهم من العذاب؟

ثمّ استثنى من المنذرين فقال: [إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الّذين أنذرهم الأنبياء

ص: 121

و قبلوا منهم و أخلصوا عبادتهم للّه تعالى فإنّ اللّه خلصهم من ذلك العذاب و وعدهم بجزيل الثواب.

[وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ أي دعانا نوح بعد أن يئس من إيمان قومه لننصره على على قومه و ذلك قوله عليه السّلام: «أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» [فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن لدعائه و أجبناه إلى ما سأل بإهلاك قومه و قيل: المعنى هو على العموم لمن دعانا.

[وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من المكروه الّذي كان ينزل به من قومه و «الكرب» كلّ غمّ يصل حرّه إلى الصدر و أصل النجاة من النجوة فهي المرتفع فهي الرفع من الهلاك و أهله هم الّذين في السفينة معه.

[وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ بعد الغرق فالناس كلّهم بعد نوح عن ولد نوح قال الكلبيّ: لمّا خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال و النساء إلّا ولده و نساءهم.

[وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي تركنا عليه ذكرا جميلا و أثنينا عليه في امّة محمّد و يسلّم عليه إلى يوم القيامة فكأنّه قال: و تركنا على نوح التسليم و الصلوات إلى يوم القيامة بقوله: [سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ و معنى تركنا أبقينا يقال: ما ترك فلان أي ما أبقى و المراد من «الْعالَمِينَ» من الملائكة و الثقلين.

[إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ما جزينا نوحا [نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فمن أحسن بأفعال الطاعات و تجنّب المعاصي نكافيه بإحسانهم [إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي إنّ نوحا من عبادنا المؤمنين، و الآية تتضمّن مدح المؤمنين حيث أنّ نوحا منهم.

[ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي من لم يؤمن به و المقصود من الآيات تحذير القوم عن سلوك مثل طريقتهم لئلّا يعاقبوا بمثل عقوبتهم.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 83 الى 100]

وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85) أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)

فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)

فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)

ص: 122

المعنى: و إن من شيعة نوح إبراهيم يعني إنّه على منهاجه في التوحيد و العدل و اتّباع الحقّ و ما كان بين نوح و إبراهيم إلّا نبيّان هود و صالح و ألفان و ستّمائة و أربعون سنة و قيل: المعنى: و إنّ من شيعة محمّد إبراهيم و معنى الشيعة الجماعة التابعة لرئيس لهم.

قوله: [إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ حين صدّق اللّه و آمن به بقلب خالص من الشرك بري ء من المعاصي على ذلك عاش و عليه مات و قيل: بقلب سليم من كلّ ما سوى اللّه لم يتعلّق بشي ء غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

قوله: [إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ حين رآهم يعبدون الأصنام من دون اللّه على وجه التهجين لفعالهم و التقريع لهم [ما ذا تَعْبُدُونَ أي أيّ شي ء تعبدون [أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ «الإفك» أشنع الكذب و أصله قلب الشي ء عن جهته الّتي هي له أي تريدون عبادة آلهة دون عبادة الرحمن [فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أن يصنع بكم مع عبادتكم غيره و قيل: المعنى كيف تظنّون بربّكم أنّه على أيّ صفة و من أيّ جنس من أجناس الأشياء حين شبّهتم به هذه الأصنام؟

قوله: [فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ عن ابن عبّاس إنّهم كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم و ذلك أنّه عليه السّلام أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجّة في أنّها غير معبودة و كان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلّف عنهم ليبقى خاليا في بيت الأصنام فيقدر على كسرها.

و هاهنا بحث و هو أنّ النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أقدم عليه إبراهيم، ثمّ إنّه عليه السّلام ما كان سقيما فلمّا قال: «إِنِّي سَقِيمٌ» كان ذلك كذبا؟

و في الجواب عنهما وجوه كثيرة:

ص: 123

الأوّل أنّه نظر نظرة في النجوم و كانت يأتيه سقامة كالحمّى في بعض أوقات اللّيل و النهار فنظر ليعرف هل هي في تلك الساعة و قال: «إِنِّي سَقِيمٌ» فجعله عذرا في تخلّفه عن الذهاب معهم عن العيد الّذي لهم و كان صادقا فيما قال. لأنّ السقم كان يأتيه في ذلك الوقت و إنّما تخلّف لأجل مقصوده و ذلك تكسير الأصنام و أمّا قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» أي سأسقم في هذا الوقت كقوله: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» أي إنّك ستموت و وجه آخر و هو أنّا لا نسلّم أنّ النظر في علم النجوم و الاستدلال بمقايستها حرام لأنّ من اعتقد أنّ اللّه خصّ كلّ واحد من هذه الكواكب بقوّة و خاصّيّة لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بحرام و باطل و يجوز أن يكون اللّه أعلمه بالوحي أنّه سيسقمه في وقت مستقبل و جعل العلامة على ذلك إمّا طلوع نجم و اتّصاله بآخر على وجه مخصوص.

فلمّا رأى إبراهيم تلك الإمارة فقال «إِنِّي سَقِيمٌ» تصديقا بما أخبره اللّه تعالى و يمكن أن يكون مراده بقوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» أي سقيم القلب حزنا على إصرارهم على عبادة الأوثان و هي لا تسمع و لا تبصر و نظره في النجوم فكرته في أنّها مخلوقة محدثة مدبّرة فكيف هؤلاء يعبدونها؟

و ما رواه العيّاشيّ بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا:

و اللّه ما كذب إبراهيم و ما كان سقيما محمول على هذه الوجوه المذكورة و ما روي أنّ إبراهيم كذب ثلاث كذبات قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» و قوله. «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» (1) و قوله في سارة: «إنّها اختي» فيمكن أن يتأوّل مثلا مثل قوله «إِنِّي سَقِيمٌ» أي سأسقم، و سارة اختي أي في الدّين و «فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» على ما ذكرناه في موضعه.

و بالجملة لمّا قال إبراهيم: «إِنِّي سَقِيمٌ» و كان قد غلب الأسقام عليهم من باب الطاعون و كانوا يخافون العدوى ففارقوه و هربوا منه إلى معبدهم في البرّيّة و تركوه و ذلك قوله: [فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي هاربين مخافة العدوى.

[فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي ذهب إليهم في خفية و أصل «الروغ» الميل بحيلة و منه

ص: 124


1- الأنبياء: 63.

روغان الثعلب [فَقالَ للأصنام استهزاء [أَ لا تَأْكُلُونَ أي هلّا تأكلون من الطعام الّذي كانوا يضعونها عند الأصنام لتبرّك عليه كما كان عادتهم ذلك للاستشفاء و الاستبراك و اليمن [ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ أي لم لا تجاوبوني. [فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فمال إبراهيم مستعليا عليهم ضربا موكّدا شديدا و «ضَرْباً» مصدر مؤكّد «لراغ» أي ضربهم ضربا شديدا و ذلك لأنّ اليمين أقوى الجارحتين و قوّة الآلة تقتضي قوّة الفعل و فيه قول آخر:

و هو أنّ المراد من «اليمين» الحلف أي أتى الضرب بسبب الحلف و هو قوله تعالى عنه:

«وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ».

ثمّ قال: [فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ أي أقبلوا بعد الفراغ من عيد هم إلى إبراهيم يسرعون و «الزفيف» حالة بين المشي و العدو من زفيف النعام لأنّهم اطّلعوا على صنع إبراهيم بأصنامهم فقصدوه مسرعين و حملوه إلى بيت أصنامهم و بعد ما أتوا به جرى بينهم و بينه من المحاورات ما نطق به قوله تعالى في غير هذه السورة: «أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» (1) فأجابهم على وجه الحجاج:

[أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ أي تعبدون منحوتكم و ما عملتم من الأصنام فكيف تعبدون معمولكم؟ و هذا كما يقال: فلان يعمل الحصير و المراد أنّ اللّه خلق أصل الحجارة الّتي تعملون منها الأصنام.

و احتجّ أهل الجبر بأنّ فعل العبد مخلوق للّه و قالوا: إنّ لفظ «ما» مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله: «وَ ما تَعْمَلُونَ» معناه: و عملكم و على هذا التقدير صار معنى الآية:

و اللّه خلقكم و خلق عملكم.

و الجواب أنّ هذه الآية حجّة عليهم لا حجّة لهم لأنّ اللّه تعالى قال: «أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ» و أضاف العبادة و النحت إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل و لو كان ذلك واقعا بتخليق اللّه لاستحال كونه فعلا للعبد.

و الجواب الثاني أنّه سبحانه إنّما ذكر هذه الآية توبيخا لهم على عبادة الأصنام و لو لم يكونوا فاعلين لأفعالهم لما جاز توبيخهم عليها بقبيح فعلهم و عبادتهم و لو كان

ص: 125


1- الأنبياء: 62.

معناه و اللّه خلقكم و خلق عبادتكم لكانت الآية على أن يكون عذرا لهم أقرب و أولى من أن يكون لوما و تهجينا و لكان لهم أن يقولوا: و لم توبّخنا على عبادتها و اللّه هو الفاعل لذلك فيكون الحجّة لهم لا عليهم و لأنّه قد أضاف الفعل و العمل إليهم بقوله:

«تَعْمَلُونَ» فكيف يكون مضافا إلى اللّه و هذا تناقض؟

و أمّا قولهم: لفظة «ما» مع ما بعدها في تقدير المصدر ممنوع و بيانه أنّ سيبويه و الأخفش اختلفا في أنّه هل يجوز أن يقال: أعجبني ما قمت أي قيامك فجوّزه سيبويه و منعه الأخفش و جماعة و قالوا: إنّ هذا لا يجوز إلّا في فعل المتعدّي و لو سلّمنا لكنّه أيضا قد يكون بمعنى المفعول لأنّ المراد من قوله: «أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ» أ تعبدون المنحوت لا النحت لأنّهم ما عبدوا النحت و إنّما عبدوا المنحوت فوجب أن يكون المراد بقوله: «ما تَعْمَلُونَ» المعمول لا العمل فحينئذ لفظة «ما» مع ما بعدها كما يجي ء بمعنى المصدر فقد يجي ء بمعنى المفعول فكان حمل الآية هنا على المفعول أولى لأنّ الآية بيان تزييف مذهبهم في عبادة الأصنام.

و بالجملة لمّا أورد إبراهيم عليهم هذه الحجّة القويّة و عجزوا عن الجواب عدلوا إلى طريق الإيذاء [ف قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً] و كيفيّة ذلك البنيان لا يدلّ عليها لفظ القرآن قال ابن عبّاس: بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا و عرضه عشرون ذراعا و ملؤوه نارا فطرحوه فيها فذلك قوله تعالى: [فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أي جحيم ذلك البنيان و الجحيم النار العظيمة و الألف و اللام في «الْجَحِيمِ» يدلّ على النهاية.

[فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً] و حيلة و تدبيرا في إهلاكه و إحراقه بالنار [فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ بأن أهلكناهم و سلّمنا إبراهيم و رددنا كيدهم عنه و لمّا أشرفوا عليه بعد إيقاعه في النار رأوه سالما و علموا أنّهم مغلوبون فلمّا انقضت هذه الواقعة [قالَ إبراهيم:

[إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ أي مهاجر و أهجر ديار الكفّار و أذهب إلى حيث أمرني اللّه بالذهاب إليه و هي الأرض المقدّسة أي يهديني ربّي.

فإن قيل: إنّ إبراهيم جزم في هذه الآية بأنّه تعالى سيهديه، و إنّ موسى لم يجزم

ص: 126

به بل قال: «عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ».

قلنا: العبد إذا تجلّى له مقامات رحمة اللّه فقد يجزم بحصول المقصود و إذا تجلّى له مقامات كونه غنيّا عن العالمين فحينئذ يستحقر نفسه فلا يجزم بل لا يظهر إلّا الرجاء و الطمع قال بعض أهل التفسير: و هو أوّل من هاجر و معه لوط و سارة إلى الشام و إنّما قال «سَيَهْدِينِ» ترغيبا لمن هاجر معه في الهجرة.

فلمّا قدم الأرض المقدّسة سأل إبراهيم ربّه الولد فقال: [رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي أعطني بعض الصالحين يريد الولد لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد و إن كان قد جاء في الأخ في قوله: «وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» (1) و قال تعالى: «وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ»* (2) و «وَهَبْنا لَهُ يَحْيى (3) و في الآية دلالة على أنّ الصلاح أشرف مقامات العباد.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 101 الى 113]

فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)

إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

المعنى: أخبر سبحانه أنّه استجاب لإبراهيم بقوله: [فَبَشَّرْناهُ بابن وقور، و الحليم الّذي لا يعجل الأمر قبل وقته مع القدرة عليه أو الّذي لا يعجل بالعقوبة.

[فَلَمَّا] أدرك و [بَلَغَ الحدّ الّذي يقدر فيه على السعي أي شبّ و بلغ الابن إلى أن يتصرّف و يمشي معه و يعينه و كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة و قيل: المراد من السعي العمل للّه و العبادة و النسك و الفاء في قوله: «فَلَمَّا بَلَغَ» فصيحة معربة

ص: 127


1- مريم: 53.
2- الأنبياء: 72، 90.
3- الأنبياء: 72، 90.

عن مقدّر حذف لعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلّف بعد البشارة [قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى و معنى «رأى» في الكلام على خمسة أوجه: أحدها أبصر، و الثاني علم؛ نحو رأيت زيدا فاضلا و الثالث: بمعنى ظنّ كقوله «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً». و الرابع: اعتقد نحو قوله:

و إنّا لقوم ما نرى القتل سبّةإذا ما رأته عامر و سلول

و الخامس بمعنى الرأي نحو رأيت هذا الرأي و أمّا رأيت في المنام فمن رؤية البصر.

فمعنى الآية إنّ إبراهيم قال لابنه: إنّي أبصرت في المنام رؤيا تأويلها الأمر بذبحك فانظر ما الّذي تراه و أيّ شي ء ترى من الرأي و لا يجوز أن يكون ترى هاهنا بمعنى تبصر لأنّه لم يشر إلى شي ء يبصر بالعين و لا يجوز أن يكون بمعنى علم أو ظنّ أو اعتقد لأنّ هذه الأشياء تتعدّى إلى مفعولين و ليس هنا إلّا مفعول واحد مع استحالة المعنى فلم يبق إلّا أن يكون من الرأي.

و قيل: إنّ اللّه تعالى أوحى إلى إبراهيم في حال اليقظة بأن يمضي ما يأمره به في حال نومه من حيث إنّ منامات الأنبياء لا تكون إلّا صحيحة و لو لم يأمر بذلك في حال اليقظة لما كان يجوز أن يعمل على ما يراه في المنام. و قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس:

منامات الأنبياء وحي و قال قتادة: رؤيا الأنبياء حقّ إذا رأوا شيئا فعلوه.

و قال أبو مسلم: رؤيا الأنبياء مع أنّ جميعها صحيحة ضربان أحدهما أن يأتي الشي ء كما رأوه و منه قوله: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ» (1) الآية، و الآخر أن يكون عبارة عن خلاف الظاهر ممّا رأوه في المنام و ذلك كرؤيا يوسف الأحد عشر كوكبا و الشمس و القمر ساجدين و كان رؤيا إبراهيم من هذا القبيل لكنّه لم يأمن أن يكون ما رآه ممّا يلزم العمل به على الحقيقة.

و روي أنّه عليه السّلام رأى ليلة التروية في منامه كأنّ قائلا يقول له إنّ اللّه يأمرك بذبح ابنك. و قيل: إنّ إبراهيم حين بشّر بغلام حليم قال: هو إذا للّه ذبيح فقيل:

ص: 128


1- الفتح: 27.

لإبراهيم قد نذرت نذرا فف بنذرك فلمّا أصبح قال إبراهيم: «يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ».

و بالجملة بعد أن رأى ليلة التروية ذلك المنام و أصبح تروّى في ذلك المنام عن الصباح إلى الرواح أ من اللّه هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثمّ سمّي «يوم التروية» فلمّا أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنّه من اللّه فسمّي «عرفة» ثمّ رأى مثله في الليلة الثالثة فهمّ نحره فسمّي «يوم النحر».

فإن قيل: إمّا أن يقال: إنّه ثبت بالدليل عند الأنبياء أنّ كلّ ما رآه في المنام فهو حقّ حجّة أو لم يثبت ذلك بالدليل عندهم فإن كان الأوّل فلم راجع الولد في هذه الواقعة بل كان عليه أن يشتغل بتحصيل ذلك المأمور و أن لا يراجع الولد فيه و أن لا يقول له: «فَانْظُرْ ما ذا تَرى و أن لا يوقف العمل إلى أن يقوله له الولد: «افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» (1) ثمّ إذا ثبت له ما رأى في المنام حجّة لم يكن إلى هذه التروّي و التفكّر حاجة و إن كان الثاني و هو عدم الثبوت فكيف يجوز له أن يقدم على ذبح ذلك الولد بمجرّد رؤيا لم يدلّ الدليل على كونها حجّة؟

و يمكن الجواب أنّه لا يبعد أنّه كان عند الرؤيا متردّدا فيه ثمّ تأكّدت الرؤيا بالوحي الصريح.

و اختلفوا في أنّ هذا الذبيح من هو فقيل: إنّه إسحاق و هذا قول عليّ عليه السّلام و عمرو العبّاس بن عبد المطّلب و ابن مسعود و كعب الأحبار و قتادة و سعيد بن جبير و مسروق و عكرمة و الزهريّ و السّديّ و مقاتل (2) و قيل إنّه إسماعيل و هو قول ابن عبّاس و ابن عمر و سعيد بن المسيّب و الحسن و الشعبيّ و مجاهد و الكلبيّ.

و احتجّ القائلون بأنّه إسماعيل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أنا ابن الذبيحين فقال له أعرابيّ: يا ابن الذبيحين فتبسّم فسئل عن ذلك فقال: إنّ عبد المطّلب لمّا حفر بئر زمزم نذر للّه لئن سهل اللّه له أمرها ليذبحنّ أحد ولده فخرج السهم على عبد اللّه فمنعه ي.

ص: 129


1- الوالد انما يكون وليا على ولده لا مالكا لدمه و روحه و القربان يكون من ماله لا من مال غيره الا إذا اجازه الولد ذلك لوالده و الا فهو قتل نفس محرم لا قربان.
2- كذا في تفسير الامام الرازي.

أخواله و قالوا له: افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل و الذبيح الثاني إسماعيل.

الحجّة الثانية عن الأصمعيّ أنّه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعيّ اين عقلك و متى كان إسحاق بمكّة و إنّما كان إسماعيل بمكّة و هو الّذي بنى البيت مع أبيه و المنحر بمكّة.

الحجّة الثالثة أنّ اللّه وصف إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله: «وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» و هو صبره على الذبح و وصفه أيضا بصدق الوعد في قوله: «إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» (1) لأنّه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.

الحجّة الرابعة الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة فكان الذبيح بمكّة و لو كان الذبيح إسحاق لكان الذبح بالشام (2).

و احتجّ من قال: إنّ ذلك الذبيح إسحاق بوجهين: الوجه الأوّل أنّ أوّل الآية و آخرها يدلّ على ذلك أمّا أوّلها فإنّه تعالى حكى عن إبراهيم قبل هذه الآية أنّ إبراهيم قال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» أجمعوا على أنّ المراد منها مهاجرته إلى الشام ثمّ قال: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلّا هو إسحاق ثمّ قال بعده: فلمّا بلغ معه السعي و ذلك يقتضي أن يكون المراد من هذه الغلام الّذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الّذي حصل في الشام.

الوجه الثاني ما اشتهر من كتاب يعقوب إلى يوسف: من يعقوب إسرائيل نبيّ اللّه ابن إسحاق ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه.

و بالجملة فالّذين قالوا: الذبيح إسماعيل كان الذبح بمنى و الّذين قالوا:

إسحاق قالوا: هو ببيت المقدس.ب؟

ص: 130


1- مريم: 54 و انما يصح هذا إذا كان المراد بإسماعيل في الآية إسماعيل بن ابراهيم فراجع.
2- و قد استدل على ذلك بوجهين آخرين: الاول انه قال رب هب لي من الصالحين و انما يصلح ذلك ممن لا ولد له ابدا فإذا هو إسماعيل لأنه أول أولاده و الثاني انه تعالى بشره بإسحاق و من وراء اسحق يعقوب فكيف يأمره بذبح اسحق و لم يولد بعد يعقوب؟

و اعلم أنّ اللّه لا يأمر إلّا بما يكون حسنا في ذاته و لا ينهى إلّا عمّا يكون قبيحا في ذاته و قد يكون الأمر بالشي ء تارة يحسن لكون المأمور به حسنا و تارة لأجل أنّ ذلك الأمر يفيد صحّة مصلحة من المصالح و إن لم يكن المأمور به في ذاته حسنا ألا ترى أنّ السيّد إذا أراد أن يروض عبده فإنّه يقول له: إذا جاء يوم الجمعة فافعل الفعل الفلانيّ و يكون ذلك من الأفعال الشاقّة و يكون مقصود السيّد من ذلك الأمر ليس أن يأتي ذلك العبد بذلك الفعل لأنّ ذلك الفعل قد يكون المولى لا يرضى بوقوعه بل الغرض من الأمر الشاقّ أن يوطّن العبد نفسه على الانقياد و الطاعة فإذا أطاع و فعل مقدّمات التكليف رفع عنه عند ذلك التكليف.

قال الرازيّ: و احتجّوا بهذه الآية على أنّ اللّه قد يأمر بما لا يريد وقوعه و الدليل عليه أنّه سبحانه أمر بالذبح و ما أراد وقوعه أمّا أنّه أمر بالذبح فلما تقدّم في تفسير الآية و حيث لم يقع لأنّ اللّه نهى عن ذلك الذبح و النهي عن الشي ء يدلّ على أنّ الناهي لا يريد وقوعه فثبت أنّه تعالى أمر بالذبح و ثبت أنّه ما أراده و ذلك يدلّ على أنّ الأمر قد يوجد بدون الإرادة انتهى.

قوله تعالى: [قالَ ابنه: [يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ] أي ما أمرت به [سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي ستصاد فني بحسن توفيقه ممّن يصبر على الشدائد في جنب اللّه و يسلم لأمره.

[فَلَمَّا أَسْلَما] أي استسلما الأمر و أطاعاه [وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي صرعه على جبينه و قيل: كبّه على جبهته و هذا خطاء لأنّ الجبين غير الجبهة و للوجه جبينان و الجبهة بينهما و إنّما وضع جبينه على الأرض لئلّا يرى وجهه فيلحقه رقّة الآباء (1). و روي أنّ إسماعيل قال: اذبحني و أنا ساجد لئلّا تنظر إلى وجهي فعسى أن ترحمني فلا تذبحني.ن.

ص: 131


1- هذا غير صحيح و ان نقل عن ابن عباس و رضى به كثيرون لأنه قد يقال الجبين للجبهة ايضا و لان القربان يصلح ان يكون وجهه و جبهته الى الكعبة فيصير مصروعا على جبينه الأيسر و لذلك قال: و تله للجبين.

[وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ الواو زائدة.

قال المفسّرون: لمّا أضجعه للذبح نودي من الجبل [يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا] فسعد إبراهيم سعادة عظيمة و تبيّن إطاعتهما و استحقّا الأجر العظيم و نبوّة ولده.

حكي في قصّة الذبيح أنّ إبراهيم لمّا أراد ذبحه قال: يا بنيّ خذ الحبل و المدية و انطلق بنا إلى الشعب نحتطب فلمّا توسّط شعب ثبير (بتقديم الثاء المثلّثة) أخبره بما امر به فقال: يا أبت اشدد رباطي كي لا أضطرب و اكفف عنّي ثيابك لا ينتضح عليها شي ء من دمي فتراه امّي فتحزن و اشتحد شفرتك و أسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإنّ الموت شديد و أقرئ على امّي سلامي و إن رأيت أن تردّ قميصي على امّي فافعل فإنّه قد يكون أسهل لها و أسلى فقال إبراهيم: نعم العون أنت بنيّ على أمر اللّه ثمّ أقبل عليه يقتله و قد ربط و هما يبكيان ثمّ وضع السكّين على حلقه فقال حينئذ: كبّني على وجهي أخاف أن تدركك رقّة تحول بينك و بين أمر اللّه ففعل إبراهيم ثمّ وضع السكّين على قفاه فانقلبت السكّين و نودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا أي فعلت ما أمرت به في الرؤيا.

[إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي إنّا كما جزينا إبراهيم بالعفو عن ذبح ابنه نجزي من سلك طريقتهما في الإحسان و الانقياد لأمر اللّه.

[إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي إنّ هذا لهو الامتحان الظاهر و الاختبار الشديد و اختلف العلماء في الكبش الّذي جعله اللّه فداء عن إسماعيل فقيل: إنّه الكبش الّذي تقرّب به هابيل إلى اللّه فقبله و كان يرعى في الجنّة حتّى فدى اللّه به إسماعيل و قال آخرون: أرسل اللّه كبشا من الجنّة قد رعى أربعين خريفا و قال السدّيّ: نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو كبش أو وعل أملج انحطّ من الجبل فقام عند إبراهيم فأخذه فذبحه و خلّى ابنه ثمّ اعتنق ابنه و قال: يا بنيّ اليوم وهبت لي.

[وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ بما يذبح بدله و هو الكبش العظيم الجثّة أو القدر لأنّه فدى اللّه به نبيّا ابن نبيّ و أيّ نبيّ الّذي من نسله سيّد المرسلين و احتجّ القائلون بجواز النسخ قبل العمل بالمأمور به بهذه الآية.

[وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ مضى تفسيره [وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى

ص: 132

إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ أي جعلنا لإبراهيم و إسحاق من الخير و البركة و يجوز أن يكون المراد كثرة ولدهما و بقائهم قرنا بعد قرن إلى أن تقوم الساعة.

[وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما] أي من أولاد إبراهيم و إسحاق محسن بالإيمان و الطاعة و بعضهم ظالم لنفسه بالكفر و المعاصي بيّن الظلم و في الآية دلالة على أن فضائل الآباء لا يستلزم فضيلة الأبناء و لا تصير هذه الشبهة سببا لمفاخرة اليهود.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 114 الى 122]

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ (114) وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم بذكر موسى و هارون فقال: [وَ لَقَدْ مَنَنَّا] أي و لقد أنعمنا عليهما نعما جليلة.

و اعلم أنّ وجوه الأنعام كثيرة إلّا أنّها محصورة في نوعين: إيصال المنافع إليه و دفع المضارّ عنه، و ذكر سبحانه القسمين: فقوله: «وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ» إشارة إلى إيصال المنافع إليهما و قوله: «وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» إشارة إلى دفع المضارّ عنهما. و المنافع على قسمين منافع الدنيا و منافع الدين أمّا منافع الدنيا فالوجود و العقل و الصحّة و الكمال في ذات كلّ واحد منهما و أمّا منافع الدين فالعلم و الطاعة و أعلى درجاتها النبوّة و المعجزات و قد أدّينا كلّ هذه الأمور و أمّا القسم الثاني و هو دفع الضرر و هو المراد بقوله: [وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ و المراد من «الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» إيذاء فرعون ببني إسرائيل و نجاتهم منه بالغرق.

[وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي نصرنا موسى و هارون و قومهما و هم بنو إسرائيل و غلبوا آل فرعون بظهور الحجّة و في آخر الأمر بالدولة و الرفعة و استيراثهم ملك فرعون.

ص: 133

[وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ و المراد منه التوراة و هو الكتاب المشتمل على جميع العلوم الّتي يحتاجون إليها في مصالح الدين و الدنيا [وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي دلّلناهما على طريق الحقّ.

[وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ و هم امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلفنا لهما الثناء الحسن و الذكر الجميل أي أبقينا فيما بين الأمم الآخرين هذا الثناء و هو قولهم: سلام على موسى و هارون و يذكرونهما بهذا الثناء الجميل و يجوز أن يكون قوله: «سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ» هو كلام اللّه و ثناؤه سبحانه عليهما بأن قلنا: «سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ».

[إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ و مثل ذلك نفعل بالمطيعين [إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ المصدّقين بجميع ما أوجبه اللّه عليهم العاملين بذلك.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 123 الى 132]

وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ (124) أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)

إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

قرأ ابن عامر «وَ إِنَّ إِلْياسَ» بغير همزة على وصف الألف و الباقون بالهمزة و قطع الألف.

و اختلف في إلياس فقيل: هو إدريس و قيل: هو إلياس بن ياسين من سبط هارون أخي موسى بعث بعده و قيل: إدريس لأنّه قرئ مكانه إدريس و إدراس و قرئ إبليس.

و عن ابن عبّاس و محمّد بن إسحاق و غيرهما قالوا: إنّه بعث بعد حزقيل لمّا عظمت الأحداث في بني إسرائيل و كان يوشع لمّا فتح الشام بوّأها بني إسرائيل و قسّمها بينهم فأحلّ سبط منهم بعلبكّ و هم سبط إلياس بعث فيهم نبيّا فأجابه الملك ثمّ إنّ امرأته حملته على أن ارتدّ من دينه و خالف إلياس و طلبه الملك ليقتله فهرب إلى الجبال و البراري و كان الملك اسمه حبّ كان مؤمنا فأغوته امرأته فصار يعبد الأصنام و كان لامرأته سبعون ولدا منه و من غيره و كان بجنب دارها بستان لعابد فطمعت فيه فقتلت العابد و تملّكت البستان فأخبرها إلياس بهلاكها و هلاك زوجها فأهلكهما اللّه.

ص: 134

و قيل: إنّه استخلف اليسع على بني إسرائيل و رفعه اللّه من بين أظهرهم و قطع عنه لذّة الطعام و الشراب و كساه الريش فصار إنسيّا ملكيّا أرضيّا سماويّا و سلّطه اللّه على الملك و قومه عدوّا لهم فقتل الملك و امرأته و بعث اللّه اليسع رسولا فآمنت به بنو إسرائيل و عظّموه.

و قيل: إنّ إلياس صاحب البراري و الخضر صاحب الجزائر و يجتمعان في كلّ يوم عرفة بعرفات.

و بالجملة ثمّ قال سبحانه حكاية عنه: [إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ أي ألا تخافون اللّه و تعبدون غيره و تعصونه ثمّ ذكر القبيح الّذي لأجله خوّفهم فقال: [أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ و بعل اسم صنم كان لهم مثل «مناة و هبل» و كان من ذهب طوله عشرون ذراعا و له أربعة أوجه و فتنوا به و عظّموه حتّى عيّنوا له أربعمائة سادن و جعلوهم أنبياء.

و قيل: كان الشيطان يدخل في جوف بعل و يتكلّم بشريعة الضلالة و السدنة يحفظونها و يعلّمونها الناس و به سمّيت مدينتهم لكن هذا القول و هو دخول الشيطان في جوف الصنم و تكلّمه بالضلال قول غير مقبول لأنّه إن صحّ هذه القدرة من الشيطان يرتفع الأمان عن المعجزات حينئذ.

[وَ تَذَرُونَ و تتركون عبادة [أَحْسَنَ الْخالِقِينَ فرضا بزعمكم و لمّا عابهم على عبادة غير اللّه صرّح بنفي الشركاء فقال: [اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ و قرئ «اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ» كلّها بالنصب على البدل من قوله: «أَحْسَنَ الْخالِقِينَ».

[فَكَذَّبُوهُ أي كذّبوا قوله قومه: [فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ النار غدا ثمّ استثنى سبحانه منهم بقوله: [إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ و ذلك لأنّهم ما كذّبوه بكلّيّتهم بل كان فيهم من كان يعبد اللّه مخلصا فإنّهم لا يحضرون.

ثمّ قال: [وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أي أبقينا له الذكر الحسن و «سَلامٌ» في هذه الآية كلّها مبتدء و الجارّ و المجرور بعده خبره و الجملة من المبتدء و الخبر في موضع المفعول لقوله «وَ تَرَكْنا» و لو اعمل «تَرَكْنا» لفظا لقال:

ص: 135

«سلاما» بالنصب و يجوز أن يكون التقدير «وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» الباقين بعده الثناء فحذف «الثناء» و هو المفعول ثمّ ابتدأ فقال: «سَلامٌ».

و بالجملة في كلمة «آل ياسين» أقوال قال ابن عبّاس: آل ياسين آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ياسين من أسمائه و من قرأ «إِلْ ياسِينَ» بالوصل أراد «إلياس» و من تبعه من مؤمن قومه و قيل: ياسين اسم السورة فكأنّه قال: سلام على من آمن بكتاب اللّه و القرآن الّذي هو يس قال أبو علي: من قرأ «آل يس» فحجّته أنّها في المصحف مفصولة من «ياسين» و في فصلها دلالة على أنّ آل هو الّذي تصغيره اهيل.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 133 الى 148]

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)

وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (138) وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ (142)

فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ (145) وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)

فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)

ثمّ عطف على ما تقدّم أي إنّ لوطا رسول من جملة المرسلين الّذين أرسلهم اللّه إلى خلقه داعيا لهم على طاعة اللّه [إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ و الظرف متعلّق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمّد إذ نجّينا لوطا و نجّيناه من آمن معه من قومه من عذاب الاستئصال [إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي في الباقين الّذين اهلكوا استثنى من أهله و قومه الناجين امرأته فإنّها من الهالكين و «الغابر» في اللغة الباقي قليلا بعد ما مضى منه و منه الغبار لأنّه يبقى بعد ذهاب التراب قليلا.

[ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي أهلكناهم.

[وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ هذا خطاب لمشركي العرب أي تمرّون في ذهابكم و مجيئكم إلى الشام على منازلهم و قراهم بالنهار و بالليل و ذلك لأنّ القوم كانوا يسافرون إلى الشام و المسافر في أكثر الأسفار إنّما يمشي في الليل و في

ص: 136

أوّل النهار فلهذا السبب عيّن هذين الوقتين.

ثمّ قال: [أَ فَلا تَعْقِلُونَ حتّى تتعقّلون و تعتبرون ممّا نزل بهم فتجتنبوا ما كانوا يفعلونه من الكفر و الضلالة و الوجه في تكرار قصص الأنبياء التشويق إلى ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق و صرف الخلق عمّا كان عليه أهل المعصية و مقابيح الأفعال.

قوله تعالى: [وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ و اذكره [إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي فرّ من قومه إلى السفينة المملوّة من الناس و الأحمال و كان فراره خوفا من أن ينزل العذاب بهم و هو مقيم فيهم و ذلك لأنّه أحسّ إنزال الإهلاك و العذاب بقومه الّذين كذّبوه فظنّ أنّه نازل لا محالة فلأجل هذا الظنّ لم يصبر على دعائهم فكان الأولى عليه أن يبقى مع قومه و يستمرّ على دعائهم و أنّه أقدم على أمر ظهرت إمارته و إن كان الأولى في مثل هذا الباب أن لا يعمل فيه بالظنّ ثمّ انكشف ليونس من بعد أنّه أخطأ في ذلك الظنّ لأجل أنّه ظهر الإيمان من قومه.

و ذكروا وجها آخر و هو أنّ يونس كان وعد قومه بالعذاب. فلمّا تأخّر عنهم العذاب بسبب توبتهم خرج كالمستور عنهم و الخجلان منهم بقصد البحر و ركب السفينة فذلك قوله: «إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ» و تمام الكلام في مشكلات هذه الآية مرّ في قوله: «وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» الآية (1) في تفسير سورة يونس فليراجع هناك و أصل الهرب من السيّد لكن لمّا كان هرب يونس من قومه بغير إذن ربّه طنّا منه أنّ الهرب أمر حسن، حسن إطلاقه عليه.

قال ابن عبّاس في قصّة يونس: إنّه كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم الملك و سبى منهم تسعة أسباط و نصفا و بقي سبطان و نصف و كان اللّه أوحى إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوّكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم فلمّا نسوا ذلك و أسروا أوحى اللّه بعد إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل أن اذهب إلى ملك هؤلاء القوم و قل له: حتّى يطلب من اللّه أن يبعث إلى بني إسرائيل نبيّا فاختار الملك يونس لقوّته و أمانته قال يونس: اللّه أمرك بهذا قال: لا و لكن أمرت أن أبعث قويّا أمينا و أنت كذلك فقال يونس: و في

ص: 137


1- الأنبياء: 88.

بني إسرائيل من هو أقوى منّي فلم لا تبعثه فألحّ الملك عليه فغضب يونس منه و خرج حتّى أتى البحر أي بحر الروم و وجد سفينة مشحونة فحملوه فيها فلمّا دخلت السفينة لجّة البحر أشرفت على الغرق فقال الملّاحون: إنّ فيكم عاصيا و إلّا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح و لا سبب ظاهر و قال التجّار: قد جرّ بنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرج سهمه نغرفه فلأن يغرق واحد خير من غرق الكلّ فتقارعوا فخرجت القرعة باسم يونس فقال التجّار نحن أولى من نبيّ اللّه ثمّ عادوا ثانيا و ثالثا يقرعون فيخرج سهم يونس فقال يونس: يا هؤلاء أنا الآبق و تلفّف في كسائه و رمى بنفسه في البحر فابتلعه السمكة فأوحى اللّه إلى الحوت إنّي ما جعلته رزقا لك لا تكسر منه عظما و لا تقطع له وصلا.

فذلك قوله تعالى: [فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أي من المغلوبين بالقرعة و أصل «الدحض» المزلق عن مقام الظفر.

[فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ أي فابتلعه من «اللقمة» و هو مليم أي داخل في الملامة أو آت بما يلام عليه أو مليم نفسه و قرئ «مليم» بالفتح بناء من ليم مثل مشيب في مشوب و هذا اللوم لوم العتاب لا لوم العقاب على خروجه من قومه و عندنا الإماميّة أنّ ذلك وقع من يونس تركا للمندوب و قد يلام الإنسان على ترك المندوب.

و اختلف في مدّة لبثه في بطن الحوت فقيل: ثلاثة أيّام و قيل: سبعة أيّام و قيل:

عشرين يوما و قيل: أربعين يوما.

[فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي كان تسبيحه أنّه كان يقول: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» و قيل: كان من المصلّين في حال الرجاء فنجّاه اللّه عند البلاء و قيل:

كأن ينزّه اللّه دائما عما لا يليق به [لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي كان بطن الحوت قبره إلى يوم القيامة.

[فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ أي فطرحناه بالمكان العاري عن النبات و الشجر و قذفه الحوت بأمر اللّه من جوفه على وجه الساحل و هو مريض حين ألقاه الحوت و خرج من بطن الحوت كهيئة فرخ ليس عليه ريش.

ص: 138

[وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ و هو القرع و اليقطين يقال لكلّ نبت ينبسط على وجه الأرض و لا ساق له فكان يونس يستظلّ بها و يأكل من ثمرها حتّى تشدّد قيل:

إنّ السمكة أخرجته إلى نيل مصر ثمّ إلى بحر فارس ثمّ إلى بحر البطائح ثمّ دخله و رمته بأرض نصيبين ثمّ إنّ الأرضة أكلت الشجرة فخرّت من أصلها فحزن يونس لذلك حزنا شديدا فقال: يا ربّ كنت أستظلّ تحت هذه الشجرة من الشمس و الريح و آكل من ثمرها و قد سقطت فقيل له: يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة و اقتلعت في ساعة و لا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم انطلق إليهم فانطلق إليهم و ذلك قوله:

[وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قيل: إنّ اللّه أرسله إلى نينوى من أرض الموصل و كانت رسالته هذه بعد ما نبذه الحوت فعلى هذا يجوز أن يكون أرسل إلى قوم بعد قوم أو أن يكون مرسلا إلى الأوّلين بشريعة فآمنوا بها.

و قيل: في معنى «أَوْ يَزِيدُونَ» وجوها: أحدها أن يكون على طريق الإبهام على المخاطبين كأنّه قال: أرسلناه إلى احدى العدّتين و ثانيها أنّ «أو» للتخيير كأنّ الرائي خيّر بين أن يقول: مائة ألف أو يزيدون أي كانوا عددا لو نظر إليهم الناظر لقال:

هم مائة ألف أو يزيدون و ثالثها أنّ «أو» بمعنى الواو كأنّه قال: و يزيدون و قيل:

معنى «أو» بل يزيدون و اختلف في الزيادة على مائة ألف فقيل: عشرون ألفا عن ابن عبّاس و قيل: بضع و ثلاثون ألفا و قيل: سبعون ألفا.

[فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ حكى سبحانه عنهم أنّهم آمنوا باللّه و راجعوا التوبة فكشف عنهم العذاب و متّعوا بالمنافع و اللّذات إلى انقضاء آجالهم.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 149 الى 160]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)

ص: 139

قرئ «أَصْطَفَى» بكسر الهمزة و بفتح الهمزة.

ثمّ عاد الكلام إلى الردّ على مشركي العرب فقال سبحانه:

[فَاسْتَفْتِهِمْ أي سلهم و اطلب الحكم منهم في هذه القصّة [أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ أي كيف أضفتم البنات إلى اللّه و اخترتم لأنفسكم البنين و ذلك لأنّهم كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات اللّه على وجه الاصطفاء لا على وجه الولادة.

[أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً] أي بل خلقنا الملائكة إناثا [وَ هُمْ شاهِدُونَ أي حاضرون أي كيف جعلوهم إناثا و لهم يشهدوا خلقهم و الغرض من هذا البيان تبكيتهم على كفرهم حيث جعلوا البنات اللاتي هنّ أوضع الجنسين للّه و لهم البنون الّذين أرفع الجنسين.

و نقل الواحديّ عن المفسّرين أنّهم قالوا: إنّ قريشا و أجناس العرب قالوا:

الملائكة بنات اللّه مع أنّهم كانوا يستنكفون من البنت و الشي ء الّذي يستنكف منه المخلوق كيف يثبتونه للخالق على أنّ إثبات الولد للّه كفر ثمّ كيف أضافوا الأنوثيّة للملائكة مع أنّ الملائكة من أشرف الخلائق و أبعدهم من صفات الأجسام و رذائل الطباع و الأنوثة من أخسّ صفات الحيوان.

ثمّ أخبر سبحانه عن كذبهم فقال: [أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ حين زعموا أنّ الملائكة بنات اللّه [وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم: «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ» دخلت همزة الاستفهام على همزة الوصل فسقطت همزة الوصل و مثله قول ذي الرّمة:

استحدث الركب عن أشياعهم خبراأم راجع القلب من أطرابه طرب

و حاصل المعنى كيف يختار اللّه سبحانه الأدون على الأعلى مع كونه حكيما مالكا.

ثمّ وبّخهم فقال: [ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بهذا الحكم [أَ فَلا تَذَكَّرُونَ و تتّعظون فتنتهون عن مثل هذا القول السخيف.

[أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي حجّة و بيّنة على ما تقولون و هذا كلّه إنكار و ردّ بصورة الاستفهام [فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فأتوا بحجّتكم على هذا الاعتقاد

ص: 140

و المراد أنّه لا دليل لكم على ما تقولونه من جهة العقل و لا من جهة السمع.

قوله تعالى: [وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً] روينا في تفسير قوله: «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ» (1) إنّ قوما من الزنادقة كانوا يقولون: إنّ اللّه و إبليس أخوان فاللّه الأخ الكريم الخيّر و إبليس هو الشرير الخسيس فقوله: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» المراد منه هذا المذهب و هو مذهب المجوس القائلين بيزدان و أهريمن هذا أحد الأقوال في تفسير الآية و حاصل هذا المعنى أنّ اللّه خالق الخير و النور و الحيوان النافع و الشيطان خالق الشرّ و الظلمة و الحيوان الضارّ الموذي.

و القول الثاني في معني الآية على قول المشركين من العرب حيث يقولون: إنّ الملائكة بنات اللّه و سمّي الملائكة جنّة لاستتارهم عن العيون.

و القول الثالث: إنّ اللّه صاهر الجنّ فحدثت الملائكة. تعالى اللّه عن هذه الأقوال السخيفة.

و القول الرابع أنّهم أشركوا الشيطان في عبادة اللّه فذلك هو النسب الّذي جعلوه بينه و بين الجنّة.

[وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي علمت الملائكة أنّ هؤلاء الّذين قالوا هذا القول محضرون في العذاب يوم القيامة.

[سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ نزّه سبحانه نفسه عمّا لا يليق به و أضافوه إليه [إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثنى عباده المخلصين عن هذه الأقوال القبيحة السخيفة و من حضور العذاب.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 161 الى 170]

فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَ ما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)

وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)

ثمّ خاطب سبحانه الكفّار بأن قال لهم: [فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ أي إنّكم يا

ص: 141


1- الانعام: 100.

معشر الكفّار و الّذي تعبدونه [ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ و الضمير في «عَلَيْهِ» فيه قولان أحدهما أنّه يعود إلي «ما تَعْبُدُونَ» و التقدير أنّكم و ما تعبدونه ما أنتم على عبادته بفاتنين أحدا إلّا من يصلي الجهيم و يحترق بها بسوء اختياره و ما أنتم بمضلّين أحدا و لا تقدرون على إضلال أحد إلّا من سبق في علم اللّه أنّه بسوء اختياره سيكفر و يصلي الجحيم و القول الآخر في الضمير من «عَلَيْهِ» أنّه يعود إلى اللّه و التقدير ما أنتم على اللّه و على دينه بمضلّين أحدا [إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ باختياره.

قوله: [وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هذا قول جبرئيل للنبيّ: أو قول الملائكة وصفوا بأنفسهم بالمبالغة في العبادة و العبوديّة و ذكروا أنّهم يصطفّون للصلاة و التسبيح و الغرض من بيان الآية التنبيه على فساد قول من يقول: إنّهم أولاد اللّه فإنّهم يعترفون بالعبوديّة و العبوديّة تنافي الأولاديّة.

و ذكرا أنّ لكلّ منهم مرتبة لا يتجاوزها درجة لا يتعدّى عنها بقولهم: [وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أي صافّون في أداء الطاعات و منازل الخدمة و أمّا درجاتهم في المعارف فبقولهم: [وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ .

قوله: [وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ المعنى أنّ مشركي العرب كانوا يقولون: «لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً» أي كتابا من كتب الأوّلين الّذي نزل عليهم مثل التوراة و الإنجيل لأخلصنا العبادة للّه و لمّا كذّبنا كما كذّب غيرنا ثمّ جاءهم الذكر الّذي هو سيّد الأذكار و الكتاب المهيمن الّذي فاق كلّ الكتب و هو القرآن.

[فَكَفَرُوا بِهِ و في الكلام حذف تقديره فلمّا أتاهم الكتاب كفروا به [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 171 الى 182]

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)

وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)

ص: 142

المعنى لمّا هدد الكفّار بقوله: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» أردفه بما يقوّي قلب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: [وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا] أقسم و ذكر لام القسم أي تقدّم في علم اللّه و حكمه أنّ المرسلين [لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فبيّن أنّه سبحانه وعد نبيّه بنصرته و الدليل عليه قوله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي» (1) و أيضا إنّ الخير مقتض بالذات و الشرّ مقتض بالعرض و ما بالذات أقوى ممّا بالعرض.

و أمّا النصرة و الغلبة قد تكون بالحجّة و قد تكون بالاستيلاء و الدولة و قد تكون بالدوام و الثبات فالمؤمن و إن صار مغلوبا في بعض الأوقات بسبب أحوال الدنيا لكن مع ذلك فالحقّ بما هو حقّ غالب و لا يلزم أن يقال: فقد قتل بعض الأنبياء و قد ضعف و هزم كثير من المؤمنين فهم مع ذلك غالبون بالسعادة و هؤلاء مغلوبون بالشقاوة بسوء العاقبة.

ثمّ قال لنبيّه: [فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عن هؤلاء الكفّار [حَتَّى حِينٍ نأمرك فيه بقتالهم أو إلى يوم الموت و انقضاء مدّة الامهال.

[وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي أنظرهم فسوف يبصرون العذاب [أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ لأنّهم كانوا يقولون: متى هذا التهديد و الوعيد الّذي توعدنا به فأنزل اللّه أفبعذابنا يطلبون العجلة؟

[فَإِذا نَزَلَ العذاب [بِساحَتِهِمْ و بأفنية دورهم كما يستعجلون [فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس الصباح صباح من يحذّر و لم يحذر. و «الساحة» معناه الدار و فناؤها و كانت العرب تفاجئ أعداءها بالغارات صباحا فخرج الكلام على عادتهم و لأنّ اللّه أجرى العادة بتعذيب الأمم وقت الصباح كما قال: «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ».

[وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ مرّ تفسيره و إنّما كرّر

ص: 143


1- المجادلة: 21.

للتأكيد و الاهتمام بشأن التهديد و قيل: إنّ المراد بأحدهما عذاب الدنيا مثل بدر و أشباهه و بالآخر عذاب الآخرة.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن وصفهم و بهتانهم فقال: [سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزيها لربّك مالك العزّة يعزّ من يشاء لا يملك أحد إعزاز أحد سواه [وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أي سلامة و أمان للأنبياء من العذاب و السوء [وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي احمدوا اللّه الّذي هو مالك العالمين (و هو خبر معناه الأمر) و أخلصوا الثناء و الحمد للّه و لا تشركوا به أحدا فإنّ النعم كلّها منه تعالى.

روى الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه السّلام و روى أيضا مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 144

سورة ص

اشارة

* (مكية)* فضلها ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة ص اعطي من الأجر بوزن كلّ جبل سخّر اللّه لداود حسنات و عصمه اللّه أن يصرّ على ذنب صغيرا أو كبيرا.

و روى العيّاشيّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ سورة ص في ليلة الجمعة اعطى من خير الدنيا و الآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلّا نبيّ مرسل أو ملك مقرّب و أدخله اللّه الجنّة و كلّ من أحبّ من أهل بيته حتّى خادمه الّذي يخدمه و إن كان ليس في حدّ عياله و لا في حدّ من يشفع له و آمنه اللّه يوم الفزع الأكبر.

ص: 145

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة ص (38): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)

أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (5)

النزول: قال المفسّرون: إنّ أشراف قريش و هم خمسة و عشرون منهم الوليد بن مغيرة و هو أكبرهم و أبو جهل و ابيّ و اميّة ابنا خلف و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و النضر بن الحارث أتوا أبا طالب و قالوا: أنت شيخنا و كبيرنا و قد أتيناك لتقضي بيننا و بين ابن أخيك فإنّه سفّه أحلامنا و شتم آلهتنا فدعا أبو طالب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال:

يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك فقال: ما ذا يسألونني قالوا: دعنا و آلهتنا ندعك و إلهك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أتعطونني كلمة واحدة تملكون العرب و العجم فقال أبو جهل: للّه أبوك نعطيك ذلك و عشرة أمثالها فقال: قولوا: لا إله إلّا اللّه فقاموا و قالوا: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» فنزلت هذه الآيات.

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استعبر ثمّ قال: يا عمّ و اللّه لو وضعت الشمس في يميني و القمر في شمالي ما تركت هذا القول حتّى أنفذه أو اقتل دونه فقال له أبو طالب: امض لأمرك فو اللّه لا أخذلك أبدا.

قوله تعالى: [ص اختلفوا في معناه فقيل: هو اسم للسورة و قيل فيه ما قيل في فواتح السور و قد شرح بيانه في سورة البقرة مثل أن يكون «ص» اسما من أسماء اللّه الّتي أوّلها صاد و معناه صادق الوعد و صانع المصنوعات و صمد أو معناه صدّق محمّد فيما أخبر به عن اللّه أو المعنى صدّ الكفّار عن قبول هذا الدّين كما قال: [الَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 146

وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»* (1) و قيل: معناه أنّ القرآن مركّب من هذه الحروف و أنتم قادرون عليها و لستم قادرين على معارضة القرآن فدلّ ذلك على أنّ القرآن معجز، الخامس من المعاني أن يكون «صاد» بالكسر من الدال من المصادّة و هي المعارضة و منها الصدى و هو ما يعارض صوتك في الأماكن الخالية الصلبة فحينئذ معناه: عارض القرآن و واجهه بعملك فاعمل بأوامره و انته عن نواهيه و إذا كان اسم للسورة فالتقدير: هذه السورة صاد و إذا كان المراد من «ص» صدق محمّد فالصاد هو المقسم عليه و قوله: [وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ] هو القسم فالمعنى و القرآن ذي الذكر أنّ محمّدا لصادق فيما يخبر عن ربّه.

و المراد من قوله: «ذِي الذِّكْرِ» أي ذي البيان الّذي يؤدّي إلى الحقّ و يهدي إلى الرشد لأنّ فيه ذكر ما يحتاج الإنسان إليه من امور معاشه و معاده و ذكر الأنبياء و أخبار الأمم و البعث و الأحكام و قيل: المراد من «الذِّكْرِ» الشرف و يؤيّده قوله: «وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ» (2) أو المراد منه ذكر اللّه و توحيده و أسمائه الحسنى و صفاته العليا.

و اختلف في جواب القسم على وجوه: أحدها أنّ جوابه محذوف فكأنّه قال:

«وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» لقد جاء الحقّ و ظهر الأمر و حذف الجواب في مثل هذا أبلغ فإنّ ذكر الجواب يقصر المعنى على وجه و الحذف يصرف إلى كلّ وجه فيعمّ. و القول الثاني ما ذكرناه و هو أنّ جوابه «ص» يعني صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قوله: [بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ إضرابا عن ذلك كأنّه قيل: لا ريب فيه قطعا و ليس عدم إذعانهم للقرآن لشائبة ريب فيه بل هم في استكبار و حميّة شديدة و شقاق بعيد للّه و لرسوله و لذلك لا يذعنون له و منعهم الحسد و التكبّر من الانقياد إلى الحقّ.

و المراد من العزّة هاهنا العظمة و ما يعتقده الإنسان في نفسه من الأحوال الّتي تمنعه من متابعة الغير كما قال: «وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ» (3) و المراد من الشقاق إظهار المخالفة على جهة المساوات للمخالف و هو مأخوذ من «الشقّ» كأنّه يرتفع عن أن يلزمه الانقياد له بل يجعل نفسه في شقّ و خصمه في شقّ فيريد أن يكون في شقّ نفسه و

ص: 147


1- النساء: 166.
2- الزخرف: 49.
3- البقرة: 206.

لا يجري عليه حكم خصمه.

ثمّ إنّه سبحانه لمّا وصفهم بالعزّة و الشقاق خوّفهم فقال: [كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ و المعنى أنّهم نادوا عند نزول العذاب بسبب تكذيبهم الأنبياء و نادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة و ليس الوقت حين منجى و لا يفيد في ذلك الوقت الندامة و الرجوع عند معاينة العذاب و هو كقوله: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا» (1) و كقوله: «آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ» (2) و قوله: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» (3).

و أمّا تحقيق الكلام في لفظ «لاتَ» قال سيبويه: إنّ «لاتَ» هي «لا» المشبّهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على ربّ و ثمّ للتأكيد و بسبب هذه الزيادة حدث لها أحكام: منها أنّها لا تدخل إلّا على الأحيان و منها أن لا يبرز إلّا أحد جزءيها إمّا الاسم و إمّا الخبر و يمتنع بروزهما جميعا و قال الأخفش: إنّها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء و خصّت بنفي الأحيان و «حِينَ مَناصٍ» منصوب بها كأنّك قلت:

و لات حين مناص لهم و يرتفع بالابتداء أي و لات حين مناص كائن لهم و المناص المنجى و الغوث يقال: ناصه ينوصه إذا أغاثه و استناص طلب المناص.

قوله تعالى: [وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ و عجب الكافرون أن أتاهم من ينذرهم و يخوّفهم منهم قالوا: إنّ محمّدا مساو لنا في الخلقة الظاهرة و الأخلاق الباطنة و النسب و الشكل فكيف يختصّ من بيننا بهذا الأمر و هو من رهطنا و عشيرتنا فاستنكفوا من الدخول تحت طاعته و الانقياد لتكاليفه و ما كان سبب هذا التعجّب إلّا الحسد.

ثمّ نسبوا إليه السحر و الكذب ثمّ قالوا: [أَ جَعَلَ هذا الرجل [الْآلِهَةَ] الكثيرة [إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ و قاسوا بسبب تقليد آبائهم الحمقاء

ص: 148


1- المؤمن: 84.
2- يونس: 91.
3- المؤمن: 85.

و قالوا: لا بدّ في حفظ هذا العالم الكثير من آلهة كثيرة يتكفّل كلّ واحد منهم بحفظ نوع و كان قياسهم الباطل أنّ أولئك الأقوام من أسلافنا على كثرتهم و قوّة عقولهم كيف كانوا جاهلين و مبطلين و هذا الإنسان الواحد يكون محقّا صادقا و هذه التشريفات كانت منشأ عجبهم.

و «العجاب» هو العجيب إلّا أنّه أبلع كقولهم: طويل و طوال و كبير و كبار و قد يسدّد للمبالغة مثل «وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً».

قوله: [سورة ص (38): الآيات 6 الى 10]

وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10)

المعنى: هذا تمام الحكاية عن الكفّار أي انطلق الأشراف منهم و «الانطلاق» الذهاب بسهولة و منه طلاقة الوجه و الخلق و كان يقول بعضهم لبعض: [امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ و اثبتوا على عبادة آلهتكم و اصبروا على دينكم و تحمّلوا المشاقّ و قيل:

القائل منهم عقبة بن أبي معيط.

قال الزمخشريّ: «أَنِ امْشُوا» «أن» هاهنا بمعنى «أي» و هي المفسّرة عن القول أي قال بعضهم لبعض: «امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ» و اعبدوها متحمّلين لما تسمعونه من القدح.

[إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ] أي إنّ هذا الّذي شاهدناه من محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من أمر التوحيد و نفي الآلهة و إبطال أمرها لشي ء يراد من جهته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يمكن أن يلويه صارف و لا عاطف يثنيه فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله من هذا الرأي بواسطة أبي طالب أو غيره و قيل: المعنى إنّ هذا لشي ء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه و قيل:

إنّ هذا الّذي يدّعيه من التوحيد أو يقصده من الرياسة و الترفّع على العرب و العجم لشي ء يتمنّى و يريده كلّ أحد قال القفّال: هذه كلمة تذكر للتهديد و كان معناه أنّه ليس

ص: 149

غرض محمّد من هذا القول تقرير الدين و إنّما غرضه أن يستولي علينا فيحكم في أموالنا و أنفسنا بما يريد.

[ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ] و المراد من «الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ» هي ملّة النصارى أي هذا التوحيد الّذي أتى به محمّد ما سمعناه في دين النصارى لأنّها آخر الملل قال ابن عبّاس: لأنّ النصارى لا يوحّدون و أنّهم يقولون بقوله: «ثالِثُ ثَلاثَةٍ» و قيل: المراد من «الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ» ملّة قريش أي ملّة زماننا.

[إِنْ هذا] أي ليس هذا الّذي يقوله محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [إِلَّا اخْتِلاقٌ أي تصنّع و كذب و افتعال أي كذب اختلقه و اخترعه.

[أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا] هذه شبهة من المشركين أي كيف انزل على محمّد القرآن من بيننا و ليس بأكبر سنّا منّا و لا بأعظم شرفا و هو مساو لنا في البشريّة و الخلقة الظاهرة فكيف اختصّ بهذه الفضيلة؟ و هذا القياس باطل لأنّهم زعموا أنّ الشرف بالمال و الأعوان فعقدوا على هذا القياس الفاسد أمرهم و أفكارهم.

فأجاب سبحانه [بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي ليس يحملهم على هذا الاستبعاد إلّا الشكّ في هذا القرآن و الوحي الّذى أنزلناه إليك و إعراضهم عن النظر و التدبّر إلى الأدلّة المؤدّية إلى العلم بحقيقته [بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي إذا أذاقوه تبيّن لهم حقيقة الحال و في كلمة «لما» دلالة على أنّ ذوقهم على شرف الوقوع و المعنى أنّهم لا يصدّقون بالقرآن حتّى يمسّهم العذاب و لأنّهم لم يذوقوا العذاب الموعود و لذلك شكّوا.

[أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ تتمّة الجواب عن شبهتهم بقولهم: «أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا» فقال سبحانه: أ بأيديهم مفاتيح النبوّة و الرسالة فيضعونها حيث يشاءوا من صناديدهم أي أنّها ليست بأيديهم و ليس لهم تعيين النبيّ و الرسول حتّى يضعوا النبوّة فيمن أرادوه و لكنّها بيد العزيز الغالب في ملكه كثير الهبات و العطايا يختار للنبوّة من يشاء من عباده.

[أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي ألهم

ص: 150

سلطة و اختيار في السماوات و الأرض فيمنعون اللّه من مراده، إن ادّعوا ذلك فليصعدوا في المعارج و المناهج و المدارج الّتي يتوصّل بها إلى السماوات و يدبّروا أمرها و ينزلوا الوحي إلى من يختارونه و هذا الكلام جواب عن شرط محذوف أي إن كان لهم ما ذكر من الملك «فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ».

و لمّا ذكر سبحانه في الآية الأولى بقوله: «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ» و ذكر الخزائن على عمومها و هي غير متناهية أردفها بذكر ملك السموات و الأرض يعني أنّ ملك السماوات و الأرض أحد أنواع خزائن اللّه فإذا كنتم عاجزين عن هذا القسم و كيفيّة صعودها و تصرّفها فبأن تكونوا عاجزين عن كلّ خزائن اللّه كان أولى.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 11 الى 15]

جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)

المعنى: أخبر سبحانه عن الكفّار القائلين بهذه الأقوال السخيفة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو بمكّة أنّهم سيهزمون و أنت منصور عليهم و هم الّذين تحزّبوا و حاربوا النبيّ و «ما» زائدة مؤكّدة للتحقير مثل أكلت شيئا مّا و يجوز أن يكون للتعظيم هزؤا فيؤول إلى التحقير و قيل: المراد بقوله «هُنالِكَ» يوم بدر أو المراد الموضع الّذي ذكروا هذه المقالات السخيفة و يمكن أن يكون حمله على يوم فتح مكّة.

و وجه النظم في الآية بما قبلها أنّ المعنى كيف يتقوّلون بهذه الأقاويل و كيف يرتقون إلى السماء و هم فرق من قبائل شتّى مهزومون؟

قوله: [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي كذّبت قبل هؤلاء الكفّار [قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ] أي أقوام الأنبياء قبلك كذلك كذّبوا أنبياءهم و هكذا كانوا يكذّبون رسلهم ثمّ بالآخرة نزل العذاب بهم فذكر ستّة أصناف منهم: أوّلهم قوم نوح فأهلكهم اللّه بالغرق و الطوفان. و الثاني عاد قوم هود لمّا كذّبوه أهلكهم اللّه بالريح العقيم. و الثالث فرعون لمّا كذّب موسى أهلكه اللّه مع قومه بالغرق. و الرابع ثمود قوم صالح لمّا كذّبوه فاهلكوا

ص: 151

بالصيحة. و الخامس قوم لوط كذّبوه فاهلكوا بالخسف. و السادس أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب فلمّا كذّبوه فاهلكوا بعذاب يوم الظلّة.

و إنّما وصف اللّه فرعون بكونه ذو الأوتاد لوجوه:

الاول: أنّ أصل هذه الكلمة من أصل ثبات البيت المطنّب بأوتاده ثمّ استعير لإثبات العزّ و الملك قال الشاعر:

و لقد غنوا فيها بأنعم عيشةفي ظلّ ملك ثابت الأوتاد

و هذا المعنى أحسن الوجوه.

و الثاني أنّه كان ينصب الخشب في الهواء و كان يمدّ يدي المعذّب و رجليه إلى تلك الخشب الأربع و يضرب على كلّ واحد من هذه الأعضاء وتدا و يتركه معلّقا في الهواء إلى أن يموت.

و الثالث أنّه يمدّ المعذّب بين أربعة أوتاد في الأرض و يرسل عليه العقارب و الحيّات.

و الرابع قال قتادة: كانت عنده أوتادا و أرسانا و ملاعب يلعب بها عنده.

و الخامس أنّ عساكره كانوا كثيرين و كانوا كثيري الأهبة عظيمي النعم و كانوا يكثرون من الأوتاد لأجل الخيام فعرّف بها.

قوله تعالى: [أُولئِكَ الْأَحْزابُ مبالغة لوصفهم بالقوّة و الكثرة و المعنى أنّ حال أولئك الأحزاب مع كمال قوّتهم لمّا كان عاقبة أمرهم الهلاك و البوار فكيف هؤلاء الضعفاء؟

و لمّا ذكر حال المكذّبين بيّن أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب و معناه هم الأحزاب حقّا أي أحزاب الشيطان كما يقال: هم هم و فلان هو الرجل قال الشاعر:

و إنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كلّ القوم يا امّ خالد

[إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أي ما كلّ حزب منهم إلّا كذّب الرسل فوجب عليهم عقابي بتكذيبهم رسلي [وَ ما يَنْظُرُ] أي و ما ينتظر [هؤُلاءِ] يعني كفّار

ص: 152

مكّة [إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً] و هي النفخة الاولى في الصور [ما لَها مِنْ فَواقٍ أي لا يكون لتلك الصيحة إفاقة بالرجوع إلى الدنيا أو لا يتمكّنون من الرجوع مقدار زمان رجوع اللبن إلى الضرع. قال الفرّاء: إذا ارتضعت البهيمة امّها ثمّ تركها حتّى تنزل فتلك الإفاقة و الفواق ثمّ قيل لكلّ إنظار و استراحة و قيل: المعنى مالها من فتور كما يفتر المريض أو مالها مثنويّة و ردّ و صرف.

قال الطبرسيّ: من الآيات الدالّة على عدم تعذيب هذه الامّة بعذاب الاستئصال هذه الآية و المراد أنّ عقوبة امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعذاب الاستئصال مؤخّرة إلى يوم القيامة و عقوبة سائر الأمم معجّلة في الدنيا كما قال سبحانه: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ» (1).

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 16 الى 20]

وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ (18) وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (20)

[وَ قالُوا] أي هؤلاء الكفّار: [رَبَّنا] أي يا ربّنا [عَجِّلْ لَنا قِطَّنا] قدّم لنا نصيبنا من العذاب [قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ و إنّما قالوه على سبيل الاستهزاء بخبر النبيّ و خبر اللّه عن ابن عبّاس و مجاهد و قتادة و جماعة.

و قيل: لمّا نزل «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ...، وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ» (2) قال قريش: يا محمّد زعمت أنّا نؤتى كتابنا بشمالنا فعجّل لنا كتبنا الّتي نقرؤها في الآخرة و ذلك استهزاء منهم بهذا الوعيد و تكذيبا به و «القطّ» كتب الجوائز و الحكم و اشتقاقها من القطّ و هو القطع لأنّها تقطع النصيب و العمل و القطّ الحساب أيضا قال الأعشى:

و لا الملك النعمان يوم لقيته بنعمته يعطي القطوط و يافق

و بالجملة إنّ القوم قد كمل كفرهم في الشبهات الثلاثة الّتي أوردوها: أولاها تتعلّق

ص: 153


1- القمر: 46.
2- الحاقة: 19 و 25.

بالإلهيّات و هو قوله تعالى حكاية عنهم «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً». و الثانية تتعلّق بالنبوّة و هو قوله: «أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا» و الثالثة تتعلّق بالمعاد و هو قوله:

«وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ».

قوله تعالى: [اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ] سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهلة جرأتهم في مثل هذه الأمور اصبر و تحمّل أذاهم كأنّه قال: و اذكر لهم الأكابر من الأنبياء كيف كانوا يخافون اللّه مع أنّهم معصومون من المعاصي و منهم داود فإنّه بسبب ترك مندوب كيف خاف من ربّه كما حكى عنه بكاءه الدائب و غمّه الواصب و ندمه الدائم فما الظنّ بهؤلاء الكفرة الأذلّين من كلّ ذليل المصرّين لأكبر الكبائر و الغرض من الآية و ذكر القصّة تهويل لأمر المعصية في أعين الناس و تنبيها لهم على كمال قبح ما اجترعوا عليه و أيضا تثبيت للرسول على مقاساة أمر النبوّة و صيانة نفسه الشريفة على التحمّل و التصبّر على أذيّاتهم.

[وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ] في التوحيد عن الباقر عليه السّلام: اليد في كلام العرب القوّة و النعمة و قيل: ذو القوّة على العبادة ذكر أنّه كان يقوم نصف الليل و يصوم نصف الدهر و كان يصوم يوما و يفطر يوما و ذلك أشدّ الصوم و قيل: المراد بالقوّة في البدن روي أنّه رمى بحجر من مقلاعه صدر الرجل فأنفذه من ظهره فأصاب آخر فقتله و قيل:

معناه ذا التمكين العظيم و النعمة العظيمة و ذلك أنّه كان يبيت كلّ ليلة حول محرابه ألوف كثيرة من الرجال.

و إنّ هذا الوصف الّذي وصف داود و هو قوله: «عَبْدَنا» نهاية في التعظيم مقام أعلى و أسنى منهم ألا ترى أنّه سبحانه قال: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ» (1) و هذا بيان تشريف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ليلة المعراج و إنّما وصف سبحانه عباده المخلص بالعبوديّة مشعرا بأنّهم قد حقّقوا معنى العبوديّة بسبب الاجتهاد في الطاعة.

[إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجّاع كثير الرجوع إلى مرضاة اللّه و يراجع أموره كلّها إلى طاعتي و رضاي و يرجع عن كلّ ما يكره اللّه إلى ما كلّ يحبّ اللّه من آب يؤوب

ص: 154


1- الإسراء: 1.

إذا رجع و قيل: معناه أي مسبّح و قيل: مطيع قوله تعالى: [إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ و ذكر في تسبيح الجبال وجوه:

الاول: أنّ اللّه خلق في جسم الجبل حياة و قدرة و عقلا و منطقا و حينئذ صار الجبل مسبّحا للّه تعالى و نظيره قوله تعالى: «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ» (1) فإنّ معناه أنّه تعالى خلق في الجبل عقلا و فهما ثمّ خلق فيه رؤية عظمة اللّه فكذا هاهنا.

الثاني: ما رواه القفّال المروزيّ في تأويل التسبيح أنّه يجوز أن يقال: إنّ داود قد اوتي من شدّة حسن الصوت ما كان له دويّ حسن في الجبال و ما يصغي إليه الطير لحسنه فيكون دويّ الجبال و تصويت الطير و تغريده معه تسبيحا لهم و ذكر محمّد بن إسحاق أنّ اللّه لم يعط أحدا من خلقه مثل صوت داود حتّى إنّه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتّى يأخذ عليه السّلام بأعناقهم.

و الوجه الثالث من الوجوه أنّ اللّه سيّر الجبال معه حتّى أنّها كانت تسير إلى حيث يريده و يتبعه و كان ذلك السير تسبيحا لها لأنّه كان يدلّ على كمال قدرة اللّه و حكمته.

قال صاحب الكشّاف: «يُسَبِّحْنَ» في معنى مسبّحات فإنّ صيغة الفعل تدلّ على الحدوث و التجدّد و صيغة الاسم على الدوام فقوله: «يُسَبِّحْنَ» يدلّ على التجدّد و الحدوث في التسبيح من الجبال شيئا بعد شي ء و حالا بعد حال.

قوله: [بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ أي بالرواح و الصباح يقول: الشمس إذا طلعت أشرقت وصفا شعاعها.

قوله: [وَ الطَّيْرَ] أي و سخّرنا الطير [مَحْشُورَةً] أي مجموعة إليه تسبّح اللّه تعالى معه [كُلٌ يعني كلّ الطير و الجبال [لَهُ أَوَّابٌ رجّاع إليه مطيع له بالتسبيح قال الجبّائيّ: لا يمتنع أن يكون اللّه خلق في الطيور من المعارف ما تفهم بها أمر داود و نهيه فتطيعه في ما يريد منها و إن لم تكن كاملة العقل مكلّفة.

[وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوّينا ملكه بالحرس و الجنود و الهيبة و كثرة العدّة و العدد

ص: 155


1- الأعراف: 142.

عن ابن عبّاس أنّه كان يحرسه كلّ ليلة ستّة و ثلاثون ألف رجل و قيل: أربعون ألفا و كان أشدّ ملوك الأرض سلطانا.

و عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّ رجلا ادّعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدّعى عليه فقال داود للمدّعي: أقم البيّنة فلم يقمها فرأى داود في منامه أنّ اللّه يأمره أن يقتل المدّعى عليه فتثبّت داود و قال: هو منام فأتاه الوحي بعد ذلك بأن يقتله فأحضره و أعلمه أنّ اللّه يأمره بقتله فقال المدّعى عليه: صدق اللّه إنّي كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود فهذه الواقعة شدّت ملكه و أمّا الأسباب الدينيّة الموجبة لهذا الشدّ فهي الصبر و التأمّل التامّ و الاحتياط الكامل فحصل له مقام العبوديّة و التقوى.

قوله: [وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ و المراد بالحكمة النبوّة أو العلم باللّه و شرائعه و المراد «بفصل الخطاب» هو العلم بالقضاء و الفهم و العالم بالحكمة أن يكون الإنسان يعلم حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشريّة و العامل بالحكمة أن يكون آتيا بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا و الآخرة فهذا هو الحكمة. و إنّما سمّي هذا الأمر بالحكمة لأنّ اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور و تبعيدها عن أسباب الرخاوة و الضعف فلهذا السبب سمّيت تلك المعارف و هذه الأعمال بالحكمة و المراد من «فَصْلَ الْخِطابِ» على ما ذكرنا معرفة امور الّتي بها يفصل بين الخصوم حسبما قرّره الشارع و بحيث لا يختلط شي ء بشي ء آخر و ينفصل كلّ مقام من مقام.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 21 الى 25]

وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (25)

ص: 156

المعنى: فقوله تعالى: [وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فهو نظير قوله: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * و فائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصّة المستفهم عنها ليكون داعيا إلى الاعتبار بها.

قال الرازيّ: و أقول: للناس في هذه القصّة ثلاثة أقوال:

أحدها ذكر هذه القصّة على وجه يدلّ على صدور الكبيرة عن داود عليه السّلام. و ثانيها دلالتها على صدور الصغيرة عنه. و ثالثها بحيث لا تدلّ على الكبيرة و لا على الصغيرة.

فأمّا القول الأوّل فحاصل كلامهم فيها أنّ داود عشق امرأة أوريا فاحتال بالوجوه الكثيرة حتّى قتل زوجها ثمّ تزوّج بها فأرسل اللّه إليه ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته و عرضا تلك الواقعة عليه فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنبا فتنبّه لذلك و اشتغل بالتوبة.

و هذا القول باطل و في نهاية الفساد من وجوه:

الاول أنّ هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق النّاس و أشدّهم فجورا لاستنكف منها و الرجل الحشويّ الخبيث الّذي يقرّر تلك القصّة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه و ربّما لعن من ينسبه إليها و إذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبتها إلى المعصوم؟

الثاني أنّ حاصل القصّة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حقّ و إلى الطمع في زوجته أمّا الأول فأمر منكر قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من سعى في دم مسلم و لو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه «آيس من رحمة اللّه» و أمّا الثاني فإنّ أوريا على قولكم لم يسلم من داود لا في زوجه و لا في منكوحه و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه.

و الوجه الثالث أنّ اللّه سبحانه وصف داود في الآية السابقة بصفات فائقة جليلة و وصفه أيضا كثيرة حسنة بعد هذه القصّة و كلّ هذه الصفات تنافي كونه عليه السّلام موصوفا بهذا الفعل المنكر و لو قلنا: إنّ داود صدرت منه هذه الكبائر لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل الرسل بأن يقتدي بداود

ص: 157

في الصبر و الطاعة و كيف يكون من هو قلبه مشغول بالفجور و القتل و حظّ النفس كثير الرجوع إلى اللّه في الطاعة و أن يكون «أوّابا» بصيغة المبالغة و كيف يليق بمثل هذا الإنسان أن تكون الجبال و الطيور مسخّرة و تابعة له ليتّخذه وسيلة إلى القتل و الفجور؟ و قد قيل: إنّه كان محرّما عليه صيد شي ء من الطير فحينئذ بزعمكم أنّ الطير آمن منه و لا ينجو منه الرجل المسلم على نفسه و زوجته؟ و قد قال اللّه تعالى:

في حقّه «وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ» و قد فسّروا تشديد ملكه بما يقوّي الدين و بأسباب السعادة كما بيّنّا في موضعه قبل هذا و من لا يملك نفسه عن امرأة كيف يليق بذلك؟

ثمّ وصفه تعالى بأنّه مأتيّ الحكمة و الحكم كما قال: «وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ» و كلّ من كان موصوفا بهذه الصفات و قابلا لهذه المواهب الجليلة كيف يرضى أن يصدر منه امور يستنكف منه الشيطان و كلّ هذه المدائح الّتي مدحه اللّه تعالى و منحه بها دالّة أنّ براءة ساحته عن تلك الأكاذيب قبل شرح القصّة.

و أمّا الصفات المذكورة بعد القصّة فهي أيضا ناطقة بعلوّ ساحته عن مثل هذه المقامات مثل قوله: «وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ» و ذكر مثل هذا الكلام إنّما يناسب في حقّ من هو قويّ في طاعة اللّه أمّا لو كانت القصّة المتقدّمة دالّة على سعيه في القتل و الفجور لم يكن قوله: «وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لائقا به و أمّا قوله تعالى:

«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ» يدلّ على كذب هذه المقالات لأنّ الملك العظيم الشأن إذا حكى عن بعض عبيده أنّه قصد دماء الناس و أموالهم و أزواجهم فبعد فراغه من شرح القصّة على ملأ من الناس يقبح منه أن يقول عقبيه: أيّها العبد إنّي فوّضت إليك خلافتي و نيابتي فإنّ ذكر تلك القبائح يناسب الزجر و الحجر لا أن يجعله خليفة نفسه و من المعلومة في اصول الفقه أنّ ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب للحكم يدلّ على كون ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف فلمّا حكى اللّه عنه تلك الواقعة القبيحة ثمّ قال بعده «إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ» أشعر هذا بأنّ الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة و معلوم أنّ هذا فاسد كيف لا؟ و ذكر العشق و السعي في القتل من أعظم منافيات الخلافة و باب العيوب.

ص: 158

و العجب أنّ القائلين بهذه الروايات الفاسدة المجعولة ذكروا أنّ داود تمنّى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء الكبار من المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار و حصل للذبيح من الذبح و حصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب و الأجر فأوحى اللّه إليه أنّهم إنّما وجدوا تلك الدرجات لأنّهم لمّا ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود الابتلاء فأوحى اللّه إليه: إنّك ستبتلي يوم كذا فبالغ في الاحتراز ثمّ وقعت الواقعة و هي أنّ داود كان يصلّي في محرابه إذ تصوّر له إبليس بصورة طير أحسن ما يكون في الطيور فقطع داود صلاته و قام ليأخذ الطير فخرج الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد داود في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حيّان فاطّلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل فلمّا نظر إليها هواها و كان قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريا أمام التابوت فقدّم فظفر بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب داود إلى صاحبه ثانيا أن قدّم أوريا أمام التابوت فقدّمه فقتل أوريا و تزوّج داود بامرأته و كلّ هذا باطل.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام في حديث عصمة الأنبياء قال: لمّا حكي هذه الرواية الفاسدة للرضا عليه السّلام ضرب الرضا يده على جبهته و قال عليه السّلام: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون لقد نسبتم نبيّا من أنبياء اللّه إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ثمّ الفاحشة ثمّ بالقتل! فقيل: يا ابن رسول اللّه فما كان خطيئة داود فقال: ويحك إنّ داود إنّما ظنّ أنّه ما خلق اللّه عزّ و جلّ خلقا هو أعلم منه فبعث اللّه إليه الملكين تسوّرا المحراب فقالا له: «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ» فجعل داود على المدّعى عليه فقال: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» و لم يسأل المدّعى البيّنة على ذلك و لم يقبل على المدّعى عليه نول له، فكان هذه خطيئته و ليس كما ذهبتم إليه ألا تسمع قول اللّه تعالى يقول:

«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» فقيل: له يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما قصّته مع أوريا؟ قال الرضا: إنّ المرأة في أيّام داود إذا مات بعلها

ص: 159

أو قتل لا تتزوّج بعده أبدا فأوّل من أباح اللّه أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داود فتزوّج بامرأة أوريا لمّا انقضت عدّتها فذلك الّذي شقّ على الناس.

و يؤيّد هذا الحديث الصحيح ما روي في المجمع عن عليّ عليه السّلام و قد نقل هذا الحديث الرازيّ في المفاتيح عن عليّ عليه السّلام قال: لا اوتي برجل يزعم أنّ داود تزوّج بامرأة اريا بهذه النسبة الفاسدة إلّا جلّدته حدّين حدّا للنبوّة و حدّا للإسلام.

و روي عنه عليه السّلام أيضا قال: من حدث بحديث داود على ما يرويه القصّاصون جلّدته مائة و ستّين جلدة.

و بالجملة فذكر هذه القصّة على ما فسّروه الحشويّة و مثل قصّة يوسف يقتضي إشاعة الفاحشة فوجب أن يكون مثل هذا الذكر محترما كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا» و لا شكّ أنّ داود من كبار المؤمنين فيجب ردّ هذه الكلمات الواهية و ثبت بهذه الوجوه المذكورة أنّ القصّة الّتي ذكروها فاسدة باطلة.

فإن قيل: إنّ كثيرا من المحدّثين و المفسّرين ذكروا هذه القصّة فكيف الحال فيها؟

فالجواب أنّه لمّا وقع التعارض بين الدلائل القاطعة و بين خبر واحد من الأخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة سيّما إذا تعارض هذا الخبر مع ما روي من الحديثين الصحيحين عن عليّ عليه السّلام و عن الرضا حسبما شرحناه فحينئذ تلك الأقوال أوهن من نسج العنكبوت و أيضا فالأصل براءة الذمّة ثمّ إنّه لم يتّفق أهل التفسير على هذا القول، بل المحقّقون رووا هذا القول و حكموا عليه بالكذب و الفساد فهذا تمام الكلام في هذه القصّة.

أمّا الاحتمال الثاني و هو صدور الصغيرة عنه كما شرحناه في الوجوه الثلاثة و الّذين نسبوا إليه الصغيرة قالوا: إنّ هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثمّ خطبها داود فآثره أهلها و إنّما نسبوا هذا الأمر إلى داود صغيرة أنّ خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه و قيل: مال قلب داود إليها و سأل أوريا أن يطلقها ففعل أوريا

ص: 160

فتزوّجها داود. و هذا القول مدفوع مردود لأنّه على فرض وقوعه و صحّته لم يكن صغيرة لأنّ ذلك كان جائزا في شريعته معتادا في امّته غير مخلّ بالمروّة حيث كان يسأل بعضهم بعضا أن يستنزل عن امرأته فيتزوّجها إذا أعجبته و قد كان الأنصار في صدر الإسلام يواسون المهاجرين بمثل ذلك من غير نكير خلا أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعظم منزلته و علوّ شأنه نبّه بالتمثيل على أنّه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد امّته و أمّا ما قالوا: إنّ داود وقع بصره عليها فمال قلبه إليها فليس له في هذا ذنب البتّة أمّا وقوع بصره عليها من غير قصد فذلك ليس بذنب و أمّا حصول الميل عقيب النظر فليس أيضا ذنب لأنّ هذا الميل ليس في وسعه فلا يكون مكلّفا به فمن أين حصلت الصغيرة؟

و أمّا الاحتمال الثالث و هو ذكر هذه القصّة على وجه لا يلزم إلحاق الكبيرة و الصغيرة بداود بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح و الثناء و هو أن تقول: روي أنّ جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ اللّه داود و كان له يوم يخلو فيه بنفسه و يشتغل بعبادة ربّه فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم و «تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ» و التسوّر الإتيان من جهة السور أي أتوا من طرف المحراب إليه فلمّا دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما و حرّسا يمنعونه منعم فخافوا فوضعوا كذبا فقالوا: «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» و باقي القصّة سيأتي بعيد هذا في تفسير الآية.

و بالجملة ليس في القرآن ما يمكن أن يحتجّ به في إلحاق الذنب بداود إلّا ألفاظ أربعة في الجملة ظاهرا أحدها قوله: «وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ» و ثانيها قوله تعالى: «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ» و ثالثها قوله: «وَ أَنابَ» و رابعها قوله: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ».

فنقول: إنّ هذه الألفاظ لا تدلّ على شي ء منها على ما ذكروه من إثبات الذنب له عليه السّلام و تقريره من وجوه:

الاول أنّهم لمّا دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق و علم داود ذلك دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم إلّا أنّه مال و عدل إلى الصفح و التجاوز عنهم طلبا لمرضاة اللّه و كانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنّها جارية مجرى الابتلاء و الامتحان ثمّ إنّه استغفر

ص: 161

ربّه ممّا همّ به من الانتقام منهم و تاب عن ذلك القصد و الهمّ فغفر له ذلك القدر من الهمّ و العزم.

و الوجه الثاني أنّه و إن غلب على ظنّه أنّهم دخلوا عليه ليقتلوه إلّا أنّه ندم على ذلك الظنّ و قال: لمّا لم تقم أمارة و لا دلالة على أنّ الأمر كذلك فبئسما علمت بهم حيث ظننت بهم هذا الظنّ الردي ء فكان هذا هو المراد من قوله: «وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ» منه و قد يعبّر عن السجود بالركوع قال الشاعر:

فخرّ على وجهه راكعاو تاب إلى اللّه من كلّ ذنب

فغفر اللّه له ذلك الظنّ.

الوجه الثالث أنّ دخولهم عليه كان فتنة لداود إلّا أنّه عليه السّلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله كما قال سبحانه في حقّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» فداود استغفر لهم و أناب أي رجع إلى اللّه في طلب مغفرة ذلك القاصد للقتل و قوله: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ» أي غفرنا له ذلك الذنب من الداخل القاصد لأجل احترام داود و لتعظيمه كما قال بعض المفسّرين في قوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ»: إنّ معناه أنّ اللّه يغفر لك و لأجلك ما تقدّم من ذنب امّتك.

الوجه الرابع أنّه هب أنّ داود تاب عن ترك أولى صدر منه لكنّه ذلك ليست بسبب المرأة بل لو صحّ وقوعه كان سبب أنّه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني فإنّه لمّا قال: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» حكم عليه بكونه ظالما بمجرّد دعوى الخصم بغير بيّنة فعند هذا اشتغل بالاستغفار و التوبة إلّا أنّ هذا من باب ترك الأفضل و الأولى و لا يلزم إسناد شي ء من الذنوب إلى داود بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه و حمل الآية على الوجوه الّتي ذكرناها أولى ممّا ذكر هؤلاء الكذبة على أنّ روايات الأئمّة صلوات اللّه عليهم ناطقة لها مثل رواية عليّ و الرضا عليهما السّلام و سوق صدر الآية حيث يخاطب سبحانه نبيّه «اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ» و هذا الذكر إنّما يحسن إذا كان داود قد صبر على أذاهم و تحمّل سفاهتهم و كان حسن الأعمال و السيرة و أمّا إذا حملناها على ما فسّروه و ذكروه صار الكلام متناقضا فاسدا.

ص: 162

رجعنا في تفسير الآية، قوله: [وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ و المراد بالاستفهام الترغيب في الاستماع كما ذكرنا أي هل أتاك خبرهم؟ و يعبّر بالخصم عن الواحد و الاثنين و الجماعة بلفظ واحد لأنّ أصل المصدر يقال: رجل خصم و رجلان خصم و رجال خصم [إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي حين صعدوا إليه المحراب و أتوه من أعلى سوره و هو مصلّاه و أتى بلفظ الجمع أراد الفريقين.

[إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ لدخولهم عليه في غير الوقت الّذى يحضرونه لأنّهم دخلوا عليه بغير إذنه [قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ أي قالوا لداود: نحن خصمان [بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فجئناك لتقضي بيننا و ذلك قوله: [فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ] أي و لا تجر علينا في حكمك و لا تجاوز الحقّ فيه بالميل لأحدنا على صاحبه [وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ] أي دلّنا إلى وسط الطريق الّذى هو طريق الحقّ.

[إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ] قال الخليل: النعجة الأنثى من الضأن و العرب تكنّي عن النساء بالنعاج و الشاة فحكى اللّه سبحانه ما قاله أحد الخصمين بقوله: «إِنَّ هذا أَخِي» صاحب كذا عدد من النعاج و لي واحدة و قال لي ضمّها إليّ و أعطنيها و اعزل لي عنها و هذا معنى: [فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في مخاطبة الكلام؛ إن بطشني كان أشدّ منّي و إن دعا كان أكثر منّي.

[قالَ داود: [لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ أي إن كان الأمر على ما تدّعيه لقد ظلمك بسؤاله إيّاك بضمّ نعجتك [إِلى نِعاجِهِ .

فإن قيل: كيف جاز لداود أن يحكم على أحد الخصمين بمجرّد قول خصمة؟

قال محمّد بن إسحاق: لمّا فرغ الخصم الأوّل من كلامه نظر داود إلى الخصم الّذى لم يتكلّم و قال: لئن صدق لقد ظلمته و الحاصل أنّ هذا الكلام كان مشروطا بشرط كونه صادقا في دعواه. و قال ابن الأنباريّ: لمّا ادّعى أحد الخصمين اعترف الثاني فحكم داود و لم يذكر اللّه الاعتراف لدلالة ظاهر الكلام عليه كما تقول: أمرتك بالتجارة فكسبت تريد اتّجرت فكسبت كما قال سبحانه: «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ» (1) أي

ص: 163


1- الشعراء: 64.

فضرب فانفلق. و القول الثالث أنّ تقدير الكلام: إنّ الخصم الّذي هذا شأنه يكون قد ظلمك.

ثمّ قال داود: [وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ] و الشركاء الّذين خلطوا أموالهم [لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ و يتجاوزون عن حدودهم و يتعدّون بعضهم بعضا [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لأنّ مخالطة هؤلاء لا تكون إلّا لأجل الدين و طلب السعادات الروحانيّة فلا جرم لا توجب المنازعة و أمّا الّذين يكون مخالطتهم لأجل الدنيا لا بدّ و أن يكون مخالطتهم سببا لمزيد البغي و العدوان و يتبيّن من هذا الكلام و الاستثناء أنّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض فلو كان داود قد بغى و تعدّى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى داود أن لا يكون هو من الّذين آمنوا و معلوم أنّ ذلك باطل فثبت أنّ قول من يقول: المراد من واقعة النعجة قصّة داود قول باطل.

ثمّ قال سبحانه: [وَ قَلِيلٌ ما هُمْ و «ما» زائدة مؤكّدة لمعنى القلّة و للإبهام و فيه معنى التعجّب من قلّتهم.

قوله تعالى: [وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ قالوا: معناه: و علم داود أنّما فتنّاه أي امتحنّاه و السبب الّذي أوجب حمل لفظ الظنّ على العلم هاهنا أنّ داود لمّا قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثمّ صعدا إلى السماء قبل وجهه فعلم داود أنّ اللّه ابتلاه بذلك و إنّما جاز لفظ الظنّ على العلم لأنّ العلم الاستدلاليّ يشبه الظنّ مشابهة عظيمة و المشابهة علّة لجواز المجاز و هذا الكلام يتمّ إذا كان الخصمان ملكين و أمّا إذا لم نقل ذلك لا يلزمنا حمل الظنّ على العلم بل لمّا غلب على ظنّه حصول الابتلاء من اللّه.

[فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً] أي ساجدا [وَ أَنابَ و استغفر ربّه و سأل الغفران و لا يلزم من الاستغفار كونه عليه السّلام مرتكبا لذنب بل حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

روي أنّه عليه السّلام بقي ساجدا أربعين يوما و ليلة لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة أو لما لا بدّ منه و لا يرقأ له دمعه حتّى نبت العشب إلى رأسه و لم يشرب ماء إلّا ثلثاه دمع، و جهد بنفسه راغبا إلى اللّه في العفو عنه حتّى كاد أن يهلك و اشتغل بذلك عن الملك حتّى وثب ابن له

ص: 164

يقال له «ايشا» على ملكه و دعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ و الباطل من بني إسرائيل فلمّا غفر له حاربه فهزمه.

قوله تعالى: [وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي قربة و كرامة بعد المغفرة [وَ حُسْنَ مَآبٍ أي حسن مرجع في الجنّة.

[سورة ص (38): الآيات 26 الى 29]

يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)

ثمّ ذكر إتمام نعمه على داود بقوله: [يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي صيّرناك تدبّر امور العباد من قبلنا أو جعلناك خلف من مضى من الأنبياء في الدعاء إلى توحيد اللّه و بيان شريعته [فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ أي افصل أمورهم وضع كلّ شي ء موضعه.

[وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى أي لا تتبّع ما يميل طبعك إليه إذا كان مخالفا للحقّ [فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي إذا اتّبعت الهوى عدل بك الهوى عن سبيل الحقّ [إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و يعدلون عن العمل بما أمرهم اللّه [لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي يعذّبون عذابا شديدا بتركهم طاعة اللّه في الدنيا و بسبب إعراضهم عن ذكر يوم القيامة فيكون «يَوْمَ» متعلّقا «بِما نَسُوا».

[وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا] لا غرض فيه بل لغرض فيه الحكمة و هو أنواع المنافع الجليلة من هذه الخلقة العظيمة و خلقناها لأن يستفيد العقلاء الثواب العظيم و احتجّ الجبّائيّ بهذه الآية على أنّه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمال العباد قال: لأنّها مشتملة على الكفر و الفسق و كلّها أباطيل فلمّا بيّن اللّه أنّه ما خلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا دلّ هذا على أنّه لم يخلق أعمال العباد خلافا للمجبّرة

ص: 165

فإنّ عندهم أنّه سبحانه خلق الكافر لأجل أن يكفر و الكفر باطل و قد خلق الباطل.

ثمّ أكّد اللّه تعالى ذلك بأن قال: [ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي كلّ من قال بهذا القول فهو كافر فهذا تصريح بأنّ مذهب المجبّرة عين الكفر [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ] فالويل من النار حاصل للكفّار.

و اعلم أنّ قوله تعالى: «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ» دالّ على صحّة القول بالحشر و النشر و القيامة و الثواب و العقاب لأنّه تعالى خلق الخلق في هذا العالم فإمّا أن يقال: إنّه خلقهم للإضرار أو للإنفاع أو لا للإنفاع و لا للإضرار و الأوّل باطل لأنّ ذلك لا يليق بالرحيم الكريم. و الثالث أيضا باطل لأنّ هذه الحالة حاصلة حين كانوا معدومين فلم يبق إلّا أن يقال: إنّه خلقهم للإنفاع فنقول: و ذلك الإنفاع إمّا أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة و الأوّل باطل لأنّ منافع الدنيا قليلة و مضارّها كثيرة و تحمّل المضارّ الكثيرة للمنفعة القليلة المستهلكة لا يليق بالحكمة و لمّا بطل هذا القسم ثبت القول بوجود حياة اخرى بعد هذه الحياة الدنيا و ذلك هو القول بالحشر و القيامة و الثواب و العقاب فهذا هو المراد من قوله: «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» لأنّ من شكّ أو أنكر الحشر كان شاكّا في حكمة اللّه.

و لمّا بيّن هذا البيان فقال: [أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ] و تقرير الآية أنّا نرى في الدنيا من أطاع اللّه و احترز عن معصيته في الفقر و الزمانة و أنواع البلاء و نرى الكفرة و الفسّاق في الراحة و الغبطة فلو لم يكن حشر و نشر و معاد فحينئذ يكون حال المطيع أدون من حال العاصي و ذلك لا يليق بحكمة الحكيم العدل الرحيم و إذا كان ذلك قادحا في الحكمة ثبت أنّ إنكار الحشر و النشر يوجب إنكار الحكمة من اللّه أي كيف يمكن أن نجعل الّذين صدّقوا اللّه و رسله و عملوا الصالحات و الطاعات كالعاملين بالمعاصي في الأرض أو نجعل الّذين اتّقوا المعاصي للّه خوفا من عقابه كالفجّار الّذين تركوا الطاعات؟ إنّ هذا لا يكون أبدا.

ثمّ خاطب سبحانه نبيّه فقال: [كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ أي هذا القرآن

ص: 166

كتاب منزل إليك مبارك كثير نفعه و خيره [لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي ليتفكّر الناس فيه و يتّعظوا بمواعظه و من هو من اولي العقول.

و قالت المعتزلة- و نعم ما قالت-: دلّت الآية على أنّه إنّما انزل هذا القرآن لأجل الخير و الرحمة و الهداية فيلزم أنّ أفعال اللّه معلّلة برعاية المصالح و أنّه تعالى أراد الإيمان و الخير و الطاعة عن الكلّ بخلاف قول من يقول: إنّه أراد الكفر من الكافر.

و هاهنا بيان آخر و هو أنّ صدر السورة حكاية عن المستهزئين من الكفّار بأنّهم بالغوا في إنكار البعث و القيامة بحيث قالوا: «رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» فقال اللّه سبحانه: «اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ» و لا تعلّق بإثبات القيامة و قصّة داود حتّى ذكر سبحانه أنّ القرآن شريف كثير الخير و هذه فصول متباينة لا تعلّق للبعض منها بالبعض فكيف النظم؟ هذا تمام البيان و السؤال.

و الجواب أنّه من ابتلي بخصم جاهل جدليّ متعصّب و رآه المخاطب أنّه قد خاض في التعصّب و الإصرار وجب عليه أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة لأنّه كلّما كان خوضه في تقريره أكثر كانت نفرته عن القبول أشدّ فالطريق حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة و أن يخوض في كلام آخر أجنبيّ عن المسألة الاولى بالكلّيّة و يطنب في الكلام الثاني بحيث ينسى ذلك المتعصّب تلك المسألة الاولى فإذا اشتغل خاطره بهذا الكلام الأجنبيّ و نسي الكلام الأوّل فحينئذ يدرّج في أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبيّ مقدّمة مناسبة لذلك المطلوب الأوّل فإنّ ذلك المتعصّب يسلّم هذه المقدّمة فإذا سلّمها فحينئذ يتمسّك بها في إثبات المطلوب الأوّل فحينئذ يصير ذلك الخصم منقطعا مفحما.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ الكفّار لمّا بالغوا في إنكار الحشر إلى حيث بلغوا إلى درجة الاستهزاء بقولهم: «رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» فقال اللّه سبحانه:

يا محمّد اقطع الكلام معهم في هذه المسألة «وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» و اشرع في كلام أجنبيّ و هو قصّة داود، و ذكر في آخر القصّة خلافة داود و جعله خليفة إلى أن قال له: «فَاحْكُمْ

ص: 167

بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» و كلّ من سمع هذا قال: نعم الحكم هذا حيث أمره بحكم الحقّ فاللّه الّذي يأمر خليفته بالحقّ فهو أولى بإتيان الحقّ لأنّه ربّ العالمين و لا يقضي بالباطل قطعا فحينئذ لا بدّ أن يستسلم الخصم أنّ اللّه هو الحقّ فيلزمه القبول بصحّة الحشر و القيامة لأنّ الظالم الغشوم الّذي يظلم في مدّة خمسين سنة أو أقلّ أو أكثر فقيرا صعلوكا و هو بمعزل عن ذلك الظالم و الظالم يتعاقبه و يؤذيه و هو لا يقدر دفعه فلو لم يكن دار اخرى فيجازي ذلك الظالم و يثيب ذلك المظلوم فيكون هذا الربّ الّذي يأمر خليفته بالعدل و التحرّز عن الباطل هو غير حاكم بالعدل و عامل بالباطل فبهذا الطريق اللطيف أورد اللّه تعالى الإلزام القاطع على منكري الحشر و القيامة و لا يمكنهم الخلاص عن قبوله.

و لمّا ذكر سبحانه هذه الطريقة الدقيقة في الإلزام في القرآن لا جرم وصف اللّه القرآن بالكمال و البركة فقال: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» و من لم يتدبّر و لم يساعده التوفيق الإلهيّ لم يقف على مثل هذه الأسرار العجيبة في القرآن و يزعم عدم الترتيب في النظم، انتهى.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 30 الى 40]

وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ (33) وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)

قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ (37) وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)

وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (40)

ثمّ عطف سبحانه على قصّة داود حديث سليمان فقال:

[وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ أي أعطيناه ولدا [نِعْمَ الْعَبْدُ] سليمان إنّه رجّاع إلى اللّه في امور دينه ابتغاء مرضاته.

[إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ يجوز أن يتعلّق «إذ» بنعم العبد أي نعم العبد هو إذ عرض

ص: 168

عليه، و يجوز أن يتعلّق باذكر و المخصوص بالمدح في قوله «نِعْمَ الْعَبْدُ» محذوف فقيل: هو سليمان و قيل: هو داود و الأوّل أولى لأنّه أقرب المذكورين و لأنّه قال:

بعده «إِنَّهُ أَوَّابٌ» و لا يجوز أن يكون المراد هو داود لأنّه وصفه بهذا المعنى قد تقدّم في الآية المتقدّمة حيث قال سبحانه: «وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» و في الآية دلالة على أنّ من كان كثير الرجوع إلى اللّه في أكثر الأوقات يكون موصوفا بمثل هذه الصفة [بِالْعَشِيِ و العشيّ هو من حين العصر إلى آخر النهار.

عرض عليه الخيل لينظر إليها و يقف على كيفيّة أحوالها و وصف الخيل بوصفين أوّلهما [الصَّافِناتُ و الصفون صفة دالّة على حسن الفرس و هي الّتي تقوم على ثلاثة قوائم و يرفع إحدى يديها حتّى يكون على طرف الحاف و الصفة الثانية [الْجِيادُ] و الجياد جمع «جواد» و هو الفرس الشديد الجري كما أنّ الجواد من الإنسان السريع البذل و المقصود في الآية وصفها بالفضيلة و الكمال حالتي وقوفها و حركتها.

قال مقاتل: إنّ سليمان ورث من أبيه ألف فرس و كان أبوه قد أصاب ذلك من العمالقة و قيل: إنّ سليمان غزا دمشق و نصيبين فأصاب ألف فرس و قيل: كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة و كان سليمان قد صلّى الصلاة الاولى و قعد على كرسيّه و الخيل يعرض عليه حتّى غابت الشمس.

[فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي و المراد بالخير هنا الخيل فإنّ العرب يسمّي الخيل خيرا و في الحديث: الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة و قيل: معناه حبّ المال و الخير بمعنى المال الكثير و قيل: إنّ هذه الخيل كانت شغلته عن صلاة العصر حتّى فات وقتها و في روايات أصحابنا أنّه فاته أوّل الوقت و قال الجبّائيّ: لم يفته الفرض و إنّما فاته النفل الّذي كان يفعله في آخر النهار لاشتغاله بالخيل. و قيل: المعنى: إنّي أحببت حبّ الخيل على كتاب ربّي، كناية عن كتاب اللّه التوراة و كما أنّ ارتباط الخيل ممدوح في القرآن كذلك في التوراة ممدوح فحينئذ معنى «عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» أي عن كتاب ربّي و هو التوراة. و «أَحْبَبْتُ» فعل يتعدّى بعن، أي اثبت حبّ الخير عن كتاب ربّي. و حاصل المعنى أنّي أحببت حبّي لهذه الخيل عن ذكر ربّي

ص: 169

يعني إنّ هذه المحبّة الشديدة إنّما حصلت عن ذكر اللّه و أمره لا عن الشهوة و الهوى.

[حَتَّى تَوارَتْ الضمير راجع إلى الشمس لأنّه جرى ذكر ماله تعلّق بها و هو «العشي» كما أنّ ضمير «رُدُّوها» أيضا قالوا: راجع إلى الشمس و يحتمل أن يعود الضميران إلى «الصافنات» و يحتمل أن يكون الأوّل راجعا إلى «الشمس» و الثاني «بالصافنات» و يحتمل أن يكون بالعكس فهذه وجوه أربعة فالأوّل أن يكون الضميران عائدين إلى الشمس كأنّه قال: حتّى توارت الشمس [بِالْحِجابِ و غابت.

[رُدُّوها عَلَيَ أي سأل اللّه أن يردّ الشمس عليه فردّها عليه حتّى صلّى صلاة الفائتة فرضا كانت أو نفلا و على كون الضمير في «رُدُّوها» على أن يكون المراد بالخيل أي قال لأصحابه: ردّوا الخيل عليّ و على قول من يقول: إنّ الضمير في «تَوارَتْ» راجع إلى الخيل يعني توارت الخيل بالحجاب بمعنى أنّها شغلت فكره إلى تلك الحال و هي غيبوبتها عن بصره و ذلك أنّه أمر بإجراء الخيل فأجريت حتّى غابت الخيل عن بصره فقال لأصحابه: ردّوا الخيل عليّ.

قوله: [فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ قيل فيه وجوه: أحدها أنّ المسح هنا القطع و المعنى أنّه أقبل لضرب سوقها و أعناقها لأنّها كانت سبب فوت صلاته و هذا القول بعيد عن الصواب جدّا و قيل: إنّه إنّما فعل ذلك لأنّها كانت أعزّ ماله فيقرّب إلى اللّه بأن ذبحها ليصّدّق بلحومها و قيل: المعنى فجعل يمسح أعراف خيله و عراقيبها بيده حبّا لها، عن ابن عبّاس.

قال ابن عبّاس: سألت عليّا عن هذه الآية فقال عليه السّلام: ما بلغك فيها يا ابن عبّاس قلت: سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتّى فاتته الصلاة «فقال رُدُّوها عَلَيَّ» يعني الأفراس و هي كانت أربعة عشر فأمر بضرب أعناقها و سوقها بالسيف فقتلها فسلبه اللّه ملكه أربعة عشر يوما لأنّه ظلم الخيل بقتلها فقال عليّ عليه السّلام: كذب كعب لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم لأنّه أراد جهاد العدوّ حتّى توارت الشمس بالحجاب فقال بأمر اللّه للملائكة الموكّلين بالشمس: ردّوها عليّ فردّت فصلّى العصر في وقتها و إنّ أنبياء اللّه لا يظلمون و لا يأمرون بالظلم لأنّهم معصومون مطهّرون، انتهى

ص: 170

كلامه عليه السّلام.

[وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي اختبرناه و شدّدنا المحنة عليه [وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً] أي و طرحنا على كرسيّه جسدا و، الجسد الّذي لا روح فيه و اختلف العلماء في فتنته و امتحانه و الجسد الّذي القي على كرسيّه على أقوال:

منها أنّ سليمان قال يوما في مجلسه: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة من نسائي تلد كلّ امرأة منهنّ غلاما يضرب بالسيف في سبيل اللّه و لم يقل: إن شاء اللّه فطاف عليهنّ فلم تحمل منهنّ إلّا امرأة واحدة جاءت بشقّ ولد رواه أبو هريرة عن النبيّ قال: ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفس محمّد بيده لو قال: إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا فالجسد الّذي القي على كرسيّه كان هذا ثمّ أناب اللّه و فزع إلى الصلاة و الدعاء على وجه الانقطاع إلى اللّه. و هذا لا يقتضي أنّه وقع منه معصية صغيرة و لا كبيرة لأنّه و إن لم يستثن ذكره لفظا فلا بدّ من أن يكون قد استثناه ضميرا أو اعتقادا إذ لو كان قاطعا للقول بذلك لكان مطلقا لما لا يؤمّن من أن يكون كذبا إلّا أنّه لمّا لم يذكر لفظة الاستثناء عوتب على ذلك من حيث أنّه ترك ما هو مندوب إليه.

و منها ما روي أنّ الجنّ و الشياطين لمّا ولد لسليمان ابن قال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من الجهد و البلاء فأشفق سليمان منهم عليه فاسترضعه في المزن و هو السحاب فلم يشعر إلّا و قد وضع على كرسيّه ميّتا تنبيها على أنّ الحذر لا ينفع عن القدر فإنّما عوتب على خوفه من الشياطين، عن الشعبيّ و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و منها أنّه ولد له ولد ميّت جسد بلا روح فالقي على سريره.

و منها أنّ الجسد المذكور هو جسد سليمان لمرض امتحنه اللّه به فحينئذ تقدير الكلام: و ألقينا منه على كرسيّه جسدا لشدّة المرض فيكون جسدا منصوبا على الحال و العرب يقول في الإنسان إذا كان ضعيفا: هو جسد بلا روح و لحم على و ضم [ثُمَّ أَنابَ أي رجع إلى حال الصحّة.

و هذه الوجوه المذكورة ذكرها أهل التحقيق من المفسّرين في كيفيّة افتتان

ص: 171

سليمان في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ» و لأهل الحشو في هذا الباب أقوال سخيفة على وجوه:

الأوّل قالوا: إنّ سليمان بلغه خبر مدينة في البحر فخرج إليها بجنوده يحمله الريح ففتحها و قتل ملكها و أخذ بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها فاصطفاها لنفسه و أسلمت فأحبّها و كانت تبكي أبدا على أبيها فأمر سليمان الشيطان فمثّل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته الّتي كان يكسي به حال حياته و كانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة و عشيّا مع جواريها يسجدون لها فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر سليمان الصورة و عاقب المرأة ثمّ خرج وحده إلى فلاة و فرش الرماد فجلس عليه تائبا إلى اللّه و كانت لسلمان امّ ولد يقال لها أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها و كان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما فأتاها الشيطان صاحب البحر على صورة سليمان و قال: يا أمينة هات خاتمي فتختّم به و جلس على كرسيّ سليمان فأتى عليه الطير و الجنّ و الإنس و تغيّرت هيئة سليمان فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته و طردته فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته فكان يدور في البيوت يتكفّف و إذا قال: أنا سليمان أحثوا عليه التراب و سبّوه ثمّ أخذ يخدم السمّاكين ينقل لهم السمك فيعطونه كلّ يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف و عظماء بني إسرائيل حكم الشيطان و سأل آصف نساء سليمان فقلن: ما يدع امرأة منّا في دمها و لا يغتسل من جنابة.

و قيل: بل نفذ حكمه في كلّ شي ء إلّا فيهنّ ثمّ طار الشيطان و قذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة و وقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختّم به و وقع ساجدا للّه و رجع إليه ملكه و أخذ ذلك الشيطان و أدخله في صخرة و ألقاها في البحر.

و القول الثاني للحشويّة أنّ تلك المرأة لمّا أقدمت على عبادة تلك الصورة افتتن سليمان فكان يسقط الخاتم من يده و لا يتماسك فيه فقال له آصف: إنّك لمفتون بذنبك فتب إلى اللّه.

و القول الثالث لهم قالوا! إنّ سليمان قال لبعض الشياطين! كيف تفتنون الناس فقال الشيطان: أرني خاتمك أخبرك فلمّا أعطاه إيّاه نبذه في البحر فذهب ملكه و قعد

ص: 172

هذا الشيطان على كرسيّه ثمّ ذكرا الحكاية إلى آخرها.

و القول الرابع لهم أنّه كان سبب فتنته احتجابه عن الناس ثلاثة أيّام فسلب ملكه و القي على سريره شيطان عقوبة له.

و بالجملة إنّ أقوال الحشويّة بمعزل عن القبول و إنّ أهل التحقيق أنكروا هذه المقالات من وجوه:

الاول أنّ الشيطان لو قدر على أن يتشبّه في الصورة و الخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شي ء من الشرائع فلعلّ هؤلاء الّذين رأوهم الناس في صورة موسى و عيسى عليهما السّلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبّهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء و الإضلال و معلوم أنّ ذلك يبطل الدين بالكلّيّة.

الثاني أنّ الشيطان لو قدر على أن يعامل نبيّ اللّه سليمان بمثل هذا المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء و الصلحاء و حينئذ وجب أن يقتلهم و أن يمزّق تصانيفهم و أحاديثهم و فتاويهم و لمّا بطل ذلك في حقّ آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حقّ أكابر الأنبياء أولى.

الثالث: لو قلنا: إنّ سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه و إن لم يأذن فيه البتّة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ اللّه سليمان بفعل لم يصدر عنه فرجعت المسألة إلى وجوه ذكرناها أوّلا في الآية حيث قال: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة و لم يقل: إن شاء اللّه.

فلو قيل: إنّ ترك الاستثناء لا يوجب الذنب و لو لا تقدّم الذنب لما طلب المغفرة.

فالجواب بأنّ هذا الأمر لا ينفكّ عن ترك الأفضل إليه و حينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين و لأنّ الأنبياء و الأولياء دائما في مقام هضم النفس و إظهار الذلّة و الخضوع كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و إنّي لأستغفر اللّه في اليوم و الليلة سبعين مرّة فالمراد من هذا الاستغفار هذا المعنى.

قوله تعالى: [قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ثمّ حكى سبحانه دعاء سليمان حين أناب إلي اللّه بقوله: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً».

ص: 173

فلو قيل: إنّ هذا الدعاء من سليمان يقتضي الضنّة و المنافسة لأنّه عليه السّلام لم يرض بأن يسأل الملك حتّى أضاف إلى ذلك أن يمنع غيره منه.

فالجواب أنّ الأنبياء لا يسألون إلّا ما يؤذن لهم في مسألته و لعلّ أن أعلمه أنّه إن سأل ملكا لا يكون لغيره كان أصلح له من غيره و أعلمه أنّه لا صلاح لغيره في ذلك كما أنّ أحدنا لو صرّح في دعائه بهذا الشرط فيقول: اللّهم اجعلني أكثر أهل زماني مالا إذا علمت أنّ ذلك أصلح لي لكان ذلك منه حسنا جائزا و لا ينسب في ذلك إلى شحّ و بخل أو المعنى لا يقدر أحد على معارضته أو أنّه لمّا مرض ثمّ عاد إلى الصحّة عرف أنّ الدنيا صائرة إلى غيره فسأل ربّه ملكا لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره و هو ملك الآخرة.

و ثانيها أنّه يجوز أن يكون التمس من اللّه آية لنبوّته يتبيّن بها من غيره و أراد بقوله: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ» غيري ممّن أنا مبعوث إليه و لم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيّين كما يقال: أنا لا اطيع أحدا بعدك أي لا اطيع أحدا سواك.

و ثالثها ما قال المرتضى: إنّه يجوز أن يكون سأل ملك الآخرة و ثواب الجنّة و يكون معنى قوله: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» لا يستحقّه بعد وصولي إليه أحد.

و رابعها أنّه التمس معجزة يختصّ بها كما أنّ موسى اختصّ بالعصا و اليد و اختصّ الصالح بالناقة و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالمعراج و القرآن و يدلّ على هذا المعنى ما روي مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه صلّى صلاة فقال: إنّ الشيطان عرض لي ليفسد عليّ الصلاة فأمكني اللّه منه فدفعته و لقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتّى تصبحوا و تنظروا إليه أجمعين فذكرت قول سليمان: «ربّ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» فردّه اللّه خائبا خاسئا أورده البخاريّ و مسلم في الصحيحين.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أجاب دعاءه بقوله: [فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً] أي ريحا ليّنة طيّبة مطيعة تجري إلى حيث يشاء سليمان [حَيْثُ أَصابَ أي حيث أراد سليمان من النواحي و منقادة له كيف أراد قيل: كان يغدو سليمان بإيليا و يقيل بقزوين و يبيت بكابل فإن قيل: كيف وصف سبحانه الريح بالعاصف في قوله: «وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ

ص: 174

عاصِفَةً» و هنا وصفها «رُخاءً»؟ يجوز أنّ اللّه جعلها عاصفة تارة و رخاء اخرى بحسب ما أراد سليمان.

[وَ الشَّياطِينَ أي و سخّرنا له الشياطين [كُلَّ بَنَّاءٍ] في البرّ يبني له ما أراد من الأبنية الرفيعة؛ بنوا له عشر بلاد عظيمة مثل تدمر و صرواج و مرواج و بينون و سلخين و هبذه و هينذه و فلثوم و غمدان و بيت المقدس [وَ غَوَّاصٍ في البحر على اللآلي و الجواهر فيستخرج له ما يشاء منها.

[وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ] أي و سخّرنا له آخرين من الشياطين مشدّدين في الأغلال و السلاسل من الحديد و كان عليه السّلام تجمع بين اثنين و ثلاثة منهم في سلسلة لا يمتنعون عليه إذا أراد ذلك بهم عند تمرّد من حكمه. و قيل: إنّه كان يفعل ذلك بكفّارهم فإذا آمنوا و أطاعوا أطلقهم.

قوله: [هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ هذا الّذي أعطيناك أعط من شئت و امنع من شئت بغير حساب أي ليس عليك حرج فيما أعطيت و فيما أمسكت هذا قول ابن عبّاس. و قيل: المراد في أمر الشياطين خاصّة و المعنى أنّ هؤلاء الشياطين المسخّرين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم فخلّ عنه و احبس من شئت منهم في العمل بغير حساب.

و لمّا ذكر اللّه سبحانه ما أنعم به على سليمان في الدنيا أردفه بإنعامه عليه في الآخرة فقال: [وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ و قد سبق تفسيره.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 41 الى 44]

وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ (42) وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

ثمّ ذكر سبحانه قصّة أيّوب فقال:

[وَ اذْكُرْ] يا محمّد [عَبْدَنا أَيُّوبَ شرّفه اللّه بأن أضافه إلى نفسه أي اقتد يا محمّد به في الصبر على الشدائد و كان في زمن يعقوب بن إسحاق و تزوّج «ليا» بنت يعقوب و هذا هو القصّة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة و إنّ داود و سليمان كانا

ص: 175

ممّن أفاض اللّه عليه أصناف النعماء و أيّوب كان ممّن خصّه اللّه تعالى بأنواع البلاء و المقصود من هذه الآيات الاعتبار: كأنّ اللّه يقول لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اصبر على سفاهة قومك فإنّه ما كان في الدنيا أكثر نعمة و مالا وجاها من داود و سليمان و ما كان أكثر بلاء و محنة من أيّوب فتأمّل في أحوال هؤلاء لتعرف أنّ أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد و العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره و المعنى أنّ نداء أيّوب حكاية عن هذا القول ب: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ» بضمّ النون و فتحها مع سكون الصاد و فتحها و ضمّها و هو التعب و المشقّة و العذاب و الألم و كان قد حصل عنده نوعان من المكروه الغمّ الشديد بسبب زوال الخيرات و أيضا الألم الشديد في الجسم و لمّا حصل هذان النوعان لا جرم ذكر اللّه تعالى لفظين.

و للناس في هذا الموضع قولان: الأوّل أنّ الآلام و الأسقام الحاصلة في جسمه إنّما حصلت بفعل الشيطان، الثاني أنّها إنّما حصلت بفعل اللّه و العذاب المضاف في الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة.

فأمّا القول الأوّل فتقريره ما روي أنّ الشيطان اللعين سأل ربّه فقال: هل في عبيدك من لو سلّطني عليه يمتنع منّي فقال اللّه: نعم عبدي أيّوب فجعل يأتيه بوساوسه و هو يرى إبليس عيانا و لا يلتفت إليه فقال إبليس: يا ربّ قد امتنع فسلّطني على ماله و كان يجيئه و يقول: له هلك من مالك كذا و كذا فيقول: اللّه أعطى و اللّه أخذ ثمّ يحمد اللّه فقال إبليس: يا ربّ إنّ أيّوب لا يبالي بماله فسلّطني على ولده فجاء و زلزل الدار فهلك أولاده بالكلّيّة فجاءه و أخبره به فلم يلتفت إليه فقال: يا ربّ لا يبالي بما له و ولده فسلّطني على جسده فأذن فيه فنفخ في جلد أيّوب و حدثت أسقام عظيمة و آلاء شديدة فيه من نفسه من نار السموم فمكث في ذلك البلاء سنين ثمّ وسوس الشيطان إلى أهل البلدة أن أخرجوه من بلدتكم فخرج إلى الصحراء و ما كان يقرب منه أحد.

ثمّ جاء الشيطان إلى امرأته و قال: لو أنّ زوجك استعان بي لخلّصته من هذا البلاء قال ابن عبّاس: إنّ إبليس تصوّر لها بصورة طبيب و قال لها: أنا اداوي أيّوب على أنّه إذا برى ء قال: أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت: نعم فذكرت المرأة ذلك لأيّوب

ص: 176

فحلف باللّه لئن عافاه اللّه ليجلّدنّها مائة جلدة و عند هذه الواقعة قال: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ» فأجاب اللّه دعاءه و أوحى إليه أن [ارْكُضْ بِرِجْلِكَ أي ادفع برجلك الأرض [هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ و في الكلام حذف و تقديره فركض رجله فنبعت بركضته عين ماء و قيل: نبعت عينان فاغتسل من أحدهما فبرأ و شرب من الاخرى فروي.

و المغتسل الموضع الّذي يغتسل منه فلمّا اغتسل منها أذهب اللّه عنه كلّ داء في ظاهره و باطنه و ردّ عليه أهله و ماله.

و القول الثاني و هو أنّ الشيطان لا قدرة له البتّة على إيقاع الناس في الأمراض و الآلام لأنّا لو جوّزنا حصول الموت و الحياة و الصحّة و المرض من الشيطان فلعلّ الواحد منّا إنّما وجد الحياة بفعل الشيطان و لعلّ ما حصل عندنا من الخيرات فقد حصل بفعل الشيطان و حينئذ لا يكون لنا سبيل إلى أن نعرف أنّ معطي الحياة و الموت و الصحّة و السقم هو اللّه الثاني أنّ الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء و الأولياء و لم لا يخرب دورهم؟ الثالث أنّه تعالى حكى عن الشيطان أنّه قال: «ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» (1) فصرّح سبحانه بأنّه لا قدرة له في حقّ البشر إلّا على إلقاء الوسوسة و الخواطر الفاسدة و ذلك يدلّ على فساد قول من قال: إنّ الشيطان هو الّذي ألقاه في تلك الأمراض بنفخته.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال إنّ الفاعل لهذه الأفعال هو اللّه لكن على وفق التماس الشيطان؟

قلنا: فإذا كان لا بدّ من الاعتراف بأنّ خالق تلك الآلام و الأسقام هو اللّه فأيّ فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك بل الحقّ أنّ المراد من قوله: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ» أنّه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة و يمكن أنّه لمّا طالت مدّة المرض و علّته كانت شديدة الألم ثمّ تنفّر الناس عنه و عن مجاورته و أخرجوه من البلدة و منعوا امرأته من الدخول عليهم و من الاشتغال بخدمتهم لأجل تحصيل القوت فلمّا قويت تلك الوساوس في قلبه تضرّع إلى اللّه و قال: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ» و شقّ على ذلك فتضرّع إلى اللّه.

ص: 177


1- ابراهيم: 22.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه بقي أيّوب في البلاء ثمان عشرة سنة حتّى رفضه القريب و البعيد إلّا رجلين ثمّ قال أحدهما لصاحبه: لقد أذنب أيّوب ذنبا ما أتى به أحد من العالمين و لولاه ما وقع في مثل هذا البلاء فذكروا ذلك لأيّوب فقال: لا أدري ما تقولان غير أنّ اللّه يعلم أنّي كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه فأرجع إلى بيتي فأنفر عنهما كراهية أن يذكر اللّه إلّا في الحقّ.

و قيل: إنّ امرأته كانت تخدم الناس فتأخذ منهم قدر القوت و تجي ء به إلى أيّوب فاتّفق أنّهم ما استخدموها و طلب بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت ثمّ في اليوم الثاني ففعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة و كان أيّوب عليه السّلام إذا أراد أن يتحرّك على فراشه تعلّق بتلك الذؤابة فلمّا لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر الموذية في قلبه و اشتدّ غمّه فعند ذلك قال: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ».

و قيل: إنّ أيّوب قال: في بعض الأيّام يا ربّ لقد علمت ما اجتمع عليّ أمران إلّا آثرت طاعتك و لمّا أعطيتني المال كنت للأرامل قيّما و لابن السبيل معينا و لليتامى أبا فنودي من غمامة: يا أيّوب ممّن كان ذلك التوفيق فأخذ أيّوب كفّا من التراب و وضعه على رأسه و فيه و قال: يا ربّ منك ثمّ خاف من الخواطر فقال: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ» و قد ذكروا أقوالا اخرى و اللّه العالم.

قوله تعالى: [وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ و المراد بقوله: «وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل فبعد أن أبرأه اللّه من الأسقام و المكاره بالاغتسال من العين أحيا اللّه له أهله الّذين كانوا ماتوا و هو في البليّة و أحيا له الّذين ماتوا و هو في البليّة [رَحْمَةً مِنَّا] أي فعلنا ذلك به لرحمتنا إيّاه و ليتذكّر و يعتبر به أولو الألباب و يعرفوا عاقبة الصبر قالوا: إنّه أطعم جميع أهل بلدته سبعة أيّام و أمرهم أن يحمدوا اللّه.

و لمّا كان أيّوب حلف قبل ذلك على امرأته لأمر أنكره من قولها حين وسوس لها الشيطان و كان قد حلف لئن عوفي ليضربنّها مائة جلدة فقيل له: [خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً] و هو مل ء الكفّ من الشماريخ و ما أشبه ذلك و قلنا له: خذ بعدد ما حلفت به من الشماريخ [فَاضْرِبْ بِهِ دفعة واحدة فإنّك إذا فعلت ذلك برّت يمينك و «الضغث»

ص: 178

الحزمة الصغيرة من الحشيش و نحوه قوله [وَ لا تَحْنَثْ في يمينك نهاه عن الحنث أي لا تورد الحنث في يمينك و إنّ البرّ يتحقّق في يمينك بهذا العمل و لقد شرّع اللّه هذه الرخصة رحمة عليه و عليها لحسن خدمتها له و رضاه عنها قيل: و هذا الحكم باق.

و روى العيّاشيّ بإسناده أنّ عباد المكّي قال: قال لي سفيان الثوريّ إنّي أرى لك من أبي عبد اللّه عليه السّلام منزلة فاسأله عن رجل زنى و هو مريض فإن أقيم عليه الحدّ خافوا أن يموت ما تقول فيه؟ قال: فسألته فقال لي: هذه المسألة من تلقاء نفسك أو أمرك بها إنسان؟ فقلت: إنّ سفيان أمرني أن أسألك عنها فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اتي برجل قد استسقى بطنه و بدت عروق فخذيه و قد زنى بامرأة مريضة فأمر رسول اللّه فاتي بعرجون فيه مائة شمراخ فضربه به ضربة و ضربها به ضربة و خلّى سبيلهما و ذلك قوله:

«وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ».

قوله تعالى: [إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ] أي صابرا على البلاء الّذي ابتليناه به [إِنَّهُ أَوَّابٌ رجّاع منقطع إلى اللّه.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 45 الى 54]

وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)

جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ (51) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من حديث الأنبياء فقال:

[وَ اذْكُرْ] يا محمّد لأمّتك و قومك [عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ليقتدوا بهم في حميد أفعالهم و كريم خلالهم فيستحقّوا بذلك حسن الثناء في الدنيا و جزيل الثواب في العقبى كما استحقّ أولئك و إذا قرئ «عبدنا» فيكون التقدير عبدنا إبراهيم و خصّه بشرف إلى نفسه و اذكر إسحاق و يعقوب وصفهم جميعا فقال: [أُولِي الْأَيْدِي أي ذوي القوّة

ص: 179

على العبادة [وَ الْأَبْصارِ] الفقه و البصيرة في الدين و حاصل المعنى اولي العلم و العمل «فالأيدي» العمل و «الأبصار» العلم أو المراد من الأيدي النعم على عباد اللّه بالدعوة إلى الدين و المراد بالأبصار جمع البصر و هو العقل.

قوله: [إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ] أي جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار و هو أنّهم يتذكّرونها بالتأهّب للآخرة و يزهدون في الدنيا كما هو عادة الأنبياء و قيل: المراد «بالدار» الدنيا فحينئذ المراد: أبقيت لهم الذكر الجميل في الدنيا.

و قرئ «بِخالِصَةٍ» منوّنة و مضافة فمن نوّن كان التقدير: جعلناهم خالصين بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها و هي «ذِكْرَى الدَّارِ» و من قرأ مضافة فالمعنى: بما خلص من «ذِكْرَى الدَّارِ» يعني أنّ ذكر الدار قد تكون للّه و قد تكون لغيره و هم ذكرهم خالصة للّه علما و عملا كصبر إبراهيم حين القي في النار في طاعة اللّه عملا و يقينه حيث ما راجع أمره إلى غير اللّه حتّى جبرئيل، علما و صبر إسماعيل للذبح و صبر يعقوب حين فقد ولده و ذهب بصره.

و اعلم أنّ النفس الناطقة الإنسانيّة لها قوّتان عاملة و عالمة فالقوّة العاملة فأشرف ما يصدر عنها طاعة اللّه و قد صدر منهم و أمّا القوّة العالمة فأشرف ما يصدر عنها معرفة اللّه و اليقين به فقوله: «أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ» إشارة إلى هاتين الحالتين.

ثمّ قال تعالى: [وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ] أي هم المختارين من أبناء جنسهم و اصطفوا للنبوّة و تحمّل أعباء الرسالة و «الأخيار» جمع خيّر أو خير مخفّفة كأموات و ميّت و ميت و هو الّذي يفعل الأفعال الكثيرة الحسنة و احتجّ العلماء بهذه الآية في إثبات عصمة الأنبياء لأنّه تعالى حكم عليهم بكونهم أخيارا على الإطلاق و هو يعمّ حصول الخيريّة في جميع الأفعال و الصفات.

قوله تعالى: [وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ أي و اذكر لأمّتك هؤلاء المذكورين أيضا ليقتدوا بهم و يسلكوا طريقتهم و هم قوم آخرون من الأنبياء تحمّلوا الشدائد في دين اللّه و فصّل ذكر إسماعيل عن ذكر أبيه و أخيه للإشعار بعراقته في الصبر و اليسع هو ابن أخطوب بن العجور استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثمّ صار نبيّا

ص: 180

و اللام دخل على يسع كما دخل في قوله:

«رأيت الوليد بن اليزيد مباركا» و قرئ و الليسع كأنّ أصله ليسع و اللام أصليّة فيعل ثمّ دخل عليه حرف التعريف و على القراءتين علم أعجميّ و قيل: هو يوشع. «وَ ذَا الْكِفْلِ» و هو ابن عمّ يسع و قد فرّ إليه مائة من بني إسرائيل من القتل فآواهم و كفّلهم.

[وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ] المشهورين بالخيريّة قد اختارهم اللّه للنبوّة.

[هذا ذِكْرٌ] أي شرف و ثناء حسن يذكرون به في الدنيا و قوله: «هذا ذِكْرٌ» بيان عنوان في العاجل لهم من الشأن و قسم آخر من الشأن و هو أعظم.

فشرع في تقرير الباب الثاني فقال: [وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي حسن مرجع يرجعون في الآخرة إلى ثواب اللّه و فسّر حسن المآب بقوله: [جَنَّاتِ عَدْنٍ فهي في موضع جرّ على البدل أي حسن المآب جنّات إقامة و خلود [مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي يجدون أبوابها مفتوحة و لا يحتاجون إلى الوقوف عند أبوابها حتّى تفتح.

و قيل: مفتاح تلك الجنان كلمة يقال لها: انفتحي انفلقي أو الملائكة يفتح لهم و تغلق لهم متى شاءوا.

و احتجّ القائلون بقدم الأرواح بقوله: «لَحُسْنَ مَآبٍ» و بكلّ آية على لفظ الرجوع و يقولون: إنّ لفظ الرجوع إنّما يصدق لو كانت الأرواح موجودة قبل الأجساد و كانت في حضرة جلال اللّه ثمّ تعلّقت بالأبدان فعند انفصالها عن الأبدان يسمّى ذلك رجوعا.

و الجواب أنّ هذا إن دلّ فإنّما يدلّ على أنّ الأرواح كانت موجودة قبل الأبدان و كون الأرواح قبل الأجساد لا يدلّ على قدم الأرواح بل يدلّ على سبقة خلقة زمان الروح عن البدن.

قوله: [مُتَّكِئِينَ فِيها] أي مستندين فيها إلى المساند جالسين جلسة الملوك [يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ أي يتحكّمون في ثمارها و شرابها فإذا قالوا لشي ء منها:

أقبل حصل عندهم و «مُتَّكِئِينَ» حال قدّمت على العامل فيها و هو قوله: «يَدْعُونَ فِيها» فالمعنى يدعون في الجنّات متّكئين فيها بفاكهة كثيرة أي بألوان الفاكهة و أقسامها

ص: 181

و ألوان الشراب و أقسامها.

و لمّا بيّن أمر المسكن و أمر المأكول و المشروب عقّبه أمر المنكوح فقال:

[وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ أي و لهم في هذه الجنان أزواج قصّرن طرفهنّ على أزواجهنّ راضيات بهم و مالهنّ في غيرهم رغبة و معنى «قاصر» نقيض المادّ، يقال:

فلان قاصر طرفه عن فلان و مادّتها عينه إلى فلان قال امرؤ القيس:

من القاصرات الطرف لو دبّ محول من الذرّ فوق الإتب منها لأثّرا

[أَتْرابٌ أي أقران على سنّ واحد ليس فيهنّ عجوز و لا هرمة و أمثال و أشباه أو متساويات في الحسن و مقدار الشباب لا يكون لواحدة على صاحبتها فضل في ذلك و قيل: معنى أتراب على مقدار سنّ الأزواج كلّ واحدة منهنّ ترب زوجها لا تكون أكبر منه و «الترب» اللدة مأخوذ من اللعب بالتراب و لا يقال إلّا في الإناث.

[هذا ما تُوعَدُونَ أي ما ذكر من هذه النعم هو الّذي وعدتم به و يخاطب المتّقون فيقال لهم هذا القول [لِيَوْمِ الْحِسابِ و الجزاء.

ثمّ أخبر سبحانه عن دوام هذه النعم فقال: [إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ] و ليس له انقطاع بل هو دائم باق ببقاء اللّه.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 55 الى 61]

هذا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ (57) وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)

قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61)

المعنى: لمّا بيّن أحوال أهل الجنّة و ما أعدّ لهم من النعم عقّبه ببيان أحوال أهل النار و ما لهم من أليم العذاب فقال:

[هذا] أي ما ذكرناه ثواب للمتّقين ثمّ ابتدأ فقال: [وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ الّذين طغوا على اللّه و كذّبوا رسله [لَشَرَّ مَآبٍ و هو ضدّ مآب المتّقين و فسّر ذلك الشرّ فقال:

[جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها] أي يدخلونها حال كونهم ملازمين النار [فَبِئْسَ الْمِهادُ] و المسكن و الممهّد.

ص: 182

[هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ أي هذا الجزاء للطاغين فليذوقوه حميم و غسّاق أي هذا الجزاء حميم و هو الحارّ الشديد الحرارة و الغسّاق قيح شديد النتن و العفونة خلاف الصفاء و قيل: الغسّاق ضدّ الحميم البارد الزمهرير فالمعنى أنّهم يعذّبون تارة بحال شراب الّذي انتهت حرارته و ببارد الّذي انتهت برودته فبرده يحرق كما تحرق النار و قيل: الغسّاق عين في جهنّم يسيل إليها سمّ كلّ ذات حمة من الحيّات و العقارب و غيرها و قيل: الغسّاق هو ما يسيل من دموعهم يسقونه مع الحميم و قيل:

الغسّاق هو عذاب لا يعلمه إلّا اللّه من شدّته و هو مأخوذ من الظلمة.

[وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ أي و ضروب آخر من شكل هذا العذاب و جنسه أزواج أي أنواع و ألوان متشابهة في الشدّة لا نوع واحد و الضمير في قوله. «مِنْ شَكْلِهِ» يعود إلى الحميم و يرجع إلى العذاب الّذي يعذّبون به أهل جهنّم.

و اختلفوا في المراد بالطاغين فأكثر المفسّرين حملوه على الكفّار. و قال الجبّائيّ: إنّه محمول على أصحاب الكبائر سواء كانوا كفّارا أو لم يكونوا.

و احتجّ الأوّلون بوجوه: الأوّل أنّ قوله: «لَشَرَّ مَآبٍ» يقتضي أن يكون مآبهم شرّا من مآب غيرهم و ذلك لا يليق إلّا بالكفّار. الثاني أنّه تعالى حكى عنهم أنّهم قالوا: «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا» و ذلك لا يليق إلّا بالكافر لأنّ الفاسق لا يتّخذ المؤمن سخريّا. الثالث أنّه اسم ذمّ و الاسم المطلق محمول على الكامل و الكامل في الطغيان هو الكافر.

و أمّا حجّة الجبّائيّ قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (1) و هذا يدلّ على أنّ الوصف بالطغيان قد يحصل في حقّ صاحب الكبيرة و لأنّ كلّ من جاوز عن تكاليف اللّه و تعدّاها فقد طغى.

و بالجملة لمّا وصف اللّه مسكن الطاغين و مأكولهم حكى سبحانه أحوالهم مع الّذين كانوا أحبّاء لهم في الدنيا أوّلا ثمّ مع الّذين كانوا أعداء لهم في الدنيا ثانيا أمّا الأوّل فهو قوله: [هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ و هاهنا حذف أي يقال لهم: «هذا فَوْجٌ» و هم مادّة الضلالة إذا دخلوا النار ثمّ يدخل الأتباع فيقول الخزنة للقادة: هذا فوج،

ص: 183


1- الحاقة: 6.

أي قطع من الناس و هم الأتباع «مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ» في النار دخلوها و الاقتحام الدخول في الشي ء بشدّة و صعوبة و قيل: يعنى بالأوّل إبليس و أولاده و بالفوج الثاني يعني بني آدم و المراد أنّ بني إبليس مقتحم مع بني آدم يدخلون النار و أنتم معهم.

[لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ] فيكون على المعنى الأوّل أنّ القادة و الرؤساء يقولون للأتباع: لا مرحبا بهؤلاء إنّهم يدخلون النار مثلنا و لازموها فيقول الأتباع لهم: [بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ و لا نلتم رحبا و سعة [أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا] و حملتمونا على الكفر الّذي أوجب لنا هذا العذاب و دعوتمونا إليه.

و أمّا على القول الثاني إنّ أولاد إبليس يقولون لبني آدم: لا مرحبا بهؤلاء قد ضاقت أماكننا بهم و نحن بسببهم في الضيق و الشدّة و قد ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ النار تضيق عليهم كضيق الزجّ بالرمح قالوا: «بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ» أي يقول بنو آدم لبني إبليس: بل لا كرامة لكم أنتم شرّعتموه لنا و زيّنتموه في نفوسنا حتّى استوجبنا هذا العذاب [فَبِئْسَ الْقَرارُ] الّذي استقررنا عليه و هو جهنّم.

[قالُوا] ثمّ قالت الأتباع: [رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ] معناه نظير قوله تعالى: «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً» (1) و المراد من «الضِّعْفِ» عذاب الضلال و عذاب الإضلال لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

هذا شرح أحوال الكفّار مع الّذين كانوا أحبابا لهم في الدنيا و أمّا شرح أحوالهم مع الّذين كانوا أعداء لهم في الدنيا:

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 62 الى 70]

وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

ص: 184


1- الأعراف: 37.

فحكى سبحانه مقالات أهل النار بقوله: [وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ] فيقولون هذا الكلام حين ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم مسلكا في الدنيا و هم يعنون فقراء المسلمين أو المؤمنين و سمّوهم من الأشرار بمعنى الأراذل الّذين لا خير و لا جدوى فيهم أو لأنّهم بزعمهم على خلاف الدين.

ثمّ قالوا: [أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا] أي لمّا لم يروهم في النار قالوا: اتّخذناهم هزؤا في الدنيا فأخطأنا أم عدلت عنهم أبصارنا فلا نراهم و هم معنا في النار قرئ «أَتَّخَذْناهُمْ» بهمزة الوصل و بهمزة القطع و وجه فتح الهمزة يكون على التقرير و عودلت «بأم» كما عودلت بأم في قوله: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ».

فإن قيل: فما الجملة المعادلة بقوله: «أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» على قول من كسر الهمزة في قوله: «أَتَّخَذْناهُمْ»؟ فحينئذ الجملة المعادلة لأم محذوفة و المعنى و التقدير: أ تراهم أم زاغت الأبصار مثل قوله: «أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ» (1) لأنّ المعنى أخبروني عن الهدهد أ حاضر هو أم كان من الغائبين و «سِخْرِيًّا» إذا كان بضمّ السين فمعناه التذليل و التسخير و العبوديّة و أمّا إذا كان بكسر السين فمعناه الهزء.

قوله تعالى: [إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ] و لمّا حكى سبحانه عنهم هذه المقالات في النار من التابعين و المتبوعين فقال سبحانه: إنّ ذلك الّذي حكيناه عنهم لحقّ و لا بدّ أن يتكلّموا به ثمّ بيّن أنّ هذه المقالات تخاصم أهل النار و سمّي تخاصما هذا الكلام لأنّ قول الرؤساء: «لا مَرْحَباً بِهِمْ» و قول الأتباع: «بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ» من باب الخصومة و مجادلة بعضهم بعضا.

ثمّ خاطب نبيّه فقال: [قُلْ يا محمّد: [إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ] أي مخوّف و محذّر من معاصي اللّه [وَ ما مِنْ إِلهٍ تحقّ له العبادة [إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ] لجميع خلقه المتعالي بسعة مقدوراته فلا يقدر أحد على الخلاص من عقوبته إذا أراد عقابه.

[رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا] من الإنس و الجنّ و كلّ خلق [الْعَزِيزُ] الّذي لا يغلبه شي ء [الْغَفَّارُ] لذنوب عباده مع قدرته على عقابهم و حاصل المعنى أنّه أبلغ

ص: 185


1- النمل: 20.

يا محمّد أحوال عقاب من أنكر التوحيد و النبوّة و المعاد و أحوال ثواب من أقرّ بها كما بدأ في أوّل السورة بأدلّة التوحيد و النبوّة.

قوله تعالى: [قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ قل يا محمّد: هو نبؤ و اختلف في مرجع الضمير. قيل: هو القرآن أي حديث عظيم لأنّه كلام اللّه المعجز و قيل:

هو أي خبر القيامة خبر عظيم أنتم عن الاستعداد لها معرضون و غافلون و بها مكذّبون و قيل: معناه النبأ الّذي أنبأتكم به عن اللّه نبأ عظيم و ذلك لأنّ هذه المطالب الثلاثة مذكورة في أوّل السورة مثل قوله: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ» و هؤلاء الأقوام أعرضوا عنه على ما قال: «أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ» و القميّ: يعني به أمير المؤمنين و في البصائر عن الباقر عليه السّلام هو و اللّه أمير المؤمنين، و عن الصادق النبأ الإمامة. و قيل:

المعنى ما أنبأتكم من نبأ آدم و الملائكة و قصص الأوّلين نبأ عظيم و أنتم لا تتفكّرون فيه فتعلموا صدقي في نبوّتي.

و يدلّ على هذا المعنى قوله: [ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الملائكة [إِذْ يَخْتَصِمُونَ و هذا الكلام مسوق لتحقيق أنّ النبأ عظيم لأنّه وارد من جهته تعالى بطريق الوحي من عند اللّه «و الملأ الأعلى» هم الملائكة و قصّة آدم و إبليس و سجود الملائكة و استكبار إبليس و التقدير ما كان لي فيما سبق علم بحال الملأ الأعلى و إنّما علمته بالوحي الّذي انزل إليّ و إنّما عبّر بالمخاصمة بسبب قولهم: «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ».

و لمّا جرى هذه المناظرة و السؤال و الجواب فشابه المخاصمة و المشابهة علّة لجواز المجاز توسّعا فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه [إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما كان لي علم باختصام الملائكة لو لا أنّ اللّه أخبرني به لم يمكنني إخباركم و لكن ما يوحى إليّ أخبركم به و ليس يوحى إليّ إلّا الإنذار البيّن الواضح فأنا مخوّف و مظهر للحقّ.

ثمّ بيّن اختصام الملائكة من بيان أمر آدم بقوله:

[سورة ص (38): الآيات 71 الى 83]

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)

قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)

إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)

ص: 186

ثمّ ذكر الاختصام بقوله: [إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ] و «إِذْ» يتعلّق بقوله: «يَخْتَصِمُونَ» و إن اعترض بينهما كلام [إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ يعني آدم.

[فَإِذا] سوّيت خلق هذا البشر و تمّمت أعضاءه و صوّرته [وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي جعلت فيه الروح إلى نفسه تشريفا له و معنى «نَفَخْتُ فِيهِ» أي تولّيت فعله من غير سبب و واسطة كالولادة المؤدّية إلى ذلك فتبيّن أنّ الإنسان مركّب من جسد و هو الطين و من نفس و هو الروح بدليل الآية و ذهبت الحلوليّة الملاعنة إلى أنّ كلمة «من» تدلّ على التبعيض و هذا يوهم أنّ الروح جزء من أجزاء اللّه تعالى و هذا في غاية الفساد لأنّ كلّ ماله جزء فهو مركّب من أجزائه و ممكن الوجود لذاته و محدث و مخلوق و هو غير اللّه.

و أمّا كيفيّة نفخ الروح و حقيقته فهي أمر لا يعلمه إلّا اللّه و ليس إلّا من عالم الأمر و القدرة و ليس لنا طريق إلى معرفته لكنّه معلوم في الجملة أنّها عبارة عن أجسام شفّافة نورانيّة علويّة العنصر قدسيّة الجوهر و هي تسري في البدن سريان الضوء في الهواء و سريان النار في الفحم.

قوله: [فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمر سبحانه الملائكة بعد التسوية و نفخ الروح بالتعظيم و السجود له و توجّه أمر اللّه عليهم بالسجود له و أمّا أنّ المأمور بذلك السجود ملائكة الأرض أو دخل فيه ملائكة السماوات جميعا كما هو المستفاد مثل جبرئيل و ميكائيل و الروح الأعظم المذكور في قوله: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا» (1) ففيه مباحث عميقة.

ص: 187


1- النبأ: 38.

و احتجّ بعض الجهلة بإثبات الأعضاء و الجوارح للّه تعالى بقوله تعالى: «ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» بأنّ ظاهر الآية يدلّ عليه فوجب المصير إليه و آيات كثيرة واردة على وفق هذه الآيات فوجب القطع به.

و الجواب أنّ الدلائل القطعيّة على نفي كونه جسما مركّبا كثيرة و قد سبق ذكرها في مواضع و لكن لا بأس بذكر نكتة منها حتّى تجري مجرى الإلزام لأنّ من قال: إنّ اللّه تعالى شأنه مركّب من الأعضاء و الأجزاء لزمه تعالى من هذا القول إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح فضلا عن بطلان التركيب الّذي هو أصل أصيل لأنّه يلزمه إثبات وجه لا يوجد منه إلّا رقعة الوجه لقوله: «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (1) و يلزمه تعالى أن يثبت في تلك الرقعة عيونا كثيرة لقوله: «تَجْرِي بِأَعْيُنِنا» (2) و أن يثبت له جنبا واحدا لقوله: «يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ» (3) و أن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله: «مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا» (4) و بتقدير أن يكون له يدان فإنّه يجب أن يكون يده تعالى من الحجر الصلب لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض و أن يثبت له ساقا واحدا لقوله تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» (5) فحينئذ الحاصل من مثل هذه الصورة أقبح الصور بحيث لو كان صاحب هذه الصورة عبدا لم يرغب أحد في شرائه فكيف يقول العاقل: إنّ أحسن الخالقين صورته كذلك فتبيّن أنّ المراد من قوله:

«بِيَدَيَّ» و أمثاله ليس معنى الظاهر بل القدرة بحكم العقل و النقل تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

قوله: [فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ مفسّر في سورة البقرة و الغرض و النظم في الآية المنع من الحسد و الكبر و الكفّار إنّما نازعوا محمّدا في نبوّته بسبب الحسد و الكبر فاللّه تعالى ذكر هذه القصّة ليصير سماعها زاجرا لهم عن هاتين الصفتين المذمومتين.

و هاهنا تحقيق و هو أنّ العلماء ذكروا في قوله: «بِيَدَيَّ» وجوها: الأوّل أنّ

ص: 188


1- القصص: 88.
2- الجاثية: 14.
3- الزمر: 56.
4- يس: 71.
5- القلم: 42.

المراد من «اليد» القدرة و الاستيلاء تقول العرب: مالي بهذا الأمر من يد أي من قوّة و طاقة. الثاني اليد عبارة عن النعمة. الثالث أنّ لفظ اليد قد يراد للتأكيد كقول القائل لمن جنى باللسان: هذا ما كسبت يداك.

فلو قيل: حمل اليد على القدرة غير جائز لأنّه لو كانت اليد عبارة عن القدرة فكلّ شي ء مخلوق بالقدرة حتّى إبليس و لم تكن هذه العلّة علّة لكون آدم مسجودا لإبليس أولى من أن يكون إبليس مسجود الآدم و كذلك لو كانت اليد عبارة عن النعمة فهو أيضا باطل لأنّ نعم اللّه كثيرة «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» (1) و النعمة مخلوقة فحينئذ هذا الأمر لا يكون سبب الكمال بل سبب النقصان؛ لكنّ المعنى أنّ السلطان العظيم إذا كان له عناية شديدة في عمل يجعل العناية الشديدة بمنزلة العمل باليد شخصا مجازا لاهتمام الأمر به و توسّعا.

و بالجملة قوله: [قالَ ... ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ هذا سؤال توبيخ و معنى «لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» تولّيت خلقه من غير واسطة و مثل هذا المعنى قوله: «مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا» [أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي أ رفعت نفسك فوق قدرك و تعظّمت عن امتثال أمري أم كنت من الّذين تعلو أقدارهم عن السجود فتعاليت عنه؟

[قالَ إبليس: [أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ و فضّل النار على الطين [قالَ اللّه سبحانه: [فَاخْرُجْ مِنْها] من الجنّة أو من السماوات [فَإِنَّكَ رَجِيمٌ طريد و مبعد عن رحمتي [وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ .

[قالَ إبليس عند ذلك: [رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي أخّرني إلى يوم يحشرون و هو يوم القيامة [قالَ اللّه: [فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي من المؤخّرين [إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ و إنّما طلب الإنظار إلى يوم القيامة لأجل أن يتخلّص من الموت لأنّه إذا انظر إلى يوم البعث و لم يمت قبل يوم البعث فعند مجي ء يوم البعث لا يموت أيضا فحينئذ يتخلّص من الموت فقال اللّه تعالى: «فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» أي إلى يوم يعلمه اللّه و لم ينظره إلى يوم القيامة.

ص: 189


1- ابراهيم: 36.

[ف قالَ إبليس: [فَبِعِزَّتِكَ أي اقسم بقدرتك الّتي تقهر بها جميع المخلوقين [لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي أدعو بني آدم إلى الغيّ و ازيّن لهم القبا إلّا عبادك الّذين استخلصتهم و عصمتهم فلا سبيل لي عليهم و غرضه اللعين من هذا الاستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنّه علم أنّه لا قدرة له عليهم و لو لم يستثن لظهر كذب و إذا كان الكذب أمر يستنكف منه إبليس مع هذه الشقاوة فكيف يليق بالمسلم الإقدام عليه فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية و بين قوله: «وَ ما أَرْسَلْنا ... مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» (1)؟

فالجواب أنّه لم يقل: إنّي لم أقصد إغواء عباد اللّه المخلصين و هو و إن كان يقصد الإغواء إلّا أنّه لا يغويهم حيث لا قدرة له عليهم.

فائدة قوله: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» يدلّ على أنّ إبليس لا يغوي عبادك المخلصين فمن وصفه سبحانه في كتابه بأنّه من المخلصين معصوم مثل يوسف و أمثاله و ذلك يدلّ على كذب الحشويّة و الّذين ينسبون الأنبياء إلى القبائح و ينسبون إليها بعض المعاصي.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 84 الى 88]

قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

قال اللّه تعالى: [فَالْحَقُّ وَ الْحَقَ قرأ عاصم و حمزة «فَالْحَقُّ» بالرفع «وَ الْحَقَّ» بالنصب و الباقون بالنصب فيهما أمّا الرفع فتقديره فالحقّ فسمي فيكون مبتدءا و حذف الخبر و أمّا النصب فيهما فتشبّها بالقسم فيكون الناصب له ما ينصب القسم من نحو اللّه لأفعلنّ فيكون التقدير الحقّ لأملأنّ و الحقّ منصوب بأقول أي أقول الحقّ و يجوز أن يكون «وَ الْحَقَّ» تأكيدا لقوله: «فَالْحَقُّ».

و بالجملة [لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أي جنسك و هم الشياطين المتمرّدة [وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي من الشياطين التابعين لك أو المراد من قوله «مِمَّنْ تَبِعَكَ» من بني آدم

ص: 190


1- الحج: 52.

و قوله: [أَجْمَعِينَ تأكيد من ضمير «مِنْكَ» أو ضمير «مِنْهُمْ».

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [قُلْ يا محمّد لكفّار مكّة: [ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الوحي و القرآن و الدعوة إلى اللّه [مِنْ أَجْرٍ] و مال تعطونيه [وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ لهذا القرآن من تلقاء نفسي أو المعنى ما أتيتكم رسولا من قبل نفسي و لم تكلّف هذا الإتيان بل أمرت به [إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي ما القرآن إلّا موعظة لخلق و شرفا لمن آمن به.

[وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ يا كفّار مكّة خبر صدق القرآن بعد الموت و من عاش علم ذلك إذا ظهر أمره و علا حكمه.

فائدة علمية إذا خالف القياس النصّ يجب تركه و متابعته و العمل به يوجب الخذلان كما أوجب على إبليس الطرد و اللعن لأنّه قاس من مقدّمة كاذبة و خالف النصّ حيث؟؟؟: من كان أصله خير من أصل غيره فهو خير منه لأنّي خلقت من نار و خلق آدم من؟؟؟ فأنا أشرف منه و لا يجوز سجود الأشرف لغير الأشرف لأنّ الأجرام الفلكيّة أشرف؟؟؟ الأجرام العنصريّة و النار أقرب العنصر الفلك من الأرض و الأرض أبعدها عنه النار مضيئة في العالم و الأرض غبراء كثيفة و اللطافة أشرف من الكثافة و النار خفيفة؟؟؟ الروح و الأرض ثقيلة يشبه الجسد و الروح أفضل من الجسد و العنصر الثقيل عون؟؟؟ تركيب الأجساد و العنصر الخفيف أعون على توليد الأرواح و أشرف أعضاء الحيوان القلب و الروح و هما على طبيعة النار و أخسّ أعضاء الحيوان هو العظم و هو بارد يابس؟؟؟ و الأجسام الأرضيّة كلّما كانت أشدّ نورا و مشابهة بالنار كانت أشرف و كلّما كانت أكثر؟؟؟ و كدورة و مشابهة بالأرض كانت أخسّ مثاله الأجسام الشبيهة بالنار الذهب و الياقوت و الأحجار الصافية النورانيّة كالجواهر و أشرف أجسام العالم الجسمانيّ هو الشمس؟؟؟ أشبه بالنار في صورته و طبيعته و أثره و توليد المركّبات لا تتمّ إلّا بالحرارة النار القوّة الفاعلة و الأرض القوّة المنفعلة و الفعل أفضل من الانفعال.

و من هذه المقامات الباطلة استكبر اللعين و آل أمره إلى ما آل لأنّ كلّ هذه

ص: 191

الوجوه الّتي قاسها اللعين امور اعتباريّة لا متأصّلة و الأمر المتأصّل و الشرف الأصيل جعله اللّه أصيلا و أودع فيه حكمته.

و كلّ هذه الوجوه متناقضة بمثلها مثاله أنّ الأرض أمين مصلح فإذا أودعتها حبّة؟؟؟

إليك شجرة مثمرة و النار خائنة تفسد كلّما أسلمته إليها، و كذلك الأرض مستولية بالقدرة على النار فإنّها تطفئ النار، و أمّا النار فإنّها لا تؤثّر في الأرض الخالصة فالنار منفع و الأرض فاعلة و قول اللعين: إنّ من كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه هذه المقدّمة كان لأنّ أصل الرماد النار و أصل الفواكه و الثمار هو الأرض و معلوم بالضرورة أنّ الأشجار المثمرة خير من الرماد ثمّ هب أنّ اعتبار مثل هذه الجهات يوجب الفضيلة إلّا أنّ هب يمكن أن يصير معارضا بجهة اخرى أقوى و أولى مثل إنسان أصيل نسيب لكنّه عار عن؟؟؟

الفضائل و رجل غير نسيب يكون كثير العلم و الفضائل فيكون هو أفضل من ذلك الرجل النسيب العاري فثبت أنّ قياساته باطلة و لمّا عارض النصّ فأبطل.

فإن قيل: هب أنّ إبليس أخطأ في هذا القياس لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة فإنّ قوله تعالى: «اسْجُدُوا»* أمر و الأمر إذا لم يكن حقيقة في الوجوب و يكون حقيقة في الندب فمخالفة الندب لا توجب العصيان فضلا عن الكفر و هب أنّ الأمر حقيقة في الوجوب لكنّه محتمل للندب و مع قيام هذا الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلا عن الكفر؟ و هب أنّه للوجوب فإذا كان الخطاب للملائكة و على كون إبليس لم يكن من الملائكة لا يدخل في الأمر فخصّص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس. ثمّ هب أنّه لم يسجد مع علمه بأنّه كان مأمورا به إلّا أنّ هذا المقدار يوجب العصيان و لا يوجب الكفر فكيف لزمه؟

فالجواب أنّه هب أنّ صيغة الأمر لا تدلّ على الوجوب لكن إذا ضمّت إليها من القرائن ما يدلّ على الوجوب وجب العمل به و قد حصلت تلك القرائن بقوله: «أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ» فاللعين أتى بذلك القياس ليتوسّل به إلى القدح و الجحود في أمر اللّه و تكليفه و ذلك يوجب الكفر قطعا بل أعلى درجة الكفر لأنّ الجحود أقبح أقسام الكفر.

ص: 192

و اعلم أنّه ثبت في أصول الفقه أنّ ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدلّ على كون ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف و هاهنا الحكم بكونه رجيما و رد عقيب ما حكي عنه أنّه خصّص النصّ بالقياس فهذا يدلّ على أنّ تخصيص النصّ بالقياس يوجب هذا الحكم، انتهى تمّت السورة.

ص: 193

سورة الزمر

اشارة

و تسمى سورة الغرف و هي مكّيّة كلّها، و قيل: ثلاثة منها نزلن بالمدينة في وحشيّ قاتل حمزة «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ إلى آخرهنّ» و قيل: فقط آية «قُلْ يا عِبادِيَ» مدنيّة.

قال ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ سورة الزمر لم يقطع اللّه رجاه و أعطاه ثواب الخائفين الّذين خافوا اللّه.

و روى هارون بن خارجة عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ سورة الزمر أعطاه اللّه شرف الدنيا و الآخرة و أعزّه بلا مال و لا عشيرة حتّى يهابه من يراه و حرّم جسده على النار و يبنى له في الجنّة ألف مدينة في كلّ مدينة ألف قصر في كلّ قصر مائة حوراء و له مع ذلك عينان تجريان و عينان نضّاختان و جنّتان مدهامّتان و حور مقصورات في الخيام.

التفسير:

اشارة

ختم اللّه سورة ص بذكر القرآن و افتتح هذه السورة أيضا بالقرآن فقال:

ص: 194

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الزمر (39): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)

تَنْزِيلُ مبتدأ و خبره «مِنَ اللَّهِ» أو خبر مبتدء محذوف أي هذا تنزيل الكتاب.

عظّم اللّه أمر القرآن و حثّ المكلّفين على القيام بما فيه و اتّباع أوامره و نواهيه بأن قال:

[تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ] المتعالي عن المثل و الشبه [الْحَكِيمِ في أفعاله و الحكيم هو الّذي يفعل لداعية الحكمة لا لداعية الشهوة و هذا إنّما يتمّ إذا كان عالما بجميع المعلومات و غنيّا عن جميع الحاجات و وصف نفسه سبحانه تعالى بالعزّة تحذيرا من مخالفة كتابه.

[إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ و لم ننزّله بغير غرض و أنزلنا بالأمر الحقّ و الدين الصحيح [فَاعْبُدِ اللَّهَ و توجّه عبادتك إلى اللّه وحده [مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ من شرك الأوثان و الأصنام و معنى الإخلاص أن يقصد العبد بنيّته و عمله إلى خالقه و لا يشوبه أمر آخر من الرياء و السمعة و غرض غير اللّه و لا يكون فيه وجه من وجوه الدنيا و هو الإسلام و شهادة أن لا إله إلّا اللّه على حسب الحقيقة و هو الاعتقاد الواجب في التوحيد و العدل و النبوّة و الشرائع و الإقرار بها على حسب الجزم و اليقين و العمل بموجباتها و البراءة من

ص: 195

كلّ دين سواها فليكن العبد مشتغلا بعبادة اللّه على سبيل الإخلاص لقوله تعالى:

«فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً» و متبرّئا عن عبادة غيره و أن لا يجعل للّه تعالى في العبادة شريكا و هو المراد من قوله تعالى: [أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لأنّ قوله: «أَلا لِلَّهِ» يفيد الحصر و معنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور و ينتفي عن غير المذكور كما أنّ قوله تعالى:

«وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (1).

و شرط المعتزلة في قبول العبادات التخلّص من الكبائر و قال غيرهم: إنّ المعصية لا تضرّ مع الإيمان كما أنّ الطاعة لا تنفع مع الكفر محتجّين بما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال اللّه: لا إله إلّا اللّه حصني و من دخل حصني أمن من عذابي و بالجملة فالمسألة خلافيّة بين الأشاعرة و المعتزلة و الأكثرون على أنّ الآية متناولة لكلّ ما كلّف اللّه به من الأوامر و النواهي و هذا هو الأولى و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (2) نعم إنّ شهادة أن لا إله إلّا اللّه بمنزلة العمود و لكن أين الطنب و عمود الخيمة لا ينتفع به إلّا مع الطنب النهاية أنّ صاحب هذه الكلمة لا يخلّد و مع ذلك هذه الكلمة مشروطة بشرائط و ليست مطلقة قال القاضي عبد الجبّار: و أمّا ما يروى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لمعاذ و أبي الدرداء: و إن زنى و إن سرق، على رغم أبي الدرداء فإن صحّ فإنّه يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة لأنّه مخالف للقرآن قال القاضي: و لأنّه يوجب أن لا يكون الإنسان مزجورا عن الزنى و السرقة لأنّه يعلم أنّه لا يضرّه مع التمسّك بالشهادتين فكان ذلك إغراء بالقبيح و هو ينافي الحكمة انتهى كلام القاضي.

فلو قيل: إنّ القول بأنّه يزول ضرر العصيان بالتوبة يوجب أيضا الإغراء بالقبيح.

فنقول: ليس الأمر كذلك لأنّا نعتقد و نقول: إنّ فعل القبيح مضرّ لكنّه يزول ذلك الضرر بفعل التوبة في الجملة إذا كانت مقبولة و مأتيّة بشرائطها و آدابها و لمّا كان الإتيان بالشرائط و الآداب غير محقّق و القبول أيضا غير يقينيّ فحينئذ لا يكون إغراء

ص: 196


1- البينة: 5.
2- المائدة: 30.

بالقبيح بخلاف قول من يقول: إنّ فعل القبيح لا يضرّ مع الشهادتين ثمّ من أين تحقّق قول القاضي من أنّ القول به مخالف للقرآن لأنّه لمّا لم يحصل القطع بحصول العفو في حقّ كلّ أحد من الناس و العاصين كان الخوف حاصلا للعاصي في القبول فلا يكون حينئذ الإغراء حاصلا انتهى.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ] أي زعموا أنّ لهم من دون اللّه مالكا عليكم و التقدير: أنّهم يقولون: [ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فمرادهم أنّ عبادتهم لها تقرّبهم إلى اللّه و معنى «زُلْفى أي قربى و التقدير ليقرّبونا قربى و حاصل الكلام أنّ العبّاد للأوثان و الأصنام و الملائكة و الشمس و القمر كانوا يقولون: إنّ الإله الأعظم أجلّ من أن يعبده البشر، و البشر اللائق به أن يشتغل بعبادة الأكابر من هؤلاء مثل الكواكب و مثل الأرواح السماويّة ثمّ إنّها تشتغل بعبادة الإله الأكبر و يتشفّعون لنا.

فاقتصر سبحانه في الجواب لهم بإسماع التهديد و التخويف فقال: [إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ و قد يكون الدعوى من الخصم واهية بحيث لا تكون قابلة للاستدلال في ردّه فحينئذ يكون الجواب التهديد و التخويف فإنّ وصفهم لهذه الأوثان و الأصنام بأنّها آلهة و مستحقّة للعبادة مع علمهم بأنّها جمادات خسيسة و هم نحتوها و كانت قبل ساعة أو سنة شجرة في بستان أو صخرة في جبل و هم بأيديهم عملوها و العلم الضروريّ حاكم بأنّ وصف هذه الأشياء بالإلهيّة و الإدراك و القوّة و التصرّف كذب محض فلا يكون جوابهم إلّا التهديد و قد كفروا بنعمة اللّه فإنّ العبادة نهاية التعظيم و هي لا تليق إلّا لمن صدر منه هذه النعمة فعبادة غير المنعم كفران نعمة المنعم.

ثمّ قال سبحانه: [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إلى طريق الجنّة أو لا يحكم بهدايته إلى الحقّ [مَنْ هُوَ كاذِبٌ على اللّه و على رسوله [كَفَّارٌ] بما أنعم اللّه عليه و ليس مراده سبحانه من الهداية الهداية إلى الإيمان لقوله سبحانه: «وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ» (1).

قوله تعالى: [لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً] على ما يقوله هؤلاء من أنّ الملائكة

ص: 197


1- حم السجدة: 17.

بنات اللّه أو ما يقوله النصارى: من أنّ المسيح ابن اللّه أو اليهود من أنّ عزيرا ابن اللّه.

قوله: [لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ] أي لاختار من خلقه ما يشاء أي ما كان يتّخذ الولد باختيارهم حتّى يضيفوا من شاءوا بل يختصّ ما يشاء لذلك و مثله قوله: «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا» (1) و هو منزّه عن مثل هذه النسبة لأنّه الواحد الحقيقيّ و الولد عبارة عن جزء من أجزاء الشي ء ينفصل عنه و إذا كان كذلك فيكون ذا أجزاء فهو مركّب محتاج إلى جزئه و لا يتصوّر الفرديّة المطلقة مع حصول الأجزاء و شرط الولديّة أن يكون الولد مماثلا في تمام الماهيّة للوالد فيكون حقيقة الولد حقيقة الوالد حقيقة نوعيّة محمولة على شخصين أو ثلاث و هذا الشخص لا يكون واجب الوجود لذاته و لا يكون واحدا القهّار لخلقه بالموت و الفناء.

ثمّ نبّه على قدرته بقوله: [خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ فلمّا طعن في الآية السابقة جعل الأصنام المخلوقة و عباده المربوبة كونها آلهة ذكر في هذه الآية الصفات الّتي باعتبارها يحصل الإلهيّة و الخالقيّة فاستدلّ بقدرته على خلق السماوات و الأرض و اختلاف حال الأفلاك و الليل و النهار و هو المراد بقوله:

[يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ و بيانه أنّ النور و الظلمة آيتان عجيبتان و في كلّ يوم يغلب هذا تارة ذاك و ذاك تارة هذا ففي هذا الاختلاف دلالة على أنّ كلّ واحد منهما مغلوب و مقهور بغالب و قاهر و مسخّر لهما يكونان تحت حكمه و تدبيره و معنى «يُكَوِّرُ» يدخل فما يزيد في أحدهما ينقص من الآخر و الشمس سلطان النهار بل الحاكم و القمر سلطان اللّيل و أكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما و قد قدّر حركتهما بطرز مخصوص إلى زمان مخصوص مسمّى و هو يوم القيامة و هما مسخّرتان بأمره.

[أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ] و هو سبحانه مع هذه القدرة العظيمة غفّار عظيم الرحمة و الفضل و الإحسان و المراد من بيان الآية أنّ من هو قادر على خلق السماوات و الأرض و تسخير الشمس و القمر و تكوير الليل و النهار ليس بمحتاج في اتّخاذ الولد منزّه عنه.

قوله تعالى:

ص: 198


1- الأنبياء: 17.
[سورة الزمر (39): الآيات 6 الى 10]

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)

المعنى: فبعد أن استدلّ على كمال قدرته بخلق الآفاق استدلّ في هذه الآية بخلق الأنفس فاستدلّ بخلق آدم و ذرّيّته فقال:

[خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] يعني آدم لأنّ جميع البشر من نفسه و نسله [ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها] يعني حوّاء من فضل طينه و قيل: من ضلع من أضلاعه و «ثم» يقتضي التراخي و المهلة.

و بعد ذلك استدلّ سبحانه بخلق الحيوان فقال: [وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ و هي الإبل و البقر و الضأن و المعز ذكرا و أنثى و معنى «الإنزال» هنا الإحداث و الإنشاء كقوله: «قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً» (1) و لم ينزل اللباس و لكن أنزل الماء الّذي هو سبب القطن و الصوف و اللباس يتكوّن منهما فكذلك هنا الأنعام تكوّن بالنبات و النبات يكوّن بالماء أو المعنى أنّه أنزلها بعد أن خلقها في الجنّة و في الخبر:

الشاة و الإبل من دوابّ الجنّة و قيل: إنّ المعنى جعل الأنعام نزلا و رزقا لكم.

قوله: [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ يعني نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظاما ثمّ يكسي العظام لحما ثمّ ينشئ خلقا آخر و قيل: معناه خلقا في

ص: 199


1- الأعراف: 25.

بطوق الأمّهات بعد الخلق في ظهر آدم عليه السّلام [فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة المشيمة و قيل: الصلب و الرحم و البطن.

ثمّ خاطب سبحانه خلقه فقال [ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي ذلكم الشي ء الّذي عرفتم و بيّنّا من عجائب الأفعال و صنعه هو اللّه ربّكم و خالقكم يملك التصرّف فيكم [لَهُ الْمُلْكُ لا لغيره [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] لأنّه لو ثبت إله آخر فذلك الإله إمّا أن يكون له الملك أو لا يكون فإن كان له الملك فحينئذ يكون كلّ واحد منهما قادرا مالكا و يجري بينهما التمانع و إن لم يكن للثاني شي ء من الملك و القدرة فيكون ناقصا و لا يصلح للإلهيّة.

ثمّ زيّف سبحانه طريقة المشركين بقوله: [فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن طريق الحقّ مثل قوله: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»* قالت المعتزلة ردّا على الأشاعرة بأنّ هذا الكلام تعجّب و إنكار عن هذا الانصراف و لو كان الفاعل لذلك الصرف هو اللّه لم يبق لهذا الإنكار و التعجّب معنى لأنّه تعالى لو كان هو الصارف كما قالت الجبريّة فممّ يستنكر و ممّن يتعجّب فثبت أنّ الصارف غيره.

قوله تعالى: [إِنْ تَكْفُرُوا] أي تجحدوا نعمة اللّه [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ و عن عبادتكم و شكركم فلا يضرّه كفركم [وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ] و في الآية أوضح دلالة على أنّه سبحانه لا يريد الكفر الواقع من العباد لأنّه لو أراده لوجب متى وقع أن يكون راضيا لعبده و كيف يتصوّر أن يرضى بشي ء و لم يرده ألا ترى أنّه يستحيل أن نريد من غيرنا أمرا و يقع على وفق ما نريد فلا نكون راضين به أو أن نرضى شيئا و لم نرده.

[وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ و إن تشكر اللّه تعالى على نعمه و تعترفوا بها يرضه لكم و الهاء في «يَرْضَهُ» راجعة إلى المصدر الّذي دلّ عليه الفعل و هو قوله: «وَ إِنْ تَشْكُرُوا» و التقدير: يرضى الشكر لكم مثل قولهم: من كذب كان شرّا له أي كان الكذب شرّا له.

[وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل حاملة ثقل اخرى أي لا يؤاخذ بالذنب إلّا من يرتكبه و يفعله [ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي مصيركم [فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ

ص: 200

تَعْمَلُونَ أي يجازيكم بحسب عملكم [إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] و لا يخفى عليه سرّ و علانية.

قوله تعالى: [وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ] من شدّة و مرض و قحط و كلّ أنواع الضرّ [دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ راجعا إليه وحده لا يرجو سواه و لا يرجع في طلب دفعه إلّا إلى اللّه [ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه [نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أي نسي الضرّ الّذي كان يدعو اللّه إلى أن يكشفه من قبل نيل هذه النعمة أي نسي الدعاء الّذي كان يتضرّع به إلى اللّه أو نسي اللّه الّذي كان يتضرّع إليه و رجع إلى المعاصي و عبادة الأصنام.

و المراد بالإنسان قيل: أقوام معيّنون مثل عتبة بن ربيعة و غيره و قيل: المراد به الكافر الّذي تقدّم ذكره و في قوله: «خَوَّلَهُ» قيل: من قوله: «فلان خائل مال» إذا كان متعهّدا له حسن القيام به و منه ما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يتخوّل أصحابه بالموعظة و قيل: من مادّة خال يخول إذا اختال و افتخر و في هذا المعنى قالت العرب: «إنّ الغنيّ طويل الذيل ميّاس» و كلمة «ما» في الآية بمعنى «من» كقوله: «وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (1) و قوله: «وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ»* (2) و قوله: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» (3).

قوله: [وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً] أي يرجع هذا الإنسان الكافر إلى عبادة الأصنام و سمّي له أمثالا في توجيه عبادته إلى الأصنام [لِيُضِلَ الناس [عَنْ سَبِيلِهِ أي عن دينه أو يضلّ هو عن الدين و اللام لام العاقبة و ذلك أنّهم لم يفعلوا ما فعلوه و غرضهم ذلك لكن آل أمرهم إليه و هو المراد من معنى لام العاقبة [قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا] و هذا أمر معناه الخبر كقوله: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، و المعنى أنّ مدّة تمتّعه في الدنيا قليلة زائلة [إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ] تعذّب فيها دائما.

ص: 201


1- الليل: 3.
2- الجحد: 3 و 5.
3- النساء: 3.

قوله: [أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أي هذا الّذي ذكرناه خير أم من هو دائم على الطاعة و قيام الليل و قيل: صلاة الليل عن الصادق عليه السّلام [آناءَ اللَّيْلِ أي ساعات الليل و القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل الصلاة صلاة القنوت و هو القيام فيها و «آناءَ اللَّيْلِ» أوقاته أوّله و وسطه و آخره و عبادة الليل أفضل لأنّها أستر على العيون فيكون أبعد عن الرياء لأنّ الظلمة تمنع الأبصار و نوم الخلق يمنع من السماع فالقلب يكون أفرغ، و ترك النوم أشقّ فيكون الثواب أكثر كما قال سبحانه: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا» (1).

قوله: [ساجِداً وَ قائِماً] أي يسجد تارة و يقوم اخرى في الصلاة و في الكلام حذف و التقدير: أمّن هو قانت كغيره [يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي يتردّد بين الخوف و الرجاء أي ليسا سواء و هو قوله:

[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ بمثل هذه الأمور و يتّعظ ذوي العقول من المؤمنين عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: نحن الّذين يعلمون و عدوّنا الّذين لا يعلمون و شيعتنا أولو الألباب.

[قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا] «قل يا محمّد: يا عبادي الّذين صدقوا بتوحيد اللّه [اتَّقُوا] عقاب [رَبَّكُمْ باجتناب معاصيه.

و تمّ الكلام ثمّ قال سبحانه: [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا] أي فعلوا الأفعال الحسنة و الأعمال الصالحة و أحسنوا إلى غيرهم [فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ] أي ثناء حسن و ذكر جميل و مدح و شكر و صحّة و سلامة و قيل: معناه الّذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم مثوبة حسنة في الآخرة و هو الخلود في الجنّة و التنكير في «الحسنة» للتعظيم.

[وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ] و المراد أنّه لا عذر للمقصّرين في الإحسان حتّى أنّهم إن اعتلّوا بأوطانهم و بلادهم بأنّهم لا يتمكّنون فيها من التوفرة على الإحسان قيل لهم:

إنّ أرض اللّه واسعة فتحوّلوا من هذه البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالطاعات و العبادات و الاقتداء بالأنبياء في مهاجرتهم لتزدادوا إحسانا إلى إحسانهم

ص: 202


1- المزمل: 6.

و قيل: المراد حث لهم على الهجرة من مكّة و قيل: المعنى: و أرض الجنّة واسعة فاطلبوها بالأعمال الصالحة.

[إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ أي ثوابهم على طاعتهم و صبرهم على شدائد الدنيا [بِغَيْرِ حِسابٍ لكثرته لا يمكن عدّه و حسابه روى العيّاشيّ بالإسناد عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه: إذا نشرت الدواوين و نصبت الموازين لم ينصب لأهل الصبر في الشدائد ميزان و لم ينشر لهم ديوان بل يصبّ الرحمة عليهم صبّا حتّى يتمنّى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل ثمّ تلا هذه الآية «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ».

قوله: [سورة الزمر (39): الآيات 11 الى 20]

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)

لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)

النظم قيل: إنّ كفّار قريش قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما حملك على هذا الّذين الّذي آتيتنا به ألا تنظر إلى ملّة قومك و سادات عشيرتك يعبدون اللّات و العزّى فأنزل اللّه:

[قُلْ يا محمّد: [إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ و العبادة الخالصة ما لا يشوبه الشرك بل شي ء من المعاصي [وَ أُمِرْتُ أيضا [لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ فيكون لي فضل السبق (1) و ثوابه و التكليف نوعان أحدهما الاحتراز عمّا لا ينبغي و الثاني

ص: 203


1- يريد ان الأولية ليست من جهة الإسلام و الايمان فان أول من آمن بهذه الشريعة و عرفها و اسلم للّه لا بد و ان يكون الرسول نفسه و لا يمكن غير ذلك حتى يؤمر النبي بذلك بل المرادان يكون الرسول في طاعة اللّه و اجراء أحكامه الواجبة و المندوبة سابقا على المؤمنين و المسلمين.

الأمر بتحصيل ما ينبغي و يعبّر بالتخلية و التحلية فالعبادة لها ركنان عمل القلب و عمل الجوارح و تكرار «أُمِرْتُ» مشعر لهذا المعنى فليس بتكرار فالأمر مشترك معناه في الوجوب و الندب و الإباحة و مشترك اللفظيّ كالعين.

[قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي عذاب يوم القيامة و لمّا بيّن سبحانه و أمره بالإخلاص بالقلب و بالأعمال الجوارحيّة و كان الأمر يحتمل الوجوب و الندب بيّن أنّ الأمر للوجوب بقوله: «قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ» إلخ، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع جلالة قدره و شرف نبوّته إذا وجب أن يكون خائفا من المعاصي فغيره أولى بذلك و إذا كان تارك الأمر عاصيا و خائفا فتحقّق حينئذ أنّ الأمر للوجوب.

[قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ و هذا تأكيد في حصر العبادة له سبحانه يعني اللّه أعبد و لا أعبد سواه و أنتم معاشر الكفّار فاعبدوا ما شئتم من دون اللّه من الأصنام و هذا الأمر على وجه التهديد لهم.

[قُلْ يا محمّد: [إِنَّ الْخاسِرِينَ في الحقيقة هم [الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ و إنّما خسروا أنفسهم لأنّهم قذفوها بين أطباق الجحيم و خسروا أهليهم الّذين كان أعدّ لهم الجنّة قال ابن عبّاس: إنّ لكلّ رجل منزلا و أهلا و خدما في الجنّة فإن أطاع اعطي ذلك و إن كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه و أهله و منزله و ورّثه غيره من المسلمين و لا خسارة أعظم منها و هو المراد بقوله: [أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ البيّن الظاهر.

ثمّ شرح حال الخاسرين [لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ] أي سرادقات و أطباق من النار و دخانها [وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي فرش و مهاد و إنّما أطلق اسم «الظلل» على قطع النار على سبيل التوسّع و التهكّم في مقابلة ما لأهل الجنّة من الظلل و المعنى أنّ النار تحيط بجوانبهم و إنّما سمّي ما تحتهم من النار «ظُلَلٌ» مع أنّ الظلل لا يكون إلّا من جانب الفوق لأنّها ظلل لمن تحتهم إذ النار دركات و هم بين أطباقها.

[ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أي ذلك الّذي تقدّم ذكره من العذاب يخوّف اللّه به عباده ليحترز عباده المؤمنين منه لأنّهم إذا سمعوا أنّ هذا حال الكفّار نبّهوا و أخلصوا

ص: 204

في التوحيد و العبادة و الأولى أنّ التخويف للكافر و المؤمن [يا عِبادِ فَاتَّقُونِ من الشرك و المعاصي.

[وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها] و لمّا ذكر سبحانه و عيد المشركين ذكر في هذه الآية وعد من اجتنب عبادة الأوثان و تجنّب عن المعاصي و إنّما أنّث للجماعة [وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ فأقلعوا عمّا كانوا عليه من الشرك و رجعوا إلى اللّه [لَهُمُ الْبُشْرى ما يظهر به من السرور و البشارة جزاء على ذلك و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال:

أنتم هم و من أطاع جبّارا فقد عبده.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: [فَبَشِّرْ] يا محمّد [عِبادِ] اجتزئ بالكسرة عن الياء [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي كلّ من سمع أمرا من أوامر اللّه فاختار الأكمل منها و الأحسن في كلّ باب فهو في زمرة السعداء و تميّز الأحسن من القول لا يحصل إلّا بالسماع عن المخاطب بالوحي فهو المرشد إلى الطريق الصواب و الأصوب فالّذي يتّبع أحسن ما يؤمر به و يعمل به فهو أهل البشارة بالسعادة الأبديّة عن أبي الدرداء قال: لو لا ثلاث ما أحببت أن أعيش يوما: الظّماء بالهواجر و السجود في جوف الليل و مجالسة أقوام ينتقون من خير الكلام كما ينتقى طيب التمر.

و قيل: المراد يستمعون القرآن و غيره فيتّبعون القرآن و الطاعة الّتي هي أحسن ثوابا و أكثر فضلا مثل أنّ القصاص حقّ و العفو أفضل فيأخذون بالعفو و هكذا و هذا الحكم يجري في كلّ أبواب الخير من الأمور الاعتقاديّة و العمليّة مثل العلم بأنّ إله العالم يكون حيّا عالما بالجزئيّات يصدر منه جزئيّات الخير و كلّيّاته أحسن من أن يعتقد الإنسان أنّ اللّه ليس عالم بالجزئيّات هذا في الاعتقاد و مثل أن يصلّي الإنسان صلاة جامعة لشرائط الصحّة و الكمال أحسن من أن يصلّي صلاة جامعة لشرائط الصحّة دون الكمال و هذا في مثل العمل و هذا المراد بقوله: «فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ».

[أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ و حصول الهداية أمر حادث و لا بدّ له من فاعل فالفاعل هو اللّه و قابل و إليه الإشارة بقوله: [وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ .

و إنّ الجسم لمّا كان قابلا للحركة و السكون على السويّة و هي في هذا الأمر متماثلة

ص: 205

فامتنع أن تصير ذات الجسم سببا لرجحان أحد الطرفين على الآخر فالاختلاف في الأجسام مع أنّها متماثلة دليل وجود الفاعل فكذلك القول في الهداية من الفاعل و القابل عرض و إنّما قلنا: إنّ الفاعل لهذه الهداية هو اللّه لأنّ جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحقّ و الباطل و إذا كان الشي ء قابلا للضدّين كانت نسبة ذلك القابل إليهما بالسويّة فامتنع كون ذلك القابل سببا لرجحان أحد الطرفين كما بيّنّا في الجسم لأنّ ذات النفس كما أنّها قابلة لهذه الإرادة فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادّة لتلك الإرادة فيمتنع كون جوهر النفس محقّقا لتلك الإرادة فثبت أنّ حصول الهداية لا بدّلها من فاعل و قابل و الفاعل هو اللّه لكنّها مشروطة وجودها بقبول القابل فتأمّل هذه الدقيقة و الآية نزلت في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهليّة: لا إله إلّا اللّه و هم زيد ابن عمرو بن نفيل و أبي ذرّ الغفاريّ و سلمان الفارسيّ و في حصول هذه البشارة من السلطان الأعظم شرط عظيم و هو الإعراض عن غير اللّه و الطواغيت و الإقبال على طاعة اللّه بالكلّيّة و المقصود من الآية هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات و حاصل الكلام في قوله:

«وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ» الإعراض عن عبوديّة ما سواه و في قوله: «وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ» الرجوع و الإقبال بالكلّيّة إلى اللّه.

و في السفر الخامس من التوراة أنّ اللّه تعالى قال لموسى: يا موسى أجب إلهك بكلّ قلبك و لا شكّ أنّه ما دام يبقى في القلب الالتفات إلى غير اللّه فهو ما أجاب إليه بكلّ قلبه و إنّما تحصل الإجابة بكلّ القلب إذا أعرض القلب عن كلّ ما سواء من باب الطاعات فمن أطاع الشيطان فقد أعرض عن اللّه و عبد الشيطان في ذلك الأمر.

و هاهنا تحقيق للرازيّ و هو أنّه كيف يعرض الإنسان بالكلّيّة و هو أنّه يشاهد بالحسّ الأسباب المفضية إلى المسبّبات في هذا العالم فليس المراد من إعراض القلب عنها أن يقتضي عليها بالعدم بل المراد أن يعرف الإنسان أنّ واجب الوجود لذاته واحد و أنّ كلّ ما سواه فإنّه ممكن الوجود لذاته و كلّ ما كان ممكنا لذاته فإنّه لا يوجد إلّا بتكوين الواجب و إيجاده و إنّما جعل سبحانه تكوين الأشياء على قسمين منها ما يكون بغير واسطة و هي عالم السماوات و الروحانيّات و العلويّات و منها ما يكون بواسطة و هو عالم العناصر

ص: 206

و العالم السفليّ.

فإذا عرفت الأشياء على هذا الوجه عرفت أنّ الكلّ للّه و باللّه و من اللّه و لا مؤثّر إلّا هو و حينئذ ينقطع نظره عن هذه الممكنات و يبقى مشغول القلب بالمؤثّر الحقيقيّ فإنّه إن كان قد وضع الأسباب بحيث يتأدّى إلى هذا المطلوب فهذا الشي ء يحصل و إن قد وضع بحيث لا يقضي إلى حصول هذا الشي ء لم يحصل و بهذا الطريق ينقطع نظره عن الكلّ و لا يبقى في قلبه التفات إلى شي ء إلّا إلى الموجد الأوّل و قد اتّفق أنّي كنت أنصح بعض الصبيان في حفظ المال فعارضني و قال: لا يجوز الاعتماد على الجدّ و الجهد بل يجب الاعتماد على قضاء اللّه و قدره فقلت: هذه كلمة حقّ سمعتها و لكن ما عرفت معناها و ذلك لأنّه لا شبهة أنّ الكلّ من اللّه من الأسباب و المسبّبات إلّا أنّه سبحانه دبّر الأشياء على قسمين: منها ما جعل حدوثه و حصوله معلّقا بأسباب معلومة و منها ما يحدثه من غير واسطة هذه الأسباب أمّا القسم الأوّل فهو حوادث هذا العالم الأسفل و أمّا القسم الثاني فهو حوادث العالم الأعلى فمن طلب حوادث هذا العالم الأسفل و أراد حصولها لا من الأسباب الّتي عيّنها اللّه تعالى لها كان هذا الشخص مخالفا لتدبير اللّه و منازعا له لأنّه تعالى حكم بحدوث هذه الأمور بناء على أسباب المعيّنة المعلومة لحصول المسبّبات و أنت تريد تحصيلها لا من تلك الأسباب و هذا خطاء فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض و الإقبال عن غير اللّه و إلى اللّه فتأمّل.

قوله تعالى: [أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ* لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بيّن سبحانه هذه الآية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لحرصه على إسلام المشركين. و المعنى أنّك لا تقدر على إدخال الإسلام في قلوبهم فلا عليك إذا لم يؤمنوا فإنّما أتوا ذلك من قبل نفوسهم و هذا كقوله: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ» (1) الآية، و قيل: تقدير الآية أ فمن وجب عليه وعيد اللّه بالعقاب أ فأنت تخلصه من النار فاكتفى بذكر «مَنْ فِي النَّارِ» عن الضمير العائد إلى المبتدء و أتى بالاستفهام مرّتين توكيدا للتنبيه على المعنى قال ابن الأنباريّ: الوقف في الآية على قوله: «كَلِمَةُ الْعَذابِ» و التقدير: كمن وجبت

ص: 207


1- الكهف: 6.

له الجنّة.

قوله: [لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ أي قصور [في الجنّة مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ] و هذه الآية في مقابلة قوله تعالى: «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» فإنّ في الجنّة منازل رفيعة بعضها فوق بعض و ذلك أنّ النظر من الغرف إلى الخضر و المياه و الجنان أشهى و ألذّ [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا] أي من تحت الغرف [الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ أي وعدهم اللّه تلك الغرف و المنازل وعدا [لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ] ميعاده الّذي وعده.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 21 الى 25]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25)

لمّا قدّم سبحانه الدعوة إلى التوحيد في الآيات السابقة عقّبه بذكر الدلائل فقال يخاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و إن كان المراد جميع المكلّفين- بقوله: [أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً] أي مطرا [فَسَلَكَهُ أي فأدخل ذلك الماء [يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ مثل العيون و القنى و الآبار و ينبوع الموضع الّذي يفور منه الماء.

[ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي بذلك الماء من الأرض [زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و صنوفه من البرّ و الشعير و الأرز و غيرها من أخضر و أصفر و أبيض و أحمر و اللون يطلق على الأصناف و على الألوان.

[ثُمَّ يَهِيجُ أي يجفّ لأنّه إذا تمّ جفافه جاز أن ينفصل عن منابته و إن لم تتفرّق أجزاؤه فتلك الأجزاء كأنّها هاجت لأن تتفرّق ثمّ يصير حطاما يابسا.

ص: 208

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ لأنّ من شاهد هذه الأحوال في النبات من الشعير علم أنّ أحوال الحيوان و الإنسان كذلك و أنّه و إن طال عمره فلا بدّ له من الانتهاء إلى أن يصير منحطم الأجزاء فلمّا شاهد هذه الحالة فحينئذ تعظم نفرته من الدنيا و طيّباتها و رغب في الآخرة و علم قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» (1) و ينابيع منصوب بنزع الخافض و التقدير: في ينابيع.

قوله: [أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أي وسّع قلبه لقبول الإسلام و الثبات عليه و شرح الصدر يحصل بقوّة الأدلّة [فَهُوَ عَلى نُورٍ] و دلالة و هدى [مِنْ توفيق [رَبِّهِ و شبّه سبحانه الدليل بالنور لأنّ بها يعرف الحقّ كما بالنور يعرف امور الدنيا.

قوله: [فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ و في الآية حذف و تقديره: كمن هو قاسي القلب و يدلّ على المحذوف «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» و هم الّذين ألفوا الكفر و تصلّبت قلوبهم حتّى لا ينفع فيها وعظ و لا ترغيب و لا ترهيب و لا يهتدي لقراءة القرآن و ذكر اللّه.

و اعلم أنّ جواهر النفوس تختلف ماهيّاتها بالملكات الطيّبة و الخبيثة فتصير بعضها خيرة نورانيّة شريفة مائلة إلى الإلهيّات عظيمة الرغبة في الاتّصال بالروحانيّات و بعضها نذلة خسيسة مائلة إلى الجسمانيّات و هذا التفاوت حاصل في جواهر النفوس البشريّة و هو المراد من شرح الصدور و قسوة القلوب و لهذا السبب تختلف جواهر النفوس فإنّ الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسوّد وجه القصّار و يبيضّ ثوبه و كذلك حرارة الشمس تلين الشمع و تعقد الملح و قد نرى إنسانا واحدا يذكر كلاما واحدا في مجلس واحد فيستطيبه واحد و يستكرهه آخر و ما ذاك إلّا من اختلاف جواهر النفوس.

[أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و في عدول عن الحقّ واضح.

[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ القرآن سمّاه اللّه «حديثا» و الكلام سمّي حديثا كما يسمّى كلام النبيّ حديثا و القرآن كلام اللّه و لأنّه حديث النزول بعد الكتب المنزلة علي

ص: 209


1- الأعراف: 29.

الأنبياء و هو أحسن الحديث لفرط فصاحته و إعجازه و اشتماله على جميع ما يحتاج المكلّف من الأحكام.

و في الآية دلالة على حدوث الكلام لأنّ الحديث لا بدّ و أن يكون حادثا بل لفظ الحديث أقوى دلالة في الحدوث من الحادث و الشي ء إمّا أن يكون حادثا أو قديما و ليس مرتبة بين الحادث و القديم.

قوله: [كِتاباً مُتَشابِهاً] يشبه بعضه بعضا و يصدّق بعضه بعضا و قيل: معناه إنّه يشبه كتب اللّه المتقدّمة و إن كان أكمل و أنفع و أعمّ [مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ سمّي القرآن بذلك لأنّه يثنّى فيه بعض القصص و الأخبار و الأحكام و المواعظ بضروب البيان و يثنّى في التلاوة فلا يملّ لحسن مسموعه «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ» أي تأخذهم قشعريرة خوفا ممّا في القرآن من الوعيد [ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ إذا سمعوا ما فيه من الوعد بالثواب و الرحمة و تطمئنّ و تسكن قلوبهم إلى ذكر اللّه الجنّة و الثواب و إنّ العارفين إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا و إن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا.

و تركيب لفظ القشعريرة من حروف التقشّع و هو الأديم اليابس مضموما إليها حرف رابع و هو «الراء» ليكون رباعيّا و دالّا على زيادة المعنى يقال: اقشعرّ جلده من الخوف و وقف شعره و ذلك مثل في شدّة الخوف روي عن عبّاس بن عبد المطّلب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية اللّه تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها و هذا المعنى نعت لأولياء اللّه نعّتهم اللّه بأن تقشعرّ جلودهم و تطمئنّ قلوبهم إلى ذكر اللّه و لم ينعتهم بذهاب عقولهم و الغشيان عليهم و الغشيان عليهم إنّما ذلك في أهل البدع من المتصوّفة و هو من الشيطان.

قوله: [ذلِكَ يعني القرآن [هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ] من عباده بما نصب فيه من الأدلّة و هم الّذين آتاهم القرآن من امّة محمّد و تدبّروا في دلائل القرآن و اهتدوا بها.

[وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن طريق الجنّة بسبب عدم قبول القرآن و الهداية [فَما لَهُ

ص: 210

مِنْ هادٍ] أي لا يقدر على هدايته أحد عن الجبّائيّ و قيل: معناه من ضلّ عن رحمة اللّه و عن اللّه فلا هادي له يقال: أضللت بعيري إذا ضلّ و قيل: معناه من يضلله عن زيادة الهدى و الألطاف بكفره لا لطف له لأنّ الكافر لا لطف له.

[أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ] أي أ فحال من يتّقي بوجهه و يدفع عذاب النار بوجهه يوم القيامة كحال من يأتي آمنا لا تمسّه النار و إنّما قال سبحانه:

«بِوَجْهِهِ» لأنّه يلقى منكوسا في النار فأوّل عضو منه مسّته النار وجهه و الوجه أعزّ أعضاء الإنسان و يقال لمقدّم القوم: يا وجه العرب ثمّ إذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنّه يجعل يده وقاية لوجهه و فداء له و إذا كان القادر على الاتّقاء يجعل كلّ ما سوى الوجه وقاية للوجه فجعل الاتّقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتّقاء و نظيره قول النابغة:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

أي لا عيب في الجماعة إلّا هذا و هو عين المدح في الشجاعة فالمعنى أنّه لا عيب فيهم بوجه من الوجوه في الشجاعة فكذا هنا أي لا يقدرون على الاتّقاء من العذاب بوجه من الوجوه إلّا بالوجه و هو ليس باتّقاء فليس لهم قدرة على الاتّقاء البتّة و إنّ الّذي يلقى في النار يداه مغلولة إلى عنقه و لا يتهيّأ له أن يتّقي النار إلّا بوجهه كيف حاله؟

و بالجملة فجواب الاستفهام محذوف و تقديره: أ فمن يتّقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره.

ثمّ قال: [وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ و القائل خزنة النار لهم أي جزاء ما كسبتموه من المعاصي.

ثمّ أخبر سبحانه عن أمثال هؤلاء الكفّار من الأمم الماضية فقال: [كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بآيات اللّه و جحدوا رسله [فَأَتاهُمُ الْعَذابُ عاجلا [مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ و هم آمنون غافلون.

ص: 211

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 26 الى 31]

فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

. ثمّ أخبر سبحانه عمّا فعله بالأمم المكذّبة بأن قال:

[فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي الذلّ و الهوان في الحياة الدنيا [وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ] أي أعظم و أشدّ [لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ كيفيّة عذاب الآخرة.

[وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ سمّي ذكر الأمم السابقة «مثلا» كما قال: «وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ» (1) أو المعنى:

إنّا وصفنا و بيّنّا للناس في هذا القرآن كلّما يحتاجون إليه من مصالح دينهم و دنياهم لكي يتذكّروا و يتدبّروا فيعتبروا.

[قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ليس فيه اعوجاج و ميل عن الحقّ بل هو مستقيم موصل إلى الحقّ [لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المعاصي و في الآية دلالة على أنّ أفعال اللّه و أحكامه معلّلة و أنّه سبحانه يريد من الكلّ الإيمان و المعرفة لأنّ قوله تعالى: «وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ» مشعر بالتعليل و كذلك «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

و أيضا الآية تدلّ على حدوث الكلام لأنّ الشي ء الّذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثا لأنّ القديم هو الّذي يكون موجودا في الأزل و هذا يمتنع أن يقال: إنّه إنّما أتى به لغرض كذا و كذا و بالجملة وصف القرآن بالاستقامة و عدم الاعوجاج و كونه «قُرْآناً» و المراد كونه متلوّا في المحاريب و الأمكنة الشريفة و كونه «عَرَبِيًّا» قد أعجز الصفحاء عن معارضته.

قوله تعالى: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ضرب سبحانه هذا المثل للمشركين الّذين يعبدون الآلهة فحالهم كحال رجل قد اشترك في ذلك الرجل موالي كثيرة و هم شركاء في ملكيّته و بينهم تنازع و اختلاف كثير فهذا المولى يأمره بأمر و ذلك ينهاه و ينازع كلّ واحد منهم و يدّعي أنّه عبده و هم يتجاذبونه في حوائجهم و الرجل

ص: 212


1- ابراهيم: 45.

متحيّر في أمره فكلّما أرضى واحدا غضب الباقون و إذا احتاج العبد إلى أمر أو رزق و معاش فكلّ واحد منهم يردّه إلى الآخر فهو يتحيّر في أمره لا يعرف أيّهم أولى بأن يطلب رضاه و أيّهم يقيم بحوائجه فهو لهذا السبب في عذاب دائم و تعب مقيم. و الشكس سوء الخلق.

فهذا مثل المشرك الّذي يجعل للّه شريكا في العبادة و يجعل له الآلهة و أمّا المؤمن الموحّد الّذي يعبد اللّه و يطيعه وحده كمثل رجل له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص و ذلك المخدوم يعينه على مهمّاته فأيّ هذين العبدين أحسن حالا و أحمد شأنا؟ و هو المراد بقوله: [وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ و قرئ «سالما» أي ذو سلامة و تسليم و هذا مثل ضرب اللّه في قبح الشرك و تحسين التوحيد.

ثمّ قال سبحانه: [هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا] أي هل يستوي هذان الرجلان صفة في حسن العاقبة أي لا يستويان.

ثمّ قال: [الْحَمْدُ لِلَّهِ فيكون العبوديّة و الحمد و المستحقّ للثناء هو اللّه لأنّه المالك الواحد و المنعم الحقيقيّ و يمكن أن يكون «الخبر» بمعنى الأمر أي احمدوا اللّه [بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حقيقة نعمة التوحيد.

فإن قيل: هذا المثل لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنّها جمادات و ليس بينها مشاكسة و منازعة؟

فالجواب أنّ عبدة الأصنام منهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة فهم في الحقيقة يعبدون الكواكب السبعة ثمّ إنّ القوم يثبتون بين هذه الكواكب منازعة و مشاكسة ألا ترى أنّهم يقولون: زحل هو النحس الأعظم و المشتري هو السعد الأعظم و منهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكيّة و القائلون بهذا القول زعموا أنّ كلّ نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلّق بروح من الأرواح السماويّة و حينئذ يحصل بين تلك الأرواح مخالفات في المقتضي و مشاكسة فالمثل حينئذ مطابق و منهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من الصلحاء و العلماء الّذين مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل ليصيروا أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند اللّه و القائلون بهذا القول: يزعم كلّ طائفة منهم أنّ المحقّ هو ذلك الرجل الّذي هو على دينه و أنّ من سواه مبطل فعلى

ص: 213

هذا أيضا ينطبق المثال.

قوله تعالى: [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ بيّن سبحانه المقام الّذي يتبيّن فيه المبطل من المحقّ فقال: إنّ عاقبتك و عاقبة هؤلاء الموت فحينئذ يتبيّن الحقّ من الباطل.

[ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ و الاختصام يكون بين المهتدين و الضالّين و الصادقين و الكاذبين و قيل: يقع الاختصام بين أهل القبلة قال أبو سعيد الخدريّ في هذه الآية: كنّا نقول: ربّنا واحد و نبيّنا واحد و ديننا واحد فما هذا الاختصام؟ فلمّا وقع صفّين و شدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 32 الى 35]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)

ثمّ بيّن نوعا آخر من قبائح أفعال المشركين و هو أنّهم أثبتوا للّه ولدا و شركاء أو أنّهم مصرّون على تكذيب الصادقين و الأنبياء و يكذّبون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأردف تكذيبهم بالوعيد فقال:

[أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً و مقرّا [لِلْكافِرِينَ و المراد من قوله: [وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ التوحيد و القرآن [إِذْ جاءَهُ .

قوله: [وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ قيل: الّذي جاء بالصدق محمّد جاء بالقرآن [وَ صَدَّقَ بِهِ هم المؤمنون [أُولئِكَ المصدّقون [هُمُ الْمُتَّقُونَ و قيل: الّذي جاء جبرئيل و الصدق القرآن و تلقّاه بالقبول و صدّق به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: الّذي جاء بالصدق الجائي محمّد و الصدق كلمة لا إله إلّا اللّه و صدّق به هو أيضا نفسه الشريفة و بلّغه إلى الخلق و قالوا: لو كان المصدّق به غيره لقال: و الّذين صدّق به و هذا القول أقوى الأقوال و القائل ابن عبّاس و قيل: الّذي جاء بالصدق الأنبياء و صدّق به أتباعهم فحينئذ يكون كلمة «وَ الَّذِي» للجنس كما قال:

و إنّ الّذي جاءت بفلج دماؤهم هم القوم كلّ القوم يا امّ خالد

ص: 214

الا ترى أنّه عاد إليه ضمير الجمع و قيل: الّذي جاء بالصدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صدّق به المراد عليّ بن أبي طالب عن مجاهد و رواه الضحّاك عن ابن عبّاس و هو المرويّ عن أئمّة الهدى من آل محمّد خزنة العلم.

ثمّ منّ سبحانه بما أعدّ لهم من النعيم فقال: [لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من النعيم في الجنّة [عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ينالون من جهة لطفه [ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ذلك إشارة إلى ما ذكر و هو حصول ما يشاءونه على إحسانهم الّذي فعلوه في الدنيا و أعمالهم الصالحة.

[لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا] قيل: اللام في ليكفّر من صلة قوله:

«لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» و المعنى أنّه لمّا وعدهم بما يشاءون جزاء على إحسانهم أثبت و حقّق الثواب لهم بتكفير السيّئات الّتي عملوها قبل الإيمان و قيل: اللام للقسم و التقدير: و اللّه ليكفّرنّ فحذف النون و كسرت اللام أي يسقط اللّه عنهم عقاب الشرك و المعاصي الّتي فعلوها قبل ذلك بمقابله إيمانهم و تصديقهم و رجوعهم إلى اللّه.

و اعلم أنّ مقاتلا شيخ المرجئة و هم الّذين يقولون: لا يضرّ شي ء من المعاصي مع الإيمان كما لا ينفع شي ء من الطاعات مع الكفر و احتجّ بهذه الآية فقال: إنّها تدلّ على أنّ من صدّق الأنبياء فإنّه تعالى يكفّر عنهم أسوء الّذي عملوا و قال: إنّ ظاهر الآية يدلّ على أنّ التكفير حصل في حال ما وصفهم اللّه بالتقوى و هو التقوى من الشرك و إذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر الّتي يأتي بها بعد الإيمان و الآية تنصيص على أنّه يكفّر عنهم بعد إيمانهم أسوء ما يأتون به و ذلك هو الكبائر.

أقول: و في هذا الكلام نظر لأنّه من أين ثبت أنّ المراد من التقوى في الآية التقوى من الشرك كما فسّره بل لعلّ المراد التقوى من المعاصي فتأمّل.

[وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ و ثوابهم [بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ بالفرائض و النوافل فهي أحسن أعمالهم لأنّ عمل المباح و إن كان حسنا لكن لا يستحقّ به ثواب و لا مدح.

و هاهنا بحث و هو قوله للمصدّقين و وعدهم بقوله: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» و هذا الوعد يدخل فيه كلّ ما يرغب المكلّف فيه و لا شكّ أنّ الكمال أمر محبوب لذاته

ص: 215

مرغوب فيه و أهل الجنّة لا شكّ أنّهم عقلاء فإذا شاهدوا الدرجات العالية الّتي هي للأنبياء و أكابر الأولياء عرفوا أنّها خيرات عالية و درجات كاملة و العلم بالشي ء من حيث إنّه كمال و خير يوجب الميل إليه و الرغبة فإذا كان كذلك فهم يشاءون حصول تلك الدرجات لأنفسهم فوجب حصولها لهم بحكم هذه الآية أيضا و ليس يحصل لهم يقينا فلو لم يحصل لهم ذلك المراد كانوا في الغصّة و وحشة القلب.

فالجواب أنّ أحوال أهل الآخرة بخلاف أحوالهم في الدنيا فيزيل اللّه عن قلوبهم الحقد و الحسد و الطمع.

و في الآية بحث آخر و هو أنّ بعض الناس تمسّكوا بهذه الآية في أنّ المؤمنين يرون اللّه تعالى عن ذلك و ذلك لقوله: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» لأنّ الرؤية أعظم وجوه التجلّي و زوال الحجاب و لا شكّ أنّها حالة مطلوبة و النصّ يقتضي حصول كلّما شاءوه و أرادوه.

و أجيب بأنّ هذا الكلام باطل لأنّه لمّا علم أنّ هذا المطلوب ممتنع الوجود بعينه فإنّه يترك طلبه لا لأجل عدم المقتضي للطلب بل لقيام المانع و هو كونه ممتنعا في نفسه فإذا تحقّق الامتناع لهم وجودا سلب المقتضي فهم لا يشاءون أمرا ممتنعا لأنّهم عقلاء و للمسألة جواب آخر و هو أنّ اللّه سبحانه يزيل عن قلوبهم هذه الإشاءة فلا يشتهون هذا الأمر حتّى تقول: إنّ ترك الطلب للمانع و الطلب و الميل باق انتهى.

[سورة الزمر (39): الآيات 36 الى 40]

أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)

كانت الكفّار تخيفه صلّى اللّه عليه و آله بالأوثان الّتي كانوا يعبدونها و كانوا يقولون له صلّى اللّه عليه و آله: إنّ آلهتنا تمسّك بالضرّ فحسم اللّه سبحانه مادّة قولهم بقوله: [أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ من يعبده و إنّ آلهتهم لا تضرّ و لا تنفع.

ص: 216

[وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني آلهتهم و لعلّ المراد بالعبد في الآية العباد و المقصود الأنبياء كما كفى نوحا من الغرق و إبراهيم من النار و يونس ردّ فهو كافيك كما كفى الأنبياء قبلك، قيل: إنّه لمّا قصد خالد لكسر الأصنام بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالوا:

إيّاك يا خالد فبأسها شديد فضرب خالد أنفها بالفأس و هشمها و قال: كفرانك يا عزّى لا سبحانك، سبحان من أهانك، إنّي رأيت اللّه قد أهانك.

[وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ] أي من أضلّه اللّه عن طريق الجنّة بكفره و معاصيه فليس له هاد يهديه إليها و قيل: معناه إنّ من وصفه بأنّه ضالّ إذا ضلّ هو عن طريق الحقّ فليس له من إله هاديا و قيل: معناه من يحرمه اللّه عن زيادات الهدى فليس له زائد.

[وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ أي من يهديه اللّه و حذف «الهاء» كما حذف في قوله: «أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» (1) لدلالة الكلام إلى طريق الجنّة فلا أحد يضلّه عنها و قيل: من بلغ استحقاق زيادات الهدى بصالح أعماله فقد ارتفع عن تأثير الوسواس [أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ] أي غالب قادر لا يقدر أحد على مغالبته [ذِي انْتِقامٍ من أعدائه الجاحدين لنعمه.

ثمّ قال: لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: [وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمّد [مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أوجدها بعد أن كانت معدومة [لَيَقُولُنَّ اللَّهُ الفاعل لذلك لأنّهم مع عبادتهم الأوثان يقرّون بذلك.

فردّ عليهم سبحانه بأنّ ما يعبدونه من دون اللّه لا يملك كشف السوء و الضرّ عنهم فقال: [قُلْ لهم: [أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ] أي بمرض أو فقر أو بلاء أو شدّة [هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ و المراد أنّ هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير و الشرّ.

و حاصل المعنى أخبروني أنّ آلهتكم إن أراد اللّه أن يصيبني بضرّ هل يكشفن عنّي ذلك الضرّ أو أراد اللّه أن ينفعني بخير هل تمنعني آلهتكم بحيث لا يصلني ذلك الخير فإذا كان الأمر كذلك و آلهتكم عاجزة عن إيصال النفع و دفع الأذى فكيف يستحقّون العبادة فحينئذ الاعتماد على عبادة اللّه.

ص: 217


1- الفرقان: 41.

[قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ و يفوّضون إليه أمورهم و وجه عبادتهم.

و لمّا أورد اللّه عليهم هذه الحجّة الواضحة قال على سبيل التهديد: [قُلْ يا محمّد [يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ «عَلى مَكانَتِكُمْ» أي على جهدكم و قدرتكم في إهلاكي و تضعيف أمري «إِنِّي عامِلٌ» قدر جهدي و طاقتي [فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم أي فسوف تعلمون أنّ العذاب و الهوان و الخزي يصيبني أو يصيبكم.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 41 الى 45]

إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

النظم: و لمّا كان يعظم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إصرارهم على الكفر سلّى قلبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

[إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الكامل الشريف لنفع الناس و لاهتدائهم به و جعلنا إنزاله مقرونا بالحقّ فمن اهتدى به فنفعه يعود إليه و من ضلّ فضرّ ضلاله يعود إليه [وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ و لست مأمورا بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر و القبول و عدمه مفوّض إليهم و لست كفيل إيمانهم.

قوله: [اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها] المقصود من الآية إتيان الحجّة على المشركين ببيان قدرته فإنّه المستحقّ للعبادة دون آلهتكم العجزة و إشعار في تشبيه الهداية و الإيمان بالحياة و اليقظة و الكفر و الضلال بالموت و النوم فقال: إنّه تعالى يتوفّى الأنفس عند الموت و عند النوم.

قال ابن عبّاس: في بني آدم نفس و روح بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس بها العقل و التمييز و الروح بها التنفّس و الحركة فإذا نام الإنسان قبض اللّه نفسه و لم يقبض

ص: 218

روحه و إذا مات قبض اللّه روحه و يؤيّده ما رواه العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام قال: ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء و بقيت روحه في بدنه و صار بينهما سبب كشعاع الشمس فإن أذن اللّه في قبض الروح و قضى عليه بالموت أجابت الروح النفس و إن لم يأذن أجابت النفس الروح و هو قوله: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» الآية فما رأت في ملكوت السماوات فهو ممّا له تأويل و ما رأت فيما بين السماء و الأرض فهو ممّا يخبله الشيطان و لا تأويل له و نسبة التوفّي إلى الملك في بعض الآيات بالمباشرة و المتوفّى هو اللّه.

و بالجملة فمعنى الآية أنّ اللّه يتوفّى الأنفس وقت موتها و انقضاء آجالها.

[وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها] أي و يتوفّى اللّه النفس الّتي لم يقض عليه بالموت أيضا فالنفس الّتي قضي عليها الموت يمسكها سبحانه إلى يوم القيامة لا تعود إلى الدنيا و الّتي لم يقض عليها الموت و ما بلغ أجلها يرسلها إلى وقت معلوم قدّر لها فليس قادر غيره على هذا الأمر و النفس الإنسانيّة عبارة عن جوهر مشرق روحانيّ أي من سنخ عالم الروحانيّات لا العناصر إذا تعلّق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء و هو الحياة ففي وقت الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن و عن باطنه و أمّا في وقت النوم فإنّه ينقطع ضوؤه عن الحواسّ و ظاهر البدن من بعض الوجوه و لا ينقطع ضوؤه عن باطن البدن فالموت و النوم متشابهان من بعض الجهات إلّا أنّ الموت انقطاع تامّ و النوم انقطاع ناقص فيشتركان في كون كلّ واحد منهما توفّيا للنفس و هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلّا عن الخالق القادر و هو المراد من قوله: [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .

قوله تعالى: [أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ و لمّا اعتذر المشركون أنّا لا نعبد هؤلاء الأصنام لاعتقاد أنّها آلهة مستقلّة و إنّما نعبدها لأجل أنّها تماثيل لأشخاص كانوا عند اللّه من المقرّبين فنحن نعبدها لأجل الشفاعة فأجاب اللّه بقوله: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ» أي بل اتّخذ قريش من دون إذن اللّه الأصنام شفعاء تشفع لهم عنده قل يا محمّد: «أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ» «الهمزة» للاستفهام الإنكاريّ و استقباح هذا الأمر أي قل لهم: أ تتّخذونهم شفعاء و لو

ص: 219

كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء و لا يعقلون لأنّها جمادات فضلا عن أن يملكون الشفاعة عند اللّه و حاصل المعنى: أ يتّخذونهم شفعاء راجين شفاعتهم و لو كانت الآلهة موصوفة بصفة العجز و عدم الإدراك.

ثمّ قال سبحانه: [قُلْ لهم يا محمّد: [لِلَّهِ إذن [الشَّفاعَةُ] و لا يملك أحد الشفاعة إلّا بإذنه و تمليكه [جَمِيعاً] لأنّه المالك و [لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي هو مالكها لا يستطيع أحد شفاعة ما حتّى يكون المشفوع له مرتضى دينه و الشفيع يكون مأذونا و كلاهما مفقود هاهنا و إليه رجوعكم يوم القيامة دون غيره لا استقلالا و لا اشتراكا.

قوله: [وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] قال ابن عبّاس:

كان المشركون إذا سمعوا قول «لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له» نفروا من هذا القول لأنّهم كانوا يقولون بالتشريك.

[وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام الّتي كانوا يعبدونها من دون اللّه [إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ و يسرّون بحيث يظهرون السرور في وجوههم الخبيثة و حصل الغيظ في قلوبهم الفاسدة و الاستبشار و الاشمئزاز متقابلان بالتضادّ.

[سورة الزمر (39): الآيات 46 الى 50]

قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50)

و لمّا صدر من المشركين الاستبشار من ذكر تعدّد الآلهة و الاشمئزاز من وصف التوحيد و هو أمر عجيب تشهد فطرة العقل بفساده أمر نبيّه أن يحاكمهم و يدعو بهذا الدعاء:

[قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فقال: قل يا محمّد، أي يا خالقهما و منشئهما

ص: 220

و يا عالم الغيب و الشهادة أي يا عالم ما غاب علمه عن جميع الخلايق و عالم ما شهدوه و علموه.

[أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ يوم القيامة [فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في دار الدنيا من أمر دينهم و دنياهم و تفصل بينهم بالحقّ في الحقوق و المظالم أي فاحكم بيني و بين قومي بالحقّ.

و في هذا بشارة للمؤمنين بالظفر و النصر لأنّه سبحانه إنّما أمره به للإجابة لا محالة و عن سعيد بن المسيّب أنّه قال: إنّي لأعرف موضع آية لم يقرأها قطّ فسأل اللّه شيئا إلّا أعطاه و هي قوله: «اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» الآية.

ثمّ أخبر سبحانه بوقوع العذاب و العقاب بالكفّار بأمور:

أولها: [وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ زيادة عليه [لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ] أي إنّ هؤلاء الكفّار لو ملكوا كلّ ما في الأرض من الأموال و ملكوا مثله معه لجعلوا الكلّ فدية لأنفسهم من ذلك العذاب الشديد.

و الثاني: [وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي ظهر لهم يوم القيامة من صنوف العذاب ما لم يكونوا يظنّونه و ينتظرونه و لم يكن في حسابهم و كما أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في صفة الثواب في الجنّة: فيها ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فكذلك في العقاب حصل مثله.

و ثالثها: [وَ بَدا لَهُمْ أي ظهر لهم أيضا [سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا] أي جزاء سيّئات أعمالهم و آثارها [وَ حاقَ من كلّ الجوانب و نزل بهم [ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و هو كلّ ما ينذرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا كانوا ينكرونه و يكذّبون به.

ثمّ أخبر سبحانه عن شدّة تقلّب الإنسان من حال إلى حال و عن عقيدته الفاسدة فقال: [فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا] أي عند وقوع الضرر من الفقر و المرض يفزعون إلى اللّه و يرون أنّ دفع ذلك لا يكون إلّا منه.

[ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً] و هي السعة في المال أو العافية في البدن تفضّلا [قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ أي زعم أنّه إنّما حصل ذلك بكسبه و بسبب جدّه و جهده فإن

ص: 221

كان مالا قال: إنّما حصل بكسبي و إن كان صحّة قال: إنّما حصل ذلك بسبب العلاج الفلانيّ و هذا تناقض عظيم لأنّه كان في حال العجز و الحاجة أضاف إلى اللّه و استدعى رفعه منه و في حال السلامة قطعه عن اللّه و أسنده إلى كسب نفسه و هذا تناقض قبيح.

ثمّ قال تعالى: ليس الأمر على ما يقولونه و يزعمونه [بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ] أي بليّة و اختبار يبتليه اللّه بها ليظهر شكره أو صبره فيحازيه بحسبها و قيل: معناه هذه المقالة و العقيدة فتنة لهم لأنّهم بسبب هذا القول يعاقبون عليها [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ البلوى من النعمى أو لا يعلمون أنّ النعم كلّها من اللّه و إن حصل بأسباب من جهة العبد.

فإن قيل: إنّ لفظ «النَّعْمَةِ» مؤنّثة و الضمير في قوله: «أُوتِيتُهُ» عائد على النعمة و ضمير المذكّر كيف عاد إلى المؤنّث و قال: بعده «بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ» فجعل الضمير مؤنّثا فما السبب فيه و الجواب أنّ التقدير حتّى إذا خوّلناه شيئا من النعمة فمعنى «النَّعْمَةِ» مذكّر فلا جرم جاز الأمران و معنى التخويل التفضّل.

قوله تعالى: [قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قد قال مثل هذه الكلمة قارون حيث قال: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» (1) [فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ و لم ينفعهم ما كانوا جمعوه من الأموال بل صارت و بالا عظيما.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 51 الى 55]

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)

ثمّ أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفّار بقوله: [فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا] أي أصاب عقاب سيّئاتهم فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه و إنّما سمّي عقاب سيّئاتهم سيئة لازدواج الكلام كقوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» (2).

ص: 222


1- القصص: 78.
2- الشورى: 40.

[وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ] أي من كفّار قومك [سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا] أيضا [وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ و لا يفوتون اللّه و لا يعجزون اللّه بالخروج عن قدرته.

[أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ] أي يوسّع الرزق على من يشاء و يضيق على من يشاء بحسب ما يعلم من المصلحة و الدليل عليه أنّا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق و ضيقه و لا بدّ له من سبب و ذلك السبب ليس هو عقل الرجل و جهله لأنّا نرى العاقل في أشدّ الضيق و نرى الجاهل المريض الضعيف العاجز في أعظم السعة و ليس ذلك أيضا لأجل الطبائع و الأنجم و الأفلاك كما يزعم بعضهم لأنّ في الساعة الّتي ولد ذلك الملك الكبير و السلطان القاهر قد ولد فيها أيضا عالم من الناس و عالم من الحيوان غير الإنسان و عالم من النبات و نشاهد حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة و الشقاوة علمنا أنّه ليس المؤثّر في السعادة و الشقاوة الطبيعة و الطالع لأنّ الطالع إن كان يقتضي السعد فيقتضي السعد للملك و الصعلوك اقتضاء واحدا و لمّا بطلت هذه الأقسام و الأثر لا يوجد إلّا بالمؤثّر و المعلول بالعلّة علمنا أنّه ليس المؤثّر فيه إلّا اللّه.

فلا السعد يقضي به المشتري و لا النحس يقضي علينا زحل

و لكنّه حكم ربّ السماءو قاضي القضاة تعالى و جلّ

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ و دلالات واضحات [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و يصدّقون بتوحيد اللّه لأنّهم المنتفعون.

[قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بارتكاب الذنوب [لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي لا تيأسوا من مغفرة اللّه [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: ما احبّ أنّ لي الدنيا و ما فيها بهذه الآية. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية. و في مصحف عبد اللّه بن مسعود: إنّ اللّه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء.

قال الرازيّ: إنّ عرف القرآن جار بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال تعالى:

ص: 223

«وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً» (1) و قال: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» (2) و أيضا لفظ مذكور في معرض التعظيم فوجب أن لا يقع إلّا على المؤمنين فظهر من هذه المقدّمات أنّ قوله: «يا عِبادِيَ» مختصّ بالمؤمنين و لأنّ المؤمن هو الّذي يعترف بكونه عبد اللّه و أمّا المشركون فإنّهم في الغالب يسمّون أنفسهم بعبد اللات و العزّى و عبد المسيح.

إذا ثبت هذا فنقول: إنّه تعالى قال: «الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» عامّ في حقّ جميع المسرفين ثمّ قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» و هذا يقتضي كونه تعالى غافرا لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين.

فإن قيل: إنّ هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها و إلّا لزم القطع بكون الذنوب مغفورة قطعا و أنتم لا تقولون به فما هو مدلول هذه الآية لا تقولون به و الّذي تقولون به لا تدلّ عليه هذه الآية فسقط الاستدلال. و أيضا إنّه قال عقيب هذه الآية:

«وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» و لو كان المراد من أوّل الآية أنّه غفر جميع الذنوب قطعا لما أمر عقيبه بالتوبة و لما خوّفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون. و أيضا لو كان المراد ما يدلّ عليه ظاهر الآية لكان ذلك إغراء بالمعاصي و إطلاقا في الإقدام عليها و ذلك لا يليق بحكمة اللّه تعالى فعلى هذا وجب أن يحمل معنى الآية على أن يقال: المراد منه التنبيه على أنّه لا يجوز أن يظنّ العاصي أنّه لا مخلص له من عذاب اللّه البتّة فإنّ من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة اللّه إذ لا أحد من العصاة المذنبين إلّا و متى تاب زال عقابه فمعنى قوله: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» أي بالتوبة و الإنابة.

و أمّا الجواب عن القول: «بأنّ الآية تقتضي كون كلّ الذنوب مغفورة قطعا و أنتم لا تقولون به» (3) قلنا: بل نحن نقول به و بيانه أنّ صيغة «يَغْفِرُ» للاستقبال و عندناف.

ص: 224


1- الفرقان: 63.
2- الدهر: 6.
3- بل الجواب ان جميعا تأكيد للذنوب و المراد ان اللّه إذا غفر لمن يشاء يغفر جميع ذنوبه بلا فرق بين كبيرة و كبيرة فلا يقنط احد من غفران بعض كبائرها العظيمة في نفسه، و ليس اللّه ان يغفر بعضها ثم يعذبه ببعضها و لذلك عقبه بقوله «وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا»: توبة مما سلف و تسليما لما خلف حتى يغفر لكم جميع ما سلف.

أنّ اللّه يخرج من النار أهل التوحيد و على هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعا إمّا قبل الدخول في جهنّم و إمّا بعد الدخول فيها فحينئذ ما خرجنا عن مدلول الآية.

و أمّا قوله: لو صارت الذنوب مغفورة بأسرها لما أمر بالتوبة فالجواب أنّ التوبة واجبة و حكم لازم على المكلّف و خوف العقاب قائم و لم يحصل القطع بإزالة العقاب بالكلّيّة بل نقول: لعلّه يعفو مطلقا و لعلّه يعذّب بالنار مدّة ثمّ يعفو بعد ذلك انتهى كلام الرازيّ.

القميّ قال: نزلت الآية في شيعة عليّ بن أبي طالب خاصّة و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: لقد ذكركم اللّه في كتابه إذ يقول: «يا عِبادِيَ» الآية، قال: و اللّه ما أراد بهذا غيركم و في معاني الأخبار و القميّ عن الباقر عليه السّلام قال: و في شيعة ولد فاطمة عليها السّلام أنزل اللّه هذه الآية خاصّة و في المحاسن عن الصادق عليه السّلام قال: ما على ملّة إبراهيم غيركم و ما يقبل إلّا منكم و لا يغفر الذنوب إلّا لكم.

و بالجملة قيل: إنّ الآية نزلت في وحشيّ قاتل حمزة حين أراد أن يسلم و خاف أن لا يقبل توبته فلمّا نزلت الآية أسلم. قال الطبرسيّ: و هذا لا يصحّ لأنّ الآية نزلت بمكّة و وحشيّ أسلم بعدها بسنين كثيرة و لكن يمكن أن يكون قرئت عليه الآية فكانت سبب إسلامه فاللّه سبحانه يغفر الذنوب جميعا للتائب لا محالة حيث يقول سبحانه: «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» (1) فإن مات الموحّد من غير توبة فهو في مشيّة اللّه إن شاء عذّبه بعد له و إن شاء غفر له بفضله كما قال: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* (2).

قوله [وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي انقادوا له بالطاعة فيما يأمركم به و قيل معناه: اجعلوا أنفسكم خالصة لقبول دينه و قد حثّ سبحانه بهذه الآية على التوبة لكي لا يرتكب الإنسان المعصية و يدع التوبة اتّكالا على الآية المتقدّمة.

ص: 225


1- التوبة: 105.
2- النساء: 47 و 115.

[وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من الحلال و الحرام و الأمر و النهي و اتى بالمأمور به و ترك المنهيّ عنه و إنّما قال: «أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ» لأنّه أراد بذلك الواجبات و النوافل الّتي هي الطاعات دون المباحات [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً] أي فجأة لا تتوقّعونه [وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي لا تعرفون وقت نزوله بكم.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 56 الى 60]

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)

و لمّا أمر اللّه سبحانه باتّباع الطاعات و اجتناب المعاصي تحذيرا من نزول العقوبات بيّن الغرض في ذلك بقوله: [أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ أي كراهية أن تصيروا إلى حال تقولون فيها: [يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي يا ندامتي و طول تحسّري علي ما ضيّعت من ثواب اللّه و قصّرت في أمر اللّه و التفريط إهمال ما يجب أن يتقدّم فيه حتّى يقوت وقتة و الجنب القرب أي في قربه و جواره يقال: فلان في جنب فلان أي في قربه و جواره و هو الجنّة و قال الزجّاج: أي فرّطت في طريق اللّه فيكون الجنب بمعنى الجانب أي قصّرت في الجانب الّذي يؤدّي إلى مرضاة اللّه.

و روى العيّاشيّ بالإسناد عن أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: نحن جنب اللّه. و في المحاسن عن الباقر عليه السّلام: إنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة الّذين وصفوا العدل ثمّ خالفوه و هو قوله: «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ» الآية. و في الكافي عن الكاظم عليه السّلام في الآية قال: جنب اللّه أمير المؤمنين و كذلك من كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم. و في الإكمال و العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام: نحن جنب اللّه و في المناقب عنه و عن أبيه في هذه الآية: عليّ جنب اللّه و حجّة على الخلق.

قوله: [وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي و إن كنت لمن المستهزئين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن و بالمؤمنين في دار الدنيا و قيل: معناه من الساخرين ممّن يدعوني إلى الإيمان.

ص: 226

و من الكلمات الّتي حكى اللّه عنهم قوله: [أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ فإنّهم لمّا لم ينظروا في الأدلّة و أعرضوا عن القرآن و اشتغلوا بالدنيا و الأباطيل توهّموا أنّ اللّه لم يهدهم فقالوا ذلك بالظنّ و قد ردّ اللّه عليهم بقوله: «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي» الآية، و قيل: معناه لو أنّ اللّه هداني إلى النجاة بأن يردّني إلى حال التكليف لكنت ممّن يتّقي المعاصي عن الجبّائيّ قال: لأنّهم يضطرّون يوم القيامة إلى العلم بالحقيقة بأنّ اللّه قد هداهم.

[أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي لو أنّ لي رجعة إلى الدنيا فأكون من الموحّدين المطيعين.

ثمّ أنكر اللّه قولهم فقال تعالى: [بَلى قَدْ جاءَتْكَ أي ليس كما قلت قد جاءتك آياتي أي حججي و دلالاتي [فَكَذَّبْتَ بِها] و أنفت من اتّباعها [وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ و قرئ في الشواذّ بكسر التاءات باعتبار تأنيث النفس.

[وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فزعموا أنّ له شريكا أو ولدا [وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ استفهام تقريريّ أي الّذين تكبّروا عن الإيمان باللّه فيها مثواهم و مقامهم.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن خيثمة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من حدّث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما فإن صدق علينا فإنّما يصدق على اللّه و رسوله لأنّا إذا حدّثنا لا نقول: قال فلان و قال فلان إنّما نقول: قال اللّه و قال رسوله ثمّ تلا هذه الآية «وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ» الآية، ثمّ أشار خيثمة إلى أذنيه فقال: صمّتا إن لم أكن سمعته.

و عن سودة بن كليب قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الآية فقال: هو إمام انتحل إمامته ليست له من اللّه قلت: و إن كان علويّا قال عليه السّلام: و إن كان علويّا قلت:

و إن كان فاطميّا قال عليه السّلام: و إن كان فاطميّا.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 61 الى 66]

وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65)

بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

ص: 227

لمّا أخبر سبحانه في الآية السابقة حال الكفّار عقّبه بذكر حال الأتقياء الأبرار فقال:

[وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا] معاصيه خوفا من عقابه [بِمَفازَتِهِمْ أي بمنجاتهم و قرئ «بمفازاتهم» على أنّ المصادر قد تجمع إذا اختلف أجناسها و أصل الفوز النجاة و بذلك سمّيت المفازة على وجه التفاؤل بالنجاة منها كما سمّوا اللديغ سليما [لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ] أي لا يصيبهم المكروه و الشدّة [وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من لذّات الدنيا.

و لمّا ذكر الوعد و الوعيد بيّن أنّه القادر على كلّ شي ء بقوله: [اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي محدثه و مبدعه [وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أي حافظ و مدبّر.

[لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ واحدها مقليد يريد مفاتح السماوات و الأرض بالرزق و الرحمة يفتح لمن يشاء و يغلق لمن يشاء على حسب ما يقتضيه الحكمة [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنّهم خسروا الجنّة و نعيمها و يصلون النار و سعيرها.

ثمّ أعلم أنّه المعبود و لا معبود سواه بقوله: [قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار: [أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ] أي أ تأمروني أن أعبد غير اللّه [أَيُّهَا الْجاهِلُونَ بما تأمرونني به إذ تأمرون بعبادة من لا يسمع و لا يبصر و لا ينفع و لا يضرّ.

و بالآية السابقة و هي قوله: «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» استدلّت المجبّرة بأنّ اللّه خالق الكفر و الإيمان و أثبتوا الجبر بزعمهم.

و أجيب عنها بأجوبة صحيحة: منها أنّه قالت المجوسيّة: إنّ السباع و الهوامّ و الموذيات و الأمراض ليست من خلق اللّه فأراد سبحانه أن يبيّن أنّها بأجمع من خلقه ثمّ إنّ لفظة «كل» قد لا يوجب العموم لقوله تعالى: «وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» (1) و الحال

ص: 228


1- النمل: 23.

أنّها ما أوتيت كلّ شي ء في العالم و قوله تعالى: «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ» (1).

و الجواب الآخر أنّه لو كانت الأعمال من العباد من خلق اللّه لما أضافها إليهم بقوله: «كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» (2) و لما صحّ قوله: «وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (3) و لما صحّ قوله: «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا» (4) و معلوم أنّ الكفر باطل و قال الجبّائيّ: اللّه خالق كلّ شي ء سوى أفعال خلقه الّتي صحّ فيها الأمر و النهي و استحقّوا بها الثواب و العقاب و لو كانت أفعالهم خلقا للّه لما جاز العقاب فيه كما لا يجوز مثله في ألوانهم و صورهم.

و قال أبو مسلم: الخلق هو التقدير لا الإيجاد فإذا أخبر اللّه سبحانه عن عباده أنّهم يفعلون الفعل الفلانيّ فقد قدّر ذلك الفعل فيصحّ إطلاق التقدير على الخلق و إن لم يكن له موجدا.

قوله تعالى: [وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ قال ابن عبّاس: هذا أدب من اللّه لنبيّه و تهديد لغيره لأنّ اللّه عصمه من الشرك و هو كلام وارد على طريق الفرض و الشرط و لو أنّ مشتاقا لتهييع الرسل و إقناط الكفرة و الإيذان بغاية شناعة الكفر و الاشتراك و كونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره فكيف عن عداه و إفراد الخطاب باعتبار كلّ واحد و اللام الاولى موطّئة للقسم و الأخريان للجواب.

فإن قيل: كيف صحّ هذا الكلام مع علم اللّه أنّ رسله لا يشركون و لا تحبط أعمالهم.

فالجواب أنّ الكلام قضيّة شرطيّة و القضيّة الشرطيّة لا يلزم من صدقها صدق جزئيها ألا ترى أنّ قولك: لو كانت الخمسة زوجا لكانت منقسمة بمتساويين قضيّة صادقة مع مع أنّ كلّ واحد من جزأيها غير صادق قال اللّه: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» (5) و لم يلزم من هذا صدق القول بأنّ فيهما آلهة و بأنّهما قد فسدتا.

ص: 229


1- الأحقاف: 25.
2- البقرة: 109.
3- آل عمران: 78.
4- ص: 27.
5- الأنبياء: 22.

ثمّ إنّه تعالى لمّا بيّن هذه الأمور ذكر ما هو المقصود فقال: [بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فردّ سبحانه ما اقترحوه منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الاستلام ببعض آلهتهم لأنّ قوله «قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي» يفيد أنّ المشركين عيّنوا عليه عبادة غير اللّه فقال سبحانه إنّهم بئس ما قالوا و لكن كن على الصدق و كن من الشاكرين على ما هداك و أرشدك

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 67 الى 70]

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)

فبيّن سبحانه أنّ المشركين لمّا جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في المعبوديّة قال:

[وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ و ما وحّدوه و عظّموه تعظيما لائقا به فلو قيل: كيف إنّ الخلق ما عرفوا اللّه، فالجواب أنّ هذا وصف المشركين لا المؤمنين على أنّ المؤمنين أيضا لم يعرفوه كما هو.

و الضمير في الآية راجع إلى المشركين أي أشركوا معه غيره و الحالة أنّ [الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ] و هم جحدوا البعث و قالوا: إنّه عاجز عن الإعادة و النشر لأنّ هذا أمر غير ممكن فذكر سبحانه أن الأرض كلّها مع عظمها في مقدوره كالشي ء الّذي يقبض عليه القابض بكفّه و كذلك قوله: [وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منّا الشي ء المقدور له طيّه بيمينه و ذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار و الملك كقول الشاعر:

إذا ما راية رفعت لمجدتلقّاها عرابة باليمين

قال الزمخشريّ: المراد من هذا الكلام بيان عظمته و التوقيف على كنه جلاله لا إلى جهة حقيقة، روي أنّ يهوديّا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا أبا القاسم إنّ

ص: 230

اللّه يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع و الأرضين على إصبع و الجبال على إصبع و الشجر على إصبع و الثرى على إصبع و سائر الخلق على إصبع ثمّ يهزّهن فيقول: أنا الملك فضحك رسول اللّه تعجّبا ممّا قال.

قال الزمخشريّ: و إنّما ضحك أفصح العرب لأنّه لم يفهم منه إلّا ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك و لا إصبع و لا هزّ و لا شي ء من ذلك و لكن فهم من كلام اليهوديّ الخلاصة الّتي هي الدلالة على القدرة المحضة انتهى كلام الزمخشريّ.

و اعلم أنّ الأصل في الكلام حمله على الحقيقة فإن قام دليل منفصل على أنّه يتعذّر حمله على حقيقته فحينئذ يتعيّن صرفه إلى مجاز فإن حصلت هناك مجازات لم يتعيّن صرفه إلى مجاز معيّن إلّا إذا كان الدليل يوجب ذلك التعيّن و التعيين يحصل بالأولويّة و هذا هو الطريق الصحيح في استعمال اللفظ في معنى المجازيّة في الكلام و الكلام في الآية كذلك لأنّه لمّا دلّت الدلائل العقليّة و السمعيّة على امتناع ثبوت الأعضاء و الجوارح للّه تعالى فوجب حمل هذه الأعضاء على وجوه المجاز و أقربها.

و للرازيّ كتاب مفرد في إثبات تنزيه اللّه تعالى عن الجسم و المكان سمّاه تأسيس التقديس و من أراد الإطناب في هذا الباب فليرجع إليه.

و قوله تعالى في الآية «وَ الْأَرْضُ» المراد الأرضون و بيّنه قوله: «جَمِيعاً» فإنّ هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلّا على الجمع فإنّ الأوصاف و الألفاظ الملحقة بالمفرد إذا كانت جمعا تدلّ على أنّ المراد منه الجمع كقوله: «وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ» (1).

قوله: [سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ نزّه سبحانه نفسه عن شركهم و عمّا يضيفونه إليه.

[وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ و الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل و وجه الحكمة في ذلك أنّها علامة جعلها اللّه ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف ثمّ بعد ظهور هذه العلامة تجديد الخلق فشبّه ذلك بما يتعارفونه من بوق الرحيل و النزول و قيل: «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ» جمع صورة فكأنّه نفخ في

ص: 231


1- ق: 10.

صورة الخلق.

«فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ» أي يموت من شدّة تلك الصيحة الّتي تخرج من الصور جميع من في السماوات و الأرض يقال: صعق فلان إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة العظيمة.

[إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ اختلف في المستثنى: قال ابن عبّاس: هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت و هو المرويّ عن حديث مرفوع ثمّ يميت اللّه ميكائيل و إسرافيل ثمّ جبرائيل و ملك الموت و القول الثاني أنّهم أي المستثنين هم الشهداء لقوله: «بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (1) و عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: هم الشهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش. القول الثالث: المستثنى هو موسى لأنّه صعق مرّة فلا يصعق ثانيا. القول الرابع أنّهم الحور العين و سكّان العرش و الكرسيّ القول الخامس اللّه أعلم بأنّهم من هم و ليس في القرآن و الأخبار ما يدلّ على أنّهم من هم.

و اختلفوا في الصعقة: منهم من قال: إنّها غير الموت بدليل قوله في موسى عليه السّلام:

«وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً» مع أنّه لم يمت فهذا هو النفخ الّذي يورث الفزع الشديد فالمراد من نفخ الصعقة و من نفخ الفزع على هذه التقدير واحد و هو المذكور في سورة النمل في قوله: «وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ» (2) و على هذا فنفخ الصور ليس إلّا مرّتين. و القول الثاني أنّ الصعقة عبارة عن الموت و القائلون بهذا القول قالوا: إنّهم يموتون من الفزع و شدّة الصوت و على هذا التقدير فالنفخة يحصل ثلاث مرّات أوّلها نفخة الفزع و هي المذكورة في سورة النمل و الثانية نفخة الصعق و الثالثة نفخة القيام و هما مذكورتان في هذه السورة قوله تعالى: «فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ».

و كلمة ثمّ في قوله: [ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ تفيد التراخي و هي متأخّرة عن النفخة الاولى و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ بينهما أربعين و لا أدري أربعون يوما أو شهرا أو أربعون سنة أو أربعون ألف سنة و قوله: «فَإِذا هُمْ قِيامٌ» يعني

ص: 232


1- آل عمران: 196.
2- الكهف: 100.

قيامهم من القبور عقيب هذه النفخة الآخرة في الحال من غير تراخ لأنّ الفاء تدلّ على التعقيب و المراد من قوله «يَنْظُرُونَ» أي يقلّبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذ جاءهم خطب عظيم أو ينظرون ما ذا يفعل بهم و يجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف و الخمود في مكان لأجل استيلاء الحسرة و الدهشة عليهم.

ثمّ قال سبحانه: [وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها] و هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض الّتي يسكن و يقعد عليها الآن بدليل قوله: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» (1) يعني أرضا لم يكسب عليها الذنوب و بدليل قوله: «وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» (2) بل هي أرض اخرى يخلقها اللّه لمحفل يوم القيامة.

و هاهنا بيان و هو أنّه قالت المجسّمة: إنّ اللّه تعالى نور محض فإذا حضر اللّه في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور اللّه و أكّدوا هذا القول بقوله: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» (3).

و قد أجيب عن هذه الشبهة الواهية على التفصيل في سورة النور و كيف يجوز حمل الكلام في معنى النور على الحقيقة و كونه تعالى شأنه من جنس هذه الأنوار المشاهدة و قد فسّر لفظ النور في قوله: «وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» (4) على العدل و قد يستعمل هذا اللفظ مجازا في هذا المعنى و في بيان أنّ المراد من لفظ النور هاهنا ليس إلّا هذا المعنى أمّا بيان الاستعمال فهو أنّ الناس شايع في كلامهم بأن يقولون للملك العادل: أشرقت الأرض بعد لك و أضاءت الدنيا بقسطك كما يقولون: أظلمت البلاد بجورك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

الظلم ظلمات يوم القيامة.

و القرينة على أنّ المراد من النور في الآية العدل فقط أنّه تعالى قال: بعده «وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ» و معلوم أنّ المجي ء بالشهداء ليس إلّا للشهادة و إظهار العدل. و أيضا قال في آخر الآية: «وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ» ثمّ إضافة النور إلى اللّه لا يلزم

ص: 233


1- النبأ: 38.
2- الحاقة: 14.
3- النور: 35.
4- الزمر: 64.

كون ذلك صفة ذات اللّه لأنّه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب فلمّا كان ذلك النور من خلق اللّه و شرّفه بأن أضافه إلى نفسه كان ذلك النور نور اللّه مثل قوله: بيت اللّه و ناقة اللّه. و هذا الجواب أقوى من الأوّل لأنّ في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة و الذهاب إلى المجاز.

قوله: [وَ وُضِعَ الْكِتابُ قيل: المراد من الكتاب اللوح المحفوظ الّذي يحصل فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى وقت القيامة و قيل: المراد كتب الأعمال كما قال سبحانه:

«وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (1) و قال في آية اخرى «ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» (2).

قوله: [وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ و المراد من مجي ء الأنبياء ليكونوا شهداء على الناس قوله: [وَ الشُّهَداءِ] قيل: أراد بالشهداء المؤمنين و قيل: يعني الحفظة من الملائكة في أعمالهم و قيل: أراد بالشهداء المستشهدين في سبيل اللّه، القميّ: الشهداء الأئمّة و في إرشاد المفيد عن الصادق عليه السّلام في قوله: «وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» المراد إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها أي نور الإمام و قد جعله اللّه نورا للعالم و استغنى العباد عن ضوء الشمس و ذهبت الظلمة.

قوله تعالى: [وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ أي يفصل بينهم و يوصل إلى كلّ أحد حقّه من غير نقيصة [وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ أي يستوفي كلّ نفس جزاء ما عمل [وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ عالم بكيفيّات أعمالهم و مقادير أفعالهم فلا يمكن دخول الخطاء في ذلك الحكم.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 71 الى 75]

وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)

ص: 234


1- اسرى: 13.
2- الكهف: 50.

لمّا شرح أحوال أهل القيامة بقوله: «وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» بيّن أحوال أهل العقاب ثمّ كيفيّة أهل الثواب «السوق» الدفع بالعنف (1) [وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي يساقون بالعنف إلى جهنّم تسوقهم الملائكة من خزنة جهنّم و هم ملائكة العذاب و نظيره قوله: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» (2) أي يدفعون دفعا و أمّا الزمر فهي الأفواج المتفرّقة بعض في أثر بعض.

[حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها] أي تفتح أبواب جهنّم عند وصول أولئك إليها فإذا وصلوا باب جهنّم [قالَ لَهُمْ ملائكة العذاب [أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم [يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ يقرءون عليكم آيات ربّكم و حجج ربّكم و ما يدلّكم على معرفته و بيان عبادته و يخوّفونكم من مشاهدة هذا اليوم و عذابه.

[قالُوا بَلى فيقول الكفّار: قد جاءتنا و خوّفونا [وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي وجب العقاب على من كفر باللّه لأنّه أخبر بذلك فلم يكن يقع منه على خلاف ما أخبر به فصار كوننا في جهنّم موافقا لخبره سبحانه و الكلمة قوله تعالى لإبليس «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» (3) و قد كنّا ممّن تبعه و كذّبنا الرسل.

قوله: [قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها] فتقول الخزنة لهم: ادخلوا أبواب جهنّم و أنتم مخلّدون و مؤبّدون فيها و إبهام القائل لتهويل المقول [فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي بئس موضع المتكبّرين عن الحقّ و هذا الكلام لبيان أنّ ورودهم في النار بناء على

ص: 235


1- بل هو الحث على السير.
2- الطور: 13.
3- ص: 85.

كفرهم و تكبّرهم عن عبادة اللّه و هذا العذاب إنّما أوردوه على أنفسهم بكفرهم على سبيل الاختيار حيث لم يعتنوا بدلائل التوحيد و لم يقبلوا قول الرسل.

[وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً] فبيّن حال أهل الثواب و الّذين لم يتكبّروا عن أمره و خافوا عن مخالفة اللّه و رسله.

فإن قيل: السوق في أهل النار للعذاب معقول لأنّهم لا بدّ و أن يساقوا إليه لأنّهم ذهبوا إليه عنفا و كرها و لكن أيّ حاجة لأهل الكرامة بالسوق؟

فالجواب أنّه إنّما ذكر السوق على وجه المقابلة لسوق الكافرين كلفظ البشارة في قوله: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»* (1) و إنّما البشارة للخير و مثل قوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ».

و قيل وجه آخر و هو أنّ المحبّة و الصداقة باقية بين المتّقين فإذا قيل لواحد منهم: اذهب إلى الجنّة فيقول: لا أدخلها حتّى يدخلها أصدقائي فيتأخّرون لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السوق إلى الجنّة.

و قيل أيضا وجه آخر: أنّ المؤمنين الماحضين قد عبدوا اللّه مخلصا لا للجنّة و لا للنار فتصير شدّة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال و الجمال مانعة لهم من الرغبة في الجنّة فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنّة.

و قيل: إنّ أهل الجنّة و أهل النار يساقون إلّا أنّ المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان و العنف كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس و المراد بسوق أهل الجنّة سوق مراكبهم لأنّه لا يذهب بهم إلّا راكبين فالمراد إسراعهم إلى دار الكرامة و الرضوان كما يفعل بمن يكرم و يشرف من الوافدين على الملوك شتّان ما بين السوقين! ثمّ قال تعالى: [حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها] فإن قيل:

قال تعالى في أهل النار: «فُتِحَتْ أَبْوابُها» بغير الواو و قال هاهنا بالواو فما الفرق؟ و الفرق أنّ أبواب جهنّم لا تفتّح إلّا عند دخول أهلها فيها فأمّا أبواب الجنّة ففتحها يكون متقدّما على وصولهم إليها بدليل قوله: «جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ» (2) فلذلك جي ء

ص: 236


1- آل عمران: 21.
2- ص: 51.

بالواو كأنّه قيل: حتّى إذا جاءوها و قد فتحت أبوابها و الواو واو حال و قيل: الواو واو الثمانية قال المبرّد: الواو زائدة و أنكر قول من قال: إنّها واو الثمانية و أنشد لامرئ القيس:

فلمّا أجزنا ساحة الحيّ و انتحى بنا بطن جنب ذي حقاف عقنقل

قال: و المعنى فلمّا أجزنا ساحة الحيّ انتحى بنا.

و بالجملة فجواب إذا في صفة أهل الجنّة محذوف و تقديره: حتّى إذا جاءوها و فتحت أبوابها فازوا و نالوا و كانوا كيت و كيت كما أنّ في بيت امرئ القيس الجواب محذوف و التقدير: فلمّا أجزنا ساحة الحيّ و انتحى بنا خلونا و نعمنا.

و بالجملة فالمعنى: حتّى إذا جاءوها و قد فتحت لهم أبواب الجنّة و قال لهم خزنتها:

[سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ الخزنة يذكرون لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث أوّلها يبشّرونهم بالسلامة من كلّ الآفات فتقول الملائكة عند استقبالهم: سلامة من اللّه عليكم و يحيّونهم ليزدادوا بذلك سرورا «طِبْتُمْ» بالعمل الصالح في الدنيا و طابت و زكت أعمالكم أو المعنى: طابت أنفسكم بدخول الجنّة و قيل: إنّهم طيّبوا قبل دخول الجنّة بالمغفرة و قيل: طبتم أي طاب لكم المقام و قيل: إنّهم إذا قربوا من الجنّة يردون إلى عين من الماء فيغتسلون بها و يشربون منها فيطهّر اللّه أجوافهم فلا يكون بعد ذلك منهم حدث و أذى و لا يتغيّر ألوانهم فحينئذ تقول الملائكة لهم: طبتم فادخلوها خالدين مؤبّدين و الفاء في قوله: «فَادْخُلُوها» يدلّ على كون ذلك الدخول معلّلا و متعاقبا بالطيب و الطهارة.

قالت المعتزلة: هذا يدلّ على أنّ أحدا لا يدخلها إلّا إذا كان طاهرا عن كلّ المعاصي، قال الرازيّ: و هذا القول ضعيف لأنّه يبدّل اللّه سيّئاتهم حسنات فحينئذ يصيرون طيّبين طاهرين.

و عن سهل بن سعد الساعديّ أنّ رسول اللّه قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الريّان لا يدخلها إلّا الصائمون.

[وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ قال المتّقون عند ذلك: الحمد للّه الذي صدقنا وعده الّذي وعدنا على ألسنة الرسل في قوله: «أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا

ص: 237

بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ».

[وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ و المراد بالأرض أرض الجنّة و عبّر عنه بالإرث لأنّ الجنّة كانت في أوّل الأمر لآدم فلمّا عادت إلى أولاده كان ذلك سببا لتسميتها بالإرث أو لأنّ الوارث يتصرّف فيما يرثه كما يشاء من غير منازع و لا مدافع فكذلك هؤلاء يتصرّفون في الجنّة كيف شاءوا و المشابهة علّة لحسن المجاز.

قوله تعالى: [نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ] أي نأخذ منها مأوى و مبوّء [حَيْثُ نَشاءُ] و هذا إشارة إلى كثرة قصورهم و منازلهم وسعة نعمتهم [فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي نعم ثواب المحسنين الجنّة قال مقاتل: إنّ هذا الكلام من قول اللّه و ليس من كلام أهل الجنّة.

قوله: [وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ لمّا بيّن ثواب أهل الإيمان ذكر عقيبه ثواب الملائكة فقال: كما أنّ ثواب المتّقين الجنّة فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش و أطرافه أي محدقين بالعرش و يطوفون حوله [يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزّهون اللّه عمّا لا يليق به و يذكرونه بصفاته الّتي هو عليها و قيل: يحمدون اللّه حيث دخل الموحّدون الجنّة و تسبيحهم في ذلك الوقت على سبيل التلذّذ و التنعّم لا على وجه التعبّد إذ ليس هناك تكليف.

ثمّ قال سبحانه: [وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ بإدخال بعضهم النار و بعضهم الجنّة أو المعنى: قضي بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم [وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضي بيننا بالحقّ و لمّا كان تقرير المؤمنين بقولهم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ» و بيّن أنّهم اشتغلوا بهذا التحميد تلذّذا لا تكليفا فكذلك الملائكة متوافقين على الاستغراق في التحميد تلذّذا و كان ذلك سببا لمزيد التذاذهم و قيل: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» من كلام أهل الجنّة شكرا و قيل: إنّه من كلام اللّه تعالى فقال في ابتداء الخلق: الحمد للّه الّذي خلق السماوات و الأرض و قال بعد بعثهم و استقرارهم في منازلهم: الحمد للّه و هذا أدب أدّب اللّه العباد بأنّه يجب الأخذ بأدبه في ابتداء كلّ أمر و ختم كلّ أمر.

ص: 238

سورة المؤمن

اشارة

مكّيّة إلّا آيتين منها نزلتا بالمدينة «إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ» إلى قوله:

«لا يَعْلَمُونَ» و قيل: إلّا قوله تعالى: «وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ» يعني بذلك صلاة الفجر و المغرب و قد ثبت أنّ فرض الصلاة نزل بالمدينة.

فضل قراءة الحواميم كثير و فضلها خصوصا روى أبو بردة الأسلميّ (أو بريدة) عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليقرأ الحواميم في صلاة الليل و عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: الحواميم ديباج القرآن و عن ابن عبّاس قال:

لكلّ شي ء لباب و لباب القرآن الحواميم قال ابن مسعود: إذا وقعت في قراءة الحواميم وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهنّ.

و عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و من قرأ سورة حم المؤمن لم يبق روح نبيّ و لا صدّيق و لا مؤمن إلّا صلّوا عليه و استغفروا له و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال:

الحواميم ريحان القرآن فاحمدوا اللّه و اشكروه بحفظها و تلاوتها و إنّ العبد ليقوم يقرء الحواميم فيخرج من فيه ريح أطيب من المسك الأزفر و العنبر و إنّ اللّه ليرحم تاليها و قاريها و يرحم جيرانه و أصدقاء و كلّ حميم أو قريب له و إنّه في القيامة يستغفر له العرش و الكرسيّ و ملائكة اللّه المقرّبون.

و روى أبو الصباح عن الباقر عليه السّلام قال: من قرأ حم المؤمن في كلّ ثلاث غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر و ألزمه التقوى و جعل الآخرة خيرا له من الدنيا.

ص: 239

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة غافر (40): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)

و قرئ بكسر الحاء و بعض بين الفتح و الكسر قال صاحب الكشّاف: بفتح الميم و تسكينها و وجّه الفتح لالتقاء الساكنين و إيثار الفتح للخفّة نحو أين و كيف أو النصب بإضمار اقرء و منع الصرف للتعريف و التأنيث لأنّها اسم للسورة و أمّا السكون لأنّ الأسماء المجرّدة تذكر موقوفة الأواخر.

و بالجملة قال الرازيّ الأقرب أن يقال: «حم» اسم للسورة فقوله: [حم مبتدأ و قوله: [تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ خبره و التقدير: إنّ هذه السورة المسمّاة بحم تنزيل الكتاب و تنزيل مصدر لكنّ المراد منه المنزل. و قوله: من اللّه بيان أنّه تعالى هو المنزل و وصف نفسه بالغالب العليم. و الفائدة في ذكر [الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ بيان أنّه تعالى بقدرته و علمه أنزل القرآن على هذا الحدّ الّذي يتضمّن المصالح في عموم التكليف و الإعجاز لقدرته و علمه.

ثمّ وصف نفسه بما يجمع الوعد و الوعيد و الترهيب و الترغيب فقال سبحانه: [غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] فهذه ستّة أنواع من الصفات:

ص: 240

الاولى: غافر الذنب قال الجبّائيّ: معناه أنّه غافر الذنب إذا استحقّ المذنب غفرانه إمّا بتوبة أو طاعة أعظم من الذنب و مراده أنّ فاعل المعصية إمّا أن يقال: إنّه كان قد أتى قبل ذلك بطاعة كان ثوابها أعظم من عقاب هذه المعصية أو ما كان الأمر كذلك فإن كان الأوّل كانت هذه المعصية صغيرة فيحبط عقابها و إن كان الثاني كانت هذه المعصية كبيرة فلا يزول عقابها إلّا بالتوبة انتهى كلام الجبّائيّ.

قال الرازيّ: و مذهب أصحابنا أنّ اللّه تعالى قد يعفو عن الكبائر بدون التوبة و الآية تدلّ على ذلك لأنّ الغفر معناه الستر و معنى الغفر إنّما يعقل في الشي ء الّذي يكون باقيا موجودا فيستر و الصغيرة تحبط بسبب كثرة ثواب فاعليها فمعنى الغفر فيها غير معقول.

و لا يمكن حمل قوله: غافر الذنب على الكبيرة بعد التوبة لأنّ معنى كونه قابلا للتوبة ليس إلّا ذلك و إنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب و توسيط الواو بين الأوّلين لإفادة الجمع بين محو الذنوب و قبول التوبة أو تغاير الوصفين فثبت أنّ كونه غافر الذنب يفيد كونه غافرا للذنوب الكبائر قبل التوبة على أنّ الكلام مذكور في معرض المدح العظيم فحمله على ما يفيد أعظم أنواع المدح أليق انتهى كلامه و فيه نظر.

الصفة الثانية: قوله تعالى: «قابِلِ التَّوْبِ» و في لفظ التوب قال أبو عبيدة: هو مصدر و قال الأخفش: إنّه جماعة التوبة و قال المبرّد: إنّه مصدر تاب يتوب توبا مثل «قَوْلًا»* قالت الأشاعرة: إنّ قبول التوبة من المذنب يقع على سبيل التفضّل و ليس بواجب على اللّه و قالت المعتزلة: إنّه واجب على اللّه.

الصفة الثالثة: قوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» فلو قيل: إن قوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» و هي صفة للمعرفة و هو اللّه و لا يصلح أن يوصف المعرفة بالنكرة كما أنّه يقال: مررت برجل شديد البطش و لا يقال: مررت بعبد اللّه شديد البطش فأجيب بأنّ هذه الصفة و إن كانت نكرة إلّا أنّها لمّا ذكرت مع سائر الصفات الّتي هي معارف فحسن ذكرها مثل قوله: «وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» (1) و أجاب الزجّاج أنّ خفض شديد

ص: 241


1- هود: 108.

العقاب على البدل و جعل النكرة بدلا من المعرفة و بالعكس أمر جائز و قال ابن عبّاس في تفسير الآية: إنّه تعالى غافر الذنب لمن قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا قابل التوب؟؟؟

قال: لا إله إلّا اللّه شديد العقاب لمن لم يقل: لا إله إلّا اللّه ذي الطول أي ذو الغنى؟؟؟

لم يقل: لا إله إلّا اللّه. أقول: و قد عرفت أنّ هذه الكلمة مقيّدة بقبول الولاية و أداء شروطها.

و بالجملة فقوله: «ذِي الطَّوْلِ» صفة رابعة و قيل: إنّه إنّما ذكر ذي الطول عقيب قوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» لبيان تفضّله و طوله على الخلق و الطول الإحسان كقول الشاعر: «ليلى و ليلى» إلى آخر البيت و هذا البيان ليعلم أنّ العاصي أتى في هلاك نفسه من قبل نفسه لا من قبل ربّه و إلّا فنعمه سابغة.

الصفة الخامسة: التوحيد المطلق و هو قوله: لا إله إلّا هو فحينئذ لا يشاركه أحد في العبادة.

السادسة: قوله: «إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» و هذه الصفة أيضا داعية إلى الترغيب و الترهيب؟؟؟

أنّ التوحيد داع إلى الترغيب و الترهيب.

و لمّا ذكر سبحانه صفاته الشريفة و بيّن أنّ القرآن كتاب أنزله للهداية ثمّ ذكر أحوال المخاصم في دفع حجج اللّه و جحدها فقال: [ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا] بآيات اللّه اعلم أنّ الجدال نوعان جدال في تقرير الحقّ و جدال في تقرير الباطل الجدال في إثبات الحقّ فهو حرفة الأنبياء عليهم السّلام قال تعالى لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (1) و أمّا الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم و هو المراد في الآية؟؟؟

قال: «ما يُجادِلُ» الآية و قال: «وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ جدالا في القرآن كفر فقوله: إنّ جدالا على لفظ التنكير يدلّ على التمييز بين؟؟؟

و جدال و لفظ الجدال في الشي ء مشعر بالجدال الباطل و لفظ الجدال عن الشي ء مشعر بالجدال الحقّ و الذبّ عن الحقّ و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تماروا في القرآن فإنّ المراء فيه كفر و الجدال في آيات اللّه هو أن تقول مرّة إنّه سحر و مرّة إنّه شعر و مرّة إنّه قول الكهنة و؟؟؟

أساطير الأوّلين و مرّة إنّما يعلّمه بشر و أشباه هذا من الشبهات الباطلة فذكر تعالى؟؟؟

ص: 242


1- النحل: 125.

لا يفعل هذا إلّا الّذين كفروا و أعرضوا عن الحقّ.

[فَلا يَغْرُرْكَ يا محمّد [تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ] أي تصرّفهم في البلاد للتجارات سالمين أصحّاء مع كفرهم فإنّ اللّه لا يخفى عليه حالهم و إنّما يملهم لأنّهم في سلطانه و لا يفوتونه و في هذا غاية التهديد أي فإنّي و إن أمهلتهم فإنّي سآخذهم كما فعلت بأمثالهم من الأمم المكذّبة و كانت قريش كذلك يتقلّبون في بلاد الشام و اليمن فرحين فرهين و لهم الأرباح الكثيرة في تجاراتهم و الزمان مساعد لهم.

ثمّ كشف عن هذا المعنى بقوله: [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ نوحا و هو رسولهم [وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي الأمم المستمرّة على التكذيب و الكفر نحو قوم هود و ثمود و غيرهم من بعدهم و هم الّذين تحزّبوا على تكذيب الأنبياء.

[وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ] من أولئك الأحزاب [بِرَسُولِهِمْ أي قصدوه [لِيَأْخُذُوهُ أي ليهلكوه و يقتلوه و إنّما قال: «بِرَسُولِهِمْ» و لم يقل: برسولها لأنّ المراد الرجال.

[وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ مثل قولهم: ما أنتم بشر مثلنا و هلّا أرسل اللّه إلينا ملائكة [لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ و يبطلوا الحقّ و يزيلوه يقال: أدحض اللّه حجّته أي أزالها و أزلّها [فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي إيّاهم فأفعل بقومك كما فعلت بهؤلاء إن أصرّوا على الجدال و الكفر بآيات اللّه.

ثمّ قال: [وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ] أي مثل الّذي حقّ على أولئك الأمم السالفة من العقاب حقّت كلمتي أيضا على هؤلاء الّذين كفروا من قومك فوجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 7 الى 10]

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10)

ص: 243

ثمّ أخبر سبحانه عن حال المؤمنين و أنّه تستغفر لهم الملائكة مع عظم منزلتهم عند اللّه فحالهم بخلاف حال الكفّار.

المعنى: إنّه إذا كان يبالغون في إظهار العداوة للأنبياء و المؤمنين فأشرف طبقات المخلوقات هم حملة العرش من الملائكة فهم يبالغون في إظهار المحبّة و الدعاء فلا تبال بهؤلاء الأراذل و لا تقم لهم وزنا فإنّ حملة العرش ينصرونك بالدعاء.

روي أنّ حملة العرش أرجلهم في الأرض السلفي و رءوسهم قد خرقت العرش و هم خشوع لا يرفعون طرفهم قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تتفكّروا في عظم ربّكم و لكن تفكّروا فيما خلق اللّه من الملائكة فإنّ خلقا من الملائكة يقال له: إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله و قدماه في الأرض السفلى و قد مرق رأسه من سبع سماوات و إنّه ليتضاءل من عظمة اللّه حتّى يصير كأنّه الوضع قيل: إنّه طائر صغير.

روى الزمخشريّ: إنّ اللّه أمر جميع الملائكة أن يغدوا و يروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة و خلق اللّه العرش من جوهرة خضراء و بين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام و حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهلّلين مكبّرين و من ورائهم سبعون ألف صفّ قيام قد وضعوا أيديهم على عوائقهم رافعين أصواتهم بالتهليل و التكبير و من ورائهم مائة ألف صفّ قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلّا و يسبّح بما لا يسبّح به الآخر و الحاصل أنّ حملة العرش [وَ مَنْ حَوْلَهُ يعني الملائكة المطيفين بالعرش و هم الكرّوبيّون و سادة الملائكة و أشرافها ينزّهون ربّهم عمّا يصفه به هؤلاء المجادلون [وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ و يصدّقونه بوحدانيّته [وَ يَسْتَغْفِرُونَ و يسألون اللّه المغفرة [لِلَّذِينَ آمَنُوا] من أهل الأرض و يدعون لمن معك من المؤمنين فإنّ المشاركة في الإيمان أدعى الدواعي و أتمّها إلى النصح و الشفقة و استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم و يقولون في دعائهم للمؤمنين:

[رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً] أي وسعت رحمتك و علمك كلّ شي ء و المراد بالعلم المعلوم كما ينبئ عن هذا المعنى قوله: «وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ» أي معلومه

ص: 244

على التفصيل و في هذا تعليم و أدب لطريقة الدعاء لأنّه لمّا كان السعادة مربوطة بأمرين التعظيم لأمر اللّه و الشفقة على خلق اللّه المستحقّين لها فقوله: «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» مشعر بالتعظيم لأمر اللّه و قوله «وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» مشعر بالشفقة على خلق اللّه.

فقالوا: [فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا] من الشرك و المعاصي [وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ الّذي دعوت إليه خلقك و هو دين الإسلام [وَ قِهِمْ و ادفع عنهم [عَذابَ الْجَحِيمِ و في هذه الآية دلالة على أنّ إسقاط العقاب عند التوبة تفضيل من اللّه إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم بل كان يفعله اللّه سبحانه لا محالة.

قوله: [رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ مع قبول توبتهم و وقايتهم النار [جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ على ألسن أنبيائك [وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ليكمل انسهم و يتمّ سرورهم [إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ] الغالب القادر على ما يشاء [الْحَكِيمُ في أفعالك.

[وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أي و من تقه عذاب السيّئات و المعاصي [فَقَدْ رَحِمْتَهُ يوم القيامة لأنّ من انصرف عنه شرّ معاصيه فقد تفضّل و أنعم عليه [وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و الظفر بالبغية و الفلاح.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام في قوله: «لِلَّذِينَ آمَنُوا» أي آمنوا بولايتنا و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: إنّ للّه ملائكة يسقطون الذنوب عن ظهور شيعتنا كما يسقط الريح الورق أوان سقوطه و ذلك قوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ» الآية قال عليه السّلام:

استغفارهم اللّه لكم دون هذا الخلق. و القميّ في قوله: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ» يعني رسول اللّه و الأوصياء من بعده يحملون علم اللّه و من حوله يعني الملائكة يستغفرون للّذين آمنوا أي لشيعة آل محمّد و قوله: «لِلَّذِينَ تابُوا» أي للّذين تابوا من ولاية غيرهم مثل بني اميّة «وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ» يعني ولاية وليّ اللّه «وَ مَنْ صَلَحَ» يعني من تولّى عليّا و ذلك صلاحهم «وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» لمن نجاه اللّه عن ولاية غير عليّ و أولاده المعصومين.

و في الكافي مرفوعا: إنّ اللّه عزّ و جلّ أعطى التائبين ثلاث خصال لو اعطي خصلة

ص: 245

منها جميع أهل السماوات و الأرض لنجوا بها ثمّ تلا هذه الآية انتهى الحديث.

و هاهنا نكتة و هي أنّ الدعاء في أكثر الأمر مذكور بلفظ ربّنا كما قالت الملائكة:

«رَبَّنا وَسِعْتَ» الآية، و قال آدم عليه السّلام: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» (1) و قال نوح عليه السّلام:

«رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» (2) الآية، و قال أيضا: «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً» (3) و قال أيضا: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ» (4) الآية، و قال إبراهيم: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (5) و قال: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» (6) و قال: «رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» (7) و قال موسى:

في قصّة الوكز «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي» (8) و قال سليمان: «ربّ هَبْ لِي مُلْكاً» (9) و قال عيسى: «رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً» (10) و قال اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ» (11) و حكى سبحانه عن المؤمنين أنّهم قالوا «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» و أعادوا إلى آخر السورة (12) هذه اللفظة خمس مرّات فظهر أنّ الترتيب في الدعاء أن ينادي العبد ربّه بقوله: يا ربّ.

فإن قيل: إنّ لفظ اللّه أعظم من لفظ الربّ فلم صار لفظ الربّ مختصّا بوقت الدعاء؟

فالجواب أنّ المناسب في المقام لفظ الربّ فإنّ العبد يقول: كنت في كتم العدم المحض و النفي الصرف فأخرجتني إلى الوجود و ربّيتني فاجعل تربيتك لي شفيعا إليك في أن لا تخليني طرفة عين عن تربيتك و إحسانك القديم إليّ فبعد هذا الخطاب و النداء إلى ربّه فليحسن الداعي الثناء عليه ثمّ يستدعي حوائجه و العقل يحكم برعاية هذا الترتيب و ذلك لأنّ ذكر اللّه بالثناء و التعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالإكسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس فكما أنّ ذرّة من الإكسير إذا وقعت على عالم من النحاس انقلب الكلّ ذهبا

ص: 246


1- الأعراف: 22.
2- هود: 47.
3- المؤمنون: 98.
4- ابراهيم: 41.
5- البقرة: 260.
6- ابراهيم: 41.
7- البقرة: 128.
8- القصص: 16.
9- الشعراء: 83.
10- المائدة: 117.
11- المؤمنون: 98.
12- آل عمران: 191.

إبريزا فكذلك إذا وقعت ذرّة من إكسير معرفة اللّه و جلاله على جوهر الروح النطقيّة انقلب من نحوسة النحاس إلى صفاء القدس و النقاوة و متى أشرق نور معرفته في جوهر الروح يصير الروح أقوى و أكمل فتأثير القويّ أقوى فكان حصول الشي ء المطلوب بسبب هذه القوّة أمكن و أقرب و هذا هو السبب في تقديم الثناء على اللّه على الدعاء.

و هاهنا بحث آخر و هو أنّ العلم يصحّ أن يسع كلّ شي ء لكنّ الرحمة كيف يسع كلّ شي ء لأنّ المضرور حال وقوعه في الضرر لا يكون ذلك الضرر رحمة.

فالجواب أنّ كلّ موجود فقد نال من رحمة اللّه نصيبا و ذلك لأنّ الموجود إمّا واجب و إمّا ممكن أمّا الواجب فليس إلّا اللّه و أمّا الممكن فوجوده من اللّه بإيجاده و ذلك رحمة فلا موجود إلّا و قد وصل إليه نصيب و نصاب من رحمة اللّه و المقصود بالذات من الخلق و التربية الرحمة و الإحسان و لهذا قالت الحكماء: الخير مراد مرضيّ و الشرّ مراد مكروه و الخير مقضيّ به بالذات و الشرّ مقضيّ به بالعرض و في هذا البيان غور عظيم.

فإن قيل: إنّ قولهم: «وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» و قولهم: «وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ» و قد فسّرتم أي قهم عذاب السيّئات فما هذا التكرار الخالي عن الفائدة؟

فالجواب أنّ عذاب الجحيم يتناول عذاب جهنّم و عذاب السيّئات يشمل عذاب الموقف و القبر و مواقف القيامة أو المراد من قولهم: «وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ» المراد الحفظ من العقائد المفسدة في الدين و الأعمال الفاسدة كما هو المفهوم من ظاهر الآية.

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أي إنّ الملائكة ينادون الكفّار يوم القيامة و المراد من الملائكة خزنة جهنّم ينادون الكفّار و هم في النار: لمقت اللّه [أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ و ذلك أنّهم مقتوا أنفسهم الأمّارة بالسوء الّتي بسبب اتّباعها وقعوا فيما وقعوا أو المعنى أنّ الكفّار مقت بعضهم بعضا من الأحباب كقوله: «يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (1) و المقت أشدّ البغض فتقول الملائكة لهم عند ذلك: لمقت اللّه إيّاكم في الدنيا أكبر و أعظم من مقتكم و السبب أنّكم كنتم إذ تدعون من جهة الأنبياء [إِلَى الْإِيمانِ فتأبون [و تكفرون اتّباعا لأنفسكم و مسارعة إلى هواها أو اقتداء بأخلّائكم المضلّين.

ص: 247


1- العنكبوت: 25.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 11 الى 17]

قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)

يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)

المعنى: بيّن سبحانه أنّ الكفّار لمّا خوطبوا بهذا الخطاب و هو قوله: «لَمَقْتُ اللَّهِ» الآية [قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ اختلف في معناه على وجوه:

أحدها أنّ الإماتة الاولى في الدنيا بعد الحياة و الثانية في القبر قبل البعث و الإحياء الاولى في القبر للمساءلة و الثانية في الحشر و هو اختيار بعض علماء أهل الجماعة مثل السدّيّ و البلخيّ.

و ثانيها أنّ الإماتة الاولى حال كونهم نطفا فأحياهم اللّه في الدنيا ثمّ أماتهم الموتة الثانية ثمّ أحياهم للبعث فهاتان حياتان و موتتان و نظيره قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً» و هذا قول ابن عبّاس و قتادة و الضحّاك و اختاره أبو مسلم.

و ثالثها أنّ الحياة الاولى في الدنيا و الثانية في القبر و لم يرد الحياة يوم القيامة و الموتة الاولى في الدنيا و الثانية في القبر عن الجبّائيّ و قوله: «أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» فاثنتين نعت لمصدر محذوف و التقدير: إماتتين و إحياءتين اثنتين و في تفسير عليّ بن إبراهيم قال الصادق: ذلك في الرجعة.

ثمّ حكى اللّه عنهم أنّهم قالوا: [فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا] فالفاء فيه معنى السببيّة و ذلك أنّهم لمّا كانوا منكرين في البعث فلمّا شاهدوا الإحياء بعد الإماتة مرّتين فلا جرم وقع هذا الاعتراف كالمسبّب عن تلك الإماتة و الإحياء.

ثمّ حكى سبحانه عن قولهم [فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ النار [سَبِيلٍ إلى الدنيا لنعمل بطاعتك و في مثل هذا الكلام نوع تلطّف في الاستدعاء و يعادل الاستفهام: أم اليأس وقع

ص: 248

فلا خروج و لا سبيل و في الكلام حذف تقديره: فأجيبوا بأنّه لا سبيل لكم إلى الخروج.

و ينبئ عن هذا الجواب [ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أي ذلكم العذاب الّذي حلّ بكم بسبب أنّه إذا قيل لا إله إلّا اللّه استكبرتم و قلتم أجعل الآلهة إلها واحدا و جحدتم ذلك [وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ معبود آخر من الأصنام و الأوثان [تُؤْمِنُوا] و تصدّقوا و تقبّلوا [فَالْحُكْمُ في ذلك و الفصل بين المحقّ و المبطل [لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ] القادر على كلّ شي ء الّذي ليس فوقه من هو أقدر منه أو من يساويه في مقدوره و نقلت هذه اللفظة من علوّ المكان إلى علوّ الشأن كما يقال: استعلى فلان بالحجّة و القوّة.

قوله: [هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً] و لمّا كان أهمّ المهمّات رعاية مصالح الأديان من عباده فراعى بإظهار الحجج و البيّنات و راعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان فالآيات لحياة الأديان و الأرزاق لحياة الأبدان فبيّن سبحانه في الآية أنّه أراكم بيّناته و أنزل أرزاقكم من السماء لقوام حياتكم [وَ ما يَتَذَكَّرُ] و يتّعظ بهذه الأمور و ليس تتفكّر في حقيقتها [إِلَّا مَنْ يُنِيبُ و يرجع إليه و يقبل طاعته.

ثمّ أمر المؤمنين بقوله: [فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي وجّهوا عبادتكم إليه وحده [وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ فلا تبالوا بهم و لا تعتنوا بغيظهم و كرههم.

ثمّ وصف نفسه سبحانه [رَفِيعُ الدَّرَجاتِ الرفيع بمعنى الرافع أي هو رافع درجات الأنبياء و الموحّدين في الجنّة و قيل: رافع السماوات السبع و قيل: معناه أنّه سبحانه عالى الصفات [ذُو الْعَرْشِ أي مالك العرش و ربّه و قيل: المراد من العرش الملك.

[يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و قيل: الروح القرآن و كلّ كتاب أنزله اللّه على نبيّ من أنبيائه و قيل: الروح الوحي هنا لأنّه يحيا به القلب أي يلقي الوحي على قلب من يشاء ممّن يراه أهلا له يقال: ألقيت عليه كذا أي فهّمته و قيل:

إنّ الروح جبرئيل يرسله اللّه بأمره و قيل: الروح هنا النبوّة.

[لِيُنْذِرَ] بما اوحي إليه [يَوْمَ التَّلاقِ أي لينذر اللّه الناس أو لينذر النبيّ الناس و قرئ بالتاء للخطاب للنبيّ أي لتنذر الناس العذاب يوم القيامة لأنّه يتلاقى فيه الأرواح

ص: 249

و الأجسام أو يلتقي في ذلك اليوم أهل السماء و أهل الأرض و قيل: يلتقي فيه الأوّلون و الآخرون و الخصم و المخصوم و قيل: يلتقي فيه الخالق و المخلوق عن ابن عبّاس يعني أنّه يحكم بينهم و قيل: يلتقي المرء و عمله و الكلّ مراد.

[يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ من قبورهم بدل من يوم التلاق أي خارجون من قبورهم و ظاهرون و لا يسترهم شي ء من جبل أو أكمة أو بناء لكون الأرض يومئذ قاعا صفصفا و ليس عليهم ثياب إنّما هم عراة مكشوفون كما جاء في الحديث: يحشرون عراة حفاة و يمكن أن يكون المعنى كونهم بارزين كناية عن ظهور أعمالهم و انكشاف أسرارهم كما قال تعالى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» (1).

[لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ] فيجازي كلّا بعمله إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ و نظيره قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» (2) فإن قيل: إنّ اللّه لا يخفى عليه منهم شي ء في جميع الأيّام فما معنى التقييد بذلك اليوم؟ لأنّهم كانوا يتوهّمون أنّ اللّه لا يراهم و يخفى عليه أعمالهم و هو غير عالم بالجزئيّات فهم في ذلك اليوم صائرون من الانكشاف و البروز إلى حال لا يتوهّمون فيها مثل ما يتوهّمونه في الدنيا قال: «وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» (3).

قوله: [لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ] و التقدير ينادي فيه لمن الملك و هذا النداء في أيّ الأوقات يحصل فيه قولان: الأوّل قال المفسّرون: إذا هلك كلّ من في السماوات و من في الأرض فيقول الربّ: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» يعني يوم القيامة و لا يجيبه أحد فهو تعالى يجيب نفسه فيقول: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» قال محمّد بن كعب القرظيّ: يقول اللّه ذلك بين النفختين حين يغني الخلائق كلّها و القول الثاني: أنّه تعالى يقول و ذلك يوم الطلاق يوم يبرز العباد من قبورهم فيقرّ المؤمنون و الكافرون بأنّه للّه الواحد القهّار.

و إنّما خصّ ذلك اليوم بأنّه له الملك لأنّه قد ملك العباد بعض الأمور في الدنيا و لا يملك أحد شيئا في ذلك اليوم لأنّه تعالى يملك جميع الأمور من غير تمليك مملّك

ص: 250


1- الطارق: 6.
2- الحاقة: 18.
3- حم السجدة: 22.

و قد أنكر بعض أنّ هذا النداء يقع وقت هلاك الكلّ بل قالوا: إنّ الآية لا تدلّ على حصول النداء في ذلك الوقت بل يقع يوم التلاق و يوم البروز و يوم تجزى كلّ نفس بما كسبت و الناس في ذلك الوقت أحياء بل يستفاد من الآية أنّ النداء يقع في يوم هم بارزون.

ثمّ إنّ الكلام لا بدّ فيه من فائدة و إنّما يحسن تكلّمه حال كون المتكلّم و حشره إمّا لأنّه يحفظ به شيئا كالّذي يكرّر على الدرس أو لأجل أنّه يحصل له سرور بما يقوله و يستلذّ به و كلّها في حقّ اللّه محال و لو ذكر في ذلك الوقت لأجل أن يعبد اللّه بذلك الذكر فذلك أيضا ممنوع لأنّه لا تكليف و لا مكلّف نعم يمكن أن يكون النداء وقت فناء البشر دون الملائكة فيكون في ذلك الوقت وقوع النداء لمصلحة من المصالح.

قوله تعالى: [الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ تجزى المحسن بإحسانه و المسي ء بإساءته و في الحديث إنّ اللّه تعالى يقول: أنا الملك الديّان لا ينبغي لأحد من أهل الجنّة أن يدخل الجنّة و لا لأحد من أهل النار أن يدخل النار و عنده مظلمة حتّى أقتصّه منه ثمّ تلا هذه الآية.

[لا ظُلْمَ الْيَوْمَ أي لا ظلم لأحد على أحد و لا ينقص من ثواب أحد و لا يزاد في عقاب أحد [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله محاسبة واحد عن محاسبة غيره.

قال القاضي: هذه الآية صريحة قويّة في إبطال قول المجبّرة لأنّه تعالى إذا خلق في الكافر الكفر ثمّ عذّبه عليه فهذا هو عين الظلم.

قوله: [سورة غافر (40): الآيات 18 الى 20]

وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

أمر سبحانه أن يخوّف المكلّفين يوم القيامة فقال:

[وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ] أي الدانية و هو يوم القيامة لأنّ كلّ ما هو آت دان قريب و يوم دنوّا المجازاة و الآزفة فاعلة من أزف الأمر إذا دنا و حضر و الآزفة نعت لمحذوف مؤنّث على تقدير يوم القيامة.

و يوم الآزفة يوم مسارعتهم دخول النار فإنّ عند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها

ص: 251

من شدّة الخوف و قيل: يوم الآزفة يوم حضور الموت و الّذي يدلّ على هذا المعنى أنّه تعالى وصف القيامة بأنّه يوم التلاق و يوم هم بارزون ثمّ قال: بعده «وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ» فوصف يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب و أيضا الصفات المذكورة بعد قوله، «يَوْمَ الْآزِفَةِ» لائقة بيوم حضور الموت.

و اختلفوا في أنّ المراد من قوله: «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ» كناية من شدّة الخوف أو هو محمول على ظاهره؟ قيل: كناية عن شدّة الخوف و قيل: بل هو محمول على ظاهره و القلوب تنتزع من مواضعها بسبب شدّة الخوف و يبلغ الحناجر حقيقة فلا تخرج فيموتوا و لا ترجع إلى مواضعها فيتنفّسوا و قوله: «كاظِمِينَ» أي مكروبين و الكاظم الساكت حال امتلائه غمّا و غيظا و هو حال عن أصحاب القلوب و القلوب كاظمة على غمّ و كرب مع بلوغها موضع الحنجرة. و أتى بلفظ جمع السلامة لأنّه وصف القلوب بالكظم الّذي هو من أفعال العقلاء كما قال: «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» (1) و قال: «فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» (2).

قوله تعالى: [ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ فبيّن سبحانه أنّه ليس لهم قريب ينفعهم و لا شفيع يطاع فيهم فنقبل شفاعته.

و هاهنا بحث و هو أنّ أكثر المعتزلة احتجّوا بهذه الآية في نفي الشفاعة على المذنبين. و أجاب أهل الجماعة بوجوه:

الأوّل أنّه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع و هذا لا يدلّ على نفي الشفيع ألا ترى أنّك إذا قلت: ما عندي كتاب يباع فهذا يقتضي نفي كتاب يباع و لا يقتضي نفي الكتاب و لفظ الطاعة يقتضي حصول المرتبة فهذا يدلّ على أنّه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه اللّه و معلوم أنّه ليس في الوجود أحد أعلى حالا من اللّه حتّى يقال: إنّ اللّه يطيعه.

ص: 252


1- يوسف: 4.
2- الشعراء: 4.

الوجه الثاني في الجواب أنّ المراد من الظالمين هاهنا الكفّار لأنّ الآية في بيان زجر الكفّار الّذين يجادلون في آيات اللّه فوجب أن يكون مختصّا بهم و معلوم أنّه لا شفاعة في حقّ الكفّار.

الثالث أنّ لفظ الظالمين إمّا أن يفيد الاستغراق و إمّا أن لا يفيد فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم و يدخل في المجموع الكفّار و سلّمنا أنّ الشفاعة غير حاصلة للكافر فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع و ان لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفا بهذه الصفة و معلوم أيضا أنّ بعض الموصوفين بهذه ليس لهم شفيع و هم الكافرون.

و أجاب المستدلّون عن الجواب الأوّل فقالوا: يجب حمل كلام اللّه تعالى على محمل مفيد و كلّ أحد يعلم أنّه ليس في الوجود شي ء يطيعه اللّه لأنّ المطيع أدون حالا من المطاع و ليس في الوجود شي ء أعلى مرتبة من اللّه حتّى يقال: إنّ اللّه يطيعه فكان حمل الآية عليه إخراجا لها عن الفائدة فوجب حمل الطاعة على الإجابة قال الشاعر:

ربّ من انضجّت غيظا صدره قد تمنّى لي موتا لم يطع

أي لم يجب.

و أمّا الجواب عن الجواب الثاني بأنّ لفظ الظالمين صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم أقصى ما في الباب أنّ هذه الآية وردت لذمّ الكفّار إلّا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فحينئذ إنّ قوله: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ» يفيد أنّ كلّ واحد من الظالمين محكوم عليه بأنّه ليس له حميم و لا شفيع يطاع.

و أجيبوا عن الردّ الأوّل بأنّ القوم كانوا يقولون في الأصنام: إنّها شفعاؤنا عند اللّه بغير إذن و لهذا السبب ردّ اللّه عليهم ذلك بقوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» فهذا يدلّ على أنّ القوم اعتقدوا أنّه يجب على اللّه إجابة الأصنام في تلك الشفاعة و هذا نوع طاعة فاللّه نفى تلك الطاعة بقوله: «ما لِلظَّالِمِينَ» الآية.

و أيضا أجيبوا عن الكلام الثاني بأنّ الأصل في حرف التعريف أن ينصرف المعهود السابق فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع و كان هناك معهود سابق انصرف إليه

ص: 253

و قد حصل في الآية معهود سابق و هم الكفّار الّذين يجادلون في آيات اللّه فوجب أن ينصرف إليه و عن الكلام بأنّ قوله: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ» يحتمل عموم السلب و يحتمل سلب العموم فعلى التقدير الأوّل يكون المعنى: إنّ كلّ واحد من الظالمين محكوم عليه بأنّه ليس له حميم و لا شفيع و أمّا على تقدير سلب العموم يكون المعنى: إنّ مجموع الظالمين ليس لهم حميم و لا شفيع فحينئذ لا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كلّ واحد من آحاد ذلك المجموع كما أنّ قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» إن حملناه على أنّ كلّ واحد منهم محكوم عليه بأنّه لا يؤمن لزم وقوع الخلف في الكلام لأنّ كثيرا ممّن كفر فقد آمن بعد ذلك أمّا لو حملناه على أنّ مجموع الّذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن صدق و يخلص عن الخلف فلا جرم حملت الآية على سلب العموم و لا نحملها على عموم السلب فكذا قوله: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ» يجب حمله على سلب العموم لا على عموم السلب فسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية.

أقول: و الحقّ أنّه نعم ما تدارك أهل الجماعة من الجواب في الردّ على المعتزلة في إثبات الشفاعة فكيف لا تكون الشفاعة لأنّه إن كان مراد كم أنّ الشفاعة لا ينال الظالم و الظالم بمعنى الكافر فهذا حكم متّفق عليه بيننا و بينكم و ليس فيه اختلاف و إن كان مرادكم أنّ الشفاعة لا تصيب لمن ظلم نفسه أو غيره بالمعصية و الذنوب فالآية ناطقة بأنّ الشفاعة تنال غير الكافر لقوله: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى دينه و المراد من المرضيّ الدين المسلم لأنّ الدين عند اللّه الإسلام فمن هو مرضيّ الدين بالإيمان فهو داخل في الشفاعة و أيضا الأخبار في حصول الشفاعة للنبيّ الأكرم مستفيضة و غير واحد بل هي حاصلة للمؤمنين كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادّخرت شفاعتي لأمّتي من أهل الكبائر انتهى.

قوله تعالى: [يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ] أي إنّه سبحانه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات و يعلم خيانة الأعين الخائنة و هو الرمز بالعين و الخائنة مصدر كالخيانة مثل الكاذبة و اللاغية بمعنى الكذب و اللغو و يعلم ما تخفي الصدور و مضمرات القلوب فحينئذ يعلم الأفعال الخفيّة من الجوارح فضلا عن الجليّة و أفعال

ص: 254

القلوب و الحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحدّ كان خوف المذنب منه شديدا جدّا و قيل: الخائنة صفة النظرة إلى ما لا يحلّ.

[وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِ و يوصل كلّ ذي حقّ إلى حقّه [وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الكفّار [مِنْ دُونِهِ من الأصنام [لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ] و لا ينفعون لأحد لا لشفاعة و لا غيرها لأنّها جمادات [إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] سميع بالمسموعات و بصير بالمبصرات.

قوله: [سورة غافر (40): الآيات 21 الى 25]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)

المعنى لمّا بالغ في الآيات السابقة في تخويف الكفّار بعذاب الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا ليعتبروا فقال:

[أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ و العاقل من اعتبر بغيره فإنّ الّذين مضوا من الكفّار قبلهم كانوا أشدّ قوّة من هؤلاء الحاضرين من الكفّار و أقوى آثارا في الأرض منهم و المراد حصونهم و قصورهم و عساكرهم فلمّا كذّبوا أنبياءهم أهلكهم اللّه بضروب الهلاك معجّلا فحذّرهم اللّه من مثل ذلك بهذا القول و قال: [وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ لمّا نزل العذاب بهم عند أخذه و لم يجدوا من يعينهم و يخلّصهم.

[ذلِكَ العذاب الّذي نزل بهم [بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات [فَكَفَرُوا] بها [فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ و أهلكهم عقوبة على كفرهم [إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ] الانتقام منهم.

ثمّ ذكر قصّة موسى و فرعون ليعتبروا بها فقال: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا] أي بعثناه بحججنا و دلالاتنا [وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و معجزة باهرة ظاهرة نحو قلب العصا حيّة

ص: 255

و فلق البحر [إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ كان موسى رسولا إلى كافّتهم إلّا أنّه خصّ فرعون لأنّه كان رئيسهم و كان هامان وزيره و قارون صاحب جنوده و كنوزه و الباقون تبع لهم و عطف السلطان على الآيات لاختلاف اللفظيّ تأكيدا و قيل: المراد بالآيات حجج التوحيد و العدل و بالسلطان المعجزات الدالّة على نبوّته.

[فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ مموّه فيما يدعو إليه [فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا] أي فلمّا أتاهم بالّدين الحقّ الّذي من عندنا و أمرهم بالتوحيد [قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي أمروا بقتل الذكور من قوم موسى لئلّا يكثر قومه و لا يتقوّى بهم و أمروا باستيقاء نسائهم للخدمة و هذا القتل غير القتل الأوّل لأنّه أمر بالقتل الأوّل لئلّا يولد منهم من يزول ملكه على يده ثمّ ترك ذلك فلمّا ظهر موسى و أظهر أمر نبوّته عاد إلى تلك العادة فمنعهم اللّه عنه بالدم و الضفادع و الطوفان و الجراد.

[وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ و معناه أنّ جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى فهو باطل لأنّ ما يفتح اللّه للناس من رحمة فلا ممسك لها.

ثمّ أخبر سبحانه عن نوع آخر من قبايح فرعون و قال:

[سورة غافر (40): الآيات 26 الى 30]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30)

المعنى: [وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى أي قال لقومه: اتركوني أقتله. و في الآية دلالة على أنّه كان في خاصّة قوم يشيرون عليه بأن لا يقتل موسى و يخوّفونه بأن يدعو ربّه فيهلك فلذلك قال فرعون: [وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ أي كما يقولون و ليستعن بدعائه

ص: 256

في دفع القتل عنه فإنّه لا يجي ء من دعائه شي ء، قاله عتوّا و تكبّرا و جرأة على اللّه و لعلّه كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى صادقا فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون من قتل موسى أو لعلّهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرّغ لتأديب أولئك الأقوام فإنّ من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجيّ حتّى يصيروا آمنين من شرّ ذلك الملك.

قوله: [إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ] أي إن لم أقتله يبدّل ما يعتقدونه من إلهيّتي أو أن يتبعه قوم و يحتاج الأمر إلى أن نقاتله فيخرب البلاد و قيل: إنّ مراده بقوله: «أن يظهر الفساد» أن يعمل بطاعة اللّه و يتركون قوله. فلمّا قال اللعين هذه الكلام استعاذ موسى عليه السّلام بربّه [وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ أي إنّي اعتصمت بربّي الّذي خلقني و ربّكم الّذي خلقكم من شرّ كلّ متكبّر على اللّه متجبّر عن الانقياد له لا يصدّق بيوم المجازاة.

و لمّا قصد فرعون قتل موسى و عظهم المؤمن من آل فرعون و هو قوله: [قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ في صدره علي وجه التقيّة قال الصادق عليه السّلام:

التقيّة من ديني و دين آبائي و لا دين لمن لا تقيّة له و التقيّة ترس اللّه في الأرض لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإيمان لقتل قال ابن عبّاس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره و غير امرأة فرعون و ذلك المؤمن هو الّذي أنذر موسى فقال: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» قال السدّيّ و مقاتل: كان الرجل ابن عمّ فرعون و كان آمن بموسى و هو الّذي جاء من أقصى المدينة يسعى و قيل: إنّه كان وليّ عهده بعده و كان اسمه حبيب و قيل: اسمه حزبيل.

قال الرجل: [أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ و المعجزات مثل العصا و اليد و غيرهما و قرئ رجل بكسر الجيم كما تقول: عضد في عضد.

[وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ و إنّما قال ذلك على وجه التلطّف و حاصل المعنى:

إن كان هذا الرجل كاذبا كان وبال كذبه عائدا عليه فاتركوه و إن كان صادقا [وَ إِنْ يَكُ

ص: 257

صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ قيل: إنّ موسى عليه السّلام كان يعدهم بالنجاة إن آمنوا و بالهلاك إن كفروا و لذا قال: «يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» لأنّهم إذا كانوا على أحد الحالين نالهم أحد الأمرين و ذلك بعض الأمر لا كلّه. و قيل: استعمل البعض في موضع الكلّ تلطّفا في الخطاب و توسّعا في الكلام و المراد الكلّ؛ قال الشاعر:

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته و قد يكون من المستعجل الزلل

و كأنّه قال: إن يك صادقا أقلّ ما فيه أن يصبكم بعض الّذي يعدكم و في ذلك البعض هلاككم قال عليّ بن عيسى إنّما قال: «بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» على المظاهرة في الحجاج أي إنّه يكفيكم بعضه فكيف بجميعه؟

فإن قيل: إنّه كان من الواجب أن يقال: و إن يك صادقا يصبكم كلّ الّذي يعدكم الّذي لأنّ الّذي يصيب في بعض ما يعدهم أصحاب الكهانة و النجوم أمّا الرسول الصادق الّذي لا يتكلّم إلّا بالوحي و هو صادق في كلّ ما يقول.

فالجواب هو الجواب الّذي ذكرنا و المراد أنّه لا حاجة بكم في دفع شرّه إلى القتل بل يكفيكم أن تعرضوا عن مقالته و تتركوا قتله فإن كان كاذبا فحينئذ لا يعود ضرره إلّا إليه و إن كان صادقا انتفعتم به. و فيه بيان و وجه آخر و هو أنّه عليه السّلام كان يتوعّدهم بعذاب الدنيا و بعذاب الآخرة فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الّذي يعدهم انتهى.

[إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يجوز أن يكون هذا حكاية عن قول المؤمن و يجوز أن يكون ابتداء كلام من اللّه و في الكلام بيان أنّ ما هم فيه من الملك و النعمة يقتضي الشكر للّه و الإيمان به و لا يهدي اللّه إلى جنّته و ثوابه من هو مسرف على نفسه و مجاوز عن الحدّ في المعصية كذّاب على ربّه.

ثمّ قال المؤمن: [يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا] لمّا بيّن المؤمن لهم أنّه لا يجوز الإقدام على قتل موسى و لا يجوز التكذيب على اللّه بادّعاء الإلهيّة خوّفهم بعذاب اللّه و بأسه فقال: أنتم اليوم قد علوتم الناس و لكم السلطنة في أرض مصر و ما والاها فلا تفسدوا أمركم و لا تتعرّضوا لبأس اللّه

ص: 258

و عذابه فإنّه لا قبل لكم به و إنّما قال: ينصرنا و جاءنا لأنّه كان يظهر من نفسه أنّه منهم و هو مناصح لهم و مشارك معهم.

و لمّا قال هذا الكلام [قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي لا أشير إليكم برأي سوى ما ذكرته أنّه يجب قتله حسما لمادّة الفتنة و دفعا له بالقتل [وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ] ثمّ حكى سبحانه أنّ المؤمن ردّ هذا الكلام على فرعون.

قوله: [وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ و اعلم أنّ فرعون لمّا قال: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى و كان المؤمن يكتم إيمانه و الّذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون فلهذا السبب حصل هاهنا قولان:

الأوّل أنّ فرعون لمّا قال: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى لم يصرّح المؤمن بأنّه على دين موسى بل أوهم أنّه مع فرعون و على دينه و لكنّه زعم أنّ المصلحة تقتضي ذلك و أظهر لفرعون هذا البيان لأجل المناصحة حيلة لتخليص موسى عن القتل و أوهم لفرعون أنّ مراده من المسرف الكذّاب يريد موسى و هو يريد فرعون.

و القول الثاني أنّه لمّا سمع من فرعون إرادة قتل موسى أزال الكتمان و أظهر دينه و شافه بالحقّ و قال: «يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ» أي عذابا مثل يوم الأحزاب.

و قيل: القائل لذلك موسى لأنّ مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه و هذا لا يصحّ لأنّه قريب من قوله: «أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا». و المراد بالأحزاب الأحزاب الّذي تحزّبوا على تكذيب أنبيائهم و اجتمعوا على مخالفة رسلهم و فسّرهم بقوله:

[سورة غافر (40): الآيات 31 الى 35]

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

ص: 259

الدأب العادة.

المعنى: إنّي أخاف عليكم مثل عادة الأوّلين من اللّه في [قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ] حين أهلكهم اللّه و استأصلهم جزاء على كفرهم، قد حذف المضاف في الآية و التقدير: مثل جزاء دأبهم [وَ] مثل [الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط، و الخوف بسبب هلاك معجّل في الدنيا ثمّ خوّفهم أيضا بهلاك الآخر و الحرمان من الجنّة و هو قوله: [وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ] و إنّما أوجبوا على أنفسهم العذاب و الحرمان بعنادهم و كفرهم و هو سبحانه غير ظالم لخلقه و إنّما هم ظلموا أنفسهم و استحقّوا العذاب و هو غير ظالم تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

قالت المعتزلة: إنّ هذه الآية صريحة دالّة على أنّه سبحانه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضا و تدلّ على أنّه سبحانه لا يريد ظلم أحد من العباد فلو خلق الكفر فيهم ثمّ يعذّبهم على ذلك الكفر لكان ظالما البتّة و إذا ثبت أنّه لا يريد الظلم ثبت أنّه غير خالق لأفعال العباد من السيّئات لأنّه لو خلقها لأرادها.

و بالجملة النوع الآخر من كلمات المؤمن [وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ] و التناد التفاعل من النداء يقال: تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضا و الأصل الياء و حذفت لدلالة الكسرة و حذف الياء حسن في الفواصل مثل يوم التلاق و هو يوم القيامة.

و السبب في التسمية أنّ في ذلك اليوم ينادي فيه بعض الظالمين بعضا بالويل و ينادي فيه أصحاب الجنّة ينادون أهل النار بأن قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا و كذلك أصحاب النار ينادون أصحاب الجنّة كما ذكر اللّه في سورة الأعراف «وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ» (1) الآية و يمكن أن يكون قوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (2) أو ينادي المؤمن «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» (3) و الكافر «يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ» (4) أو ينادي فيه باللعنة على الظالمين أو لأنّه يجاء الموت بصورة

ص: 260


1- الأعراف: 64.
2- الإسراء: 71. (3 و 4) الحاقة: 19 و 25.

كبش أملح ثمّ يذبح و ينادى يا أهل القيامة لا موت فيزداد أهل الجنّة فرحا على فرحهم و أهل النار حزنا على حزنهم.

و لكن قال أبو عليّ الفارسي: التنادي مشتقّ من التناد أصله من قولهم ندّ فلان إذا هرب و هو قول ابن عبّاس قال: يندّون كما يندّ الإبل و يؤيّد هذا المعنى قوله:

«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ» (1).

و قوله: [يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أيضا يؤيّد هذا القول لأنّهم إذا سمعوا زفير النار يندّون هاربين فلا يأتون قطرا من الأقطار إلّا وجدوا ملائكة صفوفا فيرجعون إلى المكان الّذي كانوا فيه.

ثمّ أكّد سبحانه التهديد بقوله: [ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ و مانع من عذابه [وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ] أي من يضلله اللّه عن طريق الجنّة فما له هاد يهديه إليها.

قوله: [وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ يمكن أن يكون هذا من بقيّة كلام مؤمن آل فرعون و يجوز أن يكون ابتداء كلام من اللّه هو يوسف بن يعقوب على أنّ فرعونه فرعون موسى أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد و قيل: المراد من يوسف سبطه و هو يوسف بن إفرائيم بن يوسف الصديق «مِنْ قَبْلُ» أي من قبل موسى بالبيّنات و الحجج الواضحة.

[فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من الدّين و ممّا يأمركم به من التوحيد [حَتَّى إِذا هَلَكَ يوسف و مات [قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا] ضمّا إلى تكذيب رسالة من بعده أو جزما بأن لا يبعث بعده رسولا مع الشكّ في رسالته و أقمتم على كفركم و ظننتم أنّ اللّه لا يجدّد لكم إيجاب الحجّة.

[كَذلِكَ أي مثل ذلك الضلال الفظيع [يُضِلُّ اللَّهُ عن طريق الجنّة و الثواب [مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ على نفسه كافر و مجاوز عن الحدّ و [مُرْتابٌ و شاكّ في التوحيد و النبوّات فالعبد ما لم يضلّ عن الدّين فإن اللّه لا يضلّه عن طريق الجنّة و الخير لأنّه سبحانه قال: إنّما أضلّهم عن طريق الجنّة لكونهم مسرفين في المعاصي مرتابين في دينهم.

ص: 261


1- عبس: 34.

ثمّ بيّن المسرفين و المرتابين فقال: هم [الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ و يسعون في دفع آيات اللّه و إبطالها بغير حجّة و دليل أتاهم [كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أي كبير ذلك الجدل و المخاصمة منهم بغضا و عداوة عند اللّه [وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا] باللّه و المعنى مقته اللّه و لعنه و أعدّ له العذاب و مقته المؤمنون و أبغضوه بذلك الجدال و أنتم جادلتم و خاصمتم في آيات اللّه مثلهم فاستحققتم ذلك.

[كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ] أي مثل ما طبع على قلوب أولئك بأن ختم عليها علامة لكفرهم يطبع و يفعل ذلك على كلّ مستكبر عن آيات اللّه و كلّ من يأنف على قبول الحقّ و لعلّ المراد من قوله: «عَلى كُلِّ قَلْبِ» أي على ذي قلب و المقت و الغضب و التعجّب و الحياء و أمثال هذه الصفات واجبه التأويل في حقّ اللّه تعالى و الكبر و أمثاله قد يضاف إلى القلب مثل قوله: «فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» و قال قوم:

الإنسان الحقيقيّ القلب.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 36 الى 40]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)

ثمّ بيّن سبحانه ما موّه فرعون على قومه لمّا وعظه المؤمن و خوّفه من قتل موسى [وَ قالَ فِرْعَوْنُ لوزيره: [يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً] أي قصرا مشيّدا بالآجرّ و قيل: مجلسا عاليا و الصرح البناء الظاهر الّذي لا يخفى على عين الناظر و إن بعد.

[لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ثمّ فسّر تلك الأسباب [أَسْبابَ السَّماواتِ أي لعلّي أبلغ بالأسباب الطرق من سماء إلى سماء و قيل: لعلّي أبلغ أسباب طرق السماوات أو منازل السماوات و أتوصّل بها إلى مرادي و إلى علم ما غاب عنّي من امور السماوات و السبب كلّ ما يتوصّل به إلى شي ء يبعد عنك [فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أي فأنظر إليه فأراه أراد

ص: 262

اللعين بهذا الكلام التلبيس على الضعفة مع علمه باستحالة ذلك أو من جهله اعتقد أنّ اللّه في السماء و إنّه يقدر على بلوغ السماء.

[وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً] أي إنّي أظنّ أنّ موسى كاذب في قوله: أنّ له إلها غيري و هو مرسل إلينا و العجب أنّ اليهود الباحثين عن تواريخ بني إسرائيل و فرعون قالوا:

إنّ هامان ما كان موجودا في زمان موسى و فرعون و إنّما جاء بعدهما بزمان مديد فصدّقوا تاريخهم و كذّبوا القرآن مع أنّهم مقرّون بأنّ أحوالهم اضطربت بسبب غلبة بخت نصّر على ملكهم حتّى ضيّع توراتهم سيّما قد طال العهد بتاريخ أحوالهم فكيف يبقى اعتماد بمثل هذا التاريخ حتّى ينسب الصدق إلى التاريخ المشوّش و الكذب إلى القرآن تعالى كلامه عن الكذب علوّا كبيرا.

و بالجملة لمّا حكى اللّه سبحانه عن فرعون هذه المقالة قال بعدها: [وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ و قرئ «وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ» مجهولا و معلوما أي و مثل ما زيّن لهؤلاء الكفّار سوء أعمالهم زيّن لفرعون سوء عمله و قبيح فعله و إنّما زيّن له ذلك أصحابه و جلساؤه و زيّن له الشيطان كما قال: «وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ»* (1) و امتنع عن سبيل الحقّ بسوء اختياره و كفره أو صدّ غيره عن الإيمان على المعلوميّة.

[وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي و ما كيد فرعون في إبطال آيات موسى إلّا في هلاك و خسار لا ينفعه و قرأ صاحب الكشّاف «زيّن له سوء عمله» على المعلوم فالمزيّن هو الشيطان و سوء العمل بخلاف ما قاله المجبّرة.

[وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ] ثمّ عاد الكلام إلى ذكر نصيحة آل فرعون و الكلام من بقيّة كلام الّذي آمن من آل فرعون و قد كان يدعوهم إلى الإيمان بموسى و قيل: إنّ القائل موسى يا قوم اتّبعوني حتّى تهتدون طريق الحقّ و هو الإيمان باللّه فقال ابتداء على سبيل الإجمال: «يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ».

ثمّ بيّن على سبيل التفصيل و بيّن حال حقارة الدنيا و عظّم كمال حال الآخرة

ص: 263


1- الانعام: 43.

فقال: [يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي يستمتع بهذه الحياة الدنيا في أيّام قلائل ثمّ تنقطع و تزول [وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ] و البقاء و الدوام خيرا من المنقضي قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبا فانيا و الآخرة خزفا باقيا كانت الآخرة خير من الدنيا فكيف و الدنيا خزف فان و الآخرة ذهب باق و كما أنّ النعيم في الآخرة باق فكذلك العذاب فيها دائم و الترغيب وقع في قوله بالنعيم الدائم و الترهيب عن العذاب الدائم و هو من أقوى وجوه الموعظة.

ثمّ بيّن حصول الجزاء في الآخرة ثوابا كان أو عقابا فقال: [مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها] و المراد بالمثل ما يقابلها في الاستحقاق.

فإن قيل: كيف يصحّ هذا الكلام مع أنّ كفر ساعة يوجب عقاب الأبد؟

قلنا: إنّ الكافر يعتقد في كفره كونه طاعة و إيمانا فلهذا السبب يكون الكافر على عزم أن يبقى مصرّا على الكفر أبدا فلا جرم كان عقابه مؤبّدا بخلاف الفاسق فإنّه يعتقد فيه كونه خيانة و معصية فيكون على عزم أن لا يبقى مصرّا عليه فلا جرم يكون عقاب الفاسق منقطعا و العزم على الإتيان بها أيضا ليس دائما فوقعت المماثلة و هذه الآية أصل كبير في علوم الشريعة فوجب رعاية المماثلة في الأحكام إلّا في مواضع التخصيص كما أنّ هذا الأصل جار في الأحكام الكثيرة مثل باب الجنايات على النفوس و على الأعضاء و على الأموال و على العبادات.

فلمّا بيّن أنّ جزاء السيّئة مقصور على المثل بيّن أنّ جزاء الحسنة غير مقصور على المثل بل هو خارج عن الحساب فقال: [وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ و فيه إشارة إلى أنّ جانب الرحمة غالب على جانب العقاب و قوله: «وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً» نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فمعنى الآية: إنّ كلّ من عمل صالحا و كان مواظبا على التوحيد و لم يخرج من حدّ الإيمان فإنّه يدخل الجنّة و يرزق فيها بغير حساب أي زيادة على ما يستحقّونه تفضّلا من اللّه و لو كان على مقدار العمل فقط لكان بحساب و لكنّ المعتزلة تقول:

إنّ صاحب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن و لا يدخل في هذا الوعد.

ص: 264

قوله تعالى:

[سورة غافر (40): الآيات 41 الى 46]

وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)

ثمّ استأنف ذلك المؤمن و نادى:

[يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ] أي أنا أدعوكم إلى الإيمان الّذي يوجب النجاة [وَ تَدْعُونَنِي إِلَى الكفر الّذي يوجب [النَّارِ] و معنى «ما لِي» أي مالكم كما يقول الرجل: مالي أراك حزينا معناه مالك حزينا.

ثمّ فسّر الدعوتين بقوله: [تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ و لا يجوز حصول العلم به إذ لا يجوز قيام الدلالة على إثبات شريك للّه لا من طريق السمع و لا من طريق العقل [وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ] أي إلى عبادة القادر الّذي يعذّب و يغفر.

قوله: [لا جَرَمَ أي لا قطع و لا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام و لا تزال باطلة و لا ينقطع ذلك فينقلب حقّا و حاصل معنى «لا جَرَمَ» في الآية أي كما أنّ معنى لا بدّ لك أن تفعل كذا أنّه لا بدّ لك من فعله فكذلك لا جرم أنّ دعوتهم باطلة و غير حاصلة و لا قطع لذلك و أنّهم أبدا يستحقّون النار و لا انقطاع لاستحقاقهم أو بمعنى كسب بمعنى أنّه ما كسب من دعوة الأصنام إلّا ظهور بطلان الدعوة و الأوثان الّتي تدعونني إلى عبادتها ليس لها دعوة في الدنيا و لا في الآخرة لأنّها جمادات و الجمادات لا تدعو أحدا إلى عبادة نفسها أو ليس لها استجابة دعوة في الدنيا و لا في الآخرة فسمّيت استجابة الدعوة بالدعوة.

ثمّ قال: [وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ و ارتجاعنا إلى اللّه و إنّ هذه الأصنام لا فائدة

ص: 265

فيها البتّة و أيّ عاقل يترك عبادة اللّه الّذي هو قادر على كلّ شي ء و يعبد ما لا يدعو و لا يستجيب و لا يسمع و لا يبصر و لا ينفع و لا يضرّ؟

[وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ] قال قتادة: يعني المشركين و قال مجاهد:

السفّاكين للدماء أي و وحب أنّ المسرفين الّذين أسرفوا على أنفسهم بالشرك و سفك الدماء بغير حقّها إنّهم يلازمون النار.

و قال لهم على وجه التخويف و الموعظة [فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ أي فستعلمون صحّة ما أقول لكم إذا حصلتم يوم القيامة في العذاب أو المعنى فستذكرون عند نزول العذاب بكم صحّة ما قلته لكم من النصيحة.

[وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ و أتوكّل عليه و أسلّم له أمري و الأمر اسم جنس [إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ] عالم بأحوالهم و يستنبط من هذا الكلام أنّ مؤمن آل فرعون قد هدّد بأمر يخافه و إنّما تعلّم هذه الطريقة من موسى عليه السّلام فإنّ فرعون لمّا خوّفه بالقتل قال: «إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ» و هذا آخر كلام مؤمن آل فرعون.

قوله تعالى: [فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا] أي صرف اللّه عنه سوء مكرهم فنجامع موسى حتّى عبر البحر معه و قيل: إنّهم همّوا بقتله فهرب إلى جبل فبعث فرعون رجلين في طلبه فوجداه قائما يصلّي و حوله الوحوش صفوفا فخافا و رجعا هاربين و قيل:

المراد من قوله: «فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا» أنّهم قصدوا إدخاله في الكفر فوقاه اللّه عن ذلك لكنّ القول الأوّل أليق لأنّ قوله: [وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ يؤيّد معنى الأوّل أي أحاط بهم الغرق في البحر أو المراد النار المذكورة في قوله: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها» قال الزجّاج: النار بدل من قوله: «سُوءُ الْعَذابِ».

[النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا] أي يعرض آل فرعون على النار في قبورهم صباحا و مساء و الآية تقتضي عرض النار عليهم غدوة و عشيّا من قولهم: عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به و ليس المراد منه يوم القيامة لأنّه قال: [وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ و ليس المراد أنّ هذا العرض في الدنيا فثبت أنّ هذا العرض

ص: 266

إنّما حصل بعد الموت و قيل: يوم القيامة و ذلك يدلّ على إثبات عذاب القبر في حقّ هؤلاء و إذا ثبت في حقّهم ثبت في حقّ غيرهم لأنّه لا قائل بالفرق لأنّ حصول هذا العذاب إنّما وقع على آل فرعون لجحودهم و كفرهم فالعذاب أيضا حاصل كما أنّهم احتجّوا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر و المراد من الغداة و العشيّ مع أنّ في القبر ليس لهم غداة و عشيّ وقت الغداة و العشيّ أي في مثل هذا الزمانين تعرض النار عليهم فيعذّبون بها و يمكن أن يكون المعنى و المراد دوام العذاب و كناية عن ثبوته كقوله: «وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا» (1).

و عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشيّ إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة و إن كان من أهل النار فمن النار يقال له: هذا مقعدك حين يبعثك اللّه يوم القيامة أورده البخاريّ و مسلم في الصحيح و قال أبو عبد اللّه ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة لأنّ في نار القيامة لا يكون غدوّ و عشيّ و لكن هذا في نار البرزخ قبل يوم القيامة.

قوله: [أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ و هذا الأمر لآل فرعون بالدخول أو أمر للملائكة بإدخالهم في جهنّم باختلاف القراءة في القطع و الوصل في باب الفعل.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 47 الى 50]

وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)

المعنى: لمّا انجرّ الكلام إلى شرح أحوال النار ذكر عقيبها المناظرات الّتي تجري بين الرؤساء و الأتباع من أهل النار فقال سبحانه:

[وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ أي فاذكر يا محمّد لقومك الوقت الّذي يتخاصم الرؤساء و الأتباع [فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ] و هم الأتباع [لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا] و هم الرؤساء [إِنَّا كُنَّا لَكُمْ معاشر

ص: 267


1- مريم: 62.

الرؤساء [تَبَعاً] و كنّا نمتثل أمركم و نجيبكم إلى ما تدعوننا إليه [فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ] لأنّه من شأن الرئيس الدفع عن أتباعه فهل أنتم حاملون عنّا قسطا من النار و العذاب الّذي نحن فيه؟

[قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها] أي نحن و أنتم في النار و مجتمعون فيها [إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ] بذلك و بأن لا يتحمّل أحد عن أحد و إنّه يعاقب من أشرك به و عبد معه غيره لا محالة فلو قدرنا على إزالة العذاب عنكم لدفعناه عن أنفسنا ثمّ عند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزنة جهنّم.

[قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ فيستغيثون بخزنتها [ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ فتقول الملائكة لهم: [أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أو لم تكن القصّة و الحال تأتيكم رسلكم بالحجج على صحّة التوحيد فكفرتم و عاندتم حتّى استحققتم هذا العذاب [قالُوا بَلى جاءنا الرسل و البيّنات فكذّبناهم و جحدناهم نبوّتهم [قالُوا] أي قالت الخزنة: [فَادْعُوا] أنتم فإنّا لا ندعو إلّا بإذن و لم يؤذن لنا فيه و قيل: فادعوا بالويل و الثبور [وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع لأنّه لا ينفع و الفاء في قوله: «فَادْعُوا» فصيحة مثل قوله: فقد جئنا خراسانا.

و المراد من الملائكة حيث قالوا للكفّار: فادعوا إقناط الكفّار عن الإجابة لأنّهم يعلمون أنّ هذا الدعاء و إجابته ليس في حيّز الإمكان و ليس مراد الملائكة إطماع الكفّار في الاستجابة.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 51 الى 55]

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (55)

في النظم لمّا ذكر سبحانه وقايته لموسى عليه السّلام و ذلك المؤمن من مكر فرعون عقّبه ببيان أنّه تعالى ينصر رسله و المؤمنين فقال:

[إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا] أي إنّ شأننا المستمرّ أن ننصر رسلنا و أتباعهم [فِي الْحَياةِ

ص: 268

الدُّنْيا] تارة بالانتقام و الظفر عليهم و تارة بالعذاب الاستيصال على أعدائهم و تارة بالحجّة و الدلائل و لا يقدح في ذلك ما قد يتّفق لهم من صورة الغلبة للكفّار امتحانا إذ العبرة إنّما هي بالعواقب.

[وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ] أي يوم يقوم القيامة عند جمع الأوّلين و الآخرين و المراد «بالأشهاد» كلّ من يشهد أعمال العباد في ذلك اليوم من ملك و نبيّ و مؤمن قال المبرّد:

يجوز أن يكون واحد الأشهاد شاهد كأطيار و طائر و يجوز أن يكون واحد الأشهاد شهيد كأشراف و شريف و أيتام و يتيم.

[يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] و قرئ بالتاء «لا تنفع» المعنى إنّ ذلك اليوم كما أنّه حصلت النصرة و السعادة للرسل و المؤمنين حصلت الشقاوة للظالمين بأمور ثلاثة أحدها لا يقبل منهم عذر و الثاني أنّ اللعنة مقصورة عليهم و هي الإهانة و الإذلال و اليأس و الثالث سوء الدار و هو العقاب الشديد.

فإن قيل: إنّ قوله: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ» يدلّ على أنّهم يذكرون الأعذار إلّا أنّ الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا و بين قوله: «وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» (1).

فالجواب أنّ قوله: «لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ» لا يدلّ على أنّهم ذكروا الأعذار بل يدلّ على أنّ عذرهم غير مقبول و لا يدلّ على أنّهم ذكروا أم لم يذكروا. ثمّ إنّ يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت و لا يعتذرون في وقت.

قوله: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى الآية و لمّا ذكر نصرة الرسل و المؤمنين ذكر نوعا من أنواع النصرة بإتيان موسى التوراة و المراد ما آتاه اللّه من العلوم الكثيرة النافعة في الدنيا و الآخرة و النبوّة الّتي هي أعظم المناصب.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي و أورثنا من بعد موسى بني إسرائيل التوراة و ما فيه هداية و دلالة يعرفون بها معالم دينهم و تذكير لأهل العقل لأنّهم الّذين يتمكّنون من الانتفاع به دون من لا عقل له و توارثوه خلفا عن سلف و يمكن أن يكون المراد من الكتاب الكتب

ص: 269


1- المرسلات: 36.

الّتي أنزلها اللّه على أنبياء بني إسرائيل التوراة و الزبور و الإنجيل و الفرق بين الهدى و الذكرى أنّ الهدى ما يكون دليلا على الشي ء و ليس شرطه أن يذكر شيئا آخر كان معلوما ثمّ صار منسيّا و أمّا الذكرى فهي الّذي يكون كذلك فكتب السماويّة كلّها مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها و بعضها مذكّرات.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [فَاصْبِرْ] يا محمّد و تحمّل المشاقّ في تكذيبهم إيّاك و احتمل أذى قومك [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ أي ما وعدك من النصر في الدنيا و الثواب في الآخرة فاللّه ناصرك كما نصرهم تمّ أمره بأن يقبل على طاعة اللّه النافعة في الدنيا و الآخرة.

و اعلم أنّ مجامع الطاعات محصورة في قسمين: التوبة عمّا لا ينبغي و الاشتغال بما ينبغي و الأوّل مقدّم على أنّ التخلية مقدّمة على التحلية بحسب الرتبة الذاتيّة فوجب أن يكون مقدّما في الذكر و لو أنّ المراد امّته لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما صدر عنه مكروه فضلا من غير جائز.

أمّا التوبة عمّا لا ينبغي فهو قوله تعالى: [وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ و المقصود التأدّب و التعبّد من اللّه في حقّه لمزيد الدرجات، و لتصير سنّة لمن بعده و لإظهار خضوعه في العبوديّة لا أنّه صدر منه الذنب بل تعليم للدعاء و الاستغفار.

و أمّا الاشتغال بما ينبغي فهو قوله: [وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ] و التسبيح عبارة عن كلّ ما لا يليق به و العشيّ و الأبكار قيل: صلاة العصر و صلاة الفجر و قيل: المراد من العشيّ من النصف إلى آخر النهار و الأبكار عبارة عن أوّل النهار إلى النصف و قيل: المراد طرفي النهار و قيل: الأبكار من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس قال ابن عبّاس: يريد صلوات الخمس و قيل: المراد من الآية صلّ لهذين الوقتين إذا كان الواجب بمكّة ركعتين بكرة و ركعتين عشيّا.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 56 الى 59]

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لا الْمُسِي ءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)

ص: 270

لمّا ذكر في أوّل السورة حال المجادلين و المكذّبين بآيات اللّه و اتّصل البعض بالبعض في النسق نبّه سبحانه في هذه الآية على الداعية الّتي تحمّل أولئك الكفّار على المجادلة فقال:

[إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ] حجّة و دليل إنّما يحملهم على هذا الجدال الباطل الكبر الّذي في صدورهم و هو يحملهم على الباطل و ذلك الكبر هو أنّهم لو سلّموا نبوّتك لزمهم أن يكونوا تحت أمرك و نهيك و في صدورهم كبر لا يرضون أن يكونوا تحت يدك.

ثمّ قال: [ما هُمْ بِبالِغِيهِ أي إنّهم يريدون أن لا يكونوا تحت يدك و طاعتك لكن لا يصلون إلى هذا المراد بل لا بدّ و أن يصيروا تحت أمرك و نهيك.

ثمّ قال: [فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي فالتجئ إليه من كيد من يجادلك [إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بما يقولون أو تقول [الْبَصِيرُ] بما تعمل و يعملون.

قوله تعالى: [لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ و تقرير هذا الكلام أنّ الاستدلال بالشي ء على غيره على ثلاثة أقسام أحدها أن يقال: لمّا قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى و هذا فاسد و ثانيها أن يقال: لمّا قد على الشي ء قدر على مثله فهذا صحيح لما ثبت في العقول أنّ حكم الشي ء حكم مثله و ثالثها أن يقال: لمّا قدر على الأقوى الأكمل فبأن يقدر على الأقلّ الأرذل كان أولى و هذا الاستدلال في غاية الصحّة و القوّة.

ثمّ إنّ هؤلاء القوم يسلّمون أنّ خالق السماوات و الأرض هو اللّه و يعلمون بالضرورة أنّ خلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الناس فكان من حقّهم أن يقرّوا بأنّ القادر على خلق السماوات و الأرض يكون على إعادة الإنسان الّذي خلقه بدوا و أوّلا فهذا برهان جليّ في إفادة المطلوب و مع ذلك أكثرهم لا يعقلون و لا يعلمون.

و لمّا بيّن سبحانه بهذا التقرير الجدال المقرون بالبرهان و الجدال المقرون بالكبر و الجهل فرّق بين البابين بذكر المثال فقال: [وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ]

ص: 271

أي ما يستوي المهتدي و الضالّ و المستدلّ و الجاهل [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لَا الْمُسِي ءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ قرئ بالياء و التاء أي و كذلك لا يستوي المؤمنون العاملون الصالحون و لا الكافر الفاسق في الكرامة و الإهانة فذلك يستحقّ الكرامة و هذا يستحقّ الإهانة و مع ذلك قليلا يتذكّرون الناس و قلّ نظرهم فيما ينبغي لهم و ما مزيدة مؤكّدة أو مصدريّة فيكون تقديره قليلا تذكّرهم.

قوله تعالى: [إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها] و لمّا قرّر سبحانه الدليل على إمكان وجود القيامة أخبر وقوعها فقال: إنّها آتية من غير ريب [وَ لكِنَ أكثرهم لا يصدّقون بها لقصور أنظارهم على ظواهر ما يحسّون به و لجهلهم و شكّهم بإخبار اللّه.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): آية 60]

وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)

. و لمّا قرّر سبحانه القول بالقيامة بأنّه حقّ و صدق و كان من المعلوم أنّ الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلّا بطاعة اللّه و لمّا كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء و التضرّع و المسألة أمر اللّه به بقوله: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إذا اقتضت المصلحة إجابتكم و كلّ من يسأل اللّه شيئا و يدعوه فلا بدّ أنّ يشترط المصلحة في ذلك و هذا القيد مضمر في الكلام و إلّا يلزم أن يصدر منه قبيح تعالى عن ذلك لأنّه ربّما كان داعيا بما يكون فيه مفسدة.

و قيل: معنى «ادْعُونِي» أي اعبدوني بدليل أنّه قال بعده: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي» و لو لا أنّ الأمر بالدعاء أمر بمطلق العبادة لما بقي لقوله: «إِنَّ الَّذِينَ» معنى و أيضا الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً» و أجيب عنه بأنّ الدعاء هو اعتراف بالعبوديّة و الذلّ و المسألة فكأنّه قيل:

إنّ تارك الدعاء إنّما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبوديّة و أيضا أجيب عن قوله:

إنّ الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن بأنّ ترك الظاهر لا يصار إليه إلّا بدليل منفصل فحينئذ المعنى على ظاهره و هو معنى الدعاء.

فلو قيل: إنّكم قلتم قد شرط المصلحة في الإجابة فإذا كانت الإجابة مصلحة فما هو فيه صلاح فهو سبحانه يفعله سواء دعوتم أو لا تدعون فلا فائدة في الدعاء.

ص: 272

فالجواب أنّ الدعاء هو اعتراف بالعبوديّة و محقّق معناها فلو كانت الإجابة ممتنعة لعدم المصلحة فإيقاع العبوديّة حاصلة و هو أصل المطلوب.

و في المسألة بيان آخر و هو أنّه سبحانه قال: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» و لعلّ العبد يدعو بدعاء ليس فيه أمر يقتضي عدم المصلحة في الحكمة و ليس فيه أمر يقتضي إيجابه وجوبا في الحكمة مثل أن يدعو أمرا ينفعه و لا يكون فيه ضرر في الحكمة لكن لا يستجاب لأنّه ما دعى اللّه بالقلب بل دعاه باللسان لأنّ من دعا اللّه و في قلبه ذرّة من الاعتماد على ماله و جاهه و أصدقائه و جدّه و اجتهاد فهو ما دعا اللّه في الحقيقة خالصا و في الجملة في تحصيل ذلك المطلوب معوّل على غير اللّه فلذلك لا يستجاب له.

في الكافي عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: هو الدعاء و أفضل العبادة الدعاء عنه عليه السّلام إنّه سئل أيّ العبادة أفضل فقال: ما من شي ء أفضل عند اللّه من أن يسأل يطلب ما عنده و ما أحد أبغض إلى اللّه عزّ و جلّ ممّن يستكبر عن عبادته و لا يسأل ما عنده.

و عن الصادق عليه السّلام ادع و لا تقل: قد فرغ من الأمر فإنّ الدعاء هو العبادة إنّ اللّه يقول و تلا هذه الآية و في الصحيفة السجّاديّة بعد ذكر هذه الآية: فسمّيت دعاءك عبادة الشرك استكبارا و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين.

و روى معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه: جعلني اللّه فداك ما تقول في رجلين دخلا المسجد و كان أحدهما أكثر صلاة و الآخر أكثر دعاء فأيّهما أفضل قال: كلّ حسن قلت: قد علمت و لكن أيّهما أفضل قال عليه السّلام: أكثرهما دعاء أما تسمع قول اللّه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» و قال: هي العبادة الكبرى.

و روى زرارة عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: هو الدعاء و أفضل العبادة الدعاء.

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه البيانات و هذه الرواية عن رسول اللّه حكاية عن؟؟؟ العزّة إنّه تعالى قال: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما اعطي السائلين؟؟؟ إنّ العبد إذا كان مستغرقا في ثناء اللّه و آلائه بحيث يمنعه ذلك الاستغراق و التذكّر؟؟؟ المسألة ذلك أفضل أقسام العبادة و الدعاء و هو حقيقة الدعاء و الدعاء غير منفكّ عنه

ص: 273

النهاية إنّ المستغرق لا يطلب و لا يسأل حظّا غير هذا الحظّ العظيم انتهى.

[سورة غافر (40): الآيات 61 الى 65]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)

و لمّا أمر اللّه الناس بالدعاء فلا بدّ و أن يكون الداعي مسبوقا بحصول المعرفة فذكر في هذه الآية الدلائل على وجوده و قدرته فذكر من الدلائل الآفاقيّة و الفلكيّة مثل تعاقب الليل و النهار فقال:

[اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ معاشر الخلق [اللَّيْلَ و هو ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر [لِتَسْكُنُوا فِيهِ في وقت الليل و تستريحون من كدّ النهار و تعبه [وَ النَّهارَ مُبْصِراً] أي و جعل لكم النهار مضيئا تبصرون فيه مواضع حاجاتكم و لو لا الإبصار لما حصل مكنة التصرّف في الأمور على الوجه الأنفع كما أنّ لو لا السكون في الليل لما تخلّصت الأعضاء من الإعياء و الليل بارد رطب فبرودته و رطوبته يتداركان ما حصل في النهار من الحرارة و الجفاف بسبب ما حدث من كثرة الحركات.

فإن قيل: إنّ الموافق لرعاية البيان أن يقال: «لتبصروا» كما قال: «لِتَسْكُنُوا» و أيضا فما الحكمة في تقديم ذكر الليل مع أنّ النهار أشرف من الليل؟

فالجواب أنّ الليل و النوم في الحقيقة طبيعة عدميّة في الجملة فهو غير مقصود لأنّ الظلمة طبيعة عدميّة و النور طبيعة وجوديّة و العدم في المحدثات مقدّم على الوجود كما قال سبحانه: «وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ». و أمّا الجواب عن صيغة الاسم قال الشيخ عبد القاهر النحويّ في دلائل الإعجاز: إنّ دلالة صيغة الاسم على الكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في هذا البيان.

و بعد أن شرح سبحانه هاتين النعمتين من المصالح قال: [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى

ص: 274

النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ و نظيره قوله: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (1) و قال إبليس: «وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» (2).

و لمّا بيّن اللّه الدلائل المذكورة على وجوده و قدرته قال: [ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] قال صاحب الكشّاف: ذلكم المعلوم المميّز بالأفعال الخاصّة الّتي لا يشاركه أحد فيها هو اللّه ربّكم خالق كلّ شي ء خبار مرادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهيّة و الربوبيّة و الخلق و أنّه لا ثاني له [فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي أنّى تصرفون و لم تعدلون عن هذه الدلائل و تكذّبون بها و معنى «أنى» كيف.

ثمّ قال: [كَذلِكَ أي مثل ما صرف و أفك و انقلب هؤلاء [يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ و مثل ذلك الإفك العجيب الّذي لا وجه له يؤفك كلّ من جحد بآياته و يؤفك كما أفكوا و هم من تقدّمهم من الكفّار صرفهم أكابرهم و رؤساؤهم.

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الدليل على توحيده فقال: [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً] مستقرّا تستقرّون فيها و هي منزلكم في حال الحياة و بعد الممات [وَ السَّماءَ بِناءً] كالقبّة المضروبة على الأرض قائمة ثابتة و إلّا لوقعت علينا و جعل السماء مرتفعا و لو جعلها رتقا مع الأرض لما أمكن الانتفاع للخلق بما بينهما.

[وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ لأنّ صورة بني آدم أحسن صور الحيوان قال ابن عبّاس:

خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل بيده و يتناول بيده و غيره يأكل بفيه بادي البشرة و لذلك سمّي بشرا منتصب القامة متناسب الأعضاء متهيّئين لاكتساب الصنائع و الكمالات.

[وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لأنّه ليس شي ء من الحيوان له طيّبات المآكل و المشارب مثل ما خلق اللّه سبحانه لابن آدم لأنّ له أنواع الطيّبات و اللذّات من الثمار و فنون النبات و اللحوم و الدسوم بما لا يحصى كثرة.

[ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي خالق هذه الأشياء و المنعوت بهذه النعوت ربّكم [فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي جلّ اللّه و إنّه الدائم الثابت الّذي لم يزل و لا يزال.

ص: 275


1- سبأ: 13.
2- الأعراف: 16.

[هُوَ الْحَيُ على الإطلاق من غير علّة و سبب و فاعل المتفرّد بالحياة الذاتيّة [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] إذ لا موجود يدانيه في ذاته و صفاته و أفعاله [فَادْعُوهُ و لا تدعوا غيره و اعبدوه [مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ في دعائه و عبادته خاصّة من غير أن تشاركوا معه أحدا في العبادة و الدعاء [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال الفرّاء: و هو خبر و في الكلام إضمار أي احمدوه على هذه النعم و قولوا: الحمد للّه ربّ العالمين أو المعنى اعبدوه مخلصين له الدين قائلين الحمد للّه ربّ العالمين عن ابن عبّاس قال: من قال: لا إله إلّا اللّه فليقل على أثرها الحمد للّه ربّ العالمين يريد قول اللّه: مخلصين له الدين الحمد للّه ربّ العالمين.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 66 الى 70]

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه فقال:

[قُلْ يا محمّد: [إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ] معبودكم الّذين تعبدونهم فأدّب المشركين بألين قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان و بيّن أنّ وجه النهي في ذلك ما جاءه من البيّنات من صفات القدرة و الخلق و الرزق و صريح العقل يحكم بأنّ العبادة لا يليق إلّا لمن هو موصوف بهذه و أنّ جعل المنحوتة و الخشب المصوّرة شركاء له في المعبوديّة مستنكر في بداهة العقل.

[وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي أستسلم لأمر ربّ العالمين الّذي يملك تدبير الخلائق و العوالم.

ثمّ عاد في ذكر الأدلّة فقال: [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ خلق أصلكم من تراب و أنتم نسله و تنتمون إليه أو أنّ مادّة نطفكم من التراب لأنّ مادّة النطفة من الغذاء و الغذاء إمّا من الحيوان أو من النبات و كلاهما من التراب [ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ] أي ثمّ أنشأ من ذلك الأصل الّذي كان مخلوقا من التراب النطفة و هي الماء القليل من الرجل و المرأة [ثُمَّ مِنْ

ص: 276

عَلَقَةٍ] و هي قطعة من الدم ثمّ بعد كونه علقة مراتب إلى أن ينفصل من بطن امّه و ترك ذكرها لأجل أنّه ذكرها في سائر الآيات.

[ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا] أي أطفالا و الطفل للواحد و الجماعة قال اللّه تعالى: «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» (1) [ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ و هاهنا تقدير أي يبقيكم لتبلغوا أشدّكم و تكملوا [ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً] بعد ذلك.

[وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أن يصير شيخا و من قبل أن يبلغ أشدّه [وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى و ليبلغ كلّ واحد منكم ما سمّي له من الأجل الّذي يموت عنده يفعل ذلك و قيل: هذا للقرن الّذي يقوم عليهم القيامة و الأجل المسمّى هو القيامة على هذا القول [وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تعتبرون و تعرفون خالقكم و معبودكم.

[هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ أي من خلقكم من تراب على هذه الأوصاف المذكورة و أحياكم هو الّذي يميتكم فأوّلكم من تراب و آخركم إلى تراب [فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي يفعل ذلك من غير أن يتعذّر عليه و يمتنع له أمر أراده و حكم عليه فهو بمنزلة ما يقال له كن فيكون لأنّه يخاطب المعدوم بالتكوّن في عالم الأمر.

فاستدلّ سبحانه بهذه الصفات على كمال القدرة و عبّر عن الإحياء و الإماتة بقوله:

«كُنْ فَيَكُونُ» أي الانتقال من كونه ترابا إلى نطفة إلى كونه علقة و عظاما في هذه الانتقالات بحسب الحكمة تحصل على التدريج قليلا قليلا و أمّا تعلّق جوهر الروح به فذلك يحدث دفعة واحدة و إنّ تلك المراتب من عالم الخلق و هذه المرتبة من عالم الأمر فلذلك وقع التعبير عنه بقوله: «كُنْ فَيَكُونُ».

قوله تعالى: [أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني المشركين الّذين يخاصمون في إبطال حجج اللّه كيف يقلبون عن الطريق المستقيم إلى الضلال ثمّ قال هدّدهم سبحانه بالّذين كذّبوا بالقرآن و جحدوه و لم يقلبوا ما في كتب رسلنا و كذّبوهم بأنّ عن قريب

ص: 277


1- النور: 31.

يعلمون عاقبة أمرهم إذا حلّ بهم وبال ما جحدوا فيعرفون حينئذ أنّ ما دعوتهم إليه حقّ و ما ارتكبوه ضلال و فساد.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 71 الى 75]

إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)

«الْأَغْلالُ» جمع غلّ و هو طوق يدخل العنق فيه للذلّ و الألم و أصله الدخول يقال: انغلّ العنق في الشي ء إذا دخل فيه و الغلول الخيانة لأنّها تصير كالغلّ في عنق صاحبها و السلسلة هي الحلق المنتظمة في جهة الطول.

المعنى: وصف في هذه الآية كيفيّة عقابهم فقال:

[إِذِ الْأَغْلالُ أي يكون [فِي أَعْناقِهِمْ الأغلال [وَ السَّلاسِلُ و [يُسْحَبُونَ بتلك في الماء المستحق بنار جهنّم ثمّ في النار يشتعلون و السجر الإيقاد في التنوّر.

فإن قيل: إنّ قوله: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» و سوف للاستقبال و إذ للماضي و هذا الكلام مثل قولك سوف أصوم أمس.

فالجواب أنّ إذ هاهنا بمعنى إذا لأنّ الأمور المستقبلة لمّا كانت في أخبار اللّه متيقّنة مقطوعا بها عبّر عنه بلفظ ما كان و وجد لكنّ المعنى على الاستقبال. و بالجملة فهم بهذه السلاسل و الأغلال وقود جهنّم و توقّد بهم النار.

[ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أي يقال لهؤلاء الكفّار إذا دخلوا النار على وجه التوبيخ [أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ و تزعمون أنّها تنفع و تضرّ من أصنامكم الّتي عبدتموها [قالُوا ضَلُّوا عَنَّا] أي ضاعوا عنّا و هلكوا و لم نقدر عليهم ثمّ يستدركون فيقولون: [بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً] و فسّروا هذا القول منهم على وجهين: الأوّل أنّهم أنكروا و كذّبوا أنّهم عبدوا غير اللّه كما أخبر اللّه سبحانه عنهم في سورة الأنعام أنّهم قالوا: و «اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» و الوجه الثاني أنّ مرادهم من قولهم: «بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ

ص: 278

شَيْئاً» أي تبيّن لنا أنّهم لم يكونوا شيئا و ما كنّا نعبد بعبادتهم شيئا أي نحن زعمنا أنّ عبادتها عبادة إلّا أنّها لم تكن.

ثمّ قال اللّه: [كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ قال القاضي عبد الجبّار: معناه أنّه سبحانه يضلّهم عن طريق الجنّة و لا يجوز أن يقال: يضلّهم عن الحجّة إذ قد هداهم في الدنيا إليها قال الطبرسيّ: معناه كما أضلّ اللّه أعمال هؤلاء و أبطل ما كانوا يأملونه كذلك يفعل بجميع من يتديّن بالكفر فلا ينتفعون بشي ء من أعمالهم و قيل: يضلّ اللّه و يبطلها لأنّه لا ينفع عمل مع الكفر.

[ذلِكُمْ العذاب الّذي نزل بكم [بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ جزاء بفرحكم في الدنيا بالكفر و المعاصي و بما كان تصيبون أنبياء اللّه من المكاره و تأشرون و تبطرون من غير حقّ، و الفرق بين الفرح و المرح أنّ الفرح قد يكون بحقّ فيحمد عليه لكنّ المرح لا يكون إلّا باطلا.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 76 الى 81]

ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)

وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

المعنى: يقال للكافرين: [ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ و هي سبعة أبواب [خالِدِينَ فِيها] مؤبّدين لا انقطاع لكربكم فيها و لا نهاية و إنّما جعل لها أبواب كما جعل لها دركات تشبيها لها بالدنيا من المطابق و السجون و المطامير فإنّ ذلك أهول و أعظم في الزجر [فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ و مقامهم لأنّهم تكبّروا عن عبادة اللّه و إنّما أطلق عليه اسم بئس و إن كان حسنا لأنّ الطبع ينفر عنه كما ينفر العقل من القبيح فحسن لهذه العلّة اسم بئس عليه.

ص: 279

[فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ فأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر على أذى قومه و الثبات على الحقّ و سمّاه صبرا للمشقّة الّتي تلحق به كما يلحق بتجرّع المرّ، فإنّ ما وعد اللّه به المؤمنين على الصبر من الثواب في الجنّة حقّ لا شكّ فيه بل هو كائن لا محالة و يمكن أن يكون إنّ وعد اللّه بالنصر لأنبيائه و الانتقام من أعدائه حقّ.

[فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ إن شرطيّة و ما مزيدة للتأكيد أي إن نرك بعض الّذي نعدهم من العذاب في حياتك و إنّما قال: «بَعْضَ الَّذِي» لأنّ المعجّل من عذابهم هو بعض ما يستحقّونه مثل القتل و الأسر.

[أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل الإراءة [فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنفعل بهم ما يستحقّونه من العقاب و لا يفوتوننا و حاصل المعنى: إن نعذّبهم في حياتك أو لم نعذّبهم فإنّا نعذّبهم في الآخرة أشدّ العذاب و يجوز أن يكون جواب الشرط محذوفا و تقديره: فذاك و يجوز أن يكون الجواب قوله: «فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» فنفعل بهم ما يستحقّونه.

ثمّ زاد سبحانه في تسلية نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أي قد بيّنّا أحوال بعضهم لك و شرحنا لك أخبار بعضهم و بعضهم لم نبيّن لك أخبارهم أو المعنى: منهم من تلونا عليك ذكره و منهم من لم نتل عليك ذكره و اختلف الأخبار في عدد الأنبياء فروي في بعضها أنّ عددهم مائة ألف و ألف و أربعة و عشرون ألفا و في بعضها أنّ عددهم ثمانية آلاف نبيّ أربعة آلاف من بني إسرائيل و أربعة آلاف من سائر الناس و المذكور قصصهم أفراد معدودة.

[وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ] أي و ما استقام و ما صحّ لرسول منهم أن يأتي بآية و معجزة [إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإنّ المعجزات على تشعّب فنونها عطايا من اللّه قسّمها بينهم حسبما تقتضيه الحكمة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها و الاستبداد بإتيان المقترح منها و لم يكن ذلك قادحا في نبوّتهم فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة عن قدر اللزوم و لمّا لم يكن إظهارها صلاحا لا جرم ما أظهرناها و هذا هو المراد من قوله: «وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».

ثمّ قال: [فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِ و هذا وعيد ورد عقيب اقتراحهم

ص: 280

الآيات من النبيّ فإذا جاء أمر اللّه بالعذاب في الدنيا و الآخرة أو المراد من أمر اللّه، القيامة، و المبطلون هم المعاندون الّذين يجادلون في آيات اللّه و يقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنّت فقضي عليهم بالعذاب و هو الحقّ.

[وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أي إنّهم خسروا الجنّة و حصّلوا النار بدلا منها.

قوله: [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ جعل لكم من الإبل و البقر و الغنم لتنتفعوا بركوبها «وَ مِنْها تَأْكُلُونَ» يعني إنّ بعضها للركوب و الأكل كالإبل و البقر و بعضها للأكل كالأغنام و قيل: المراد بالأنعام هاهنا الإبل خاصّة كما أنّ أصل اللغة للإبل لنعومة أخفافها حين وطئها على الأرض و إنّها الّتي تركب و تحمل عليها في أكثر العادات و اللام في قوله: «لِتَرْكَبُوا» الام الغرض.

[وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ من جهة ألبانها و أصوافها و أوبارها [وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بأن تركبوها و تبلغوا المواضع الّتي تقصدونها بحوائجكم [وَ عَلَيْها] و أي على الأنعام و هي الإبل هنا [وَ عَلَى الْفُلْكِ أي على السفن [تُحْمَلُونَ في البرّ على الإبل و على السفن في البحر في أسفاركم فعلم اللّه سبحانه أنّا نحتاج إلى الأسفار فخلق لنا مركبا للبرّ و مركبا للبحر.

قوله: [وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أي بعد أن أراكم اللّه بخلقه هذه النعم الّتي عدّدها اللّه فأيّ آية منها تنكرونها و إنّما أدخل لام الغرض على قوله:

«لِتَرْكَبُوا» و على قوله: «لِتَبْلُغُوا» و لم يدخل على البواقي.

قال صاحب الكشّاف: الركوب في الحجّ و الغزو إمّا أن يكون واجبا أو مندوبا فهذان القسمان أغراض دينيّة فلا جرم ادخل عليها اللام و أمّا الأكل و إصابة المنافع فمن جنس المباحات في الغالب فلا جرم ما ادخل عليها لام التعليل نظيره «وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً» (1) فأدخل التعليل على الركوب و لم يدخله على الزينة و في قوله: «فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ» جاء على اللغة المستفيضة و تذكير هذه الكلمة شائع مستفيض.

قوله:

ص: 281


1- النحل: 8.

[سورة غافر (40): الآيات 82 الى 85]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)

ثمّ نبّههم فقال:

[أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ بأن يمرّوا في أطرافها فينظروا حال الأمم المهلكة و هم كانوا أكثر منهم عددا و أشدّ قوّة و مالا وجاها من هؤلاء المتأخّرين و لم يستفيدوا من تلك القوّة و المكنة إلّا الخيبة و الخسار و الخسرة و البوار فيعتبروا بهم و أمّا بيان أنّهم كانوا أكثر من هؤلاء عددا فإنّما يعرف بالسماع و الأخبار و أمّا أنّهم كانوا أشدّ قوّة و آثارا في الأرض فلأنّه قد بقيت آثارهم بحصون عظيمة بعدهم مثل الأهرام الموجودة بمصر و مثل هذه البلاد العظيمة الّتي بناها الملوك المتقدّمون كما حكى سبحانه عنهم من أنّهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا.

ثمّ قال سبحانه: [فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ و ما في قوله: «فَما أَغْنى نافية أو مضمّنة معنى الاستفهام و ما في قوله: «ما كانُوا» موصولة أو مصدريّة و محلّها الرفع يعني أيّ شي ء أغنى عنهم كسبهم؟

قوله: [فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بيّن سبحانه أنّ أولئك الكفّار لمّا جاءتهم رسلهم بالدلائل و المعجزات [فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ و الضمير في قوله:

«فَرِحُوا» يحتمل أن يكون عائدا إلى الرسل و قيل: راجع إلى الكفّار بما عندهم من العلم لأنّهم قالوا: نحن أعلم منهم لا نبعث و لا نعذّب و اعتقدوا أنّه علم فأطلق عليه لفظ العلم على اعتقادهم و فرحوا بالشرك الّذي كانوا عليه و أعجبوا به و ظنّوا أنّه علم و هو جهل و كفر و المراد بالفرح شدّة الإعجاب فيدفعون بجهالتهم علوم الأنبياء.

و يمكن أن يكون المراد بعلمهم علوم الفلاسفة فإنّهم كانوا إذا سمعوا بوحي اللّه صغّروا علم الأنبياء إلى علومهم، و عن سقراط أنّه سمع بمجي ء بعض الأنبياء فقيل له:

لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهديّون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا.

و يجوز أن يكون المراد علمهم بأمور الدنيا كما قال: «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ

ص: 282

الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ... ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» (1) فلمّا جاءهم الرسل بعلوم الديانات و معرفة المعاد و تطهير النفس عن الرذائل لم يلتفتوا إليها و استهزءوا بها.

هذا إذا كان الضمير راجعا إلى الكفّار و أمّا إذا قلنا: إنّ الضمير راجع إلى الأنبياء فمعناه أنّ الرسل لمّا رأوا من قومهم جهلا و إعراضا عن الحقّ و علموا سوء عاقبة قومهم و إصابتهم الهداية فرحوا و شكروا اللّه على نعمة الهداية و الوحي و حسن العاقبة.

[وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و حلّ بهم و نزل جزاء استهزائهم برسلهم من العذاب [فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا] أي عند رؤيتهم بأس اللّه [قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ و ليس في مثل هذا الوقت ينفع الإيمان لأنّهم يصيرون عند ذلك ملجئين و فعل الملجأ لا يستحقّ به المدح.

[سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي عدم قبول الإيمان حال اليأس اضطرارا عادة اللّه مطّردة في كلّ الأمم ثمّ قال سبحانه: [وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ و هنالك مستعار للزمان أي خسروا وقت رؤية اليأس بدخول النار. تمّت السورة بحمد اللّه تعالى اللّهمّ يا من لا يبلغ أدنى ما استأثرت به من جلالك و عزّتك أقصى نعوت الناعتين و يا من تقاصرت عن الإحاطة بمبادي أسرار كبريائه أفهام المتفكّرين و أنظار المتأمّلين لا تجعلنا برحمتك و فضلك في زمرة الخاسرين المحرومين فإنّك أكرم الأكرمين بمحمّد و آله الطيّبين.

ص: 283


1- النجم: 30.

سورة فصلت، السجدة

اشارة

* (مكية)* عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ حم السجدة اعطي بعدد كلّ حرف منها عشر حسنات.

و روى ذريح المحاربيّ عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ حم السجدة كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره و سرورا و عاش في الدنيا مغبوطا محمودا.

ختم اللّه سورة المؤمن بذكر المتكبّرين و افتتح هذه السورة بمثل ذلك:

ص: 284

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة فصلت (41): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)

وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)

قيل في أوّل السورة أقوال: أحدها أنّ «حم» اسم للسورة مبتدأ و تنزيل خبره.

و الثاني قال الأخفش: تنزيل مبتدأ و خبره كتاب و الثالث قال الزجّاج: تنزيل يخصّص بالصفة و هو قوله: من الرحمن الرحيم فجاز وقوعه مبتدءا و كتاب فصّلت خبره.

و المراد من التنزيل أي المنزل و معنى المفعوليّة في المصدر شائع يقال: هذا ضرب السلطان أي مضروبه و بناء الأمير أي مبنيّة أي كون السورة منزلا من اللّه تعالى كتبها في اللوح المحفوظ و أمر جبرئيل عليه السّلام بأن يحفظ تلك الكلمات ثمّ ينزل بها على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلمّا حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبرئيل سمّي تنزيلا و ذلك يدلّ على كون ذلك التنزيل نعمة عظيمة من اللّه لأنّ الفعل المقرون بالصفة لا بدّ و أن يكون مناسبا لتلك الصفة فكونه رحمانا رحيما صفتان دالّتان على كمال الرحمة فالتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين مشعر بعظيم النعمة.

و الكتاب اسم مشتقّ من الجمع و قد جمع فيه علوم الأوّلين و الآخرين و [فُصِّلَتْ آياتُهُ و فرّقت و جعلت تفاصيل و تفاريق في معان مختلفة فبعضها في وصف ذاته سبحانه للمعرفة من التنزيه و التقديس و أحوال النبات و الحيوان و الإنسان و التكاليف المتوجّهة نحو القلوب من العقائد و نحو الجوارح من الأفعال و الثواب و العقاب و تهذيب الأخلاق و رياضة النفس، و القصص الأوّلين للعبرة و العظة و مقترن بعضه ببعض و لذا سمّي [قُرْآناً] و [عَرَبِيًّا] قد نزل بلغتهم ليفهموا منه المراد.

ص: 285

قوله: [بَشِيراً وَ نَذِيراً] بشيرا للمطيعين بالثواب و نذيرا للمجرمين بالعقاب و القرآن بشارة و نذارة إلّا أنّه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملا في هذه الصفة كما يقال: شعر شاعر و كلام قائل [فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ و مع هذه الصفات الّتي في القرآن أكثرهم لا يلتفتون إليه.

و اجتحّ القائلون بخلق القرآن بهذه الآية لأنّه وصف بكونه تنزيلا و المنزل مشعر بالتصيير من حال إلى حال و هو معنى الحدوث، و كذلك لفظ التنزيل مصدر بمعنى المفعول و المفعول مخلوق، و كذلك معنى الكتاب بمعنى المكتوب فيدلّ على الحدوث. و الدليل الرابع أنّ قوله «فُصِّلَتْ» يدلّ على أنّ متصرّفا يتصرّف فيه بالتفصيل و التمييز و ذلك لا يكون في القديم. الخامس أنّه إنّما سمّي «قُرْآناً» لأنّه قرن بعض أجزائه بالبعض و ذلك يدلّ على كونه مفعول فاعل و مجعول جاعل. السادس وصفه سبحانه بكونه «عَرَبِيًّا» و هذه النسبة لأجل أنّ هذه الألفاظ إنّما دخلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب و لغتهم و ما جعل بجعل جاعل و فعل فاعل فلا بدّ و أن يكون مخلوقا.

و أجاب القائلون بأنّه قديم بأنّ هذه الوجوه الّتي ذكرتموها عائدة إلى الحروف و الكلمات و اللغات و هي عندنا محدثة مخلوقة إنّما الّذي ندّعي قدمه شي ء آخر سوى هذه الألفاظ.

و الجواب عن جوابهم أنّه لو زعمتم أنّا ندّعي أنّ علم اللّه حادث فهذه فرية بلا مرية و المراد من القرآن كلام جامع حاو لمعان مقصودة يحتاج إليه النبيّ في تبليغه متّسق بهذه الحروف و التراكيب استنسخه اللّه بواسطة الملك من اللوح و اللوح أيضا مخلوق فهذا المستنسخ من اللوح هو ما بين الدفّتين قد أحدثه بهذا التركيب و أنزله على نبيّه و ليس موضوع القرآن إلّا هذا و لا يطلق القرآن إلّا على هذه المعنى الجامع فمن أين ثبت قدمه؟

فإن قيل: إنّه من علم اللّه فيلزم أن يكون قديما.

قلنا: نعم علم اللّه قديم لكنّه لا ملازمة في الأمر بأن يكون القرآن قديما كما أنّ حول العبد و قدرته من قدرة اللّه و حصوله بقدرة اللّه و قوّته و هو حادث و ليس بقديم.

ص: 286

قوله تعالى: [وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ] أي في أغطية [مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ و أكنّة جمع كنان مثل أغطية جمع غطاء و الكنان هو الّذي يجعل فيه السهام و حاصل المعنى أنّا لا نفقه ما تقول و إنّما قالوا ذلك ليؤيسوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قبولهم دينه [وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ] و ثقل و صمم عن استماع القرآن [وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ أي بيننا و بينك حاجز في النحلة و الطريقة فلا نوافقك فيما تقول و التمثيل بالحجاب ليؤيسوه من الإجابة.

[فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ قيل: إنّ أبا جهل رفع ثوبا بينه و بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

يا محمّد أنت من ذلك الجانب و نحن من هذا الجانب فاعمل أنت على دينك إنّنا عاملون على مذهبنا و قيل: معناه فاعمل في هلاكنا إنّا عاملون في هلاكك أو اعمل في إبطال أمرنا إنّا عاملون في ابطال أمرك.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 6 الى 10]

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10)

و لمّا ظهر منهم العناد و عدم القبول أمر سبحانه نبيّه بقوله: [قُلْ إِنَّما] الآية، كان المعنى أنّي لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قهرا فإنّي بشر مثلكم و يوحى إليّ و أنا ابلّغكم الوحي فبعد أن شرّفكم اللّه بالأمر للتوحيد فتنالكم السعادة إن قبلتموه و لحقكم الخذلان إن رددتموه و ذلك لا يتعلّق بنبوّتي و رسالتي.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين العلم و العمل أمّا العلم فالعمدة فيه معرفة التوحيد و ذلك لأنّ الحقّ هو أنّ [إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ] فوجب علينا أن نعترف به و هو المراد من قوله: [فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ و نظيره «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ» ... [وَ اسْتَغْفِرُوهُ عمّا لا ينبغي.

ثمّ أمر بالتحذير عمّا لا ينبغي فقال: [وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ

ص: 287

بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ و لمّا ثبت أنّ التوحيد أصل المراتب و أشرف مقام العبوديّة كان ضدّه و هو الشرك أخسّ المراتب و أرذلها فالسعادة حاصلة لمن وحّد اللّه و استقام في طاعته و الويل لمن أشرك به و خالفه و لا يعطون الزكاة المفروضة و فيه دلالة على أنّ الكفّار مخاطبون بالشرائع و هذا المعنى هو الظاهر.

و قيل: معناه لا يطهّرون أنفسهم من الشرك بقول لا إله إلّا اللّه فإنّها زكاة الأنفس عن عطاء عن ابن عبّاس و قد وصف سبحانه الكفر بالنجاسة بقوله: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (1) و ذكر الزكاة بمعنى التطهير في قوله: «خَيْراً مِنْهُ زَكاةً» (2).

و قيل: معناه لا يقرّون الزكاة و لا يرون إيتاءها و لا يؤمنون بها و عن الكلبيّ عابهم اللّه بها و قد كانوا يحجّون و يعتمرون و قال الفرّاء: الزكاة في هذا الموضع أنّ قريشا كانت تطعم الحاجّ و تسقيهم و حرّموا ذلك على من آمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي هؤلاء مع ذلك بالآخرة و بما أخبر اللّه به من أحوال القيامة جاحدون.

ثمّ بعد وعيد الكفّار ذكر وعد المؤمنين فقال: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] و صدّقوا بأمر الآخرة من الثواب و العقاب [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و الطاعات [لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي لهم جزاء على ذلك غير مقطوع بل هو متّصل دائما و هو من مننت الجبل إذا قطعته و يجوز أن يكون المعنى أنّه لا أذى فيه من المنّ الّذي بكدر الصنيعة لأنّه سبحانه سمّاه أجرا و الأجر لا يوجب المنّة.

ثمّ وبّخهم سبحانه على كفرهم فقال: [قُلْ يا محمّد (صلّى اللّه عليك) لهم على وجه الإنكار: [أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ و هذا استفهام تعجيب أي كيف تجحدون و تكفرون نعمة من خلق الأرض [فِي مقدار [يَوْمَيْنِ و من كان بهذه القدرة و الكمال كيف يعقل أن تجعلوا له أحجارا منحوتة غير مدركة [أَنْداداً] و أمثالا تعبدونها [ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أي ذلك الّذي بهذه القدرة قابل للمعبوديّة لأنّه خالقكم و خالق العالمين

ص: 288


1- التوبة: 29.
2- الكهف: 82.

فإن قيل: إنّ من استدلّ بشي ء على شي ء فذلك الشي ء المستدلّ به يجب أن يكون مسلّما عند الخصم حتّى يصحّ الاستدلال به و كونه خالقا للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض و إنّما يمكن إثباته بالسمع و وحي الأنبياء و هم كانوا منازعين في الوحي و النبوّة فكيف تقرير هذه المقدّمة عليهم فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه خالقا للأرض في يومين أثر؟

فالجواب أنّ كفّار مكّة كانوا يعتقدون في أهل الكتاب أنّهم أصحاب العلوم و الحقائق و كانوا قد سمعوا منهم هذه المعاني و اعتقدوا أنّها حقّة فحسن هذا الاستدلال.

قوله: [وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها] و جعل في الأرض جبالا ثابتات من فوق الأرض راسخات فيها [وَ بارَكَ فِيها] بما خلق في الأرض من المنافع بأن أنبت فيها من غير غرس و أخرج نبتها من غير زرع و بذر يبذرونه من الكلاء و غيره و أودعها بما ينتفع العباد.

[وَ قَدَّرَ فِيها] أي في الأرض [أَقْواتَها] أي أرزاق أهلها على حسب الحاجة لقوام أبدان الناس و سائر الحيوان و قيل: قدّر في كلّ بلدة ما لم يجعله في الاخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد.

[فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي في تتمّة أربعة أيّام من حين ابتداء الخلق فاليومان الأوّلان داخلان فيها كما تقول: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيّام و إلى الكوفة في خمسة عشر يوما أي تتمّة خمسة عشر يوما.

قال أبو السعود في قوله تعالى: «فِي يَوْمَيْنِ» أي حكم بأنّها ستوجد في مقدار يومين أو في نوبتين على أنّ ما يوجد في كلّ نوبة يوجد بأسرع ما يكون و إلّا فاليوم الحقيقيّ إنّما يتحقّق بعد وجودها و تسوية السماوات و إبداع نيرانها و ترتيب حركاتها انتهى كلامه.

القميّ معنى يومين أي وقتين ابتداء الخلق و انقضاؤه قال: «وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» أي لا تزل و تبقى في أربعة أيّام.

[سَواءً] مرتّبا أي في أربعة أوقات قام به العالم و استوى و هي الأوقات الّتي تخرج فيها أقوات العالم من الناس و البهائم و الطير و حشرات الأرض و ما في البرّ و البحر

ص: 289

من الخلق و الثمار و النبات و الشجر و ما يكون فيه معاش الحيوان كلّه و هو الربيع و الصيف و الخريف و الشتاء ففي الشتاء يرسل اللّه الرياح و الأمطار و الأنداء و الطلول من السماء فيلقي الأرض و الشجر و هو وقت بارد ثمّ يجي ء بعد الربيع و هو وقت معتدل حارّ و بارد فيخرج وقتئذ من الشجر و الأرض نباتها فيكون أخضر ضعيفا ثمّ يجي ء وقت الصيف و هو حين ينضج الثمار و تصلب الحبوب الّتي هي أقوات العالم و جميع الحيوان ثمّ يجي ء من بعد وقت الخريف فيطيّبه و يبرّده و يدرك ما لم يدرك قبله و لو كان كلّه شيئا واحدا لم يخرج النبات من الأرض و لم ينضج الثمار و لم يبلغ الحبوب و لو كان كلّه صيفا لاحترق كلّ شي ء نبت في الأرض و لم يكن للحيوان معاش و لو كان الوقت كلّه خريفا و لم تتقدّمه شي ء من هذه الأوقات لم يكن شي ء يحصل حتّى يتقوّته أهل العالم فقام بهذا الترتيب أمر العالم و استوى و بقي مستويا مرتّبا من غير تخلّف.

و سمّى اللّه هذه الأوقات أيّاما [لِلسَّائِلِينَ أي للمحتاجين لأنّ كلّ محتاج سائل و لو أنّ في العالم من خلق اللّه من لا يسأل و لا يقدر على السؤال كثير لكنّهم سائلون بلسان الحال و هو أبلغ من لسان المقال و قيل: معنى «لِلسَّائِلِينَ» أي السائلين عن مدّة خلق الأرض.

و قيل في علّة خلق الأرض و ما فيها في أربعة أيّام إنّما خلق ذلك شيئا بعد شي ء في هذه المدّة ليعلم الخلق أنّ من الصواب التأنّي في الأمور و ترك الاستعجال فيها و إلّا كان قادرا على أن يخلق ذلك في أقلّ من لحظة أو ليعلم بذلك أنّها صادرة عن قادر مختار إذ لو صدرت عن مطبوع أو موجب لحصلت في حالة واحدة.

و روى عكرمة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ اللّه تعالى خلق الأرض يوم الأحد و الإثنين و خلق الجبال يوم الثلثاء و خلق الشجر و الماء و العمران و الخراب يوم الأربعاء فتلك أيّام أربعة و خلق يوم الخميس السماء و خلق يوم الجمعة الشمس و القمر و النجوم و الملائكة و آدم فعلى هذا يكون خلقة الأرض قبل السماء.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 11 الى 15]

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15)

ص: 290

المعنى: ثمّ ذكر سبحانه خلق السماوات ثمّ قصد إلى خلق السماوات و كانت السماء دخانا و ترتيب البيان لأجل اعتنائه سبحانه بأمر المخاطبين فبيّن ترتيب مبادي معائشهم قبل خلقهم بما يحملهم على الإيمان و اليقين و يزجرهم عن الشرك فقال:

[ثُمَّ اسْتَوى أي قصد نحوها قصدا سويّا لا يلوي على غيره [وَ هِيَ دُخانٌ أي أمر ظلمانيّ عبّر به عن مادّتها أو عن الأجزاء المتصغّرة الّتي ركّبت هي منها أو دخان و بخار مرتفع من الماء و قد روي أنّ العرش العظيم كان قبل خلق السماوات و الأرض على الماء ثمّ إنّه سبحانه أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان فأمّا الزبد فبقي على وجه الماء فخلق فيه اليبوسة فجعله أرضا واحدة ثمّ فتقها فجعلها أرضين و أمّا الدخان فارتفع و علا فخلق منه السماوات و خلق جرم الأرض مقدّم على خلق السماوات لكن دحوها و خلق ما فيها مؤخّر عنه (1) لقوله: «وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها».

روى الحسن أنّ اللّه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليه دخان ملتزق بها ثمّ أصعد الدخان و خلق منه و أمسك الفهر في موضعها و بسط منها الأرض و أنشأ دحوها على وجه خاصّ يليق لها من كلّ شكل معيّن و وصف مخصوص.

قوله تعالى: [فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً] قال ابن عبّاس: المراد أنّه سبحانه قال: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» أي قصد و توجّه نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجّه إليه توجّها و «ثُمَّ» لتفاوت ما بين الخلقتين لا التراخي في المدّة إذ لا مدّة قبل خلق السماوات و هي دخان ظلمانيّ.

و المراد من قوله: «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا» الآية، إظهار قدرته و التقدير ائتيا طوعا أو كرها أي طائعين أو مكرهين شئتما أو أبيتما كما يقول الجبّار لمن تحت يده: لتفعلنّ هذاع.

ص: 291


1- بل المراد من الدحو الدفع الى مدار فلكها و ذلك بعد خلق السماء فلا اشكال لان الدحو في اللغة الدفع.

شئت أو أبيت قال ابن عبّاس: أتت السماء بما فيها و أتت الأرض بما فيها و ليس هناك أمر بالقول على الحقيقة و لا جواب لذلك القول بل المراد إنشاؤه سبحانه لهما من غير تعذّر و لا كلفة بمنزلة ما يقال للمأمور افعل فيفعل من غير فعبّر سبحانه عن ذلك بالأمر و الإطاعة كقوله: «كُنْ فَيَكُونُ»*.

و إنّما قال: «أَتَيْنا طائِعِينَ» و لم يقل: طائعتين لأنّ المعنى أتينا بمن فينا من العقلاء فغلب حكم العقلاء على التأنيث أو لمّا خوطبن خطاب من يعقل جمعن جمع من يعقل مثل قوله: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»* (1) و مثل هذا القول كثير في الكلام قال الشاعر:

ألا أنعم صباحا أيّها الرسم و انطق و حدّث حديث الحيّ إن شئت و اصدق

و قيل: إنّه تعالى ذكر السماء و الأرض ثمّ ذكر الطوع و الكره فيجوز أن ينصرف الطوع إلى السماء و الكره إلى الأرض و تخصيص السماء بالطوع لأنّ الموجود في السماء ليس إلّا الطاعة قال تعالى: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (2) و أهل الأرض ليس الأمر في حقّهم كذلك. ثمّ إنّ السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف و الأرض ليست كذلك و إنّ السماء من حيث اللون أفضل الألوان و هي المستنيرة و أشكالها أفضل الأشكال و هي المستديرة و أجرامها أفضل الأجرام و هي الكواكب النيّرة المتلألئة بخلاف الأرض فإنّها مكان الظلمة و الكثافة و اختلاف الأحوال و تغيّر الذوات و الصفات فلا جرم وقع التعبير عن تكوّن السماء بالطوع و الأرض بالكره.

قوله تعالى: [فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ و قضاء الشي ء إتمامه و الفراغ منه و الضمير في «فَقَضاهُنَّ» راجع إلى السماء على المعنى و يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسّرا بسبع سماوات و النصبين أحدهما على الحال و الثاني على التمييز.

[وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها] أي خلق في كلّ سماء بما أراد من وضعها من النيّرات و غيرها و الملائكة و ما فيها من البحار و جبال البرد قال السدّيّ: و للّه في

ص: 292


1- الأنبياء: 33.
2- النحل: 50.

كلّ سماء بيت يحجّ و يطوف به الملائكة كلّ واحد منها مقابل الكعبة بحيث لو وقعت منه حصاة ما وقعت إلّا على الكعبة و لأهل كلّ سماء تكليف فمن الملائكة من هو في القيام من أوّل خلق العالم إلى قيام القيامة و منهم ركوع لا ينتصبون و منهم سجود لا يرفعون فالمعنى خصّ كلّ سماء بالأمر المضاف إليه و الخلق عبارة عن الإيجاد و التكوين و قد يكون عبارة عن التقدير و التقدير في حقّ اللّه هو حكمه بأنّه سيوجده و قضاؤه بذلك.

قوله: [وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ و المراد من السماء الدنيا أقرب السماوات إلى أهل الأرض سمّي الكواكب بمصابيح لأنّه يقع الاهتداء بها و خصّ كلّ واحد بضوء معيّن و سير معيّن و اقتضاء مخصوص لا يعرفها إلّا اللّه.

ثمّ قال: [وَ حِفْظاً] أي حفظناها حفظا من الشياطين الّذين يسترقون السمع فأعدّ كلّ شيطان نجما يرميه و لا يخطئه فمنها ما يحرق و منها ما يقتل و منها ما يجعله مخبّلا.

و لمّا ذكر سبحانه هذه التفاصيل قال: [ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ذلك الّذي ذكر من عجائب الخلقة تقدير الّذي هو غالب في أمره لا يمتنع عليه شي ء العليم بمصالح خلقه و لا يخفى عليه شي ء.

قوله تعالى: [فَإِنْ أَعْرَضُوا] مع هذه الحجج الدالّة على كمال قدرته و وحدانيّته [فَقُلْ يا محمّد لهم: [أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ] خوّفتكم الصاعقة، و الصاعقة النائرة المهلكة لأيّ شي ء كان و قرئ صعقة عاد و هي المرّة من الصعق و هي في العرب اسم للنار الّتي تنزل من السماء فتحرق.

[إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ «إِذْ» متعلّقة بقوله: «صاعِقَةً» و التقدير نزلت بهم حين أتتهم الرسل من قبلهم و من بعدهم عن ابن عبّاس يعني به الرسل الّذين جاءوا آباءهم و الرسل الّذين جاءوهم في أنفسهم لأنّهم كانوا خلف من جاء آباءهم من الرسل فيكون حينئذ الضمير في «خَلْفِهِمْ» راجعا إلى الرسل و قيل: معناه من تقدّم زمانهم و من تأخّر و يمكن أن يكون المراد أنّ أخبار الرسل أتتهم من هاهنا و هاهنا.

ص: 293

فإن قيل: الرسل الّذين جاءوا من قبلهم و من بعدهم كيف يمكن وصفهم بأنّهم جاءوهم؟ نعم مثلا قد جاءهم هود و صالح داعيين إلى الإيمان و صدّقا الرسل الّذين قبلهما فأتيا بما أتى الرسل و كذلك فكان جميع الرسل قد جاءوهم بالأمر على الإيمان و كلّهم كانوا يأمرون الناس بالتوحيد.

ب [أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي إنّ الشأن و الحديث قولنا لكم النهي عن عبادة غير اللّه.

ثمّ حكى سبحانه عن جواب الكفّار [قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ و استدلّوا على كذب الأنبياء بأنّه سبحانه لو شاء إرسال الرسل إلى البشر لجعل رسله من زمرة الملائكة و قد كفروا بالرسل و جحدوا نبوّاتهم.

روي أنّ أبا جهل قال في ملأ من قريش: التبس علينا أمر محمّد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر و السحر و الكهانة فكلّمه ثمّ أتانا بخبر عن أمره فقال عتبة بن ربيعة: و أنا لقد سمعت الشعر و السحر و الكهانة و علمت من ذلك علما و ما يخفى عليّ و ذلك أنّه كان يحضر بعض الأندية و يستمع.

فأتاه فقال: يا محمّد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطّلب؟ أنت خير أم عبد اللّه؟

لم تشتم آلهتنا و تضلّلنا فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسا و إن يكن بك البائة زوّجناك عشر نسوة تختارهنّ أيّ بنات ممّن شئت من قريش و إن كان المراد المال جمعنا لك ما تستغني به، و رسول اللّه ساكت.

فلمّا فرغ عتبة من كلامه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» إلى قوله: «صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ» فأمسك عتبة على فيه و ناشده بالرحم و رجع إلى أهله و لم يخرج إلى قريش فلمّا احتبس عنهم قالوا: لا نرى عتبة إلّا قد صبأ فانطلقوا إليه و قالوا: يا عتبة ما حبسك عنّا إلّا أنّك قد صبأت فغضب أو قسم و قال: و لقد كلّمته فأجابني بشي ء ما هو بشعر و لا سحر و لا كهانة و لمّا بلغ «صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ» أمسكت بفيه و ناشدته بالرحم و لقد علمت أنّ محمّدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب.

ص: 294

و بالجملة ثمّ فصّل اللّه أخبار الجاحدين بقوله: [فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ و أظهروا النخوة و الكبر و الاستعلاء و استخدامهم غيرهم بغير حقّ جعله اللّه لهم بل للكفر و البغي الصرف و اغترّوا بقوّتهم و كانوا مخصوصين بكبر الأجسام.

[وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً] فلو شاء أهلكهم فإن كانت الزيادة في القوّة توجب كون الناقص في طاعة الكامل فهذا الأمر توجب كونهم منقادين مطيعين للّه لأنّه هو أقوى منهم [وَ كانُوا بِآياتِنا] و دلائلنا [يَجْحَدُونَ و لا يعترفون.

و لمّا ثبت بالعقل أنّ مجامع الخصال الحميدة للعبد التعظيم للخالق و المولى و الإحسان إلى خلقه فقوله: «وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» مضادّ لتعظيم الخالق فقوله:

«فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» مضاد للإحسان إلى الخلق فهم قد بلغوا في الصفات الخبيثة المذمومة الموجبة للنفي و الإبطال و إلى الغاية القصوى حبّا للدنيا.

فلهذا المعنى سلّط اللّه العذاب عليهم فقال سبحانه:

[سورة فصلت (41): الآيات 16 الى 20]

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (18) وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20)

فأخبر سبحانه عن إهلاكهم بقوله: [فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً] عاصفا شديدة الصوت من الصرّة و هي الصيحة «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ» أو البرد بحيث شدّة البرد تحرق كما تحرق النار و اشتقاق الصرصر من الصرير ضوعف اللفظ إشعارا بمضاعفة المعنى، و صرّر قلبت أحد الراءين صادا كما يقال: نهه نهنهه و كفف كفكف.

[فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ قرئ بسكون الحاء و كسرها أي مشئومة عليهم و قيل: شديدة البرد و المعنى كان إرسال الريح في أيّام نكدات مشئومات ذوات نحوس أو ذوات غبار

ص: 295

و تراب حتّى لا يكاد يرى بعضهم بعضا و على كون النحسات شديدة البرد لأنّ العرب تسمّي البرد نحسا.

روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: الرياح ثمان؛ أربع منها عذاب: العاصف و الصرصر و العقيم و السموم، و أربع منها رحمة: الناشرات و المبشّرات و المرسلات و الذاريات.

قوله تعالى: [لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] و عن ابن عبّاس قال: ما أرسل اللّه من الريح عليهم إلّا قدر خاتمي و فعلنا ذلك بهم عذاب الهوان و الذلّ و هو العذاب الّذي يجزون في الدنيا في مقابلة استكبارهم.

[وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى و أفضح من ذلك [وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ و لا يدفع عنهم أبدا قيل: إرسال الريح عليهم في الأيّام النحسات كنّ آخر شوّال من الأربعاء إلى الأربعاء و ما عذّب قوم إلّا في يوم الأربعاء و قرئ «لتذيقهم» بالتاء أي الريح أو الأيّام.

و استدلّ الأحكاميّون من المنجّمين بهذه الآية على أنّ بعض الأيّام قد يكون نحسا و بعضها قد يكون سعدا و قالوا: الآية صريحة في هذا المعنى.

و أجاب المتكلّمون بأنّ المعنى أنّ الأيّام ذوات غبار و تراب و أيضا قالوا: كون هذه الأيّام نحسات لأنّ اللّه أهلكهم فيها لا أنّها بذواتها نحسة.

و أجاب الأحكاميّون بأنّ النحسات في وضع اللغة هي المشئومات لأنّ النحس يقابله السعد و الكدر يقابله الصافي. و أيضا أجابوا عن الجواب الثاني: إنّ اللّه أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيّام النحسات فوجب أن يكون كون تلك الأيّام نحسة مغايرا لذلك العذاب الّذي وقع فيها.

فإن قيل: كيف أنذر قومه مثل صاعقة عاد و ثمود مع العلم بأنّ ذلك لا يقع في امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد صرّح اللّه بذلك في قوله: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ» (1) و جاء في الأحاديث الصحيحة أنّ اللّه رفع عن هذه الامّة هذه الأنواع من العذاب؟

فالجواب أنّ قومه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا شاركوا و ساووا قوم عاد و ثمود بسبب إنكارهم التوحيد

ص: 296


1- الأنفال: 33.

و النبوّة فاستحقّوا مثل تلك الصاعقة و تخويفهم بالعذاب مثل أولئك و جاز حدوث ما يكون من جنس ذلك.

قوله تعالى: [وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أي بيّنّا لهم سبيل الخير و الشرّ و نصبنا الدلائل [فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى و اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الهداية و هذه الآية تدلّ على أنّهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدلّ على أنّ الكفر و الإيمان يحصلان من العبد بصرف الاختيار من غير شائبة القهر و الكره.

[فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ و الهون الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه [بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسبب شركهم و تكذيبهم صالحا و عقرهم الناقة «و ثمود» قرئ بضمّ الثاء و قرئ منوّنا و غير منوّن بالرفع و النصب و الرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء.

و العجب أنّ الرازيّ لمّا عثر على استدلال المعتزلة بالآية في الردّ على الجبريّة استدلّ على صحّة مذهب أهل الجبر بدليل أضعف من حجّة نحويّ و هو أنّه أثبت مدّعاه بقوله: إنّ أحدا لا يحبّ العمى و الجهل مع العلم بكونه جهلا و غرض الرازيّ أنّ جهله بإجبار اللّه إيّاه و يجعل الآية من دلائل مدّعاه.

و الإنصاف أنّ كلامه ما أقربه إلى الشعوذة! لأنّه بهذه التقريرات قد أثبت أنّ الكفر و الإيمان يحصلان من اللّه لا من العبد و نظره أنّ أحدا لا يختار العمى مع العلم فحينئذ يلزم أنّ جميع المعاصي الصادرة من العباد غير مأخوذ بها لأنّهم لا يعتقدون أنّها جهل و عماية و كلّ حزب بما لديهم فرحون.

قوله: [وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ الشرك أي و نجّينا صالحا و من آمن به من العذاب.

ثمّ أخبر سبحانه عن حال الكفّار يوم القيامة فقال: [وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا و لا يتفرّقوا و المعنى إذا اجتمعوا وقفوا [حَتَّى إِذا ما جاؤُها] أي جاءوا إلى النار الّتي حشروا إليها و المقصود بيان أنّهم إذا اجتمعوا سئلوا عن أعمالهم [شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ أي شهد عليهم

ص: 297

سمعهم بما قرعه من الدعوة إلى الحقّ فأعرضوا عنه و أبصارهم بما رأوا من الآيات الدالّة على وحدانيّته فلم يؤمنوا و سائر جلودهم بما باشروا من المعاصي.

و في شهادة الجوارح قولان: أحدهما أنّه يخلق الفهم و النطق فيشهد، و الثاني أن يظهر في تلك الأعضاء أحوالا يدلّ على صدور تلك الأعمال من صاحبها و تلك الأمارات تسمّى شهادة كما يقال: يشهد هذا العالم يتغيّرات أحواله على حدوثه فسمّي شهادة مجازا قال ابن عبّاس: المراد من الجلود هنا الفروج على طريق الكناية كما قال سبحانه:

«وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا» (1) و أراد النكاح و قال: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ»* (2) و المراد قضاء الحاجة.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 21 الى 25]

وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)

ثمّ حكى اللّه عنهم أنّهم يقولون لتلك الأعضاء: [لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا] فتقول الأعضاء:

[أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني إنّ القادر على خلقكم و إنطاقكم في المرّة الاولى حال ما كنتم في الدنيا أنطقكم و بعثكم في المرّة الثانية.

[وَ ما] نافية [كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ أي لم يكن تهيّأ لكم أن تستروا أعمالكم عن هذه الأعضاء لأنّكم كنتم بها تعملون قال أبو السعود: معنى الآية حكاية لما سيقال لهم يوم القيامة من جهته تعالى بطريق التوبيخ أي ما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم

ص: 298


1- البقرة 235.
2- النساء: 142.

الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك كما كنتم تستترون من الناس مخافة الافتضاح بل كنتم جاحدين بالبعث و الجزاء رأسا.

[وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ من القبائح فلذلك اجترأتم على ما فعلتم عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفران ثقفيّان و قرشيّ فقال أحدهم: أ ترون اللّه يسمع ما نقوله؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا و لا يسمع إن أخفينا فذكرت ذلك للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأنزل اللّه «وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ» الآية، و كان الكفّار يقولون:

إنّ اللّه لا يعلم ما في أنفسنا و لكنّه يعلم ما يظهر.

و حاصل المعنى إثبات أنّهم كانوا يستترون عند الإقدام على القبائح إلّا أنّ استتارهم ما كان لأجل خوفهم من شهادة الجوارح و أنّ اللّه يعلمه بل لأجل أنّهم كانوا يظنّون أنّ اللّه لا يعلم مستوراتهم من المعاصي و إنّما يعلم تعالى ما ظهر منهم علنا.

[ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أي هذا الظنّ الفاسد بربّكم أهلككم [فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ جعلوا بظنّهم الفاسد ما منحوا الاستسعاد به في الدارين سببا لشقاء المشركين.

القميّ عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ آخر عبد يؤمر به إلى النار فإذا امر به التفت فيقول الجبّار جلّ جلاله ردّوه فيردّونه فيقول اللّه: لم التفت إليّ فيقول: يا ربّ لم تكن ظنّي بك هذا فيقول: و ما كان ظنّك بي؟ فيقول العبد: يا ربّ كان ظنّي بك أن تغفر لي خطيئتي و تسكنني جنّتك قال: فيقول الجبّار يا ملائكتي لا و عزّتي و جلالي و آلائي و علوّي و ارتفاع مكاني ما ظنّ بي عبدي هذا ساعة من خير قطّ و لو ظنّ بي ساعة من خير ما روّعته أجزوا له كذبه و أدخلوه الجنّة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس من يظنّ باللّه عزّ و جل خيرا إلّا كان عند ظنّه به و ذلك قوله: «وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ».

قال الصادق عليه السّلام: ينبغي للمؤمن من أن يخاف اللّه خوفا كأنّه يشرف على النار و يرجوه رجاء كأنّه من أهل الجنّة إنّ اللّه يقول: «وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي» الآية، ثمّ قال عليه السّلام: إنّ اللّه عند ظنّ عبده إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ.

ص: 299

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم فقال: [فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي فإن يصبر هؤلاء على النار و آلامها و ليس المراد به الصبر المحمود و لكنّه الإمساك عن الشكوى فالنار مسكن لهم [وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ يعني و إن يطلبوا العتبى و الرضى من اللّه أن يرضى منهم فليس لهم طريق إلى الرضاء و ما هم ممّن يقبل عذرهم و يرضى عنهم أي إن صبروا و سكتوا أو جزعوا فالنار مأواهم كقوله تعالى: «فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ» و المعتب من يقبل عذره و يجاب إلى ما سأل أو المعنى و إن يستغيثوا فما هم من المغاثين.

[وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ] أي هيّأنا لهم قرناء من الشياطين أو بدّلناهم قرناء سوء من الجنّ و الإنس مكان قرناء الصدق الّذي أمروا بمقارنتهم فلم يعملوا [فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ أي إنّ القرناء زيّنوا لهم أعمالهم الّتي يعملونها و يشاهدونها بين أيديهم و ما خلفهم أي يعملونها بعد و قيل: معناه زيّنوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنّه لا بعث و لا جنّة و لا نار و ما خلفهم من أمر الدنيا فزيّنوا أنّ الدنيا قديمة و أنّه لا فاعل و لا صانع إلّا الطبائع و الأفلاك و قيل: المعنى إنّ القرناء زيّنوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة و ما بقي من أعمالهم الخسيسة.

ثمّ قال تعالى: [وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ قوله: «فِي أُمَمٍ» في محلّ النصب على الحال من الضمير في «عَلَيْهِمُ» و المعنى وجب عليهم الوعيد و العذاب حال كونهم كائنين في جملة امم من المتقدّمين المكذّبين أنّهم كانوا خاسرين الجنّة و الثواب و استحقّوا العذاب.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 26 الى 30]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)

ص: 300

المعنى: ثمّ عطف على ما تقدّم من ذكر الكفّار: [وَ قالَ الَّذِينَ الآية قال رؤساؤهم للأتباع أو قال بعضهم لبعض يعني كفّار قريش: [لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ الّذي يقرؤه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا تصغوا إليه [وَ الْغَوْا فِيهِ أي عارضوه باللغو و الباطل [لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ لتغلبوه بالباطل فلا يتمكّن أصحابه من الاستماع و الغوا بالتخليط من كلامكم الفاسد و المكاء و الصفير و قيل: ارفعوا أصواتكم في وجهه بالشعر و الرجز.

ثمّ أوعدهم اللّه فقال: [فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً] في الدّنيا بالأسر و القتل [وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي نجازيهم في الآخرة بأقبح الجزاء على أقبح معاصيهم و هو الكفر و الشرك.

[ذلِكَ أي ما تقدّم من الوعيد [جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ الّذين عادوه بالعصيان و الكفر و عادوا الأنبياء و المؤمنين [النَّارُ] فبيّن سبحانه أنّ ذلك الأسوء الّذي جعل جزاء أعداء اللّه هو النار.

ثمّ قال: [لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ] أي دار العذاب الدائم لهم [جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ في مقابلة جحودهم بآياتنا و هو جحودهم بأنّ القرآن ليس من عند اللّه.

قوله: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي و سيقول الكفّار في النار: [رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يعنون إبليس الأبالسة و قابيل بن آدم أوّل من أبدع المعصية و إنّ أوّل من أبدع الكفر إبليس و القتل بغير الحقّ سنّة قابيل و قرئ «أَرِنَا» بسكون الراء لثقل الكثرة كما قالوا: في فخذ فخذ و قيل: معناه أعطنا اللّذين أضلّانا قال الخليل: إذا قلت: أرني ثوبك بالكسر فالمعنى بصّرنيه و إذا قلته بالسكون فهو استعطاء معناه أعطني ثوبك.

[نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا] أي يكونان أسفل منّا في النار [لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ تمنّوا لشدّة عداوتهم لهم و بغضهم إيّاهم بما أضلّوهم أن يجعلوهم تحت أقدامهم في الدرك الأسفل ندوسهما و نطؤهما بأقدامنا إذلالا لهم حتّى يكون عذابهم أشدّ من عذابنا.

و لمّا ذكر سبحانه وعيد الكفّار عقّبه بذكر الوعد للمؤمنين الأبرار فقال: [إِنَ

ص: 301

الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا] أي وحّدوا اللّه و صدّقوا أنبياءه ثمّ استمرّوا على هذا الأمر و لم يشكّوا به شيئا أو المراد أنّهم استقاموا على طاعته و أداء فرائضه و قيل:

معناه ثمّ استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم مخلصا و لم يعملوا عملا لغير اللّه بل لبست عبادته كما لبست معاصيه خوفا من الرياء.

قيل: إنّ أيّوب النبيّ كان يحيي الليل كلّه فإذا كان عند الصباح رفع صوته كأنّه قائم تلك الساعة. و كان بعض السالكين مثل إبراهيم النخعيّ إذا قرأ في المصحف و دخل داخل غطّاه و كان الآخر إذا دخل و هو يصلّي اضطجع على فراشه و حكي أنّ إبراهيم بن أدهم إذا مرض يجعل عند رأسه ما يأكله الأصحّاء لئلّا يشبه بالمرضى و ليس عليهم اعتراض فإنّ أهل الدار أدرى بالدار.

روي عن أنس قال: قرأ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية ثمّ قال: قد قالها فآمن ثمّ كفر أكثرهم فمن قالها حتّى يموت فهو ممّن استقام عليها. و روى محمّد بن الفضيل قال: سالت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الاستقامة فقال: هي و اللّه ما أنتم عليه و من المعلوم بالضرورة أنّ الاستقامة في الدّين هي أن يعتقد بقلبه أنّ لهذا العالم إلها موصوفا بجميع صفات الكمال و منزّها عن النقائص و يقرّ بلسانه و أن يوافق عمله قوله و عقيدته و يبقى مستقيما عليه و لم يتغيّر بسبب من الأسباب و أن لا يتوغّل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل و لا يتوغّل في جانب الإثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه، و يبقى على الخطّ المستقيم الفاصل بين التشبيه و التعطيل و بين الجبر و التفويض و كذا في الرجاء و الخوف.

قوله تعالى: [تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ] يعني عند الموت روي ذلك عن أبي عبد اللّه و قيل:

تستقبلهم الملائكة إذا خرجوا من قبورهم في الموقف بالبشارة من اللّه و قيل: إنّ البشرى تكون في ثلاثة مواطن: عند الموت و في القبر و عند البعث.

[أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا] أي تقول الملائكة لهم لا تخافوا عقاب اللّه و لا تحزنوا على ورائكم و على ما خلّفتم من أهل و ولد و قيل: المراد لا تحزنوا على ذنوبكم فإنّ اللّه يغفرها لكم و قيل: إنّ الخوف يتناول المستقبل و الحزن يتناول الماضي فكان «أَلَّا تَخافُوا»

ص: 302

فيما يستقبل و «لا تَحْزَنُوا» على ما مضى [وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في دار الدنيا.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 31 الى 35]

نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)

ثمّ إنّ الملائكة تقول للمؤمنين الّذين استقاموا بعد البشارة: [نَحْنُ معاشر الملائكة [أَوْلِياؤُكُمْ و أحبّاؤكم في الحياة الدنيا نتولّى إيصال الخيرات إليكم من قبل اللّه و في الآخرة لا نفارقكم حتّى ندخلكم الجنّة أو كنّا نتولّى حفظكم في الدنيا بأنواع المعرفة و في الآخرة نتولّاكم بأنواع الإكرام، و قيل: المعنى نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا و نحرسكم و عند الموت و في الآخرة عن أبى جعفر عليه السّلام و هذا في مقابلة قوله تعالى و ما ذكره في الوعيد للكفّار حيث قال: «وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ».

و للملائكة تأثيرات في الأرواح البشريّة بالإلهامات و المكاشفات و المقامات الحقيقيّة كما إنّ للشياطين تأثيرات في الأرواح بإلقاء الوساوس و تخييل الأباطيل إليها؛ فالملائكة أولياء للأرواح الطيّبة، و الشياطين أولياء للأرواح الخبيثة العاصية. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات. و اعلم أنّ جوهر النفس القدسيّ من جنس الملائكة و التعلّقات الجسمانيّة هي الّتي تحول بينها و بين الملائكة.

قوله تعالى: [وَ لَكُمْ فِيها] أي في الآخرة [ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من الملاذّ [وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ و حاصل فإنّ اللّه يحكم لكم بذلك [نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ أي هذا الموعود به مع جلالته عطاء لكم و رزق يجري عليكم و كرامة لكم ممّن يغفر الذنوب رحمة منه لعباده.

[وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ المعنى: أمن المعلوم أنّ مراتب السعادات اثنتان: التامّ و فوق التامّ أمّا التامّ فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير

ص: 303

كاملا في ذاته فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بتكميل الناقصين و هو درجة فوق التامّ فقوله: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» إشارة إلى المرتبة الاولى فإذا فرغ من هذه المرتبة ينتقل إلى المرتبة الثانية و ذلك إنّما يكون بدعوة الخلق إلى دين اللّه و هو المراد من قوله: «وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ».

و صورة الكلام صورة الاستفهام و المعنى النفي تقديره: و ليس أحد أحسن قولا ممّن دعا إلى اللّه و إلى طاعته [وَ عَمِلَ صالِحاً] أي أضاف إلى الدعوة الأعمال الصالحة [وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ و يقول: أنا من المنقادين لأمر اللّه كما قال إبراهيم: «وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» و في الآية دلالة على أنّ الدعاء إلى اللّه من أعظم الطاعات. و فيها دلالة على أنّ الداعي يلزم أن يكون عاملا بعلمه ليكون الناس إلى القبول منه أقرب و إليه أسكن.

و من الناس من قال: المراد من قوله: «وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا» هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الحسن و ابن زيد و السدّيّ و قيل: هم المؤذّنون و قيل: هو و جميع الأئمّة الدعاة الهداة إلى الحقّ، العيّاشيّ إنّها في عليّ عليه السّلام.

و بالجملة لعلّ يدخل في الآية من دعا إلى طريق الحقّ و للدعوة مراتب فالكاملين في الدعوة هم الأنبياء و دعوتهم راجحة على دعوة غيرهم لأنّهم جمعوا في الدعوة بين الحجّة و السيف و قلّما يتّفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين ثمّ العلماء العاملين فإنّهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء و لهذا السبب قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل فنفوس الأنبياء قد حصلت لها مزيّتان الكمال في الذات و التكميل للغير فكانت قوّتهم على الدعوة أقوى و كانت درجاتهم أفضل و أكمل فالأنبياء لهم صفتان: العلم و القدرة و العلماء هم نوّاب الأنبياء في العلم في الجملة و الملوك إذا استجمعت الشرائط لهم فهم نوّاب الأنبياء في القدرة و القدرة توجب الاستيلاء على الأجساد و العلم يوجب الاستيلاء على الأرواح.

و العلماء على ثلاثة أصناف: العلماء باللّه و العلماء بصفات اللّه و العلماء بأحكام اللّه أمّا العلماء باللّه فهم الحكماء الّذين قال اللّه في حقّهم: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ

ص: 304

يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (1) و هم الأنبياء الّذين اصطفاهم اللّه لدينه و معرفته و لإرشاد الخلق إلى مصالح معادهم و معاشهم و ليس المراد من الحكماء المتقوّلين في الجواهر و الأعراض و أمّا العلماء بصفات اللّه فهم أصحاب الأصول و أمّا العلماء بأحكام اللّه فهم الفقهاء فثبت من هذا التقرير أنّ أكمل من صدق عليه هذه الآية من الخلق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ عليه السّلام ثمّ الأمثل فالأمثل.

قوله تعالى: [وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ] أي الملّة الحسنة الّتي هي الإسلام و الملّة السيّئة الّتي هي الكفر أو لا تستوي الأعمال الصالحة و الأعمال القبيحة أو لا تستوي الخصلة الحسنة و السيّئة مثل أن لا يستوي الحلم و الغضب و العلم و الجهل و المداراة و الغلظة و العفو و الانتقام.

ثمّ بيّن سبحانه ما يلزم على الداعي من الرفق بالمدعوّ فقال: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع بحقّك باطلهم بحلمك و رفقك و بعفوك إساءتهم [فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ فإنّك إذا دفعت خصومك بلين و مداراة صار عدوّك الّذي يعاديك في الدّين بصورة وليّك القريب و يصير كأنّه حميمك في النسب و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّ الحسنة التقيّة و السيّئة الإذاعة.

[وَ ما يُلَقَّاها] أي و ما يلقّى هذه الفعلة و الحالة و هي دفع السيّئة بالحسنة [إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا] على كظم الغيظ و احتمال المكروه و صبروا في الدنيا على الأذى عن الصادق عليه السّلام.

و لا يؤتاها [إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي ذو نصيب وافر من الرأي و العقل و قيل: إلّا ذو نصيب من الثواب و الخير و الجنّة.

أقول: إنّ من آتاه اللّه قريحة قويّة و نصابا وافيا من العلوم في القرآن عرف أنّه سبحانه كيف علّم نبيّه في إقامة الدعوة و آداب المناظرة.

و جمع في الآية طريق السلوك مع النفوس القاصرة و الجدل في إثبات حجج الحقّ و كيف أدّب نبيّه بمكارم الأخلاق.

ص: 305


1- البقرة: 269.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 36 الى 42]

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)

النزغ شبة النخس و الشيطان ينزغ الإنسان و ينخسه و يبعثه على ما لا ينبغي.

أي و إن صرفك عما شرعت من الدفع بالّتي هي أحسن [فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرّه و لا تطعه و امض على شأنك و اطلب الاعتصام من شرّه باللّه [إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بأقوالكم [الْعَلِيمُ بنيّاتكم.

ثمّ ذكر دلائل التوحيد بقوله: [وَ مِنْ آياتِهِ و حججه الدالّة على توحيده و صفاته الّتي باين خلقه بها [اللَّيْلُ وَ النَّهارُ] بذهاب الشمس عن بسيط الأرض و بطلوعها على وجهها على وجه مستقرّ و نظام مستمرّ [وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ] و ما اختصّا به من النور و ظهر فيهما من التدبير و للتسيير و التصرّف في العالم.

[لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ] و إن كان فيها منافع كثيرة لأنّهما ليسا بخالقين [وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ و أنشأهنّ و إنّما قال: «خَلَقَهُنَّ» لأن الضمير يرجع إلى الآيات لأنّه قال: و من آياته هذه الأشياء، و الضمير راجع إلى الليل و النهار و الشمس و القمر و حكم جماعة ما يعقل حكم الأنثى يقال للأقلام: بريتها و بريّتهنّ.

و إنّما قال: [إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لأنّ ناسا كانوا يسجدون للشمس و القمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب و يزعمون أنّهم يقصدون بالسجود لها السجود للّه فنهوا عن هذه الواسطة و أمروا أن لا يسجدو إلّا للّه الّذي خلق هذه الأشياء و المرويّ عن ابن

ص: 306

عبّاس و جماعة أنّ موضع السجود عند قوله: «وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ» و عن ابن مسعود و جماعة أنّ الموضع عند قوله: «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» و هو اختيار أبي عمرو بن العلاء و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

ثمّ قال سبحانه: [فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا] عن توجيه العبادة إلى اللّه وحده [فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ و هم الملائكة [يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ أي لا يملّون و لا يفترون و لا ينفكّون عن العبادة و التسبيح لحظة واحدة.

و المشبّهة تمسّكوا بظاهر الآية بقوله: «عِنْدَ رَبِّكَ» على إثبات المكان و الجهة للّه تعالى.

و الجواب أنّه قال: عند الملك من الجند كذا و كذا و لا يراد به قرب المكان فكذا هاهنا و يقال: عند الشافعيّ لا يقتل المسلم بالذمّي.

و كذا استدلّ بعض بهذه الآية بأنّ الملك أفضل من البشر و هو استدلال الأعلى على حال الأدون.

و الجواب عدم تسليم الأعلويّة أوّلا ثمّ داعية الترك في البشر و ليس داعية الترك في العبادة في الملك.

قوله تعالى: [وَ مِنْ آياتِهِ أي من الأدلّة الدالّة على ربوبيّته [أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً] غبراء دارسة متهشّمة حالها حال المتواضع و قيل: المراد إنّها ميّتة يابسة لا نبات فيها قال الأزهريّ: إذا يبست الأرض و لم تمطر قيل: قد خشعت [فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ أي تحرّكت بالنبات و ارتفعت قبل أن تنبت [وَ رَبَتْ بكثرة ريعها و انتفخت.

ثمّ قال: [إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى يعني إنّ القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها [إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] لأنّ عودة التأليف و التركيب إلى تلك الأجزاء المتفرّقة المحفوظة في علم اللّه ممكن لذاته و اللّه قادر على جميع الممكنات فوجب أن يكون قادرا على إعادة الحياة و القدرة و العقل و الفهم إلى تلك الأجزاء و قد أخبر سبحانه بوقوعها فوجب وقوعها و هذا هو الدليل الأصليّ في العماد.

ص: 307

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا] أي إنّ الّذين يميلون عن الإيمان بآياتنا لا يخفون علينا بأشخاصهم و أقوالهم و أفعالهم و قيل: المراد من الإلحاد في الآيات تبديلهم ذلك و وضعه في غير موضعه و تحريف دلائل التوحيد من الآيات و ترك الاستدلال بها.

ثمّ قال سبحانه على وجه الإنكار و التهجين لهم: [أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ] أي إنّ الملحد الّذي يلقى في النار مثل أبي جهل خير و الّذي يأتي آمنا يوم القيامة رسول اللّه، قال عكرمة: هو عمّار بن ياسر و الصحيح أنّه على العموم من المؤمن و الكافر.

ثمّ قال: [اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ اللفظ الأمر و معناه الوعيد أي إذا علمتم أنّهما لا يستويان قال أمير المؤمنين عليه السّلام: فليختر كلّ واحد منكم لنفسه ما شاء من الأمرين فإنّ العاقل لا يختار الإلقاء في النار فإذا لم يختر ذلك فلا بدّ أن يؤمن بالآيات [إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] و عالم بأعمالكم.

ثمّ قال متهجّنا لهم: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ] الّذي هو القرآن [لَمَّا جاءَهُمْ أي حين جاءهم ثمّ أخبر سبحانه في وصف الذكر و ترك خبر «إن» على تقدير «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ» يجازون بكفرهم و نحو ذلك و قيل: إنّ خبره: «أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» [وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ] الضمير في «إِنَّهُ» راجع إلى الذكر و القرآن أي إنّه يجب أن يعزّ و يجلّ لأنّه لا يقدر أحد من العباد أن يأتي بمثله و عزيز بإعزاز اللّه إيّاه إذ حفظه من التغيير و التبديل و جعله اللّه على أتمّ الصفات في الإحكام.

و [لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ و قيل: في هذا المعنى أقوال:

أحدها: إنّ الباطل الشيطان أي لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّا أو يزيد فيه باطلا.

و ثانيها: أنّه لا يأتيه ما يبطله من بين يديه أي من الكتب الّتي قبله و لا من خلفه أي لا يجي ء من بعده كتاب ينسخه.

و ثالثها: أنّه ليس في أخباره عمّا مضى باطل و لا في أخباره عمّا يكون في المستقبل

ص: 308

باطل بل أخباره كلّها موافقة لمخبراتها و هو المرويّ عن الصادق و الباقر عليهما السّلام.

و رابعها: لا يأتيه الباطل من أوّل تنزيل و لا من آخره.

و خامسها: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات فلا تناقض في ألفاظه و لا يعارض و لا يزاد فيه و لا يغيّر بل هو محفوظ حجّة على المكلّفين إلى يوم القيامة.

[تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] أي هو تنزيل من حكيم عالم بوجوه الحكمة و المصالح حميد مستحقّ للحمد على خلقه بالإنعام عليهم، و القرآن هو من أعظم نعمه فاستحقّ به الحمد و الشكر.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 43 الى 45]

ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)

ثمّ عزّى نبيّه على تكذيبهم فقال:

[ما يُقالُ لَكَ أي ما يقول هؤلاء الكفّار لك [إِلَّا ما قَدْ قِيلَ للأنبياء قبلك من الجحد و التكذيب لنبوّتهم و قيل: المعنى ما يقول اللّه لك [إِلَّا ما قَدْ] قاله [لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ و هو الأمر بالتوحيد و لزوم طاعته فهذا القرآن موافق لما قبله من الكتب و قيل: معناه ما حكاه بعده و هو [إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ فيكون على جهة الوعد لمن آمن و الوعيد لمن كفر فمن الحقّ أن يرجوه أهل طاعته و يخافه أهل معصيته.

قوله: [وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا] أي إنّا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا كيف أرسلت الكلام العجميّ إلى القوم العرب و يصحّ لهم فرضا أن يقولوا: قلوبنا في أكنّة ممّا تدعونا إليه و في آذاننا وقر لأنّا لا نفهمه و لا نحيط بمعناه [لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي هلّا تبيّنت عباراته بلسان العرب حتّى نفهمه.

[ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌ أي كتاب أعجميّ و نبيّ عربيّ؟ و هذا استفهام على وجه

ص: 309

الإنكار و كانوا يقولون المنزل عليه عربيّ و المنزل أعجميّ و كان ذلك أشدّ لتكذيبهم و كان بزعمهم لهم عذرا لعدم قبولهم. و تسمّي العرب من لم يبيّن كلامه من أيّ صنف كان من الناس: أعجم و قال أبو علي: الأعجميّ الّذي لا يفصح في كلامه من العرب كان أو من العجم قالوا «زياد الأعجم» لآفة كانت في لسانه و كان عربيّا و قالوا: صلاة النهار عجماء أي تخفى فيها القراءة و لا تبيّن.

و بالجملة بيّن اللّه إنّه أنزل الكتاب بلغتهم و أرسل الرسول من عشيرتهم ليكون أبلغ في الحجّة و أقلع للمعذرة.

[قُلْ يا محمّد: [هُوَ] أي القرآن [لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً من الضلالة [وَ شِفاءٌ] للقلوب من كلّ ريب و شبهة و سمّي اليقين شفاء كما سمّي الشك مرضا كما قال سبحانه: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ»*.

قوله: [وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ] ثقل و صمم عن سماعه فلا ينتفعون به فكأنّهم صمّ عنه [وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى و عميت قلوبهم عنه لأنّهم لمّا ضلّوا عنه و جازوا عن تدبّر القرآن فكأنّه عمي لهم [أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ] أي إنّهم لا يسمعون و لا يفهمون كما أنّ من دعي من مكان بعيد لم يسمع و لم يفهم لبعد أفهامهم و شدّة اعتراضهم و بعد قلوبهم عنه.

و الغرض من البيان في الآية تمثيل لهم في عدم قبولهم و استماعهم للقرآن بمن ينادي من مسافة نائية لا يكاد يسمع من مثلها الأصوات.

قوله تعالى: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة [فَاخْتُلِفَ فِيهِ لأنّه آمن به قوم و كذّب به آخرون و هذه تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن جحود قومه له و إنكار نبوّته بأنّ الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختصّ بقومك.

[وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في حقّ امّتك المكذّبة و هي العدة بتأخير عذابهم و الفصل بينهم و بين المؤمنين يوم القيامة حيث قال سبحانه: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ» (1) و قوله تعالى: «وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى»* (2) و أنّه سبحانه لا يعذّبهم و أنت

ص: 310


1- القمر: 46.
2- النحل: 61.

فيهم [لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لحكم باستيصالهم و عذابهم [وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي إنّ قومك لفي شكّ ممّا ذكرناه موقع لهم الريبة و هو أفظع الشكّ. و الضمير في «مِنْهُ» راجع إلى القرآن.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 46 الى 50]

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)

ثمّ بيّن حال من عمل صالحا و آمن بالكتب بموجبها فلنفسه يعمله و نفعه راجع إلى نفسه [وَ مَنْ أَساءَ] ضرره راجع إليه لا لغيره و لا يؤخذ أحد بذنب غيره [وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] و هذا الكلام على وجه المبالغة في نفي الظلم عن نفسه للعبيد و إنّما قال ذلك مع أنّه سبحانه لا يظلم مثقال ذرّة لأنّ من فعل الظلم و إن قلّ و هو عالم بقبحه و بأنّه غنيّ عن فعله لكان ظلّاما كما أنّه لو صدر أمر جزئيّ من القباحة من شخص كامل شريف لكان ذلك القبيح الجزئيّ من ذلك الشريف كثيرا و عظيما جدّا.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه العالم بوقت القيامة فقال: [إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ] الّتي يقع فيها الجزاء للمطيع و العاصي و لما هدّد الكفّار بأنّ جزاء كلّ أحد يصل إليه يوم القيامة كأنّ سائلا يقول: و متى يكون ذلك اليوم للجزاء فقال: لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك الوقت إليه يردّ ذلك العلم.

ثمّ مثّل من علمه بمثالين فقال: [و ما يخرج من ثمرة] و إفراد الثمرة يدلّ على الكثرة و استغنى به عن الجمع أي عمّا يخرج ثمرة من أوعيتها و علقها، و الأكمام جمع كم و كم جمع كمّه و هي الكفريّ.

[وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ هذا هو المثال الثاني أي لا تحمل أنثى

ص: 311

من حمل ذكرا كان أم أنثى إلّا في الوقت الّذي علم سبحانه أنّها تحمل فيه فيعلم قدر الثمار و كيفيّتها و أجزاءها و طعومها و روائحها و يعلم ما في بطون الحبالى و كيفية انتقالها حالا بعد حال و أنّه عالم بالجزئيّات.

[وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي اللّه المشركين [أَيْنَ شُرَكائِي في قولكم و زعمكم [قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ] أي يتبرّءون يومئذ من أن يكون مع اللّه شريك قال ابن عبّاس: «آذَنَّاكَ» أي أسمعناك كقوله: «وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ»* (1) بمعنى سمعت أي أعلمناك ما من أحد منّا يشهد لهم بالشركة إذ تبرّأنا عنهم لمّا عاينّا الحال، أو المعنى إنّه ما منّا من يشاهد الشركاء لأنّهم ضلّوا عنّا و ضلّت عنهم آلهتهم لا يبصرونها و قيل: المعنى أنّك علمت من قلوبنا و عقائدنا الآن أنّا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة بالشركة لأنّه إذا علمه من نفوسهم فكأنّهم أعلموه أو المعنى الإنشاء لا الإخبار بما قد كان قبل ذلك.

[وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ أي يعبدون [مِنْ قَبْلُ و ظهر عدم نفعهم فكان حضورهم كغيبتهم [وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ فبطل عنهم ما كانوا أملوه من أصنامهم و علموا و تيقّنوا أن لا مخلص من عذاب اللّه و قد يعبّر بالظنّ عن اليقين فيما طريقه الخبر دون العيان و قيل: ظنّوا أوّلا ثمّ أيقنوا أنّه لا محيص لهم عن النار.

ثمّ بيّن سبحانه حال الإنسان و قيل: المراد الإنسان في الآية الكافر و هو متبدّل الأحوال متغيّر المنهج فإن أحسن بخير و نعمة انتفخ و تعظّم و إن أحسن ببلاء و محنة ذبل و تصغّر كما قيل في المثل: هو كالقرلّى إن رأى خيرا تدلّى و إن رأى شرّا تولّى فقال سبحانه:

[لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ] أي إنّه في حال الإقبال و مجي ء المراد لا ينتهي قطّ إلى درجة إلّا و يطلب الزيادة عليها و يطمع بالفوز بها و بأكثر منها و في حال الإدبار و الحرمان يصير آيسا قانطا و الحاصل إنّه لا يزال يسأل الخير الّذي هو المال و الغنى و الصحّة و الولد و إن مسّه الشر أي الشدّة و الفقر فهو شديد اليأس قنوط من الرحمة و من إجابة الدعاء و قيل: القنوط سيّئ الظنّ بربّه.

ص: 312


1- الانشقاق: 2 و 5.

[وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا] أي خيرا و عافية و غنى [مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي هذا بعملي و محقوق به و قيل: هذا لي أبدا دائما [وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً] أي كائنة [وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي أي لست على يقين من البعث فإن كان الأمر على ما يقولون و حمل البعث و رددت في القيامة [إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي الحالة الحسنة و هي الجنّة أي سيعطين في الآخرة مثل ما أعطيت في الدنيا.

ثمّ هدّد سبحانه من هذه صفته أن قال: [فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا] أي لنقفنّهم يوم القيامة على مساوي أعمالهم و عقائدهم [وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ] شديد متراكم.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 51 الى 54]

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ (54)

ثمّ أخبر عن حال الإنسان الّذي تقدّم ذكره فقال:

[وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن الشكر [وَ نَأى و صرف وجه و تجبّر عن الاعتراف بنعم اللّه و من قرأ «ناء» فمقلوب «نائي» كقول الشاعر:

«أقول و قد ناءت به غربة النوى» [وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ] أي الفقر أو المرض و الشدّة فهو [ذو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير و إنّما قال: «عَرِيضٍ» و لم يقل: طويل لأنّه أبلغ فإن العرض يدلّ على الطول و الطول لا يدلّ على العرض إذ قد يصحّ طويل و لا عرض له و لا يصحّ عريض و لا طول له فإنّ العرض الانبساط في خلاف جهة الطول و الطول الامتداد في أيّ جهة كان و حاصل المعنى أنّ الكافر سيّال ربّه بالتضرّع أن يكشف ما به من الضرّ و البلاء و يعرض عن الدعاء في الرخاء و النعمة و الخصب قوله تعالى: [قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ قل يا محمّد لهم: أخبروني إن كان القرآن من عند اللّه ثمّ كفرتم به فبتقدير أن يكون صحيحا يكون دفعكم و إصراركم في عدم قبوله مع تعاضد موجبات الإيمان به [مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ] أي من أضلّ منكم فوضع الموصول موضع الضمير

ص: 313

تعليلا لمزيد ضلالهم.

ثمّ قال سبحانه: [سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ الأفق ناحية من نواحي الأرض و كذلك آفاق السماء نواحيها و أطرافها و المراد من آيات الآفاق الآيات الفلكيّة و الكوكبيّة و آيات الليل و النهار و الأضواء و الاضلال و عالم العناصر الأربعة قال ابن عبّاس: «فِي الْآفاقِ» أي منازل الأمم الخالية و آثارهم و «فِي أَنْفُسِهِمْ» يوم بدر و قيل: في الآفاق ما يفتح اللّه له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من القرى و «فِي أَنْفُسِهِمْ» فتح مكّة و قيل:

«فِي أَنْفُسِهِمْ» المراد ما دبّر سبحانه من لطيف صنعه و بديع حكمته في تكوين الأجنّة في ظلمات الأرحام و التركيبات الغريبة.

[حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ أي يظهر أنّ تعالى الحقّ و نريهم في هذه الدلائل مرّة بعد اخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم و يحصل فيها الجزم و القطع بوجود الإله القادر.

فإن قيل: أنّ كلمة «سَنُرِيهِمْ» يقتضي إنه تعالى ما اطّلعهم على تلك الآيات إلى الآن و سيطّلعهم عليها بعد ذلك و الآيات الموجودة في العالم الأعلى و الأسفل قد كان اللّه اطّلعهم عليها قبل ذلك.

فالجواب أنّ القوم و إن كانوا قد رأوا هذه الأشياء العجيبة إلّا أنّ عجائبها ممّا لا نهاية لها فهو تعالى يطّلعهم على تلك العجائب زمانا فزمانا و كلّما يزداد المتأمّل في هذه التركيب يزداد وقوفا فصحّ هذا الكلام.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] و المعنى أولم يكفهم أنّ ربّك شهيد على الأشياء و محقّق لكلّ شي ء و قوله: «بِرَبِّكَ» في موضع الرفع على الفاعليّة أو البدليّة و قيل: المعنى أولم يكف ربّك شاهدا أنّ القرآن من عند اللّه.

[أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ «أَلا» كلمة تنبيه و تأكيد بأنّ الكفّار في شكّ من لقاء ربّهم و عقابه أي في شكّ من مجازاة ربّهم [أَلا إِنَّهُ تعالى [بِكُلِّ شَيْ ءٍ] محيط أي أحاط علمه بكلّ شي ء فلا يخفى عليه شي ء. تمّت السورة بعون اللّه.

انتهى الجزء التاسع و يتلوه العاشر ان شاء اللّه.

ص: 314

المجلد 10

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

كلمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الّذي نزل القرآن نورا و سراجا و قمرا منيرا. و الصلاة و السّلام على رسوله الّذي أنزل عليه الكتاب بيانا للناس و هدى و موعظة للمتقين، و على آله الطيبين ثاني الثقلين. و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

و بعد فقد بذل علماء الإسلام قديما و حديثا جهدهم في تفسير علوم القرآن و تبيين لغاته و مشكلاته، ففريق فسروا ألفاظه و بينوا حقائقه من مجازه، و جمع جمعوا أحكامه و بينوا حلاله و حرامه، و طائفة كشفوا عن تأويلاته قناعه؛ و كيفما كان ما و صلوا إلا إلى مبلغ علمهم و منتهى هممهم، و أنى لهم الوصول إلى حقائق التنزيل و دقائق التأويل؟ لان القرآن هو النور الّذي أنزله اللّه على قلب حبيبه محمد صلى الله عليه و آله. إلا أن المتمسكين بولاء أهل بيت الوحى المستضيئين بنور علمهم المأمورين بالتمسك بهم في حديث الثقلين قد اغترفوا من بحار علوم أهل بيت النبي غرفا و غاصوا فيها و اقتنوا منها دررا.

و ها هي المقتنيات الدرر، قد اقتناها علم من الأعلام ثمرة الشجرة الطيبة و النخبة من السلالة الطاهرة: «الحاج المير سيد على الحائرى» تغمده الله بغفرانه، و اوتى كتابه هذا بيمينه، قد اقتنى من الدرر أغلاها و من الغرر أسناها فحقيق أن يتنافس المتنافسون في الاستفادة منها.

و قد وفق الله تلميذه المستضي ء بنور علمه المقتفى أثره: الحاج ميرزا عبد الحسين المعروف بمحسنيان لبذل الجهد باحياء هذا السفر الجليل القيم.

هذا و منّ الله سبحانه عليه عبده الزاكي صاحب الهمة القعساء و ارومة الفضل: الحاج محمود الكاشاني؛ فأنعم عليه و شرفه بإعطاء نفقة طبع الكتاب خدمة للدين و اتحافا للطيفة والده السعيد الحاج محمد حسين الكاشاني طيب اللّه رمسه، و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.

و نشكر جميل مساعى الشاب الفاضل الا ريب السيد الكاظم الموسوي المياموى حيث بذل جل أوقاته لمقابلة أجزاء الكتاب مع نسخة الأصل و تخريج الآيات المنثورة في ثناياه و اسناد ما يهم من رواياته و بعض الإصلاح فيه. و نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لا تمامه بمحمّد و آله.

محمّد الآخوندي

ص: 2

أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم

سورة حمعسق

اشارة

و تسمّى سورة الشورى و هي مكّيّة إلّا أربع آيات منها نزلن بالمدينة و الأربع أوّلها: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» قال ابن عبّاس؛ و لمّا نزلت هذه الآية قال رجل:

ما أنزل اللّه هذه الآية فأنزل اللّه «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» ثمّ إنّ الرجل تاب و ندم فنزل «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» إلى قوله: «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ».

فضلها: عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قرأ سورة حمعسق كان ممّن يصلّي عليه الملائكة و يستغفرون له و يسترحمون. و روى سيف بن عميرة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

من قرأ حم عسق بعثه اللّه يوم القيامة و وجهه كالقمر ليلة البدر حتّى يقف بين يدي اللّه فيقول:

عبدي أدمنت قراءة حمعسق و لم تدري ما ثوابها أما لو دريت ما هي و ما ثوابها لما مللت من قراءتها و لكن سأجزيك جزاءك: أدخلوه الجنّة و له فيها قصر من ياقوتة حمراء أبوابها و شرفها و درجها منها يرى ظاهرها من باطنها و باطنها من ظاهرها و له فيها حورا من الحور العين و ألف جارية و ألف غلام من الولدان المخلّدين الّذين وصفهم اللّه.

التفسير: ختم اللّه سورة السجدة بذكر القرآن و افتتح هذه السورة بذكره أيضا فقال:

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الشورى (42): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)

تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)

[حم عسق في المعاني عن الصادق عليه السّلام معناه الحكيم المثيب العالم السميع القادر القويّ. و القميّ عن الباقر عليه السّلام: هو حروف من اسم اللّه الأعظم المقطوع يؤلّفه الرسول أو الإمام بعلمه فيكون الاسم الأعظم الّذي إذا دعي اللّه به أجاب. و عنه عليه السّلام في عسق عدد سني القائم عليه السّلام، و قاف جبل يحيط بالدنيا من زمرّدة خضراء فخضر السماء من ذلك الجبل و علم كلّ شي ء في عسق.

نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: لا نبيّ صاحب كتاب إلّا و قد اوحي إليه حم عسق.

قيل: و إنّما فصّلت هذه السورة من الحواميم بعسق لأنّ جميعها استفتح بذكر الكتاب على التصريح إلّا هذه فذكر عسق ليكون دلالة على الكتاب تضمينا لا تصريحا لأنّها اسم للسورة و السورة هي القرآن. و قال عطا: هي حروف مقطّعة من حوادث آتية فالحاء من حرب و الميم من تحويل ملك و العين من عدوّ مقهور و السين من الاستئصال بسنين كسني يوسف و القاف من قدرة اللّه و أمثال هذه البيانات مرّت في سورة البقرة.

قوله: [كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ الكاف معناه المثل و ذا للإشارة إلى شي ء سبق ذكره فيكون المعنى في مثل هذه السورة المسمّاة حم عسق اوحي إليك في سائر السور و إلى من قبلك من الرسل في كتبهم على أنّ المناط في المماثلة ما يتبيّن فيها من الدعوة إلى التوحيد

ص: 4

و الإرشاد إلى المعاد و ما فيه صلاح الخلائق و العدل.

فحاصل المعنى أنّ مثل الكتاب و السورة المسمّاة حم عسق يوحي اللّه إليك و إلى كلّ من قبلك من الأنبياء. قال الزمخشريّ: أتى بلفظ المضارع ليدلّ على أنّ إيحاء مثله عادته.

و قرئ «يوحى» بفتح الحاء على ما لم يسمّ فاعله و قرئ بالنون على التكلّم و الأكثر قرءوا بكسر الحاء فعلى القراءة الاولى الرافع لاسم اللّه ما دلّ عليه يوحى كأنّ قائلا قال:

من الموحي؟ فقيل: اللّه فإن قيل: فما رافعه إذا كان بالنون؟ فحينئذ الرفع بالابتداء و العزيز و ما بعده إخبار و العزيز الحكيم صفتان و الخبر الجملة الظرفيّة، و على القراءة الكسر فالرفع على الفاعليّة.

و بالجملة كونه عزيزا يدلّ على كونه قادرا على ما لا نهاية له و كونه حكيما يدلّ على كونه عالما بجميع المعلومات غنيّا عن جميع الحاجات نعم ما قيل:

الحمد للّه ذي الآلاء و النعم و الفضل و الجود و الإحسان و الكرم

منزّه الفعل عن عيب و عن عبث مقدّس الملك عن عزل و عن عدم

[لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ فهو سبحانه موصوف بقدرة نافذة في جميع أجزاء السماوات و الأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد و الإعدام و التكوين و الإبطال «وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» و لا يجوز أن يكون المراد علوّ المكان و الجهة لمّا ثبتت الدلالة على فساده و كذلك لا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثّة و كبر الجسم لأنّ ذلك يقتضي كونه مؤلّفا من الأجزاء و الأبعاض و ذلك ضدّ قول اللّه:

«أَحَدٌ»* فالمراد من العليّ المتعالي عن مشابهة الممكنات و المحدثات و من العظيم العظمة بالقدرة و القهر بالاستعلاء و الكمال.

ثمّ قال: [تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ و قرئ بالياء في تكاد و بالتاء في «يَتَفَطَّرْنَ» أي قرب السماوات يتشقّقن من عظمة اللّه تعالى و قيل: من دعاء الولد له كما في سورة مريم «أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» (1) «مِنْ فَوْقِهِنَّ» أي يبتدئ التفطّر من جهتهنّ الفوقانيّة فعلى كون الانشقاق من العظمة لما أنّ أعظم الآيات و أدلّها على العظمة و الجلال من جهة

ص: 5


1- الآية: 29.

الفوق و الملأ الأعلى و على كون سبب التشقّق نسبة الولد للدلالة على التفطّر من تحتهنّ بالطريق الأولى لأنّ تلك كلمة الشنعاء الواقعة في الأرض حيث أثّرت في جهة الفوق فلأنّ تؤثّر في جهة التحت أولى. و قيل: الضمير في قوله: «فَوْقِهِنَّ» راجع إلى الأرضين أي من فوق الأرضين و هذا على طريق التمثيل و المعنى: لو كانت السماوات تتفطّر لشي ء لانفطرت لهذه العظمة أو لهذا الكلام الفاسد.

ثمّ قال: [وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزّهون اللّه عمّا لا يليق به و لا يجوز في صفاته و أفعاله [وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ من المؤمنين، القميّ قال: للمؤمنين من الشيعة التوّابين خاصّة، و لفظ الآية لو كان عامّا فالمعنى خاصّ لقوله تعالى: «وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا».

ثمّ قد ثبت بدليل منفصل أنّ الكفّار ليسوا قابلين للمغفرة و للشفاعة فاختصّ المعنى بالمؤمن لأنّه تعالى قال: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ» فكيف يكونون لاعنين و مستغفرين لهم؟

ثمّ إنّ قوله تعالى: «لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» لعلّه لا يفيد العموم لأنّه يصحّ أن يقال:

أنّهم استغفروا لكلّ من في الأرض و أن يقال: إنّهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض و لو كان قوله: «لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» صريحا في العموم لما صحّ ذلك التقسيم.

و تأمّل أيّها المتأمّل في هذا الترتيب الشريف العالي في نظم القرآن فإنّ الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثّر لا يقبل الأثر و هو اللّه سبحانه و هو أشرف الأقسام و متأثّر لا يؤثّر و هو القابل و هو الجسم و هو أخسّ الأقسام و موجود يقبل الأثر من القسم الأوّل و يؤثّر في القسم الثاني و هو الجواهر الروحانيّات المقدّسة و هو المرتبة المتوسّطة فهذه الجواهر الروحانيّة لها تعلّقان تعلّق بعالم الجلال و الكبرياء و هو تعلّق القبول و الاستفاضة لأنّ الأضواء الصمدانيّة إذا أشرقت على الجواهر الروحانيّة استضاءت جواهرها فلمّا استفادت تلك القوى الروحانيّة قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيّات فقوله: «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» إشارة إلى الوجه الّذي إلى عالم الكبرياء و قوله: «وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى الإفاضة و إيصال الخير إلى عالم الأجسام.

ص: 6

فالجهة العلويّة اشتملت على أمرين: أحدهما التسبيح و التنزيه و ثانيهما التحميد و التسبيح مقدّم على التحميد لأنّه جهة التخلية و التحلية مقدّمة على التجلية لأنّ كونه تعالى منزّها في ذاته عمّا لا ينبغي مقدّم في الرتبة على كونه فيّاضا للخيرات و السعادات لأنّ وجود الشي ء مقدّم على إيجاد غيره و حصوله في نفسه مقدّم على تأثيره في حصول غيره فلهذا السبب كان التسبيح مقدّما على التحميد.

و أمّا الجهة الثانية فالإشارة إليها بقوله: «وَ يَسْتَغْفِرُونَ» و المراد إفاضتها و تأثيراتها الخيريّة في عالم الجسمانيّات من الفيّاض المطلق و ذلك الفيض الّذي يصدر منهم أيضا لشفقة اللّه على خلقه لأنّه سبحانه خلق الداعية في قلوبهم بطلب المغفرة للمؤمنين فكلّ الخير منسوب إليه تعالى شأنه و لو لا اللّه خلق تلك الداعية في قلوبهم لما أقدموا على الطلب فالغفور المطلق و الرحيم المطلق هو اللّه كما شهد لنفسه بذلك بقوله: [أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 6 الى 10]

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (9) وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (10)

ثمّ أخبر سبحانه عن إمهاله الكفّار بعد تقديم الإنذار فقال: [وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ] أي آلهة عبدوها من كفّار مكّة و غيرهم أي إنّ الّذين آمنوا باللّه يستغفرون لهم الملائكة و إنّه تعالى يعطى المغفرة الّتي طلبوها لهم و يضمّ إليها الرحمة التامّة و أمّا الّذين جعلوا له شريكا و أندادا [اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ و رقيب على أحوالهم لا يفوته منها شي ء [وَ ما أَنْتَ يا محمّد بمفوّض إليك أمرهم و لا مقتسرهم على الإيمان إنّما أنت منذر فحسب.

ص: 7

قوله تعالى: [وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا] أي مثل ما أوحينا إلى من تقدّمك من الأنبياء بالكتب الّتي أنزلناها عليهم بلغة قومهم و بلسانهم أوحينا إليك قرآنا بلغتهم لتنذر أهل مكّة و من حولها من الخلق. و قرئ الأرض، و سمّيت مكّة أمّ القرى و كنّيت بهذه الكنية إجلالا لها لأنّ فيها البيت و امّ الأرض لأنّها دحيت من تحت موضعها و العرب تسمّي أصل كلّ شي ء امّه مثل أن يقال: هذه القصيدة من امّهات القصائد.

فإن قيل: إنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ اللّه إنّما أوحى إليه لينذر أهل مكّة و أهل القرى المحيطة بمكّة و هذا يقتضي أن يكون صلّى اللّه عليه و آله رسولا إليهم فقط و أن لا يكون رسولا إلى كلّ العالمين.

فالجواب أنّ التخصيص بالذكر لا يدلّ على نفي الحكم عمّا سواه نعم سلّمنا أنّ هذه الآية تدلّ على كونه رسولا إلى هؤلاء خاصّة فقوله: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» يدلّ صريحا على كونه رسولا إلى كلّ العالمين.

و أيضا دليل آخر و هو أنّه لمّا ثبت كونه رسولا إلى أهل مكّة وجب كونه صادقا فلمّا ثبت بالتواتر أنّه كان يدّعي الرسالة إلى العالمين وجب تصديقه لأنّ الرسول صادق فيما أخبر به و إلّا لم يكن رسولا و وجب تصديقه فثبت أنّه رسول إلى كلّ العالمين.

ثمّ قال سبحانه: [وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي تنذرهم بيوم القيامة فيجمع اللّه فيه الأوّلين و الآخرين و أهل السماوات و الأرضين، و يوم الجمع مفعول ثان لتنذر [لا رَيْبَ فِيهِ و لا شكّ في كونه و حصوله.

ثمّ قسّم سبحانه أهل الجمع فقال: [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ] بطاعتهم و قبولهم الأوامر [وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] بمعصيتهم [وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً] أي و لو شاء اللّه لحملهم على دين واحد و هو الإسلام بأن يضطرّهم و يلجئهم إليه لفعله و لكنّه لم يفعل لأنّه يؤدّي إلى إبطال التكليف و التكليف إنّما يتحقّق مع الاختيار. و قيل: معناه و لو شاء اللّه لسوّى بين الناس في المنزلة بأن يخلقهم في الجنّة و لكنّه اختار لهم أعلى الدرجتين و هو استحقاق الثواب و الجنّة.

[وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ بسبب قبولهم الإيمان و الطاعة [وَ الظَّالِمُونَ

ص: 8

ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ] بسبب ظلمهم و كفرهم و ليسوا قابلين لنصرة اللّه و ولايته و ما أدخلهم في رحمته.

[أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ] استفهام إنكاريّ و جملة مفسّرة من أن يكون للظالمين وليّ أو نصير و المراد نفي الولاية للّذين اتّخذوهم لهم أولياء [فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ جواب شرط مقدّر محذوف كأنّه قيل بعد إبطال ولاية ما اتّخذوه أولياء: إن أرادوا وليّا في الحقيقة فاللّه هو الوليّ لا وليّ سواه لأنّه المالك للنفع و الضرّ [وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] لأنّه يحيي الموتى فهو الحقيق بأن يتّخذ وليّا دون من لا يقدر على شي ء، ثمّ قال: [وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي و ما اختلفتم فيه شي ء في أموركم و تنازعتم فتحاكموا فيه إلى رسول اللّه و لا تؤثروا حكومة غيره على حكومته و قيل: المعنى: و ما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور الّتي لا مدخليّة لها بتكليفكم و لا طريق لكم إلى علمه كحقيقة الروح فقولوا: اللّه أعلم.

[ذلِكُمُ الحاكم العظيم الشأن [اللَّهُ رَبِّي و مالكي [عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في مجامع اموري خاصّة دون غيره [وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في مهمّات اموري و حيث كان التوكّل أمرا واحدا مستمرّا و الإنابة متعدّدة متجدّدة حسب تجدّد موادّها عبّر في الأوّل بصيغة الماضي و في الثاني بصيغة المستقبل.

و احتجّ نفاة القياس بهذه الآية. و قوله: «ذلِكُمُ اللَّهُ» معترضة بين الصفة و الموصوف.

ثمّ وصف سبحانه نفسه بقوله:

[سورة الشورى (42): الآيات 11 الى 15]

فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

ص: 9

قوله: [فاطِرُ السَّماواتِ قرئ بالرفع على أنّه خبر «ذلِكُمُ» أو خبر مبتدء محذوف و بالجرّ على أنّه بدل من قوله: «فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ» أي اللّه خالق السماوات و الأرض و مبتدعها.

و [جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم من الناس [أَزْواجاً] أي ذكورا و إناثا و أشكالا يأنس بعضهم ببعض [وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً] ذكورا و إناثا لتكمل منافعكم بها أي و خلق أيضا للأنعام من أنفسها أزواجا.

[يَذْرَؤُكُمْ أي يكثركم يقال: ذرأ اللّه الخلق أي كثّرهم. و قوله: [فِيهِ أي في هذا التدبير في الخلقة من الزوجيّة توجب التكاثر و التناسل و الضمير في «يَذْرَؤُكُمْ» يرجع إلى المخاطبين غلب جانب العقلاء على غيرهم و لم يقل: يذرؤكم به، و قال: فيه، كأنّه جعل هذا التدبير كالمعدن لهذا التكثير كما قال: «وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» (1).

ثمّ قال: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] أي مثله شي ء و الكاف زائدة مؤكّدة لمعنى النفي قال أوس بن حجر:

و قتلى كمثل جذوع النخيل يغشاهم سبل منهمر

و قيل: الكاف ليست بزائدة فالمعنى حينئذ أنّه لو قدّر للّه تعالى مثل لم يكن لذلك المثل مثل و الصحيح هو الأوّل.

و احتجّ علماء التوحيد قديما و حديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركّبا من الأعضاء و الجوارح و الأجزاء و حاصلا في المكان و الجهة فضلا عن البراهين القاطعة عن نفي جسميّته و تحيّزه قالوا: لو كان تعالى جسما لكان مثلا لسائر الأجسام فيلزم حصول الأمثال و الأشباه له و ذلك باطل بصريح قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» و المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات و المعنى أنّ شيئا من الذوات لا يساوي اللّه في الذاتيّة و لا يماثله فلو كان اللّه جسما لكان كونه جسما ذاتا لا صفة و الأجسام متماثلة في كونها متحيّزة مثلا أو طويلة أو عريضة و عميقة فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات اللّه في كونه ذاتا و النصّ ينفي ذلك فوجب بالنصّ أن لا يكون جسما.

هذا تمام الكلام في نفي الجسميّة عنه سمعا و لو أنّ في صفاته أيضا لا يماثله و لا

ص: 10


1- البقرة: 179.

يساويه شي ء قطعا لكن لعلّ بعض الجهلة يناقشون في بعض الصفات بأن يقولوا: إنّ العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أنّ اللّه يوصف بذلك مثل أنّه تعالى قال في هذه الآية:

«وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» و قال في حقّ الإنسان: «فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» و أمثال ذلك لكن هذا قياس مع الفارق فالمثليّة في الذات غير منقول و غير معقول بالكلّيّة لأنّ المثلين هما اللّذان يقوم كلّ واحد منهما مقام الآخر في حقيقته و ماهيّته.

و الفرق بين المثل و المثل أنّ المثل هو الّذي يكون مساويا للشي ء في تمام الماهيّة و المثل هو الّذي يكون مساويا له في بعض الصفات الخارجة عن الذات و الماهيّة و إن كان مخالفا في تمام الماهيّة و اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات البتّة لأنّا نرى الجسم الواحد كان ساكنا ثمّ يصير متحرّكا ثمّ يسكن بعد ذلك فالذوات باقية في الأحوال كلّها على نهج واحد و نسق واحد و الصفات متعاقبة متزايلة فاختلاف الصفات و الأعراض لا يوجب اختلاف الذوات و أنّ علماء الأصول أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات و الحقيقة و على هذا ظهر أنّه لو كان إله العالم جسما لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلّا أنّ هذا باطل بالعقل و النقل أمّا العقل فلأنّ ذاته إذا كانت مساوية لذوات الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصحّ على سائر الأجسام من القبول للتفرّق و التمزّق و الفناء و العدم و يلزم كونه محدثا و أمّا النقل فقوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ».

و لمّا ثبت أنّ الأجسام متماثلة في تمام الماهيّة فلو كانت ذاته جسما لكان ذلك الجسم متماثلا و مساويا لسائر الأجسام و يلزم أن يكون كلّ جسم مثلا له لما بيّنّا أنّ المعتبر في حصول المماثلة اعتبار الحقائق من حيث هي هي لا اختلاف الصفات القائمة بها.

ثمّ هاهنا بحث و هو أنّ ظاهر قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» يقتضي إثبات المثل و يقتضي نفى المثل عن مثله لا عنه و ذلك يوجب إثبات المثل له له تعالى.

و الجواب أنّ العرب يقول: مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل، فنفوا البخل عن مثله و هم يريدون نفيه عنه و يقال: لا يقال لمثلي هكذا أي لا يقال لي هكذا، أو المراد بهذه العبارة المبالغة لأنّه إذا كان ذلك الحكم منتفيا عن من كان مشابها بسبب كونه مشابها له فلان يكون منتفيا عنه كان ذلك أولى فحينئذ فالمعنى ليس كهو شي ء على سبيل المبالغة بطريق الوجه المذكور و

ص: 11

لم يكن هذا اللفظ ساقطا عديم الأثر بل أبلغ.

و في الآية بيان آخر و هو أن يقال: إنّ المراد من الجمع بين حرفي التشبيه الدلالة على كونه منزّها عن المثل لأنّه لو كان له مثل مثل نفسه لكان مساويا لمثله في تلك الماهيّة و مباينا له في نفسه و ما به المشاركة غير ما به المباينة فيكون ذات كلّ واحد منهما مركّبا فلمّا حصل لواجب الوجود مثل حصل التركيب و انتفى الواجبيّة، انتهى.

[وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] سامعا للمسموعات مبصرا للمرئيّات و لكن رؤيته تعالى و سماعه لا يحصل بالقرع في الصماخ و التموّج في الهواء و تأثّر الحدقة بصورة المرئيّ لأنّ ذلك على اللّه محال.

قوله تعالى: [لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي مفاتيح أرزاق السماوات و الأرض و أسبابها و موجباتها فتمطر السماء بأمره و تنبت الأرض بإذنه. و قيل: المعنى: له خزائن السماوات و الأرض و المراد أنّ الأصنام الّتي تعبدونها ليست موصوفة بهذه الصفات [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ] أي يوسّع و يقتر لمن يشاء على ما يعلمه من المصالح للعباد [إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيفعل ذلك على وجه الحكمة.

ثمّ خاطب سبحانه [شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً] أي بيّن لكم و نهج و أوضح من التوحيد و الدين و البراءة من الشرك «ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» و الخطاب إلى أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أي شرع اللّه لكم يا أصحاب محمّد من الدّين ما وصىّ به نوحا و محمّدا و إبراهيم و موسى و عيسى.

و إنّما خص هؤلاء الخمسة بالذكر لأنّهم أكابر الأنبياء و أصحاب الشرائع العظيمة و الأتباع الكثيرة. و المراد من الدين الأخذ بالشريعة المتّفق عليها بين الكلّ من التوحيد و المعاد و الإلهيّات غير التكاليف و الأحكام المتعلّقة بالأنبياء لأنّها مختلفة متفاوتة كما قال سبحانه: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً» (1) فيجب أن يكون المراد منه الأمور الّتي لا يختلف باختلاف الشرائع [وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد [وَ] هو [ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى .

ص: 12


1- المائدة: 51.

ثمّ شرح ذلك بقوله: [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ و المراد من إقامة الدين التمسّك به و العمل بموجبه و الدوام عليه و الدعوة به للخلق «وَ لا تَتَفَرَّقُوا» أي ائتلفوا فيه و لا تختلفوا و كونوا عباد اللّه إخوانا متّفقين في الدّين كما قال يوسف عليه السّلام: «أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» (1) و قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» (2).

و احتجّ بعضهم بقوله: «شَرَعَ لَكُمْ» على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أوّل الأمر كان مبعوثا بشريعة نوح و الجواب ما بيّنّاه.

قوله: [كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من توحيد اللّه و الإخلاص له خاصّة و رفض الأوثان لأنّهم قالوا: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» فثقل هذا الأمر عليهم و لذلك عظم اختيارنا لك في النبوّة و تخصيصك بالوحي من دونهم.

فبيّن سبحانه أنّه ليس لهم الاختيار [اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ] لرسالته على حسب ما يعلم من قيامه بأعباء الرسالة، و اشتقاق لفظ الاجتباء يدلّ على الضمّ و الجمع و منه جبى الخراج و جبى الماء في الحوض فقوله: «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ» أي يضمّه إليه و يقرّ به منه تقريب الشرف و الرحمة و هو كما روي في الخبر: من تقرّب منّي شبرا تقرّبت منه ذراعا و من أتاني بمشي أتيته هرولة [وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي من أقبل إليّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتي بأن أشرح له صدره و لمّا بيّن أنّه سبحانه أمّ كلّ الأنبياء و الأمم بالأخذ بالدين كان لقائل أن يقول: فما السبب أن نجد الأمم متفرّقين؟

فأجاب اللّه عنهم بقوله: [وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ لأنّهم فعلوا ذلك التفرّق للبغي و طلب الرياسة فحملتهم الحميّة النفسانيّة على أن ذهب كلّ طائفة إلى مذهب و دعا الناس إليه فصار ذلك سببا لوقوع الاختلاف.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم استحقّوا العذاب بسبب هذا الفعل إلّا أنّه أخّر عذابهم لأنّ لكلّ عذاب عنده أجل مسمّى و وقتا معلوما فقال: [وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ

ص: 13


1- يوسف: 39.
2- يوسف: 109. و يس: 43. و الأنبياء: 25. و الحج: 52. و الزخرف: 23.

[رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ و الأجل المسمّى قد يكون في الدنيا و قد يكون في القيامة.

و اختلفوا في الّذين اريدوا بهذه الصفة من هم؟ فقال الأكثرون: هم اليهود و النصارى و الدليل عليه قوله في آل عمران: «وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» و قال سبحانه أيضا في سورة لم يكن: «وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» و هو لائق بأهل الكتاب.

و قال آخرون: إنّهم هم العرب و هذا القول باطل لأنّه سبحانه بعده قال: [وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فهم أهل الكتاب الّذين كانوا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ففي شكّ من كتابك و كتابهم لا يؤمنون به حقّ الإيمان لأنّ كتابهم أنت منعوت فيه.

[فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي فلأجل ذلك التفرّق و لأجل ما حدث من الاختلاف الكثيرة فادع إلى الاتّفاق على الملّة الحنيفة و استقم عليها كما أمرك اللّه [وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة المختلفة.

[وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي بأيّ كتاب صحّ أنّه منزّل من عنده لأنّ كلّها يدلّ على وجوب الإيمان باللّه [وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في الحكم إذا تخاصمتم قال القفّال المروزيّ: معناه إنّ ربّي أمرني أن لا افرّق بين نفسي و أنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه و اسوّي بينكم من الأكابر و الأصاغر فيما يتعلّق بحكم اللّه.

ثمّ قال: [اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] أي إنّ إله الكلّ واحد و كلّ واحد مرهون بعمل نفسه فإنّ اللّه يجمع الكلّ في يوم القيامة و لا جدال و لا خصومة بيننا فقد ظهر الحقّ و الباطل لأنّ أمركم قد ظهر فيه البغي و العداوة علينا و لستم تطلبون المعرفة بالدليل حتّى يظهر المحقّ من المبطل فإذا عاند الإنسان في البغي و العداوة سقط الحجاج بينه و بين أهل الحقّ.

و اعلم أنّ هذه الآية قبل أن يؤمر صلّى اللّه عليه و آله بقتالهم و كانت المتاركة محدودة إلى أن نزلت

ص: 14

آية السيف. و قيل: هذا البيان محاجرة في مواقف المجاوبة لا متاركة في مواطن المحاربة حتّى يصار إلى النسخ بآية القتال و ليس المراد تحريم المحاجّة بل المراد أنّ المحاجّة و إتيان الدليل ليس بنافع لكم لأنّ قوله: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ» و قوله: «وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (1) و أمثال تلك الآيات دالّة على وجود إقامة الدليل في الحقّ بل الغرض من قوله: «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ» أنّكم عرفتم بالحجّة صدق قولي و لكنّكم تركتم التصديق بغيا و عنادا.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 16 الى 20]

وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)

لمّا تقدّم ظهور الحجّة و انقطاع المحاجّة لأنّها من غير فائدة ذكر حال من يحاجّ بالباطل فقال:

[وَ الَّذِينَ الآية أي الّذين يخاصمون رسول اللّه في إثبات دينه [مِنْ بَعْدِ ما] دخل الناس في الإسلام و أجابوه صلّى اللّه عليه و آله إلى ما دعاهم إليه [حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ] و باطلة حيث زعموا أنّ دينهم أفضل من الإسلام و ذلك أنّ اليهود قالوا: ألستم تقولون أنّ الأخذ بالمتّفق أولى من الأخذ بالمختلف؟ فنبوّة موسى عليه السّلام و حقيّة التوراة معلومة بالاتّفاق و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله ليست متّفقة عليها فإذا كان الأخذ بالمتّفق أولى فوجب أن يكون الأخذ باليهوديّة أولى فبيّن سبحانه أنّ هذه الحجّة فاسدة و ذلك أنّ اليهود أطبقوا على أنّه إنّما وجب الإيمان بموسى لأجل ظهور المعجزات على وفق قوله و هاهنا أيضا ظهرت المعجزات على وفق قول محمّد صلّى اللّه عليه و آله و اليهود شاهدوا تلك المعجزات فإن كان المناط ظهور المعجزة و يدلّ

ص: 15


1- النحل: 125.

على الصدق فههنا أيضا يجب الاعتراف بنبوّة محمّد و إن كان لا يدلّ على الصدق وجب في حقّ موسى أن لا يقرّوا بنبوّته و أمّا الإقرار بنبوّة موسى و الإصرار على إنكار نبوّة محمّد مع استوائهما في ظهور المعجزة يكون متناقضا.

و قيل: معنى الآية «وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ» بنصرة مذهبهم «مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ» للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعاؤه في كفّار بدر حتّى قتلهم اللّه بأيدي المؤمنين و استجيب أيضا دعاؤه على أهل مكّة حتّى قحطوا، و دعاؤه للمستضعفين حتّى خلصهم اللّه من أيدي قريش و غير ذلك ممّا يطول شرحه و تعداده و من بعد ما استجيب لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله دعاؤه في إظهار المعجزات و إقامتها.

[وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ أي غضب اللّه عليهم لأجل كفرهم [وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ] دائم يوم القيامة.

[اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ أي أنزل القرآن بالحقّ و الصدق فيما أخبر به من ماض و مستقبل و أمر و نهي و فرائض و أحكام كلّه حقّ من اللّه. و الميزان عبارة عن العدل كنّي به عن العدل لأنّ الميزان آلة الإنصاف و التسوية بين الحقّ. و قيل: أراد به الميزان المعروف و أنزله اللّه من السماء و عرّفهم كيف يعملون به بالحقّ و كيف يزنون به و قيل: الميزان محمّد يقتضي بينهم بالقرآن و يكون المعنى على التوسّع و التشبيه.

ثمّ خوّفهم بعذاب القيامة فقال: [وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي متى تفاجئهم؟

و إنّهم لا يعلمون وقتها، و متى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يتحرّز ضرر المظنون فضلا عن المقطوع و ما يعلّمك يا محمّد و لا غيرك لعلّ مجي ء الساعة قريب، و خفي وقت مجيئها على العباد ليكونوا على خوف و ليبادروا على التوبة و لو عرفهم مجيئها لكانوا مغرين بالقبائح قبل ذلك تعويلا على التلافي بالتوبة.

و لمّا كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله يهدّدهم بمجي ء القيامة و أكثر القول في ذلك و أنّهم ما رأوا منه أثرا قالوا على سبيل السخريّة: فمتى يقوم القيامة وليتها قامت حتّى يظهر لنا أنّ الحقّ ما نحن عليه أو الّذي عليه محمّد و أصحابه فقال سبحانه: [يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها] و إنّما يشفقون و يخافون لعلمهم أنّ عندها تمتنع التوبة

ص: 16

و أمّا منكرو البعث فلأنّه لا يحصل لهم هذا الخوف.

[أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ] فنبّه سبحانه الّذين يدخلهم المرية و الشكّ في وقوع الساعة و يمارون فيها و يجحدون في نهاية من الضلالة لأنّ استيفاء حقّ المظلوم من الظالم أمر واجب في العدل فلو لم يحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى اللّه و هذا من المحالات فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالا بعيدا.

ثمّ قال: [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي كثير الإحسان بهم لأنّه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على ما ينفعهم و ما يضرّهم فكان ذلك لطفا لهم. و قيل: المراد من اللطيف العالم بخفيّات الأمور. و المراد هاهنا الموصل إلى العباد المنافع على وجه يدقّ إدراكه و ذلك في الأرزاق الّتي قسّمها لعباده و صرف الآفات عنهم و إيصال الملاذّ إليهم.

ثمّ قال: [يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ] أي يوسّع الرزق على من يشاء و يجعله في خفض و دعة و من يشاء في كدّ و مشقّة و كلّ من رزقه اللّه من ذي روح فهو ممّن شاء اللّه أن يرزقه [وَ هُوَ الْقَوِيُ أي القادر الّذي لا يعجز [الْعَزِيزُ] الغالب الّذي لا يغالب.

قوله تعالى: [مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ و لمّا بيّن أنّه تعالى كثير الإحسان بعباده أمرهم بالكسب و السعي في طلب الخيرات و في الاحتراز عن القبائح فقال: «مَنْ كانَ يُرِيدُ» كسب الآخرة نضاعف له ثواب عمله و نعطيه على الواحد عشرة و نزيد على ذلك ما نشاء و يسمّى الكسب و ما يعمله العامل من امور يطلب بها الفائدة حرثا على سبيل المجاز.

[وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أي و من كان يعمل عملا يكون قصده فائدة في الدنيا و نفع منها نعطه نصيبا من الدنيا لا جميع ما يريده بل على حسب ما يقتضيه الحكمة و ليس له في الآخرة نصيب و حظّ. و قيل: معناه من قصد بالجهاد وجه اللّه فله سهم الغانمين و الثواب في الآخرة و من قصد به الغنيمة لم يحرم ذلك و حصل له سهم الغنيمة و لكن ليس له نصيب من الثواب في الآخرة.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في معنى قوله: «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ» قال: ولاية أمير المؤمنين، و قوله: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ» قال: معرفة أمير المؤمنين

ص: 17

و الأئمّة و «نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ» أي نزيده منها و نستوفي نصيبه من دولتهم «وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» قال عليه السّلام: ليس له في دولة الحقّ مع الإمام نصيب و له النار.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من كانت نيّته الدنيا فرّق اللّه عليه أمره و جعل الفقر بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلّا ما كتب له و من كانت نيّته الآخرة جمع اللّه شمله و جعل غناه في قلبه و أتته الدنيا و هي راغمة و قيل: من كان يعمل للآخرة نال الدنيا و الآخرة و من عمل للدنيا فلا حظّ له من ثواب الآخرة لأنّ الأعلى لا يجعل تبعا للأدون.

و كلمة «من» في الآية للتبعيض تدلّ على أنّ من طلب كسب الدنيا لا يعطى إلّا الشي ء القليل، و كذلك الآية مشعرة بأنّ منافع الآخرة و الدنيا ليست حاضرة بل لا بدّ في البابين من الحرث و الحرث لا يتأتّى إلّا بتحمّل المشاقّ في البذر ثمّ التسقية و إصلاح الأرض و التنمية ثمّ الحصد ثمّ التنقية فلمّا سمّى اللّه كلا القسمين حرثا علمنا أنّ كلّ واحد منهما لا يحصل إلّا يتحمّل المتاعب و المشاقّ.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 21 الى 25]

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25)

و لمّا بيّن سبحانه القانون الأعظم و القسطاس الأقوم في أعمال الآخرة و الدنيا أردفه في هذه الآية على ما هو الأصل في باب الضلالة و الشقاوة فقال:

[أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الاستفهام للتقريع أي بل لهم شركاء من الشياطين شرعوا لهم بالتسويل من الدين ما لم يأذن به اللّه كالشرك و إنكار

ص: 18

البعث و شركاؤهم شياطينهم الّذين زيّنوا لهم الشرك و العمل للدنيا، و قيل: الشركاء أوثانهم و إنّما أضيفت إليهم لأنّهم هم الّذين اتّخذوها شركاء للّه و لمّا كانت سببا لضلالتهم جعلت شارعة لدين الضلالة كما قال إبراهيم عليه السّلام: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» (1) و المراد من قوله: «شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» يعني أنّ تلك الشرائع بأسرها على ضدّ دين اللّه.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء، أو و لو لا الوعد بأنّ الفصل يكون يوم القيامة [لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الكافرين و المؤمنين في الدنيا و حاصل المعنى أنّه لو لا حكم اللّه بتأخير العذاب لهذه الامّة إلى الآخرة لعذّبهم [وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ الّذين يكذّبونك في الدنيا [لَهُمْ في الآخرة [عَذابٌ أَلِيمٌ .

ثمّ ذكر سبحانه أحوال أهل العقاب و أهل الثواب أمّا الأوّل فهو قوله: [تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ خائفين [مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ من المعاصي و هو العقاب الواقع بهم لا محالة و لا ينفعهم خوفهم و الإشفاق الخوف من جهة الرقّة على المخوف عليه من وقوع الأمر يريد سبحانه أنّ و باله واقع بهم سواء أشفقوا أو لم يشفقوا و أمّا الجزء الثاني فهو أحوال أهل الثواب.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لأنّ روضات الجنّة أطيب بقعة فيها، قال الرازيّ في المفاتيح في الآية تنبيه على أنّ الفسّاق من أهل الصلاة كلّهم في الجنّة إلّا أنّه خصّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات في البقاع الشريفة من الجنّة فالأمكنة الّتي دون الروضات لا بدّ و أن تكون مخصوصة بمن كان دون أولئك الّذين آمنوا و عملوا الصالحات.

ثمّ قال: [لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ و هذا يدلّ على أنّ كلّ الأشياء حاضرة مهيّاة لهم ثمّ عظّم هذه الدرجة و قال [ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ] و الأشاعرة استدلّوا بهذه الآية على أنّ الثواب غير واجب على اللّه و إنّما يحصل بطريق الفضل من اللّه قالوا: و هذا تصريح بأنّ الجزاء المرتّب على العمل إنّما حصل بطريق الفضل لا بطريق الاستحقاق.

ص: 19


1- ابراهيم: 36.

ثمّ أعاد البشارة (1) فقال: [ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ أي ذلك الثواب و الفضل الكبير الّذي يبشّر اللّه به عباده المؤمنين العاملين بالأعمال الصالحة ليستعجلوا بذلك السرور في الدنيا و كيف لا يكون ذلك الثواب فضلا كبيرا إذ نالوا نعيما لا ينقطع بعمل قليل منقطع؟

قوله تعالى: يا محمّد [قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى روي أنّه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض: أ ترون أنّ محمّدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا فنزلت الآية أي لا أطلب منكم على ما أنا عليه من التبليغ نفعا و أجرا إلّا المودّة في القربى. و قيل: الاستثناء منقطع أي لا أطلب الأجر لكن أسألكم المودّة.

و اختلف في معناه على أقوال:

أحدها: لا أسألكم على التبليغ و تبليغ الشريعة أجرا إلّا التوادّ و التحابّ فيما يقرّب إلى اللّه من العمل الصالح عن الحسن و الجبّائيّ و أبي مسلم قالوا: المراد هو التقرّب إلى اللّه و التودّد إليه بالطاعة.

و ثانيها: أنّ معناه إلّا أن تودّوني في قرابتي منكم و تحفظوني لها، عن ابن عبّاس و قتادة و مجاهد و جماعة، قال الشعبيّ: سألنا ابن عبّاس عن الآية قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان واسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلّا و قد ولّده، فقال اللّه: قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا إلّا أن تودّوني لقرابتي منكم فيصير المعنى: إنّكم قومي و أحقّ من إجابتي و إطاعتي فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حقّ النسب و لا تؤذوني و لا تهيّجوا عليّ.

القول الثالث: روى الكلبيّ عن ابن عبّاس قال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا قدم المدينة كانت تعروه نوائب و حقوق و ليس في يده سعة فقال الأنصار: إنّ هذا الرجل صلّى اللّه عليه و آله ق.

ص: 20


1- بل البشارة انما هي باعتبار ما بعدها من أجر الرسالة و لذلك قال في أول السورة ان الآية و ما بعدها إلى أربع آيات نزلت بالمدينة فالبشارة للمؤمنين المصاحبين لأجل انه لم يسأل على أداء رسالته أجرا بل ألزمهم المودة في القربى فقط و هي عبادة و حسنة و أما ما قيل من أن المراد من القربى قرابته من قريش فهذا غلط فان المخاطبين بذلك القول المسلمون و هم يحبونه صلّى اللّه عليه لمقام الرسالة و الهداية لا لقرابة النسب، و النسب في جنب الرسالة و الهداية شي ء لا يعبأ به مع ان محبة المسلمين له صلّى اللّه عليه و آله أمر ثابت لا يحتاج إلى أي تشويق.

قد هداكم اللّه على يده و هو ابن أختكم و جاركم في بلدكم فأجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوه ثمّ أتوه به فردّه عليهم فنزل قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ الآية» أي إنّي على الإيمان لست أطلب منكم أجرا إلّا أن تودّوا أقاربي و حثّهم على مودّة أقاربه.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام ما يقرب هذا المعنى قال عليه السّلام: لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حجّة الوداع و قدم المدينة أتته الأنصار فقالوا: يا رسول اللّه إن اللّه عزّ و جلّ قد أحسن إلينا و شرّفنا بك و بنزولك بين ظهرانيّنا فقد فرّح اللّه صديقنا و نكّب عدوّنا و قد يأتيك وفود فلا تجد ما تعطيهم فيشمت بك العدو فنحبّ أن تأخذ ثلث أموالنا حتّى إذا قدم عليك وفد مكّة وجدت ما تعطيهم فلم يردّ رسول اللّه عليهم شيئا و كان صلّى اللّه عليه و آله ينتظر ما يأتيه من ربّه فنزل عليه جبرئيل و نزلت الآية و لم يقبل أموالهم فقال المنافقون:

ما أنزل اللّه هذا على محمّد و ما يريد إلّا أن يرفع ابن عمّه و يحمل علينا أهل بيته يقول أمس من كنت مولاه فعليّ مولاه، و اليوم (1) «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ» الآية، و لمّا قال المنافقون هذا الكلام و هو إنكارهم أنّ هذه الآية نزلت من اللّه، نزلت «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فأرسل صلّى اللّه عليه و آله إليهم فتلاها عليهم فبكوا و اشتدّ عليهم فنزلت «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» الآية.

و عنه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قام رسول اللّه فقال: إنّ اللّه تعالى قد فرض لي عليكم فرضا فهل أنتم مؤدّوه؟ قال: فلم يجبه أحد منهم فانصرف فلمّا كان من الغد قام فقال مثل ذلك فلم يجبه أحد، و كذلك في الثالث فلم يتكلّم أحد فقال: أيّها الناس إنّه ليس من ذهب و لا فضّة و لا مطعم و لا مشرب، قالوا:

فألقه إذن، قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل عليّ «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقالوا: أمّا هذه فنعم قال الصادق عليه السّلام: فو اللّه ما و في بها إلّا سبعة نفر سلمان و أبو ذرّ و عمّار و المقداد بن الأسود الكنديّ و جابر بن عبد اللّه الأنصاري و مولى لرسول اللّه يقال له الثبيت و زيد بن أرقم.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام ما يقرب من هذا الحديث.ر.

ص: 21


1- و ذلك لأنه صلّى اللّه عليه و آله قد قال ذلك القول مرارا قبل يوم الغدير.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: ما يقول أهل البصرة في هذه الآية؟ قيل:

إنّهم يقولون إنّها لأقارب رسول اللّه قال: كذبوا إنّما نزلت فينا خاصّة في أهل البيت في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين أصحاب الكساء عليهم السّلام.

و في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل مرفوعا إلى أبي أمامة الباهليّ قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتّى و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة فأنا أصلها و عليّ فرعها و فاطمة لقاحها و الحسن و الحسين ثمارها و أشياعنا أوراقها فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجى و من زاغ عنها هوى و لو أنّ عبدا عبد اللّه بين الصفا و المروة ألف عام ثمّ ألف عام ثمّ ألف عام حتّى يصير كالشنّ البالي ثمّ لم يدرك محبّتنا أكبّه اللّه على منخريه في النار ثمّ تلا هذه الآية.

و روى زاذان عن عليّ عليه السّلام قال: فينا في آل حم آية لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن ثمّ قرأ هذه الآية و إلى هذا أشار الكميت في شعره حيث يقول:

وجدنا لكم في آل حم آيةتأوّلها منّا تقيّ و معرب

و بالجملة فإن قيل: إنّ طلب الأجرة على تبليغ الوحي و الرسالة لا يجوز لأنّه كان واجبا عليه صلّى اللّه عليه و آله و طلب الأجرة على الأمر الواجب غير جائز كما قال نوح عليه السّلام:

«وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» على أنّ طلب الأجر كان يوجب التهمة و ذلك ينافي القطع بصحّة النبوّة و ظاهر الآية أنّه جعل المودّة في القربى أجر التبليغ.

فالجواب من وجهين: الأوّل أنّ الاستثناء منقطع فحينئذ «إلا» بمعنى بل و الثاني أنّ الاستثناء متّصل لكنّه لمّا كانت المودّة في القربى أمر واجب في الإسلام فلا يكون أجرا للنبوّة و التبليغ و هو من باب قول النابغة:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بها من قراع الدارعين فلول (1)

فيصير المعنى في الآية أنا لا أطلب منكم إلّا هذا، و هذا في الحقيقة ليس أجرا لأنّ حصول المودّة بين المسلمين أمر واجب قال تعالى: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُب.

ص: 22


1- كذا في التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي من غير نسخة إلى النابغة و المشهور الصحيح في قول النابغة: بهن فلول من قراع الكتائب.

بَعْضٍ» (1) و قال صلّى اللّه عليه و آله: المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضهم بعضا فإذا كان حصول المودّة بين المسلمين واجبا فحصولها في حقّ أشرف المسلمين و أكابرهم أولى فحينئذ المودّة في القربى ليست أجرا فرجع الحاصل إلى أنّه لا أجر.

و نقل صاحب الكشّاف عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من مات على حبّ آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير، ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة، ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة.

قال الرازيّ: الآل هم الّذين يؤول أمرهم إليه و معلوم أنّ كلّ من كان أمرهم إليه أشدّ و أكمل كانوا هم الآل، و لا شكّ أنّ فاطمة و عليّا و الحسن و الحسين كان التعلّق بينهم و بين رسول اللّه أشدّ التعلّقات و هذا هو المعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل، و أيضا اختلف الناس في الآل فقيل: هم الأقارب و قيل: هم امّته فإن حملناه على القرابة فهم الآل و إن حملناه على الأمّة الّذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل فثبت أنّ على جميع التقادير هؤلاء هم الآل و أمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل فمختلف فيه، انتهى كلام الرازيّ.

و روى صاحب الكشّاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم فقال صلّى اللّه عليه و آله: عليّ و فاطمة و ابناهما فثبت بهذا أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ و هم مخصوصون بمزيد التعظيم و قال صلّى اللّه عليه و آله: فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها. و ثبت بالنقل المتواتر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان يحبّ عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين و لمّا ثبت ذلك وجب على كلّ الامّة مثله لقوله: «وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (2)

ص: 23


1- المائدة: 54.
2- البقرة: 53 و 150.

و لقوله سبحانه: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» و الدعاء منصب عظيم و فريضة و لذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة و هو قوله: اللهم صلّ على محمّد و آل محمّد و هذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل فثبت أنّ حبّ آل محمّد واجب قال الشافعيّ:

يا راكبا قف بالمحصّب من منى و اهتف بساكن خيفها و الناهض

سحرا، إذا فاض الحجيج إلى منى فيضا كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضا حبّ آل محمّدفليشهد الثقلان أنّي رافضي

و بالجملة فإن قيل: لم قال: «إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى و لم يقل: إلّا المودّة للقربى؟

لأنّ المعنى أنّهم جعلوا مكان محبّة الامّة و محلّها.

قوله تعالى: [وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً] أي من فعل طاعة نزد له في تلك الطاعة حسنا بأن نوجب له الثواب و ذكر أبو حمزة الثماليّ عن السدّيّ أنّه قال:

إنّ اقتراف الحسنة المودّة لآل محمّد. و صحّ عن الحسن بن عليّ أبي طالب عليه السّلام أنّه خطب الناس يوما و قال في خطبته: أنا من أهل البيت الّذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم فقال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً» فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت و روى إسماعيل بن عبد الخالق عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: إنّها نزلت فينا أهل البيت أصحاب الكساء.

[إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] للسيّئات [شَكُورٌ] للطاعات يعامل عباده معاملة الشاكر في توفية الحقّ كأنّه ممّن وصل إليه النفع فشكره.

قوله: [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] أي بل يقولون افترى محمّد على اللّه كذبا في ادّعائه الرسالة عن اللّه أو إثبات المودّة للقربى، فرية افتر محمّد على اللّه فنزلت «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى الآية، قال صاحب الكشّاف: «أم» منقطعة و معنى الاستفهام فيه التوبيخ كأنّه قيل: أ يجري في ألسنتهم أن نسبوا مثله إلى الافتراء على اللّه، و الفرية أقبح أنواع الكذب و أفحشها.

[فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ المعنى استشهاد على بطلان ما نسبوا إليه من الافتراء أي كأنّه قيل: لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك و إن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معاني القرآن و لم تنطق بحرف من حروفه و حيث

ص: 24

لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حينا بعد حين تبيّن أنّه من عند اللّه تعالى. و قيل:

المعنى: فإن يشأ اللّه يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتّى لا يشقّ عليك قولهم و أباطيلهم من قبيل: إنّه ساحر و مفتر.

ثمّ أخبر سبحانه أنّه يذهب ما يقولونه باطلا فقال: [وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ أي يزيله و يرفعه بإقامة الدلائل على بطلانه و حذف الواو من يمحو في المصاحف كما حذف من قوله: «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» على اللفظ في ذهابها دون المعنى لالتقاء الساكنين و ليس بعطف على قوله: «يَخْتِمْ» لأنّه مرفوع يدلّ عليه قوله [وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي و يثبت الحقّ بأقواله الّتي ينزّلها على نبيّه و هو هذا القرآن المعجز. و قيل: المراد من الكلمات الأئمّة و القائم من آل محمّد [إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] و بضمائر القلوب.

[وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ و قد ذكرت قبيل هذا شأن نزول الآية أي إنّ اللّه يقبل التوبة عنهم و إن جلّت معاصيهم لأنّهم نسبوا الافتراء إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و مع ذلك قبلت توبتهم و إن جلّت معاصيهم [وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من خير و شرّ فيجازيهم على ذلك.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 26 الى 30]

وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)

و لمّا تقدّم في الآيات السابقة وعيد أهل العصيان و أرجاهم بقبول التوبة و لو كانت معاصيهم عظيمة و بيان التوبة قد سبق في سورة البقرة و لا يحتاج إلى التكرار و أقلّ ما لا بدّ فيه الندم على الماضي و الترك في الحال و العزم الراسخ على عدم العود في المستقبل كما يفصح عن هذا المعنى حديث رواه جابر من أنّ أعرابيّا دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: اللّهمّ إنّي أستغفرك و أتوب إليك و كبّر فلمّا فرغ من صلاته قال له أمير المؤمنين

ص: 25

عليّ عليه السّلام: يا هذا إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين فتوبتك يحتاج إلى توبة فقال: يا أمير المؤمنين و ما التوبة؟ فقال عليه السّلام: التوبة اسم يقع على ستّة أشياء: على الماضي من الذنوب: الندامة، و لتضييع الفرائض: الإعادة، و ردّ المظالم، و إذابة النفس في الطاعة كما ربّيتها في المعصية، و إذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، و البكاء بدل كلّ ضحك ضحكته.

و مسألة التوبة بين الأشاعرة و المعتزلة في أنّ قبولها على اللّه من باب التفضّل أو الوجوب خلافيّة قالت المعتزلة: يجب على اللّه عقلا و قالت الأشاعرة: لا يجب على اللّه شي ء و كلّما يفعله بالكرم و التفضّل.

و احتجّت الأشاعرة على صحّة قولهم بقوله: «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ» و قالوا:

إنّه تعالى يمدح بقبول التوبة و لو كان ذلك القبول واجبا لما حصل التمدّح العظيم أ لا ترى أنّ من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلما و لا يقتلهم غضبا كان ذلك مدحا قليلا أمّا إذا قال: إنّي أحسن إليهم مع أنّ ذلك لا يجب عليّ كان ذلك مدحا و ثناء.

و بالجملة فقوله تعالى: [وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ معناه يجيبهم إلى ما يسألونه و قيل: و يجيبهم اللّه في دعاء بعضهم لبعض عن معاذ بن جبل و قيل: المعنى إنّ اللّه يقبل طاعاتهم و عباداتهم و يزيدهم من فضله على ما يستحقّونه من الثواب و قيل:

معنى «وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا» أنّ يشفّعهم في إخوانهم.

[وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي و يشفّعهم في إخوانهم عن ابن عبّاس روي عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه: في قوله: «وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن أحسن إليهم في الدنيا و قيل: إنّ قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا» رفع على أنّه فاعل تقديره و يجيب المؤمنون اللّه فيما دعاهم اللّه إليه لكنّ الباقين قالوا: إنّ محلّه النصب و الفاعل مضمر و هو اللّه و تقديره و يستجيب اللّه للمؤمنين إلّا أنّه حذف اللام كما حذف في قوله:

«وَ إِذا كالُوهُمْ» و هذا القول مطابق للمعاني المذكورة و أوجه لأنّ الخبر فيما قبل و بعد عن اللّه لأنّ ما قبل الآية قوله: «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» و ما بعدها قوله: «وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» فيزيد عطف على «وَ يَسْتَجِيبُ».

ص: 26

فلو قيل: إنّه تعالى قد يستجيب دعاء الكافر فما فائدة التخصيص للمؤمنين؟

فالجواب إنّ اجابة دعاء المؤمنين و ذكر التخصيص على سبيل التشريف لكن إجابة دعاء الكافر في الدنيا دون الآخرة و هي على سبيل الاستدراج بل [وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ].

و لمّا بيّن أنّه يزيد المؤمنين من فضله أخبر أنّ توسعة الأرزاق و تغيّرها تكون على حسب المصالح فقال: [وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي لو وسع الرزق على حسب ما يطلبونه لبطروا و تغالبوا و ظلموا في الأرض و خرجوا عن الاستقامة في دنياهم و تغلّب بعضهم على بعض قال ابن عبّاس: بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة و دابّة بعد دابّة و ملبسا بعد ملبس و لا يقفون على حدّ و هذه الآية كأنّها جواب عن قوله: «وَ يَسْتَجِيبُ» و هو أنّ المؤمن قد يكون في شدّة و محنة و فقر ثمّ يدعو فلا يجاب و لا يشاهد أثر الإجابة فأجاب سبحانه «وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ».

قال بطل الاعتزال الجبّائيّ: إنّ هذه الآية تدلّ على بطلان قول المجبّرة من وجهين:

الاول: أنّ حاصل الكلام أنّه تعالى لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض فالبغي في الأرض غير مراد فبسط الرزق لهذه الجهة غير حاصل و هذا الكلام يصحّ و يتمّ إذا قلنا إنّه لا يريد البغي في الأرض فثبت فساد قول المجبّرة.

الثاني أنّه تعالى بيّن أنّه إنّما لم يرد بسط الرزق لأنّه يفضي إلى المفسدة فلمّا بيّن أنّه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريدا للمفسدة أولى و بالجملة فالعقل يحكم بحصول البغي في بسط الرزق و أقلّ ما فيه خراب العالم في انتظامه لأنّه لو بسط الرزق و سوّى في الرزق بين الكلّ لامتنع كون البعض خادما للبعض و لو صار الأمر كذلك لتعطلّت المصالح و انفصمت الأمور بالكلّيّة.

ثمّ إنّ النفوس إذا كانت شريرة فاقدة الآلات و الأدوات كان الشرّ يصدر منه قليلا كما أنّ العرب كانت كلّما اتّسع أرزاقهم و وجدوا من ماء المطر ما يرويهم و من الكلاء و العشب ما يشبعهم أقدموا على الغارات و النهب و الإنسان متكبّر بالطبع فإذا وجد الغنى

ص: 27

و القدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصليّة و هو التكبّر و التطاول و إذا وقع في الشدّة عاد إلى الطاعة و التواضع.

[وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ] أي ينزّل من الرزق قدر صلاحهم ما يشاء نظرا منه تعالى لهم بالرأفة و يؤيّده الحديث الّذي رواه أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه تعالى: إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا السقم و لو صحّحته لأفسده و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الصحّة و لو أسقمته لأفسده، و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى و لو أفقرته لأفسده، و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر و لو أغنيته لأفسده و ذلك أنّي ادبّر عبادي لعلمي بقلوبهم و الحديث طويل.

فلو قيل: إنّا نرى كثيرا ممّن يوسّع عليه الرزق يبغي في الأرض.

قلنا: إنّا إذا علمنا على الجملة أنّه سبحانه يدبّر امور عباده بحسب ما يعلم مصالحهم يمكن أنّ هؤلاء يستوي حالهم في البغي وسّع عليهم أولم يوسّع عليهم و لو لم يوسّع عليهم لكانوا أسوأ حالا في البغي فلذلك وسّع عليهم.

[إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ] عليم بأحوالهم بصير بما يصلحهم و ما يفسدهم.

قوله: [وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا] و لمّا بيّن أنّه تعالى لا يعطيهم ما زاد على قدر حاجتهم لأجل أنّه علم أنّ تلك الزيادة تضرّهم في دينهم بيّن أنّهم إذا احتاجوا إلى الرزق فإنّه لا يمنعهم منه فقال: «وَ هُوَ الَّذِي» الآية، و إنزال الغيث بعد القنوط أدعى إلى الشكر أي ينزّله عليهم من بعد ما يئسوا من نزوله و الغيث ما كان نافعا في وقته و المطر قد يكون ضارّا في وقته و غير وقته و وجه إنزال بعد القنوط لأنّه أدعى إلى المعرفة بموقع إحسانه.

[وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ و يفرّق نعمته و يبسطها بإخراج النبات و الثمار الّتي يكون سببها المطر [وَ هُوَ الْوَلِيُ الّذي يتولّى تدبير عباده و تقدير أمورهم المالك لهم [الْحَمِيدُ] المحمود على جميع أفعاله.

[وَ مِنْ آياتِهِ الدالّة على وحدانيّته و صفاته الّتي باين بها خلقه [خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأنّه لا يقدر على ذلك غيره لما فيهما من العجائب [وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ]

ص: 28

و الدابّة ما تدبّ فيدخل فيه جميع الحيوانات و قوله: «مِنْ دابَّةٍ» أي من حيّ و ذي حيات فيصحّ الإطلاق على الملائكة و يمكن أن يكون للملائكة مشي مع الطيران و قد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: فوق السماء السابعة بحر بين أسفله و أعلاه كما بين السماء و الأرض ثمّ فوق ذلك ثمانية أو عال بين ركبهنّ و أظلافهنّ كما بين السماء و الأرض ثمّ فوق ذلك العرش العظيم.

[وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ] أي إنّه تعالى على حشرهم إلى الموقف بعد إماتتهم قادر لا يتعذّر عليه ذلك و كلمة «إِذا» عند كونها بمعنى الوقت تدخل على المستقبل كما تدخل على الماضي مثل «وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى .

و احتجّ الجبّائي بقوله تعالى: «إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» على أنّ مشيّته محدثة بأن قال إنّ كلمة «إِذا» تفيد ظرف الزمان و كلمة «يَشاءُ» صيغة المستقبل فلو كانت مشيّته قديمة لم يكن تخصيصها بذلك الوقت المعيّن من المستقبل فائدة و لمّا دلّ قوله: «إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» على هذا التخصيص علمنا أنّ مشيّته محدثة قال أبو السعود: قوله: «إِذا يَشاءُ» متعلّق بما قبله لا بقوله «قَدِيرٌ».

ثمّ قال سبحانه: [وَ ما أَصابَكُمْ معاشر الخلق [مِنْ مُصِيبَةٍ] من بلوى في نفس أو مال [فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ من المعاصي [وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ] منها فلا يعاقب بها قال أهل التحقيق: الآية مخصوصة بالمجرمين و إن خرج مخرج العموم لأنّ الأطفال و المجانين و من لا ذنب له من المؤمنين قد يصابون بمصائب شديد مع أنّه لا ذنب لهم و إنّ الأنبياء و الأئمّة بمتحنون بالمصائب و ليس ذلك لأجل الذنوب بل لأسباب أخر منها تعريض للثواب العظيم و الدرجات العالية.

و روي عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ خير آية في كتاب اللّه هذه الآية؛ ما من خدش عود و لا نكبة قدم إلّا بذنب و ما عفا اللّه عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه و ما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثنّي على عبده.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 31 الى 35]

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (31) وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

ص: 29

قال الواحديّ في البسيط: إنّ قوله تعالى في الآية السابقة: «وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» أرجى آية في كتاب اللّه للمؤمنين المذنبين لأنّ اللّه تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين صنف كفّره عنهم بالمصائب في الدنيا، و صنف عفي عنه في الدنيا و هو كريم لا يرجع عن عفوه و هذه سنّته مع المؤمنين.

و أمّا الكافر فلأنّه لا يعجل عليه عقوبة ذنوبه حتّى يوافي يوم القيامة فقال: [وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي يا معاشر الكفّار أنتم لا تعجزونني حيث ما كنتم و لا تسبقونني بسبب هربكم في الأرض [وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ] قال الرازيّ: و المراد بهم من يعبد الأصنام و بيّن أنّه لا فائدة فيها البتّة و النصير هو اللّه فلا جرم هو الّذي تحسن عبادته.

قوله: [وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ] قرئ الجواري بالياء في الوقف و الوصل و قرئ بإثبات الياء في الوصل و الحذف، و إن كانت لاما قد كثر في كلامهم و ذكر من آياته السفن الجواري (فحذف الموصوف لعدم الالتباس) و هي تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح.

و الغرض من الآية الاستدلال على وجود القادر، و المعرفة بأنّ هذه النعم العظيمة من اللّه للعباد، و المراد من «الأعلام» الجبال؛ قالت الخنساء ترثي أخاها:

و إنّ صخرا لتأتمّ الهداة به كأنّه علم في رأسه نار

و نقل أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استنشد قصيدتها هذه فلمّا وصل الراوي إلى هذا البيت قال صلّى اللّه عليه و آله: قاتلها اللّه (1) ما رضيت بتشبيهها له بالجبل حتّى جعلت على رأسه نارا.

و الحاصل أنّ هذه السفن الّتي كالجبال تجري على وجه البحر عند الهبوب على أسرع الوجوه و عند سكون الرياح تقف و محرّك الرياح و مسكّنها هو اللّه إذ لا يقدر أحدن.

ص: 30


1- ليس ذلك دعاء عليها فان الخنساء أسلمت و استشهد لها اربعة بنين في القادسية، بل استعجاب و استحسان.

على تحريكها من البشر و لا على تسكينها، و ذلك يدلّ على وجود الإله القادر و إنّ اللّه تعالى خصّ كلّ جانب من الأرض بنوع من الأمتعة و بهذه الآلة يحصل المنافع العظيمة للناس و هذا الإنسان الّذي كان في مبدء أمره لا يميّز التبر من التبن جعله ذا قوّة عاقلة بحيث يصدر منه هذه الصناعة و أمثالها و ليس ذلك إلّا بحكمته الوافية.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ] أي في ذلك الّذي ذكر من الدلائل و الآيات آيات دالّة لكلّ صبّار على بلاء اللّه شكور على آلائه، و المقصود أنّ المؤمن يجب أن لا يكون غافلا على التقديرين.

ثمّ قال: [أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ] المعنى إن يشأ إسكان الريح يسكن أو إن يشأ يجعل الريح عاصفة يهلك أهل السفن بالغرق عقوبة لهم بما كسبوا من المعاصي و يعف عن كثير من أهلها فلا يغرقهم و لا يعاجلهم بالعقوبة. و قوله: «أَوْ يُوبِقْهُنَّ» عطف على قوله: «يُسْكِنِ» أي إن يشأ يهلك ناسا و ينج ناسا على طريق العفو منهم و من قرأ «و يعفوا» بالواو فقد استأنف الكلام.

ثمّ قال: [وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ قرئ يعلم بالرفع على الاستيناف و بالنصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره: لينتقم منهم و يعلم الّذين يجادلون في آياتنا و العطف على التعليل المحذوف كثير في القرآن مثل قوله: «خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» أي ليعلم الّذين يجادلون في إبطال آياتنا ما لهم ملجأ يلجئون إليه. و قرئ بالجزم عطفا على يعف و المعنى: و إن يشأ يجمع بين إهلاك قوم و إنجاء قوم و تحذير قوم.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 36 الى 40]

فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)

ص: 31

ثمّ خاطب سبحانه من تقدّم وصفهم فقال:

[وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ] ممّا يرغبون و يتنافسون فيه فهو متاع تتمتّعون به مدّة حياتكم ثمّ تموتون فيبقى عنكم أو يهلك المال قبل موتكم [وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة [خَيْرٌ] ذاتا [وَ أَبْقى زمانا حيث لا يزول كهذه المنافع الفانية [لِلَّذِينَ آمَنُوا] و صدّقوا بتوحيد اللّه و بما يجب التصديق به [وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ و هم متوكّلون و مفوّضون أمرهم إلى اللّه و التوكّل على اللّه تفويض الأمور إليه بأنّها جارية من قبله على أحسن التدبير.

و هذه الخيريّة المذكورة في الآية بقوله: «وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ» لا تحصل إلّا بشرائط:

الاول: أن يكون العبد من المؤمنين لقوله «لِلَّذِينَ آمَنُوا».

الثاني: أن يكون من المتوكّلين على فضل اللّه لقوله: «وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

الثالث: أن يكون مجتنبا لكبائر الإثم و الفواحش، عن ابن عبّاس: كبير الإثم هو الشرك و قيل: المراد بكبائر الإثم ما يتعلّق بالبدع و استخراج الشبهات و بالفواحش ما يتعلّق بالقوّة الشهويّة و بقوله: [وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ما يتعلّق بالقوّة الغضبيّة.

الرابع: [وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ و المراد تمام الانقياد و الرضاء بقضاء اللّه من صميم القلب و أن لا يكون في قلبه معارضة و منازعة في أمر من الأمور و يجيبون ما أمر اللّه إيّاهم.

[وَ أَقامُوا الصَّلاةَ] و أداموا عليها في أوقاتها و شرائطها [وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي إذا وقعت بينهم واقعة تشاوروا و لا يتفرّدوا برأي و الشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور و معنى قوله: «وَ أَمْرُهُمْ شُورى أي ذو شورى و هي المفاوضة في الكلام ليظهر الحقّ و قيل:

المعنى و المقصود بالآية: الأنصار كانوا إذا أرادوا أمرا تشاوروا قبل الإسلام و كان ذلك قبل قدوم النبيّ اجتمعوا و تشاوروا ثمّ عملوا عليه فأثنى اللّه عليهم بذلك. و قيل: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ورود النقباء حتّى اجتمعوا في دار أبي أيّوب على الإيمان

ص: 32

به صلّى اللّه عليه و آله و النصرة له و قد روي أنّه قال: ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرشد [وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في طاعة اللّه و سبيل الخير.

الخامس: [وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ من غيرهم [هُمْ يَنْتَصِرُونَ ممّن بغى عليهم من غير أن يعتدوا أي يقتصرون في الانتصار على ما يجعله اللّه لهم و لا يتعدّونه.

و قيل: ينتصرون أي يتناصرون و ينصر بعضهم بعضا نحو يختصمون و يتخاصمون.

و قيل: المعنيّ في الآية المؤمنون الّذين أخرجهم الكفّار من مكّة و بغوا عليهم ثمّ مكّنهم اللّه في الأرض حتّى انتصروا من ظلمهم.

و قيل: جعل اللّه المؤمنين صنفين صنفا يعفون عمّن ظلمهم و هم الّذين ذكروا قبل هذه الآية و هو قوله: «إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» و صنفا ينتصرون ممّن ظلمهم و هم الّذين ذكروا في هذه الآية و الّذي أخذ بحقّه و لم يجاوز في ذلك ما حدّ اللّه فهو مطيع للّه و من أطاع اللّه فهو محمود و لا منافاة و تناقض بين الآيات مثل قوله: «وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (1) و قوله «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (2) و قوله تعالى: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» (3).

و بيّن هذه الآية من قوله: «وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ» أنّ العفو على قسمين قسم يصير سببا لتسكين الفتنة و رجوع الجاني عن جنايته و قسم يصير سببا لمزيد الجاني جرءته على الجناية و تلك الآيات في العفو محمولة على القسم الأوّل و هذه الآية محمولة على القسم الثاني فلا منافاة.

و عن النخعيّ أنّه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء قال الشاعر:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته و إن أنت أكرمت اللّئيم تمرّدا

فوضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرّ كوضع السيف في موضع الندى

ألا ترى أنّ العفو عن المصرّ يكون كالإغراء له.

ص: 33


1- البقرة: 237.
2- الأعراف: 198.
3- النحل: 126.

روي أنّ زينب أقبلت على عائشة فشتمها فنهاها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنها فلم تنته فقال:

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعائشة: دونك فانتصري.

ثمّ إنّه تعالى لم يرغب في الانتصار بل بيّن أنّه مشروع فقط ثمّ بيّن بعده أنّ شرعه مشروط برعاية المماثلة ثمّ بيّن أنّ العفو أولى بقوله: فمن عفى.

قوله: [وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها] أي إنّ جزاء سيّئة مثلها فإنّ الأفعال مستتبعة بأجزيتها حتما نحن زوّجنا الفعال بالجزاء فقيّد سبحانه إنّ الانتصار لا بدّ و أن يكون مقيّدا بالمثل فإنّ النقصان حيف و الزيادة ظلم و التساوي عدل و به قامت السماوات و الأرض.

فإن قيل: إنّ جزاء السيّئة مشروع مأذون فيه فكيف سمّي بالسيّئة؟

أجاب صاحب الكشّاف عنه أنّ كلتا الفعلتين الاولى و جزاؤها سيّئة لأنّها تسوء من ينزل به قال اللّه: «وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» (1) يريد ما يسوؤهم من المصائب و البلايا.

و أجاب غيره بأنّه لمّا جعل أحدهما في مقابلة الاخرى أطلق اسم أحدهما على الآخر على سبيل المجاز.

و هذه الآية أصل كبير في علم الفقه فإنّ مقتضاها أن يقابل كلّ جناية بمثلها و قد تأكّد هذا النصّ بنصوص أخر مثل قوله: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ» (2) و قوله: «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» (3) و قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى (4).

و القصاص عبارة عن المساواة و المماثلة و قوله: «وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ» فوجب رعاية المماثلة مطلقا إلّا فيما لا يمكن المماثلة أو خصّه الدليل المنفصل: و التخصيص يقع في صور كثيرة مثلا إذا قال له: أخزاك اللّه فليقل مثله أخزاك اللّه أمّا إذا قذفه قذفا يوجب الحدّ

ص: 34


1- النساء: 78.
2- النحل: 126.
3- المؤمن: 40.
4- البقرة: 178.

فليس له مثل ذلك بل الحدّ الّذي أمر اللّه به.

ثمّ قال سبحانه: [فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ فإذا عفا بشرط القربة للّه فيقع أجره على اللّه و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على اللّه فليدخل الجنّة فيقال: من ذا الّذي أجره على اللّه؟ فيقال:

العافون عن الناس فيدخلون الجنّة بغير حساب.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 41 الى 45]

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45)

ثمّ ذكر سبحانه حال المنتصر فقال: من انتصر لنفسه و انتصف من ظالمه [بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد أن ظلم و تعدّى عليه فأخذ لنفسه بحقّه فالمنتصرون [ما عَلَيْهِمْ من إثم و عقوبة و ذمّ و هنا إضافة المصدر إلى المفعول.

[إِنَّمَا السَّبِيلُ الإثم و العقاب [عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدءون بالإضرار أو يعتدون في الانتقام [وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ و يتكبّرون فيها علوّا و فسادا [أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر [لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم.

[وَ لَمَنْ صَبَرَ] و تحمّل المشقّة في رضاء اللّه [وَ غَفَرَ] فلم ينتصر و لم يعاقب [إِنَّ ذلِكَ الصبر و التحمّل [لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] أي الأمور الثابتة الّتي يحبّها اللّه و أمر بها فلم ينسخ.

و قيل: عزم الأمور الأخذ بأصوبها و أعلاها في باب نيل الثواب.

[وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي و من يظله عن رحمته و جنّته فما له معين سواه و قيل: من عذّبه اللّه عقوبة له على عناده ليس له وليّ يلي أمره و يدفع عذاب اللّه عنه.

ص: 35

قوله: [وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي تراهم يا محمّد إذا شاهدوا عذاب النار [يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ و رجوع في الدنيا و ذلك تمنّيا منهم.

[وَ تَراهُمْ يا محمّد [يُعْرَضُونَ عَلَيْها] أي على النار قبل دخولهم النار [خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ ساكتين متواضعين في حال العرض [يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ أي خفيّ النظر و يسارقون النظر إلى النار خوفا منها و ذلّة في نفوسهم كأنّهم ينظرون من عين لا تفتح كلّها و إنّما نظروا ببعضها إلى النار كالمصبور ينظر إلى السيف.

[وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ أي المتّصفين بصفة الخسران في الحقيقة هم [الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن فوّتوا عن أنفسهم الانتفاع بنعيم الجنّة و ذلك القول من المؤمنين حين ما رأوا عظيم ما نزل بالظالمين قوله: [وَ أَهْلِيهِمْ أي خسروا أنفسهم و أولادهم و أزواجهم و أقاربهم.

[أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ إمّا من تمام كلامهم أو تصديق من اللّه تعالى لهم، و استدلّ القاضي عبد الجبّار بهذه الآية على أنّ الكافر و الفاسق يدوم عذابهما، و أجاب الرازيّ أنّ لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكافر قال تعالى: «وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

[سورة الشورى (42): الآيات 46 الى 50]

وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

ثمّ أخبر سبحانه عن الظالمين الّذين ذكرهم فقال:

[وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ] أي ما كان لهم من دون اللّه من أنصار يدفعون عنهم عقاب اللّه و من يضلّله اللّه عن طريق الجنّة فليس له سبيل إليها.

ثمّ قال: [اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أي أجيبوا داعي ربّكم يعني محمّدا فيما دعاكم إليه و

ص: 36

رغّبكم فيه من المصير إلى طاعته و الانقياد لأمره [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا رجوع بعده إلى الدنيا.

و قيل: معناه لا يقدر أحد على ردّه و دفعه و هو يوم القيامة عن الجبّائيّ. و قيل:

معناه لا يردّ و لا يؤخّر وقته و هو يوم الموت.

[ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ] أي معقل يعصمكم من العذاب [وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ] أي إنكار و تغيّر للعذاب أو نصير منكر ما يحلّ بكم و لا يردّه اللّه بعد ما حكم به و يجوز أن يكون المراد من قوله: «نَكِيرٍ» الإنكار أي لا تقدرون أن تنكروا شيئا ممّا اقترفتموه من الأعمال.

[فَإِنْ أَعْرَضُوا] هؤلاء الّذين أمرتهم بالاستجابة و لم يقبلوا هذا الأمر [فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً] بأن تحفظ أعمالهم و تحصيها [إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ و ليس عليك إلّا الإيصال إلى أفهامهم و البيان لما فيه رشدهم.

[وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها] أي إذا وجدوا في الدنيا سعادة و فوزا بنعيمها فرح و استرّ بها، و نعم اللّه في الدنيا و إن كانت عظيمة إلّا أنّها بالنسبة إلى السعادة المعدّة في الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سمّاها ذوقا و المراد أنّه إذا فاز بهذا القدر الحقير الّذي حصل في الدنيا فإنّه يعظم سروره و يقع في العجب و الكبر و يظنّ أنّه فاز بكلّ المنى.

ثمّ بيّن أنّه متى أصابته سيّئة و شي ء يسوؤه كالمرض و الفقر فقال: [وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ] و الكفور مبالغة في الكفران و لم يقل: فإنّه كفور ليبيّن أنّ طبيعة الإنسان تقتضي هذه الحالة إلّا إذا أدّب نفسه بأدب اللّه.

قوله: [لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و المقصود منه أن لا يغترّ الإنسان بما ملكه من المال و الجاه بل إذا علم أنّ الكلّ ملك اللّه و هو تعالى ملّكه و أنعم عليه فيصير ذلك حاملا له على مزيد الطاعة و العبادة و أمّا إذا اعتقد أنّ تلك النعم إنّما حصلت بسبب عقله و جدّه بقي مغرورا بنفسه معرضا عن طاعة اللّه.

ثمّ ذكر من أقسام تصرّفه تعالى في العالم و قال: [يَخْلُقُ ما يَشاءُ] يخصّ البعض

ص: 37

بالأولاد الإناث و البعض بالذكور فقال: [يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً] أي يجمع لهم بين البنين و البنات تقول العرب: زوّجت إبلي أي جمعت بين صغارها و كبارها. قال مجاهد: و هو أن تلد المرأة غلاما ثمّ جارية. و قيل: هو أن تلد توأما ذكرا و أنثى أو ذكرا و ذكرا أو أنثى و أنثى. و قيل: هو أن يجمع الرحم الذكر و الأنثى عن محمّد بن الحنفيّة قوله: [وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً] أي يجعل البعض محروما عن الكلّ من الرجال و النساء [إِنَّهُ عَلِيمٌ بما خلق [قَدِيرٌ] على ما يريد و عبّر سبحانه في الآية عن الإناث بلفظ التنكير و عن الذكور بلفظ التعريف للتنبيه على أشرفيّة الذكور على الإناث.

قال ابن عبّاس: في قوله: «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً» يريد لوطا و شعيبا عليهما السّلام و لم يهب لهما إلّا البنات «وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» يريد إبراهيم لم يكن له إلّا الذكور. و قوله: «أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً» يريد محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان له من البنين أربعة القاسم و الطاهر و عبد اللّه و إبراهيم و من البنات أربعة زينب و رقيّة و امّ كلثوم و فاطمة عليها السّلام «وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» يريد عيسى و يحيى.

قوله: [سورة الشورى (42): الآيات 51 الى 53]

وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

المعنى: لمّا ذكر نعمه السابقة على خلقه ذكر في هذه الآية أجلّ النعم و هي النبوّة فقال:

[وَ ما كانَ لِبَشَرٍ] أي ليس لأحد من البشر [أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا] أن يوحي إليه [وَحْياً] مثل داود اوحي في صدره فزبر الزبور أو يكون بطريق الإلهام و القذف في القلب أو المنام كما أوحى اللّه إلى امّ موسى و إبراهيم في ذبح ولده أو يسمعه كلامه تعالى [أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ و هو موسى في الطور [أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا] و هو جبرئيل [فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ] أي

ص: 38

إرسال ملائكته بكلامه و كتبه إلى أنبياء.

و المراد من قوله: «أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» هو أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلّا من يريد أن يكلّمه به نحو كلامه لموسى لأنّه حجب ذلك عن جميع الخلق إلّا عن موسى وحده و في المرّة الثانية حجبه عن جميع الخلق إلّا عن موسى و السبعين نفرا الّذين كانوا معه و يمكن أن يقال: إنّه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الّذين أقام الكلام فيه فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه لأنّ الكلام عرض لا يقوم إلّا في جسم و لا يجوز أن يكون أراد بقوله: «مِنْ وَراءِ حِجابٍ» تكلّمه عباده لأنّ الحجاب لا يجوز إلّا على الأجسام.

[إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ عليّ عن الإدراك بالأبصار حكيم في أفعاله.

قالت المعتزلة و الإماميّة: إنّ هذه الآية تدلّ على أنّه تعالى لا يرى و ذلك لأنّه تعالى حصر أقسام وحيه في هذه الثلاثة و لو صحّت رؤية اللّه لصحّ من اللّه أن تتكلّم مع العبد حال ما يراه العبد فحينئذ يكون ذلك قسما رابعا زائدا على هذه الأقسام الثلاثة و اللّه تعالى نفى القسم الرابع.

و أمّا الّذين يدّعون الرؤية يزيدون في الآية قيدا، و لعجزهم عن أوّله نفي الرؤية زادوا هذا القيد و قالوا: تقدير الكلام في الآية: و ما كان اللّه لبشر أن يكلّمه اللّه في الدنيا.

و هذا القول و التقدير خلاف الظاهر وهب أنّهم التزموا بهذا التقدير في الآية و اثبتوا مدّعاهم فماذا يصنعون بتلك الدلائل المنفصلة في نفي الرؤية من وقوع التجسّم و التمكّن و التركيب و أمثالها المباينة لمعنى الألوهيّة؟ و بالجملة إنّه تعالى لا يرى لا في الدنيا و لا في القيامة.

قوله تعالى: [وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي مثل ما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك أوحينا إليك [رُوحاً مِنْ أَمْرِنا] و معنى الروح القرآن لأنّ فيه الحياة من موت الكفر و الاهتداء بالحياة السليمة عن الآفات. و قيل: المراد من الروح هو روح القدس و هو ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قالا:

و لم يصعد إلى السماء و إنّه لفينا الأئمّة.

[ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ أي ما كنت يا محمّد قبل الوحي و قبل أن

ص: 39

نعلّمك بالوحي ما القرآن و لا الشرائع و معالم الإيمان؟ و قيل: معناه و لا أهل الإيمان أي من الّذي يؤمن و من الذي لا يؤمن و هذا من باب حذف المضاف.

[وَ لكِنْ جَعَلْناهُ أي جعلنا الروح الّذي هو القرآن [نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا] لأنّ فيه معالم الدّين. و قيل: المعنى جعلنا الإيمان نورا. القميّ عن الباقر عليه السّلام في قوله: «وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً» قال: يعني عليّا عليه السّلام و عليّ هو النور هدى به من هدى من خلقه.

[وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي كما أنّ القرآن يهدي إلى الصراط المستقيم فأنت تهدي الخلق و علي نفسك و صنوك فهو أيضا كذلك قال الصادق عليه السّلام حين سئل عن معنى الآية: يعني إنّك لتأمر بولاية عليّ و تدعو إليها و عليّ هو الصراط المستقيم.

ثمّ فسّر ذلك الصراط بقوله: [صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أي إنّ الصراط صراط اللّه و لا يجوز عبادة غيره. ثمّ قال: [أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ] و ترجع [الْأُمُورُ] دون غيره.

توضيح لو قيل: إنّ الإجماع منعقد على أنّه لا يجوز أن يقال: إنّ الرسل كانوا قبل الوحي على الكفر فكيف التطبيق مع قوله: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ»؟

و التطبيق ما ذكرنا في تفسير الآية إن كنت عرفت معناه و هو أنّ المراد من الكتاب القرآن و من الإيمان الصلاة لقوله تعالى: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» أي صلاتكم.

و الجواب الثاني ما بيّنّا من حذف المضاف أي ما كنت تدري ما الكتاب و من أهل الإيمان يعني من الّذي يؤمن و من الّذي لا يؤمن.

و الجواب الثالث ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان حتّى كنت طفلا في المهد و معلوم أنّ علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما كان قديما بل علّمه اللّه.

و الجواب الرابع أنّ الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلّف اللّه به و إنّه قبل النبوّة ما كان عارفا بجميع جزئيّات الشريعة بل إنّه كان عارفا باللّه تعالى تمّت السورة.

ص: 40

سورة الزخرف

اشارة

مكية كلها و قيل: إلّا آية منها «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا» الآية، نزلت بيت المقدس. عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قرأ سورة الزخرف كان ممّن يقال له: «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ادخلوا الجنّة بغير حساب».

و عن أبي بصير عن الباقر عليه السّلام من أدمن قراءة الزخرف آمنه اللّه في قبره من هو امّ الأرض و من ضغطة القبر حتّى يقف بين يدي اللّه ثمّ جاءت حتّى تكون هي الّتي تدخله الجنّة بأمر اللّه.

ص: 41

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)

[حم أي هذه السورة مسمّاة بحم أو أنّ حم هو القرآن و على هذا التقدير فقوله:

[وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ بالجرّ على أنّه مقسم به إمّا ابتداء أو بإضمار باء القسم، أقسم سبحانه بالكتاب المبين [إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا] فيكون المقسم عليه هو قوله: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً» و على تقدير: هذه سورة حم، فيكون القسم واقعا على أنّ هذه السورة هي سورة حم و على هذا التقدير فقوله: «إِنَّا جَعَلْناهُ» ابتداء لكلام آخر.

و في وصف الكتاب بكونه مبينا لأنّه المبين للذين أنزل إليهم لأنّه بلغتهم و لسانهم أو لأنّه مبين طريق الهدى من طريق الضلالة و أبان كلّ باب عمّا سواء و وصف الكتاب بكونه مبينا مجاز لأنّ المبين هو اللّه و سمّي القرآن بذلك توسّعا من حيث إنّه حصل البيان عنده و هو إنّما سمّي قرآنا لأنّه جعل بعضه مقرونا ببعض و يصدّق بعضه بعضا.

[لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تتدبّرون و كلمة لعلّ للتمنّي و الترجّي و هو لا يليق بمن كان عالما بالعواقب فكان المراد منها هنا «كي» أي أنزلناه قرآنا عربيّا لكي تعقلوا معناه و تحيطوا بفحواه.

قالت المعتزلة: و كلمة «إِنَّا جَعَلْناهُ» تدلّ على حدوث القرآن لأنّ المجعول هو المصنوع المخلوق. فإن قيل: إنّ المراد من قوله: «جَعَلْناهُ» أي سمّيناه عربيّا؛ فهذا الكلام مدفوع لأنّه لو كان المراد بالجعل هذا لوجب أنّ من سمّاه عجميّا أن يصير عجميّا و إن كان بلغة العرب و معلوم أنّ هذا باطل.

ص: 42

ثمّ إن كان المراد من الجعل التسمية و صرف إلى هذا المعنى لزم كون التسمية مجعولة و التسمية أيضا من كلام اللّه و ذلك يوجب أنّ بعض كلامه مجعول و إذا صحّ ذلك في البعض صحّ في الكلّ على أنّه سمّي قرآنا لأنّ بعضه مقرون ببعض و ما كان كذلك كان مصنوعا معمولا و كونه عربيّا أي اختصّت بمسمّياتها بوضع العرب و اصطلاحاتهم و ذلك أيضا يدلّ على كونه مصنوعا.

و أيضا يستنبط دليل آخر على حدوث الكلام و هو أنّ القسم بغير اللّه لا يجوز كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّه كان يقول: يا ربّ طه و يس و يا ربّ القرآن العظيم فحينئذ صار القرآن مربوبا مخلوقا فتمّ الدليل.

و أيضا قالت المعتزلة: إنّ حاصل معنى قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» على ما فسّرتم و فسّرنا هو أنّا جعلناه قرآنا عربيّا لكي تعقلوا و هذا يفيد أمرين: أحدهما أنّ أفعال اللّه معلّلة بالأغراض و الدواعي. و الثاني أنّه تعالى إنّما أنزل القرآن ليهتدي به الناس و ذلك يدلّ على أنّه تعالى أراد من الكلّ الهداية و المعرفة خلاف قول من يقول: إنّه تعالى أراد من البعض الكفر و الإعراض، و القائلين بالجبر هم الأشاعرة.

و بالجملة قوله: «قُرْآناً عَرَبِيًّا» أي بلسان العرب و مذاهبها في الحروف و المفهوم و مع ذلك لا يتمكّن أحد منهم من إنشاء مثله و ما يقاربه من علوّ طبقته في الفصاحة و البلاغة إمّا لعدم علمهم بذلك أو لأنّهم صرفوا عنه قهرا على الخلاف بين العلماء كالمرتضى و أمثاله.

قوله [وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ أي إنّ القرآن في اللوح المحفوظ و إنّما سمّي باللوح المحفوظ لأنّ سائر الكتب ينسخ منه أو أنّ أصل كلّ شي ء امّه و القرآن مثبت في اللوح المحفوظ كما قال تعالى: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» (1) و هو الكتاب الّذي كتب اللّه ما يكون إلى يوم القيامة لما رأى في ذلك صلاح ملائكته بالنظر فيه و علم فيه من لطف المكلّفين بالإخبار عنه.

[لَدَيْنا] أي الّذي عندنا [لَعَلِيٌ أي عال في البلاغة أو يعلو كلّ كتاب بما اختصّ

ص: 43


1- البروج: 21.

به من كونه ناسخا للكتب و يوجب العمل به و بإدامته و بما تضمّنه من الفوائد عظيم الشأن تعظمه الملائكة و المؤمنون [حَكِيمٌ مظهر للحكمة فهو بمنزلة الحكم الّذي لا ينطق إلّا بالحقّ و الصواب.

و قد وصف اللّه تعالى القرآن بهاتين الصفتين لأنّهما من صفات الحيّ، و في المعاني عن الصادق عليه السّلام: هو أمير المؤمنين كما قيل في سورة الفاتحة في قوله: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» هو أمير المؤمنين و معرفته ثمّ خاطب سبحانه من لم يعتبر بالقرآن و جحد ما فيه من الحكمة فقال: [أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً] و المراد بالذكر القرآن أي أ فنترك عنكم الوحي (و ذكر الانتقام) صفحا و إعراضا إذا كنتم متجاوزين عن الحدّ. و «أَنْ» قيل:

بمعنى «إذ» مثل قوله: «وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (1) و تقدير الآية على كون إنّ بمعناها لا بمعنى «إذ»: إن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر صفحا و عفوا و قرئ أن بفتح الألف على التعليل أي لأن كنتم مسرفين.

و حاصل معنى الآية أ فنمسك عن إنزال الوحي و القرآن و نهملكم فلا نعرّفكم ما يجب عليكم من أجل سرفكم في كفركم و التعبير في الآية بالضرب لأنّ الدابّة إذا أرادوا أن يصرفوا وجهها عن طريق إلى طريق تضرب بالسوط فوضع الضرب موضع الصرف و العدل. و قيل: إنّ الذكر بمعنى العذاب فالمعنى أ حسبتم أنّا لا نعذّبكم أبدا؟

قال صاحب الكشّاف: الفاء في قوله: «أَ فَنَضْرِبُ» للعطف على محذوف تقديره:

أ نهملكم فنضرب عنكم الذكر.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 6 الى 10]

وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)

ثمّ عزّى نبيّه بقوله: [وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ أي في الأمم الماضية [وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ . يعني إنّ الأمم الخالية الّتي ذكرناها كفرت بالأنبياء و سخرت منهم لفرط جهالتهم و غباوتهم و استهزئت بهم كما استهزأ قومك

ص: 44


1- البقرة: 278.

بك فلم نضرب عنهم صفحا بسبب استهزائهم بالرسل بل كرّرنا الحجج و أعدنا الرسل [فَأَهْلَكْنا] من اولئكم الأمم بأنواع العذاب من كان أشدّ قوّة و منعة من قومك فلا يغترّ هؤلاء بالقوّة و النجدة.

ثمّ قال: [وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سلف في القرآن غير مرّة ذكر قصّتهم الّتي حقّها أن تسير مسير المثل و حاصل المعنى أنّ كفّار مكّة سلكوا في الكفر و التكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزّل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم فقد ضربنا لهم مثلهم كما قال: «وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ» (1).

قوله: [وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي إن سألت قومك يا محمّد [مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أنشأهما و اخترعهما [لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي لم يكن جوابهم في ذلك إلّا أن يقولوا: خلقهنّ يعني السماوات و الأرض القادر الّذي لا يقهر و لا يغلب العليم بمصالح الخلق و هو اللّه لأنّهم لا يمكنهم أن يحيلوا في ذلك على الأصنام و الأوثان و هذا إخبار عن جهلهم إذ اعترفوا بأنّ اللّه خلقهنّ ثمّ عبدوا معه غيره و أنكروا قدرته على البعث.

ثمّ وصف بقوله: [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً] و قرئ مهادا أي مقرّا و مسكنا [وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا] لتسلكوها [لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في أسفاركم. و قيل: معناه لتهتدوا إلى الحقّ في الدين باعتبار النظر و التدبّر فيها. و قال سبحانه: «مَهْداً» لأجل كونها واقفة ساكنة يمكن الانتفاع بها في الزراعة و بناء الأبنية و لمّا كان المهد موضع الراحة للصبيّ و هي موضع الراحة للخلق عبّر بالمهد.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 11 الى 15]

وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)

ثمّ أكّد سبحانه بقوله: [وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً] أي غيثا و مطرا بقدر الحاجة لا زائدا عليها فيفسد، و لا ناقصا عنها فيضرّ و في ذلك دلالة على أنّه واقع من حكيم

ص: 45


1- الفرقان: 39.

قادر مختار قد قدّره على ما يقتضيه الحكمة لعلمه بذلك.

[فَأَنْشَرْنا] أي فأحيينا [بِهِ أي بذلك الماء [بَلْدَةً مَيْتاً] و النشر الحياة قال الأعشى:

لو أسندت ميتا إلى نحرهاعاش و لم ينقل إلى قابر

حتّى يقول الناس ممّا رأوايا عجبا للميّت الناشر

و المراد من البلد الميّت أي جافّة يابسة و إحياؤها بإخراج النبات و الأشجار و الثمار.

[كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي مثل ما أخرج النبات من الأرض اليابسة تخرجون من قبوركم يوم البعث.

[وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها] يعني أزواج الحيوان من ذكر و أنثى. و قيل: معناه خلق الأشكال جميعها من الحيوان و الجماد فمن الحيوان الذكر و الأنثى و من غير الحيوان ممّا هو كالمقابل مثل الحلو و المرّ و الرطب و اليابس و الشتاء و الصيف و اللّيل و النهار و الشمس و القمر و السماء و الأرض و الجنّة و النار.

[وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي السفن و البقر و الإبل. و قيل:

المراد في هذه الآية من الأنعام خصوص الإبل أي ما تركبون في البرّ و البحر [لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ هي الغرض في خلق ما ذكر: لأن تستووا و تستقيموا بركوبكم على ظهوره فالضمير في ظهوره يعود إلى لفظ «ما» [ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ فتشكروا على تلك النعمة الّتي هي تسخير ذلك المركب و تعترفوا بنعته منزّهين عن شبه المخلوقين [وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا] المركب و ذلّله لنا حتّى ركبناه [وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين و مقاومين في القوّة به و تقولوا [وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي و لتقولوا أيضا ذلك و معناه و إنّا إلى اللّه راجعون في آخر عمرنا على مركب آخر و هو الجنازة.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا استوى على بعيره خارجا في سفر كبّر ثلاثا و قال: «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ اللّهمّ إنّا نسألك في سفرنا هذا البرّ و التقوى و العمل بما ترضى اللّهمّ هوّن علينا سفرنا و اطوعنا بعده اللّهمّ أنت الصاحب في السفر و الخليفة في الأهل و المال اللّهمّ إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر

ص: 46

و كأبة المنقلب و سوء المنظر في الأهل و المال» و كان صلّى اللّه عليه و آله إذا رجع قال: آئبون تائبون لربّنا حامدون، أورده مسلم في الصحيح.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: ذكر النعمة أن تقول: الحمد للّه الّذي هدانا للإسلام و علّمنا القرآن و منّ علينا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و تقول بعده: سبحان الّذي سخّر لنا هذا إلى آخره.

ثمّ رجع سبحانه إلى ذكر الكفّار الّذين تقدّم ذكرهم فقال: [وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ و معنى الجعل في الآية الحكم بأنّ بعض عباده و هم الملائكة له أولاد؛ قال ابن عبّاس: زعموا أنّ الملائكة بنات اللّه. و قيل: إنّ معناه و جعلوا للّه من مال عباده نصيبا و هو كقوله: «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً» (1) فحذف المضاف و على المعنى الأوّل أثبتوا التركيب له سبحانه حيث جعلوا اللّه ذا أجزاء و أبعاض كما قال صلّى اللّه عليه و آله: فاطمة بضعة منّي و الولد أصله ينفصل من الوالد فجزؤه و بعض منه و متى كان الأمر كذلك فإنّه يقبل الاتّصال و الانفصال و الاجتماع و الافتراق و لازم هذه الأمور الحدوث و تباين القديميّة و الأزليّة.

[إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي جاحد لنعم اللّه مظهر لكفره غير مستتر.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 16 الى 20]

أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ (19) وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20)

ثمّ أنكر سبحانه عليهم قال: على سبيل التوبيخ بل [اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ لنفسه سبحانه [وَ أَصْفاكُمْ أي أخلصكم بالبنين.

ثمّ زاد في الاحتجاج عليهم بأن قال: [وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا] أي بما جعل للّه شبها و ذلك أنّ ولد كلّ شي ء شبهه و جنسه فالمعنى إنّه إذا اخبر أحدهم

ص: 47


1- الانعام: 136.

بولادة ابنة له [ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا] بما يلحقه من الغمّ و الحزن [وَ هُوَ كَظِيمٌ مملوّ من الكرب و الغيظ.

ثمّ وبّخهم بما افتروه فقال: [أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ] أي أو جعلوا من ينشّأ في زينة النساء يعني البنات و من شأنه أن يربّى في الزينة و هو عاجز عن أن يتولّى لأمره بنفسه فجعلوا ينسبون شيئا هم يستنكفون منه إلى اللّه و حاصل المعنى أنّهم ينسبون البنات إلى اللّه و الّذي يربّى في الحلية و هو ناقص الذات لأنّه لو لا نقص في ذاتها لما احتاجت تزيّن نفسها بالحلية.

ثمّ بيّن نقص حالها بطريق آخر و هو قوله: [وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ يعني إنّها إذا احتاجت المخاصمة و المنازعة عجزت و كانت غير مبين و ذلك لضعف لسانها و قلّة عقلها و بلادة طبعها، و يقال: قلّما تكلّمت امرأة فأرادت أن تكلّم بحجّتها إلّا تكلّمت بما كانت حجّة عليها فهذه الوجوه دالّة على نقصها فكيف يجوز إضافتهنّ بالولديّة إليه سبحانه؟

قال الرازيّ: و الآية تدلّ على أنّ التحلّي مباح للنساء و أنّه حرام للرجال لأنّه تعالى جعل ذلك من المعائب و موجبات النقصان و إقدام الرجل عليه يكون إلقاء لنفسه في الذلّ و ذلك حرام لقوله صلّى اللّه عليه و آله: ليس للمؤمن أن يذلّ نفسه، و إنّما زينة الرجل الصبر على طاعة اللّه و التزيّن بزينة التقوى و إنّما قال: «وَ هُوَ فِي الْخِصامِ» و لم يقل: و هي، لأنّه حمله على لفظ «مَنْ».

قوله: [وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً] بأن زعموا أنّهم بنات اللّه [أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ هذا أي أحضروا حتّى علموا أنّهم إناث، و هذا كقوله: «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ» (1) و المراد أنّ هذا الأمر الّذي يزعمون ليس له طريق إلى ثبوته بالدلائل العقليّة و أما الدلالة النقليّة فكلّها متفرّعة على إثبات النبوّة و هم منكرون للنبوّة فلا سبيل إلى إثبات هذا المطلوب إلّا بالعيان فأنكر سبحانه عيانهم فثبت أنّ دعواهم غير محقّقة لا بضرورة و لا بدليل و قرئ «عند الرحمن».

ص: 48


1- الصافات: 150.

و استدلّ الّذي قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية على قراءة النون فقال:

إنّ العنديّة لا شكّ أنّها عنديّة القرب و الفضل و لفظة «هُمْ» يوجب الحصر فالمعنى أنّهم هم الموصوفون بهذه العنديّة لا غيرهم.

ثمّ هدّدهم بقوله: [سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بذلك و يسألون عنها يوم القيامة.

[وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ثمّ حكى سبحانه نوعا آخر من كفرهم و شبهاتهم و هو أنّهم نسبوا هذه العبادة إلى ارادة اللّه و إشائته و الآية تدلّ على فساد قول المجبّرة في أنّ كفر الكافر يقع بإرادة اللّه فأبطل سبحانه و زيّف هذا الاعتقاد بقوله تعالى: [ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي لا يعلمون صحّة ما يقولونه لأنّه دعوى من غير دليل [إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي ما هم إلّا كاذبون و كذّبهم اللّه لأنّهم أشركوا باللّه بإضافة الولد إليه و فارقوا العدل و نسبوا الظلم إلى اللّه بإضافتهم الكفر إلى مشيّة اللّه، قاله أبو حامد.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 21 الى 25]

أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

لمّا حكى سبحانه تخرّص من أضاف عبادة الأصنام و الملائكة إلى مشيّة اللّه قال:

على سبيل الاستفهام الإنكاريّ و قرّر خطاءهم بقوله:

[أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً] و التقدير، هذا الّذي ذكروه شي ء تخرّصوه و افتعلوه أم آتيناهم كتابا [مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي بذلك الكتاب المؤتى عليهم فإذا لم يمكنهم ادّعاء أنّ اللّه أنزل بذلك كتابا علم أنّ ذلك من تخرّصهم.

ثمّ أعلم سبحانه أنّهم اتّبعوا الضلالة.

فقال: ليس الأمر كذلك [بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ] أي على ملّة و طريقة، عن ابن عبّاس و جماعة و قيل: أي على جماعة أي كانوا مجتمعين على هذه الطريقة [وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ

ص: 49

مُهْتَدُونَ نهتدي بهداهم.

ثمّ قال: [وَ كَذلِكَ أي مثل ما قال هؤلاء في الحوالة على تقليد آبائهم في الكفر [ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمّد صلّى اللّه عليك [فِي قَرْيَةٍ]. و مجمع من الناس [مِنْ نَذِيرٍ] و من زائدة و مؤكّدة [إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها] هم المتمتّعون الّذين آثروا الترفّه على طلب الحجّة يريد الرؤساء [إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ فلا نخالفهم فأحال سبحانه حال جميعهم على التقليد للآباء فقط دون الحجّة و التقليد قبيح في العقول إذ لو كان جائزا لكان يلزم أن يكون الحقّ في الشي ء و في نقيضه فكلّ فريق يقلّد أسلافه مع أنّ كلا منهم يعتقد أن من سواء على خطأ و ضلال و هذا باطل و لا بدّ من الرجوع إلى حجّة عقليّة أو سمعيّة.

ثمّ خاطب سبحانه للنذير [قالَ قل لهم [أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ تتّبعون ما وجدتم عليه آباءكم و لا تقبلون ما جئتكم به أي أ تقبلون ما جئتكم به أم لا تقبلون و تبقون على ضلالتكم و تقليدكم أيضا و في هذا البيان حسن التلطّف في الاستدعاء إلى الحقّ لأنّ ما جئتكم به من الحقّ إذا كان أهدى ممّا تزعمون أنّه الهداية كان أوجب أن يتّبع و يرجع إليه.

ثمّ اخبر سبحانه أنّهم أبوا أن يقبلوا ذلك و [قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أيّها الرسل [كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فلمّا تمّت الحجّة و ما نفعت أهلكناهم و عجّلنا عقوبتهم [فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لأنبياء اللّه و الجاحدين لهم فدلّت الآية على أنّ العاقبة المحمودة للمصدّقين بحججه و رسله و العاقبة المذمومة للمكذّبين بالرسل و الآيات.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 26 الى 30]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)

و اذكر يا محمّد لهم وقت قول [إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ و المراد من الأب العمّ و التعبير بالأب عن العمّ مرّ ذكره قبل قال: [إِنَّنِي بَراءٌ] أي تبرّأ عليه السّلام منهم و من مسلكهم و

ص: 50

«بَراءٌ» مصدر عبّر به مبالغة و لذلك يستوي فيه الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث أي إنّني بري ء من عبادتكم أو معبودكم.

[إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي و ابتدأني و أظهرني من العدم إلى الوجود و يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا أو متّصلا لأنّهم كانوا يعبدون اللّه و الأصنام أي أنا بري ء من آلهة تعبدونها غير الّذي فطرني [فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي سيثبتني على الهداية إلى طريق الجنّة بلطفه، و فيه بيان ثقته عليه السّلام باللّه تعالى و المعنى أنّه كان هداني قبل ذلك فسيهديني بعد ذلك و الأقرب أنّ السين للتّأكيد دون التّسويف و صيغة المضارع للدّلالة على الاستمرار.

[وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي و جعل إبراهيم عليه السّلام كلمة التوحيد الّتي عبّر بها كلمة باقية في ذرّيّته حيث وصّاهم بها كما نطق به قوله تعالى: «وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ» الآية فلا يزال فيهم من يوحّد اللّه إلى يوم القيامة و قيل: المراد بالكلمة الباقية الإمامة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و اختلف في عقبة من هم؟ فقيل: ذرّيّته و ولده و قيل: هم آل محمّد عليهم السّلام لأنّهم من نسله و ذرّيّته.

[لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ و يتوبون و يرجعون عمّا هم عليه إلى الاقتداء بأبيهم إبراهيم في توحيد اللّه كما اقتدى الكفّار بآبائهم.

ثمّ ذكر سبحانه نعمه على قريش فقال: [بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ المعنى إضراب عن محذوف ينساق إليه الكلام كأنّه قيل جعلها كلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعوته فلم يحصل ما رجاء بل متّعت قومك هؤلاء و آباءهم فامهلوا و متّعوا حتّى جاءهم القرآن و الآيات الدالّة على الصدق و بعثنا رسولا مبينا يبيّن الحقّ و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لمّا جاءهم الحقّ أي القرآن قابلوا هذه النعم بالتكذيب و [قالُوا هذا] القرآن [سِحْرٌ] و حيلة خفيّة و تمويه [وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ جاحدون أنّه من قبل اللّه.

[سورة الزخرف (43): الآيات 31 الى 35]

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

ص: 51

المعنى: هذا نوع آخر من كفريّاتهم و هو أنّهم قالوا: إنّ رسالة اللّه منصب عظيم شريف فلا يليق إلّا برجل شريف و قد صدقوا في ذلك إلّا أنّهم ضمّوا إليه مقدّمة فاسدة و هي أنّ الرجل الشريف هو الّذي يكون كثير المال و الجاه و محمّد ليس كذلك فلا يليق رسالة اللّه به و إنّما يليق هذا المنصب برجل عظيم الجاه كثير المال في إحدى القريتين و هي مكّة و الطائف قال المفسّرون: و الّذي بمكّة هو الوليد بن المغيرة و الّذي بالطائف هو عروة ابن مسعود الثقفيّ.

فأبطل اللّه شبهتهم بقوله: [أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ تعجيب من تحكّمهم و المراد من الرحمة النبوّة أي إنّه سبحانه يقسّم النبوّة و ليس بأيديهم مفاتيح النبوّة فيضعونها حيث شاءوا.

ثمّ قال: [نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] على حسب ما علمناه من المصلحة و ليس لأحد أن يتحكّم في شي ء من ذلك فكما فضّلنا بعضهم على بعض في الرزق فكذلك اصطفينا للرسالة من نشاء [وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أفقرنا البعض و أغنينا البعض فتلقى ضعيف الحيلة عيّ اللسان و هو مبسوط له و تلقى شديد الحيلة بسيط اللّسان و هو مقتر عليه:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه كم جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

و حاصل المعنى أنّ رزق الدنيا مع قلّة خطره لم يفوّض إليهم بل جعلناه على وفق ما توجبه الحكمة و المصلحة فكيف نفوّض اختيار النبوّة إليهم مع عظم محلّها و شرف قدرها؟

قوله: [لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا] أي إنّ الحكمة في اختلاف الرزق بين العباد زيادة على ما فيه من المصالح فيه تسخير من بعض العباد لبعض بإحواجهم إليه ليستخدم

ص: 52

بعضهم بعضا فينتفع أحدهم بعمل الآخر له فينتظم قوام أمر العالم و قد جعلنا هذا التفاوت بين العباد في القوّة و الضعف و العلم و الجهل و الحذاقة و البلاهة و الشهرة و الخمول و إنّما فعلنا ذلك لأنّا لو سوّينا بينهم في كلّ هذه الأحوال لم يخدم أحد أحدا و لم يصر أحد منهم مسخّرا لغيره و حينئذ يقضي ذلك إلى خراب العالم ثمّ إنّ أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا و لا على خروج من قضائنا فإن عجزوا عن الاعتراض على حكمنا في أحوال الدنيا مع قلّتها و دناءتها فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا و قضائنا في أمر النبوّة و منصب الرسالة؟ و ما ظنّهم بأنفسهم في تدبير أمر الدين و هو أبعد من مناط العيّوق و أعزّ من بيض الأنوق فمن أين لهم البحث عن التعيين في شخص الرسول؟

[وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي النبوّة و ما يتبعها من سعادة الدارين خير ممّا يجمعون من حطام الدنيا الدنيّة الفانية فهذه الرحمة الخاصّة و هي النبوّة خير من الأموال الّتي يجمعونها لأنّ الدنيا فانية و رحمته باقية أبد الآباد.

قوله تعالى: [وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً] و لو لا أن يجتمع الناس على الكفر فيكونوا كلّهم كفّارا على دين واحد لميلهم إلى الدنيا و حرصهم عليها و لو لا أن يجتمع الناس على اختيار الدنيا على الدين [لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ] أي كنّا جعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن سقفا من فضّة، السقف جمع السقيفة مثل السفن جمع السفينة. و قيل: اللام الثانية بمعنى «على» فحينئذ المعنى لجعلنا لمن يكفر بالرحمن على بيوتهم سقفا من فضّة [وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ أي و جعلنا سلاليم و درجا من فضّة عليها يعلون و يصعدون.

[وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً] من فضّة على تلك السرر يتّكئون [وَ زُخْرُفاً] قال ابن عبّاس و جماعة: الزخرف الذهب و هو عطف على محلّ من فضّة. و قيل: الزخرف النقوش و قيل: الفرش و متاع البيت و تكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير و التأكيد. و بالجملة لو لا وقوع كثرة الكفر لكنّا نعطي الكافر غاية ما يتمنّاه في الدنيا لقلّتها و حقارتها لكنّه لم يفعل سبحانه لما فيه من المفسدة.

ثمّ أخبر أنّ جميع ذلك إنّما يتمتّع به في الدنيا فقال: [وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ

ص: 53

الْحَياةِ الدُّنْيا] أي و ما كلّ ما ذكر من البيوت المفصّلة و الزخازف إلّا شي ء يتمتّع به في الدنيا [وَ الْآخِرَةُ] أي الجنّة الباقيّة [عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ خاصّة لهم.

قال بعض أهل التحقق: و اللّه لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها إلى الكفر و ما فعل سبحانه ذلك فكيف لو فعله؟

و في الآية دلالة على اللطف و إنّه تعالى لا يفعل المفسدة و ما يدعو إلى الكفر و إذا لم يفعل ما يؤدّي إلى الكفر فلأن لا يفعل الكفر و لا يريده أولى تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا فثبت بطلان مذهب الجبر.

و على قراءة من خفّف «لما» قال الواحديّ: ما زائدة و التقدير لمتاع الحياة الدنيا و صحّح قراءة التخفيف الكسائيّ (1).

فإن قيل: إنّ اللّه لم يفعل بالكافرين الفعل المذكور و بيّن السبب أنّ المانع لذلك اجتماع الناس على الكفر فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتّى يصير ذلك سببا لاجتماع الناس على الإسلام؟

فالجواب أنّ الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا و هذا الإيمان لا ينفع و هو إيمان المنافقين.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 40]

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)

لمّا تقدّم ذكر الوعد للمتّقين بيّن الوعيد لمن هو على ضدّ صفتهم فقال:

[وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أي يعرض عنه و يعم، شبّههم بالأعشى لمّا لم يبصروا الحقّ و القرآن و الذكر القرآن أو الآيات و الأدلّة [نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أي نخلّ بينه و بين الشيطان الّذي يغويه و يدعوه إلى الضلالة فيصير قرينه عوضا عن ذكر اللّه

ص: 54


1- لأنه أنكر مجي ء لما بمعنى الافحكم بان قراءة التخفيف صحيح لا غير.

و هو الخذلان عقوبة له عن الإعراض. و قيل: معناه نقرن به شيطانا في الآخرة يلازمه فيذهب به إلى النار كما أنّ المؤمن يقرن به ملك فلا يفارقه حتّى يصير به إلى الجنّة. و قيل:

أراد به شياطين الإنس نحو علماء السوء و رؤساء الضلالة يصدّونهم عن سبيل اللّه فيتّبعونهم.

[وَ إِنَّهُمْ يعني و إنّ الشياطين، و إنّما جمع لأنّ الكلام في معرض الجمع (لأنّ المغوين كثيرون) و إن كان اللفظ على الواحد [لَيَصُدُّونَهُمْ أي يصرفون هؤلاء الكفّار [عَنِ السَّبِيلِ عن طريق الهداية و الجنّة [وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ و يحسب الكفّار أنّهم على الهدى فيطيعونهم.

[حَتَّى إِذا جاءَنا] و قرئ «جاآنا» على التثنية فالمعنى: الشيطان المغوي و المغتوي الضالّ، و من قرأ على التوحيد فالمعنى: حتّى إذا جاءنا الكافرون يوم القيامة الّذي يتولّى سبحانه حساب الخلق فيه قال الكافر حينئذ لقرينه الّذي أغواه: [يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ يعني بعد ما بين المشرق و المغرب فغلب أحدهما على الآخر كما قال الشاعر الفرزدق:

أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع

يعني الشمس و القمر، و قيل: يعني محمّدا و إبراهيم، و قيل: أراد بالمشرقين مشرق الشتاء و مشرق الصيف أي هذا البعد مسافة حتّى لم أرك و لا اغتررت بك.

روي أنّ الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده فلم يفارقه حتّى يصيّر هما اللّه إلى النار.

قال الرازيّ في وجوه تفسير المشرقين: إنّ الحسّ يدلّ على أنّ الحركة اليوميّة إنّما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب و أمّا القمر فإنّه يظهر في أوّل الشهر في جانب المغرب من الشمس ثمّ لا يزال يتقدّم إلى جانب المشرق و ذلك يدلّ على أنّ مشرق حركة القمر هو المغرب فالجانب المسمّى بالمشرق هو مشرق الشمس و لكنّه مغرب القمر و الجانب المسمّى بالمغرب هو مشرق القمر و مغرب الشمس و بهذا التقدير يصحّ تسمية المشرق و المغرب بالمشرقين و هذا مبالغة كاملة في بعد المسافة.

[فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت اليوم لي، لأنّهما يكونان مشدودين في سلسلة واحدة زيادة عقوبة و غمّ.

ص: 55

ثمّ يقول اللّه في ذلك اليوم [وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي لا يخفّف الاشتراك عنكم شيئا من العذاب و ذلك لأنّ الإنسان قد يتسلّى عن العذاب و المحنة إذا رأى أنّ عدوّه في مثلها أو أنّ المصيبة إذا عمّت طابت و سهلت أي ليس الأمر كذلك و بيّن سبحانه أنّ حصول الاشتراك بينهما لا يفيد التخفيف مثل أحوال أهل الدنيا و ذلك لشدّة العذاب فاشتغال كلّ واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر حتّى يفرح بعذاب عدوّه فيكون التسلية له أو لأنّ القوم إذا اشتركوا في العذاب أعان كلّ واحد منهم صاحبه.

ثمّ خاطب سبحانه نبيّه [أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ شبّه الكفّار في عدم انتفاعهم بما يسمعونه و يرونه بالصمّ و العمى [وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر أي فلا يضيقنّ صدرك فإنّك لا تقدر على إكراههم على الإيمان و كان صلّى اللّه عليه و آله يجتهد في دعوة قومه و هم لا يزيدون إلّا تصميما على الكفر، تأمّل في دقائق القرآن فإنّه سبحانه وصفهم في أوّل الأمر إلى العشى ثمّ لمّا تمادى كفرهم انتقلوا من العشى إلى العمى و لمّا بلغوا في النفرة عن استماع القرآن نسبهم إلى الصمم، و إنّما أضاف هذه الأوصاف إليهم بسبب كونهم في الضلالة.

ثمّ سلّى نبيّه بعد أن ظهر منهم عدم الأثر في قبول الدعوة فقال:

[سورة الزخرف (43): الآيات 41 الى 45]

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

المعنى: يسلّي سبحانه نبيّه بأنّه إن قبضناك و توفّيناك و متّ قبل أن نبصرك عذابهم و نشفّي بذلك صدرك [فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ لا محالة له في الآخرة و ما في قوله:

«فَإِمَّا» زائدة مؤكّدة بمنزلة لام القسم في أنّها لا تفارق النون المؤكّدة مثل و اللّه لأفعلنّ.

قوله: [أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أي أو أردنا أن نريك العذاب الّذي أوعدناهم [فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ بحيث لا مناص لهم من قهرنا و لقد أراه سبحانه يوم بدر قال الحسن و

ص: 56

قتادة: إنّ اللّه ألزم نبيّه بأن لم يره تلك النقمة و لم يره في امّته إلّا ما قرّت به عينه و قد كان بعده نقمة شديدة و قد روي أنّه اري ما تلقى امّته بعده فما زال منقبضا و لم ينبسط ضاحكا حتّى لقى اللّه.

و روى جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: إنّي لأدناهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حجّة الوداع حتّى قال صلّى اللّه عليه و آله: لا ألفينّكم ترجعون بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفنّي في الكتيبة الّتي تضاربكم ثمّ التفت صلّى اللّه عليه و آله إلى خلفه فقال:

أو عليّ أو عليّ ثلاث مرّات فرأينا أنّ جبرئيل غمزه فأنزل اللّه على أثر ذلك: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» بعليّ بن أبي طالب.

قال الفيض قدّس سرّه: إنّما يكون ذلك في الرجعة و القميّ عن الصادق قال:

فإمّا نذهبنّ بك يا محمّد من مكّة إلى المدينة فإنّا رادّوك إليها و منتقمون منهم بعليّ بن أبي طالب.

قوله تعالى: [فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ القميّ عن الباقر عليه السّلام إنّك على ولاية عليّ و عليّ هو الصراط المستقيم. و قيل: فاستمسك بالقرآن بأن تتلوه حقّ تلاوته و تتبّع أوامره و نواهيه، إنّك على صراط مستقيم. على دين الحقّ و الصواب و هو دين الإسلام و هذا المعنى يؤول إلى ما رواه القميّ معنى لأنّهما لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض.

قوله: [وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ أي و إنّ القرآن الّذي أوحي إليك لشرف لك و لقومك لقريش أو العرب لأنّه نزل بلغتهم ثمّ يختصّ بذلك الأخصّ فالأخصّ من العرب حتّى يكون الشرف لقريش أكثر من غيرهم ثمّ لبني هاشم أكثر ممّا يكون لقريش [وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ عن شكر ما جعله اللّه لكم من الشرف و قيل: تسألون عن القرآن و عمّا يلزمكم من القيام بحقّه.

قوله تعالى: [وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا] أي اسأل مؤمني أهل الكتاب الّذين أرسلنا إليهم الرسل هل جاءتهم الرسل إلّا بالتوحيد و التقدير سل امم من أرسلنا فحذف المضاف، و قيل: إنّ المراد سل أهل الكتابين التوراة و الإنجيل و إن كانوا كفّارا

ص: 57

فإنّ الحجّة تقوم بتواتر أخبارهم و الخطاب و إن توجّه إلى النبيّ فالمراد به الامّة.

[أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي هل جعلنا فيما مضى معبودا سوى اللّه يعبده قوم فإنّهم يقولون إنّا لم نأمرهم بذلك. و قيل: معنى الآية سل الأنبياء و هم الّذين جمعوا له ليلة الأسرى في بيت المقدس و كانوا تسعين نبيّا أو أكثر منهم موسى و عيسى و لم يسألهم لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان أعلم بشرائع اللّه منهم.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام: نحن قومه و نحن المسئولون و عن الصادق عليه السّلام إيّانا عنى و نحن أهل الذكر و نحن المسئولون. و عنه عليه السّلام: الذكر القرآن و نحن قومه و نحن المسئولون. و في البصائر عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته أهل الذكر و هم المسئولون.

و في الكافي و القميّ عن الباقر عليه السّلام إنّه سئل عن هذه الآية و هي «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا» من ذا الّذي سأل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كان بينه و بين عيسى خمسمائة سنة فتلا هذه الآية «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» قال: فكان من الآيات الّتي أراها اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله حين اسرى به إلى البيت المقدّس أن حشر اللّه له من الأوّلين و الآخرين من النبيّين و المرسلين ثمّ أمر جبرئيل فأذّن شفعا ثمّ أقام شفعا ثمّ قال في إقامته حيّ على خير العمل ثمّ تقدّم محمّد صلّى اللّه عليه و آله فصلّى بالقوم فأنزل اللّه «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا الآية» فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ما تشهدون و ما تعبدون؟ فقالوا: نشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أنّك رسول اللّه أخذت على ذلك مواثيقنا و عهودنا.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث و أمّا قوله: «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا» الآية، فهذا من براهين نبيّنا الّذي آتاه اللّه و أراه من الآيات و أوجب به الحجّة على سائر خلقه لأنّه لمّا جعله اللّه رسولا إلى جميع الخلق خصّه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج و جمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما أرسلوا به و حملوا من عزائم اللّه و آياته فأقرّوا أجمعين بفضله و فضل أوصيائه في الأرض من بعده و فضل شيعة وصيّه من الخلق من المؤمنين

ص: 58

و المؤمنات الّذين لم يستكبروا عن أمرهم و عرف من أطاعهم و عصاهم من أممهم و سائر من مضى و من غبر أو تقدّم أو تأخّر.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 54]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54)

المقصود من إعادة قصّة موسى و فرعون في هذا المقام أنّ كفّار قريش لمّا طعنوا في نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بسبب كونه فقيرا عديم المال و الجاه بيّن اللّه أنّ موسى بعد أن أورد المعجزات القاهرات الباهرات الّتي لا يشكّ فيها عاقل أورد فرعون عليه هذه الشبهة الّتي ذكرها كفّار قريش فقال: إنّي غنيّ كثير المال و أمّا موسى فإنّه فقير مهين و هذه الشبهة مثل شبهة قريش و كفّار مكّة حيث قالوا: «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».

و الحاصل قوله: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا] أي بحججنا [إِلى فِرْعَوْنَ و أشراف قومه و خصّ الملأ بالذكر و إن كان أيضا مرسلا إلى غيرهم لأنّ من عداهم تبع لهم [فَقالَ موسى: [إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أرسلني إليكم.

[فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا] أي فلمّا أظهر المعجزات الّتي هي اليد البيضاء و العصاء [إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي فاجاوا وقت ضحكهم من الآيات و استهزءوا بها أوّل ما رأوها و لم يتأمّلوا فيها استخفافا و جهلا منهم.

[وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها] و المراد بذلك ما ترادف عليهم من

ص: 59

الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم و الطمس و كانت كلّ آية من هذه الآيات أكبر من الّتي قبلها [وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ و هي العذاب المذكور [لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكي يتوبوا و يرجعوا عمّا هم عليه لأنّهم عذّبوا بهذه الآيات فكانت الآيات عذابا لهم و معجزات لموسى عليه السّلام.

فغلب عليهم الشقاء و لم يؤمنوا [وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ] يعنون بذلك يا أيّها العالم و كان الساحر عندهم عظيما يعظّمونه و لم تكن عندهم صفة ذمّ و قيل: إنّما قالوا: يا أيّها الساحر استهزاء بموسى و أرادوا أيّها الّذي غلبنا بسحره [ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بما زعمت أنّه عهد عندك و هو أنّه ضمن لنا أنّا إذا آمنّا بك أن يكشف العذاب عنّا [إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي راجعون إلى الحقّ الّذي تدعونا إليه متى كشف العذاب عنّا و في الكلام حذف و التقدير فدعا موسى و سأل ربّه أن يكشف العذاب عنهم فكشف اللّه عنهم ذلك [فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ و ينقضون العهد.

[وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ و لمّا رأى فرعون أمر موسى يزيد على الأيّام ظهورا و اعتلاء خاف على ملكه و أظهر الخداع فخطب الناس بعد ما اجتمعوا و قال: [أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ فأظهر اللّعين بسطته في الملك و المال و هذه الأنهار و المراد الأنهار الّتي فصلوها من النيل و معظمها كانت أربعة نهر الملك و نهر طولون و نهر دمياط و نهر تنيس كانت الأنهار تجري تحت قصره.

فلمّا اجتحّ بقوّة جاهه قال: [أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ و الغرض بأنّ موسى فقير ضعيف الحال و مهين و لا يعتنى به لضعف حاله و عنى بقوله: [وَ لا يَكادُ يُبِينُ حبسة و رتّة كانت في لسانه عليه السّلام و لا يكاد يفصح بكلامه و قيل: كانت الرتّة و العقدة لكن زالت عن لسانه حين أرسله اللّه كما قال: مخبرا عن نفسه «وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» (1) ثمّ قال اللّه تعالى: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ» (2) و إنّما عيّره اللّعين بما كان في لسانه قبل ذلك و المهين الفقير الّذي يمتهن نفسه في جميع ما يحتاج إليه ليس له من يكفيه أمره و قيل. كان

ص: 60


1- طه: 27.
2- طه: 36.

في لسانه لثغة فرفعه اللّه و بقي فيه ثقل.

قوله: «أَمْ أَنَا» اختلفوا في معنى «أَمْ» قال أبو عبيدة منقطعة معناها بل أنا خير و على هذا فقد ثمّ الكلام عند قوله: «أَ فَلا تُبْصِرُونَ» ثمّ ابتدأ فقال: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ» بمعنى بل أنا خير و قال الأكثرون: أم هذه متّصلة و أنّ المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلّا أنّه وضع قوله: أنا خير موضع تبصرون و قالوا في الآية: إنّ تمام الكلام عند قوله: «أَمْ» و قوله: «أَنَا خَيْرٌ» ابتداء كلام و التقدير أفلا تبصرون أم تبصرون لكنّه اكتفى فيه بذكر أم كما تقول لغيرك أ تأكل أم أي أ تأكل أم لا تأكل تقتصر على ذكر أم إيثارا للاختصار فكذا هاهنا.

قوله: [فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أي هلّا طرح عليه أسورة من ذهب إن كان صادقا في نبوّته و هلّا القي إليه مقاليد الملك لما أنّهم كانوا إذا سوّدوا رجلا سوّروه بسوار من ذهب.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و لقد دخل موسى بن عمران و معه أخوه هارون على فرعون و عليهما مدارع الصوف و بأيديهما العصا فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه فقال: ألا تعجبون من هذين يشترطان لي دوام الملك و هما بما ترون فهلّا القي عليها أسورة و طوّقا بطوق من ذهب. و أسورة جمع سوار و قرئ أساورة جمع أسوار بمعنى السوار على تعويض التاء من ياء أساوير، و قرئ ألقى على البناء للفاعل و هو اللّه.

و حاصل المعنى أنّ فرعون كان يقول: أنا أكثر منه مالا و جاها فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع أن يكون رسولا لأنّ منصب النبوّة يقتضي المخدوميّة و الأخسّ لا يكون مخدوما للأشرف و هي عين المقدّمة الّتي تمسّك بها كفّار قريش في قولهم: «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».

ثمّ قال: [أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ متتابعين يعينونه على أمره الّذي بعث له و يشهدون له بصدقه متناصرين متعاضدين قال الزجّاج معناه: يمشون معه و يدلّون و يشهدون بصحّة نبوّته.

ص: 61

ثمّ قال: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ أي إنّ فرعون استخفّ عقول قومه فأطاعوه فيما دعاهم إليه لأنّه احتجّ عليهم بما ليس بدليل و هو «أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ» إلى آخره، لأنّ الدليل الّذي يدلّ على النبوّة و صدق الرسل هو المعجز [إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة اللّه حيث أطاعوا ذلك الجاهل الفاسق.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 55 الى 60]

فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59)

وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)

ثمّ أخبر سبحانه عن انتقامه من فرعون و قومه فقال:

[فَلَمَّا آسَفُونا] أي أغضبونا عن ابن عبّاس و جماعة و غضب اللّه على العصاة إرادة عقوبتهم، و رضاه عن المطيعين إرادة ثوابهم الّذي يستحقّونه و قيل: آسفوا رسلنا لأنّ الأسف لا يجوز على اللّه [انْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي انتقمنا لأوليائنا منهم [فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ما نجا منهم أحد.

[فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً] أي متقدّمين إلى النار و السلف كلّ شي ء قدّمته من عمل أو قرض أو المتقدّم على غيره قبل مجي ء وقته و منه السلف في البيع و السلف نفيض الخلف [وَ مَثَلًا] أي جعلناهم مثلا يتمثّلون بهم و عبرة و موعظة [لِلْآخِرِينَ أي لمن جاء بعدهم و المعنى أنّ حال غيرهم يشبه حالهم إذا أقاموا على العصيان.

قوله: [وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا] قال أبو عليّ الفارسيّ: المثل واحد يراد به الجمع و يطلق على أكثر من واحد لقوله تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ» (1) فأريد بالمثل مثلين.

و بالجملة اختلف في وجوه معنى الآية:

الاول: أنّه لمّا ضرب اللّه المسيح مثلا بآدم في قوله: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ

ص: 62


1- النحل: 75.

آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» (1) أي كما أنّه تعالى أنشأ آدم من تراب و جعله إنسانا من غير أب و امّ كذلك أنشأ المسيح من غير أب فهو مخلوق مربوب مثل آدم و لا ينبغي أن يعبد.

و بعد أن نزلت: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» جادل ابن الزبعرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية و قال: أ هذا لنا و لآلهتنا أو لجميع الأمم فقال صلّى اللّه عليه و آله: هو لكم و لآلهتكم و لجميع الأمم فقال: خصمتك و ربّ الكعبة أليس النصارى يعبدون المسيح و اليهود عزيزا و بنو مليح الملائكة فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم ففرح المشركون و ضحكوا و ارتفعت أصواتهم و ذلك معنى قوله: [إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أي قومك قريش من هذا المثل يرتفع لهم ضجيج و جلبة جدلا و ضحكا بسبب ما رأوا من سكوت رسول اللّه.

و قرئ بضمّ الصاد و هو قراءة عليّ عليه السّلام و بكسر الصاد و هو قراءة الباقين أمّا الضمّ فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يصدّون عن الحقّ و يعرضون عنه و أمّا بالكسر فمن الضجيج و الصياح.

[وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ] يعنون أنّ آلهتنا عندك ليست خيرا من عيسى فإذا كان عيسى من حصب جهنّم كان أمر آلهتنا أهون و سكوته صلّى اللّه عليه و آله ليس من باب الإفحام و غلبتهم في الحجّة و لكن كان ينتظر الحجّة من الوحي و قد روي أنّه لمّا قال ابن الزبعرى:

خصمتك و ربّ الكعبة قال صلّى اللّه عليه و آله: ما أجهلك بلغة قومك؟ أما فهمت أنّ «ما» لما لا يعقل.

ثمّ بعد هذه المجادلة أنزل اللّه قوله: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» و نزلت هذه الآية.

ثمّ قال تعالى: [ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا] أي ما بيّنوا هذا العنوان و المثل لك إلّا ليخاصموك و يدفعوك به عن الحقّ [بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي جدلون في دفع الحقّ بالباطل.

الوجه الثاني: في بيان الآية أنّ الكفّار لمّا سمعوا أنّ النصارى يعبدون عيسى

ص: 63


1- آل عمران: 59.

قالوا: إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى و إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا يعبدون الملائكة.

الوجه الثالث: في تفسير الآية و هو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا حكى أنّ النصارى عبدوا المسيح إلها لأنفسهم قال كفّار مكّة: إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله يريد أن يجعل لنا إلها كما جعل النصارى عيسى إلها لأنفسهم ثمّ عند هذا قالوا: أ آلهتنا خير أم هو يعني آلهتنا خير أم محمّد و إنّما ذكروا ذلك لأجل أنّهم قالوا: إنّ محمّدا يدعونا إلى عبادة نفسه و آباؤنا زعموا أنّ عبادة الأصنام واجبة فعبادة هذه الأصنام متطابقة لقول آبائنا فقبول هذه العبادة من الأصنام أولى من قبول قول محمّد.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الاشتغال بعبادة المسيح باطل مثل عبادة الأصنام فإنّ عيسى عليه السّلام عبد أنعمنا عليه فقال: [إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي و ما عيسى إلّا كعبد من العبيد فصار من أمره أنّه ممّن أنعمنا عليه بالنبوّة و خصّصناه ببعض الخواصّ البديعة بأن خلقناه بوجه بديع و قد خلقنا آدم بوجه أبدع منه فأين هو من رتبة الربوبيّة و من أين يتوهّم صحّة مذهب عبدته حتّى تفتخر عبدة الملائكة بكونهم أهدى منهم.

و في خلقة عيسى آية لهم و دلالة يعرفون بها قدرة اللّه فقال: [وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي جعلنا عيسى آية لهم حتّى يرون من أعاجيب صنع اللّه.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي لو أردنا لجعلنا بدلا منكم معاشر بني آدم [مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ بني آدم أي كنّا نجعل الملائكة بدلا من بني آدم في الأرض أي نهلككم يا بني آدم و جعلنا الملائكة سكّان الأرض يعمرونها و يعبدون اللّه و مثل قوله: «مِنْكُمْ» ما في قول الشاعر:

فليت لنا من ماء زمزم شربةمبرّدة باتت على الطهيان

و قيل: معنى الآية و لو نشاء لجعلناكم أيّها البشر ملائكة إشارة إلى قدرته تعالى على تغيير بنية البشر إلى بنية الملائكة، يخلفون أي بعضهم بعضا.

[سورة الزخرف (43): الآيات 61 الى 65]

وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)

ص: 64

يعني أنّ نزول عيسى من السماء لعلم و تصديق و موجب ليقين وقوع الساعة، و تسميته علما لحصول العلم به أو بحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى و آثاره الّتي صدرت منه عليه السّلام يستدلّ على صحّة البعث الّذي ينكره الكفّار و قرئ «لعلم» أي علامة و في الحديث إنّ عيسى ينزل على ثنيّة في الأرض المقدّسة يقال لها أفيق و بيده حربة و بها يقتل الدجّال فيأتي بيت المقدس و الناس في صلاة الصبح و الإمام يؤمّ بهم فيتأخّر الإمام فيقدّمه عيسى و يصلّي خلفه على شريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله ثمّ يقتل الخنازير و يكسر الصليب و يخرب البيع و الكنائس و يقتل النصارى إلّا من آمن بشريعة أحمد و القرآن.

و قيل: إنّ الضمير في قوله: «وَ إِنَّهُ» يعود إلى القرآن و معناه أنّ القرآن لدلالة على قيام الساعة و البعث لأنّه آخر الكتب أنزل على آخر الأنبياء [فَلا تَمْتَرُنَّ بِها] أي لا تشكّوا في وقوعها [وَ اتَّبِعُونِ هداي أو شريعتي أو رسولي [هذا] أي القرآن و ما أدعوكم به [صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الّذي أنا عليه طريق واضح قيّم.

[وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ و لا يصرفنّكم بوساوسه عن دين اللّه [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة يدعوكم إلى ما فيه هلاككم.

ثمّ أخبر سبحانه عن حال عيسى حين بعثه اللّه رسولا فقال: [وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الدالّة على نبوّته أو المراد منها الإنجيل [قالَ لهم قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ] أي بالنبوّة و العدل و التوحيد و الشرائع [وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي قد جئتكم لا بيّن مختلفاتكم.

و المراد من البعض في الآية الكلّ كقول لبيد:

«أو يخترم بعض النفوس حمامها» أي كلّ النفوس و ذلك إنّ قوم موسى كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف و اتّفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبيّن لهم الحقّ في الخلافيّات و بالجملة فالحكمة معناها اصول الدين و بعض الّذي يختلفون فيه فروع الدّين.

ص: 65

فإن قيل: لم يقل و لم بيّن لهم كلّ الّذي يختلفون فيه؟ فالجواب أنّ الناس قد يختلفون في أشياء لا حاجة لهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانها قال الزجّاج: و الصحيح أنّ البعض لا يكون في معنى الكلّ و الّذي جاء به عيسى في الإنجيل إنّما هو بعض الّذي اختلفوا فيه و بيّن لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه و قول لبيد إنّما عنى نفسه أو المراد من البعض مختلفات امور الدين دون امور الدنيا.

[فَاتَّقُوا اللَّهَ بأن تجتنبوا معاصيه [وَ أَطِيعُونِ في ما أدعوكم إليه.

[إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ الّذي يحقّ له العبادة [فَاعْبُدُوهُ خالصا و لا تشركوا به معبودا [هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يفضي بكم إلى الجنّة و ثواب اللّه.

[فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي الفرق المتحزّبة بعد عيسى عليه السّلام و هم الملكانيّة و اليعقوبيّة و النسطوريّة بعد عيسى و قيل: اليهود و النصارى اختلفوا في أمر عيسى و الضمير في «مِنْ بَيْنِهِمْ» يرجع إلى الّذين خاطبهم عيسى في قوله: «قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ» المبعوث عليهم.

[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ مرّ تفسيره هو يوم القيامة و يجوز أن يكون وعيدا بيوم الأحزاب.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 66 الى 75]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)

يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)

ثمّ و بّخ سبحانه الكفّار بقوله: [هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظرون هؤلاء الكفّار بعد ورود الرسل و القرآن [إِلَّا السَّاعَةَ] أي القيامة [أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً] أي فجاءة [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ

ص: 66

أي لا يدرون وقت مجيئها.

[الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ] أي إنّ الّذين تواصلوا و تحابّوا في الدنيا يكون بعضهم أعداء بعض ذلك يوم القيامة و هم الّذين تخالّوا في الكفر و المعصية و اتّحدوا في مخالفة الرسول؛ لما يرى كلّ منهم من العذاب بسبب تلك المصادقة.

ثمّ استثنى من جملة الأخلّاء المتّقين فقال: [إِلَّا الْمُتَّقِينَ الموحّدين الّذين خالّ بعضهم بعضا على الإيمان و التقوى فإنّ تلك الخلّة تتأكّد بينهم و لا تنقلب عداوة و من المعلوم أنّ المحبّة أمر لا يحصل إلّا عند حصول خير أو دفع شرّ و ضرر فمتى حصل هذا الأمر حصلت المحبّة لا محالة و متى حصل اعتقاد أنّه يوجب ضررا حصل البغض و النفرة إذا عرفت هذا فذلك الخير الّذي كان اعتقاد حصوله له يوجب حصول المحبّة إمّا أن يكون قابلا للتغيّر و التبدّل أو لا يكون كذلك فإن كان القسم الأوّل وجب أن تبدّل تلك المحبّة إلى النفرة لأنّ تبدّل العلّة يوجب تبدّل المعلول لأنّ حصول المودّة بسبب الخير و الراحة فإذا زال ذلك الاعتقاد و تحقّق عقيبه الضرر و الألم وجب أن تتبدّل المحبّة بالبغضة أمّا إذا كان الخير الموجب للمحبّة أبديّا باقيا غير قابل للتغيّر كانت المحبّة باقية كمحبّة المؤمنين بعضهم بعضا و ليست لغرض فان بل هي نافعة و ثابتة و لا توجب البغضة لأنّ خيرها و نفعها باق فحينئذ الأخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلّا المتّقين.

قوله تعالى: [يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ و من أحكام يوم القيامة قوله: «يا عِبادِ» الآية، و قد جرى عادة القرآن بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين (1) كأنّ اللّه يخاطبهم و يقول لهم: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم و لا حزن.

و في هذا الخطاب أنواع كثيرة ممّا يوجب الفرح: أوّلها أنّه تعالى خاطبهم و ميّزهم عن غيرهم من غير واسطة و الثاني أنّه وصفهم بالعبوديّة و هذا تشريف عظيم لأنّه لمّا أراد سبحانه أن يشرف محمّدا صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج قال: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ».ك.

ص: 67


1- يقول ذلك المؤلف قدس سره تبعا للفخر الرازي و هو و هم لأنه تعالى عز و جل قال: «أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ» و قال عز من قائل «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» و غير ذلك.

و الثالث نفي الخوف و الحزن عنهم بقوله: «لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ».

ثمّ قال: [الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ أي أعني الّذين صدّقوا بحججنا و دلائلنا و اتّبعوها و قوله: «يا عِبادِ» حكاية لما ينادى به المتّقون المتحابّون في اللّه، و قوله:

«الَّذِينَ آمَنُوا» منصوب المحلّ صفة لعبادي لأنّه منادى مضاف، أي العباد الموصوفين بالتصديق بآياتنا و جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا و قبول حججنا و قيل: إذا بعث اللّه الناس فزع كلّ واحد فينادي مناد يا عباد فيرجوها الناس كلّهم ثمّ يتبعها بقوله: «الَّذِينَ آمَنُوا» فييأس الناس غير المسلمين المتّقين و ينكس أهل الأديان الباطلة رءوسهم.

و يمرّ حساب المتّقين على أسهل الوجوه و يحاسب حسابا يسيرا ثمّ يقال لهم:

[ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ أي أزواجكم اللّاتي كنّ مؤمنات مثلكم و قيل: المراد من الأزواج أزواج الجنّة من الحور العين «تُحْبَرُونَ» أي تسرّون و تكرمون و الحبرة المبالغة في الإكرام بحيث يظهر حباره و أثره على وجوههم كقوله: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» (1).

[يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ أي يدور عليهم بقصاع من ذهب فيها ألوان الأطعمة و كيزان لا عروة لها مستديرة الرأس ليس لها خرطوم و الكوب بحكم الكأس للشراب و اكتفى سبحانه بذكر الصحاف و الأكواب عن ذكر الطعام و الشراب.

[وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ و قرئ بحذف الهاء من تشتهيه و حسن الحذف في أمثاله كقوله: «أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» (2) و قوله: «وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى (3) أي و في الجنّة المدخولة ما يميل النفس إليه من أنواع النعيم من المأكول و المشروب و الملبوس و المشموم و ما تلذّ الأعين بالنظر إليه و أضاف الالتذاذ إلى الأعين مع أنّ المتلذّذ هو الإنسان لأنّ التذاذ الأعين سبب التذاذ الإنسان.

و قد جمع اللّه سبحانه بقوله: «ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ» ما لو اجتمع الخلائق

ص: 68


1- المطففين: 24.
2- الفرقان: 41.
3- النمل: 53.

كلّهم على أن يصفوا ما في الجنّة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمه هاتان الصفتان.

[وَ أَنْتُمْ فِيها] أي في الجنّة و هذه النعم دائمون [خالِدُونَ وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و تلك الجنّة مبتدء و خبر أو مبتدء و خبره «الَّتِي أُورِثْتُمُوها» و أعطيتموها، أو الّتي أورثتموها صفة و بما كنتم تعملون خبره قال ابن عبّاس: الكافر يرث نار المؤمن و المؤمن يرث جنّة الكافر لقوله: «أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ».

[لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ فجمع سبحانه في الوصف بين الطعام و الشراب و الفواكه و الدوام فهذه غاية الأمنيّة.

ثمّ أخبر عن أحوال أهل النار فقال: [إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ و دائمون [لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ العذاب و لا يخفّف [وَ هُمْ فِيهِ أي في العذاب [مُبْلِسُونَ آيسون من كلّ خير و يجعل المجرم في تابوت من النار ثمّ يقفل عليه فبقي خالدا لا يرى و لا يرى و هذه الترغيبات و الترهيبات تكميلا لرغباتهم و دواعيهم في الطاعات و تحذيرا عن الشرك و المعاصي.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 76 الى 85]

وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)

قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)

لمّا بيّن سبحانه ما يفعل بالمجرمين بيّن سبحانه أنّه لم يظلمهم بذلك فقال:

[وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لنفوسهم بما جنوا عليها من العذاب.

[وَ نادَوْا يا مالِكُ أي و يدعون خازن جهنّم فيقولون يا مالك و قرئ يا مال بالترخيم

ص: 69

على قراءة ابن مسعود فقيل لابن عبّاس: إنّ ابن مسعود كذلك يقرء فقال ابن عبّاس: ما أشغل أهل النار عن هذا الترخيم و أجيب بأنّ غاية العذاب و الضعف سبب ترخيمهم بحيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلّا بعضها لا من باب العربيّة قال ابن جنّي: إنّ قولهم:

يا مال في هذا الموضع سرّ و هو أنّه لعظيم عذابهم فنيت قواهم و قصر كلامهم.

[لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا ربّك حتّى نتخلّص و نستريح من هذا العذاب قال ابن عبّاس و جماعة: إنّما يجيبهم مالك بذلك بعد ألف سنة و قيل: بعد أربعين عاما و ما يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة فقول مالك مجيبا لهم: [إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي لابثون دائما و قوله: «لِيَقْضِ» من قضى عليه إذا أماته كقوله: «فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» (1) و المراد سل ربّك أن يقضي علينا.

فإن قيل: كيف قال: «وَ نادَوْا يا مالِكُ» بعد ما وصفهم بالإبلاس (2)؟ فالجواب تلك أزمنة متطاولة و أحقاب ممتدّة فيختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لعلّة اليأس و علمهم بعدم الفرج و يغوثون تارة لشدّة ما بهم و قوله: «ماكِثُونَ» استهزاء و إلّا فالمكث يستعمل في الزمان القليل.

قوله: [لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أي يقول اللّه: لقد أرسلنا إليكم الرسل بالحقّ، و أضافه سبحانه إلى نفسه لأنّه كان بأمره. و قيل: يقول المالك: و إنّما قال: «جِئْناكُمْ» لأنّه من الملائكة و هم من جنس الرسل و المراد من الحقّ القرآن و الإسلام أي و لكنّكم معاشر الخلق أكثركم للحقّ كارهون لأنّ الحقّ خلاف مشتهياتكم فكرهتموه و الباطل موافق لها فألفتموها و كرهتم مفارقته.

قوله: [أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً] أم منقطعة كلام مبتدء ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معناها بل للانتقال في توبيخ المشركين أي بل أحكموا أمرا في كيد محمّد و المكر به صلّى اللّه عليه و آله [فَإِنَّا مُبْرِمُونَ محكمون أمرا في مجازاتهم و كيدهم لأنّهم كانوا يتشاورون في إهلاكه صلّى اللّه عليه و آله و إيذائه في دار الندوة و هو قوله تعالى: «وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ ن.

ص: 70


1- القصص: 15.
2- أي في قوله مبلسون.

الَّذِينَ كَفَرُوا» (1).

ثمّ قال تعالى: [أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ و النجوى ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال و المعنى بل يظنّ هؤلاء الكفّار أنّا لا نسمع ما يسرّون و معنى السرّ ما يضمره الإنسان في نفسه و لا يظهره لغيره و النجوى ما يحدث به المحدث غيره في الخفية [بَلى نسمع ذلك و ندركه.

[وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ما يقولونه و يفعلونه يعني الحفظة من الملائكة قال: يحيى ابن معاذ: من ستر من الناس ذنوبه و أبداها للّذي لا يخفى عليه شي ء في السماوات فقد جعله أهون الناظرين و هو من علامات النفاق.

[قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ و قرئ «ولد» بضمّ الواو و سكون اللام و اختلف في معناه:

أحدها: أنّ معناه «إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ» في زعمكم «فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» أي الموحّدين للّه المكذّبين بين لقولكم بإضافة الولد إليه.

و ثانيها: أن معناه لو كان له ولد لكنت أنا أوّل الآنفين من عبادته لأنّ من كان له ولد لا يكون إلّا جسما محدثا و من كان كذلك لا يستحقّ العبادة معنى العابد في الأنف مأخوذ من قولهم: عبدت من الأمر أي أنفت منه قال الفرزدق:

أولئك قومي إن هجوني هجوتهم و أعبد أن تهجى كليب بدارم

و لكن نصفا إن سببت و سبّني بنو عبد شمس من قريش و هاشم

و ثالثها: أنّ «إِنْ» بمعنى ما النفي و المعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين للّه المقرّين بذلك.

و رابعها أنّه يقول: كما إنّي كنت أوّل من عبد اللّه كذلك ليس للّه ولد و هذا كما تقول: إن كنت كاتبا فأنا حاسب تريد لست كاتبا و لا حاسبا.

و خامسها أنّ معناه لو كان له ولد لكنت أوّل من يعبده بسبب أنّ له ولد و لكن لا ولد له و حاصل المعنى لو دلّ الدليل على أنّ له ولدا لقلت به و لكنّه لا يدلّ فيكون المعنى

ص: 71


1- الأنفال: 30.

تحقيقا لنفي الولد و تبعيدا له لأنّه تعليق محال بمحال.

قال الزمخشريّ: معنى الآية: إن صحّ و ثبت ذلك بالبرهان و بحجّة واضحة توردونها فأنا أوّل من يعظّم ذلك الولد و أسبقكم إلى طاعته كما يعظّم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه و الكلام وارد على سبيل الفرض و الغرض المبالغة في نفي الولد و ذلك أنّه علّق العبادة بكينونة الولد و هي محال في نفسها فكان المعلّق بها محالا مثلها فالبيان في صورة إثبات الكينونيّة و العبادة و في معنى نفيهما على أبلغ الوجوه و أقواها و هذا المعنى هو الوجه الخامس من الوجوه المذكورة.

قال الرازيّ في المفاتيح: إنّهم ظنّوا أنّ قوله: «إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» لو أجريناه على ظاهره فإنّه يقتضي وقوع الشكّ في إثبات الولد للّه لا جرم عدلوا إلى التأويل لكن لا يحتاج البيان عن العدول عن الظاهر لأنّ القضيّة الشرطيّة لا تفيد إلّا كون الشرط مستلزما للجزاء و ليس فيها إشعار بكون الشرط حقّا أو باطلا أو يكون الجزاء واقعا أو غير واقع بل القضيّة الشرطيّة مركّبة من قضيّتين سواء كانتا حقّتين أو باطلتين أو من شرط باطل و جزاء حقّ أو من شرط حقّ و جزاء باطل فهذا التركيب في الآية لا يدلّ بإثبات الولد و العبادة مثل قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» (1) فالشرط في الكلام قوله: «فِيهِما آلِهَةٌ» و الجزاء هو قوله: «لَفَسَدَتا» فالشرط في نفسه باطل و غير واقع و الجزاء أيضا باطل و غير واقع لأنّه ليس فيهما آلهة فحينئذ الشرط و الجزاء غير واقع و باطل فكذلك في هذه الآية فلم يحصل الشكّ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأنّ حصول الشكّ في هذا الأمر مع معرفته باللّه سبحانه غير ممكن و محال و بالجملة فأجرى الآية على ظاهرها و أيّد المعنى الآخر، انتهى.

[سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ العظيم [عَمَّا يَصِفُونَ ثمّ نزّه نفسه عن ذلك فقال: «سُبْحانَ الآية» أي تنزيها عن الوالديّة و إله العالم هو الواجب الوجود لذاته و كلّ ما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزي بوجه من الوجوه و الولد عبارة عن أن ينفصل عن الشي ء جزء من أجزائه فيصير ذلك الجزء شخصا مثله و هذا إنّما يعقل فيما يكون ذاته قابلة للتجزّي و التبعّض و إذا كان ذلك محالا في حقّ إله العالم فامتنع إثبات الولد له.

ص: 72


1- الأنبياء: 22.

و لمّا بيّن هذا البرهان قال: [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي فاتركهم يغمروا في باطلهم و يلعبوا حتّى يضلّوا و يروا العذاب الأبد و هو عذاب القيامة.

قوله: [وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي هو تعالى في السماء و الأرض على سبيل الإلهيّة و الربوبيّة لا على معنى الاستقرار و في الكلام نفي الآلهة الّتي كانت تعبد فيحقّ له العبادة خاصّة و تكرار لفظ «إِلهٌ» للتأكيد و تمكّن المعنى في النفس و إفادة أنّ العبادة يجب على الملائكة و على أهل الأرض من الجنّ و الإنس [وَ هُوَ الْحَكِيمُ في جميع أفعاله [الْعَلِيمُ بمصالح خلقه.

[وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما] أي دامت بركته فمنه البركات و السعادات، مأخوذ من بروك الإبل [وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ] أي علم يوم القيامة و لا يعلم وقته على التعيين غيره [وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازي كلّا على عمله.

قوله تعالى [سورة الزخرف (43): آية 86]

وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (86)

و لمّا كانوا يزعمون أنّ آلهتهم لأمورهم شفعاء فذكر سبحانه أنّه لا شفاعة و لا أثر لمعبودهم فقال: [وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي الّذي يدعوه المشركون إلها و يوجّهون عبادتهم إليه من الأصنام [الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ و هم عيسى و عزير و الملائكة استثناهم سبحانه ممّن عبد من دون اللّه فإنّ لهم منزلة الشفاعة و قيل:

المعنى لا يملك أحد من الملائكة و غيرهم الشفاعة إلّا لمن شهد بالحقّ أي شهد أن لا إله إلّا اللّه و ذلك لأنّ النضر بن الحرث و نفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقوله محمّد حقّا فنحن نتولّى الملائكة و هم أحقّ بالشفاعة لنا منه فنزلت الآية فالمعنى أنّهم يشفعون للمؤمنين بإذن اللّه [وَ هُمْ يَعْلَمُونَ بقلوبهم ما شهدوا بألسنتهم.

و في الآية دلالة على أنّ حقيقة الإيمان هو الاعتقاد بالقلب لأنّ اللّه شرط مع الشهادة العلم بحيث لا يتشكّك إذا شكّك و لا يضطرب إذا حرّك و احتجّ القائلون بأنّ إيمان المقلّد لا ينفع بهذه الآية.

ص: 73

و الاستثناء في قوله: «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» يمكن أن يكون منقطعا أي لكن من شهد بالتوحيد و الحقّ و يمكن أن يكون متّصلا لأنّ في جملة الّذين يدعون من دون اللّه الملائكة و المسيح و عزير لكن يشفعون للّذين شهدوا بالتوحيد.

قوله: [سورة الزخرف (43): الآيات 87 الى 89]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

[وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمّد [مَنْ خَلَقَهُمْ من أخرجهم من العدم إلى الوجود أي إذا سألت العابدين و المعبودين من أو جدهم [لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لتعذّر الإنكار لغاية بطلانه [فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره مع اعترافهم بكون الكلّ مخلوقا له؟

[وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ قرئ بالحركات الثلاث؛ قال الأخفش:

النصب عطف على «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ» و قيله أي قول الرسول و الضمير راجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أي قول الرسول يا ربّ إلخ، فإنّ القول و القيل و القال كلّها مصادر. و الرفع على الابتداء و الخبر ما بعده. و الجرّ على العطف بقوله: «عِلْمُ السَّاعَةِ» على تقدير حذف المضاف و التقدير و عنده علم الساعة و علم قيله. قال الزمخشريّ: و الأقوى أن يكون الجرّ و النصب على إضمار حرف القسم، أو النصب على محلّ الساعة لأنّ قوله:

«وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» معناه أنّه تعالى علم الساعة و قيله.

قال ابن عبّاس في تفسير الآية في قوله: «وَ قِيلِهِ يا رَبِّ» المراد: و قيل يا ربّ و الهاء زائدة عن أبي زيد: يقال ما أحسن قيلك و قالك و قولك و مقالك و مقالتك خمسة أوجه.

و بالجملة إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا ضجر من قومه و عرف إصرارهم على كفرهم أخبر عنهم أنّهم قوم لا يؤمنون و هذا القول قريب من قول نوح حيث قال: «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً».

ثمّ إنّه تعالى قال له صلّى اللّه عليه و آله: [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي صفّح وجهك يا محمّد عنهم [وَ قُلْ سَلامٌ ندبه سبحانه إلى الحلم أي المداراة و المتاركة.

ص: 74

و قيل: هو سلام هجر و مجانبة لا سلام محبّة و كرامة كقوله: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» (1).

و قيل: معناه قل يا محمّد: سلام، تسلم من شرّهم و أذاهم و هذا منسوخ بآية السيف و لكن إذا كان المعنى و اصفح عن سفههم و لا تقابلهم بمثله فذلك مما علّمه سبحانه من مكارم الأخلاق فلا يكون منسوخا. قوله: [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ هدّدهم بيوم القيامة إذا عاينوا ما يحلّ بهم من العذاب. تمّت السورة بعونه.

ص: 75


1- القصص: 55.

سورة الدخان

اشارة

(مكية)* عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ الدخان في ليلة الجمعة غفر له.

قال أبو هريرة: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك.

و عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: و من قرأها في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له.

أبو امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة و يوم الجمعة بنى اللّه له بيتا في الجنّة.

و روى أبو حمزة الثماليّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و من قرأ سورة الدخان في فرائضه و نوافله بعثه اللّه من الآمنين يوم القيامة و أظلّه تحت ظلّ عرشه و حاسبه حسابا يسيرا و اعطي كتابه بيمينه.

ص: 76

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)

أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11)

في [حم وجوه الاحتمال: أوّلها أن يكون التقدير هذه حم [وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ و الواو واو القسم كقولك: هذا زيد و اللّه. و الثاني أن يكون الكلام قد تمّ عند قوله: «حم» أي هذه سورة حم ثمّ قال: و الكتاب المبين إنّا أنزلناه فيكون إنّا أنزلناه جوابا للقسم و أنكر الطبرسيّ هذا المعنى و قال: إنّ جواب القسم قوله: «إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» قال: و لا يصحّ أن يكون جواب القسم قوله «إِنَّا أَنْزَلْناهُ» لأنّك لا تقسم بالشي ء على نفسه و المنزل هو الكتاب.

و الوجه الثالث أن يكون التقدير: «و حم» بحذف حرف القسم و الكتاب المبين فيكون قسمين متواليين على شي ء واحد.

و بالجملة أقسم سبحانه بالقرآن الدالّ على صحة نبوّة نبيّنا و هو مبين فيه بيان الأحكام و الفصل بين الحلال و الحرام.

إنا أنزلنا القرآن [فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ] و الليلة المباركة هي ليلة القدر عن ابن عبّاس و جماعة و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. قيل: ليلة القدر هي ليلة النصف من شعبان عن عكرمة قال الطبرسيّ: و الأصحّ الأوّل و يدلّ عليه قوله: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» (1) و كذلك قوله: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (2).

ص: 77


1- القدر: 1.
2- البقرة: 185.

و اختلف في كيفيّة إنزاله فقيل: أنزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثمّ أنزل نجوما إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قيل: إنّه كان ينزل جميع ما يحتاج في سنة في تلك الليلة ثمّ كان ينزله جبرئيل عليه السّلام شيئا فشيئا وقت وقوع الحاجة. و قيل: كان بدو نزوله في ليلة القدر. و روى ابن عبّاس و قال: قد كلّم اللّه جبرئيل في ليلة واحدة و هي ليلة القدر فسمعه جبرئيل و حفظه بقلبه و جاء به إلى السماء الدنيا إلى الكتبة و كتبوه ثمّ أنزل على محمّد بالنجوم في ثلاث و عشرين سنة و قيل: في عشرين سنة.

و إنّما وصف سبحانه هذه الليلة بالمباركة لأنّ فيها يقسّم نعمه على عباده من السنة إلى السنة فيدوم بركاتها و البركة نماء الخير و ثبوته و قيل: بينها و بين ليلة القدر أربعون ليلة و لها أربعة أسماء الليلة المباركة و ليلة البراءة و ليلة الصلاة و ليلة الرحمة و وجه التسمية بالبراءة لأنّ البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة كذلك يكتب اللّه لعباده المؤمنين البراءة و الصكّ.

قال الزمخشريّ: و هي مختصّة بخصال: تفريق كلّ أمر حكيم و فضيلة العبادة فيها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من صلّى في هذه اللّيلة مائة ركعة أرسل اللّه إليه مائة ملك: ثلاثون يبشّرونه بالجنّة و ثلاثون يؤمّنونه من عذاب النار و ثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا و عشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان. و نزول الرحمة قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يرحم أمّتي في هذه اللّيلة بعدد شعر أغنام بني كلب و حصول المغفرة قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يغفر للمؤمنين جميعا في تلك اللّيلة إلّا لكاهن أو ساحر أو مشاحن صاحب البدعة التارك للجماعة أو مدمن خمر أو عاقّ للوالدين أو مصرّ على الزناء و قد اعطي فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تمام الشفاعة و ذلك أنّه صلّى اللّه عليه و آله سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في امّته فاعطي الثلاث منها و سأل صلّى اللّه عليه و آله ليلة الرابع عشر فاعطي الثلاث ثمّ سأل ليلة الخامس عشر فاعطي الجميع إلّا من شرد عن اللّه شراد البعير و من عادة اللّه في هذه اللّيلة أن يزيد في ماء زمزم زيادة ظاهرة و لا يخفى أنّ هذا الكلام ينطبق عند القائلين بأنّ ليلة القدر النصف من شعبان انتهى كلامه.

قوله: [إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي مخوّفين بما أنزلناه من تعذيب العصاة [فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي في هذه اللّيلة يفصّل و يبيّن و يقضي كلّ أمر محكم لا يلحقه الزيادة

ص: 78

و النقصان و هو أنّه يقسم فيها الآجال و الأرزاق و غيرها من امور السنة إلى مثلها من العام القابل قال ابن عبّاس: إنّك ترى الرجل يمشي في الأسواق و قد وقع اسمه في الموتى.

في الصافي في قوله: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» أي يقدّر اللّه في تلك اللّيلة من امور تلك السنة و لكن فيه البداء و المشيّة يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء و ينقص و يزيد و يلقيه إلى رسوله اللّه و هو صلّى اللّه عليه و آله يلقيه إلى أمير المؤمنين و هو يلقيه إلى الأئمّة حتّى ينتهي إلى القائم و يشترط فيه البداء.

و في الكافي عن الباقر عليهم السّلام قال: قال اللّه عزّ و جلّ: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» أي فيها ينزل كلّ أمر حكيم و الحكيم و المحكم شي ء واحد فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه و من حكم أمرا فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت إنّه سبحانه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الأمر تفسير الأمور يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا و كذا و في أمر الناس بكذا و كذا و إنّه ليحدث لوليّ الأمر سوى ذلك كلّ يوم علم اللّه الخاصّ و المكنون المخزون مثل ما نزل في ليلة القدر من الأمر ثمّ قرأ عليه السّلام: «وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ» (1) الآية.

و عنه: يا معشر الشيعة خاصموا بحم و الكتاب المبين إنّا أنزلناه. الآية، فإنّها لولاة الأمر خاصّة بعد رسول اللّه.

قال الكاظم عليه السّلام: حم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الكتاب المبين أمير المؤمنين عليه السّلام و اللّيلة المباركة فاطمة عليها السّلام فيها يفرق كلّ أمر حكيم يخرج منها خير كثير و رجل حكيم و رجل حكيم و رجل حكيم الحديث.

[أَمْراً مِنْ عِنْدِنا] يعني أنّا نأمر ببيان ذلك و نسخه من اللّوح المحفوظ [إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ محمّدا إلى عبادنا كمن كان قبله من الأنبياء [رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي رأفة منّا بخلقنا و نعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل [إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لمن دعاه [الْعَلِيمُ بمصالح الخلق.

تذييل: في بيان اللّيلة المباركة: اعلم أنّه اختلفوا في اللّيلة المباركة فقال الأكثرون:

ص: 79


1- لقمان: 27.

إنّها ليلة القدر، و قال بعض: إنّ اللّيلة المباركة ليلة البراءة و هي ليلة النصف من شعبان.

أمّا الأوّلون فقد احتجّوا على صحّة قولهم بوجوه:

الاول: أنّه تعالى قال: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» و في هذه الآية قال: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» فوجب أن يكون هذه اللّيلة المباركة هي تلك المسمّاة بليلة القدر لئلّا يلزم التناقض.

الثاني: أنّه تعالى قال في صفة ليلة القدر: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ» (1) و قال: أيضا هاهنا «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» و هذا الكلام موافق و مناسب لقوله: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ» و أيضا هاهنا قال: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا» و قال في تلك الآية: «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» و قال هاهنا: «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» و قال في تلك السورة: «سَلامٌ هِيَ» و إذا تقاربت الأوصاف و تساوت وجب القول بأنّ إحدى اللّيلتين هي الاخرى.

و الثالث: من الوجوه نقل محمّد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن قتادة أنّه قال:

نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان و التوراة لستّ ليال منه و الزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت و الإنجيل لثمان عشرة ليلة مضت منه و القرآن لأربع و عشرين ليلة مضت من رمضان و اللّيلة المباركة هي ليلة القدر.

الرابع: أنّه إنّما سمّيت بالقدر لأنّ شرفها و قدرها عظيم و معلوم أنّه ليس بسبب نفس ذلك الزمان لأنّ الزمان شي ء واحد في الذات و الصفات فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته بل إنّما شرفه بسبب أنّه حصل فيه أمور شريفة عالية و معلوم أيضا أنّ منصب الدين أعلى و أعظم من منصب الدنيا، و أعلا منصبا في الدين هو القرآن لأجل أنّ به ثبت النبوّة و به ظهر الفرق بين الحقّ و الباطل و به ظهرت درجات أرباب السعادات و دركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شي ء إلّا و القرآن أعظم قدرا و أعلى شرفا فلو كان نزوله وقع في ليلة اخرى سوى ليلة القدر لكانت ليلة القدر هي هذه الثانية لا الاولى و حيث

ص: 80


1- القدر: 4- 5.

أطبقوا على أنّ ليلة القدر هي الّتي وقعت في رمضان لأنّه سبحانه قال: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» علمنا أنّ القرآن إنّما أنزل في تلك اللّيلة.

و أمّا القائلون بأنّ المراد من اللّيلة المباركة المذكورة في الآية هي ليلة النصف من شعبان فبما نقلوه عن رسول اللّه بقوله و ما اعطي فيها رسول اللّه من تمام الشفاعة فإن صحّ ذلك عن رسول اللّه فلا مزيد عليه و إلّا فالحقّ هو الأوّل لقوّة الدليل انتهى.

قوله تعالى: [رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي خالقهما و خالق ما بينها إن كنتم موقنين بهذا الخبر محقّقين له إنّه [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] يستحقّ العبادة و لا يستحقّ غيره العبادة [يُحْيِي وَ يُمِيتُ أي يحيي بعد موتهم و يميتهم بعد إحيائهم [رَبُّكُمْ الّذي خلقكم [وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ الّذين سبقوكم.

ثمّ ذكر سبحانه حال الكفّار فقال: ليس هؤلاء بموقنين بما قلناه [بَلْ هُمْ فِي شَكٍ ممّا أخبرناك [يَلْعَبُونَ مع ذلك و يستهزءون بك و بالقرآن إذا قرئ عليهم أن يشتغلوا بالدنيا و هو المراد من اللّعب.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: [فَارْتَقِبْ أي فانتظر يا محمّد [يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فانتظر يا محمّد صلّى اللّه عليك اليوم الّذي تأتي السماء بالدخان و هو ظاهر و لا يشكّ أحد في أنّه دخان.

و اختلف في الدخان فعن عليّ عليه السّلام أمير المؤمنين و به أخذ جماعة أنّه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتّى يكون الواحد منهم كالرأس الحنيذ و يعتري المؤمن منه كهيئة حال المزكوم و تأخذه الزكمة و تكون الأرض كلّها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوّل الآيات الدخان و نزول عيسى عليه السّلام و نار يخرج من قعر عدن أبين (اسم رجل ينسب إليه عدن) يسوق الناس إلى المحشر قال حذيفة: يا رسول اللّه و ما الدخان فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآية و قال يملأ ما بين المشرق و المغرب يمكث أربعين يوما و ليلة أمّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة و أمّا الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه و أذنيه و دبره.

ص: 81

و قيل: المراد بالدخان دخان المجاعة و ذلك أنّ قريشا لمّا استعصت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصرّوا على تكذيبه قال: و دعا صلّى اللّه عليه و آله عليهم: اللهمّ سنينا كسني يوسف اللهمّ اشدد وطأتك على مضر فأجدبت الأرض فأصابت قريشا المجاعة و كان الرجل لما به من الجوع يرى بينه و بين السماء كالدخان و أكلوا العظام و الجيف و العلهز و كان يحدث الرجل فيسمع كلامه و لا يراه من الدخان فمشى إليه صلّى اللّه عليه و آله أبو سفيان و نفر من قريش معه و ناشده اللّه و الرحم و واعدوه إن دعا لهم و كشف عنهم أن يؤمنوا فلمّا كشف عنهم رجعوا إلى شركهم فسأل اللّه لهم بالخصب و السعة فكشف عنهم ثمّ عادوا إلى الكفر.

[يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ يعني أنّ الدخان يعمّ جميع الناس على القول الأوّل و أهل مكّة على القول الثاني و هم الّذين يقولون هذا عذاب أليم أي قائلين ذلك.

قوله تعالى: [سورة الدخان (44): الآيات 12 الى 21]

رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)

لمّا أخبر سبحانه أنّ الدخان يغشى الناس عذابا لهم قالوا: أو يقولون- على ما فيه من الخلاف في الدخان-: هذا عذاب أليم [رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ بمحمّد و القرآن.

فأنكر سبحانه عليهم بقوله: [أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي من أين لهم الاتّعاظ و التذكّر و كيف يتذكّرون؟ [وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ و الحالة أنّهم قد جاءهم رسول ظاهر الصدق و الدلالة [ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ و أعرضوا و لم يقبلوا قوله: [وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي يعلّمه بشر و نسبوه إلى الجنون، القميّ قال: قالوا ذلك لأنّه لمّا كان ينزل عليه الوحي يأخذه الغشي فقالوا مجنون و تولّوا عنه و بهتوه بأنّ عداس غلاما أعجميّا لبعض ثقيف هو الّذي علّمه.

ص: 82

ثمّ قال سبحانه: [إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي حيثما انكشف عنكم العذاب و أنتم تعودون إلى شرككم لا تلبثون بعد الكشف على ما أنتم عليه من التضرّع.

فإن قيل: كيف يستقيم على قول من جعل الدخان قبل يوم القيامة قوله: «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا»؟

فالجواب إذا أتت السماء بالدخان تضوّر المعذّبون به من الكفّار و المنافقين و تعوّلوا و قالوا: «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ» منيبون فيكشفه اللّه عنهم بعد أربعين يوما فحيثما يكشفه عنهم يرتدّون.

ثمّ قال سبحانه: [يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يريد يوم القيامة كقوله: «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (1).

و قيل: البطشة الكبرى يوم بدر و البطش التناول و الأخذ بصولة [إِنَّا مُنْتَقِمُونَ منهم ذلك اليوم.

قوله: [وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ أقسم سبحانه أنّه فتّن قبل كفّار قوم النبيّ [قَوْمَ فِرْعَوْنَ فاختبرهم و شدّد عليهم التكليف لأنّ الفتنة شدّة التعبّد و أصلها الإحراق بالنار لخلاص الذهب من الغشّ أي اختبرنا قوم فرعون بالإمهال و توسيع الرزق عليهم [وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على اللّه و على عباده المؤمنين و كريم في نفسه لأنّ اللّه لا يبعث نبيّا إلّا من سراة قومه و كرامهم و كان موسى عليه السّلام كذلك.

[أَنْ أَدُّوا إِلَيَ هي أن المفسّرة أو المخفّفة من المثقّلة أي جاءهم بأنّ الشأن و القصّة أدّوا إليّ [عِبادَ اللَّهِ و هم بنو إسرائيل يقول: أرسلوهم معي. و يجوز أن يكون نداء لهم و التقدير: أدّوا إليّ يا عباد اللّه ما هو واجب عليكم من قبول دعوتي و اتّباع سبيلي و علّل ذلك بأنّه [رَسُولٌ أَمِينٌ قد ائتمنه اللّه على وحيه و رسالته.

[وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أن هذه مثل الأولى في كونها مفسّرة أو مخفّفة أي لا تتكبّروا على اللّه بإهانة وحيه و رسوله [إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة بيّنة يعترف بها كلّ عاقل.

ص: 83


1- النازعات: 34.

فلمّا قال عليه السّلام هذا الكلام توعّدوه بالقتل و الرجم فقال: [وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي لذت بمالكي و مالككم و التجأت به من أن ترجموني بالحجارة أو المراد من الرجم الشتم كقولهم: هو ساحر كذّاب [وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فلا موالاة بيني و بينكم و تنحّوا عنّي أو المعنى فخلّوني و لا تتعرّضوا عليّ بشرّكم و أذاكم.

قوله تعالى: [سورة الدخان (44): الآيات 22 الى 29]

فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26)

وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)

ثمّ ذكر سبحانه قصّة موسى أي فلمّا يئس موسى أن يؤمنوا به دعا موسى [رَبَّهُ فقال:

[أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ مشركون لا يؤمنون فكأنّه قال عليه السّلام: اللّهمّ عجّل لهم ممّا يستحقّون بكفرهم و ما دعا عليهم إلّا بعد أن أذن له في ذلك و قوله: [فَأَسْرِ بِعِبادِي الفاء وقعت موقع الجواب فأجيب بأن قيل له: فأسر و قرئ بقطع الهمزة من أسرى و وصلها من سرى أي فاسر ببني إسرائيل أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي [لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتّبعكم فرعون و قومه و يصير ذلك سببا لهلاكهم.

[وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً] و في الرهو قولان: أحدهما أنّه الساكن يقال: عيس راه إذا كان حافظا ساكنا قال الأعشى:

يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلةو لا الصدور على الأعجاز تتّكل

أي مشيا ساكنا على تؤدة و قرار، و الثاني أنّ الرهو هو الفرجة الواسعة أي اترك الطريق كما كان حتّى يدخل قوم فرعون فيغرقوا و ذلك لأنّه أراد موسى لمّا جاوز البحر أن يضربه بعصا لينطبق كما ضربه فانفلق فأمره اللّه بأن يتركه ساكنا على حاله ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه اللّه. و حاصل المعنى أن اتركه على حاله منفرجا [إِنَّهُمْ

ص: 84

جُنْدٌ مُغْرَقُونَ و قرئ أنّهم بالفتح بمعنى لأنّهم.

ثمّ قال: [كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ* وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ فأخبر أنّهم بعد غرقهم تركوا هذه النعم و المراد بالمقام الكريم ما كان لهم من المجالس و المنازل الحسنة و قيل: المنابر الّتي كانوا يمدحون فرعون عليها [وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ و النعمة بالفتح من النون حسنه و نضارته و بالكسر من إنعام اللّه أي تركوا سعة في العيش و نعما كانوا بها متنعّمين و متمتّعين كما يستلذّ الآكل بأنواع الفواكه.

[كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ معناه كذلك أفعل بمن عصاني و إيراث النعمة تصييرها إلى الثاني بعد الأوّل بغير مشقّة فلمّا كانت نعمة قوم فرعون وصلت بعد إهلاكهم إلى غيرهم كان ذلك ميراثا من اللّه لهم و المراد بقوم آخرين بني إسرائيل لأنّهم رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون.

[فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ اختلف في معناه على وجوه: أحدها: لم يبك عليهم أهل السماء و الأرض لكونهم مسخوطا عليهم، بحذف المضاف مثل قوله تعالى (1): «حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» أي أصحاب الحرب قال ذو الرمّة:

لهم مجلس صهب السبال أذلّةسواسية أحرارها و عبيدها

أي لهم أهل مجلس. و الثاني: المراد في البيان تصغير قدرهم فإنّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت: بكاه السماء و الأرض و أظلم لفقده الشمس و القمر قال جرير:

يرثي عمر بن عبد العزيز:

الشمس طالعة ليست بكاسفةتبكي عليك نجوم اللّيل و القمرا

و قالت الخارجيّة:

أيا شجر الخابور مالك مورقاكأنّك لم تجزع على ابن طريف

و ذلك على سبيل الاستعارة التخييليّة مبالغة في وجوه الجزع و البكاء و كذلك ما حكي عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الآية و قيل: و هل يبكيان على أحد؟ قال: نعم مصلّى المؤمن في الأرض و مصعد عمله في السماء و روى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ما

ص: 85


1- محمّد: 4.

من مؤمن إلّا و له باب يصعد عمله و باب ينزل رزقه فإذا مات بكيا عليه فعلى هذا يكون معنى البكاء في هذا المورد و الإخبار عن الاختلال بعده كما قال مزاحم العقيليّ:

بكت دارهم من أجلهم فتهلّلت دموعي فأيّ الجازعين ألوم

أ مستعبرا أ يبكي من الهون و البلى أم آخر يبكي شجوه و يهيم

و روى زرارة بن أعين عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: بكت السماء على يحيى بن زكريّا و على الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أربعين صباحا و لم تبك إلّا عليهما، قلت: و ما بكاؤها؟ قال: كانت الشمس تطلع حمراء و تغيب حمراء. و قال السدّيّ: لمّا قتل الحسين بكت السماء عليه، و بكاؤها حمرة أطرافها. و بالجملة فالمراد من قوله: «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ» التهكّم و استصغار القدر.

ثمّ قال: [وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ أي لمّا جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر التوبة و تدارك تقصير.

قوله تعالى: [سورة الدخان (44): الآيات 30 الى 40]

وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)

إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)

ثمّ أقسم سبحانه بقوله: [وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الّذين آمنوا بموسى [مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني قتل الأبناء و استخدام النساء و الاستعباد و تكليف المشاقّ [مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً] متكبّرا متغلّبا [مِنَ الْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الطغيان و الغالي في الإساءة.

[وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي اخترنا موسى و بني إسرائيل و فضّلناهم بالتوراة و كثرة الأنبياء منهم [عَلى عِلْمٍ أي على بصيرة منّا باستحقاقهم التفضّل [عَلَى الْعالَمِينَ أي على

ص: 86

عالمي زمانهم. و قيل: الآية عامّ دخله التخصيص بقوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» (1).

ثمّ قال: [وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مثل فلق البحر و تظليل الغمام و إنزال المنّ و السلوى و غيرها من الآيات القاهرة [ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ اختبار ظاهر لتمييز الصديق عن الزنديق و هاهنا آخر الكلام في قصّة موسى.

ثمّ ذكر سبحانه كفّار مكّة و رجع الكلام فيهم حيث قال: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ» و رجع إلى حديثهم حيث كانوا منكرين للبعث فقال: [إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ .

فإن قيل: القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية فكان من حقّهم أن يقولوا إن هي إلّا حياتنا الاولى و ما نحن بمنشرين.

فالجواب أنّه قيل لهم: إنّكم تموتون موتة تعقّبها حياة كما تقدّمتكم موتة و تعقّبتها حياة و ذلك قوله «وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» (2) فحينئذ قالوا:

«إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما هذه الصفة الّتي تصفون بها الموتة من تعقيب الحياة إلّا الموتة الاولى خاصّة فلا فرق إذن بين هذا الكلام و بين قوله: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا»* أو المراد منهم في هذا الكلام أنّه لا تأتينا شي ء من الأحوال إلّا الموتة الاولى أي لا تأتينا الحياة الثانية ثمّ صرّحوا فقالوا: «وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» و قيل: المعنى ليست الموتة الّتي تعقّبها حياة إلّا هذه الموتة دون الموتة الّتي تعقّب حياة القبر و ما نحن بمنشرين أي لا نحيا في القبر و لا نبعث في القيامة و نحيا كما تزعمون.

[فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول و المؤمنين قالوا: إن كان الأمر على ما تقولون فعجّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا. قيل: طلبوا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يدعو اللّه حتّى ينشر قصيّ بن كلاب ليشاوروه في صحّة نبوّة محمّد و في صحّة البعث. و قيل: إنّ المقترح بهذا القول كان أبو جهل و لمّا كانت المصلحة غير مقتضية

ص: 87


1- آل عمران: 110.
2- البقرة: 28.

لقبول اقتراحهم عدل سبحانه عن إجابتهم إلى الوعظ و الوعيد فقال:

[أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ الحميريّ، أي أ مشركو قريش أكثر أموالا و أعزّ في القوّة و القدرة أم قوم تبّع الّذي حيّر الحيرة و سيّر بالجيوش من اليمن إلى سمرقند فهدمها ثمّ حفر خندقها و بناها قيل: اسمه شمر بن أفريقش و سمرقند معرب شمركند و قيل: اسمه أسعد أبو كرب و سمّي تبّعا لكثرة أتباعه.

روى سهل بن سعد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا تسبّوا تبّعا فإنّه كان قد أسلم.

و قال كعب: نعم الرجل الصالح ذمّ اللّه قومه و لم يذمّه. و روى الوليد بن صبيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ تبّعا قال للأوس و الخزرج: كونوا هاهنا أي في يثرب حتّى يخرج هذا النبيّ أمّا أنا لو أدركته لخدمته و خرجت معه و التبّع ليس اسم و علم الفرد بل لقب ملوك اليمن كما يقال لملك الترك خاقان و لملك الروم قيصر و كان تبّع إذا كتب كتابا كتب بسم الّذي ملك برّا و بحرا. و قيل: هو الّذي كسا البيت و يقال لملوك اليمن التبابعة لأنّهم يتبعون كما يقال: الأقيال لأنّهم يتقيّلون و سمّي الظلّ تبّعا لأنّه يتبع الشمس.

قوله: [وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من تقدّمهم من قوم نوح و عاد و ثمود [أَهْلَكْناهُمْ أي ليسوا بأقوى و أفضل منهم و قد أهلكناهم بكفرهم و هؤلاء مثلهم بل أولئك كانوا أكثر قوّة و عددا فإهلاك هؤلاء أيسر [إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي إنّهم كانوا كافرين فليحذر قومك أن ينالهم مثل ما نال أولئك.

[وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي لم نخلق لغوا و عبثا بل لأن ننفع المكلّفين بذلك بضروب المنافع و اللّذات فذكر الدليل القاطع على صحّة البعث و القيامة أي و لو لم يحصل البعث لكان هذا الخلق لعبا و عبثا.

[ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ أي لغرض صحيح و على الحقّ الّذي يستحقّ به الحمد خلاف الباطل الّذي يستحقّ به الذمّ [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ صحّة ما قلناه لعدو لهم عن التدبير و النظر و الطّاعة.

[إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يعني ذلك اليوم يفصل فيه بين المبطل و المحقّ

ص: 88

و يوم القيامة يوم الحكم بين الأقوام المذكورة من قوم فرعون و قوم تبّع و من قبلهم و قومك أجمعين.

قوله تعالى: [سورة الدخان (44): الآيات 41 الى 50]

يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)

كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

المعنى: شرح سبحانه يوم الفصل فقال:

[يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً] و المولى الصاحب الّذي من شأنه أن يتولّى معاونة صاحبه على أموره فيدخل في ذلك ابن العمّ و القرابة و الناصر و الحليف و غيرهم ممّن يتّصف بهذه الصفة.

و حاصل المعنى أنّ ذلك اليوم لا يغني فيه وليّ عن وليّ شيئا و لا يقدر أن يدفع المكروه عنه [وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ و هذا المعنى لا ينافي الشفاعة و إثباتها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة و المؤمنين لأنّ الشفاعة لا تحصل إلّا بأمر اللّه و إذنه و الآية تدلّ على أنّه ليس لهم من يدفع عن عذاب اللّه و ينصرهم من غير إذن اللّه، و قد بيّن هذا بما أشير إليه باستثنائه بقوله: [إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي إلّا الّذين رحمهم اللّه من المؤمنين فإنّه إمّا أن يسقط عذابهم ابتداء أو يأذن بالشفاعة فيهم لمن علت درجته عنده فيسقط عقاب المشفوع له بشفاعته [إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ] في انتقامه من أعدائه [الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

ثمّ أردف بالوعيد للكفّار و الوعد للأبرار فقال: [إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ و قد ذكرنا اشتقاق الزقّوم في سورة و الصافّات.

«طَعامُ الْأَثِيمِ» قالت المعتزلة: الآية تدلّ على أنّ هذا الوعيد حاصل للأثيم و الأثيم هو الّذي صدر عنه الإثم، قال الرازيّ: ليس كذلك لأنّا بيّنّا في اصول الفقه أنّ اللفظ المفرد الّذي دخل عليه حرف التعريف الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود و المذكور السابق و لا يفيد العموم و هاهنا المذكور السابق الكافر فينصرف إليه، انتهى كلامه.

ص: 89

قيل: إنّ المراد من الأثيم في الآية أبو جهل روي أنّه أتى بتمر و زبد فجمع بينهما و أكل مع جماعة و قال هذا هو الزقّوم الّذي يخوّفكم به محمّد نحن نتزقّم به أي نملا أفواهنا منه و قد فعل اللعين ذلك بعد أن نزل «أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ» و كان أهل اليمن يدعون أكل الزبد و التمر التزقّم فنزلت: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ».

[كَالْمُهْلِ قرئ بضمّ الميم و فتحها و هو درديّ من الزيت و يدلّ عليه قوله تعالى:

«يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ» مع قوله: «فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» و قيل: المهل مذاب النحاس و ساير الفلزّات و هو ما يمهل في النار حتّى يذوب [يَغْلِي فِي الْبُطُونِ الزقّوم [كَغَلْيِ الْحَمِيمِ الماء الفائر الشديد الفور. و لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل لأنّ المهل مشبّه به و إنّما يغلي ما يشبه بالمهل لا المهل و هو الزقّوم و قرئ تغلي بالتاء باعتبار الشجرة.

روي أنّ أهل جهنّم لمّا أكلوا الزقّوم و الضريع غليا فيطلبون الماء فيسقون من الأشربة ثمّ قال سبحانه: [خُذُوهُ أي خذوا الأثيم، يأمر سبحانه الزبانية [فَاعْتِلُوهُ و العتل أن تأخذ لمنكب الرّجل و تجرّه إليك و تذهب به إلى حبس أو محنة و لذلك القود العنيف تسمّى عتلا و قيل: معناه جرّوه على وجهه [إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي إلى وسطه.

[ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ قال مقاتل: إنّ خازن النار يمرّ به على رأسه فيذهب دماغه عن رأسه ثمّ يصبّ فيه من ماء الّذي انتهى حرّه و يقوله له [ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ و ذلك أنّ أبا جهل قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما (1) بين جبليها أعزّ و أكرم منّي فو اللّه ما تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعلا بي شيئا و أنا أعزّ أهل الوادي فيقول له الملك ذق العذاب أيّها المتعزّز المتكرّم و هذا على طريق التهكّم. و معنى «إِنَّكَ» لأنّك، قرأ به الحسن بن عليّ عليه السّلام.

ثمّ قال: [إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي هذا العذاب الّذي كنتم تشكّون فيه في دار الدنيا و الجمع باعتبار المعنى لأنّ المراد نوع الأثيم.

ثمّ شرح سبحانه ما أعدّ للمتّقين بقوله:ى.

ص: 90


1- «ما» نافية، أي ليس بين جبلي مكة أعز منى.

[سورة الدخان (44): الآيات 51 الى 59]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)

لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

بشّر عباده [إِنَّ الْمُتَّقِينَ الّذين يجتنبون معاصي اللّه لكونها قبائح و يفعلون الطاعات لكونها طاعات [فِي مَقامٍ أي مكان [أَمِينٍ أمنوا فيه من الغير و الموت و الفناء و الحوادث و قيل: أمنوا من الشيطان و الأحزان و المقام بالفتح أقوى و معناه موضع القيام أي المكان و بضمّ الميم موضع السّكون و الإقامة [فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ أي بساتين و عيون ماء نابغة فيها.

[يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ و السندس ما رقّ من الديباج و الإستبرق ما غلظ منه و هو تعريب سطبر بالفارسيّة أي غليظ.

فإن قلت: كيف ساغ أن يقع في القرآن العربيّ المبين لفظ عجميّ؟

فالجواب إذا عرّب خرج من أن يكون عجميّا لأنّ معنى التعريب تغييره عن منهاجه و إجراؤه على أوجه الأعراب. و قيل: السندس ما يلبسونه و الإستبرق ما يفترشونه و بالجملة خاطب العرب فوعدهم بما عظم عندهم و اشتهته أنفسهم و على هذا لا يقدح من أن يكون اللفظ أصلا عجميّا فعرّب.

[مُتَقابِلِينَ في المجالس لا ينظر بعضهم إلى بعض من القفا، بل يقابل بعضهم بعضا.

[كَذلِكَ حال أهل الجنّة [وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ و قرنّاهم بحور عين قيل: هنّ عجائز كم الدرد المؤمنات ينشئهنّ اللّه خلقا آخر و قرئ بالإضافة و المعنى بالحور من العين لأنّ العين إمّا أن يكون حوراء أو غير حوراء فهؤلاء من الحور العين لا من شهلهنّ و في قراءة عبد اللّه بن مسعود بعيس عين و العيساء البيضاء تعلوها حمرة و الحور في العين أن يكون

ص: 91

البياض في العين غاية البياض و السواد فيها غاية السواد و العين جمع العيناء و هي العظيمة العينين.

قوله: [يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ أي يستدعون فيها أيّ ثمرة شاءوه و اشتهوه غير خائفين فوتها و آمنين من مضرّتها و أسقامها و أوجاعها.

[لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى و الاستثناء منقطع بمعنى لكن و التقدير:

لا يذوقون فيها الموت لكنّ الموتة الاولى قد ذاقوها. و على كون الاستثناء متّصلا و أنّهم ما ذاقوا الموتة الاولى في الجنّة فكيف حسن هذا الاستثناء؟ قال صاحب الكشّاف: أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتّة فوضع قوله: إلّا الموتة الاولى موضع ذلك المعنى لأنّ الموتة الماضية محال في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنّه قيل: إن كانت الموتة الاولى يمكن ذوقها في المستقبل فإنّهم يذوقونها انتهى كلامه.

فإن قيل: أليس أهل النار أيضا لا يموتون و لا يذوقون الموت فلم بشّر أهل الجنّة بهذا مع أنّ أهل النار يشاركونهم في هذا الأمر؟

فالجواب أنّ البشارة ليست بدوام الحياة بل بدوام الحياة مع سابقة الخيرات و اللذّات فظهر الفرق.

[وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ و صرف عنهم العذاب على سبيل التأييد.

[فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي فعل اللّه ذلك بهم تفضّلا منه لأنّه سبحانه خلقهم و أنعم عليهم و ركب فيهم العقل و بيّن لهم من الآيات و الرسل ما استدلّوا به على وحدانيّة اللّه و حسن الطاعات فكلّ هذه الأمور تفضّل منه تعالى إليهم فاستحقّوا النعم العظيمة بهذه الأمور ثمّ جزاهم بالحسنة عشر أمثالها فكان ذلك فضلا أيضا و إنّما سمّاها فضلا و إن كانوا مستحقّين بالطّاعات لأنّ سبب الاستحقاق هذه الأمور الّتي ذكرت من امور التكليف و هو فضل منه و لولاها لما نالوا هذه الدرجة [ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي الظفر بالمطلوب العظيم الشأن.

[فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي سهّلنا القرآن أي ذكّرهم بالكتاب المبين فإنّا

ص: 92

هوّنّا عليك ذكره حيث أنزلناه عربيّا بلغتك و لغة قومك إرادة أن تفهم و يفهم قومك فيذّكّروا [فَارْتَقِبْ أي فانتظر إن أعرضوا عن قبوله و ارتقب مجي ء ما وعدناك [إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ لأنّ المحسن يترقّب عاقبة الإحسان و المسي ء ينتظر عاقبة الإساءة و قيل: المعنى انتظر لهم عذاب اللّه فإنّهم ينتظرون بك الدوائر أو انتظر نصرك عليهم فإنّهم منتظرون قهرك بزعمهم. تمّت السورة بحمد اللّه.

ص: 93

سورة الجاثية

اشارة

* (و تسمى سورة الشريعة) مكّيّة إلّا آية «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا» الآية.

فضلها أبيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ الجاثية ستر اللّه عورته و سكّن روعته عند الحساب. و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ الجاثية كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا و لا يسمع زفير جهنّم و لا شهيقها و هو مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 94

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الجاثية (45): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

ذكر في قوله: [حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ وجوها: الأوّل أنّ «حم» مبتدء مخبر عنه و تنزيل الكتاب خبره و لا بدّ من حذف مضاف و التقدير: تنزيل حم تنزيل الكتاب و [مِنَ اللَّهِ متعلّق وصلة للتنزيل، الثاني أن يكون التقدير: هذه حم ثمّ يقول: تنزيل الكتاب واقع من اللّه. الثالث أن يكون حم قسما و جواب القسم «إِنَّ فِي السَّماواتِ» و التقدير: و حم الّذي هو تنزيل الكتاب إنّ الأمر كذا و كذا و الأولى أنّ حم اسم للسورة و خبر لمبتدء محذوف أي هذه السورة مسمّى بحم فيكون هذه حم و تنزيل الكتاب خبر بعد خبر و مصدر اطلق على المفعول.

و قوله: [الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ يمكن أن يكون صفة للّه و يمكن أن يكون صفة للكتاب و كونه صفة للّه أولى لأنّ ذلك بالنسبة إلى اللّه على سبيل الحقيقة و إذا جعلناهما صفة الكتاب كان ذلك مجازا و الحقيقة أولى من المجاز على أنّ القرب يوجب الرجحان.

ثمّ قال: [إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ الّذين يصدّقون باللّه و بأنبيائه و هم المنتفعون من الآيات إذا نظروا في السماوات و الأرض النظر الصحيح علموا أنّها مصنوعة و لا بدّ لها من صانع و كذلك إذا نظروا في خلق أنفسهم و تنقّلها من حال إلى حال و من هيئة إلى هيئة.

[وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ] و كذلك إذا نظروا في خلق ما هو مبثوث على وجه الأرض من صنوف الحيوان و عجائب ما خلقه على اختلاف أنواعها و أجناسها و منافعها المقصودة

ص: 95

منها، دلالات و شواهد و [آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ و يطلبون اليقين بالتّدبّر و التعمّق.

[وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] أي و كذلك اختلافهما في القصر و الطول و في أنّ أحدهما نور و الآخر ظلمة و مجيئها على وتيرة واحدة [وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ أراد به المطر الّذي ينبت به النبات الّذي هو رزق الخلائق سمّي رزقا لأنّه سبب الرزق [فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] و بسبب ذلك المطر أحيا الأرض بعد يبسها و جفافها [وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ بجعلها سبحانه مرّة شمالا و مرّة جنوبا و مرّة صبا و اخرى دبورا و تارة رحمة و تارة عذابا [آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ - قرئ آيات بالرفع أي هي آيات، و قرأ حمزة و الكسائيّ آيات بكسر التاء- أي يتدبّرونها فيعلمون أنّ لهذه الحوادث محدثا مدبّرا حكيما لا يشبهه شي ء.

و كلّ هذه الأمور المذكورة دلالات على وجود الإله القادر لأنّها مركّبة من الأجزاء و تلك الأجزاء أجسام و قد ذكر غير مرّة أنّ الأجسام من حيث هي متماثلة و وقوع تلك الأجزاء و الأجسام بعضها في العمق دون السطح و بعضها في السطح دون العمق لا بدّ لها من مخصّص و مرجّح لأنّك ترى أنّ الأفلاك و العناصر مع تماثلها في تمام الماهيّة الجسميّة اختصّ كلّ واحد منها بصفة معيّنة كالحرارة و البرودة و اللّطافة و الكثافة من الفلكيّة و العنصريّة و إنّ أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مع تماثلها في الجسميّة مثل كمودة زحل و بياض المشتري و حمرة المرّيخ و الضوء الباهر للشمس و درّيّة الزهرة و صفرة عطارد و كون بعضها سعدة و بعضها نحسة و بعضها نهاريّا ذكرا و بعضها ليليّا أنثى فجعل هذه الاختلافات و الخواصّ لا بدّ و أن يكون من أمر خارج عنها فهي مسخّرة لذلك الأمر و الوضع و ذلك بتقدير العزيز العليم.

و كذلك كون كلّ فلك مختصّا بحركة من جهة إلى جهة و سرعة و بطوء مع أنّ الحركة مثلا من جهة المشرق إلى المغرب بالنسبة إلى ذلك الفلك أو ذلك الكوكب ليس بأولى من حركته من جانب المغرب إلى المشرق فهذا الاختصاص و التعيين في المدار من غير تخلّف دليل على الفاعل المدبّر المختار.

قوله تعالى: [سورة الجاثية (45): الآيات 6 الى 10]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَ لا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10)

ص: 96

أي ما ذكرناه أدلّة اللّه الّتي نصبها للمكلّفين نقرؤها عليك يا محمّد لتقرأها عليهم [بِالْحَقِ دون الباطل و التلاوة الإتيان بالثاني في أثر الأوّل في القراءة و قوله: «نَتْلُوها عَلَيْكَ» في محلّ الحال أي متلوّة عليك [فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي هؤلاء الكفّار إن لم يصدّقوا بما نتلوها عليك فبأيّ حديث و كلام بعد حديث اللّه و هو القرآن و آياته يصدّقون و ينتفعون.

و الفرق بين الحديث الّذي هو القرآن و بين الآيات أنّ الآيات هي الأدلّة الفاصلة بين الحقّ و الباطل فقط أو أنّ الغرض من العطف عطف التفسيريّ و مناط العطف التغاير العنوانيّ يؤمنون و يصدّقون و قرئ تؤمنون على الخطاب.

[وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الويل كلمة وعيد يتلقّى بها الكفّار و قيل: هو واد سائل من صديد جهنّم. و الأفّاك يطلق على من يعظم كذبه أو يكثر كذبه و إن كان في خبر واحد ككذب مسيلمة في ادّعائه النبوّة و الأثيم كثير الآثام يعني الويل لمثل هذا الموصوف.

[يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً] و يبقى و يقيم على كفره مستكبرا عن الإيمان بالآيات معجبا بما عنده قيل: نزلت في النضر بن الحرث كان يشتري من قصص الأعاجم مثل رستم و إسفنديار و يشغل الناس بها عن استماع القرآن و الآية عامّة في كلّ من كان موصوفا بهذه الصفة و يشمل حال القصّاصين الباطل [كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها] أي هذا الموصوف بالاستكبار بعد أن سمع الآيات مثل أن لم يسمعها [فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.

[وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً] أي إذا بلغه شي ء من آياتنا ينتقل من مقام الاستكبار إلى مقام الاستهزاء و اتّخذ ذلك المعلوم هزؤا و خاض في الاستهزاء بجميع الآيات و لم يقتصر بذلك المعلوم بل يستهزئ بالآيات [أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ إشارة إلى

ص: 97

الموصوفين بهذه الصفات.

[مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ الوراء اسم يقع على القدّام و الخلف و ما توارى عنك فهو وراك خلفك كان أو أمامك فالمعنى قدّامهم جهنّم و قيل: المعنى من وراء ما هم من التعزّز و المال و التلذّذ بالدنيا جهنّم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ ما ملكوه في الدنيا لا ينفعهم فقال: [وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً] و كذلك إنّ أصنامهم لا تنفعهم فقال: [وَ لا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ] أي إنّ الآلهة الّتي عبدوها ليكون لهم شفعاء ما نفعتهم [وَ لَهُمْ مع ذلك [عَذابٌ عَظِيمٌ .

قوله تعالى: [سورة الجاثية (45): الآيات 11 الى 15]

هذا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

أي [هذا] القرآن الّذي تلوناه و الحديث الّذي ذكرناه [هُدىً و دلالة موصولة إلى التميّز بين الحقّ و الباطل من امور الدين و الدنيا [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و جحدوا بالآيات لهم أشدّ العذاب و الرجز هو أشدّ أنواع العذاب و «مِنْ» تبيينيّة للعذاب و تنوين عذاب في المواقع الثلاثة للتفخيم.

ثمّ نبّه سبحانه خلقه بالدلائل على توحيده فقال: [اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ أي جعله على هيئة لتجري السفن فيه مثل أنّه وضعه أملس السطح يطفوا عليه ما فيه التخلخل كالأخشاب و غيره و لا يمنع الغوص و الخرق لميعانه كذلك سخّره لكم لتركبوا في الفلك و تجري الفلك فيه [وَ لِتَبْتَغُوا] و تطلبوا التجارة و الانتقال و الرزق من الغوص و الصيد و غيرها [مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا النعم المرتّبة على ذلك.

[وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ أي و سخّر و ذلّل لكم

ص: 98

معاشر الخلق ما في السماوات من الأمور العلويّة من الشمس و القمر و النجوم و الأمطار و الثلوج و ما في الأرض من الدوابّ و الأشجار و النبات و الأثمار و الأنهار و معنى تسخيرها لنا بأن خلقها بوضع يمكن انتفاعنا منها على الوجه المضبوط و لو أنّه تعالى أوقف أجرام السماوات و الأرض في مقارّها و أحيازها، أو كان يجعل الأرض من الذهب أو الفضّة أو الحديد ما كان يحصل منها الانتفاع لها و قوله: «جَمِيعاً مِنْهُ» واقع موقع الحال أي كائنة هذه الأمور من عنده و حكمته و هو مسخّرها لخلقه أي كل ذلك منه تعالى.

[إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من النعم العظيمة [لَآياتٍ عظيمة الشأن [لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في بدائع صنع اللّه تعالى.

و لمّا بيّن دلائل وحدته و قدرته أتبع ذلك بتعليم الأخلاق الفاضلة و الأفعال الحميدة بقوله: [قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أمرهم بالعفو عن الّذين لا يتوقّعون وقائع اللّه بأعدائه، من قولهم لوقائع العرب: أيّام العرب مثل قولهم يوم حليم و يوم ذي قار و هذا الاصطلاح شائع في لسان العرب قال ابن عبّاس: المراد من قوله: «لا يَرْجُونَ أَيَّامَ» أي أيّام ثواب اللّه و لا يخافون عقابه و لا يخشون مثل عقاب الأمم الماضية و قال أكثر المفسّرين: إنّ الآية منسوخة بآية السيف.

و حاصل المعنى العفو عن الّذين نالوكم بالأذى و المكروه و لا يرجون ثوابه بالكفّ عنكم و معنى «يَغْفِرُوا» تركوا مجازاتهم و لا يكافئوهم ليتولّى اللّه مجازاتهم. القميّ: قال:

يقول اللّه لأئمّة الحقّ: لا تدعوا على أئمّة الجور حتّى يكون اللّه هو الّذي يعاقبهم. و عن الصادق عليه السّلام معنى الآية قل للّذين آمنوا و مننّا عليهم بمعرفتنا أن يعرّفوا و يعلّموا الّذين لا يعلمون فإذا عرّفوهم فقد غفروا لهم.

[لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ليجزي اللّه الصابر بسبب صبره و تحمّله و الكافر بسبب إساءته و بيان الجزاء في قوله: [مَنْ عَمِلَ صالِحاً] أي طاعة و برّا [فَلِنَفْسِهِ و يعود ثواب عمله عليه [وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها] أي وبال إساءته على نفسه [ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ و يكون إليه رجوعكم يوم القيامة إلى حيث لا يملك أحد الإنفاع و الإضرار و الأمر و النهي غيره فيجازي كلّا على قدر عمله.

ص: 99

قوله تعالى: [سورة الجاثية (45): الآيات 16 الى 20]

وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

المقصود بيان أنّه حال قومك كحال من تقدّم فقال:

[وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ نعما كثيرة و النعم على قسمين نعم الدين و نعم الدنيا و نعم الدّين أفضل من نعم الدنيا فبدأ بذكر نعم الدين بأن قال: آتيناهم [الْكِتابَ و هو التوراة [وَ الْحُكْمَ يجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات و المعرفة بأحكام اللّه [وَ النُّبُوَّةَ] و هي معلومة.

و أمّا نعم الدنيا فهي المراد بقوله: [وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ و ذلك لأنّه تعالى وسّع عليهم في الدنيا فأورثهم أموال فرعون و قومه و ديارهم ثمّ أنزل عليهم المنّ و السلوى و أعطاهم نصيبا وافرا.

قال: [وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي كانوا أرفع درجة ممّن سواهم في وقتهم و عالمي زمانهم.

ثمّ قال: [وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ] قال ابن عبّاس: يعني بيّن لهم من أمر النبيّ أنّه يهاجر من تهامة إلى يثرب و يكون أنصاره أهل يثرب و قيل: المراد من البيّنات آتيناهم أدلّة على امور الدنيا و أعطيناهم حدسا و فهما في امور دنياهم يترتّبون بها أشغالهم و قيل: المراد و آتيناهم معجزات قاهرة على صحّة نبوّتهم.

[فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي فما وقع بينهم الخلاف في الدّين إلّا من بعد ما جاءهم ما هو موجب لزوال الخلاف و هو العلم بكتب اللّه و إنّما اختلفوا و حدث البغي بينهم للعداوة و الحسد و الأنفة و طلب الرياسة و قيل: المعنى [بَغْياً] على محمّد و جحودا لما في كتابهم من نبوّته و صفاته و هذا المعنى قريب من معنى الأوّل.

ص: 100

و المقصود من هذا الكلام التعجّب من هذه الحالة لأنّ حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف و هاهنا صار مجيؤه سببا لحصول الخلاف و ذلك لأنّهم لم يكن مقصودهم من العلم الهداية و إنّما المقصود منه التقدّم و الرياسة فلأجل هذا المقصود بغوا و عاندوا و أظهروا الخلاف فقال سبحانه: [إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] في مختلفاتهم.

[ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ] يا محمّد جعلناك على دين و منهاج و طريقة بعد موسى و قومه فأمره سبحانه أن يتمسّك بدينه و طريقة كتابه و هو القرآن [فَاتَّبِعْها] أي فاتّبع شريعتك و الشريعة السنّة الّتي من سلك طريقها أدّته إلى البغية كالشريعة الّتي هي طريق إلى الماء فهي علامة منصوبة على الطريق من الأمر و النهي يؤدّي إلى الجنّة كما يؤدّي تلك إلى الوصول إلى الماء.

[وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الحقّ و لا يفصلون بينه و بين الباطل من أهل الكتاب الّذين غيّروا التوراة اتّباعا لهواهم و حبّا للرياسة و استتباعا للعوامّ و لا المشركين الّذين اتّبعوا أهواءهم في عبادة الأصنام [إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً] أي لن يدفعوا عنك شيئا من عذاب اللّه إن اتّبعت أهواءهم.

[وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي إنّ الكفّار بأجمعهم متّفقون على معاداتك و بعضهم أنصار بعض عليك [وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ و ناصرهم و حافظهم فلا تشغل قلبك بتعاونهم عليك.

[هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي هذا الّذي أنزلته عليك من القرآن معالم في الدين و عظات و عبر للناس يبصرون بها من أمور دينهم [وَ هُدىً أي دلالة واضحة [وَ رَحْمَةٌ] أي نعمة من اللّه [لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بثواب اللّه و عقابه لأنّهم المنتفعون به. قال الكلبيّ: إنّ رؤساء قريش اجتمعوا و قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكّة: ارجع إلى ملّة أقوامك فهم كانوا أفضل و أقدم منك فأنزل اللّه هذه الآية «إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ» الآية.

قوله: [سورة الجاثية (45): الآيات 21 الى 25]

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَ قالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)

ص: 101

منقطعة بمعنى بل و الهمزة للاستفهام الإنكاريّ و الاجتراح الاكتساب و منه الجوارح لأنّها كاسبة قال سبحانه: «وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» (1).

و قيل: أم متّصلة و هي كلمة وضعت للاستفهام عن شي ء حال كونه معطوفا على شي ء آخر سواء كان ذلك المعطوف مذكورا أو مقدّرا فحينئذ تقدير الآية: هذا القرآن بصائر للناس مؤدّية إلى الخير أ فعلموا ذلك أم حسب الّذين اكتسبوا الشرك و المعاصي أن يجعل منزلتهم منزلة الّذين آمنوا و صدّقوا للّه و رسوله [سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ؟ أي أ حسبوا أنّ موتهم و حياتهم كحياة المؤمنين و موتهم؟ [ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس ما حكموا على اللّه فإنّه تعالى لا يسوّي بينهم بل ينصر اللّه المسلمين و يخذل الكافرين ينزّل الملائكة عند الموت على المؤمنين بالبشرى و على الكافرين يضربون وجوههم و أدبارهم و قيل: أراد محياهم بعد البعث و مماتهم عند حضور الملائكة لقبض أرواحهم. و قيل: المراد إنّ المؤمنين محياهم على الإيمان و الطاعة و مماتهم كذلك و محيى الكافرين على الشرك و المعصية و مماتهم كذلك يموتون مشركين فلا يستويان.

قال الكلبيّ: نزلت الآية في ثلاثة من المؤمنين: عليّ عليه السّلام و حمزة و أبي عبيدة بن الجرّاح (2) و ثلاثة من المشركين عتبة و شيبة و الوليد بن عتبة لأنّهم قالوا: للمؤمنين ما أنتم على شي ء و نحن لو كان على ما تقولون الأمر لنكون في الآخرة أفضل منكم كما أنّا في الدنيا أفضل منكم فنزلت «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ» الآية، و نظيره «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ ث.

ص: 102


1- الانعام: 60.
2- هكذا في تفسير الامام الرازي، و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و الوليد بن عتبة هم الثلاثة الذين برزوا إلى المسلمين يوم بدر فخرج إليهم ثلاثة فتية من الأنصار و لما علموا انهم من الأنصار نادوا يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فأمر رسول اللّه حمزة و عليا و عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بالبراز، و من هنا يتأنس ان ابى عبيدة ابن الجراح سهو و الصحيح عبيدة بن الحارث.

فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» (1) و كان الفضيل بن عياض إذا يقرء هذه الآية جعل يردّدها و يبكي و يقول: يا فضيل ليت شعري من أيّ الفريقين أنت؟

قوله: [وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ معطوف على قوله: «خَلَقَ اللَّهُ» لأنّ فيه معنى التعليل أي خلق اللّه السماوات و الأرض للدلالة على وجوده و قدرته «وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ» بعمله إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ من غير ظلم.

[أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ و قرئ آلهته. و في الآية معنى التعجّب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنّه عبده، أي أنظرت فرأيته يتّخذ دينه ما يهواه و لا يؤمن باللّه و لا يخافه و لا يحجزه تقوى؟ و ما يهواه يعبده و كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه و أزين رمى به و عبد الآخر فقد عبد آلهة شتّى.

[وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي خذله اللّه عالما بضلاله و تبديله لفطرة اللّه الّتي فطره عليها و خلّاه و ما اختاره جزاء له على كفره و ترك تدبّره و قيل: معنى «أَضَلَّهُ اللَّهُ» أي وجده ضالًّا بسبب علمه كما يقال: أحمدت فلانا أي وجدته حميدا كقول عمرو بن معدي كرب: «قاتلناهم فما أجبنّاهم و سألناهم فما أبخلناهم» أي ما وجدناهم جبناء بخلاء. و قيل: معنى «أَضَلَّهُ اللَّهُ» أي ضلّ عن اللّه قال الشاعر:

هبوني امرءا منكم أضلّ بعيره له ذمّة إنّ الذمام كبير

أي ضلّ عنه بعيره.

[وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أي ختم اللّه على سمعه و قلبه و عينه من بعد تعاميه عن الهدى و تماديه في الغيّ بسوء اختياره و كفره فمن بعد ضلاله. من يهديه من بعد اللّه أفلا تتّعظون بهذه المواعظ و هذا استبطاء بالتذكّر منهم أي تذكّروا.

ثمّ أخبر سبحانه عن منكري البعث فقال: [وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا] أي ليس الحياة إلّا حياتنا الّتي نحن فيها في الدنيا و لا يكون بعد الموت بعث و لا حساب [نَمُوتُ وَ نَحْيا]

ص: 103


1- الم السجدة: 18.

و قرئ نحيا بضمّ النون في معناه أقوال: أحدها يعني نحيا و نموت فقدّم و أخّر و الثاني نموت بأنفسنا و نحيا ببقاء أولادنا و الثالث يموت بعضنا و نحيا بعضنا و يمكن أن يريد به التناسخ فإنّه عقيدة أكثر عبدة الأوثان.

ثمّ جمعوا بين إنكار الإله و البعث و القيامة بقولهم: [وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ] و مقصودهم أنّ تولّد الأشخاص إنّما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع و إذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة و إذا وقعت على وجه آخر حصل الموت فالموجب للحياة و الموت تأثيرات الطّبائع فهذا هو المراد من قولهم: «ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ».

فقال سبحانه: [وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ نفى عنهم العلم لجهلهم بسبب نسبتهم ذلك إلى الدهر [إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ما هم فيما ذكروه إلّا ظانّون و قد روي في الحديث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تسبّوا الدهر فإنّ اللّه هو الدهر أي فإنّ اللّه هو الآتي بالحوادث لا الدهر لأنّ الدهر هو مخلوق مقهور و كان أهل الجاهليّة ينسبون الحوادث و البلايا النازلة إلى الدهر و يقولون: فعل الدهر كذا و كانوا يسبّون الدهر فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تسبّوا الدهر فإنّ الدهر لا يحدث أمرا فلا تسبّوا فاعلها و نسبة الحوادث إلى الدهر كان شائعا فيهم قال الأصمعيّ: ذمّ أعرابيّ رجلا فقال: هو أكثر ذنوبا من الدهر و قال كثيّر:

و كنت كذي رجلين رجل صحيحةو رجل رمى فيها الزمان فشلّت

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و ذكروا هذه الشبهة الضعيفة حجّة بزعمهم و أنكروا البعث بقولهم:

فائتوا بآبائنا الّذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحّة البعث و ليس هذه الكلمة الواهية بشي ء لأنّه ليس كلّ ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصول فإنّ حصول كلّ واحد منّا كان معدوما من الأزل إلى الوقت الّذي حصلنا فيه و لو كان عدم الحصول في وقت معيّن يدلّ على امتناع الحصول لكان عدم حصولنا كذلك و ذلك باطل بالاتّفاق.

ثمّ قال سبحانه:

ص: 104

[سورة الجاثية (45): الآيات 26 الى 30]

قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)

[قُلِ يا محمّد: [اللَّهُ يُحْيِيكُمْ في دار الدنيا و لا يقدر أحد على الإحياء غيره [ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم [ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] بأن يبعثكم و يعيدكم أحياء [لا رَيْبَ فِيهِ و لا شكّ في وقوعه لأنّ من قدر على فعل الحياة في وقت قدر على فعلها في كلّ وقت [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ بعدولهم عن النظر الموجب للعلم بصحّته و لمّا بيّن أنّه القادر على الإحياء و الإماتة عمّم الدليل فقال: [وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي له القدرة على جميع الممكنات.

ثمّ ذكر تفاصيل أحوال القيامة في الجملة:

فأولها: [وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ و عامل النصب في يوم فعل يخسر و يومئذ بدل من يوم يقوم و اعلم أنّ الحياة و العقل و الصحّة رأس المال للإنسان في تحصيل السّعادة كتصرّف التّاجر في رأس ما له في التجارة و طلب الرّيح و المبطلون أسرفوا رأس ما لهم في الكفر و طلب الشّقاوة فما وجدوا إلّا الخذلان فكان ذلك نهاية الخسران.

و ثانيها: [وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً] و الجثوّ الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم و قرئ «جاذية» و الجذوّ أشدّ من الجثوّ لأنّ الجاذي هو الّذي يجلس على أطراف الأصابع، و الحاصل أنّ الامّة مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها.

ثمّ قال تعالى: [كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا] أي إلى صحائف أعمالها فاكتفى باسم الجنس و يقال لهم: [الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا كِتابُنا] و نسبة الكتاب

ص: 105

إليهم لأنّه المشتمل على أعمالهم و نسبة الكتاب إليه تعالى أيضا لأنّه هو الّذي أمر الملائكة بكتبه.

[يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ و يشهد بما عملتم من غير زيادة و نقصان [إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي نستكتب الملائكة أعمالكم.

و في الكافي و القميّ عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إنّ الكتاب لم ينطق و لن ينطق و لكن رسول اللّه هو الناطق بالكتاب قال اللّه تعالى: «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» بضمّ الياء و فتح الطاء فقيل: إنّا لا نقرؤها هكذا فقال عليه السّلام: هكذا و اللّه أنزل بها جبرئيل على محمّد و لكنّه ممّا حرّف من كتاب اللّه و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن «ن وَ الْقَلَمِ» قال: إنّ اللّه خلق القلم من شجرة في الجنّة يقال له: الخلا، ثمّ قال:

لنهر في الجنّة: كن مدادا فجمد النهر و كان أشدّ بياضا من الثلج و أحلى من الشهد ثمّ قال:

للقلم: اكتب فقال: يا ربّ و ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رقّ أشدّ بياضا من الفضّة و أصفى من الياقوت ثمّ طواه فجعله في ركن العرش ثمّ ختم على فم القلم فلم ينطق و لا ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الّذي منه النسخ كلّها أو لستم عربا فكيف لا تعرفون معنى الكلام و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب أو ليس إنّما ينسخ من كتاب آخر هو الأصل و هو قوله: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

و في سعد السعود في حديث الملكين الموكّلين بالعبد إنّهما إذا أرادا النزول صباحا و مساء ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعدا صباحا و مساء يدنوان عمل العبد قابله إسرافيل بالنسخ الّتي استنسخ لهما حتّى يظهر أنّه كان كما نسخ منه.

قوله: [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي في جنّته و ثوابه [ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي الفلاح الظاهر.

[سورة الجاثية (45): الآيات 31 الى 37]

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

ص: 106

قالت المعتزلة في قوله تعالى: [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ : إنّه سبحانه ذكر بعد وصفهم بالإيمان كونهم عاملين للصالحات فوجب أن يكون عمل الصالحات مغايرا للإيمان زائدا عليه و علّق الدخول في رحمته على كونه آتيا بالإيمان و الأعمال الصالحة و المعلّق على مجموع أمرين يكون عدما عند عدم أحدهما فعند عدم الأعمال الصالحة وجب أن لا يحصل الفوز بالجنّة.

و أجاب الأشاعرة بأنّ تعليق الحكم على الوصف لا يدلّ على عدم الحكم عند عدم الوصف انتهى.

قوله: [وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أي يقال لهم: أ فلم تكن بيّناتي و حججي تقرء عليكم [فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي تعظّمتم عن قبولها و صرتم بسبب الاستكبار كافرين كما قال سبحانه: «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ».

قالت الأشاعرة: إنّه تعالى علّل استحقاق العقوبة بأنّ آياته تليت عليهم فاستكبروا، و هذا يدلّ على أنّ استحقاق العقوبة لا يحصل إلّا بعد مجي ء الشرع فالواجبات لا تجب إلّا بالشرع خلافا لما يقوله المعتزلة من أنّ بعض الواجبات قد تجب بالعقل.

أقول: و في كلام الأشاعرة نظر لأنّ بعض الواجبات و المحرّمات ثبت وجوبه و حرمته بالعقل مع قطع النظر عن الشرع كحسن الإحسان و قبح الظلم.

فإن قيل: كيف يحسن وصف الكافر بكونه مجرما في معرض الذمّ له قيل: و المراد أنّ الكفّار قد يكونون عدولا في أديانهم و هؤلاء فسّاق في ذلك الدين و جواب الاستفهام

ص: 107

محذوف و الفاء في «أَ فَلَمْ تَكُنْ» يدلّ عليه و التقدير: فأمّا الّذين كفروا فيقال لهم:

«أَ فَلَمْ تَكُنْ الآية».

[وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ أي إنّ ما وعد اللّه من الثواب و العقاب كائن ثابت لا محالة [وَ السَّاعَةُ] آتية [لا رَيْبَ في وقوعها [قُلْتُمْ معاشر الكفّار [ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ] و أنكرتموها [إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ و ذلك لأنّ القوم كانوا في هذه المسألة على قولين منهم من كان قاطعا بنفي البعث و القيامة و هم الّذين ذكرهم اللّه في الآية السابقة بقوله: «وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» و منهم من كان يظهر التحيّر في وقوعه و لكثرة ما سمعوه من الرسول صاروا يظهرون الشكّ فيه و هم الّذين ذكرهم اللّه في هذه الآية و الّذي يدلّ على هذا المعنى أنّه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين ثمّ أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأوّل.

[وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا] أي ظهر لهم جزاء معاصيهم الّتي عملوها في الآخرة و قد كانوا يعدّونها حسنات [وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و نزل بهم و ثبت و استقرّ لهم جزاء تكذيبهم و استهزائهم و هذا كالدليل على أنّ هذه الفرقة لمّا قالوا: «إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا» إنّما ذكروه على وجه السخريّة فعلى هذا الوجه فهذا الفريق شرّ من الفريق الأوّل لأنّهم ضمّوا إلى الإنكار الاستهزاء.

ثمّ قال تعالى: [وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ أي نترككم في العذاب كما نسيتم لقاء يومكم هذا اليوم و تركتم التأهّب للقاء يومكم و نحلّكم في العذاب محلّ المنسيّ كما أحللتم هذا اليوم عندكم محلّ المنسيّ [وَ مَأْواكُمُ النَّارُ] أي مستقرّكم جهنّم [وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفعون عنكم عذاب اللّه.

[ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً] أي ذلكم الّذي فعلنا بكم لأجل أنّكم استهزأتهم بآيات اللّه تسخرون بها و بسبب أنّكم استغرقتم في حبّ الدينا و الإعراض بالكلّيّة عن الآخرة و هو المراد من قوله: [وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا] و خدعتكم بزينتها [فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و قرأ حمزة و الكسائي بفتح الباء في «وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» أي لا يطلب منهم أن يعتبوا ربّهم أي يرضوه و غير مأذونين في الاعتذار لأنّ التكليف قد

ص: 108

زال و قيل: معناه: لا يقبل منهم العتبى.

[فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي احمدوا اللّه حمدا و شكرا تامّا أو الحمد التامّ و المدحة الّتي لا يوازيها مدحة للّه الّذي خلق السماوات و الأرض و دبّرهما و خلق العالمين [وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ] أي السلطان القاهر و العلوّ و الشأن في السماوات و الأرض و لا يستحقّه أحد غيره و في الحديث قال اللّه سبحانه: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني ألقيته في جهنّم [وَ هُوَ الْعَزِيزُ] في حكمه و جلاله [الْحَكِيمُ في أفعاله و قيل: معناه العزيز في انتقامه من الكفّار و الحكيم في ما يفعله بالمؤمنين و الكلام مفيد للحصر.

تمّت السورة و الحمد للّه حمدا دائما طيّبا مباركا مخلّدا مؤبّدا كما يليق بشأنه و عظيم إحسانه و الصلاة على الأرواح الطاهرة المقدّسة من ساكني أعالي السماوات و نجوم الأرضين من الملائكة و الأنبياء و الأولياء خصوصا على خير خلقه محمّد و خلفائه الأئمّة المرضيّين صلوات الله عليه و عليهم أجمعين.

ص: 109

سورة الأحقاف

اشارة

مكّيّة إلّا آية منها نزلت بالمدينة «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» الآية نزلت في عبد اللّه بن سلام.

عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: و من قرأ سورة الأحقاف اعطي من الأجر بعدد كلّ رمل في الدنيا عشر حسنات و محي عنه عشر سيّئات و رفع له عشر درجات.

و عن عبد اللّه بن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف لم يصبه اللّه بروعة في الدنيا و آمنه من فزعة يوم القيامة.

ص: 110

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الأحقاف (46): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)

وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)

قوله: [حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مرّ تفسيره [ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ أي ما خلقناهما عبثا و لا باطلا و إنّما خلقناهما لنتعبّد سكّانها بالأمر و النهي و نعرضهم الثواب و ضروب النعم و الخلق عبارة عن التقدير و آثار التقدير ظاهرة في السماوات و الأرض.

قالت المعتزلة: هذا يدلّ على أنّ كلّ ما في السماوات و الأرض من القبائح فهو ليس من خلقه بل هو من أفعال عباده و إلّا لزم أن يكون خالقا لكلّ باطل و ذلك ينافي قوله: «ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ».

و أجاب الأشاعرة بأنّه هو الّذي خلق الباطل إلّا أنّه خلق ذلك الباطل بالحقّ لأنّ ذلك تصرّف منه تعالى في ملك نفسه و تصرّف المالك في ملك نفسه يكون بالحقّ لا بالباطل و قالوا: إنّ أعمال العباد من جملة ما بين السماوات و الأرض فهي مخلوقة للّه.

و الجواب: أنّ أفعال العباد أعراض و الأعراض لا توصف بأنّها حاصلة بين السماوات و الأرض ثمّ إنّ اللّه خلق السماوات و الأرض و ما بينهما بالحقّ و ما خلق الباطل و الّذي خلقه هو الحقّ لكن سوء اختيار العبد غيّر الحقّ و جعله باطلا و مثاله أنّ الطاهي يصنع طعاما يتّخذ من اللّحوم و الأبازير و يطبخه على أحسن تركيب و يقدّمه للضيف فيتسرّع

ص: 111

إليه طفل أو مجنون فيلقي في ذلك الطعام جفنة من علقم أو ملح فغيّره بحيث لا يؤكل من ذلك الطعام بل لا يمكن الذوق منه لفرط مرارته فهل يمكن أن يقال: إنّ الطاهي أفسد هذا الطعام و أضاعه فكذا هنا، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

قوله: [وَ أَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة فإنّه أجل مسمّى عنده سبحانه و مطويّ عن العباد علمه إذا انتهى إليه تناهى و قامت القيامة و قيل: هو مسمّى للملائكة و في اللّوح المحفوظ [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ أي إنّ الكافرين عمّا انذروا من القيامة و الجزاء معرضون و عادلون عن قبوله و التفكّر فيه.

[قُلْ يا محمّد- صلّى اللّه عليك- لهؤلاء الّذين كفروا: [أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أخبروني من الأصنام الّتي تعبدونها [أَرُونِي تأكيد لأرأيتم [ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ و ما الّذي أبدعوه و أظهروه من العدم إلى الوجود [أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ في خلقها و تركيبها.

ثمّ قال سبحانه: قل لهم: [ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا] أي قبل هذا القرآن أنزله اللّه يدلّ على صحّة قولكم [أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقيّة من علم يؤثر من كتب الأوّلين تعلمون به أنّهم شركاء للّه أو خبر من الأنبياء السالفة يقولون بهذا الأمر فيكون يتوهّم لهم شائبة استحقاق المعبوديّة فائتوا به [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قال المبرّد: الأثارة ما يؤثر و يبقى من علم لقولك: هذا الحديث مأثور عن فلان و من هذا المعنى سمّيت الأخبار بالآثار كأنّها بقيّة يستخرج فيؤثر و قرئ «أثرة» أي من شي ء أوثرتم و خصّصتم به.

قوله: [وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] أي من أضلّ عن طريق الصواب ممّن يدعو غير اللّه شيئا لو دعاه إلى يوم القيامة لم يجبه و لم يغثه و لا يستجيب له أبدا [وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ أي المعبودون مع ذلك عن دعاء العابدين غافلون و جاهلون لأنّهم جمادات و ليس لها إدراك و كنّي عن الأصنام بجمع العاقل على زعمهم نحو «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ».

قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46): الآيات 6 الى 10]

وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

ص: 112

المعنى: ذكر سبحانه أنّه إذا قامت القيامة صارت آلهتهم الّتي عبدوها أعداء لهم مثل قوله تعالى: «وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» (1) [وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ أي إنّ هذه الأوثان الّتي عبدوها ينطقهم اللّه حتّى يجحدوا و يكفروا بعبادة الكفّار لهم.

ثمّ وصفهم اللّه سبحانه فقال: [وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ أي للقرآن و المعجزات الّتي ظهرت على يدي النبيّ [هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي حيلة لطيفة ظاهرة و خداع بيّن.

[أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ و لمّا بيّن سبحانه أنّهم يسمّون المعجزة بالسحر بيّن أنّهم متى سمعوا القرآن قالوا: إنّ محمّد افتراه و اختلفه من عند نفسه و معنى الهمزة في «أَمْ» للإنكار و التعجّب كأنّه قيل: دع هذا و اسمع القول المنكر العجيب بأنّهم أضربوا عن الكلام القبيح الأوّل من تسميتهم الآيات سحرا إلى ذكر قولهم إنّ محمّدا افتراه، قل يا محمّد لهم: إن اختلفته على سبيل الفرض و كذبت على اللّه كما زعمتم عاجلني اللّه لا محالة بعقوبة الافتراء و لا تقدرون على كفّه عن عقوبته سبحانه إيّاي [فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً] و لا تطيقون دفع شي ء من عقابه عنّي فكيف أتعرّض لعقابه؟

ثمّ قال: [هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي إنّ اللّه أعلم بما تقولون و تخوضون في القرآن من التكذيب به و القول فيه بأنّه سحر [كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي في به سبحانه شاهدا أنّ القرآن جاء من عنده [وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ في تأخير العقاب عنكم حين لا يعجل بالعقوبة و هو وعد لمن رجع عن الكفر و تاب و استعان بحكم اللّه عليهم مع عظم ما ارتكبوه.

ص: 113


1- مريم: 83.

[قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي لست بأوّل رسول بعث، و البدع الأوّل من الأمر، فلا ينبغي أن تنكروا إخباري بأنّي رسول اللّه إليكم و لا تنكروا دعوتي لكم إلى التوحيد و نهيي عن عبادة الأصنام فإنّ كلّ الرسل إنّما بعثوا بهذا الطريق و ذلك أنّهم كانوا يعينونه بأنّه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و بأنّه فقير و بأنّ أتباعه فقراء فقال سبحانه: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» بل كانوا كلّهم بهذه المثابة فهذه الأشياء لا تقدح في نبوّتي كما لا تقدح في نبوّتهم.

ثمّ قال: [وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ في تفسير الآية وجهان:

الأوّل أن تحمل على أحوال الدنيا أي لا أدري أ أموت أم اقتل و لا أدري أيّها المكذّبون ما يفعل بكم أ ترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم الأرض أم ليس يفعل بكم ما فعل بالأمم المكذّبة و هذا هو في الدنيا و أمّا في الآخرة فإنّه علم بسبب خبر اللّه أنّه في الجنّة أو المعنى لست أدّعي غير الرسالة و لا أدّعي علم الغيب و لا معرفة لي فيما يفعل اللّه بي و لا بكم من الإحياء و الإماتة و المنافع و المضارّ إلّا أن يوحى إليّ و قيل: المعنى ما أدري ما اؤمر به و لا تؤمرون به في باب التكليف و الشرائع إلّا ما أوحاه اللّه إليّ و قيل:

ما أدري أ أترك بمكّة أو أخرج منها.

قال: ابن عبّاس: في رواية الكلبيّ عنه لمّا اشتدّ البلايا بأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة رأى في المنام صلّى اللّه عليه و آله أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخل و شجر و ماء فقصّها على أصحابه فاستبشروا بذلك و رأوا أنّ ذلك فرج ممّا هم فيه من أذى المشركين ثمّ إنّهم مكثوا بذلك برهة من الزمان لا يرون أثر ذلك فقالوا: يا رسول اللّه ما رأينا الّذي قلت و متى نهاجر إلى الأرض الّتي رأيتها في المنام؟ فسكت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأنزل اللّه الآية «ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ».

و أمّا الوجه الثاني أنّ المراد من الآية يكون في أحوال الآخرة كما زعم بعض و هذا القول ضعيف جدّا قال ابن عبّاس لمّا نزلت هذه الآية فرح المشركون و المنافقون و اليهود و قالوا: كيف نتّبع نبيّا لا يدري ما يفعل به و بنا فأنزل اللّه «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ» إلى قوله: «فَوْزاً عَظِيماً» فبيّن سبحانه ما يفعل

ص: 114

به و بمن اتّبعه و شرحت هذه الآية و أرغم اللّه أنف المنافقين و المشركين.

و اعلم أنّ أكثر المحقّقين أنكروا الوجه الثاني و هو كون المراد في معنى الآية الأحوال الآخرة لوجوه:

الاول أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا بدّ و أن يعلم كونه نبيّا و متى علم كونه نبيّا علم أنّه لا تصدر عنه الكبائر و أنّه مغفور له و إذا كان كذلك امتنع كونه شاكّا في أنّه هل هو مغفور له أم لا؟

الثاني لا شكّ أنّ الأنبياء أرفع حالا و شأنا من الأولياء فلمّا قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» فكيف يعقل أن يبقى الرسول الّذي هو رئيس الأتقياء و قدوة الأنبياء و الأولياء شاكّا في أنّه هل هو من المغفورين أو من المعذّبين؟

الثالث أنّه تعالى قال: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» و المراد منه كمال حاله و نهاية قربه من حضرة اللّه تعالى و من هذا حاله كيف يليق به أن يبقى شاكّا في أنّه من المعذّبين أو من المغفورين؟ فثبت أنّ هذا ضعيف. و قرأ الزّمخشريّ بفتح الياء في «يُفْعَلُ» على المعلوم.

ثمّ قال: [إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ أي لا أقول قولا و لا أعمل عملا إلّا بمقتضى الوحي [وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كانوا يطالبونه صلّى اللّه عليه و آله بالمعجزات العجيبة و يقترحون منه و بالإخبار عن الغيوب فقال سبحانه: قل «وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» بيّن الإنذار أنذركم عقاب اللّه.

و احتجّ نفاة القياس بهذه الآية قالوا: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما قال قولا و لا عمل عملا إلّا بالنصّ الّذي أوحاه اللّه إليه فوجب أن يكون حالنا كذلك لقوله تعالى: «وَ اتَّبِعُوهُ» و قوله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» (1).

قوله تعالى: [قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ ثمّ قال سبحانه: «قُلْ» يا محمّد لهم: أرأيتم أي أخبروني و ماذا تقولون إن كان هذا القرآن من عند اللّه هو أنزله؟ «وَ كَفَرْتُمْ بِهِ»

ص: 115


1- النور: 63.

حال بإضمار «قد» و جواب الشرط هاهنا محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند اللّه و الحال أنّكم كافرين به ألستم ظالمين و خاسرين؟

و يدلّ على هذا المحذوف قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» و جواب الشرط قد يحذف مثل هذه الآية و مثل قوله تعالى: «وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ» (1) الآية، و قد يذكر مثل قوله: «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ» (2).

قوله: [وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ و الضمير في مثله راجع إلى القرآن و هو التوراة من المعاني المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد و الوعد و الوعيد و غير ذلك و يدلّ عليه «وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» (3) و «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (4) و قوله: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» (5). و يجوز أن يكون المعنى إن كان من عند اللّه و كفرتم به و شهد شاهد على نحو ذلك يعني كونه من عند اللّه.

و المراد في الآية من الشاهد قيل: عبد اللّه بن سلام و قيل: الشاهد موسى شهد على التوراة كما شهد النبيّ على القرآن. و قالوا: لا يمكن أن يكون الشاهد عبد اللّه بن سلام لأنّ السورة مكّيّة و عبد اللّه أسلم في المدينة. و أجيب عن ذلك بأنّ الآية مدنيّة و السورة مكّية و كانت الآية تنزل فيؤمر رسول اللّه بأن يضعها في سورة كذا فهذه الآية نزلت في المدينة و إنّ اللّه أمر رسوله بأن يضعها في هذه السورة المكّيّة في هذا الموضع المعيّن.

قال صاحب الكشّاف: إنّه لمّا قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة فأتاه عبد اللّه بن سلام و نظر إلى وجه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تأمّله فعرف أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس بوجه كذّاب و تحقّق أنّه هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المنتظر.

ص: 116


1- الرعد: 33.
2- القصص: 72.
3- الشعراء: 196.
4- الأعلى: 18.
5- الشورى: 2.

فقال له عبد اللّه: إنّي سائلك عن ثلاث ما يعلمهنّ إلّا النبيّ: ما أوّل أشراط الساعة و ما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة و الولد ينزع إلى أبيه أو إلى امّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم و نجمعهم من المشرق إلى المغرب و أمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة فزيادة كبد الحوت و أمّا الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له و إن سبق ماء المرأة نزع لها فقال عبد اللّه: أشهد أنّك لرسول اللّه حقّا.

ثمّ قال عبد اللّه: يا رسول اللّه إنّ اليهود قوم بهت و إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عنّي بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أيّ رجل عبد اللّه عندكم؟ فقالوا:

خيرنا و ابن خيرنا و سيّدنا و ابن سيّدنا و أعلمنا و ابن أعلمنا فقال: أرأيتم إن أسلم عبد اللّه فقالوا: أعاذه اللّه من ذلك فخرج عليهم عبد اللّه و قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه فقالوا: شرّنا و ابن شرّنا و انتقصوه فقال عبد اللّه: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللّه.

فقال سعد بن أبي وقّاص: ما سمعت رسول اللّه يقول لأحد يمشي على وجه الأرض أنّه من أهل الجنّة إلّا لعبد اللّه بن سلام و فيه نزل «وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ».

لكن بعض أنكروا هذا المعنى كما ذكرنا قبل هذا في أوّل الآية و قالوا: إنّ الإخبار عن المسائل الثلاث إخبار عن وقوع شي ء من الممكنات العاديّات و ما يكون هذا سبيله فإنّه لا يعرف صدقه إلّا إذا عرف أوّلا كون المخبر صادقا فلو أنّا عرفنا صدق المخبر بكون ذلك الخبر صدقا لزم الدور و إنّه محال. ثمّ إنّ الجوابات المذكورة عن الأسئلة لا يبلغ العلم بها إلى حدّ الإعجاز.

لكن يمكن الجواب عن هذا الإيراد أنّه جاء في بعض كتب الأنبياء أو التوراة أنّ رسول آخر الزّمان يسأل عن هذه المسائل و هو يجيب بهذه الجوابات و كان عبد اللّه عالما بهذا المعنى فلمّا سأل النبيّ و أجاب صلّى اللّه عليه و آله عرف بهذا الطريق كونه رسولا حقّا، انتهى.

ص: 117

ثمّ أخبر سبحانه و قال: [فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ أي آمن الشاهد و كفرتم [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بسبب قبولهم الظلم و هو الكفر و إنّما منعهم الهداية لفعل القبيح الّذي صدر منهم لكونهم ظالمين أنفسهم.

قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46): الآيات 11 الى 15]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)

هذه شبهة اخرى للقوم في إنكار نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و ذلك أنّه لما أسلمت جهينة و أسلم و غفار قال بنو عامر و غطفان و أسد و أشجع و هم كانوا أقوياء: لو كان هذا خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء رعاء البهم، و هؤلاء الصعاليك و الفقراء و الأراذل مثل عمّار و صهيب و ابن مسعود و أمثالهم.

و قيل: إنّه كانت أمة لعمر أسلمت قبل أن يسلم عمرو كان عمر يضربها حتّى يفتر و يقول: لو لا إنّي فترت لزدتك ضربا فكان كفّار قريش يقولون: لو كان ما يدعو محمّد حقّا ما سبقتنا إلى قبول دينه فلانة.

و قيل: كان اليهود يقولون هذا الكلام عند إسلام عبد اللّه بن سلام.

قوله: [وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي فإن لم يهتدوا بالقرآن من حيث لم يتدبّروه فسيقولون هذا القرآن كذب متقادم و أساطير الأوّلين و القديم في اللغة ما تقادم وجوده و في عرف المتكلّمين هو الموجود الّذي لا أوّل لوجوده.

ثمّ قال سبحانه: [وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي و تقدّمه كتاب موسى و هو التوراة

ص: 118

[إِماماً وَ رَحْمَةً] يقتدى به كما يقتدى بالإمام و رحمة من اللّه للمؤمنين به قبل القرآن و في الكلام حذف و التقدير و كان قبل القرآن كتاب موسى فلم يهتدوا به و دلّ على المحذوف قوله تعالى في الآية الاولى: «وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ» و ذلك أنّ المشركين لم يهتدوا بالتوراة فيتركوا عبادة الأوثان و يعرفوا منه صفة محمّد كما هو مذكور فيه.

ثمّ قال: [وَ هذا كِتابٌ أي القرآن [مُصَدِّقٌ للكتب الّتي قبله [لِساناً عَرَبِيًّا] و و ذكر اللسان تأكيدا كما تقول: جاءني زيد رجلا صالحا فذكر رجل للتأكيد أي إنّ هذا القرآن مصدّق لكتاب موسى في أنّ محمّدا رسول حقّ من عند اللّه لكونه صلّى اللّه عليه و آله مذكور النعت في التوراة [لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا] فإسناد الإنذار إلى الكتاب كما أسند إلى الرسول و قرئ بالتاء على الخطاب [وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ و بشارة لهم أو و يبشّر الكتاب بشرى أو في موضع الرفع أي و هو بشرى للموحّدين.

[إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا] بيان صفة الموحّدين أي الّذين وحّدوا اللّه و استقاموا في امور الدين على العمل به و في الآية دلالة على تراخي مرتبة العمل عن التوحيد و وجوب العمل [فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه [وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات محبوب و قال أهل التحقيق: خوف العقاب زائل عنهم و أمّا خوف الجلال و الهيبة فلا يزول عن العبد البتّة أ لا ترى أنّ الملائكة مع علوّ درجاتهم و عصمتهم لا يزول الخوف عنهم فقال تعالى: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ».

قوله: [أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ] أي هؤلاء الموصوفين ملازمون الجنّة [خالِدِينَ فِيها] مؤبّدين [جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يجزون جزاء في الدنيا من الطاعات و الأعمال الصالحة.

[وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً] قرئ «إِحْساناً» حسنا بضمّ الحاء و سكون السين و فمن قرأ إحسانا فحجّته مثل قوله تعالى في سورة بني إسرائيل «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (1) و الإحسان ضدّ الإساءة و من قرأ حسنا فالمعنى أمرناه بأن يوصل إليهما فعلا حسنا و سمّي ذلك الفعل الحسن بالحسن على سبيل المبالغة كما يقال: زيد عدل و هذا الرجل علم و كرم.

ص: 119


1- الآية 23.

[حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً] قرئ كرها بضمّ الكاف و بفتحها هما لغتان مثل الضعف و الضعف في المصادر، و في غير المصادر مثل الدفّ و الدفّ و الشهد و الشهد فما كان مصدرا أو في موضع الحال فالفتح أحسن مثل قوله: «أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» (1) و ما كان اسما كان الضمّ أحسن مثل قوله: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» (2).

قال المفسّرون: حملته امّه كرها أي حملته على مشقّة و ليس يريد ابتداء الحمل فإنّ ذلك لا يكون مشقّة لأنّه تعالى قال: «فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً» يريد ابتداء الحمل فإنّ حمل النطفة و العلقة و المضغة لا يكون مشقّة فإذا أثقلت فحينئذ حملته كرها و وضعته كرها يريد شدّة الطلق.

[وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً] و المراد من الفصال الرضاع التامّ المنتهى به فإذا كان المراد من الآية مدّة الحمل و الرضاع فكيف عبّر عنه بالفصال لأنّ الرضاع ينتهي إلى الفصال و يتمّ الرضاع بالفصال و يؤول إليه فسمّي فصالا كما سمّي المدّة بالأمد. قال الشاعر:

كلّ حيّ مستكمل مدّة العمر و بور إذا انتهى أمده

و في الآية دلالة على أنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر لأنّه لما كان مجموع مدّة الحمل و الرضاع ثلاثون شهرا و قال: «وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ» (3) فإذا أسقطت الحولين و هي أربعة و عشرون شهرا من الثلاثين بقي مدّة الحمل ستّة أشهر.

قال الرازيّ: روي عن عمر أنّ امرأة رفعت إليه و كانت قد ولدت بستّة أشهر فأمر عمر برجمها فقال عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام: لا رجم عليها و ذكر الآية و عن عثمان أنّه همّ أيضا بذلك فقرأ ابن عبّاس عليه ذلك فامتنع عن الرجم.

و اعلم أنّ الآية دالّة على أنّ حقّ الأمّ أعظم لأنّه تعالى ذكرهما أوّلا «وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً» فذكرهما معا ثمّ خصّ الأمّ بالذكر فقال: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ»

ص: 120


1- النساء: 18.
2- البقرة: 216.
3- البقرة: 233.

الآية، و ذلك يدلّ على أنّ حقّها أعظم لأنّ وصول المشاقّ إليها أكثر و الأخبار كثيرة في هذا الباب.

قوله: [حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ و هو ثلاث و ثلاثون سنة على قول ابن عبّاس: و قيل:

بلوغ الحلم و قيل: وقت قيام الحجّة عليه و قيل: هو أربعون سنة و ذلك وقت نزول الوحي على الأنبياء إلّا عيسى بن مريم فإنّ اللّه جعله نبيّا من أوّل عمره و روي أنّه جاء جبرئيل إلى النبيّ فقال: يؤمر الحافظان أن ارفقا بعبدي في حداثة سنّه حتّى إذا بلغ الأربعين قيل لهما: احفظا و حقّقا و لذلك فسّر به [وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً] و ذلك بيان لزمان الأشدّ و أراد بذلك أنّه يكمل له عقله و رأيه عند الأربعين و ذلك إذا اكتهل.

و حكي عن أرسطاطاليس أنّه قال: أزمنة الولادة و حبل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان فربّما وضعت الحبلى لسبعة أشهر و ربّما وضعت في الثامن و قلّما يعيش المولود في الثامن إلّا في بلاد معيّنة مثل مصر و قد يكون لستّة أشهر و من المعلوم أنّ مراتب سنّ الحيوان ثلاثة لأنّ الحرارة الغريزيّة و الرطوبة الغريزيّة غالبة في أوّل العمر و ناقصة في آخر العمر و الانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلّا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدّتين. فمدّة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام:

أوّلها أن تكون الرطوبة الغريزيّة زائدة على الحرارة الغريزيّة و حينئذ يكون الأعضاء قابلة للتمدّد في ذواتها و للزيادة في الطول و العرض و العمق و هذا هو سنّ النشوء و النماء.

و المرتبة الثانية و هي المرتبة المتوسّطة أن تكون الرطوبة الغريزيّة وافية بحفظ الحرارة الغريزيّة من غير زيادة و لا نقصان و هذا هو سنّ الوقوف و هو سنّ الشباب.

و المرتبة الثالثة و هي المرتبة الأخيرة أن تكون الرطوبة الغريزيّة ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزيّة و النقصان خفيّ و هو سنّ الكهولة و جليّ ظاهر و هو سنّ الشيخوخة.

ثمّ هاهنا بيان آخر و هو أنّ دور القمر إنّما يتمّ في مدّة ثمانية و عشرين يوما و

ص: 121

شي ء، فإذا قسمنا هذه المدّة بأربعة أقسام كان كلّ قسم منها سبعة فلهذا السبب قدّروا الشهر بالأسابيع الأربعة و لهذه الأسابيع تأثيرات عظيمة في اختلاف أحوال هذا العالم فكذلك عالم عمر الإنسان ينقسم إلى أربعة أسابيع و يحصل للآدميّ بحسب انتهاء كلّ اسبوع من هذه الأسابيع الأربعة نوع من التغيّر يؤدّي إلى كماله.

أمّا عند تمام الأسبوع الأوّل من العمر فتصلب أعضاؤه بعض الصلابة و تقوى أفعاله مثل أن تتبدّل أسنانه الضعيفة الواهية مثلا بالقويّة و قوّة الهضم كذلك أقوى من قبل.

و أمّا في نهاية الأسبوع الثاني يتقوّى الحرارة و تقلّ الرطوبات و تتّسع المجاري و تقوى الأعضاء و تتصلّب صلابة كافية و يتولّد فيه مادّة الزرع و عند هذا يحكم الشرع عليه بالبلوغ لأنّ الدماغ قد اعتدل و كمل القوى النفسانيّة الّتي هي الفكر و الإدراك فلا جرم يتوجّه إليه التكاليف الشرعيّة فما أحسن قول من ضبط البلوغ الشرعيّ بخمس عشرة سنة و هو تكميل اسبوعين على البيان الّذي قرّرنا.

و يتفرّع على حصول هذه الحالة أمارات ظاهرة و علائم بيّنة منها انفراق طرف الأرنبة و نتوء الحنجرة و غلظ الصوت لأنّ الحرارة الّتي تنهض في ذلك الوقت توسّع الحنجرة فتنتؤ و يغلظ الصوت و ثالثها تغيّر ريح الإبط و هي الفضلة العفنيّة الّتي يدفعها القلب إلى ذلك الموضع لأنّ القلب لمّا قويت حرارته لا جرم قويت على إنضاج المادّة و دفعها إلى اللحم الغدديّ الرخو الّذي في الإبط و كذلك نبات الشعر و حصول الاحتلام و الاغتلام لأنّ الحرارة كلّما قويت قدرت على توليد الأبخرة المولّدة للشعر و على توليد مادّة الزرع و لهذا في هذا الوقت تتحرّك الشهوة في الصبايا و ينهد ثديهنّ و ينزل حيضهنّ لأنّ الحرارة الغريزيّة الّتي فيهنّ قويت في آخر هذا الأسبوع.

و أمّا في الأسبوع الثالث فيبلغ في حدّ الكمال فيزداد الحسن و أمّا في الأسبوع الرابع هذه الأحوال متكاملة متزايدة.

و عند انتهاء الأسبوع الرابع لا يظهر الازدياد و يدخل الإنسان في سنّ الوقوف في الأسبوع الخامس اسبوع واحد فيكون المجموع خمسة و ثلاثين سنة.

ص: 122

و لمّا كانت هذه المدّة المذكورة إمّا قد تزاد و إمّا قد تنقص بحسب ضعف الأمزجة و قوّتها جعل الغاية فيه مدّة أربعين سنة فإنّ هذا الوقت تسكن أفعال القوى الطبيعيّة بعض السكون و تنتهي له أفعال القوّة الحيوانيّة غايتها و تأخذ القوى الطبيعيّة و الحيوانيّة في الانتقاص و تأخذ القوّة النطقيّة و العقليّة في الاستكمال و هذا أحد الدلائل من أنّ النفس غير البدن فإنّ البدن عند أربعين يأخذ في الانتقاص و النفس من الأربعين يأخذ في الاستكمال و لو كانت النفس عين البدن لحصل لشي ء الواحد في الوقت الواحد الكمال و النقصان و ذلك محال و هذا بيان قوله: [حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ] أي ألهمني، و أصله أو معنى من أوزعه بكذا [أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي اجعل لي خلف صدق و لك عبيد [إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لأمرك و هذا الدعاء تصريح بأنّ القوّة النفسانيّة العقليّة تستكمل في هذا الوقت.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: لمّا حملت فاطمة عليها السّلام بالحسين عليه السّلام جاء جبرئيل عليه السّلام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ فاطمة ستلد غلاما يقتله امّتك من بعدك فلمّا حملت فاطمة عليها السّلام بالحسين كرهت حمله و حين وضعته كرهت وضعه قال عليه السّلام: لم تر في الدنيا أمّ تلد غلاما تكرهه و لكنّها كرهت لما علمت أنّه سيقتل قال عليه السّلام: و فيه نزلت هذه الآية.

و في رواية اخرى ثمّ هبط جبرئيل عليه السّلام فقال: يا محمّد إنّ ربّك يقرؤك السّلام و يبشّرك بأنّه جاعل في ذرّيّته الإمامة و الولاية و الوصيّة فقال عليه السّلام: إنّي رضيت ثمّ بشّر فاطمة بذلك فرضيت قال: فلو لا أنّه قال: «أصلح في ذرّيّته» لكانت ذرّيّته كلّهم أئمّة قال: و لم يرضع الحسين من فاطمة و لا من أنثى كان يؤتى به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيضع صلّى اللّه عليه و آله إبهامه في فيه فيمصّ منها ما يكفيه اليومين و الثلاث فنبت لحم الحسين عليه السّلام من لحم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دمه من دمه و لم يولد لستّة أشهر إلّا يحيى بن زكريّا و الحسين عليهما السّلام.

قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46): الآيات 16 الى 20]

أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

ص: 123

ثمّ أخبر اللّه سبحانه بما يستحقّه هذا الإنسان و مثل هذا الإنسان من الثّواب فقال:

[أُولئِكَ يعني أهل هذا القول [الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ و قرئ بالياء على البناء للمجهول [عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا] بإيجاب الثواب لهم أحسن أعمالهم و هو ما يستحقّ به من الثواب في الواجبات و المندوبات فإنّ المباح أيضا من الحسن و لا يوصف بأنّه متقبّل [وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ الّتي اقترفوها [فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ] أي في جمع ممّن نتجاوز عن سيّئاتهم و هم أصحاب الجنّة فيكون قوله: «فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» في موضع النّصب على الحال.

[وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي وعدهم وعد الصدق و هو ما وعد أهل الإيمان يتقبّل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم إذا شاء أن يتفضّل عليهم بإسقاط عذابهم أو إذا تابوا، الوعد الّذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل.

قوله: [وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما] لمّا وصف الولد البارّ بوالديه في الآية المتقدّمة وصف الولد العاقّ لوالديه في هذه الآية فقال: «وَ الَّذِي» الآية، قيل: إنّها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قال له أبواه: أسلم و ألحّا عليه فقال: أحيوا لي عبد اللّه بن جذعان و مشايخ قريش حتّى أسألهم عمّا تقولون عن ابن عبّاس و جماعة. و قيل: عامّة في كلّ كافر عاقّ لوالديه كما أنّ الآية الاولى عامّة لكلّ بارّ لوالديه و ليس المراد بشخصا معيّنا.

ص: 124

و كلمة «أُفٍّ» صوت يصدر عن المرء عند تضجّره و اللّام لبيان المؤفّف له كما في هيت لك و بيان أنّ هذا التأفيف لكما خاصّة و قرئ «أف» بالفتح و الكسر بغير تنوين و بالحركات الثلاث مع التنوين و الصحيح أنّ افّ لكما مبتدء و خبر و تقديره هذه الكلمة الّتي يقال: عند الأمور المكروهة كائنة لكما.

قوله: [أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ من القبر و أحيا و ابعث [وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي و مضت امم و ماتوا قبلي فما أخرجوا و لا أعيدوا و قيل: معناه خلت القرون و الأجيال على هذا المذهب ينكرون البعث [وَ هُما] أي والديه [يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي يطلبان من اللّه الغوث و يقولان له [وَيْلَكَ آمِنْ بالقيامة و بما يقوله النبيّ [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ بالبعث و النشور و الثواب و العقاب فيقول هو في جوابهما: [ما هذا] القرآن [إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي إنّ هذا القرآن و ما تخبرونه من أخبار الأوّلين و أحاديثهم الّتي سطروها ليس لها حقيقة.

[أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ أي القائلون هذه المقالات الباطلة الّذين حقّ عليهم القول و القول قوله لإبليس: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» و قوله: «فِي أُمَمٍ» أي مع امم قد مضوا على مثل حالهم و عقائدهم [مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و هذه الآية خلاف من يزعم أنّ الجنّ لا يموتون إلّا حين انقراض الدنيا ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم [إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ لأنفسهم إذ أهلكوها بالمعاصي.

قوله: [وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا] أي لكلّ واحد ممّن تقدّم ذكره من المؤمنين البررة و الكافرين الفجرة درجات على مراتب حالهم و مقادير أعمالهم فدرجات الأبرار في علّيّين و دركات الفجّار في سجّين و قيل: المعنى لكلّ مطيع درجات ثواب و إن تفاضلوا في مقاديرها أو المعنى لكلّ من ولد البار و العاقّ الفاجر درجات فإن قيل: كيف يجوز ذكر لفظ الدرجات في أهل النار و قد جاء في الخبر الجنّة درجات و النار دركات؟ فيمكن حمل الكلام على التغليب أو المراد بالدرجات المراتب المتزائدة إلّا أنّ زيادات أهل الجنّة في الخيرات و زيادات أهل النار في السيّئات.

[وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ و قرئ بالنون، أي و ليوفّهم اللّه أعمالهم أي جزاء أعمالهم «وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ» بعقاب لا يستحقّونه أو بمنع ثواب يستحقّونه.

ص: 125

قوله تعالى: [وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ] أي يوم القيامة يعرضون على النار و يدخلونها كما يقال: عرض فلان على السوط و يجوز أن يكون المعنى يعرض النار عليهم قبل أن يدخلوها ليروا من أهوالها [أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا] أي يقال لهم آثرتم لذّاتكم في الدنيا على طيّبات الجنّة [وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها] و تلذّذتم من لذّاتها منهمكين فيها و أنفقتموها في شهواتكم و لم تنفقوها في مرضات اللّه و قرأ ابن عامر بهمزتين أ أذهبتم و الباقون بلفظ الخبر.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه دخل على أهل الصفّة و هم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا فقال صلّى اللّه عليه و آله: أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة و يروح في أخرى و يغدّي عليه بجفنة و يراح عليه بأخرى و يستر بيته كما يستر الكعبة قالوا: نحن يومئذ خيرا قال صلّى اللّه عليه و آله: بل أنتم اليوم خير. انتهى الحديث.

و لمّا وبّخ اللّه الكفّار بالتمتّع بالطيّبات و اللذّات في الدنيا آثر النبيّ و أمير المؤمنين الزهد و اجتناب الترفّه و النعمة، و في الحديث إنّ عمر قال: استأذنت على رسول اللّه فدخلت في حجرة امّ إبراهيم و إنّه صلّى اللّه عليه و آله لمضطجع على خصفه و أنّ بعضه على التراب و تحت رأسه و سادة محشوّة ليفا فسلّمت عليه ثمّ جلست فقلت يا رسول اللّه أنت نبيّ اللّه و صفوته و خيرته من خلقه و كسرى و قيصر على سرر الذهب و فرش الديباج و الحرير فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

أولئك قوم عجلت طيّباتهم و هي و شيكة الانقطاع و إنّما اخّرت لنا طيّباتنا.

و كذلك كان حال عليّ عليه السّلام و هو يقول: في بعض خطبه و اللّه لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها و لقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ فقلت: أعزب عنّي فعند الصباح يحمد القوم السرى.

و روى محمّد بن قيس عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: و اللّه إنّه كان ليأكل أكلة العبد و يجلس جلسه العبد و إن كان يشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما ثمّ يلبس الآخر فإذا جاز أصابعه قطع الزائد و إذا جاز كعبه حذفه و لقد ولي قرب خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة و لا لبنة على لبنة و ما ترك صفراء و لا حمراء و أن كان ليطعم الناس خبز البرّ و اللحم و يتصرّف إلى منزله فيأكل خبز الشعير و الزيت أو الخلّ و ما ورد عليه أمران كلاهما للّه

ص: 126

رضىّ إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه و لقد أعتق ألف مملوك من كدّ يمينه تربت يداه منه و عرق فيه وجهه و ما أطاق عمله أحد من الناس و إنّه كان ليصلّي في اليوم و الليلة ألف ركعة و كان أقرب النّاس شبيها به في العبادة عليّ بن الحسين عليه السّلام ما أطاق عمله أحد من الناس بعده.

و قد اشتهر في الرواية أنّه لمّا دخل على العلاء بن زياد بالبصرة يعوده قال له العلاء:

يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد لبس العباءة و تخلّى من الدنيا فقال عليّ عليه السّلام: عليّ به فلمّا جي ء به قال: يا عديّ نفسه لقد استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك و ولدك أ ترى اللّه أحلّ لك الطيّبات و هو يكره أن تأخذها أنت أهون على اللّه من ذلك قال عاصم: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك و جشونة مأكلك قال: ويحك إنّي لست كأنت إنّ اللّه تعالى فرض على أئمّة الحقّ أن يساووا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره، انتهى.

قوله تعالى: [فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي عذاب الّذي فيه الذلّ و الخزي و الهوان [بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ باستكباركم عن الانقياد للحقّ في الدنيا و تكبّركم على الأنبياء [بِغَيْرِ الْحَقِ من دون حقّ لكم في الترفّع و الإنكار [وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ و بخروجكم من طاعة اللّه إلى معاصيه و ذلك اليوم عظيم.

قوله: [سورة الأحقاف (46): الآيات 21 الى 25]

وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

و لمّا بيّن سبحانه أنواع الدلائل في التوحيد و النبوّة و كان المشركون بسبب استغراقهم في لذّات الدنيا و اشتغالهم بطلبها لم يلتفتوا إلى الدلائل أمر نبيّه أن يذكر

ص: 127

هذه القصّة هاهنا ليعتبروا و يقبلوا على طلب الدّين لأنّ من أراد تقبيح أمر عند قوم كان الطريق فيه ضرب الأمثال ليعلموا ضرره و يتركوا ما هم عليه.

[وَ اذْكُرْ] يا محمّد لقومك [أَخا عادٍ] يعني هودا و من انتسب إلى طائفة يقال له: أخو فلان مثل أن يقول: أخو سليم و أخو قيس [إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ و خوّفهم من عذاب اللّه و مخالفته و دعاهم إلى طاعته و الأحقاف واد من الرمل بين عمّان و حضر موت مشرفة على ساحل البحر [وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أي و قد مضت الرسل من قبل هود و من بعده.

[أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بأن لا تعبدوا و حاصل المعنى إنّي لم ابعث قبل هود و لا بعده إلّا بالأمر بعبادة اللّه وحده و هذا اعتراض وقع بين إنذار هود و كلامه لقومه.

ثمّ عاد إلى كلام هود لقومه فقال هود: [إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و تقدير الكلام أنذر هود قومه بالأحقاف فقال: «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

ثمّ حكى سبحانه ما أجاب به قومه بقوله: [قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا] أي أ جئتنا لتصرفنا و تلفتنا عن عبادة آلهتنا [فَأْتِنا بِما تَعِدُنا] من العذاب [إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أنّ العذاب نازل بنا و هذا الكلام منهم في استعجال العذاب تكذيبا لهود عليه السّلام.

[قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ فقال لهم هود: لا علم لي بالوقت الّذي يحصل فيه العذاب و إنّما علم ذلك عند اللّه [وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ و أنا أحذّركم من وقوعه [وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ حيث تصرّون في الجهل المفرط و طلب العذاب و هذا جهل عظيم.

[فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ و الضمير في «رَأَوْهُ» إمّا إلى غير مذكور و بيّنه قوله: «عارِضاً» مثل قوله: «ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (1) و لم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا هاهنا الضمير عائد إلى السحاب فالمعنى فلمّا رأوا السحاب عارضا و يجوز أن يكون الضمير عائدا إلى ما في قوله: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» فلمّا رأوا ما وعدوا به عارضا و العارض السحابة الّتي ترى في ناحية السماء ثمّ تطبق.

قال المفسّرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيّاما فساق اللّه إليهم سبحانه سوداء

ص: 128


1- فاطر: 45.

فخرجت عليهم من واد يقال له: المغيث فلمّا رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا و قالوا: «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» أي سحاب ممطر إيّانا.

فقال هود عليه السّلام: ليس الأمر كما زعمتم [بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ هو الّذي وعدتكم به و طلبتم تعجيله ثمّ فسّره فقال: [رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ و قيل: هو من كلام اللّه و وصف ماهيّة الريح بقوله: [تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ] أي يهلك كلّ شي ء من الناس و الحيوان و النبات و ليس المراد من الكلّ كلّ موجود و أطلق الكلّ على البعض و المراد من قوله: [بِأَمْرِ رَبِّها] أنّ هذا ليس من الأمور العادية و من تأثيرات الكواكب و القرانات مثل الأنواء بل هو أمر عظيم حدث بقدرة اللّه لأجل تعذيبكم.

[فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ و تذكير الفعل في قوله: «لا يُرى أحسن من إلحاق علامة التأنيث بالفعل من أجل الجمع لأنّه يحمل الكلام على المعنى مثل قولهم:

ما قام إلّا هند و لم يقولوا: ما قامت إلّا هند لأنّ المعنى ما قام أحد إلّا هند و قرئ «مَسْكَنِهِمْ».

روي أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط فترفعها في الجوّ حتّى يرى كأنّها جرادة و أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار.

و روي أنّ أوّل ما عرفوا به أنّه عذاب أليم أنّهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم و مواشيهم يطير به الريح بين السماء و الأرض فدخلوا بيوتهم و غلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب و صرعتهم و أحال اللّه عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال و ثمانية أيّام لهم أنين ثمّ كشفت الريح عنهم فاحتملتهم و طرحتهم في البحر و لمّا أحسّ هود عليه السّلام بالريح خطّ على نفسه و على المؤمنين خطّ على جنب عين تنبع فكانت الّتي تصيبهم ريحا ليّنة هادية طيّبة و الريح الّتي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض و تطيرهم إلى السماء و يضربهم على الأرض و أثر المعجزة إنّما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما أمر اللّه خازن الرياح أن يرسل على عاد إلّا مثل مقدار الخاتم و ذلك القدر أهلكهم بكليّتهم و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا رأى الريح فزع و قال: اللّهمّ إنّي أسألك خيرها و خير ما أرسلت به و أعوذ بك من شرّها و من شرّ ما أرسلت به.

ص: 129

قوله تعالى: [كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ و المقصود تخويف كفّار مكّة أي مثل ما أهلكنا أهل الأحقاف نجزي الكافرين الّذين يسلكون مسالكهم. فإن قيل: لمّا قال اللّه:

«وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ» (1) فكيف يبقى التخويف حاصلا؟

فالجواب أنّ قوله: «وَ ما كانَ اللَّهُ» إنّما نزل في آخر الأمر و كان التخويف قبل ذلك.

ثمّ بيّن سبحانه فضل قوم عاد بالقوّة و الجسم على كفّار مكّة فقال سبحانه:

[سورة الأحقاف (46): الآيات 26 الى 30]

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)

[و لقد مكّنّا] قوم عاد في امور ما مكّنّاكم فيها بمعنى أنّهم كانوا أقوى منكم جسما و أكثر أموالا قال المبرّد: كلمة «ما» في قوله: «فِيما» بمنزلة الّذي و كلمة «إِنْ» بمنزلة «ما» و قال ابن قتيبة كلمة «إِنْ» زائدة و التقدير و لقد مكّنّاهم فيما مكّنّاكم فيه قال الرازيّ و هذا غير صحيح لأنّ الحكم بأنّ حرفا من كتاب اللّه عبث لا يقول به عاقل ثمّ إنّ المقصود من الكلام أنّهم كانوا أقوى منكم و أنّهم مع زيادة القوّة ما نجوا من عذاب اللّه فكيف يكون حالكم؟ و هذا المعنى لا يتمّ مع ما قاله ابن قتيبة. و يؤيّد قول المبرّد آيات كثيرة مثل قوله: «هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً» (2) و قوله: «كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ» (3).

ص: 130


1- الأنفال: 33.
2- مريم: 74.
3- المؤمن: 82.

و بالجملة ثمّ قال سبحانه: [وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً] أي فتحنا عليهم أبواب المعرفة و النعمة ليستمعوا الآيات و الدلائل و ليبصروا الأشياء ليعتبروا و أعطيناهم أفئدة ليتفكّروا فما استعملوا هذه الجوارح في طلب معرفة اللّه بل صرفوا هذه القوى إلى طلب الدنيا و لذّاتها.

فلا جرم [ما أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ لأنّهم [كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ و ذكر «إِذْ» في مثل هذا المقام للتعليل كقولك: صرمته إذ أساء أي لأنّه أساء فإذا كان أولئك مع قوّتهم نزل بهم عذاب اللّه فأهل مكّة مع عجزهم و ضعفهم أولى بأن يحذروا العذاب.

قوله: [وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى يا أهل مكّة ما حولكم و هم قوم هود و كانوا باليمن و قوم صالح و هم بالحجر و قوم لوط على طريقهم إلى الشام [وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ و تصريف الآيات تارة باختلاف أنواع المعجزات و تارة في الإهلاك و تارة في التذكير بالنعم و النقم و تارة بوصف الأبرار ليقتدوا بهم و تارة بتوبيخ الكفّار ليجتنبوا مثل فعلهم [لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكي يرجعوا عن الكفر و المعاصي.

[فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً] أي فهلّا نصر هؤلاء الّذين أهلكهم اللّه و هم عابد و هم و كان العابدون يزعمون بعبادتهم إيّاهم يتقرّبون إلى اللّه بهذه العبادة و المعبودين يشفعون لهم فلم غابوا عن نصرتهم و ذلك لأنّهم كانوا يعبدون الآلهة للتقرّب إلى اللّه و يجعلونها شركاء للّه قربانا.

[بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي ضلّت آلهتهم وقت حاجتهم إليها و لم تنفعهم وقت نزول العذاب بهم [وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ أي اتّخاذهم الآلهة دون اللّه كذبهم و افترائهم [وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي من مفقرياتهم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما في الإنس مؤمن و كافر كذلك في الجنّ مؤمن و كافر فقال:

[وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ و اذكر و لينته علمك يا محمّد إذ وجّهنا إليك جماعة من الجنّ تستمع القرآن قال سعيد بن جبير: كانت الجنّ تستمع و تسترق من

ص: 131

السماء فلمّا رجموا قالوا: هذا الّذي حدث في السماء إنّما حدث لشي ء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب.

و كان قد اتّفق أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أيس من أهل مكّة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام فلمّا انصرف إلى مكّة و كان صلّى اللّه عليه و آله ببطن نخل قام يقرء القرآن في صلاة الفجر فمرّ به نفر من أشراف جنّ نصيبين و ذلك أنّ إبليس بعثهم ليعرفوا السبب الّذي أوجب اللّه حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن و عرفوا أنّ ذلك هو السبب.

قال الزهريّ: لمّا توفّي أبو طالب عليه السّلام اشتدّ البلايا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعمد ليقف بالطائف رجاء أن يأووه فوجد ثلاثة نفر من بني عبد يا ليل فعرض صلّى اللّه عليه و آله عليهم نفسه فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان اللّه بعثك بشي ء قطّ و قال الآخران كلمات يتشابه الأوّل و تهزّءوا به صلّى اللّه عليه و آله و أفشوا في قومهم ما راجعوه به فقعدوا به صفّين على طريقه.

فلمّا مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بين صفّيهم جعلوا لا يرفع صلّى اللّه عليه و آله رجليه و لا يضعهما إلّا رضخوهما بالحجارة فخلص منهم و هما يسيلان دما إلى حائط من حوائطهم و استظلّ في ظلّ شجرة منه و هو صلّى اللّه عليه و آله مكروب موجع تسيل رجلاه دما.

فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة فلمّا رآهما كره مكانهما لما يعلم صلّى اللّه عليه و آله من عداوتهما للّه و رسوله فلمّا رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يقال له عداس و هو نصرانيّ من أهل نينوى فلمّا جاء قال له رسول اللّه: من أيّ أرض؟ فقال: من أهل نينوى قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من مدينة العبد الصالح ابن متى فقال له عداس: و ما يدريك من يونس فقال: أنا رسول اللّه و اللّه أخبرني خبر يونس فلمّا أخبره بما أوحى اللّه إليه من شأن يونس خرّ عداس ساجدا لرسول اللّه و جعل يقبّل قدميه و هما يسيلان الدماء فلمّا بصره عتبة و شيبة ما يصنع غلامهما سكتا فلمّا أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمّد و قبلت قدميه و لم نرك فعلت ذلك بأحد منّا قال: هذا رجل صالح أخبرني بشي ء عرفته من شأن رسول بعثه اللّه إلينا يدعى يونس بن متى فضحكا و قالا: لا يفتننّك عن نصرانيّتك فإنّه رجل خدّاع فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مكّة حتّى إذا بنخلة قام يصلّي و يقرء القرآن في صلاته فمرّ به

ص: 132

نفر من الجنّ فاستمعوا له و هذا أحد القولين في تفسير الآية مثل سعيد بن جبير و جماعة و قال آخرون: أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن ينذر الجنّ و يدعوهم إلى اللّه و يقرء عليهم القرآن فصرف اللّه إليه نفرا من الجنّ ليستمعوا منه القرآن و ينذروا قومهم و نقل أنّهم كانوا يهودا لأنّ في الجنّ مللا كما في الإنس من اليهود و المجوس و النّصارى و عبدة الأصنام.

و أطبق العلماء المحقّقون على أنّ الجنّ مكلّفون و سئل ابن عبّاس هل للجنّ ثواب فقال: نعم لهم ثواب و عليهم عقاب يلتقون في الجنّة و يزدحمون على أبوابها.

قال الزمخشريّ: النفر دون العشرة و بجمع على أنفار.

و عن ابن عبّاس أنّ أولئك الجنّ كانوا سبعة من أهل نصيبين فجعلهم رسول اللّه رسلا إلى قومهم و عن قتادة أنّهم صرفوا إليه من ساوة.

قال القاضي عبد الجبّار في تفسيره عن أنس بن مالك قال: كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جبال مكّة فإذا شيخ يتوكّأ على عكازه فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شية جنّي و نغمته فقال الشيخ: أجلّ فقال صلّى اللّه عليه و آله: من أيّ الجنّ أنت فقال: أنا هامة بن هيم بن قيس بن لاقيس بن إبليس فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا أرى بينك و بين إبليس إلّا أبوين فكم أتى عليك؟ فقال: أكلت عمر الدنيا إلّا أقلّها و كنت وقت قتل قابيل هابيل أمشي بين الآكام و ذكر كثيرا ممّا مرّ به و ذكر في جملته أن قال: قال لي عيسى بن مريم: إن لقيت محمّدا فاقرأه منّي السّلام و قد بلّغت سلامه و آمنت بك فقال صلّى اللّه عليه و آله: على عيسى السّلام و عليك يا هامة ما حاجتك؟ فقال: إنّ موسى علّمني التوراة و عيسى علّمني الإنجيل فعلّمني القرآن فعلّمه صلّى اللّه عليه و آله عشر سور و قبض صلّى اللّه عليه و آله انتهى.

ثمّ بعد تصريف اللّه نفرا من الجنّ إليه صلّى اللّه عليه و آله يستمعوا القرآن [فَلَمَّا حَضَرُوهُ و الضمير راجع إلى القرآن و قيل: إلى النبيّ أي لمّا حضر هؤلاء النفر من الجنّ قيل:

كان مجيئهم من نينوى قرب الموصل فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّي أمرت أن أقرء على الجنّ الليلة فأيّكم يتبعني فأتبعه عبد اللّه بن مسعود قال عبد اللّه: و لم يتبعه صلّى اللّه عليه و آله أحد غيري فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة فدخل النبيّ شعبا الجحون و خطّ لي خطّا ثمّ أمرني أن أجلس

ص: 133

و قال: لا تخرج منه حتّى أعود إليك ثمّ انطلق حتّى قام فافتتح بالقرآن و السورة الّتي تلاها عليهم اقرأ باسم ربّك فغشته أسودة كثيرة حتّى حالت بيني و بينه حتّى لم أسمع صوته ثمّ انطلقوا و طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتّى بقي منهم رهط و فرغ رسول اللّه مع العجز فانطلق فبرز ثمّ قال: هل رأيت شيئا فقلت: نعم رأيت رجالا ذوي ثياب بيض.

قال ابن عبّاس: كان ذلك الرهط سبعة نفر من جنّ نصيبين فجعلهم صلّى اللّه عليه و آله رسلا إلى قومهم و روى محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه قال: لمّا قرء رسول اللّه سورة الرحمن على الناس سكتوا و لم يقولوا شيئا، فقال رسول اللّه: الجنّ كانوا أحسن جوابا منكم لمّا قرأت «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»* قالوا: لا و لا بشي ء من آلائك ربّنا نكذّب.

و بالجملة [قالُوا أَنْصِتُوا] أي قال بعضهم لبعض: أنصتوا و اسكتوا مستمعين.

[فَلَمَّا قُضِيَ و فرغ صلّى اللّه عليه و آله من القراءة [وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ينذرون قومهم قالوا يا قومنا: [إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ و وصفوا القرآن بوصفين:

الاول كونه مصدّقا لكتب الأنبياء أي كما أنّ كتب الأنبياء مشتملة على الدعوة إلى التوحيد و النبوّة و المعاد و تهذيب الأخلاق فكذلك هذا الكتاب.

الثاني قوله: «يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» و مطالب عالية شريفة يعلم كلّ أحد بصريح عقله أنّه صدق و حقّ.

فإن قيل: كيف قالوا: «مِنْ بَعْدِ مُوسى ؟ لأنّهم كانوا على اليهوديّة و عن ابن عبّاس أنّ الجنّ ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا: من بعد موسى.

ثمّ إنّ الجنّ لمّا وصفوا القرآن قالوا:

[سورة الأحقاف (46): الآيات 31 الى 35]

يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (33) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)

ص: 134

ثمّ بيّن سبحانه حكاية قول الجنّ [يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ يعنون محمّدا إذ دعاهم إلى خلع الأنداد دونه و صدّقوا بتوحيد اللّه و آمنوا به [يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي فإنّكم إن آمنتم باللّه و رسوله. و إنّما بعّض في الآية لأنّ من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كذنوب المظالم و نحوه.

و اختلف بأنّ هل للجنّ ثواب كما للإنسان قيل: نعم: و قيل: لا ثواب لهم إلّا النجاة من النار لقوله: [وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ و الصحيح أنّهم في حكم بني آدم لأنّه قال عليّ بن إبراهيم: فجاءوا إلى رسول اللّه يطلبون شرائع الإسلام فأنزل اللّه على نبيّه «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ» إلى آخر السورة، فآمنوا إلى رسول اللّه.

و في هذا دلالة على أنّه كان مبعوثا إلى الجنّ كما كان مبعوثا إلى الإنس و لم يبعث اللّه قبله نبيّا إلى الإنس و الجنّ.

[وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي لا يعجز اللّه فيسبقه و يفوته و لا مهرب له منه [وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ] أي لا يكون له أنصار يمنعونه من عذاب اللّه إذا نزل بهم هذا من كلام رسل الجنّ و يجوز أن يكون من كلام اللّه تعالى ابتداء ثمّ قال: [أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أيّ الّذين لا يجيبون داعي اللّه في عدول عن الحقّ و في ضلالة واضحة.

ثمّ قال منبّها على قدرته على البعث و الإعادة: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا] و لم يعلموا [أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أنشأهما [وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ أي لم يصبه في خلق ذلك أعباء و لا تعب يقال: عيّ فلان بأمره إذا لم يقدر عليه [بِقادِرٍ] الباء زائدة و موضعه رفع بأنّه خبر أنّ [عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي خلق السماوات و الأرض أعجب من إحياء الموتى.

ثمّ قال: [بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] ثمّ عقّبه بذكر الوعيد فقال: [وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِ أي يقال لهم على وجه التهكّم: أليس هذا

ص: 135

الّذي جوزيتم به واقعا و حقّا [قالُوا] فيقولون: نعم [وَ رَبِّنا] و اعترفوا بذلك و حلفوا بعد أن كانوا منكرين في الدنيا [قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فيقال لهم: ذوقوا بسبب كفركم و جحودكم.

ثمّ قال لنبيّه: [فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي فاصبر يا محمّد على أذى قومك و على ترك إجابتهم لك كما صبر الرسل و «مِنَ» هاهنا لتبيّن الجنس و على هذا القول فيكون جميع الأنبياء هو أولو العزم لأنّهم عزموا على أداء الرّسالة و تحمّل أعبائها و قيل: إنّ من هاهنا للتبعيض و هو قول أكثر المفسّرين و الظاهر في روايات أصحابنا.

ثمّ اختلفوا فقيل: أولو العزم من الرّسل من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدّمه و هو خمسة أوّلهم نوح عليه السّلام ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسى ثمّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله عن ابن عبّاس و جماعة و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام قال: و هم سادة النبيّين و عليهم دارت رحى المرسلين و قيل: هم ستّة نوح صبر على أذى قومه و إبراهيم صبر على النار و إسحاق صبر على الذبح أو إسماعيل، و يعقوب صبر على فقد الولد و ذهاب البصر، و يوسف صبر على البئر و السجن، و أيّوب صبر على الضرّ و البلوى. و قيل: هم الّذين أمروا بالجهاد و القتال و جاهدوا العدوّ في الّذين و قيل: هم إبراهيم و هود و نوح و رابعهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و المراد بالعزم الوجوب و الختم و أولو العزم من الرسل هم الّذين شرعوا الشرائع و أوجبوا على الناس الأخذ بها و الانقطاع عن غيرها.

قوله تعالى: [وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ أي و لا تستعجل لهم العذاب فإنّه كائن لا محالة و واقع بهم و ما هو آت فهو قريب «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ» من العذاب في الآخرة [لَمْ يَلْبَثُوا] في الدنيا [إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ] أي إذا عاينوا العذاب طول لبثهم في الدنيا و البرزخ مثل ساعة من نهار لأنّ ما مضى كأن لم يكن و إن كان طويلا و تمّ الكلام.

ثمّ قال: [بَلاغٌ أي هذا القرآن و ما فيه من البيان بلاغ للنّاس أي تبليغ

ص: 136

للنّاس و قرئ بلاغا أي بلغوا بلاغا. و قيل: معناه ذلك اللبث و مكثهم في الدّنيا بلاغ و يسير.

قوله: [فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي لا يقع العذاب إلّا بالعاصين الخارجين من أمر اللّه و قيل: المعنى لا يهلك إلّا هالك مشرك ولّي ظهره الإسلام أو منافق صدّق بلسانه و خالف بقلبه و عمله و قيل: لا يهلك مع رحمة اللّه إلّا القوم الخارجون عن دين اللّه. قال الزجّاج و ما جاء في القرآن في الرجاء لرحمة اللّه شي ء أقوى من هذه الآية تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 137

سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله

اشارة

و تسمّى سورة القتال.

مدنيّة إلّا آية منها نزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو يريد التوجّه إلى المدينة من مكّة و جعل صلّى اللّه عليه و آله ينظر إلى البيت و هو يبكي حزنا فنزلت «وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ» الآية.

فضلها ابيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة محمّد كان حقّا على اللّه أن يسقيه من أنهار الجنّة.

و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأها لم يدخله شكّ في دينه أبدا و لم يزل محفوظا من الشرك و الكفر أبدا حتّى يموت فإذا مات و كل اللّه به في قبره ألف ملك يصلّون في قبره و يكون ثواب صلاتهم له و يشيّعونه حتّى يوقفوه موقف الأمن من عند اللّه و يكون في أمان اللّه و أمان محمّد. و قال الصادق عليه السّلام: من أراد أن يعرف حالنا و حال أعدائنا فليقرأ سورة محمّد فإنّه يراها آية فينا و آية فيهم.

ص: 138

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة محمد (47): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)

سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)

المعنى: ختم اللّه تلك السّورة بوعيد الكفّار و افتتح هذه السّورة بمثلها فقال:

[الَّذِينَ كَفَرُوا] بتوحيد اللّه و عبدوا معه غيره [وَ صَدُّوا] الناس [عَنْ سَبِيلِ الإيمان و الإسلام باستدعائهم إلى الباطل و الشرك و تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أحبط اللّه أعمالهم الّتي كان في زعمهم أنّها أعمال و قربة و تنفعهم كالعتق و الصدقة و قري الضيف و المعنى أنّه أذهبها إذ لم يروا لها في الآخرة ثوابا.

قيل: نزلت في المطعمين ببدر و كانوا عشرة أنفس منهم أبو جهل و الحرث ابنا هشام و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و غيرهم. و قيل: المراد كفّار قريش. و قيل: أهل الكتاب أو هو عامّ يدخل فيه كلّ كافر و المراد بالصدّ صدّ أنفسهم و منع عقولهم من اتّباع الدليل و الحقّ أو صدّوا غيرهم عن اتّباع الحقّ.

فإن قيل: إنّ المستضعفين كانوا أتباعا و لم يصدّوا غيرهم فيقتضي أن لا يضلّ أعمالهم.

ص: 139

فالجواب أنّ التخصيص بالذكر لا يدلّ على نفي ما عداه. ثمّ إنّ كلّ من كفر صادّ لغيره من بعده لأنّ المستضعف بمتابعته أثبت لمتبوعه بالمنعيّة من اتّباع الرسول لأنّه بعد ما يكون متبوعا يشقّ عليه بأن يصير تابعا على أنّ كلّ من كفر صار صادّا لأنّ عادة الناس اتّباع المتقدّم كما قال سبحانه عنهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» فعلى هذا كلّ كافر صادّ.

فإن قيل: فما الفائدة حينئذ من ذكر الصدّ في الآية بعد الكفر؟

فالجواب أنّه من باب ذكر المسبّب عليه كقولك: أكلت كثيرا و شبعت.

و الكفر سبب الصدّ و في المصدود عنه وجوه: الأوّل عن الإيمان. الثاني عن الإنفاق على محمّد و أصحابه. الثالث الاتّباع عن دينه و قد ذكرناها في صدر تفسير الآية.

و في الإضلال في أعمالهم أيضا وجوه:

الاول: الإبطال أي يوازن بسيّئاتهم الحسنات الّتي صدرت منهم و يسقطها بالموازنة في الدنيا و يبقى لهم سيّئات محضة لأنّ الكفر يزيد على غير الإيمان من الحسنات و الإيمان تترجّح على غير الكفر من السيّئات.

الثاني: أنّ الإبطال بسبب فقد شرط ثبوتها؛ لأنّ الإيمان شرط قبول العمل للآخرة قال اللّه: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ»* (1) و إذا لم يقبل اللّه العمل لا يكون له وجود لأنّها أعراض لا بقاء له في نفسه بل يعدم عقيب ما يوجد في الحقيقة غير أنّ اللّه يكتب عنده بفضله إنّ فلانا عمل صالحا و عندي جزاؤه فيبقى حكما و هذا البقاء الحكميّ خير من البقاء الذمّي للأجسام الّتي هي محلّ الأعمال حقيقة فإنّ الأجسام و إن بقيت غير أنّ مآلها إلى الفناء و العمل الصالح من الباقيات عند اللّه أبدا فتبيّن أنّ اللّه بالقبول متفضّل و قد أخبر سبحانه أنّي لا أقبل إلّا من مؤمن فحينئذ من عمل و تعب من غير سبق إلى الإيمان فهو المضيّع تعبه لا اللّه تعالى.

الثالث: أنّ الكافر لم يعمل عمله لوجه اللّه خاصّة فلم يأت بخير «وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ

ص: 140


1- النحل: 97.

ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» و الكافر لم يعمل الخير فكيف يره؟ انتهى.

قوله: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي الّذين صدّقوا بتوحيد اللّه و أضافوا إلى الإيمان الأعمال الصالحة و آمنوا و قبلوا بما نزّل على محمّد من القرآن و العبادات و خصّ الإيمان بمحمّد في الذكر مع دخوله في الأوّل تشريفا و تعظيما له صلّى اللّه عليه و آله و لئلّا يقول أهل الكتاب: نحن آمنّا باللّه و بأنبيائنا و كتبنا.

و قوله: «وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» أي ما نزل على محمّد هو الحقّ من ربّهم لأنّه ناسخ للشرائع و الناسخ هو الحقّ، و قيل: إنّ الضمير راجع إلى محمّد أي محمّد الحقّ من ربّهم دون ما يزعمون من أنّه سيخرج في آخر الزمان نبيّ من العرب و ليس هذا هو فردّ اللّه سبحانه ذلك القول عليهم بذكر اسمه.

[كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي سترها عنهم بأن غفرها لهم السيّئات المتقدّمة بإيمانهم [وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ أي أصلح حالهم في معاشهم و معادهم بأن نصرهم على أعدائهم في الدنيا و يدخلهم الجنّة في العقبى.

ثمّ بيّن سبحانه إنّما قسّم هذا القسمين فقال: [ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي ذلك الضلال و الإصلاح بسبب اتّباع الكافرين الكفر و عبادة الشيطان و الباطل و بسبب اتّباع المؤمنين التوحيد و القرآن و ما أمر اللّه باتّباعه.

[كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي كالبيان الّذي ذكرنا يبيّن اللّه للناس أمثال حسنات المؤمنين و سيّئات الكافرين و قوله: ضربت لك مثلا أي بيّنت لك ضربا من الأمثال و أضاف المثل إلى الناس لأنّه مجعول ليعتبروا.

ثمّ أمر سبحانه بقتال الكفّار فقال: [فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فإذا لقيتم معاشر المؤمنين الّذين كفروا في دار الحرب. و وجه تعلّق الفاء بما قبله في قوله: «فَإِذا» لأنّه لمّا بيّن سبحانه بأنّ الّذين كفروا أضلّ اللّه أعمالهم و معلوم أنّ اعتبار الإنسان بالعمل و من لم يكن له عمل فهو همج فإن صار مع ذلك يؤذي و يفسد

ص: 141

حسن إعدامه بل وجب.

فإذا لقيتم الّذين ظهر منهم هذه الصفة فاضربوا أعناقهم، و حذف الفعل و أنيب المصدر منا به مضافا إلى المفعول و نسبة الضرب إلى الرقاب لأنّ أكثر مواضع القتل ضرب العنق و إن كان يجوز الضرب في سائر المواضع و المقصود دفعهم عن وجه الأرض و تطهّر الأرض من رجسهم لأنّ الأرض جعلها اللّه لامّة محمّد مسجدا و المشركون نجس و المسجد يطهّر من النجاسة.

[حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ و حتّى لبيان غاية الأمر لا لبيان غاية القتل أي وجوب القتل متعيّن إلى حدّ الإثخان لكنّ الجواز في القتل باق و لو كانت حتّى لبيان القتل لما جاز القتل بعد الإثخان و الحالة أنّ القتل جائز أيضا بعده و المعنى إذا أثقلتموهم بالجراح و ظفرتم بهم و بالغتم في قتلهم حتّى ضعفوا [فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي احملوا الوثاق و الوثاق بالفتح و الكسر اسم ما يوثق به أي فأسروهم و أحكموا وثاقهم و ليكن الأسر بعد المبالغة في القتل و الإثخان فيهم ليذلّوا و لا يكون الأسر إلّا بعد القتل كما قال سبحانه:

«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» (1).

فبعد القتل و الأسر [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً] أي إمّا أن تمنّوا عليهم منّا فتطلقوهم بغير عوض و إمّا تفدوهم فداء و تأخذون فداء و عوضا و المراد التخيّر للإمام بعد الأسر بين المنّ أي الإطلاق و بين أخذ الفداء و العوض.

في الكافي و التهذيب عن الصادق عليه السّلام قال: كان أبي يقول: إنّ للحرب حكمين و هو أنّه إذا كانت الحرب قائمة و لم تضع أوزارها و أثقالها كالسلاح و الكراع و لم يثخن أهلها فكلّ أسير أخذ في تلك الحال فانّ الإمام فيه بالخيار إن شاء ضرب عنقه و إن شاء قطع يده و رجله من خلاف و تركه يتشحّط في دمه حتّى يموت و هو قول اللّه: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ الآية». قال عليه السّلام: و الحكم الآخر و هو بعد أن وضع الحرب أوزارها و بعد أن أثخن أهلها فكلّ أسير أخذ على تلك الحال و وقع في أيديهم فالإمام فيه مخيّر إن شاء منّ عليهم بالإطلاق فأرسلهم و إن شاء فاداهم أنفسهم و إن شاء استعبدهم فصاروا

ص: 142


1- الأنفال: 67.

عبيدا فإذا أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك و كان حكمهم حكم المسلمين.

قوله: [حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها] و في تعلّق «حَتَّى» وجهان: أحدهما تعلّقها بالقتل أي اقتلوهم حتّى تضع أهل الحرب أسلحتهم فلا يقاتلون و قيل: المعنى حتّى لا يبقى أحد من المشركين و قيل: حتّى لا يبقى دين غير دين الإسلام و قيل: أي حتّى تضع حربكم و قتالكم أو زار المشركين و قبائح أعمالهم بأن يسلموا و لا تبقى إلّا الإسلام و لا يعبد الأصنام و هذا كما جاء في الحديث و الجهاد ماض مذ بعثني اللّه إلى أن يقاتل آخر أمّتي الدجّال قال الفرّاء: المعنى حتّى لا يبقى إلّا مسلم أو مسالم قال الزجّاج: المعنى اقتلوهم و أسروهم حتّى يؤمنوا فما دام الكفر الحرب قائمة أبدا.

[ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي الأمر و الواجب ذلك الّذي ذكرناه و لا يريد سبحانه غير هذا الترتيب و لو أراد لفعل من خسف أو غرق و لكن أمركم بالقتال للامتحان.

قوله تعالى: [لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي هذه الأحكام ليمتحن بعضكم ببعض فيظهر المطيع عن العاصي و المعنى أنّه لو كان الغرض زوال الكفر فقط لأهلك اللّه سبحانه الكفّار بما يشاء من أنواع الهلاك و لكن أراد مع ذلك أن تستحقّوا الثواب و ذلك لا يحصل إلّا بالتعبّد و تحمّل المشاقّ.

[وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي الّذين قتلوا في الجهاد من المسلمين، و قرئ قاتلوا فالمعنى جاهدوا سواء قتلوا أولم يقتلوا [فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ أي لن يضيّع اللّه أعمالهم بل يقبلها و يجازيهم عليها ثوابا دائما و القتل ليس بإهلاك بالنسبة إلى المؤمن بل يورث الحياة الأبديّة و بتقدير أن يقتل أو يقتل فهو مكرم بخلاف الكافر.

[سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ يهتدون إلى طريق الجنّة و الثواب و يصلح حالهم و شأنهم و الوجه في تكرير قوله: «بالَهُمْ» أنّ المراد بالأوّل أنّه أصلح بالهم في الدين و الدنيا و بالثاني المراد نعيم العقبى فالأوّل سبب النعيم و الثاني نفس النعيم.

قوله: [وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ أي بيّنها لهم حتّى عرفوها إذا دخلوها و تفرّقوا إلى منازلهم فكانوا أعرف بها من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم و قيل: معناه

ص: 143

بيّنها اللّه لهم و أعلمهم بوصفها على ما يشوّق إليها فيرغبون فيها و يسمعون لها. و قيل: معناه من العرف و هو العطر و الرائحة الطيّبة أي طيبت الجنّة لهم بالعطر.

روي أنّ الملك الّذي و كلّ بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرّفه كلّ شي ء أعطاه اللّه و فيه وجه آخر و هو أن يقال: عرّفها لهم قبل موت الشهيد فإنّ الشهيد قبل وفاته يعرض عليه منزلته في الجنّة فيشتاق إليه و ذكر وجوه أخر لا حاجة إلى الإطالة.

ثمّ لمّا بيّن ثواب المجاهدين وعدهم بالنصر في الدنيا فقال:

[سورة محمد (47): آية 7]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)

. أي إن تنصروا دين اللّه و طريقه و حزبه و فريقه و تنصروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ينصركم على عدوّكم و يشجّعكم و يقوّي قلوبكم لتثبتوا أو ينصركم في الآخرة و يثبت أقدامكم على الصراط و عند الحساب أو يثبت أقدامكم في الدارين و هو الوجه قال بعض العلماء حقّ على اللّه أن ينصر من نصره و أن يزيد من شكره لقوله: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» و أن يذكر من ذكره كقوله: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» و أن يفي بعهد من أقام على عهده لقوله:

«وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ».

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 8 الى 10]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً] و مكروها لهم و سوء، يريد في الدنيا القتل و في الآخرة التردّي في النار و المعنى أتعس الّذين كفروا و اقضي بهم بالتعس يريد أنّ العثور و الانحطاط لهم لا الانتعاش و الثبوت [وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ مرّ معناه.

[ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على نبيّه أي ذلك التعس بسبب أنّهم كرهوا القرآن و ما أنزل اللّه فيه من التكاليف و الأحكام لأنّهم ألغوا الإهمال و إطلاق العنان في الشهوات و الملاذّ فشقّ عليهم ذلك و خالفوا ذلك و قال أبو جعفر عليه السّلام: كرهوا ما أنزل اللّه في حقّ عليّ فكشطوا اسم عليّ [فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ لأنّها لم يقع على الوجه المأمور به و لمّا أعرضوا عن القرآن لا جرم لم يعرفوا العمل الصالح و كيفيّة الإتيان به فأتوا بالباطل و

ص: 144

أشركوا و الشرك محبط للعمل قال: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (1) و كلّ ما سوى وجه اللّه هالك محبط.

ثمّ نبّههم على الاستدلال على صحّة ما دعاهم إليه من التوحيد فقال: [أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حين أرسل اللّه إليهم الرسل فلم يقبلوا منهم و عصوهم أي هلّا ساروا و راعوا عواقب أولئك [دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي أهلكهم.

ثمّ قال: [وَ لِلْكافِرِينَ بك يا محمّد [أَمْثالُها] من العذاب إن لم يؤمنوا أي إنّهم يستحقّون أمثالها و إنّما يؤخّر اللّه عذابهم تفضّلا منه.

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 11 الى 15]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)

و المعنى [ذلِكَ الّذي فعلنا في الفريقين [بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا] به و يتولّى نصرهم و حفظهم و يدفع عنهم [وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ينصرهم و لا أحد يدفع عنهم العذاب و المولى في هذه الآية بمعنى الناصر و في قوله: «وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» معناه الربّ فلا تناقض.

روي أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان في الشعب يوم أحد و قد فشت في المسلمين الجراحات و فيه نزلت «وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» فنادى المشركون: اعل هبل فنادى المسلمون: اللّه أعلى و أجلّ، فنادى المشركون: يوم بيوم و الحرب سجال «إنّ لنا عزّى و لا عزّى لكم» فقال

ص: 145


1- القصص: 72.

رسول اللّه: قولوا: «اللّه مولانا و لا مولى لكم» إنّ القتلى مختلفة فقتلانا أحياء يرزقون و أمّا قتلاكم إلى النار يعذّبون.

ثمّ ذكر سبحانه حال الفريقين فقال: [إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] أي من تحت أشجارها و أبنيتها [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي الكفّار يتمتّعون من الدينا و لذّاتها و يأكلون مثل ما تأكل الأنعام أي كما أنّ الأنعام همّها الأكل لا غير كذلك الكافر و لا تستلذّ الأنعام بالمأكول على خالقها كذلك الكافر لكنّ المؤمن في الدنيا مسجون و لا يتمتّع من لذائذها بل يأكل ليعمل صالحا و يقوى عليه و ما أعدّ اللّه له في الجنّة من الطيّبات ذلك الّذي ينبغي أن يقال: يتمتّع و يستلذّ منه فنعمة الدنيا بالنسبة إلى المؤمن كنسبة غيظة و أجمة (1) فيها من بعض الثمار العفصة و المياه الكدرة و فيها سباع و حشرات و مؤذيات كثيرة فالمؤمن لا يتمتّع منها و حاله في الدنيا حال مسجون في بئر مظلمة بخلاف الكافر فإنّ متاع الدنيا للكافر بالنسبة إلى ما يصله من العذاب في الآخرة نهاية اللذّة و إنّ متاعها بالنسبة إلى عذاب الآخرة جنّة عدن كما قال سبحانه: «وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» أي مقرّ و مقام لهم.

قوله: [وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: و كثير من أهل القرى الّذين هم كانوا أشدّ من أهل مكّة أهلكناهم كذلك نفعل بأهل قريتك، فاصبر كما صبر رسلهم. و قوله: «فَلا ناصِرَ لَهُمْ». فلو قيل:

إنّ الإهلاك كان سابقا و ماض و كلمة «ناصِرَ» للحال و الاستقبال؟ قال الزمخشريّ: إنّه محمول على الحكاية و الحكاية كالحال و يمكن أن يكون المعنى لا ناصر لهم من عذاب الّذي يعذّبون.

ثمّ قال سبحانه على وجه التوبيخ للكفّار و المنافقين: [أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ و يقين على دينه و على حجّة واضحة في اعتقاده من التوحيد و الشرائع [كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ زيّن الشيطان المعاصي و أغواه [وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ و شهواتهم و ما تدعوهم إليه طباعهم ر.

ص: 146


1- مجتمع الشجر.

و هو وصف كمن زيّن له سوء عمله و هم المشركون و المنافقون و قيل: المراد هم المنافقون عن أبي جعفر عليه السّلام.

ثمّ وصف الجنّات الموعودة بها للمؤمنين بقوله:

[مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي غير متغيّر طعمه لطول المكث كما تتغيّر مياه الدنيا [وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ فهو غير حامض و لا يعتريه شي ء من العوارض الّتي تصيب الألوان و الأشربة في الدنيا.

[وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ يلتذّون بشربها و لا يتعاقبون من شربها بصداع و نحوه بخلاف خمر الدنيا و كذلك [أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى خالص من الشمع و الرغوة و من جميع العيوب الّتي تكون لعسل الدنيا.

[وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي ممّا يعرفون اسمها و ممّا لا يعرفون اسمها مبرّاة من كلّ مكروه يكون لثمرات الدنيا [وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ و هو أنّه يستر ذنوبهم و ينسيهم سيّئاتهم حتّى لا يتنقّص عليهم نعيم الجنّة.

أي أ فمن كان على بيّنة من ربّه [كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ قوله: «كَمَنْ» يتعلّق بقوله «مَثَلُ الْجَنَّةِ» الموصوفة الإقامة كمقام من هو خالد و مقيم و مؤبّد في النار فوقعت المقابلة في الكلام بين من يكون على بيّنة من ربّه و بين من زيّن له سوء عمله و بين من في الجنّة الموصوفة و بين من هو خالد في النار سقوا و بين المقابلة بين اللّبن و الأنهار من الخمر و العسل و بين سقاية الماء الحميم المفيور في جهنّم، فوقعت المقابلة في طرفي التضادّ و التباعد. قوله: «فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» بسبب شدّة الحرارة أو بسبب آخر كالسمومة و غيرها.

و تأمّل كيف سبحانه وصف بعض نعيم الجنّة الّتي اعدّت للمتّقين فاختار الأنهار من الأجناس الأربعة بمشروبهم و ذلك لأنّ المشروب إمّا أن يشرب لطعمه و إمّا لأمر عائد إلى الطعم فإن كان الشرب للطعم فالطعوم تسعة في الدنيا: المرّ و المالح و الحريف و الحامض و العفص و الغابض و التفه و الحلو و الدسم و من المعلوم أنّ ألذّ الطعوم المذكورة الحلو و الدسم و أحلى الأشياء في الحلاوة العسل فذكر سبحانه العسل و كذلك أدسم

ص: 147

الأشياء الدهن لكنّ الدسومة إذا تمحّضت لا يطيب للأكل و لا للشرب فإنّ الدهن لا يشرب في الغالب لكنّ الدسومة الكائنة في غيرها طيّب للأكل و الشرب فذكره اللّه تعالى «وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ» و أمّا ما يشرب لا لأمر عائد إلى الطعم فالماء و الخمر، فهو الماء و الخمر فإنّ الخمر فيها أمر يشربها الشارب لأجل ذلك الأمر لا للطعم و هي كريهة الطعم فعرى سبحانه إيّاها عن صفات النقص بقوله: «غَيْرِ آسِنٍ» و بقوله: «لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» و كذلك العسل بقوله: «مُصَفًّى».

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 16 الى 20]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ (19) وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20)

القميّ: إنّ الآيات نزلت في المنافقين من أصحاب الرسول و من كان إذا سمع شيئا لم يكن يؤمن به و لم يعه فإذا خرج قال للمؤمنين: ماذا قال محمّد؟ و قال صاحب المجمع:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّا كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا و من يعيه فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفا يعني الساعة.

و إفراد الضمير باعتبار لفظ «مَنْ» كما أنّ جمعه فيما سيأتي باعتبار معناها و كانوا يقولون على سبيل الاستهزاء و إن كان كلامهم بصورة الاستفهام و أنف الشي ء لما تقدّم معه مستعار عن الجارحة و هو ظرف بمعنى وقتا و مؤتنفا.

[قالُوا ... ما ذا قالَ آنِفاً] و قالوا: تحقيرا لقوله صلّى اللّه عليه و آله و يحتمل أن يكونوا سألوا رياء و نفاقا أي ماذا قال؟ أعده عليّ لأحفظه [أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ بسمة الكفّار أو المعنى خلّى بينهم و بين اختيارهم [وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ و شهوات أنفسهم و مالت إليه طباعهم.

ص: 148

ثمّ وصف سبحانه المؤمنين فقال: [وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا] بما سمعوا من الرسول أو من قراءة القرآن و النبيّ [زادَهُمْ اللّه [هُدىً أو أنّ فاعل «زاد» استهزاء المنافقين أي زاد المؤمنين استهزاء المنافقين إيمانا و علما و بصيرة و تصديقا للنبيّ [وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ أي وفّقهم للتقوى و قيل: المعنى و آتاهم ثواب تقواهم.

[فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ] أي الكافرون و المنافقون بعد أنّ البراهين قد صحّت و الأمور اتّضحت و هم لم يؤمنوا فليس ينتظرون إلّا إتيان الساعة [بَغْتَةً] و فجأة و المعنى إلّا إتيان الساعة إيّاهم بغتة [فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها] و علاماتها و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أشراطها قال صلّى اللّه عليه و آله: بعثت أنا و الساعة كهاتين و أعلام الساعة انشقاق القمر و الدخان و خروج النبيّ و نزول آخر الكتب، و الشرط بالتحريك العلامة و أصحاب الشرط سمّوا بذلك للبسهم لباسا يكون علامة لهم، و الشرط في البيع علامة بين المتبايعين.

قوله: [فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ أي فمن أين لهم الذكر و الاتّعاظ و التوبة إذا جاءتهم الساعة. و موضع ذكراهم رفع و الذكر بأمر اللّه أن يتذكّروا به، و حاصل المعنى و كيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الساعة؟ فإنّه لا ينفعهم في ذلك الإيمان لزوال التكليف عنهم. ثمّ قال لنبيّه و المراد به جميع المكلّفين:

[فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي اقسم على هذا العلم و اثبت عليه و اعلم في مستقبل عمرك ما تعلمه الآن و يدلّ عليه ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من مات و هو يعلم أنّه لا إله إلّا اللّه دخل الجنّة أورده المسلم في الصحيح، و قيل: إنّ هذا إخبار بموته صلّى اللّه عليه و آله و المراد فاعلم أنّ الحيّ الّذي لا يموت هو اللّه وحده. و قيل: إنّه كان ضيّق الصدر من أذى قومه فقيل له: فاعلم لا كاشف لذلك إلّا اللّه.

[وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ الخطاب له و المراد به الامّة و إنّما خوطبوا بذلك لتستنّ امّته بسنّته و المراد الانقطاع إلى اللّه فإنّ الاستغفار عبادة يستحقّ به الثواب و يمكن أن يكون المراد توفيق العمل الحسن و اجتناب العمل السيّئ لأنّ الاستغفار طلب الغفران و الغفران هو الستر عن القبيح و من عصم فقد ستر عليه قبائح الهوى و معنى طلب الغفران أن لا تفضحنا و ذلك قد يكون بالعصمة منه فلا يقع فيه و استغفاره من هذا القبيل و لطلب

ص: 149

هذا العنوان و قد يكون بالستر عليه بعد الوجود كما هو في حقّ المؤمنين كأنّه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة أحوال مع اللّه و حال مع نفسه و حال مع غيره، فأمّا مع اللّه فوحّده و أمّا مع نفسك فاطلب العصمة و بقاءها و أمّا مع المؤمنين فاستغفر لهم من اللّه.

قوله: [وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ أكرمهم اللّه بهذا إذ أمر نبيّه أن يستغفر لذنوبهم و هو الشفيع المجاب فيهم [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ فعلم سبحانه حالكم في الدنيا و في الآخرة و يعلم منصرفاتكم في الدنيا و مصيركم في الآخرة إلى الجنّة أو إلى النار.

و قيل: يعلم متقلّبكم أي في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات و مثواكم أي مقامكم في الأرض أو المعنى متصرّفاتكم بالنهار و مضجعكم باللّيل و الحاصل أنّه عالم بجميع أحوالكم و قيل: المراد أنّ اللّه يعلم متقلّبكم في معائشكم و متاجركم و يعلم حيث تستقرّون في منازلكم في الدنيا و الآخرة و مثواكم في الجنّة أو إلى النار، و مثله حقيق بأن يخشى و يتّقى منه و إن يستغفر و يسترحم له فلا يأمركم إلّا بما هو خير لكم فيها فبادروا إلى الامتثال بما أمركم به فإنّه المهمّ لكم في المقامين.

مستدرك و تذييل في بعض أشراط الساعة ذكره الفيض في الصافي، من كتاب الخصال عن الصادق عليه السّلام قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الساعة قال: عند إيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر.

و في العلل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أجوبة مسائل عبد اللّه بن سلام أمّا أشراط الساعة فنار يحشر الناس من المشرق إلى المغرب.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من أشراط الساعة أن يفشو الفالج و موت الفجاءة.

و في روضة الواعظين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم و يظهر الجهل و يشرب الخمر و يفشو الزنا و يقلّ الرجال و تكثر النساء حتّى أنّ الخمسين امرأة فيهنّ واحد من الرجال.

و القميّ عن ابن عبّاس قال: حججنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حجّة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال: ألا أخبركم بأشراط الساعة فكان أدنى الناس منه

ص: 150

منه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ سلمان رحمة اللّه عليه فقال: بلى يا رسول اللّه فقال: إنّ من أشراط القيامة إضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات و الميل مع الأهواء و تعظيم أصحاب المال و بيع الدين بالدنيا فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره.

قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يتولاهم أمراء جورة و وزراء فسقة و عرفاء ظلمة و أمناء خونة.

فقال سلمان: و إنّ هذا لكائن؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يكون المنكر معروفا و المعروف منكرا يؤتمن الخائن و يخون الأمين و يصدّق الكاذب و يكذّب الصادق.

قال سلمان: و إنّ هذا لكائن؟ قال: إي ثمّ عندها تكون إمارة النساء و مشاورة الإماء و قعود الصبيان على المنابر و يكون الكذب طرفا و الزكاة مغرما و الفي ء مغنما و يجفو الرجل والديه و يبرّ صديقه و يطلع الكواكب المذنّبة.

قال سلمان: و إنّ هذا لكائن؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: إي و ربّي و عندها يا سلمان تشارك المرأة زوجها في التجارة و يكون المطر غيضا و يحتكر الرجل المعسر فعندها تكسد الأسواق إذ قال هذا لم أبع شيئا و قال هذا لم أربح شيئا فلا ترى إلّا ذامّا للّه.

قال سلمان: و إنّ هذا لكائن؟ قال: إي فعندها يتولاهم أقوام إن تكلّموا قتلوهم و إن سكتوا استباحوهم ليستأثروا بفيئهم و ليطؤوا حرمتهم و ليسفكنّ دمائهم و ليملئنّ قلوبهم رعبا فلا تراهم إلّا خائفين مرعوبين مرهوبين يا سلمان إنّ عندها فالويل لضعفاء امّتي منهم و الويل لهم من اللّه لا يرحمون صغيرا و لا كبيرا و لا يوقّرون كبيرا و لا يتجافون عن مسي ء، جثثهم جثث الآدميّين و قلوبهم قلوب الشياطين و عندها يكتفي الرجال بالرجال و النساء بالنساء و يغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها و يشبه الرجال بالنساء و النساء بالرجال و تركب ذوات الفروج على السروج فعليهنّ من أمّتي لعنة اللّه يا سلمان عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع و الكنائس و تحلّى المصاحف

ص: 151

و تطول المنارات و تكثر الصفوف، قلوب متباغضه و ألسن متوافقة و عندها تحلّي ذكور أمّتي بالذهب و يلبسون الحرير و الديباج و يتّخذون جلود النمور.

قال سلمان: و إنّ هذا لكائن؟ قال: إي و الّذي نفسي بيده و عندها يظهر الرباء و يتعاملون بالرشا و يوضع الدّين و ترفع الدنيا و يكثر الطلاق فلا يقام للّه حدّ و لن يضرّوا اللّه شيئا و عنده يظهر القينات و المعازف و يتولّاهم أشرار أمّتي و تحجّ أغنياء أمّتي للنزهة و تحجّ أوساطها للتجارة و فقراؤهم للرياء و السمعة فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير اللّه و يتّخذونه مزامير و يكون أقوام يتفقّهون لغير اللّه و يكثر أولاد الزنا و يتفنّون بالقرآن و يتهافتون بالدنيا يا سلمان ذاك إذا انتهك المحارم و اكتسب المآثم و سلّط الأشرار على الأخيار يفشو الكذب و يظهر الحاجة و الفاقة و يتباهون في اللباس و يمطرون في غير أوان المطر و يستحسنون الكوبة و المعازف و ينكرون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حتّى يكون المؤمن في ذلك الزمان أضلّ من الأمة و يظهر قرّاؤهم و عبّادهم فيما بينهم التلاوة فأولئك يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس فعندها لا يجود الغنيّ على الفقير حتّى أنّ السائل يسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفّه شيئا فعندها يتكلّم الروبيضة فقال سلمان: و ما الروبيضة يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله يتكلّم في امور العامّة من لم يكن يتكلّم فلم يلبثوا إلّا قليلا حتّى تخور الأرض خورة فلا يظنّ كلّ قوم إلّا أنّها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء اللّه ثمّ ينكثون في مكثهم يلقي بهم الأرض أفلاذ كبدها ذهبا و فضّة ثمّ أومأ بيده صلّى اللّه عليه و آله إلى الأساطين فقال: هذا، فيومئذ لا ينفع ذهب و لا فضّة فهذا معنى قوله: «فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها» انتهى.

قوله تعالى: [وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ] أي هلّا نزّلت لأنّهم كانوا يأنسون بنزول القرآن و يستوحشون لإبطائه ليعلموا أوامر اللّه [فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ] ليس فيها متشابه و لا تأويل و قيل: المعنى سورة ناسخة لما قبلها قال قتادة: كلّ سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة و هي أشدّ القرآن على المنافقين و قيل: المراد من المحكمة المقرونة بالوعيد المؤكّد كقوله: «إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» و قيل: محكمة الوضوح ألفاظها و على هذا فالقرآن كلّه محكم و قيل: المحكمة هي الّتي تتضمّن نصّا لم يختلف تأويله و لم

ص: 152

يتعقّبه نصّ و في قراءة ابن مسعود سورة محدثة أي مجدّدة.

[وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي و أوجب عليهم فيها أي في السورة القتال و أمروا به [رَأَيْتَ يا محمّد [الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ و شكّ و نفاق [يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ يريد أنّهم يشخصون نحوك بأبصارهم و ينظرون إليك نظرا شديدا كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت لثقل ذلك عليهم و عظمه في نفوسهم [فَأَوْلى لَهُمْ هذا الكلام تهديد و وعيد قال الأصمعيّ: معنى هذا الكلام أي ولّاك و قارنك ما تكره، قتادة: أي العقاب و الوعيد لهم و على هذا فأولى اسم للتهديد و الوعيد فأولى لهم مبتدء و خبر و لا ينصرف «أولى» لأنّه على وزن الفعل و صار اسما للوعيد و قيل: المعنى أولى لهم طاعة للّه و لرسوله و قول معروف بالإجابة أحسن فحينئذ يكون المعنى لو أطاعوا فأجابوا كانت الطاعة و الإجابة أولى لهم و هذا المعنى قول ابن عبّاس في رواية عطا، و اختار الكسائيّ هذا القول فعلى هذا المعنى طاعة و قول معروف متّصل بما قبله و على القول الأوّل يكون طاعة و قول معروف مبتدأ محذوف الخبر تقديره طاعة و قول معروف أحسن و أمثل أو خبر مبتدء محذوف و تقديره أمرنا طاعة و قول معروف.

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 21 الى 25]

طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ (25)

المعنى في قوله: «طاعَةٌ وَ قَوْلٌ» فذكر المعنيان [فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ] و جوابه محذوف تقديره فإذا عزم و وجب الأمر تخلّفوا و خالفوا كأنّه يقولون في أوّل الأمر سمعا و طاعة و عند آخر الأمر خالفوا و نسب العزم إلى الأمر و المراد لصاحب الأمر [فَلَوْ صَدَقُوا] أي لو صدقوا اللّه فيما أمرهم به و امتثلوا أمره [لَكانَ خَيْراً لَهُمْ و على كون المعنى في قوله:

«طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ» خير لهم و أحسن فمعنى قوله: «فَلَوْ صَدَقُوا» في إيمانهم و اتّباعهم الرسول «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ».

ص: 153

ثمّ قال تعالى: [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ الاستفهام للتقرير المؤكّد لأنّ الكفّار كانوا يقولون كيف نقاتل و القتل إفساد و العرب ذوو أرحامنا و قبائلنا فقال تعالى: «إِنْ تَوَلَّيْتُمْ» لا يقع منكم إلّا الفساد في الأرض فإنّكم تقتلون من يقدرون عليه و تنهبونه و القتال واقع منكم أليس قتلكم و وأدكم البنات إفسادا و قطعا للرحم فلا يصحّ تعلّلكم بالجهاد بقولكم: القتل إفساد لأنّكم تقتلون و تنهون مع أنّه خلاف ما أمر اللّه و الجهاد مع أنّه طاعة و معروف من اللّه فكيف تنكرونه؟

في الكافي و القميّ عن عليّ عليه السّلام أنّها نزلت في بني اميّة.

قال الزمخشريّ: معنى «فَهَلْ عَسَيْتُمْ» الآية، هل يتوقّع منكم الا الفساد؟ لأنّكم اختبرتم. و قيل: المعنى إن أعرضتم و تولّيتم و أدبرتم عن دين رسول اللّه أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهليّة من التناهب و المقاتلة و قطع الأرحام.

و في قراءة عليّ أمير المؤمنين إن تولّيتم على المجهول أن تولّاكم ولاة غشمة ظلمة خرجتم معهم و مشيتم تحت لوائهم و أفسدتم بإفسادهم.

[أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إشارة إلى المذكورين المخاطبين لعنهم اللّه و أبعدهم من رحمته لإفسادهم و خذلهم حتّى صمّوا عن استماع الموعظة [وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ عن إبصار طريق الهدى.

[أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ و يتفكّرون فيه فيعتبروا به و يقضوا ما عليهم من الحقّ عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن [أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها] و تنكير القلوب إرادة قلوب هؤلاء و من كان مثلهم من غيرهم مثل قلوب المنافقين الّتي انقلعت عن الهدى و الإيمان فلا تنفتح و قرئ إقفالها بصيغة المصدر و المراد أنّ بعض القلوب بسبب عدم تدبّرها و قبولها لا يصل إليها ذكر و لا ينكشف لها أمورا لهداية.

قوله: [إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي رجعوا عن الحقّ و الإيمان [مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى و ظهر لهم طريق الحقّ و هم المنافقون عن ابن عبّاس و الضحّاك و جماعة كانوا يؤمنون عند النبيّ ثمّ يظهرون الكفر فيما بينهم فتلك ردّة و قيل: هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و قد عرفوا نعته و وجدوه مكتوبا في التوراة و الإنجيل

ص: 154

في الكافي عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: الّذين ارتدّوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين قال: و اللّه نزلت فيهم و في أتباعهم.

[الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ أي زيّن و سهّل لهم عملهم و خطاياهم أو دعاهم إلى ما يوافق مرادهم و هواهم، و أملى لهم أي طوّل لهم أملهم و أوهم الأمن في المكاره و أبعد لهم في الأمل و الامنيّة.

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 26 الى 30]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)

ثمّ بيّن سبحانه سبب استيلاء الشيطان عليهم فقال:

[ذلِكَ أي ذلك التسويل و الإملاء بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ولاية عليّ: [ما نَزَّلَ اللَّهُ من القرآن و ما فيه من الأمر و النهي و الأحكام و منعتهم الرياسة عن اتّباع محمّد و القرآن و المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهم بنو اميّة كرهوا ما نزّل اللّه في ولاية عليّ بن أبي طالب قوله: [سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ] سنطيعكم في التظاهر على عداوة رسول اللّه أو في ترك ولاية عليّ و القعود عن الجهاد [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ أي ما أسرّه بعضهم إلى بعض من القول و ما أسرّوه من الاعتقاد في أنفسهم.

[فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ] أي كيف حالهم إذا قبضت الملائكة أرواحهم و إنّما حذف تفخيما لشأن ما ينزل بهم في ذلك الوقت من عظم العذاب و الشدّة [يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ على وجه العقوبة لهم.

ثمّ ذكر السبب فقال: [ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من المعاصي الّتي يكرهها اللّه و يعاقب عليها [وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ أي سبب رضوانه و هو الإيمان و طاعة الرسول [فَأَحْبَطَ

ص: 155

اللَّهُ أَعْمالَهُمْ الّتي كانوا يعملونها من البرّ و الصدقات و غيرها لأنّها في غير إيمان و لا فائدة فيها.

ثمّ قال: [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أي لا يبيّن اللّه أحقادهم على المؤمنين و لا يبدي معائبهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

[وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بأعيانهم يا محمّد حتّى تعرفهم بعلاماتهم و أشخاصهم لكي تعرفهم بها [وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي و تعرفهم الآن في فحوى كلامهم لأنّ كلام الإنسان يدلّ على ما في ضميره.

و عن أبي سعيد الخدريّ قال: لحن القول بغضهم عليّا. قال: و كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ببغضهم عليّ بن أبي طالب و روي مثل ذلك عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ و عن عبادة بن الصامت قال: كنّا نبور أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب فإذا رأينا أحدهم لا يحبّ عليّا علمنا أنّه لغير رشد.

و قال أنس: ما خفي منافق على عهد رسول اللّه بعد هذه الآية.

[وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ظاهرها و باطنها و الفرق بين اللامين في قوله: «فَلَعَرَفْتَهُمْ» أنّ الاولى جواب «لَوْ» مثل الّتي في لأريناكهم و اللام الثانية فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف.

و معنى اللحن أن تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبه مثل التورية و التعريض و بعض مفادات الكلام قال الشاعر:

و لقد لحنت لكم لكيما تفقهواو اللحن يعرفه ذوو الألباب

و يقال للمخطئ لاحن لأجل أنّه يعدل بالكلام عن الصواب.

قوله: [سورة محمد (47): الآيات 31 الى 35]

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)

ص: 156

ثمّ أقسم سبحانه فقال:

[وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نعاملكم معاملة المختبر بما نكلّفكم من الأمور الشاقّة [حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ أي نتميّز المجاهدين في سبيل اللّه من جملتكم و الصابرين على الجهاد و قيل: المعنى حتّى يعلم أولياؤنا المجاهدين منكم. و أضاف العلم إلى نفسه تعظيما لهم كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» أي يؤذون أولياء اللّه و قيل: المعنى حتّى نعلم جهادكم موجودا لأنّ الغرض أن تفعلوا الجهاد فيثيبكم على ذلك [وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي نختبر أسراركم بما يستقبلونه من أفعالكم.

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي امتنعوا عن اتّباع دين اللّه و منعوا غيرهم عن اتّباعه تارة و بالإغواء اخرى قيل: المراد هم أهل الكتاب قريضة و النضير و قيل:

المراد كفّار قريش يدلّ على القول الأوّل قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى قوله: «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى تبيّن لهم صدق محمّد و هو نعته صلّى اللّه عليه و آله في التوراة [وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ أي خالفوه و عاندوه و عادوه [مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى أي بعد ما عرفوا أنّه رسول اللّه [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بذلك شَيْئاً] و إنّما ضرّوا أنفسهم [وَ سَيُحْبِطُ اللّه أَعْمالَهُمْ فلا يرون لها ثوابا في الآخرة.

و في هذه الآية دلالة على أنّ هؤلاء الكفّار كانوا قد تبيّن لهم الهدى فارتدّوا عنه و لم يقبلوه عنادا و هم المنافقون و قيل: المراد رؤساء الضلالة جحدوا الهدى طلبا للجاه و الرياسة لأنّ العناد يضاف إلى الخواصّ.

فإن قيل: إنّ في أوّل السورة قال سبحانه: «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» بصيغة الماضي فكيف قال: يحبط أعمالهم في المستقبل؟

فالجواب أنّ المراد من قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» في أوّل السورة المراد المشركون و هم من أوّل الأمر كانوا مبطلين و كانت أعمالهم على غير شريعة و المراد من الّذين كفروا في هذه الآية أهل الكتاب و كانت لهم أعمال قبل الرسول فأحبطها بسبب تكذيبهم الرسول و لا ينفعهم إيمانهم و يجوز أن يكون المراد من الأعمال في هذه الآية

ص: 157

الأخيرة مكايدهم في القتال و ذلك قد تحقّق منهم و اللّه سيبطله حيث يكون النصر للمؤمنين.

قوله تعالى: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ إشارة إلى حصول العمل بعد حصول العلم، و دوموا على الإطاعة و العمل و لا تشركوا فتبطل أعمالكم أو المعنى لا تتركوا طاعة الرسول فيبطل أعمالكم كما أبطل أهل الكتاب بسبب عدم طاعتهم للرسول و تكذيبهم إيّاه و يؤيّد المعنى الثاني قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» و قيل: المراد أن تبطلوا أعمالكم بالرياء و قيل:

المراد بالكبائر.

قوله: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «إِنَّ الَّذِينَ» مرّ تفسيره «ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ» أي صبروا على الكفر حتّى ماتوا على كفرهم «فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» أبدا لأنّ لفظ «لن» للتأييد.

[فَلا تَهِنُوا] أي لا تتولّوا و لا تضعفوا عن القتال [وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أي و لا تدعوا الكفّار إلى المسالمة و المصالحة [وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي و أنتم القاهرون الغالبون و قيل:

إنّ الواو للحال أي إذا كنتم غالبين و تكون الغلبة لكم لا تصالحوهم فعلى المعنى الأوّل إخبار من اللّه على غلبتهم على الكافرين أي أنتم أيّها المؤمنون أعلى يدا و قدرة و منزلة آخر الأمر و إن غلب الكفّار في بعض الأحول [وَ اللَّهُ مَعَكُمْ بالنصرة [وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي لن ينقصكم من ثوابكم شيئا و الترة النقص من و ترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من أخ أو حميم و المعنى مأخوذ من أفردته من قريبه يشبه إضاعة عمل العامل بوتر الواتر، و منه قوله عليه السّلام: من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله أي أفرد عنهما قتلا و نهبا.

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 36 الى 38]

إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)

ص: 158

ثمّ حثّ اللّه سبحانه على طلب الآخرة فقال:

[إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ] أي سريعة الفناء و الانقضاء و من اختار الفاني على الباقي كان جاهلا و منقوصا و الّذي خلقها هو أعلم بها [وَ إِنْ تُؤْمِنُوا] باللّه و رسوله و تتّقوا معاصيه [يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ و جزاء أعمالكم في الآخرة.

[وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ كلّها في الصدقة و إن أوجب عليكم الزكاة في بعض أموالكم و قيل: معنى الآية لا يسألكم أموالكم لأنّ الأموال كلّها للّه فهو أملك لها و هو المنعم بإعطائها و قيل: لا يسألكم الرسول على أداء الرسالة أموالكم أن تدفعوها إليه [إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ يقال: أحفى شار به إذا استأصله و أحفى في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح و بالغ فيه أي إن يسألكم جميع أموالكم و يجهدكم بمسألة جميعها [تَبْخَلُوا] بها و لا تعطونها و يظهر بغضكم و عداوتكم للّه و لرسوله و لكنّه فرض عليكم ربع العشر و الضمير في [يُخْرِجْ راجع إلى اللّه و قرئ نخرج بالنون و بالتاء مع فتح التاء و الراء و رفع [أَضْغانَكُمْ .

قوله: [ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ] أي أنتم أيّها المخاطبون هؤُلاءِ الموصوفون [تُدْعَوْنَ فيه توبيخ عظيم و تحقير لشأنهم [لِتُنْفِقُوا] في سبيل اللّه أي إنّما أمرتم بإخراج ذلك للإنفاق [فِي سَبِيلِ اللَّهِ و طاعته و هو يعمّ الزكاة و الغزو و صرفه إلى المستحقّين من إخوانكم.

[فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بما فرض اللّه عليه [وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ لأنّه يحرمها مثوبة جسيمة ثمّ يلزمه عقوبة عظيمة و المراد أنّ معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ فبخله بخل على نفسه و ذلك أشدّ البخل لأنّه إنّما يبخل بالخير و الفضل في الآخرة عن نفسه كمن يبخل عن اجرة الطبيب و ثمن الدواء و هو مريض ثمّ حقّق ذلك بقوله: [وَ اللَّهُ الْغَنِيُ عمّا عندكم من الأموال [وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ] إلى ما عند اللّه من الخير و الرحمة و لا يأمركم بالإنفاق لحاجة و لكن لتنفعوا بذلك الإنفاق في الآخرة.

[وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا] و تعرضوا عن طاعته و عن أمر رسوله [يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أمثل

ص: 159

و أطوع منكم في أوامر اللّه [ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بل يكونوا خيرا منكم و روى أبو هريرة أنّ ناسا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالوا: يا رسول اللّه من هؤلاء الّذين ذكرهم اللّه؟ و كان سلمان إلى جنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فضرب يده إلى فخذ سلمان فقال: هذا و قومه و الّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس و روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي. القميّ قوله: «وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا» عطف على «إِنْ تُؤْمِنُوا» أي إن تتولّوا عن ولاية أمير المؤمنين يستبدل قوما خيرا منكم يقومون مكانكم و لا يكونون أمثالكم في معاداتكم و خلافكم و ظلمكم لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 160

سورة الفتح

اشارة

* (مدنية)* فضلها: ابيّ بن كعب قال: من قرأها فكأنّما شهد مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله فتح مكّة.

و في رواية اخرى فكأنّما بايع محمّد تحت الشجرة قال عمر بن الخطّاب: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سفر فقال صلّى اللّه عليه و آله: نزلت عليّ البارحة سورة هي أحبّ إليّ من الدنيا و ما فيها: إنّا فتحنا إلى قوله: «وَ ما تَأَخَّرَ» أورده البخاري في الصحيح. عن أنس بن مالك قال:

لمّا تراجعنا من غزوة الحديبية و قد حيل بيننا و بين نسكنا فنحن بين الحزن و الكآبة إذا أنزل اللّه تعالى: إنّا فتحنا لك فتحا مبينا فقال صلّى اللّه عليه و آله: لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا كلّها.

و عن عبد اللّه بن مسعود قال: أقبل رسول اللّه من الحديبية فجعلت ناقته تثقل فقدّمنا فأنزل اللّه إنّا فتحنا لك فتحا مبينا، فأدركنا رسول اللّه و به من السرور ما شاء اللّه فأخبر صلّى اللّه عليه و آله أنّها أنزلت عليه عبد اللّه بكير عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: حصّنوا أموالكم و نساءكم و ما ملك أيمانكم من التلف بقراءة إنّا فتحنا لك فتحا مبينا فإنّه من كان يد من قراءتها ناداه مناد يوم القيامة حتّى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين ألحقوه بالصالحين من عبادي فأسكنوه جنّات النّعيم و اسقوه الرّحيق المختوم بمزاج الكافور.

ص: 161

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الفتح (48): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)

المعنى: الفتح ضدّ الإغلاق و هو الأصل ثمّ استعمل في معان كثيرة فمنها الحكم و القضاء و الحكومة و النصر و منها فتح البلدان و منها العلم نحو قوله: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» من ذلك.

[إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً] أي قضينا لك قضاء ظاهرا و قيل: معناه يسّرنا لك يسرا بيّنا و قيل: أعلمناك علما ظاهرا و في الفتح وجوه أحدها فتح مكّة و ثانيها فتح الروم و غيرها و ثالثها صلح الحديبية و الأظهر الأنسب فتح مكّة للمناسبة.

و الربط الآخر السورة المتقدّمة لأنّه سبحانه لمّا قال: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» إلى أن قال: «وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ» بيّن تعالى أنّه فتح لهم مكّة و غنموا ديارهم و حصل لهم أضعاف ما أنفقوا و لو بخلوا لضاع عليهم ذلك و كذلك لمّا قال: «فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» و كان معناه لا تسألوا الصلح من عندكم بل اصبروا فإنّهم يسألون الصلح و يجتهدون فيه كما كان يوم الحديبية.

فلو قيل: إن كان المراد فتح مكّة فمكّة حينئذ لم تكن فتحت فكيف قال: «فَتَحْنا لَكَ» بلفظ الماضي؟ و المعنى قدّرنا فتحها و حكمنا و ما قدّره اللّه فهو كائن لا محالة.

ص: 162

نزلت الآية عند مرجع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الحديبية بشّر في ذلك الوقت بفتح مكّة.

و عن جابر قال: ما كنّا نعلم فتح مكّة إلّا يوم الحديبية و ذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم و أسلم في ثلاث سنين خلق كثير فكثر بهم سواد الإسلام و الحديبية بئر روي أنّه نفد ماؤها و ظهر فيها من أعلام النبوّة ما اشتهرت به الروايات.

قال البراء بن عازب: تعدّون الفتح فتح مكّة و قد كان فتح مكّة فتحا و نحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنّا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أربع عشر مائة و الحديبية بئر نزحناها فما وجد فيها قطرة فبلغ ذلك إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأتاها و جلس على شفيرها ثمّ دعا بإناء من ماء فتوضّأ، ثمّ تمضمض و دعا، ثمّ صبّه فيها و تركها ثمّ إنّها أصدرتنا نحن و ركابنا.

و عن محمّد بن إسحاق بن يسار عن الزهريّ عن عروة بن الزبير عن المسوّر بن مخرمة إنّ رسول اللّه خرج لزيارة البيت لا يريد حربا فذكر الحديث إلى أن قال: قال رسول اللّه انزلوا فقالوا: يا رسول اللّه ما بالوادي ماء فأخرج من كنانته سهما فأعطاه رجلا من أصحابه فقال له: أنزل في هذا القليب فاغزره في جوفه ففعل فجاش بالماء الرواء.

و عن عروة و ذكر خروج النبيّ قال: و خرج قريش من مكّة فسبقوه إلى بلدح و إلى الماء فنزلوا عليه فلمّا رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سبق نزل صلّى اللّه عليه و آله على الحديبية و ذلك في حرّ شديد و ليس فيها إلّا بئر واحد فأشفق القوم من الظماء و القوم كثير فنزل فيها رجال يمتحنوها و دعا النبيّ بدلو من ماء فتوضّأ من الدلو و مضمض فاه ثمّ مجّ فيه و أمر أن يصبّ في البئر و نزع سهما من كنانته و ألقاه في البئر فدعا اللّه ففارت بالماء جعلوا يغترفون بأيديهم منها و هم جلوس على شفتها.

و روى سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر بن عبد اللّه: كم كنتم يوم الشجرة؟ قال كنّا ألفا و خمس مائة، و ذكر عطشا أصابهم قال: فأتى رسول اللّه بماء في تور فوضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنّه العيون قال: فشربنا و سقنا و كفانا قال: قلت كم كنتم؟ قال: لو كنّا مائة ألف لكفانا كنّا ألفا و خمس مائة.

ص: 163

و روي عن مجمع بن حارثة الأنصاريّ أنّ المراد فتح خيبر قال: شهدنا الحديبية مع رسول اللّه فلمّا انصرفنا عنها إذا الناس يهزّون الأباعر فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس قالوا: اوحي إلى رسول اللّه فخرجنا نوجف فوجدنا النبيّ واقفا على راحلته عند كراع الغميم فلمّا اجتمع الناس إليه قرأ «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» السورة، فقال عمر:

أفتح هو يا رسول اللّه؟ قال: نعم و الّذي نفسي بيده إنّه لفتح فقسمت خبر على أهل الحديبية لم يدخل فيها أحدا إلّا من شهدها.

قوله تعالى [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ] و قد فسّر بعض الحشويّة بعض التفاسير الباطلة الّتي لا يقبلها ذو دين مثل أن حملوا الآية على ظاهرها و نسبوا إليها الصغيرة و أمثالها.

و قال ابن عطاء الخراسانيّ لمّا بلغ سدرة المنتهى ليلة المعراج قدّم هو صلّى اللّه عليه و آله و تأخّر جبرئيل فقال لجبرئيل: تتركني في هذا الموضع وحدي فعاتبه اللّه حين سكن إلى جبرئيل فقال: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ» فيكون كلّ من الذنبين بعد النبوّة.

و قال سفيان الثوريّ: ما تقدّم أي ممّا عملت في الجاهليّة و ما تأخّر ممّا لم تعمله و يذكر مثل ذلك على طريق التأكيد مثل قولهم: ضرب من لقاه و من لم يلقه و المعلوم من كلام الثّوريّ أنّه من الحشويّة و إلّا ما حشا فاه بهذا التّبن، فالثور ثور و إن عبد.

و قيل: إنّ ما تقدّم من الذنب بالنسبة إليه يوم بدر و ما تأخّر يوم حنين أمّا يوم بدر حيث قال: اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا فعوتب صلّى اللّه عليه و آله من أين تعلم أنّي إن أهلكتها لا اعبد أبدا؟ فكان الذنب المتقدّم هذا و قال يوم حنين بعد أن هزم الناس و و رجعوا إليه: لو لم أرمهم بكفّ الحصى لم يهزموا فأنزل اللّه «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ» و هو الذنب المتأخّر.

و الصحيح أي ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنب امّتك و ما تأخّر بشفاعتك.

و قيل: المراد الوعد بالعصمة قبل الفتح و بعد الفتح و الإشارة إلى عموم العصمة كقولهم

ص: 164

اضرب من لقيت و من لا تلقاه مع أنّ من لا يلقى لا يمكن ضربه و هو إشارة إلى العموم و و كقول القائل لغيره: «صفحت عن السالف و الأنف» و حسنت إضافة ذنوب امّته إليه للاتّصال و السبب بينه و بين امّته و يؤيّد هذا المعنى ما رواه المفضّل بن عمر عن الصادق عليه السّلام قال: سأله رجل عن هذه الآية فقال: و اللّه ما كان له ذنب و لكنّ اللّه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة عليّ ما تقدّم من ذنبهم و ما تأخّر.

و قيل: ما تقدّم من ذنب أبويك آدم و حوّاء ببركتك، و إضافة الذنب إليه لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان في صلبه. قوله: «وَ ما تَأَخَّرَ» أي من ذنوب امّتك بشفاعتك.

و قيل: استغفار الأنبياء لا يكون عن ذنب كذنوبنا و إنّما هو عن أمر يدقّ عن عقولنا.

و قيل: إنّ نسبة الذنب إليه من حيث إنّ شريعته حكمت بأنّه ذنب في شريعته مثل الغيبة مثلا فإنّه صلّى اللّه عليه و آله حكم بأنّها ذنب فحسن الإضافة فذنوب امّته يضاف إليه و إلى شريعته بهذا التقرير فهذا اطمينان له في امّته و لو بعد عقوبة.

و روى عمرو بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ الآية» قال: ما كان له ذنب و لا همّ بذنب و لكنّه حمله ذنوب شيعته ثمّ غفرها له.

و قال المرتضى قدّس اللّه روحه: إنّ الذنب مصدر و المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل و المفعول معا فيكون هنا مضافا إلى المفعول و المراد ما تقدّم من ذنبهم إليك في منعهم إيّاك عن مكّة و صدّهم لك عن المسجد الحرام فيكون معنى المغفرة على هذا المعنى الإزالة و النسخ لأحكام أعدائه أي يزيل اللّه ذلك عنك و يستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكّة و لذلك جعله جزاء على جهاده. قال: و لو أنّه أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ» معنى معقول لأنّ المغفرة للذنوب لا تعلّق لها بالفتح فلا يكون غرضا فيه و أمّا قوله: «ما تَقَدَّمَ ... وَ ما تَأَخَّرَ» فلا يمتنع أن يريد به ما تقدّم زمانه من فعلهم القبيح بك و بقومك.

ص: 165

و قيل في تأويل الآية: إنّ معناه لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك أو المراد بالذنب ترك المندوب و الأفضل و حسن ذلك لأنّ من لا يخالف الأوامر فجاز أن يسمّى ذنبا منه ما لو وقع من غيره لم يسمّ ذنبا و ذلك الأمر لعلوّ قدره صلّى اللّه عليه و آله و رفعة شأنه.

قوله: [وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ في الدنيا بإخلاء الأرض لك عن معانديك بإظهارك على عدوّك و نصرة دينك و بقاء شرعك و في الآخرة برفع محلّك فإنّ يوم الفتح لم يبق للنبيّ عدوّ ذو اعتبار فإنّ بعضهم كانوا اهلكوا يوم بدر و الباقون آمنوا و استأمنوا يوم الفتح.

[وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً] أي يديمك و يثبتك على الصراط المستقيم أو المعنى أن جعل الفتح سببا للهداية إلى الصراط المستقيم لأنّ الجهاد سبب سلوك سبيل اللّه للمؤمنين.

قوله: [وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً] ظاهرا غالبا لأنّ بالفتح ظهر النصر و اشتهر الأمر إذ صيّر دينه صلّى اللّه عليه و آله أعزّ الأديان و سلطانه أعظم السلطان.

قوله: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ و السكينة أن يفعل اللّه بهم اللطف الّذي يحصل لهم عنده من البصيرة بالحقّ ما تسكن إليه نفوسهم و ذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلّة فهذه النعمة التامّة خاصّة للمؤمنين و أمّا غيرهم فيضطرب نفوسهم لأوّل عارض من شبهة ترد عليهم إذ لا يجدون برد اليقين و روح الطمأنينة في قلوبهم، و السكينة هو سبب ذكرهم اللّه كما قال: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» و قيل: معنى السكينة النصرة للمؤمنين لتسكن بذلك نفوسهم و يثبتوا على القتال.

[لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي يقينا إلى يقينهم بما يرون من الفتوح و علوّ كلمة الإسلام و يزدادوا تصديقا بشرائع الإسلام و هو أنّهم كلّما أمروا بشي ء من الشرائع و الفرائض كالصلاة و الصيام و الصوم و الصدقات صدّقوا به و ذلك بالسكينة الّتي أنزلها اللّه في قلوبهم ليزدادوا معارفا على المعرفة الحاصلة عندهم.

[وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني الملائكة و الجنّ و الإنس و الشياطين يعني لو

ص: 166

شاء لأعانكم به و في الآية بيان أنّه لو شاء لأهلك الكافرين لكنّه عالم بهم و بما يخرج من أصلابهم فأمهلهم لعلمه بالعاقبة و لم يأمر بالقتال عن عجز و احتياج لكن ليعرض المجاهدين الثواب [وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] فكلّ أفعاله حكمة و صواب.

قوله: [لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] تقدير الآية إنّا فتحنا لك ليغفر لك اللّه إنّا فتحنا لك ليدخل المؤمنين و المؤمنات جنّات و لذلك لم يدخل واو العطف في ليدخل إعلاما بالتفصيل تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها الأنهار خالدين مؤبّدين لا يزول عنهم نعيما.

[وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ و عقاب معاصيهم الّتي فعلوها و يجوز أن يكون المعنى أنزل السكينة على المؤمنين ليزدادوا إيمانا بسبب الإنزال ليدخلهم بسبب الإيمان جنّات.

فإن قيل: فقوله: «يُعَذِّبَ» عطف على قوله: ليدخل، و ازدياد إيمانهم لا يصلح سببا لتعذيبهم، بلى و المعنى أنّكم بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم في الآخرة جنّات و بسبب عدم إيمانهم و مخالفتهم لكم و عدم اتّباعهم يزداد الكافر كفرا فيعذّبه به.

[وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً] أي ما ذكر من الإدخال و التكفير عند اللّه أي كائن في علمه و هو فوز عظيم لا يقدّر قدره لأنّه منتهى ما يمتدّ إليه أعناق الهمم من جلب نفع و دفع ضرّ و تقديم الإدخال في الذكر على التكفير مع أنّ الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلى ما هو المطلب الأعلى.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): الآيات 6 الى 10]

وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (6) وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)

ص: 167

قدّم سبحانه ذكر المنافقين على المشركين في مواضع من القرآن لأنّهم كانوا أشدّ على المؤمنين من الكافر و أضرّ عليهم لأنّ المؤمن يتوقّى الكافر في معاشرته و لكن يخالط المنافق لعدم علمه بنفاقه [الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ] ظنّ السوء ظنّهم أنّ اللّه لا ينصر الرسول و المؤمنين و لا يرجعهم إلى مكّة ظافرين [عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ] أي ما يتربّصونه بالرسول و المؤمنين فهو حالق بهم و دائر عليهم.

و السوء بالضمّ الهلاك و الدمار و قرئ بالفتح أي الدائرة الّتي يذمّونها و يسخطونها فهي عندهم دائرة سوء و عند المؤمنين دائرة صلاح و صدق و هل فرق بين السوء و السوء؟ هما كالكره و الكره و الضعف و الضعف من ساء إلّا أنّ الفتح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كلّ شي ء و إمّا السوء بالضمّ فمعناه جار مجرى الشرّ الّذي هو نقيض الخير، يقال:

أراد به السوء و أراد به الخير و لذلك أضيف الظنّ إلى المفتوح لكونه مذموما و أمّا دائرة السوء بالضمّ فلأنّ الّذي أصابهم مكروه و شدّة فصحّ أن يقع عليه اسم السوء كقوله تعالى:

«إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً» (1) أو السوء المصدر و السوء الاسم و هو أيضا على التقرير المذكور و قيل: على قراءة الضمّ المراد دائرة العذاب و بالفتح المراد ما جعله للمؤمنين من قتلهم و غنيمة أموالهم قوله: [وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ أي أبعدهم من رحمته [وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ يجعلهم فيها [وَ ساءَتْ مَصِيراً] أي مآلا و مرجعا [وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و إنّما كرّر فذكرهم أوّلا لبيان الرحمة بالمؤمنين فقال بعده [وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] و الثاني لبيان العذاب على الكافرين فقال: «وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» و فيه إشارة إلى ذكر العذاب و لذا ذكر العزّة كقوله: «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ» (2) و قال: «فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ» (3) و لا بأس بذكر بعض قصّة الحديبية و هي أنّ رسول اللّه أمر في النوم أن يدخل المسجد الحرام و يطوف و يحلّق مع المحلّقين فأخبر أصحابه و أمرهم بالخروج فخرجوا من المدينة فلمّا نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة و ساقوا البدن و ساق رسول اللّه ستّة و ستّين بدنة فأحرموا

ص: 168


1- الأحزاب: 17.
2- الزمر: 37.
3- القمر: 42.

من ذي الحليفة ملبّين بالعمرة و قد ساق منهم الهدي مشمرات مجلّات.

فلمّا بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا لتستقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان يعارضه على الجبال فلمّا كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذّن بلال فصلّى رسول اللّه بالناس فقال خالد: لو كنّا حملنا عليهم في الصلاة لأصبناهم فإنّهم لا يقطعون صلاتهم و لكن تجي ء الآن لهم صلاة اخرى أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم فنزل جبرئيل على رسول اللّه بصلاة الخوف في قوله: «وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ» (1) الآية، و هذه الآية في سورة النساء.

فلمّا كان في اليوم الثاني فنزل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الحديبية و هي على طرف الحرم و كان صلّى اللّه عليه و آله يستنفر الأعراب في طريقه معه فلم يتّبعه أحد منهم و يقولون: أ يطمع محمّد و أصحابه أن يدخلوا الحرم و قد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوا فلا يرجع محمّد و أصحابه إلى المدينة.

فلمّا نزل رسول اللّه الحديبية خرجت قريش يحلفون باللّات و العزّى لا يدعون رسول اللّه يدخل مكّة و فيهم عين تطرف فبعث إليهم رسول اللّه أنّي لم آت لحرب و إنّما جئت لأقضي مناسكي و أنحر بدني و اخلّي بيني و بينكم و بين لحماتها فبعثوا عروة بن مسعود الثقفيّ و كان عاقلا لبيا و هو الّذي أنزل اللّه فيه: «وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» فلمّا أقبل إلى رسول اللّه قال: يا رسول اللّه تركت قومك و قد ضربوا الأبنية و أخرجوا العود المطافيل يحلفون باللّات و العزّى لا يدعوك تدخل مكّة و فيهم عين تطرف أ فتريد أن تتبرّأ أهلك و قومك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما جئت إلّا لأقضي مناسكي فقال: عروة و اللّه ما رأيت أحدا كاليوم صدّ كما صددت.

ثمّ رجع إلى قريش و أخبرهم فقالت قريش: و اللّه لئن دخل محمّد مكّة و تسامعت به العرب لنذلّنّ و لتجترئنّ علينا العرب فبعثوا حفص بن أحنف و سهيل بن عمرو فلمّا نظر إليهما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ويح قريش قد نهكتهم الحرب إلّا خلّوا بيني و بين العرب فإن أك صادقا فإنّما أجرّ الملك إليهم مع النبوّة و إن أك كاذبا كفيتهم ذئبان العرب، لا يسألني اليوم أحد

ص: 169


1- النساء: 101.

من قريش حاجة ليس للّه فيها سخط إلّا أجبتهم.

فلمّا وافى الرجلان قالا: يا محمّد ألا ترجع منّا عامك هذا إلى أن ننظر إلى ما يصير أمر العرب؟ فإنّ العرب قد تسامعت بمسيرك فإذا دخلت بلادنا و حرمنا استذلّتنا العرب و اجترأت علينا و نخلّي لك في العام المقبل في هذا الشهر ثلاثة أيّام حتّى تقضي منسكك و تنصرف عنّا فأجابهم النبيّ إلى ذلك و قالوا له: تردّ إلينا كلّ من جاءك من رجالنا و نردّ إليك كلّ من جاءنا من رجالك فقال رسول اللّه: من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه و لكن على أنّ المسلمين بمكّة لا يؤذون في إظهارهم الإسلام و لا يكرهون و لا ينكر عليهم شي ء يفعلونه من شرائع الإسلام فقبلوا ذلك.

فلمّا أجابهم رسول اللّه إلى الصلح أنكر عامّة أصحابه و أشدّ ما كان إنكار عمر فقال:

يا رسول اللّه ألسنا على الحقّ و عدوّنا على الباطل؟ فقال نعم: قال: أ تعطي الذلّة في ديننا فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ قد وعدني فلن يخلفني قال: و لو أنّ لي أربعين رجلا لخالفته.

فرجع سهيل بن عمرو و حفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم بالصلح فقال عمر: يا رسول اللّه ألم تقل لنا أن ندخل المسجد الحرام و يحلّق مع المحلّقين؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

أمن عامنا هذا وعدتك؟ قلت لك: إنّ اللّه عزّ و جلّ قد وعدني أن أفتح مكّة و أطوف و أسعى و أحلق مع المحلّقين.

فلمّا أكثروا عليه قال: إن لم تقبلوا الصلح فحاربوهم فمرّوا نحو قريش و هم مستعدّون للحرب و حملوا عليهم فانهزم أصحاب رسول اللّه هزيمة قبيحة و مرّوا برسول اللّه فتبسّم صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: يا عليّ خذ السيف و استقبل قريشا فأخذ أمير المؤمنين سيفه و حمل على قريش فلمّا نظروا إلى أمير المؤمنين تراجعوا ثمّ قالوا: أبدا لمحمّد فيما أعطانا؟

فقال: لا.

و تراجع أصحاب رسول اللّه مستحيين و أقبلوا يعتذرون إلى رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله لهم ألستم أصحابي يوم بدر إذ أنزل اللّه فيكم «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» (1) ألستم أصحابي يوم احد: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ

ص: 170


1- الأنفال: 9.

الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» (1) ألستم أصحابي يوم كذا، ألستم أصحابي يوم كذا؟ فاعتذروا إلى رسول اللّه و ندموا على ما كان منهم و قالوا: اللّه أعلم و رسوله فاصنع ما بدا لك.

و رجع حفص بن الأحنف و سهيل بن عمرو إلى رسول اللّه فقالا: يا محمّد قد أجابت قريش إلى ما اشترط من إظهار الإسلام و أن لا يكره أحد على دينه فدعا رسول اللّه بالكتب و دعا أمير المؤمنين و قال له: اكتب فكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال سهيل: لا نعرف الرحمن اكتب كما كان يكتب آباؤك بسمك اللّهم فقال رسول اللّه: اكتب بسمك اللهم فإنّه اسم من أسماء اللّه ثمّ كتب هذا ما تقاضى عليه محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الملأ من قريش فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا أنّك رسول اللّه ما حاربناك اكتب هذا ما تقاضى عليه محمّد بن عبد اللّه أ تأنف من نسبك يا محمّد؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنا رسول اللّه و إن لم تقرّوا، ثمّ قال: امح يا عليّ و اكتب محمّد بن عبد اللّه فقال عليّ عليه السّلام: ما أمحو اسمك من النبوّة فمحا رسول اللّه بيده ثمّ كتب:

هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد اللّه و الملأ من قريش و سهيل بن عمرو و اصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين على أن يكفّ بعضنا عن بعض، و على أنّه لا إسلال و لا إغلال (2)، و أنّ بيننا غيبة مكفوفة، و أنّ من أحبّ أن يدخل في عهد محمّد و عقده فعل، و من أحبّ أن يدخل في عهد قريش و عقدها فعل، و أنّه من أتى محمّدا بغير إذن وليّه ردّه، و أنّه من أتى قريشا من أصحاب محمّد لم يردّه إليه و أن يكون الإسلام ظاهرا بمكّة و لا يكره أحد على دينه و لا يؤذى و لا يعيّر و أنّ محمّدا يرجع عامه هو و أصحابه ثمّ يدخل علينا في العام القابل مكّة فيقيم فيها ثلاثة أيّام و لا يدخل عليها بسلاح إلّا سلاح المسافر و كتب عليّ بن أبي طالب و شهد على الكتاب المهاجرون و الأنصار.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوّة فو الّذي بعثني بالحقّ نبيّا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها و أنت مضيض مضطهد (3) فلمّا كان يوم صفّين و رضوا بالحكمين كتب هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و معاوية بن ن.

ص: 171


1- آل عمران: 153.
2- بهامش الأصل: الأغلال: الخيانة، و الإسلال: الاغارة.
3- أورده القلقشندى في صبح الأعشى عند نقله صلح صفين و التراضي بالحكمين.

أبي سفيان فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك و لكن اكتب هذا ما اصطلح عليه عليّ بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان فقال أمير المؤمنين: صدق اللّه و رسوله أخبرني بذلك رسول اللّه.

و بالجملة فلمّا كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن في عهد محمّد رسول اللّه و عقده و قامت بنو بكر فقالت: نحن في عهد قريش و عقدها و كتبوا نسختين: نسخة عند رسول اللّه و نسخة عند سهيل و رجع سهيل و حفص إلى قريش فأخبروهم و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه: انحروا بدنكم و احلقوا رءوسكم فامتنعوا و قالوا: كيف ننحر و لم نطف بالبيت و لم نسع بين الصفا و المروة؟ فاغتمّ لذلك الرسول و شكا ذلك إلى امّ سلمة فقالت: يا رسول اللّه انحر أنت و احلق فنحر رسول اللّه و حلق فنحر القوم على يقين و شكّ و ارتياب فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تعظيما للبادن: رحم اللّه المحلّقين و قال قوم: لم يسوقوا البدن يا رسول اللّه و المقصّرين لأنّ من لم يسق هديا لم يجب عليه الحلق فقال رسول اللّه: ثانيا رحم اللّه المحلّقين الّذين لم يسوقوا الهدي فقالوا: يا رسول اللّه و المقصّرين فقال: رحم اللّه المقصّرين.

ثمّ رحل صلّى اللّه عليه و آله نحو المدينة فرجع إلى التنعيم و نزل تحت الشجرة فجاء أصحابه الّذين أنكروا عليه الصلح و اعتذروا و أظهروا الندامة على ما كان منهم و سألوا رسول اللّه أن يستغفر لهم فنزلت آية الرضوان و هذه القصّة مذكورة في روضة الكافي عن الصادق بزيادة و نقصان من أرادها فليراجع.

قوله: [إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً] ثمّ خاطب نبيّه فقال: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ» يا محمّد شاهدا على امّتك بما عملوه من طاعة و معصية و قبول و ردّ «شاهِداً» تبليغ الحكم و التكليف «وَ مُبَشِّراً» بالجنّة لمن أطاع «وَ نَذِيراً» من النار لمن عصى ثمّ بيّن الغرض من الإرسال [لِتُؤْمِنُوا] و قرئ بالياء فالمعنى ليؤمن هؤلاء الكفّار [بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ و الهاء راجع إلى النبيّ أي تنصروه بالسيف و اللسان و تعظّموه و تجلّوه [وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا] أي و تصلّوا للّه بالغداة و العشيّ فالضمير في تسبّحوه راجع إلى اللّه و قيل: معناه و تنزّهوا اللّه عمّا لا يليق به.

ص: 172

و كثير من القرّاء اختاروا الوقف على قوله: «وَ تُوَقِّرُوهُ» لاختلاف الضمير فيه و فيما بعده و قيل: الضمائر راجعة إلى اللّه أي لتعظّموا اللّه و تطيعوه كقوله: «لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» قال الزمخشريّ: الضمائر للّه و من فرّق فقد أبعد، و قرئ تعزروه بالتخفيف و كسر الزاي قال ابن عبّاس: المراد من قوله: «وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا» صلاة الفجر و صلاة الظهر و العصر.

و في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب الجبر لأنّه سبحانه صرّح هنا أنّه يريد من جميع المكلّفين الإيمان و الطاعة.

قوله: [إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ المراد بالبيعة هنا بيعة الحديبية و هي بيعة الرضوان بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الموت [إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أي يبايعون لأجل اللّه و لوجهه لأنّ طاعتك طاعته و إنّما سمّيت بيعة لأنّها عقدت على بيع أنفسهم الجنّة للزومهم في الحرب و باعوا أنفسهم.

[يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ كأنّهم في هذه البيعة بايعوا اللّه من غير واسطة و قوّة اللّه في نصرة نبيّه فوق أيديهم في النصرة، أي ثق بنصرة اللّه لك لا بنصرتهم و إن بايعوك أو أنّ يد رسول اللّه الّتي تعلو أيدي المبايعين هي يد اللّه و اللّه منزّه عن الجوارح و عن صفات الأجسام و إنّما المعنى تقرير أنّ عقد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الميثاق معه كعقده مع اللّه من غير تفاوت في الأجر كقوله: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (1).

[فَمَنْ نَكَثَ أي نقض ما عقد من البيعة [فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أي يرجع ضرر ذلك النقض عليه و ليس له الجنّة و الكرامة.

[وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ و قرئ عهد و المعنى من ثبت على العهد يقال: وفيت و أوفيت بالعهد و هي لغة تهامة و من هذه اللغة قوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» [فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] و قرئ بالنون على التكلّم أي ثوابا جزيلا.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): الآيات 11 الى 15]

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)

ص: 173


1- النساء: 79

ثمّ أخبر سبحانه عمّن تخلّف عن نبيّه فقال:

[سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ أي الّذين تخلّفوا عن صحبتك و ذلك أنّه لمّا أراد صلّى اللّه عليه و آله المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمرا و كان في ذي القعدة سنة ستّ من الهجرة استنفر من أطراف المدينة في الخروج معه صلّى اللّه عليه و آله و هم غفار و أسلم و أشجع و مزينة حذرا من قريش من أن يعرضوا له بحرب أو يصدّ، و أحرم بالعمرة و ساق معه الهدي ليعلم الناس أنّه لا يريد حربا.

فتثاقل عنه كثير من الأعراب و قالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فتخلّفوا عنه و اعتلّوا بالشغل فشرح اللّه حالهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال سبحانه: إنّهم يقولون لك إذا عاتبتهم على التخلّف عنك [شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا] و قرئ بالتشديد عن الخروج معك [فَاسْتَغْفِرْ لَنا] في قعودنا عنك فكذّبهم اللّه فقال: [يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ في الاعتذار بما أخبر عن ضمائرهم أي إنّهم كاذبون في الاعتذار و طلب الاستغفار.

[قُلْ يا محمّد لهم: [فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً] أي فمن يمنعكم من عذاب اللّه إن أراد بكم سوءا أو نفعا و غنيمة؟ و ذلك أنّهم ظنّوا أنّ تخلّفهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدفع عنهم الضرّ أو يحصل لهم النفع بالسلامة من المال و الأهل [بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً] أي إنّه عالم في تخلّفكم و سببه.

[بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً] أي ظننتم أنّهم لا

ص: 174

يرجعون إلى من خلّفوا بالمدينة من الأهل و المال و أنّ العدوّ يستأصلوهم و يصطلمهم [وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ أي زيّن الشيطان ذلك الظنّ في قلوبكم و سوّله لكم [وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ] في هلاك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه و كلّ هذه الأخبار من الغيب و ما كان يطّلع عليها إلّا اللّه فصار معجزا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله [وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً] أي هلكى لا تصلحون الخير و فاسدين.

[وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً] أي و من يظنّ بأنّ اللّه يخلف وعده أو الرسول كاذب فيما قاله فله نار مسعرة معدّة في الآخرة [وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ] ذنوبه [وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ] إذا استحقّ العقاب [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً].

ثمّ قال سبحانه: [سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ أي هؤلاء المتخلّفون أوضح كذبهم بأنّهم إذا أحسّوا بالغنيمة يقولون من تلقاء أنفسهم: [ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ فإذا كان أموالهم و أهلوهم شغلتهم يوم دعوتكم إيّاهم إلى أهل مكّة فما بالهم لا يشتغلون بأموالهم يوم أخذ الغنيمة و المراد من المغانم مغانم أهل خيبر و فتحها و غنم المسلمون و لم يكن معهم إلّا من كان معه في المدينة، و وعد الموافقين بالغنيمة و المتخلّفين بالحرمان و وعدهم اللّه فتح خيبر لمن شهد الحديبية فلمّا انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلّفون: ذرونا نتّبعكم.

فقال سبحانه: [يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أي مواعيد اللّه لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصّة أراد تغيير ذلك بأن يشاركوهم فيها و قيل: يريد أمر اللّه نبيّه أن لا يسيّر معه منهم أحدا.

[قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ بالحديبية قبل خيبر لمن شهد الحديبية يشركهم فيها غيرهم «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ» أي نهى اللّه أن تتّبعوا أيّها المخلّفون إيّانا في المغانم.

و قال الجبّائيّ: أراد بقوله: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» قوله سبحانه: «فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا» (1).

ص: 175


1- المائدة: 64.

و هذا غلط فاحش لأنّ هذه السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية و تلك الآية نزلت في الّذين تخلّفوا عن تبوك و كان منصرفه من تبوك في بقيّة رمضان من سنة تسع من الهجرة و لم يخرج بعد ذلك لقتال و لا غزو إلى أن قبضه اللّه فكيف يكون هذه الآية مرادة بقوله «كَلامَ اللَّهِ» و قد نزلت بعده بأربع سنين؟

ثمّ قال: [فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا] أي فسيقول المخلّفون عن الحديبية لكم إذا قلتم لهم: لن تتّبعونا و سمعوا هذا النهي يقولون لكم ليس هذا النهي من اللّه بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنيمة ثمّ قال سبحانه: ليس الأمر على ما قالوه [بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ الحقّ و ما تدعونهم إليه [إِلَّا قَلِيلًا] أي إلّا فقها قليلا و شيئا قليلا.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): الآيات 16 الى 20]

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)

[قُلْ يا محمّد: للّذين تخلّفوا عنك في الخروج إلى الحديبية [مِنَ الْأَعْرابِ و هم قبائل متشعّبة [سَتُدْعَوْنَ بعد ذلك [إِلى قَوْمٍ ذوي النجدة و البأس قيل: المراد بالقوم هوازن و حنين و قيل: هوازن و ثقيف و قيل: هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذّاب و قيل: هم أهل فارس أو الروم و قيل: هم أهل صفّين أصحاب معاوية قال الطبريّ: و الصحيح أنّ الداعي في قوله: «سَتُدْعَوْنَ» هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأنّه قد دعاهم بعد ذلك إلى غزوات كثيرة و قتال أقوام ذوي البأس فلا معنى لحمل ذلك على ما بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعد وفاته.

[تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ معناه أحد الأمرين لا بدّ أن يكون يقع لا محالة و تقديره أو

ص: 176

يسلمون و يقرّون بالإسلام و ينقادون لكم و في قراءة ابيّ أو سلموا أي إلى أن يسلموا و على هذه القراءة لا يمكن أن يكون المراد من القوم فارس و الروم لأنّهم يقبل منهم الجزية إذا لم يسلموا.

[فَإِنْ تُطِيعُوا] و تجيبوا إلى قتالهم [يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً] و جزاء صالحا [وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا] عن القتال و تقعدوا عنه [كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ مثل يوم الحديبية [يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً] في الآخرة.

[لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ بيّن سبحانه من يجوز له التخلّف و ترك الجهاد و ما بسببه يجوز ترك الجهاد و هو ما يمنع من الكرّ و الفرّ و ذلك بيان أصناف ثلاثة: الأوّل الأعمى فإنّه لا يمكنه الإقدام على العدو و الطلب و لا يمكنه الاحتراز و الهرب و الأعرج كذلك و المريض كذلك و في معنى الأعرج الأقطع و المقعد أي ليس على هؤلاء ضيق في ترك الخروج مع المؤمنين في الجهاد.

[وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] المراد من الإطاعة في الآية قبول القتال و الجهاد [وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً] أي و إن قعدتم عن القتال و تولّيتم و ما وافقتم النبيّ في جهاد العدوّ يعذّبكم في الآخرة عذابا مولما شديدا فقرن اللّه طاعته تعالى بطاعة رسوله و معصيته بمخالفة رسوله هذا هو الناموس الأكبر و الجاه الأوفر.

[لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ] يعني بيعة الحديبية و تسمّى بيعة الرضوان لهذه الآية و الشجرة هي شجرة السمرة [فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ من صدق النيّة لأنّه صلّى اللّه عليه و آله بايعهم على القتال و الصبر و الوفاء [فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ و هي الطمأنينة و اللطف المقوّي لقلوبهم [وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] يعني فتح خيبر و قيل: فتح مكّة [وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها] يعني غنائم خيبر فإنّها كانت مشهورة بكثرة الأموال و العقار و قيل: غنائم هجر و هوازن بعد فتح مكّة [وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً] غالبا في أمره [حَكِيماً] في أفعاله، حكم للمسلمين بالغنيمة و لأهل الخيبر بالهزيمة.

ثمّ ذكر سبحانه سائر الغنائم الّتي يأخذونها فيما بعد من الزمان فقال: [وَعَدَكُمُ اللَّهُ

ص: 177

مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها] مع النبيّ و من بعده إلى يوم القيامة [فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني غنيمة خيبر [وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا قصد خيبر و حاصر أهلها همّت قبائل من أسد و غطفان أن يغيروا على أموال المسلمين و عيالهم بالمدينة فكفّ اللّه أيدهم عنهم بإلقاء الرعب في قلوبهم و قيل: إنّ مالك بن عوف و عيينة بن حصن مع بني أسد و غطفان جاءوا لنصرة اليهود فقذف اللّه الرعب في قلوبهم و انصرفوا.

[وَ لِتَكُونَ الغنيمة الّتي عجّلها لهم [آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ على صدقك حيث وعدهم أن يصيبوها فوقع المخبر على طبق الخبر [وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً] فيكمل اعتقادكم و يقينكم و تفوّضون أموركم إلى صراط اللّه العزيز و هو الثبات على دين الإسلام و تحمّل مشاقّ الطاعة.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): آية 21]

وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (21)

. المعنى: ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم بعد النبيّ و المؤمنين فتوحا أخر فقال:

[وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها] أي و وعدكم اللّه مغانم اخرى لم تقدروا عليها بعد فيكون «أُخْرى في محلّ النصب، و قيل: المعنى و قرية اخرى لم تقدروا عليها قد أعدّها اللّه لكم و هي مكّة و قيل: هي ما وعد اللّه لهم من بعد ذلك اليوم أو المراد بها فارس و الروم عن ابن عبّاس و جماعة قال: كما أنّ النبيّ بشّرهم كنوز قيصر و كسرى و ما كانت العرب على قتال فارس و الروم بعد و فتح مدائنها بل كانوا خولا لهم حتّى تمكّنوا و قدروا عليها بالإسلام.

[قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها] قال الفرّاء: أحاط اللّه بها لكم حتّى يفتحها عليكم فكأنّه قد حفظها و منعها عن غيركم حتّى تفتحوها و قدّر فتحها لكم و أحاط علمه سبحانه بذلك الأمر [وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً] من فتح القرى و غير ذلك.

و نذكر في هذا المقام نبذا من قصّة خيبر: لمّا رجع صلّى اللّه عليه و آله من الحديبية إلى المدينة مكث بها عشر بن ليلة ثمّ خرج منها إلى خيبر ذكر ابن إسحاق باسناده عن أبي مروان الأسلمي عن أبيه عن جدّه قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى خيبر حتّى إذا كنّا قريبا

ص: 178

منها و أشرفنا عليها قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قفوا فوقف الناس فقال: اللّهمّ ربّ السماوات السبع و ما أظللن و ربّ الأرضين السبع و ما أقللن و ربّ الشياطين و ما أضللن إنّا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها و نعوذ بك من شرّ هذه القرية و شرّ أهلها و شرّ ما فيها أقدموا باسم اللّه.

و عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى خيبر فسرينا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك و كان عامر رجلا شاعرا فجعل يقول:

لا همّ لو لا أنت ما حجيناو لا تصدّقنا و لا صلّينا

فاغفر فداء لك ما اقتنيناو ثبّت الأقدام إن لاقينا

و أنزلن سكينة عليناإنّا إذا صيح بنا أتينا

و بالصباح عوّلوا علينا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من هذا السابق؟ قالوا: عامر قال: يرحمه اللّه، قال عمر- و هو على جمل-: يا رسول اللّه لو لا أمتعتنا به، و ذلك أنّ رسول اللّه ما استغفر لرجل قطّ يخصّه إلّا استشهد قالوا: فلمّا جدّ الحرب و تصافّ القوم خرج يهوديّ و هو يقول:

قد علمت خيبر أنّي مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب

إذا الحروب أقبلت تلهّب فبرز إليه عامر و هو يقول:

قد علمت خيبر أنّي عامرشاكي السلاح بطل مغامر

فاختلفا ضربتين فوقع سيف اليهوديّ في ترس عامر و كان سيف عامر فيه قصر فتناول به ساق اليهوديّ ليضربه فرجع ضباب سيفه فأصاب ركبته و الركبة أصل الصلبانة إذا قطعت واقع بين الفخذ و الورك فمات منه قال: فإذا نفر من أصحاب رسول اللّه يقولون بطل عمل عامر قتل نفسه فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كذب أولئك بل اوتي عامر من الأجر مرّتين.

و بالجملة قال: فحاصرناهم حتّى أصابتنا مخمصة شديدة ثمّ إنّ اللّه فتحها علينا و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطى اللواء عمر بن الخطّاب و نهض من نهض معه من الناس فلقوا

ص: 179

أهل خيبر فانهزم عمر و أصحابه فرجعوا إلى رسول اللّه يجبّنه أصحاب عمرو يجبّنهم و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس فلمّا أفاق من وجعه سأل صلّى اللّه عليه و آله ما فعل الناس بخيبر؟ فأخبره فقال: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله كرّارا غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يديه.

و روى البخاريّ و مسلم عن قتيبة بن سعيد قال: حدثنا يعقوب عن عبد الرحمن الإسكندرانيّ عن أبي حازم قال: أخبرني سعد بن سهل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: يوم خيبر لأعطينّ الراية غدا رجلا يفتح اللّه على يديه يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله قال: فبات الناس يدركوا بجملتهم أيّهم يعطيها فلمّا أصبح الناس غدوا إلى رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و سلم أين عليّ؟ فقالوا: يا رسول اللّه هو يشتكي عينيه قال: فأرسلوا إليه فأتى به عليه السّلام فبصق رسول اللّه في عينيه و دعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال عليّ عليه السّلام: يا رسول اللّه أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا؟ قال: انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ثمّ ادعهم إلى الإسلام و أخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه فو اللّه لأن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمرا لنعم قال سلمة: فبرز مرحب و هو يقول:

«قد علمت خيبر أنّي مرحب» الأبيات، فبرز له عليّ و هو يقول:

أنا الّذي سمّتني امّي حيدره ضرغام آجام و ليث قسوره

أكيلكم بالصاع كيل السندره فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله و كان الفتح على يده عليه السّلام أورده مسلم في الصحيح.

و روى أبو عبد اللّه الحافظ بإسناده عن أبي رافع مولى رسول اللّه قال: خرجنا مع عليّ حين بعثه رسول اللّه فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه يهوديّ فطرح ترسه من يده فتناول عليّ عليه السّلام باب الحصن فتترّس به عن نفسه فلم يزل في يده و هو يقاتل حتّى فتح اللّه عليه ثمّ ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا منهم نجهد على أن نحرّك ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.

و عن ليث بن أبي سليم عن أبي سليم عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام قال: حدّثني

ص: 180

جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّ عليّا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها و أنّه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا. قال: و روي من وجه آخر عن جابر ثمّ اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب.

و بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان عليّ عليه السّلام يلبس في الحرّ و الشتاء القباء المحشوّ الثخين و ما يبالي الحرّ فأتاني أصحابي فقالوا: إنّا رأينا من أمير المؤمنين شيئا فهل رأيت؟ فقلت: و ما هو قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحرّ الشديد في القباء المحشوّ و ما يبالي الحرّ و يخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين و ما يبالي البرد فهل سمعت في ذاك شيئا؟ فقلت: لا فقالوا: فاسأل أباك عن ذلك فإنّه يسمر معه فقال: ما سمعت في ذلك شيئا فدخل على عليّ عليه السّلام فسمر معه ثمّ سأله عن ذلك فقال عليه السّلام: أو ما شهدت خيبر؟ قلت: بلى قال: أ فما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين دعا أبا بكر فعقد له ثمّ بعثه إلى القوم فانطلق فلقى القوم ثمّ جاء بالناس و قد هزم فقال: بلى: قال: ثمّ بعث عمر فلقى القوم فقاتلهم ثمّ رجع و قد هزم فقال رسول اللّه: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله يفتح اللّه على يده كرّارا غير فرّار فدعاني و أعطاني الراية ثمّ قال:

اللّهمّ اكفه الحرّ و البرد فما وجدت بعد ذلك حرّا و لا بردا و هذا كلّه منقول في كتاب دلائل النبوّة للإمام أبي بكر البيهقيّ.

و بالجملة ثمّ لم يزل رسول اللّه يفتح الحصون حصنا حصنا و يجوز الأموال حتّى انتهوا إلى حصن الوطيخ و السلالم و كان آخر حصون خيبر و حاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بضع عشرة ليلة.

قال ابن إسحاق لما افتتح حصن ابن أبي الحقيق اتي رسول اللّه بصفيّة بنت حيّ بن أخطب و بأخرى معها فمرّ بهما بلال و هو الّذي جاء بهما على قتلى يهود فلمّا رأتهم الّتي معها صفيّة صكّت وجهها و حثت التراب على رأسها فلمّا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أغربوا عنّي هذه الشيطانة و أمر بصفيّة فخيّرت خلفه و ألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أنّه صلّى اللّه عليه و آله قد اصطفاها لنفسه و قال صلّى اللّه عليه و آله لبلال لمّا رأى من تلك اليهوديّة ما رأى: أ نزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟

ص: 181

و كانت صفيّة قد رأت في المنام و هي عروس بكنانة بن ربيع أبي الحقيق أنّ قمرا وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلّا أنّك تتمنّين ملك الحجاز محمّدا و لطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها.

و لمّا اتي بها إلى رسول اللّه و بها أثر منها فسألها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما هو؟ فأخبرته و أرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول اللّه: أنزل فاكلّمك، قال صلّى اللّه عليه و آله: نعم فنزل و صالح رسول اللّه على حقن دمائهم في حصونهم من المقاتلة و ترك الذرّيّة لهم و يخرجون من خيبر و أرضها بذراريهم و يخلّون بين رسول اللّه و بين ما كان لهم من مال و أرض و ما يكون لهم من كلّ شي ء من الصفراء و البيضاء و السلاح و الكراع و على البزّ إلّا ثوب على ظهر الإنسان فقال رسول اللّه: فبرئت ذمّة اللّه و ذمّة رسوله إن كتمتوني شيئا، فصالحوه على ذلك.

فلمّا سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يسألونه أن يحقن دماءهم و يخلّون بينه و بين الأموال ففعل صلّى اللّه عليه و آله و كان ممّن يمشي بين رسول اللّه و بينهم في ذلك محبصة بن مسعود أحد بني حارثة.

فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول اللّه أن يعاملهم الأموال على النصف و قالوا: نحن أعلم بها منكم و أعمر لها فصالحهم رسول اللّه على النصف على أنّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم و صالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت أموال خيبر فيأ بين المسلمين و فدك خاصّة لرسول اللّه لأنّه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب.

و لمّا اطمأنّ رسول اللّه أهدت له زينب بنت الحارث بن سلام و هي بنت أخى مرحب شاة مصيلة و قد سألت أيّ عضو منها أحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السمّ و سمّت سائر الشاة ثمّ جاءت بها فلمّا وضعتها بين يديه تناول الذراع فأخذها ولاك منها مضغة و انتهش منها و معه بشر بن البراء بن معروف تناول عظما فانتهش منه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ادفعوا أيدكم فإنّ كتف هذا الشاة يخبرني أنّها مسمومة ثمّ دعاها فاعترفت فقال: ما حملك على ذلك؟ فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان نبيّا فسيخبر و إن كان ملكا استرحنا منه فتجاوز عنها رسول اللّه و مات بشر من أكلته الّتي أكل.

ثمّ دخلت امّ بشر بن البراء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تعوده في مرضه الّذي توفّي فيه

ص: 182

فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا امّ بشر ما زالت اكلة خبز الّتي أكلت مع ابنك تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري و كان المسلمون يرون أنّ رسول اللّه مات شهيدا مع ما أكرمه اللّه من النبوّة.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): الآيات 22 الى 23]

وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)

المعنى [وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا] من قريش يوم الحديبية يا معشر المؤمنين [لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ] منهزمين بنصرة اللّه إيّاكم و خذلان اللّه إيّاهم و قيل: المراد بالّذين كفروا من أسد و غطفان الّذين أرادوا نهب ذراريّ المسلمين [ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً] يواليهم و يدافع عنهم و هذا من الغيب و في ذلك إشارة إلى أنّ المعدوم معلوم في علم اللّه.

[سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أي هذه سنّتي في أهل طاعتي و أهل معصيتي و عادتي السالفة أنّ كلّ قوم إذا قاتلوا أنبياءهم انهزموا و قتلوا [وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ و عادته [تَبْدِيلًا].

[سورة الفتح (48): الآيات 24 الى 25]

وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)

النزول: إنّ المشركين بعثوا أربعين رجلا- و قيل: ثمانين رجلا- عام الحديبية ليصيبوا المسلمين هبطوا من جبل التنعيم عند صلاة الفجر و قيل: خرج ثلاثون شابّا عليهم السلاح فدعا عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخذ اللّه بأبصارهم فأخذهم أصحاب رسول اللّه فخلّى صلّى اللّه عليه و آله سبيلهم فنزلت الآية.

المعنى: [وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ أي أيدي كفّار مكّة [وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ] أي في الحديبية لأنّها من مكّة و ذلك أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة من المشركين إلى الحديبية فبعث رسول اللّه خالد بن الوليد (1) على جند فهزمهم حتّى

ص: 183


1- و لا يستقيم هذا، فان خالدا لم يسلم حتى الحديبية و قد مر انه كمن مع مائتي نفر يريدون الغيلة باصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله فانزل اللّه صلاة الخوف و وقاهم شرهم.

أدخلهم حيطان مكّة ثمّ عاد و قيل: إنّ هذا الأمر كان يوم الفتح، و به استشهد أبو حنيفة على أنّ مكّة فتحت عنوة لا صلحا.

[مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فكفّ أيديهم عنكم بالفرار و أيديكم عنهم بالرجوع عنهم و تركهم و قوله: «مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ» منّة على المؤمنين بأنّ الظفر كان لكم مع أنّ الظاهر كان يقتضي كون الظفر لهم لكثرة عددهم و لكون البلاد لهم فكان هذا الأمر بعيدا لكونهم لا بدّ لهم الذبّ عن أهليهم و أولادهم و لذا قال تعالى: «بِبَطْنِ مَكَّةَ» و أمّا كفّ المسلمين عنهم أيضا أمر بعيد لأنّهم بعد أن ظفروا بعدوّهم يقتضي أن يستأصلوهم كما هو عادة العدوّ و اللّه تعالى بحسب علمه بالعاقبة كفّ اليدين [وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً] يرى سبحانه من المصلحة.

ثمّ ذكر سبحانه المصلحة و السبب في الصلح فأشار إلى أنّ الكفّ لم يكن لأمر فيهم لأنّهم كفروا و منعوك و المسلمين عن المسجد الحرام و كلّ ذلك يقتضي قتالهم و المنع و الكفّ عن القتال بالصلح في الحديبية ليس بسببهم لأنّهم كفروا و صدّوا و ذلك يقتضي القتال لا الكفّ [وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ و جواب لو لا محذوف تقديره لما كفّ اللّه و إنّما ذلك للرجال المؤمنين و النساء المؤمنات أي رجال غير معلومي الوطء و ما تعرفونهم و أنتم غير عاملين بأعيانهم لاختلاطهم مع المشركين أن تطئوهم أي إذا أقدمتم على القتال توقّعوا بكم [فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ من جهتهم [مَعَرَّةٌ] أي مشقّة و مكروه مثل الكفّارة بقتلهم و وجوب الدية و التأسّف عليهم و الإثم بالتقصير في البحث عنهم و أيضا تعيّر المشركين إيّاكم بأنّكم قتلتم أهل دينكم و جواب لو محذوف أي لوطئتم رقاب المشركين و للزمكم القتال معهم فذكر اللّه أوّلا المقتضي للقتال و هو الكفر و الصدّ ثمّ ذكر ما امتنع لأجله مقتضاه و هو وجود الرجال.

و قوله: [وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ عطف على كلمة «كم» في صدّوكم و قرئ الهدي بالجرّ عن المسجد و معكوفا حال من الهدي أي منعهم و حبسهم الهدي أن يبلغ محلّه الّذي يكون أن ينحر فيه و الحاصل صدّهم الهدي عن محلّ المعهود الّذي هو منى و بالجملة لو لا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين الكافرين غير عاملين أنتم بهم فيصيبكم بذلك

ص: 184

مكروه لمّا كفّ اللّه أيدكم عنهم.

[لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ بذلك الكفّ المؤدّي إلى الفتح بعد ذلك [مَنْ يَشاءُ] و اللام متعلّق بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام تقديره فحال بينكم و بينهم ليدخل اللّه في رحمته من يشاء يعني من أسلم من الكفّار بعد الصلح.

[لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي لو تميّز المؤمنون من الكافرين لعذّبنا الّذين كفروا من أهل مكّة [عَذاباً أَلِيماً] بالسيف و القتل بأيديكم و لكنّ اللّه يدفع بالمؤمنين عن الكفّار فلحرمة اختلاطهم بهم لم يعذّبهم، اعرفوا قدر الصلحاء فإنّ كونهم فيكم مانع عنكم العذاب «وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ» الآية.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): الآيات 26 الى 29]

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29)

المعنى: [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ الآية] «إِذْ» تتعلّق بقوله: «لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا» أو متعلّق بصدّوكم أو بفعل مقدّر أي اذكر جعل الكفّار حميّة الجاهليّة أي الحميّة الناشئة من جهلهم القديم جعلوا هذه الأنفة و العصبيّة ثابتة في قلوبهم و تلك الحميّة أن لا ينقادوا لأحد.

و ذلك أنّ كفّار مكّة قالوا: قد قتل محمّد و أصحابه آباءنا و إخواننا و يدخلون علينا

ص: 185

في منازلنا فتتحدّث العرب أنّهم دخلوا علينا على رغم أنفنا و اللّات و العزّى لا يدخلونها علينا فهذه الحميّة الجاهليّة الّتي دخلت قلوبهم أو المراد أنفتهم من الإقرار لمحمّد بالنبوّة و الاستفتاح ببسم اللّه الرحمن الرحيم حيث أراد صلّى اللّه عليه و آله يكتب كتاب الصلح في الحديبية.

فأنزل اللّه سكينته على رسوله و على المؤمنين و لمّا جعل الكافرون لأنفسهم حميّة الجاهليّة و انوفتها جعل اللّه للمؤمنين الطمأنينة في الإيمان و السكينة و التقوية في قلوبهم فما جعل للكافرين بجعلهم و ما جعل للمؤمنين بجعل اللّه و الفرق بين الفاعلين ما لا يخفى كما أنّ بين المفعولين مباينة تامّة و أين الحميّة الجاهليّة و السكينة الإلهيّة؟

ثمّ تأمّل في حسن العبارة في قوله تعالى: «فَأَنْزَلَ» عبّر سبحانه بالفاء لا بالواو إشارة إلى أنّ ذلك كالمقابلة تقول: أكرمني فأكرمته للمجازاة و المقابلة و لو قلت: أكرمني و أكرمته لا ينبئ عن هذا المعنى.

قوله: [وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى و هي قول لا إله إلّا اللّه عن ابن عبّاس و جماعة و في العلل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال في تفسير لا إله إلّا اللّه: و هي كلمة التقوى يثقل اللّه بها الموازين يوم القيامة و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: هي الإيمان و في المجالس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ عليّا راية الهدى و إمام أوليائي و نور لمن أطاعني و هو الكلمة الّتي ألزمها المتّقين و قال عليّ عليه السّلام في خطبة: أنا عروة اللّه الوثقى و الكلمة التقوى.

قوله: [وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها] قيل في الآية تقديم و تأخير و التقدير كانوا أهلها و أحقّ بها أي كان المؤمنون أهل تلك الكلمة و أحقّ بها من المشركين و قيل: المعنى و كانوا أحقّ بنزول السكينة عليهم و أهلا لها و قيل: و كان المؤمنون أحقّ بمكّة أن يدخلوها و أهلها و قد يكون حقّ أحقّ من غيره [وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً] فبيّن سبحانه علمه ببواطن سرائرهم و ما ينطوي عليه عقد ضمائرهم.

[لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ و بيانه أنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا و حسبوا أنّهم داخلون مكّة عامهم ذلك فلمّا انصرفوا من الحديبية و لم يدخلوا مكّة قال المنافقون: ما حلّقنا و ما قصّرنا و لا دخلنا المسجد الحرام، فأنزل اللّه هذه

ص: 186

الآية و أخبر أنّه أرى رسوله الصدق في منامه لا الباطل و أنّهم يدخلونه و أقسم على ذلك فقال:

[لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ يعني العام المقبل [إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ استثنى اللّه ممّا يعلم و يستثني الناس في ما لا يعلمون و قيل: إنّ الاستثناء من الدخول و كان بين نزول الآية و الدخول مدّة سنة و قد مات منهم أناس في السنة فيكون تقدير الآية: ليدخلنّ كلّكم إن شاء اللّه لأنّه سبحانه علم أنّ منهم من يموت قبل السنة أو يمرض فلا يدخلها فأدخل الاستثناء لأن لا يقع في الخبر خلف و قيل: إنّ الاستثناء داخل على الخوف و الأمن و هذه الأقوال الثلاثة للبصريّين. و قيل: إنّ إن في الآية بمعنى إذ هنا أي إذ شاء اللّه ذلك مثل قوله تعالى: «وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» و معناه: إذ كنتم مؤمنين و هذا القول لا يرتضيه البصريّون.

[مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ أي محرمين يحلّق بعضكم رأسه أو يقصّر و يأخذ بعض الشعر و في الآية دلالة على أنّ المحرم عند التحلّل من الإحرام بالخيار إن شاء حلّق و إن شاء قصّر [لا تَخافُونَ مشركا حال من فاعل لتدخلنّ أو من آمنين أو من محلّقين أو من مقصّرين أو استيناف و المعنى لا تخافون بعد ذلك.

[فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا] عطف على «صَدَقَ» أي علم سبحانه عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة أمورا من الحكمة الداعية لتأخّر دخولكم في سنتكم كالسبب لوطوء المؤمنين و المؤمنات أو من المصالح المتجدّدة و المراد بعلمه العلم الفعليّ المتعلّق بأمر حادث بعد ذلك.

[فَجَعَلَ لأجل هذه المصلحة [مِنْ دُونِ ذلِكَ أي من قبل دخولكم [فَتْحاً قَرِيباً] و المراد إمّا صلح الحديبية و عمرة القضا أو فتح خيبر و قوله تعالى في الآية السابقة: «وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» يدفع توهّم حدوث علمه من قوله: «فَعَلِمَ» لأنّ قوله: «وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» يفيد سبق علمه العامّ لكلّ علم محدث.

[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِ أي إنّ اللّه هو الّذي أرسل رسوله محمّد بالدليل الواضح و قيل: المراد بالهدى القرآن و دين الحقّ أي الإسلام [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ على جميع الأديان و قيل: إن تمام ذلك عند خروج القائم فلا يبقى في الأرض

ص: 187

دين سوى دين الإسلام [وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً] بذلك.

ثمّ قال: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ نصّ على اسمه لتزول الشبهة و تمّ الكلام هنا.

ثمّ أثنى على المؤمنين فقال: [وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ قيل: بلغ من تشديد المؤمنين على الكفّار أن كانوا يحترزون من ثياب المشركين حتّى لا يلتصق بثيابهم و عن أبدانهم حتّى لا تمسّ أبدانهم قال الصادق عليه السّلام: أوحى اللّه إلى نبيّ من أنبيائه قل لمن آمن بي: لا يلبسوا لباس أعدائي و لا يطعموا مطاعم أعدائي و لا يسلكوا ما سلك أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي؛ و كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه و عانقه و يظهرون لمن خالف دينهم الشدّة و الصلابة و لمن وافقهم في الدين الرحمة و الرأفة و لم يستذلّون و يتسخّرون و على الكافرين أقوياء و متصلّبين.

[تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً] من طرق العامّة المراد عليّ و كان يسمع في كلّ ليلة ألف تكبيرة الإحرام من مصلّاه، إخبار من اللّه في كثرة صلاتهم و مداومتهم عليها [يَبْتَغُونَ بذلك [فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً] و يطلبون نعم اللّه و رضاءه [سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ] أي علامتهم يوم القيامة أن يكون مواضع سجودهم أشدّ بياضا قال شهر بن حوشب: يكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر و قيل: المراد من السيماء الصفرة و النحول في وجوههم و أبدانهم إذا رأيتهم حسبتهم مرضى و ما بهم مرض [ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ] أي إنّ ما ذكر من وصف المؤمنين هو ما وصفوا به في التوراة.

[وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ثمّ ذكر نعتهم في الإنجيل فقال: «وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ» و قيل:

ليس بينهما وقف و المعنى ذلك مثلهم في التوراة و الإنجيل جميعا و وصفوا في الكتابين و مثّلوا [بزرع أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي فراخه و نبوغه و إنّ هذه الأفراخ لحقت الأمّهات حتّى صارت مثلها فتهوّت [فَآزَرَهُ أي فقوّى الزرع ذلك الشطء [فَاسْتَغْلَظَ] أي متن و غلظ ذلك الزرع [فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أي قام على قصبه و أصوله فاستوى الصغار مع الكبار و تناهى و بلغ الغاية.

[يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي يروع ذلك الزرع الزرّاع و الأكرة الّذين زرعوه قال الواحديّ: هذا مثل ضربه اللّه فالزرع محمّد و الشطء المؤمنون حوله و كانوا في ضعف و قلّة كما

ص: 188

يكون الزرع في أوّله دقيقا ثمّ غلظ و قوي و تلاحق فكذلك المؤمنون قوّى بعضهم بعضا فاستووا على أثر أمره صلّى اللّه عليه و آله [لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ] و إنّما كثّرهم اللّه و قوّاهم ليكونوا غليظا للكافرين بتظاهرهم و اتّفاقهم على الطاعة.

ثمّ قال سبحانه: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي وعد من أقام على الإيمان و الطاعة [مَغْفِرَةً] أي سترا على ذنوبهم الماضية [وَ أَجْراً عَظِيماً] و ثوابا جزيلا دائما.

ص: 189

سورة الحجرات

اشارة

* (مدنية إلّا آية قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى ) فضلها عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة الحجرات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع اللّه و من عصاه. الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ سورة الحجرات في كلّ يوم أو في كلّ ليلة كان زوّار محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 190

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الحجرات (49): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)

وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

النزول: نزل قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلى قوله: «غَفُورٌ رَحِيمٌ» في وفد تميم و هم عطارد بن حاجب بن زرارة مع أشراف من بني تميم منهم الأقرع بن حابس و الزبرقان بن بدر و عمرو بن الأهتم و قيس بن عاصم في وفد عظيم فلمّا دخلوا المسجد نادوا من وراء الحجرات أن اخرج إلينا يا محمّد فآذى ذلك رسول اللّه فخرج إليهم فقالوا: جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا و خطيبنا فقال صلّى اللّه عليه و آله: قد أذنت فقام عطارد بن حاجب- و كان رجل الفصاحة- و قال: الحمد للّه الّذي جعلنا ملوكا الّذي له الفضل علينا و الّذي وهب لنا أموالا عظاما نفعل بها المعروف و جعلنا أعزّ أهل المشرق و أكثر عددا و عدّة فمن مثلنا في الناس فمن فاخرنا فليعدّ مثل ما عددنا و لو شنئا لأكثرنا من الكلام و لكنّا نستحيي من الإكثار ثمّ جلس.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لثابت بن قيس بن شماس: قم فأجبه فقام ثابت فقال:

الحمد للّه الّذي خلق السماوات و الأرض خلقة فقضى فيه أمره و وسع كرسيّه علمه و لم يكن شي ء قطّ إلّا من فضله أن جعلنا ملوكا و اصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا و أصدقه حديثا و أفضله حسبا فأنزل اللّه عليه كتابا و ائتمنه على خلقه فكان خيرة اللّه على العالمين ثمّ دعا الناس إلى الإيمان باللّه فآمن به المهاجرون من قومه و ذوي رحمه أكرم

ص: 191

الناس أحسابا و أحسنهم وجوها فكان أوّل الخلق إجابة و استجابة للّه حين دعاه رسول اللّه نحن فنحن أنصار رسول اللّه و ردؤه؛ نقاتل الناس حتّى يؤمنوا فمن آمن باللّه و رسوله منع ماله و دمه و من نكث جاهدناه في اللّه أبدا و كان قتله علينا يسيرا، أقول هذا و استغفر اللّه للمؤمنين و المؤمنات و السّلام عليكم.

ثمّ قام الزبرقان بن بدر ينشد و أجابه حسّان بن ثابت.

فلمّا فرغ من قوله قال الأقرع: إنّ هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا و شاعره أشعر من شاعرنا و أصواتهم أعلى من أصواتنا فلمّا فرغوا أجازهم رسول اللّه و أحسن جوائزهم و أسلموا.

أقول: و هذا عمرو بن الأهتم و الزبرقان بن بدر و قيس بن عاصم لمّا و ردوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال الميدانيّ في مجمع الأمثال: إنّه صلّى اللّه عليه و آله سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان أن يعرّفه فقال: عمرو إنّه مطاع في عشيرته شديد العارضة مانع لما وراء ظهره فقال الزبرقان:

يا رسول اللّه إنّه ليعلم منّي أكثر من هذا و لكنّه حسدني فقال عمرو: أما و اللّه إنّه لزم المروءة ضيق العطن أحمق الوالد لئيم الخال و اللّه يا رسول اللّه ما كذبت في الاولى و لقد صدقت في الآخرة و لكنّي رجل رضيت فقلت أحسن ما علمت و سخطت فقلت أقبح ما وجدت فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ من البيان لسحرا يعني إنّ بعض البيان يعمل السحر و معنى السحر إظهار الباطل في صورة الحقّ و البيان موضوعة اجتماع الفصاحة و البلاغة و ذكاء القلب مع اللسان و إنّما شبّه بالسحر لحدّة أثره في سامعه و سرعة قبول القلب له، انتهى كلام الميدانيّ.

و قيل: إنّ الوافد كانوا أناسا من بني العنبر كان للنبيّ سبيا من ذراريّهم فأقبلوا إلى فدائهم فقدموا المدينة و دخلوا المسجد و عجّلوا أن يخرج إليهم النبيّ فجعلوا يقولون يا محمّد اخرج إلينا عن أبي حمزة الثماليّ عن عكرمة عن ابن عبّاس فنزلت «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» و روى زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: ما سلّت السيوف و لا أقيمت الصفوف في صلاة و لا رجوف و لا جهر بأذان و لا أنزل اللّه يا أيّها الّذين آمنوا حتّى أسلم أبناء الأوس و الخزرج.

ص: 192

قوله: [لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ و المراد من بين يدي اللّه الأمام لأنّ ما بين يدي الإنسان أمامه و المعنى: لا تقطعوا أمرا و لا تعجلوا به دون اللّه و رسوله و لا تفعلوا ما تؤثرونه و تتركوا ما أمركم اللّه و رسوله به و لا تقدّموا أمرا على ما أمركم اللّه به و المفعول و هو أمر محذوف و «قدموا» في الآية بمعنى تقدّم و قيل: معنى الآية لا تقدّموا أعمال الطاعة قبل الوقت الّذي أمر اللّه و رسوله به حتّى قيل: لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها و قيل:

المعنى: لا تمكّنوا أحدا يمشي أمام رسول اللّه بل كونوا له تبعا و أخّروا أقوالكم واقعا لكم عن قوله و فعله و قيل: نزلت في قوم ذبحوا الأضحيّة قبل صلاة العيد فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالإعادة و قال ابن عبّاس: نهوا أن يتكلّموا قبل كلامه فالمعنى إذا كنتم جالسين في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سئل عن مسألة فلا تسبقوه بالجواب حتّى يجيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أوّلا و قيل: معناه لا تسبقوه بقول و لا يفعل حتّى يأمركم به.

و الأصحّ حمل الآية على الجميع فإنّ كلّ شي ء كان خلافا للّه و لرسوله إذا فعل فهو تقديم بين يدي اللّه و رسوله و ذلك ممنوع.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي اجتنبوا معاصيه [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم [عَلِيمٌ بأعمالكم فيجازيكم بها.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ لأنّ فيه أحد الشيئين إمّا نوع استخفاف به فهو الكفر و إمّا سوء الأدب فهو خلاف تعظيم المأمور به.

[وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي غضّوا أصواتكم و ليّنوا عند مخاطبتكم إيّاه و في مجلسه فإنّه ليس مثلكم إذ يجب توقيره من كلّ وجه و قيل: معناه لا تقولوا له: يا محمّد كما يخاطب بعضكم بعضا بل خاطبوه بالتعظيم و التجليل و قولوا: يا رسول اللّه [أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي كراهة أن تحبط أو لئلّا تحبط أعمالكم و قيل: إنّه في حرف عبد اللّه أبي مسعود فتحبط أعمالكم [وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ لا تعلمون أنّكم أحبطتم أعمالكم لأنّهم إذا عظّموه استحقّوا الثواب فلمّا فعلوا على خلاف ذلك الوجه استحقّوا العقاب وفاتهم ذلك الثواب فانحبط أعمالهم.

ثمّ مدح سبحانه من يعظّم رسوله و يوقّره فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ

ص: 193

رَسُولِ اللَّهِ أصواتهم في مجلسه إجلالا له [أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي أخلصها للتقوى مأخوذ من امتحان الذهب بالنار إذا أذيب حتّى يذهب غشّه و تبقى خالصه و قيل: المعنى: إنّه علم خلوص نيّاتهم لأنّ الإنسان يمتحن الشي ء ليعلم حقيقته و قيل:

معناه عاملهم معاملة المختبر بما تعبّدهم به من هذه العبادة فخلصوا على الاختبار كما يخلص الذهب الجيّد بالنار [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من اللّه لذنوبهم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ على طاعتهم.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ و هم الجفاة من بني تميم لم يعلموا في أيّ حجرة هو صلّى اللّه عليه و آله فكانوا يطوفون على الحجرات و ينادونه [أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وصفهم اللّه بالجهل و قلّة العقل و الفهم إذ لم يعرفوا قدر النبيّ و لا ما استحقّه من التوقير فهم بمنزلة البهائم.

[وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من أن ينادونك من وراء الحجرات في دينهم فيما يحرزونه من الثواب و في دنياهم باستعمالهم حسن الأدب في مخاطبة الأنبياء ليعدّوا في زمرة العقلاء و قيل: معناه لأطلقت أسراءهم بغير فداء فإنّ رسول اللّه كان سبى قوما من بني العنبر فجاءوا في فدائهم فأعتق نصفهم و فادى النصف فيقول سبحانه: و لو أنّهم صبروا لكنت تعتق كلّهم [وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب منهم.

[سورة الحجرات (49): الآيات 6 الى 10]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

النزول: في قوله: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ» نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه

ص: 194

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحا به و كانت بينهم عداوة في الجاهليّة فظنّ الوليد أنّهم همّوا بقتله فرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّهم منعوا صدقاتهم و كان الأمر بخلافه فغضب النبيّ و همّ أن يغزوهم فنزلت الآية عن ابن عبّاس و مجاهد و جماعة.

و قيل: إنّها نزلت فيمن قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّ مارية يأتيها ابن عمّ لها قبطيّ فدعا رسول اللّه عليّا و قال: يا أخي خذ هذا السيف فإن وجدته عندها فاقتله، فقال: يا رسول اللّه أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكّة المحماة أمضي لما أمرتني أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب قال عليّ: فأقبلت متوشّحا بالسيف فوجدته عندها فاخترطت السيف فلمّا عرف أنّي أريده أتى نخلة فرقي إليها و شفر برجليه فإذا هو أجبّ أمسح و ماله ما للرجال قليل و لا كثير و ذلك بعد أن ألقى نفسه عن النخلة، قال عليّ عليه السّلام: فرجعت و أخبرت النبيّ، فقال: الحمد للّه الّذي يصرف عنّا السوء أهل البيت.

و بالجملة قوله تعالى: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ] أي بخبر عظيم الشأن من فاسق خارج عن طاعة اللّه إلى معصيته [فَتَبَيَّنُوا] صدقه من كذبه و لا تبادروا إلى العمل بخبره. و من قرأ فتثبّتوا فالمعنى توقّفوا فيه و تأنّوا حتّى تثبت حقيقته عندكم [أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ] أي حذرا من أن تصيبوا قوما في أنفسهم و أموالهم بغير علم بحالهم و ما هم عليه من الطاعة و الإسلام [فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ من إصابتهم بالخطاء [نادِمِينَ لا يمكنكم تداركه.

و في هذا دلالة على أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم و لا العمل لأنّ المعنى إن جاءكم من لا تأمنون أن يكون خبره كذبا فتوقّفوا فيه و هذا التعليل موجود في خبر من يجوز كونه في خبره كاذبا.

و قد استدلّ بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من حيث إنّ اللّه أوجب التوقّف في خبر الفاسق فدلّ على أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه لأنّ دليل الخطاب لا يعوّل عليه عندنا و عند أكثر المحقّقين.

ص: 195

[وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي فاتّقوا اللّه أن تقولوا باطلا عنده فإنّ اللّه يخبره بذلك فتفضحوا و قيل: معناه و اعلموا بما أخبره اللّه من كذب الوليد أنّ فيكم رسول اللّه فهذه إحدى معجزاته [لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي لو فعل ما تريدونه في كثير من الأمر لوقعتم في عنت و هلاك يقال: فلان يعنت فلانا أي لطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك و قد أعنت من العظم إذا هيض بعد الجبر و هذا يدلّ على أنّ بعض المؤمنين زيّنوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الإيقاع ببني المصطلق و تصديق قول الوليد و تطير هذه الهناة كانت تفرط منهم و الطاعة تراعى فيها الرتبة فلا يكون الإنسان مطيعا لمن دونه في الدين و إنّما يكون مطيعا لمن فوقه.

ثمّ خاطب المؤمنين الّذين لا يكذبون فقال: [وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أي جعله أحبّ الأديان إليكم بأن أقام الأدلّة على صحّته مثل وجود النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الكتاب و بما وعد من الثواب عليه [وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ و جعل هذا الدين محبوبا عندكم بالألطاف الداعية إليه.

[وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ] بما وصف من العقاب عليه [وَ الْفُسُوقَ أي الخروج عن الطاعة إلى المعاصي و عن القصد و العدل بظلم نفسه [وَ الْعِصْيانَ أي الامتناع من الانقياد و هو شامل لجميع الذنوب و الفسوق مختصّ بالكبائر [أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي المستثنين بقوله:

«وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ» هم السالكون إلى الطريق السويّ الموصل إلى الحقّ.

و في الآية تلوين و عدول حيث ذكر أوّل الآية على وجه الخطاب و آخرها على المغايبة حيث قال: «أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» ليعلم أنّ جميع من كان حاله هكذا فقد دخل في هذا المدح كما قال أبو اللّيث.

[فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً] و هذا الفضل و الإنعام تعليل لقوله: «حَبَّبَ» ذكره للراشدين فإنّ الفضل و الإنعام فعل اللّه و الرشد و إن كان مسبّبا عن فعله و هو التحبّب و التكريه لكنّ السلوك و الرشد إلى طريق الهداية و قبولها مستند إليهم لأنّهم قبلوا هذا السلوك لأنّ الرشد قائم بالقوم و الفضل و الإنعام قائمان به تعالى و ليس المراد من الفاعل

ص: 196

إلّا من قام به الفعل [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عليم بما بينكم من التمايز و التفاضل حكيم يفعل كلّ ما يفعل بموجب المصلحة و الشأن.

[وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما] أي فقاتلوا، و أتى بلفظ الجمع باعتبار المعنى فإنّ كلّ طائفة جمع و الطائفة جماعة من الناس لكن دون الفرقة و الفرقة أكثر عددا من الطائفة.

نزلت الآية في الأوس و الخزرج وقع بينهما قتال. و قيل: نزلت في رهط عبد اللّه بن ابيّ بن سلول من الخزرج و رهط عبد اللّه بن رواحة من الأوس و السبب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وقف على عبد اللّه بن ابيّ فراث حمار رسول اللّه- أو بال- فأمسك عبد اللّه أنفه و قال:

إليك عنّي فقال عبد اللّه بن رواحة: لبول حمار رسول اللّه أطيب ريحا منك و من أبيك فغضب قوم عبد اللّه بن ابيّ و أعان ابن رواحة قومه و وقع بينهما ضرب بالحديد و الأيدي و النعال.

و بالجملة إن فريقان من المؤمنين قاتل أحدهما صاحبه فأصلحوا بينها حتّى يصطلحا و لا دلالة في هذا على أنّهما إذا اقتتلا بقيا على الإيمان و يطلق عليهما هذا الاسم و لا يمتنع أن يفسّق إحدى الطائفتين أو يفسّقا جميعا و طائفتان فاعل فعل محذوف وجوبا لا مبتدء لأنّ حرف الشرط لا يدخل إلّا على الفعل لفظا أو تقديرا و التقدير: و إن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، و اقتتلوا يفسّر الأوّل و حذف الأوّل لأنّ الفعل الثاني بيّنه.

[فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما] و الصلاح الحصول على الحالة الحسنة النافعة و الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا و كانوا مؤمنين من أعظم الطاعات و أتمّ القربات.

قال صلّى اللّه عليه و آله: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام و الصلاة و الصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه قال: إصلاح ذات البين و في الحديث المؤمن أخو المؤمن لا يظلمه و لا يخذله و لا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلّا باذنه و لا يؤذيه بقتار قدره إلّا أن يغرف له منها و لا يشتر لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره و لا يطعمونهم منها.

و لمّا نزلت الآية قرأها رسول اللّه عليهم و أصلح بينهم.

فإن قيل: إنّ عبد اللّه بن ابيّ كان منافقا و الآية في طائفتين من المؤمنين.

ص: 197

فالجواب أنّ طائفة عبد اللّه بن ابيّ ما كانوا كلّهم منافقين و فيهم مؤمنون و الآية تناول المؤمنين.

و قال ابن بحير: القتال لا يكون بالنعال و الأيدي و ذلك كان كذلك و إنّما هذا في المنتظر من الزمان، و هذا بعيد لأنّ المراد من القتل أمر يحصل به زهوق الروح و ذلك يحصل بأيّ شي ء كان على أنّ القتال قد يستعمل مجازا في المضاربة و المحاربة.

[فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما] و تعدّت و استطالت إحدى الطائفتين و كانت مبطلة [عَلَى الْأُخْرى و كانت محقّة [فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أي قاتلوا الطائفة الباغية [حَتَّى تَفِي ءَ] أي ترجع [إِلى أَمْرِ اللَّهِ إلى حالة محمودة و هي المصالحة و رفع العداوة و الرجوع إلى حكمه الّذي حكم له و إنّما اطلق الفي ء على الظلّ لرجوعه بعد إزالة الشمس فإنّ الشمس كلّما ازداد ارتفاعا ازداد الظلّ انتساخا و زوالا و ذلك إلى أن توازي الشمس خطّ نصف النهار فإذا زالت عنه و أخذت في الانحطاط أخذ الظلّ في الظهور و الرجوع فلمّا كان الزوال سببا لرجوع ما انتسخ من الظلّ أضيف الظلّ إلى الزوال. فقيل: في ء الزوال، و يطلق أيضا على الغنيمة لرجوعها من الكفّار إلى المسلمين و تلك الأموال و إن لم تكن أوّلا للمسلمين لكنّها لمّا كانت حقّهم لإيمانهم كأنّهم كانت لهم فرجعت إليهم.

و مرّ الأصمعيّ بحيّ من أحياء العرب فصحاء فوجد صبيّا يلعب بالتراب مع الأتراب في الصحراء فقال الأصمعيّ: أين أباك يا صبيّ؟ فنظر إليه الصبيّ و لم يجب ثمّ قال الأصمعيّ: أين أبيك؟ فنظر إليه و لم يجب كالأوّل ثمّ قال: أين أبوك؟ فقال: قد فاء إلى الفيفاء ليطلب الفي ء فإذا فاء الفي ء فاء.

قوله تعالى: [فَإِنْ فاءَتْ أي فإن رجعت عن القتال و أنابت إلى طاعة اللّه [فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما] أي بينها و بين الطائفة الّتي على الإيمان [بِالْعَدْلِ أي بالقسط و السواء و لا يكون شطط بينهما من الأرش و الجنايات [وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين.

[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] في الدين يلزم نصرة بعضهم لبعض و الإخوة جمع الأخ و أصله المشارك الآخر في الولادة من الطرفين أو من أحدهما أو من الرضاع و يستعار لكلّ

ص: 198

مشارك لغيره في القبيلة أو في الدين أو في صفة أو في مودّة أو غيره من المناسبات و قال بعض أهل اللّغة: الإخوة جمع الأخ من النسب و الأخوان جمع الأخ من الخلّة و الصداقة و الآية من قبيل التشبيه البليغ من تشبيه الإيمان بالأب في كونه سببا للحياة كالأب [فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ و تخصيص الاثنين بالذكر لإثبات لزوم الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولويّة لتضاعف الفساد فيه.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ في رعاية الحقوق و الأوامر [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ راجين أن ترحموا على تقواكم أو لكي ترحموا و عن سالم عن أبيه أنّ رسول اللّه قال: المؤمن أخو المؤمن لا يظلمه و من كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته و من فرج عن مسلم كربة فرّج اللّه عنه كربة من كروب يوم القيامة و من سرّ مسلما يسرّه اللّه يوم القيامة أورده البخاريّ و مسلم في صحيحيهما.

و في وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السّلام: يا عليّ سر ميلا عد مريضا و سر ميلين شيّع جنازة سر ثلاثة أميال أجب دعوة سر أربعة أميال زر أخا في اللّه، سر خمسة أميال أجب دعوة الملهوف، سر ستّة أميال انصر المظلوم و عليك بالاستغفار.

قوله تعالى: [سورة الحجرات (49): الآيات 11 الى 14]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

قوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ الآية قال ابن عبّاس: نزلت الآية في ثابت بن قيس بن

ص: 199

شماس كان في اذنه وقر فكان إذا أتى مجلس رسول اللّه و قد سبقوه بالمجلس و وسّعوا له حتّى يجلس في جنبه صلّى اللّه عليه و آله ليسمع ما يقول فأقبل ذات يوم و قد فاتته ركعة عن صلاة الفجر فلمّا انصرف النبيّ أخذ أصحابه مجالسهم و ضاق كلّ رجل بمجلسه فلا يكاد يوسّع أحد لأحد فكان الرجل إذا جاء لا يجد مجلسا فيقوم على رجليه فلمّا فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول اللّه يتخطّى رقاب الناس و هو يقول: تفسّحوا تفسّحوا فجعلوا يتفسّحون حتّى انتهى إلى رسول اللّه بينه و بينه رجل فقال له: تفسّح فلم يفصل الرجل فقال ثابت: من هذا فقال له الرجل: أنا فلان فقال: بل أنت ابن فلانة يريد امّا له كان يعيّر بها في الجاهليّة فخجل الرجل و نكس رأسه فنزلت الآية.

و روي أنّ قوله: [وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ] نزل في نساء النبيّ عيّرن أمّ سلمة بالقصر أو أنّ عائشة قالت: إنّ امّ سلمة جميلة لو لا أنّها قصيرة.

و قيل: إنّ الآية نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما بعد فتح مكّة فكان المسلمون إذا رأوه قالوا: هذا ابن فرعون هذه الامّة فشكا ذلك للنبيّ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات فنزلت الآية، ثمّ صارت الآية عامّة في الرجال و النساء فلا يجوز لأحد أن يسخر من صاحبه أو من أحد من خلق اللّه. و عن ابن مسعود: إنّي لأخشى لو سخرت من كلب أن احوّل كلبا و ذلك لأنّ المؤمن ينبغي أن ينظر إلى الخالق فإنّه ضيّعه لا إلى المخلوق. قيل للقمان: ما أقبح وجهك؟ فقال: تعيب بهذا على النقش أو على النقّاش؟

و قيل: في قوله: «وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ» نزل في نساء النبيّ سخرن من امّ سلمة و كانت لابسة ثوب أبيض و سدلت طرفه خلفها فكانت تجرّه فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب فهذا كانت سخر منها.

[عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ أي يمكن أن تكون المطعونة بالعيب و السخريّة خيرا من العائبة عند اللّه [وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعيب بعضكم بعضا لأنّ المؤمنين كنفس واحدة. و قيل: اللّمز العيب في المشهد و الهمز العيب في المغيب أو اللمز يكون باللّسان و بالعين و بالإشارة و الهمز لا يكون إلّا باللّسان. و قيل: معنى «وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ»

ص: 200

أي لا يلعن بعضكم بعضا و لا تنابزوا بالألقاب، و المراد من اللقب لقب إذا دعي به الإنسان يكرهه، أمّا إذا لا يكرهه مثل الفقيه فلا بأس. و قيل: هو قول التعيّر مثل أن يعمل إنسان شيئا من القبيح ثمّ يتوب منه فيعيّر بما سلف منه عن ابن عبّاس.

و روي أنّ صفيّة بنت حيّ بن أخطب جاءت إلى النبيّ تبكي فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما وراك؟

فقالت: إنّ عائشة تعيّرني و تقول: يهوديّة بنت يهوديّين فقال صلّى اللّه عليه و آله: هلّا قلت: أبي هارون و عمّي موسى و زوجي محمّد؟ فنزلت الآية عن ابن عبّاس.

و بالجملة النبز القذف باللقب و الحاصل أنّه لا تلقّبوا و لا يدعو بعضكم بعضا بألقاب قبيحة [بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي بئس الاسم اسم الفسوق بأن يقول له: يا يهوديّ مثلا و قد آمن، أو المعنى بئس الشي ء اكتساب اسم الفسوق لنسبة العيب إلى المؤمنين.

قال صاحب روح البيان: الاسم في الآية ليس ما يقابل اللّقب و الكنية و لا مقابل الفعل و الحرف بل بمعنى الذكر المرتفع لأنّه من السموّ و المعنى في الآية بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم في الإيمان.

و قيل: المعنى بئس الاسم اسم يخرجهم عن الإيمان و يدخلهم في الفسوق مع أنّهم دخلوا في الإيمان و الطّاعة و هذا المعنى يطابق ما ذكرنا في نزول الآية في حقّ صفيّة.

[وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ من التنابز و المعاصي و يرجع إلى طاعة اللّه [فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ نفوسهم بفعل ما يستحقّون به العقاب و في الآية دلالة على أنّ الرجل بترك التوبة يدخل مدخل الظلمة.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ قيل: هو أن يظنّ بأهل الخير سوءا فأمّا أهل السوء و الفسق فلنا أن نظنّ بهم مثل ما ظهر منهم و قيل: إذا ظنّ بأخيه المسلم سوءا لا بأس به ما لم يتكلّم به فإن تكلّم بذلك الظنّ و أبراه أثم و هو قوله: [إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ يعني ما أعلنه ممّا ظنّ بأخيه و هذا القول عن المقاتلين يعني مقاتل بن حسّان و مقاتل بن سليمان. و قيل: إنّما قال تعالى: «كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ» لأنّ من جملته ما

ص: 201

يجب العمل به و لا يجوز مخالفته و إنّما يكون إثما إذا عمل بظنّه و له طريق إلى العلم بدلا منه فهذا ظنّ محرّم لا يجوز فعله و أمّا ما لا سبيل إلى دفعه بالعلم بدلا منه فليس بإثم و معناه يجب على المؤمن أن يحسن الظنّ و لا بسيئة في شي ء يجد له تأويلا جميلا و إن كان ظاهرة قبيحا [وَ لا تَجَسَّسُوا] أي لا تتّبعوا عثرات المؤمنين قال أبو عبيدة: التجسّس و التحسّس واحد في المعنى و قرئ في الشواذّ بالمهملة قال الأخفش: و ليس يبعد أحدهما عن الآخر إلّا أنّ بالجيم عمّا يكتم و منه الجاسوس و بالحاء البحث عمّا تعرفه و حاصل المعنى أنّه لا تتّبعوا عيوب المسلمين العيوب الّتي هم ستروها و لا تبحثوا عمّا خفي.

[وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً] و الغيبة ذكر العيب بظهر القلب و في الحديث إذا ذكرت الرجل بما فيه ممّا يكرهه فقد اغتبته و إذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه و عن جابر قال:

قال رسول اللّه: إيّاكم و الغيبة فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا ثمّ قال: إنّ الرجل يزني ثمّ يتوب فيتوب اللّه عليه و إنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه.

و نزلت الآية في رجلين من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اغتابا رفيقهما و هو سلمان الفارسيّ بعثاه إلى رسول اللّه ليأتي لهما بطعام فبعثه صلّى اللّه عليه و آله إلى اسامة بن زيد و كان خازن رسول اللّه على رحله فقال اسامة: ما عندي شي ء فعاد إليهما فقالا: بخل اسامة و قالا لسلمان: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثمّ انطلقا يتجسّسان عند اسامة ما أمر لهما به رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما- و العرب تسمّى الأسود أخضر و الأخضر أسود و خضرة اللحم من قبيل الأوّل- قالا: يا رسول اللّه ما تناولنا يومنا هذا لحما قال:

ظللتم تأكلون لحم سلمان و اسامة فنزلت الآية.

و عن أبي قلابة قال: إنّ عمر بن الخطّاب: حدّث أنّ أبا محجن الثقفيّ يشرب الخمر في بيته هو و أصحابه فانطلق عمر حتّى دخل عليه فإذا ليس عنده إلّا رجل واحد فقال أبو المحجن: يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك قد نهاك اللّه عن التجسّس فقال عمر: ما يقول هذا؟ قال زيد بن ثابت و عبد اللّه بن الأرقم: صدق يا أمير المؤمنين فخرج عمر و تركه.

و خرج عمر بن الخطّاب أيضا و معه عبد الرحمن بن عوف فتبيّنت لهما نار فأتيا و

ص: 202

استأذن ففتح لهما الباب فدخلا و إذا رجل و امرأة تغنّي و على يد الرجل قدح فقال عمر:

من هذه منك؟ قال: امرأتي قال عمر: و ما في هذا القدح؟ قال: ماء، فقال: للمرأة ما الّذي تغنّين؟ قالت: أقول:

تطاول هذا الليل و اسودّ جانبه و أرّقني ألّا حبيب الاعبه

فو اللّه لو لا خشية اللّه و التقى لزعزع من هذا السرير جوانبه

و لكنّ عقلي و الحياء يكفّني و أكرم بعلي أن تنال مراكبه

ثمّ قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين قال اللّه: و لا تجسّسوا، فقال عمر: صدقت فانصرف.

[أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً] و التأويل أنّ ذكرك بالسوء أخاك المؤمن إذا كان غائبا بمنزلة أن تأكل لحمه و هو ميّت لا يحسّ بذلك [فَكَرِهْتُمُوهُ فكما كرهتم ذلك فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا و الغيبة بكسر الغين اسم من الاغتياب و فتح الغين غلط إذ هو بالفتح مصدر بمعنى الغيبوبة.

و حاصل المعنى لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيابه و خلفه و الاغتياب هو أن يتكلّم إنسان خلف إنسان أمرا مستورا يسوؤه و يكون فيه و يكون عيبا و التشبيه بأكل لحم الميّت لأنّ لحم الميّت هو المتناهي في كراهة النفوس عن أكله و الطباع و كذلك كما أن الميّت لا يؤلمه قطع لحمه و أكله كذلك المغتاب لا اطّلاع له بمن اغتابه لكن إذا سمعه و اطّلع عليه تألّم قلبه جدّا من قرض عرضه كما يتألّم من قرض لحمه بل الغالب عنده قرض لحمه أهون من قرض عرضه. و في قوله: «فَكَرِهْتُمُوهُ» الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل فكأن يقول:

و حيث كان الأمر كذلك فقد كرهتموه و تحقّق كراهتكم لأكل لحم الميّت فكذلك فليتحقّق نظيره الّذي هو الاغتياب.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ معاصيه [إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ قابل التوبة رحيم بالمؤمنين.

[يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى زجر اللّه سبحانه عن التفاخر بالأنساب نزلت الآية حين أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بلالا ليؤذّن بعد فتح مكّة فعلا ظهر الكعبة و أذّن فقال عتاب بن أسيد و كان من الطلقاء: الحمد للّه الّذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم

ص: 203

و قال الحارث بن هشام: أما وجد رسول اللّه سوى هذا الغراب؟ يعنون بلالا.

و قيل: الآية نزلت في أبي هند حين أمر رسول اللّه بني بياضة أن يزوّجوه امرأة منهم فقالوا: يا رسول اللّه نتزوّج بناتنا موالينا؟ فنزلت و في الآية إشارة إلى أنّ الكفاءة بالإيمان و التقوى خلقناكم جميعا من آدم و حوّاء.

[وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ و الشعب بفتح العين الجمع العظيم المنتسبون إلى أهل واحد و هو يجمع القبائل و القبيلة تجمع العمائر و العمارة بالكسر تجمع البطون و البطون تجمع الأفخاذ و الفخذ تجمع الفصائل و الفصيلة تجمع العشائر و ليس بعد العشيرة من يوصف به مثالها فخزيمة شعب و كنانة قبيلة و قريش عمارة و قصيّ بطن و هاشم و العبّاس فصيلة و سمّيت شعوبا لأنّ القبائل تنشعب منها كتشعّب أغصان الشجرة و سمّيت القبائل لأنّها يقبل بعضها على بعض من حيث كونها من أب واحد و قيل: الشعوب بطون العجم و القبائل بطون العرب و الأسباط من بني إسرائيل و الشعوب من قحطان و القبائل من عدنان.

[لِتَعارَفُوا] أي جعلناكم كذلك لتتعارفوا، و حذفت إحدى التاءين أي ليعرف بعضكم بعضا بنسبه و أبيه و قومه و لو لا ذلك لفسدت المعاملات و خربت الدنيا و يتعزّى أحد إلى غير آبائه و قد جعلنا خلقتكم كذلك لهذه المصلحة لا للتفاخر بالآباء و القبائل و بالتفاوت و التفاضل و لو لم يكن هذا قرشيّا و ذاك تميميّا لم يتميّز بينهما و ذلك فيه فساد عظيم.

[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فالأكرم عنده سبحانه هو الأتقى و إن كان عبدا حبشيّا مثل بلال أ لا ترى إلى قوله صلّى اللّه عليه و آله: أنا سيّد ولد آدم و لا فخر أي ليس الفخر لي بالسيادة بل بالعبوديّة فإنّها شرف أيّ شرف و كفى شرفا تقديم العبد على الرسول في التشهّد [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكم و بأعمالكم [خَبِيرٌ] ببواطن أحوالكم.

و لمّا أبطل سبحانه اعتبار النسب مع أنّه ثابت مستمرّ غير مقدور التحصيل فبطلان اعتبار غيره كالمال و الجاه بطريق أولى فغير المتّقي و المؤمن لا قدر له و إن كان قرشيّ النسب و قارون النشب إنّ أكثركم عملا و أتقاكم لمعاصيه أكرم عند اللّه.

ص: 204

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: يقول اللّه سبحانه يوم القيامة: أمرتكم فضيّعتم ما عهدت إليكم فيه و رفعتم أنسابكم فاليوم أرفع نسبي و أضع أنسابكم أين المتّقون؟ إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم.

أبو بكر البيهقيّ بالإسناد عن عباية بن ربعيّ عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه: إنّ اللّه عزّ و جلّ جعل الخلق قسمين فجعلني في خيرهم قسما و ذلك قوله. و أصحاب اليمين و الشمال فأنا من أصحاب اليمين و أنا خير أصحاب اليمين ثمّ جعل القسمين أثلاثا فجعلني خيرها ثلاثا و ذلك قوله: «فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ...، وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ...، وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» فأنا من السابقين و أنا خير السابقين ثمّ جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة و ذلك قوله:

«وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ» الآية فإنّي أتقى ولد آدم و لا فخر و أكرمهم على اللّه ثمّ جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا و ذلك قوله عزّ و جلّ: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» و أهل بيتي مطهّرون من الذنوب.

[قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا] الأعراب أهل البادية نزلت الآية في نفر من بني أسد قدموا المدينة في ستّة حدب فأظهروا الشهادتين و قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواجلها و أتيناك بالعيال و الذراريّ و لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان و و يظهرون الإيمان لأخذ الصدقة و لم يكونوا مؤمنين في السرّ فأمره اللّه أن يخبرهم بذلك ليكون آية و معجزة له صلّى اللّه عليه و آله.

[قُلْ ردّا لهم: [لَمْ تُؤْمِنُوا] إذ الإيمان هو التصديق بالقلب و لم يحصل لكم ذلك [وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا] أي دخلنا في السلم مثل أصبح و أمسى أي قولوا: دخلنا في السلم و الصلح مخافة أنفسنا أو الطمع [وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي قلوبكم في حال غير موطّأة للإيمان، و كلمة ما في «وَ لَمَّا» فيها معنى التوقّع مشعر بأنّ هؤلاء يؤمنون فيما بعد.

[وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بالإخلاص و ترك النفاق [لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً] أي لا ينقصكم من أعمالكم و اجورها و في مادّة «لا يَلِتْكُمْ» أقوال: يقال: من ألته السلطان حقّه أشدّ الألت و هي لغة غطفان و أهل الحجاز و بنو أسد يقولون: من لاته ليتا و قرئ

ص: 205

بالقرآن في اللّغتين لا يلتكم و لا يألتكم هكذا قال الزمخشريّ: قال رؤبة:

و ليلة ذات ندى سربت و لم يلتني عن هواها ليت

ألاتني عن حاجتي أي صرفني عنها و قرأ لا يألتكم في الآية و حجّته قوله تعالى: «وَ ما أَلَتْناهُمْ» و من قرأ يلتكم جعل مادّة الكلمة من لات يليت.

[إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] لما فرط من المطيعين [رَحِيمٌ بالتفضّل عليهم.

قوله تعالى: [سورة الحجرات (49): الآيات 15 الى 18]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

أي إنّ المؤمنين الّذين ثبتوا على الإيمان و لم يقع في نفوسهم شكّ و ترديد فيما آمنوا به و فيه إشارة إلى أنّ فيهم ما يوجب نفي الإيمان عنهم و هو الارتياب مطاوع راب إذا أوقعه المريب في الشكّ في الخبر مع التهمة للمخبر فظهر الفرق بهذا بين الريب و الشكّ فإنّ الشكّ تردّد بين نقيضين لا تهمة فيه، و في كلمة «ثُمَّ» إشعار بأنّ اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس في حال إنشائه فقط بل و فيما يستقبل كما في قوله: «ثُمَّ اسْتَقامُوا»*.

قوله: [وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعتهم على تكثير فنونها من العبادات البدنيّة المحضة و الماليّة و المشتملة عليهما معا كالحجّ و الجهاد و الأمر بالمعروف [أُولئِكَ الموصوفون بهذه الأوصاف الجميلة [هُمُ الصَّادِقُونَ في دعوى الإيمان لا غيرهم و في البيان قصر أفراد و تكذيب لأعراب بني أسد و لمّا نزلت الآيتان أتوا رسول اللّه يحلفون أنّهم مؤمنون صادقون في دعواهم الإيمان فأنزل اللّه تعالى.

[قُلْ يا محمّد: [أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أ تخبرون اللّه بالدين الّذي أنتم عليه و هو عالم بذلك و هو استفهام توبيخ أي كيف تعلّمون اللّه بدينكم؟ [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما

ص: 206

فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لأنّه العالم لنفسه و لا يحتاج إلى علم يعلّم به كما أنّه إذا كان قديما موجودا في الأزل لنفسه استغنى عن موجد أوجده.

قوله تعالى: [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا] يجعلون المنّة عليك بإسلامهم [قُلْ يا محمّد: [لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ و أرشدكم إليه بأن أزاح العلل و نصب لكم الأدلّة عليه و وفّقكم له [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادّعائكم الإيمان.

[إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من طاعة و معصية و إيمان و كفر. تمّت السورة.

قال النبيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فضّلني ربّي بالمفصّل من القرآن و المفصّل ما هو بعد الحواميم إلى آخر القرآن و سمّيت مفصّلا لكثرة المفصولات فيها بسطر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»* لأنّها سور قصار يقرب فصل كلّ سورة من الاخرى فكثر التفصيل فيها.

و أوّل من نقل الخطّ الكوفيّ إلى الخطّ المعروف بالنسخ عليّ بن مقلة وزير المقتدر باللّه و القادر باللّه العبّاسيّ ثمّ جاء ابن البوّاب و زاد في تحسين الخطّ النسخ و هذّب طريقة ابن مقلة و كساها بهجة و حسنا ثمّ ياقوت المستعصميّ المعروف و ختم فنّ الخطّ و أكمله بحيث لا مزيد عليه إلى الآن.

قيل: أوّل من تكلّم بالعربيّة أو خطّ بالعربيّة يعرب بن قحطان و كان يتكلّم بالعربيّة و السريانيّة. و قيل:

إسماعيل بن إبراهيم الخليل

ص: 207

سورة ق

اشارة

السورة مكّيّة غير قوله: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» إلى قوله: «وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ». من قرأ سورة ق هوّن اللّه سكرات الموت.

عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و من أدمن في فرائضه و نوافله وسّع اللّه رزقه و أعطاه كتابه بيمينه و حاسبه حسابا يسيرا. لمّا ختم اللّه تلك السورة بذكر الإيمان و شرائطه للعبيد افتتح هذه السورة بذكر ما يجب الإيمان به من القرآن و أدلّة التوحيد.

ص: 208

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة ق (50): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ (2) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

[ق أي هذه السورة مسمّاة بق، قال ابن عبّاس: هو اسم من أسماء اللّه. و قال محمّد بن كعب: هو مفتاح بعض أسماء اللّه مثل القادر و القدير و القديم و القاهر و القريب و القابض و القاضي و القدّوس و القيّوم فيكون التأويل: أنا القادر. و قيل: ق اسم من أسماء القرآن.

و قيل: قسم أقسم اللّه به أي بحقّ القائم.

و قيل: معناه قل يا محمّد: و القرآن المجيد.

و قيل: المعنى قف يا محمّد على أداء الرسالة و عند أمرنا و نهينا و العرب تقتصر من كلمة على حرف مثل قول الشاعر:

«قلت لها: قفي، فقالت: ق» أي وقفت.

و قيل: معناه قضي الأمر و ما هو كائن.

و قيل: المراد بحقّ القلم الّذي يرقم القرآن في اللوح المحفوظ و في الصفائح. قال ابن عطا: أقسم سبحانه بقوّة قلب حبيبه حيث تحمّل الخطاب و لم يؤثّر ذلك فيه لعلوّ مقامه بخلاف موسى فإنّه خرّ صعقا في الطور من سطوة تجلّي النور.

و قيل: ق جبل محيط بالأرض كإحاطة العين بسوادها و هو أعظم جبال الدنيا خلقه اللّه من زمرّدة خضراء منه خضرة السماء و السماء ملتزقة به فليست مدينة من المدائن و قرية من القرى إلّا و فيها عرق من عروقه و ملك موكّل به واضع يده على تلك العروق فإذا أراد بقوم هلاكا أوحى إلى ذلك الملك فحرّك عرقا فخسف بأهلها. قال أبيّ بن كعب الزلزلة لا تخرج إلّا من ثلاثة إمّا لنظر اللّه بالهيبة إلى الأرض و إمّا لكثرة الذنوب من بني آدم

ص: 209

و إمّا لتحريك الحوت الّذي عليه الأرضون السبع تأديبا و تنبيها للخلق. قيل: قال ذو القرنين: يا قاف أخبرني بشي ء من عظمة اللّه فقال: إنّ شأن ربّنا لعظيم و إنّ من ورائي مسيرة خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضها بعضا لو لا ذلك لاحترقت من نار جهنّم.

قيل: لمّا خلق الأرض على الماء تحرّكت و مالت فخلق اللّه من الأبخرة الغليظة الصاعدة من الأرض بسبب هيجانها الجبال حتّى تسكن فسكن ميل الأرض و ذهبت تلك الحركة و طوّق سبحانه الأرض بجبل محيط بها و هو من صخرة خضراء و طوّق الجبل بحيّة عظيمة رأسها بذنبها.

و في الخبر إنّ لقاف في السماء سبع شعب لكلّ سماء شعبة منها فالسماوات السبع مقبّبة على شعبة و خلق اللّه ستّة جبال من وراء قاف و قاف سابعها و هي موتودة بأطراف الأرض على الصخرة و قاف وراءها على الهواء و كذلك بحر محيط بجبل قاف و حوله جبل قاف آخر و السماء الثانية مقبّبة عليه و كذلك من وراء ذلك بحار محدقات بجبل قاف على عدد السماوات السبع و إنّ كلّ سماء منها مقبّبة عليه و إنّ في هذه البحار و في سواحلها و بينها المحدقة بها ملائكة لا يحصى عددهم إلّا اللّه و يعبدون اللّه حقّ عبادته و ما وراء جبل قاف فهو من حكم الآخرة لا من حكم الدنيا.

قال بعض المفسّرين: إنّ للّه سبحانه من وراء جبل قاف أرضا بيضاء كالفضّة المجلاة طولها مسيرة أربعين يوما للشمس و يسير الشمس في طرفة عين مسافة ثلاثمائة و ستّون ضعف وجه الأرض و في كلّ هذه الأمكنة المذكورة ملائكة شاخصون إلى العرش لا يعرف الملك منهم من يكون إلى جانبه من الملك من هيبة اللّه تعالى و لا يعرفون ما آدم و ما إبليس هكذا حالهم إلى يوم القيامة و يوم القيامة تبدّل أرضنا هذه بتلك الأرض. روي أنّ اللّه تعالى خلق ثمانية آلاف عالم الدنيا منها عالم واحد و إنّ اللّه تعالى خلق في الأرض ألف امّة سوى الجنّ و الإنس ستّمائة في البحر و أربعمائة في البرّ و كلّ مستفيض منه تعالى جلّ جلاله.

رجعنا إلى التفسير؛ جواب القسم في قوله: «ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» محذوف و يدلّ عليه «أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً» و تقديره: إنّكم مبعوثون فقالوا: أ نبعث إذا متنا و صرنا

ص: 210

ترابا و قيل: جواب القسم محذوف لكن تقديره و القرآن الكريم المعظّم الّذي هو ذو الشرف الواسع إنّ محمّدا رسول اللّه و يدلّ على هذا المحذوف قوله:

[بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ و حسبوا أنّه لا يوحى إلّا إلى ملك و يعجبون أن جاءهم من جنسهم منذر و حاصل المعنى أنّه أقسم بجبل قاف الّذي به بقاء دنياكم و بالقرآن المجيد الّذي به بقاء دينكم أنّ فراعنة قريش ما كذّبوك ببرهان بل عجبوا لهذا الأمر أنّك منهم و أنّهم يحيون بعد البعث.

[فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ و الحالة أنّ إنكارهم لنبوّته صلّى اللّه عليه و آله عجيب لأنّهم من فرط جهلهم عجبوا أن يكون الرسول بشرا و أوجبوا أن يكون الإله حجرا.

[أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً] أي أحين نموت فتفارق أرواحنا أشباحنا و نصير ترابا لا فرق بيننا و بين تراب الأرض نرجع و نبعث كما ينطق به النذير و الهمزة للإنكار أي لا نرجع [ذلِكَ إشارة إلى محلّ النزاع أي هذا الخبر [رَجْعٌ و ردّ [بَعِيدٌ] جدّا عن الأوهام و الصدق و غير كائن.

[قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ردّ لاستبعادهم أي نحن على رجعهم في غاية القدرة فإنّ من عمّ علمه إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى و تأكل من لحومهم و عظامهم كيف يستعبد رجعه إيّاهم أحياء و عبّر بمن لأنّ الأرض لا تأكل على ما قيل عجب الذنب فإنّه كالبذر لأجسام بني آدم و في الحديث كلّ ابن آدم يبلى إلّا عجب الذنب فمنه خلق و فيه تركب و العجب بفتح العين و سكون الجيم أصل الذنب و مؤخّر كلّ شي ء و هو هاهنا عظم لا جوف له قدر ذرّة أو خردلة يبقى من البدن و لا يبلى.

و قال الرقرائيّ: المراد من العجب جوهر فرد و جزء واحد و هو صورة هيولى النفس الحيوانيّة القابلة لأجزاء العناصر فإذا أراد اللّه الإعادة ركّب على ذلك العظم سائر البدن و أحياه غير أبدان الأنبياء و الصدّيقين و الشهداء فإنّها لا تبلى على ما نصّ به الأخبار الصحيحة و حفظ ما تنقص الأرض إنّما هو ليعود بعينه يوم القيامة و لو كانت غيرها فكيف كان تشهد الجلود و الأيدي و الأرجل على الكفرة و من قال غيرها فقد خالف كتاب اللّه و الحديث.

ص: 211

قال أهل الكلام: إنّ اللّه يجمع الأجزاء الأصليّة الّتي حصل وجود الإنسان معها حال التولّد و هي العناصر الأربعة و يعيد روحه إليه سواء سمّي ذلك الجمع إعادة المعدوم بعينه أولم يسمّ.

فإن قيل: إنّ البدن الثاني ليس هو الأوّل لما ورد في الحديث من أنّ أهل الجنّة جرد مرد و إنّ الجهنّميّ ضرسه مثل جبل أحد فيلزم التناسخ و هو تعلّق الروح ببدن إنسان آخر و هو باطل.

قلنا: إنّما يلزم إن لم يكن البدن الثاني مخلوقا من الأجزاء الأصليّة للبدن الأوّل فلا يلزم التناسخ جدّا و التغاير في الوصف لا يوجب التغاير في الذات كما أنّ الخضر عليه السّلام يصير شابّا على كلّ مائة و عشرين سنة مع أنّ البدن هو البدن الأوّل قال ابن عبّاس: إنّ إبليس إذا مرّت عليه الدهور و حصل له الهرم عاد إلى ثلاثين سنة.

قوله تعالى: [وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ] أي حافظ لعددهم و أسمائهم و أشخاصهم و هو اللوح المحفوظ لا يشذّ عنه و محفوظ من النسيان و الدروس.

ثمّ أخبر سبحانه بتكذيبهم فقال: [بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ و هو القرآن أو الرسول [فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي مختلط لأنّهم كانوا يقولون مجنون و تارة قالوا شاعر و تحيّروا في أمره لجهلهم و لم يثبتوا على أمر واحد و كذلك في القرآن تارة قالوا إنّه سحر و رجز و مرّة قالوا مفترى قال الحسن: ما ترك قوم الحقّ إلّا مرج أمرهم و اختلط.

قوله تعالى: [سورة ق (50): الآيات 6 الى 11]

أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)

رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)

ثمّ أقام سبحانه الدلائل على كونه قادرا على البعث أي أ فلم يتفكّروا في بناء السماء مع عظمها [كَيْفَ بَنَيْناها] بغير علاقة و لا عماد [فَوْقَهُمْ بحيث يشاهدونها متى ما نظروا [وَ زَيَّنَّاها] بما فيها من الكواكب على نظام بديع [وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ و شقوق و

ص: 212

اختلاف و صدوع حتّى يختلف النظم.

و الفرجة بضمّ الفاء معناها الشقّ و الصدع بالفتح التفصّي من الهمّ قال الشاعر:

ربّما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحلّ العقال

و استعير الفرج للشعر و في عهد الحجّاج أتى ولّيتك الفرجين يعني الخراسان و سيستان و المراد موضع المخافة و المراد من قوله: «ما لَها مِنْ فُرُوجٍ» سلامتها من العيب لملاستها و هذا لا ينافي وجود الأبواب و المصاعد و سمّي القباء المشقوق فرجا.

[وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها] أبسطناها و فرشناها على وجه الماء مسيرة خمسمائة عام من الكعبة و هذا دليل على أنّ الأرض مبسوطة و ليست على شكل الكرة و لو أنّه يمكن لأنّه لا منافاة بين بساطتها و كرويّتها لسعتها.

[وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا راسيات في الأرض ثوابت إذ لو لم تكن لكانت مضطربة مائلة إلى الجهات المختلفة كما كانت قبل إذ روي أنّ اللّه لمّا خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها فأصبحت و قد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة ممّ خلقت و التعبير عن الجبال بالإرساء للإيذان بأنّ إلقاءها لإثبات الأرض بها و التأويل إلى رجال اللّه فإنّهم أوتاد الأرض و العمد المعنونة للسماء فإذا انقرضوا و لم يوجد في الأرض من يقول: اللّه اللّه فسدت السماوات و الأرض.

[وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي من كلّ صنف من النباتات ما هو حسن طيّب من الثمار و الأشجار و البهجة حسن اللون و ظهور السرور فيه.

[تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى علّتان للأفعال المذكورة معنى أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا و تذكيرا [لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربّه بالنظر و الاستدلال في بدائع صنائعه و التبصرة معرفة منن اللّه على العبد و الذكرى عدّها على نفسه في كلّ حال ليشتغل بالشكر و لا يذهل عنه.

[وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً] أي كثير البركة و الدوام و المنافع لحياة الأناسيّ و الحيوان و غيرها [فَأَنْبَتْنا بِهِ بذلك الماء [جَنَّاتٍ كثيرة أي أشجار ذوات أثمار فذكر المحلّ و أراد الحالّ [وَ حَبَّ الْحَصِيدِ] و الحصيد المحصود بحذف الموصول نحو مسجد

ص: 213

الجامع لئلّا يلزم إضافة الشي ء إلى نفسه و المعنى و حبّ الزرع الّذي شأنه أن يحصد من البرّ و الشعير و أمثالهما ممّا يقتات به.

[وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ] أي طوالا و منه سبق فلان على أصحابه علاهم و يجوز أن يكون معناه حوامل من قولهم أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من باب أفعل فهو فاعل «لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ» أي منضود بعضه فوق بعض و الطلع ما يطلع من النخلة و هو الكمّ قبل أن ينشقّ و ما في الطلع شي ء أبيض يشبهون الشعراء الأسنان به و رائحته كالمنيّ و قشر كلّ ثمرة و غلافه يسمّى الكفرّى بضمّ الكاف و الفاء و تشديد الراء [رِزْقاً لِلْعِبادِ] أي لرزقهم.

[وَ أَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء [بَلْدَةً مَيْتاً] و تذكير ميتا باعتبار البلد و المكان أي أرضا جدبة لا نماء فيها [كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور و حاصل المعنى كما أنزلنا من السماء الماء فأخرجنا به النبات من الأرض و أحيينا البلدة الميّت رزقا للعباد يكون خروجكم.

العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام قال: أ ترى اللّه أعطى من أعطى من كرامته عليه و منع من منع من هوان به عليه لا و لكنّ المال مال اللّه يضعه عند الرجل ودائع و جوّز لهم أن يأكلوا قصدا و يشربوا قصدا و يلبسوا قصدا و ينكحوا قصدا و يعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين و يلمّوا به شعثهم فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا و ينكح و يركب حلالا و من عدا ذلك كان عليه حراما ثمّ تلا «وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»* أ ترى اللّه ائتمن رجلا على مال خوّل له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف و يجزيه فرس بمائة درهم و يشتري جارية بألف دينار و يجزيه جارية بعشرين دينارا «وَ لا تُسْرِفُوا* إنّ اللّه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»*.

قوله تعالى: [سورة ق (50): الآيات 12 الى 20]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ (12) وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ (13) وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)

إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)

ص: 214

ذكر سبحانه الأمم المكذّبة تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تهديدا للكفّار فقال:

[كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل أهل مكّة [قَوْمُ نُوحٍ و كانوا بنو شيث و بنو قابيل [وَ أَصْحابُ الرَّسِ أيضا كذّبوا.

قيل: كانت الرسّ بئرا بعدن لامّة من بقايا ثمود و كان لهم ملك عادل حسن السيرة يقال له العليس- كزبير- و كانت البئر تسقي المدينة كلّها و باديتها و جميع ما فيها من الدوابّ و الغنم و البقر و غير ذلك و كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها و رجال كثيرون موكّلون بها و حياض كثيرة تملأ للناس و آخر للدوابّ و آخر للغنم و البقر و كذلك و لم يكن لهم ماء غيره فطال عمر الملك فلمّا جاءه الموت طلي جسده بدهن ليبقى صورته و لا تتغيّر و كذلك كانوا يفعلون بالشرفاء.

و بعد أن مات الملك شقّ ذلك عليهم و رأوا أنّ أمرهم قد فسد و ضجّوا بالبكاء و اغتنمها الشيطان فدخل في جثّة الملك فكلّمهم بأنّي لم أمت و لكنّي نفيت عنكم حتّى أرى صنيعكم يعدي ففرحوا و أمر لخاصّته أن يضربوا له حجابا بينه و بينهم و يكلّمهم الشيطان من ورائه كيلا يعرف الموت في صورته فنصبوه صنما من وراء حجاب لا يأكل و لا يشرب و أخبرهم أنّه لا يموت أبدا و أنّه إله لهم و ذلك كلّه تتكلّم به الشيطان على لسانه فصدّق كثير منهم و ارتاب بعضهم و كان المؤمن المكذّب منهم أقلّ من المصدّق و اتّفقوا على عبادته.

فبعث اللّه لهم نبيّا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة و كان اسمه حنظلة ابن صفوان فأعلمهم أنّ الصورة صنم لا روح له و أنّ الشيطان فيه و أنّ الملك لا يجوز أن يكون شريكا للّه و أوعدهم و نصحهم و حذّرهم سطوة ربّهم فعادوه و آذوه و هو يتعهّدهم بالموعظة و النصيحة حتّى قتلوه و طرحوه في البئر و عند ذلك حلّت لهم النقمة فباتوا شباعا رواء و أصبحوا و البئر قد غار ماؤها و تعطّل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم و ضجّت البهائم عطشا حتّى عمّهم الموت و خلّفهم في أرضهم السباع و الثعالب و الضباع و تبدّلت جنّاتهم

ص: 215

بالسدر و الشوك فلا تسمع فيها إلّا عزيف الجنّ و هو جرس يسمع في المفاوز باللّيل.

و قيل: الرسّ بئر قرب اليمامة أو بئر قرب آذربايجان أو واد نعوذ باللّه من سطواته قال اللّه تعالى: «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (1).

قوله: [وَ ثَمُودُ] أي و قوم ثمود كان نبيّهم صالح و هو ثمود بن عاد و هو الآخرة و عاد الاولى هو عاد الإرم [وَ عادٌ] أي قوم عاد و كان نبيّهم هود عليه السّلام [وَ فِرْعَوْنُ و هو فرعون موسى [وَ إِخْوانُ لُوطٍ] لاشتراكهم معه في النسب بالمصاهرة و غيرها لا في الدين. قيل:

ما من أحد من الأنبياء إلّا و يقوم معه قومه إلّا لوط يقوم وحده [وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ] و هم من بعث إليهم شعيب غير أهل مدين و كانوا يسكنون أيكة غيضة تنبت المقل و السدر و الأراك [وَ قَوْمُ تُبَّعٍ الحميريّ ملك اليمن.

[كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي فيما أرسلوا به من الشرائع أي كلّ هؤلاء كذّبوا رسلهم و ردّ جميع الرسل لاتّفاق الرسل على التوحيد و الحشر و هؤلاء أشركوا و كذّبوا البعث فكذّبوا جميع الرسل و لو أن يكذّبوا رسولا واحدا [فَحَقَّ وَعِيدِ] أي فوجب عليهم وعيد و هي كلمة العذاب و الوعيد يستعمل في الشرّ خاصّة و الوعد في الخير و الشرّ.

[أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ العيّ بالأمر العجز عنه و الهمزة للإنكار و المعنى أ فعجزنا عن الخلق الأوّل و هو الإبداء و الإنشاء أوّل مرّة حتّى يتوهّم عجزنا عن الخلق الثاني و هو الإعادة و ما اعتاض لنا خلقة بالأوّل حتّى نعني بإعادتهم بعثهم أي ليس كذلك مثل ما يزعمون [بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ] أي بل هم في ضلال و شكّ من إعادة الخلق جديدا و اللبس منع من إدراك المعنى بما هو كالستر له و خلق جديد إشارة إلى النشأة الثانية و قوبل الجديد بالخلق لمّا كان المقصود بالجديد القريب العهد بالقطع من الثوب.

[وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني نوع بني آدم [وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما يحدّث به قلبه و يكنّ في نفسه و لا يظهره لأحد من المخلوقين [وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ بالعلم [مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] و هو عرق يتفرّق في البدن يخالط الإنسان في جميع أعضائه. و قيل:

هو عرق الحلق أو هو عرق متعلّق بالقلب أي نحن أقرب إليه من قلبه بمنزلة ذلك العرق

ص: 216


1- الأنفال: 25.

في قربه للشخص و في ذلك العرق مجاري الروح.

[إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ التلقّي الأخذ و التلقّن بالحفظ و الكتابة أي يأخذ الحفيظان الموكّلان بالإنسان ما يتلفّظ به و في الحديث أن مقعد ملكيك على ثنيّتك و لسانك قلمهما و ريقك مدادهما و أنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحيي من اللّه و لا منهما [عَنِ الْيَمِينِ هو أشرف الجوارح و فيه القوّة التامّة [وَ عَنِ الشِّمالِ هو مقابل اليمين أي عن جانب اليمين [قَعِيدٌ] أي قاعد فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه و قيل: يطلق الفعيل على الواحد و المتعدّد كقوله: «وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ».

[ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرى به من فيه من خير أو شرّ و القول أعمّ من الكلمة و الكلام [إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب قوله و يكتبه و الخير يكتبه صاحب اليمين و الشرّ صاحب الشمال و هو [عَتِيدٌ] أي مهيّا لكتابة ما أمر به و هذا التهيّؤ لكليهما و الإفراد حيث لم يقل رقيبان عتيدان مع وقوفهما معا لما أنّ كلّا منهما رقيب لما فوّض إليه لا لما فوّض إلى صاحبه.

و اختلف فيما يكتبانه فقيل: يكتبان كلّ شي ء حتّى أنينه في مرضه. و قيل: إنّما يكتبان ما فيه أجر و وزر و هو الأظهر كما ينبئ عنه قوله: كاتب الحسنات على يمين الرجل و كاتب السيّئات على يسار الرجل، و كاتب الحسنات آمر على كاتب السيّئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا و إذا عمل سيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال:

دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح أو يستغفر.

و إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه و عند جماعه و لذكر الكلام في الجماع و عند قضاء الحاجة أشدّ كراهة لأنّ الحفظة تتأذّى من الحضور في ذلك الموضع الكريه لأجل كتابة الكلام و لذا يحمد اللّه بقلبه عند العطاس في بيت الخلاء و كذا الضحك في هذه الحالة.

في هذه الحديث أنّ ملائكة اللّيل و ملائكة النهار يصلّون معكم العصر فيصعد ملائكة النهار و تمكث ملائكة اللّيل فإذا كان الفجر نزل ملائكة النهار و يصلّون الصبح فيصعد ملائكة اللّيل و تمكث ملائكة النهار و ما من حافظين يرفعان إلى اللّه ما حفظا فيرى اللّه

ص: 217

في أوّل الصحيفة خيرا و في آخرها خيرا إلّا قال لملائكته: اشهدوا أنّي غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة و في الحديث نظّفوا لثاثكم فأمر بتنظيفها لئلّا يبقى و ضر الطعام فتتغيّر النكهة و يتأذّى الملكان الحافظان لأنّه طريق القرآن و مقعد الملكين عند نائبه.

و عن مجاهد قال: أبطأ جبرئيل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ أتاه فقال صلّى اللّه عليه و آله: له ما حبسك يا جبرئيل؟ قال: و كيف آتي و امّتك لا يقصّون أظفارهم و لا يأخذون من شواربهم و لا ينقو براجمهم و لا يستاكون و البرجمة بضمّي الباء و الجيم و سكون الراء و هو ظهر عقدة كلّ مفصل من قصبة الأصابع فظهر العقدة يسمّى ببرجمة و ما بين العقدتين يسمّى راجبة فلكلّ إصبع برجمتان و ثلاث رواجب إلّا الإبهام فإنّه له برجمة و راجبتين فأمر بتنقيته لئلّا يدرن فيبقى فيه الجنابة و يحول الدرن بين الماء و البشرة و الجنب لا يقربه الملائكة إلى أن يتطهّر.

قوله تعالى: [وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ السكرة استعارة لشدّة الموت و عمرته الذاهبة بالعقل و عبّر عن وقوعها بالماضي إيذانا بتحقّقها و غاية اقترانها حتّى كأنّها قد أتت و حضرت كما قيل: قد أتاكم الجيش «بِالْحَقِّ» أي بأمر اللّه الّذي هو حقّ و واقع لا محالة.

[ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ] أي يقال له: يا إنسان «ذلِكَ» أي ذلك الموت الّذي كنت منه تحيد و تهرب و تميل و كنت تفرّ منه. و قيل: إنّ نفس المؤمن المطيع تنسلّ انسلال القطرة من السقاء و ينزل عند الموت أربعة من الملائكة ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى و ملك يجذبها من قدمه اليسرى و ملك يجذبها من يده اليمنى و ملك يجذبها من يده اليسرى فيجذبونها أطراف البنان و رؤوس الأصابع و أمّا الفاجر فينسلّ روحه كالسفود من الصوف المبلول و هو يظنّ أنّ بطنه ملئت شوكا و كأنّ نفسه يخرج من ثقب إبرة و كأنّ السماء انطبقت على الأرض و هو بينهما.

فإن قيل: إنّ المحتضر مع هذه الشدّة لم لا يصيح كما يصيح من به ألم من الضرب و غيره؟

لأنّه إنّما يستغيث و يصيح المضروب لبقاء قوّته في قلبه و جوارحه و لسانه لكن

ص: 218

ينقطع صوت المحتضر من الشدّة لأنّ الكرب قد بولغ فيه و غلب على كلّ موضع من جسده فهو كلّ قوّة و أضعف كلّ جارحة و لم يترك له قوّة الاستغاثة و ربما كشف للميّت عن الأمر الملكوتيّ قبل أن يغرغر فعاين الملائكة على صور هي حقايق أعماله فإن كانت أعماله حسنة يراهم على صورة حسنة و إن كانت سيّئة فعلى صورة قبيحة فذلك الّذي يشخص بصره و قد تظهر صفات قبح الأعمال عند الموت فالمغتاب تقرض شفاهه بمقاريض من نار و السامع للغيبة يسلك في أذنيه نار و آكل الحرام يقدّم له الزقّوم كذلك إلى آخر أعمال العبد.

قوله تعالى: [وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ] و هي نفخة الثانية نفخة البعث و النافخ إسرافيل و قد سبق الكلام في معنى الصور [ذلِكَ أي ذلك النفخ [يَوْمُ الْوَعِيدِ] أي يوم إنجاز الوعيد الواقع في الدنيا عبارة عن العذاب الموعود به و تخصيص الوعيد بالذكر مع أنّه يوم الوعد أيضا لبيان التهديد و التهويل.

قوله تعالى: [سورة ق (50): الآيات 21 الى 30]

وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)

الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

[وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرّة و الفاجرة [مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ] و يختلف كيفيّة السوق و الشهادة حسب اختلاف النفوس عملا أي مع كلّ نفس ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر و الآخر يشهد بعمله خيرا أو شرّا و يمكن أن يسوق سائق الكافر إلى النار و الشهيد يشهد بمعصيته و يسوق المؤمن إلى الجنّة و يشهد الشهيد بطاعته.

[لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا] الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمر أو سهو يعتري من قلّة التحفّظ و التيقّظ أي يقال له: أيّها الشخص لقد كنت في الدنيا في غفله و ذهول من هذا اليوم و غوائله و الخطاب للكافر.

ص: 219

[فَكَشَفْنا] أي أزلنا [عَنْكَ غِطاءَكَ الّذي كان على بصرك بسبب الغفلة و الجهل و قيل: المراد من الغطاء القبر أي أخرجناك منه [فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] و نافذ تبصر ما كنت تنكره و تستبعده في الدنيا فأنت حينئذ حديد البصر و البصيرة و الإنسان و إن خلق من عالمي الغيب و الشهادة فالغالب عليه في البداية و الشهادة و هي العالم الحسّي فيرى بالحواسّ الظاهرة العالم المحسوس و هو بمعزل عن إدراك عالم الغيب فمن الناس من يكشف اللّه غطاءه عن بصر بصيرته فيجعل بصره حديدا يبصر رشده و ذلك بسبب إطاعته و قبوله الحقّ و منهم من يكشف بصر بصيرته يوم القيامة و هم الكفّار.

[وَ قالَ قَرِينُهُ يعني الملك الشهيد عليه و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام و قيل: المراد من القرين الشيطان الّذي قبض له و قيل من الإنس [هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ] فلو كان المراد الملك الشهيد فالمعنى هذا حسابه حاضر لديّ في هذا الكتاب أي يقول لربّه: كنت وكّلتي به فما كتبت به من عمله حاضر عندي و إنّ المراد به الشيطان أو القرين من الإنس فالمعنى هذا العذاب حاضر عندي معدّ بسبب سيّئاته.

[أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ] هذا خطاب للملكين الموكّلين به و هما السائق و الشهيد و بحذف الإسناد عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة يقول اللّه لي و لعليّ: ألقيا في النار من أبغضكما و أدخلا الجنّة من أحبّكما و ذلك قوله: «أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ» و العنيد الذاهب عن الحقّ و معاند له و العناد أقبح الكفر و العنيد المعجب بما عنده و يميل عن الحقّ و يردّه و هو عارف به قيل: مشتقّ من العند و هو عظم يعترض في الحلق.

[مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ] الّذي أمر اللّه به من بذل المال في وجوهه [مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ظالم معتد حدود اللّه ذو ريب و شاكّ أو شاكّ في اللّه و فيما جاء من عنده قيل: الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين استشاره بنو أخيه في الإسلام فمنعهم فيكون المراد بالخير الإسلام.

[الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] من الأصنام و الأوثان و غيرها [فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ] هذا تأكيد للأوّل فكأنّه يقول سبحانه: افعلا ما أمرتكما به فإنّه مستحقّ لذلك و من طريق العامّة دليل ورد أيضا من طريق الخاصّة بينما النّاس في الحساب إذ

ص: 220

بعث اللّه عنقا من النار يتكلّم فيقول: ائتوني بثلاثة: بمن دعا مع اللّه إلها آخر و بمن قتل نفسا بغير حقّ و بجبّار عنيد فيلقطهم من الناس كما يلقط الطير الحبّ الجيّد ثمّ يصيّرهم في نار جهنّم.

و أيضا بهذا الطريق في الحديث يخرج عنق من النار قبل الحساب و الناس وقوف قد ألجمهم العرق و تصدّعت القلوب لهول المطلع فإذا أشرف على الخلائق له عينان و لسان فصيح يقول: يا أهل الموقف إنّي وكّلت منكم بثلاثة و ذلك ثلاث مرّات إنّي وكّلت بكلّ جبّار عنيد فتلقطهم من بين الصفوف كما تلقط الطير حبّ السمسم فإذا لم يترك أحدا في الموقف نادى نداء ثانيا يا أهل الموقف إنّي وكّلت بمن أذى اللّه و رسوله فيلقطهم كذلك فإذا لم يترك أحدا منهم نادى ثالثا يا أهل الموقف إنّي وكّلت بمن ذهب يخلق كخلق اللّه و هم الّذين يصوّرون الكنائس لتعبد تلك الصور و الّذين يصوّرون الأصنام و ينحتون الأحجار و الأخشاب ليعبدوها من دون اللّه فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطائر حبّ السمسم فإذا أخذهم اللّه عن آخرهم و بقي الناس و فيهم المصوّرون الّذين لا يقصدون بتصاويرهم عبادتها حتّى يسألوا عنها لينفخوا فيها أرواحا تحيا بها و ليسوا بنافخين فيقفون ما شاء اللّه ينتظرون ما يفعل اللّه بهم و العرق قد ألجمهم.

[وَ قالَ قَرِينُهُ أي شيطانه الّذي أغواه و سمّي به قرينا لأنّه يقرنه في العذاب أو قرينه السوء من الإنس و هم علماء السوء من المتبوعين [رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي ما أضللته أي ما أوقعته في الطغيان باستكراه [وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ من الإيمان [بَعِيدٍ] و هذا مثل قول الشيطان «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» (1).

قال اللّه لهم: [لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ و لا يخاصم بعضكم بعضا عندي [وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ] في دار التكليف و لم تنزجروا و خالفتم أمري.

[ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ إنّ الّذي قدّمت لكم في دار الدنيا من أنّي أعاقب من جحدني و كذّب رسلي لا يبدّل بغيره و لا يتخلّف [وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] بل هو الظالم لنفسه و إنّما قال: «بِظَلَّامٍ» على وجه المبالغة ردّا على من أضاف الظلم إليه و لأنّه لو صدر

ص: 221


1- ابراهيم: 24.

عنه تعالى ظلما جزئيّا بالنسبة إلى عدله كثير عظيم.

[يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ يتعلّق يوم بقوله: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ» الآية، أو متعلّق با ذكر ذلك اليوم الّذي نقول فيه لجهنّم هل امتلأت من كثرة ما القي فيك من العصاة [وَ تَقُولُ جهنّم: [هَلْ مِنْ مَزِيدٍ] أي تطلب الزيادة. و قيل: معناه الكفاية أي لم يبق مزيد لامتلائها و قيل: طلب الزيادة منها كان قبل دخول جميع أهل النار فيها. و يجوز أن يكون طلب الزيادة على أن يزاد في سعتها و أمّا الوجه في كلام جهنّم فقيل: خرج مخرج المثل مثل قوله:

امتلأ الحوض و قال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني

و قيل: يخلق لجهنّم آلة الكلام لأنّ من ينطق الأيدي و الأرجل و الجلود قادر على أن ينطق جهنّم و قيل: إنّه خطاب لخزنة جهنّم و معناه ما من مزيد كقوله: «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ» (1).

[سورة ق (50): الآيات 31 الى 40]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ (35)

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37) وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ (40)

لمّا أخبر عمّا أعدّه للكافرين عقّبه بذكر ما أعدّه للمتّقين فقال:

[وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ] أي قربت الجنّة و ازّيّنت للذين اتّقوا الشرك و المعاصي [غَيْرَ بَعِيدٍ] تأكيد لقوله: «أُزْلِفَتِ» أي مكانا غير بعيد بحيث ينظرون إليها قبل دخولها و تقرّب الجنّة بأن يسهل للمتّقين مسيرهم إليها و يراد بهم الخواصّ.

و أهل الجنّة ثلاثة أصناف: قوم يحشرون إلى الجنّة مشاة و هم الّذين قال فيهم:

ص: 222


1- فاطر: 3.

«وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً» (1) و هم عوامّ المؤمنين. و أمّا خاصّ الخاصّ فهم الّذين قال فيهم: «وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» (2).

[هذا ما تُوعَدُونَ أي يقال لهم من قبل اللّه أو على لسان الملائكة عند مشاهدة الجنّة [لِكُلِّ أَوَّابٍ بدل من المتّقين أي لكلّ توّاب رجّاع إلى الطاعة أو لكلّ مسبّح [حَفِيظٍ] لما أمر اللّه به متحفّظ من الخروج إلى ما لا يجوز من سيّئة.

[مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ الخشية خوف يشوبه تعظيم و قيل: انزعاج القلب عند القلب عند ذكر السيّئة أي هو من خاف اللّه و أطاعه و آمن بثوابه و عقابه و لم يردّه و قيل:

المراد من قوله: «بِالْغَيْبِ» أي في الخلوة بحيث لا يراه أحد [وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي دام على ذلك بالقلب و الاعتقاد إذ لا عبرة للإنابة إلّا إذا كان من القلب و مقبل عليه تعالى بالكلّيّة و معرض عمّن سواه.

[ادْخُلُوها] يقال لهم: ادخلوا الجنّة [بِسَلامٍ أي متلبّسين بسلامة من العذاب أو بسلام من اللّه و ملائكته [ذلِكَ إشارة إلى الزمان الممتدّ الّذي وقع في بعض منه ما ذكر أو هذا اليوم يوم خلودكم و تأبيدكم في الجنّة و خلود الأمر بقاؤه على الحالة الّتي هو عليها.

[لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من فنون المفرّحات كائنا ما كان سوى الخبائث فإنّهم لا يشاءونها لأنّ اللّه يعصم أهل الجنّة من شهوة قبيحة مثلا مثل اللواط و ما شابهها [وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ] أي و عندنا زيادة على ما يشاءونه ممّا لم يخطر ببالهم أو الزيادة على قدر استحقاقهم من الثواب بأعمالهم.

ثمّ خوّف كفّار مكّة فقال: [وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء الكفّار من القرون الّذين كذّبوا رسلهم [هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً] أي الّذين أهلكناهم كانوا أكثر عددا و عدّة و لم يتعذّر علينا إهلاكهم و «كَمْ» هنا للتكثير خبريّة وقعت مفعول أهلكنا [فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ] أي فتحوا المسالك و خرقوا البلاد و قطعوا المفاوز و دوخوا

ص: 223


1- آل عمران: 198.
2- الشعراء: 9.

و أذلّوا و قهروا أهلها و تصرّفوا في أقطارها لشدّة بطشهم و سطوتهم [هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي هل كان لهم من محيص عن الموت و منجأ من العذاب و المحيص المهرب.

[إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر في هذا البيان و في هذه السورة [لَذِكْرى لتذكرة و و عظة [لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ سليم يدرك به ما يضرّه و ما ينفعه و له علم و فهم و عقل [أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ] أي ألقى سمعه إلى ما يتلى عليه من الوحي و لكن بشرط أن يكون الملقي حاضر الذهن و كلمة «أَوْ» لتقسيم المتفكّر إلى الفقيه و المتعلّم.

[وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ و المراد من «ما بَيْنَهُما» من أصناف المخلوقات في ستّة أيّام و لو شاء لكان خلقها في أقلّ من لمح البصر و لكنّه تعالى منّ لنا التأنّي بذلك فإنّ العجلة من الشيطان إلّا في ستّة مواضع:

أداء الصلاة إذا دخل الوقت، و دفن الميّت، و تزويج البكر إذا أدركت، و قضاء الدين إذا وجب و حلّ، و إطعام الضيف إذا نزل و تعجيل التوبة إذا أذنب.

[وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ اللّغوب التعب أي ما أصابنا من هذه الخلقة العظيمة نصب و تعب و عيّ.

[فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي ما يقوله المشركون في شأن البعث و إنكارهم فإنّ من فعل هذه الأفاعيل قادر على بعثهم و في الآية إشارة إلى تربية النفوس بالصبر على ما يقول الجاهل من كلّ نوع من المكروهات و بيان طريق تزكيتها من الصفات المذمومة بملازمة الذكر و التسبيحات و التحميدات بقوله:

[وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي فنزّهه عن جميع ما لا ينبغي في ساحة جلاله [قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ و قيل: هما وقت الفجر و الظهر و العصر [وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعني المغرب و العشاء. و قيل: و سبّحه بعض اللّيل [وَ أَدْبارَ السُّجُودِ] و أعقاب الصلاة و أواخرها إذا انقضت و الركوع و السجود يعبّر بهما عن الصلاة لأنّهما أعظم أركانها كما يعبّر بالوجه عن الذات لأنّه أشرف أعضائها فحينئذ المراد التسبيح بعد كلّ صلاة. و قيل:

المراد من أدبار السجود الركعتان قبل الفجر عن عليّ بن أبي طالب و الحسن بن عليّ عليهما السّلام

ص: 224

و جماعة. و قيل: المراد من النوافل بعد المفروضات و قيل: إنّه الوتر من آخر اللّيل روي ذلك عن الصادق عليه السّلام.

قوله تعالى: [سورة ق (50): الآيات 41 الى 45]

وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)

أي وَ [اسْتَمِعْ حديث يوم النداء فحذف المضاف. و اصغ إلى النداء أي بوقعه و ذلك يوم القيامة و البعث و النشور و هي النفخة الثانية و قيل: إنّه ينادي مناد من صخرة بيت المقدس أيّتها العظام البالية و الأوصال المنقطعة قومي لفصل القضاء و ما أعدّ اللّه سبحانه عزّ و جلّ لكم من الجزاء. و قيل: إنّ المنادي هو إسرافيل يقول: يا معشر الخلائق قوموا للحساب.

و إنّما قال: «مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» لأنّ الخلائق يسمعون كلّهم على حدّ واحد في السماع و لا يخفى على أحد قريب و لا بعيد فكأنّهم نودوا من مكان يقرب النداء منهم.

أو المكان القريب المراد قربه إلى السماء، فإنّ بيت المقدس أقرب من جميع الأرض إلى السماء باثني عشر ميلا أو عشر أميال.

[يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ بدل من يوم ينادي و الصيحة المرّة الواحدة من الصوت الشديد أي إنّها كائنة لا محالة [ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ذلك يوم الخروج من القبور و هو من أسماء يوم القيامة.

[إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ أخبر سبحانه عن نفسه أنّه هو الّذي يحيي الخلق بعد أن كانوا جمادا أمواتا و تكرير الضمير للتأثير و الاختصاص و التفرّد [وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ] للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا فليستعدّوا للقائنا.

[يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً] بحذف إحدى التاءين أي تتصدّع عن الناس و الأموات و يخرجون من القبور متسرّعين إلى إجابة الداعي من غير التفات إلى يمين و شمال [ذلِكَ حَشْرٌ] أي هذا الأحياء من القبور بعث و جمع و سوق [عَلَيْنا يَسِيرٌ] و هيّن

ص: 225

و هو كلام معادل لقول الكفّار حيث قالوا: «ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» و تقديم الجارّ و المجرور لتخصيص اليسير به تعالى.

[نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفي البعث و تكذيب الآيات و في الكلام تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تهديد للكفّار [وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ] أي بمسلّط تقسرهم على الإيمان و إنّما أنت مذكّر.

[فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ] أي عظهم بمواعظ القرآن من يخاف وعيدي فإنّهم المنتفعون به كما قال: «فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» (1) و كما قال: «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» (2) و أهل القرآن أهل اللّه و خاصّته فيرون الحقّ بالحقّ و لا يتّعظ بمواعظ القرآن إلّا الخائفون على إيمانهم بل خائفون على كلّ من أنفاسهم و إنّما يتّعظ النفوس القابلة لتذكير القرآن و وعيده.

و كان رسول اللّه يخطب بسورة في كثير من الأوقات لاشتمالها على ذكر اللّه و الثناء علمه و بيان علمه تعالى بما يوسوس به النفوس و ما يكتبه الملائكة على الإنسان من طاعة و معصية و تذكير الموت و سكرته و أحوال القيامة و أهوالها و الشهادة على الخلق و أعمالهم و تذكير الجنّة و النار و الصحّة و الخروج و المواظبة على الصلاة تمّت السورة.

ص: 226


1- الذاريات: 55.
2- يس: 11.

سورة الذاريات

اشارة

* (مكية)* قال ابيّ بن كعب عن النبيّ من قرأها في يومه أو ليلته أصلح اللّه له معيشته و أتاه برزق واسع و نوّر له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة.

ص: 227

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)

إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)

قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

ختم اللّه سورة ق بالوعيد و افتتح هذه السورة أيضا بالوعيد روي أنّ ابن الكوّاء سأل أمير المؤمنين عليّا و هو يخطب على المنبر فقال: ما الذاريات؟ قال: الرياح يقال ذرت الريح التراب إذا طيّرته قال ابن الكوّاء: فما الحاملات و قرأ؟ قال عليه السّلام: السحاب قال: فما الجاريات يسرا؟ قال: السفن قال: فالمقسّمات أمرا؟ قال: الملائكة.

و قيل: الجاريات هي السحاب تجري يسرا إلى حيث أمر اللّه إلى البقاع. و قيل:

هي النجوم السبعة السيّارة: الشمس و القمر و زحل و المشتري و المرّيخ و الزهرة و عطارد أقسم اللّه بهذه الأشياء لكثرة منافعها للعباد أو التقدير بربّ هذه الأشياء.

قال أبو جعفر و الصادق عليهما السّلام: إنّه لا يجوز لأحد أن يقسم إلّا باللّه و اللّه سبحانه يقسم بما يشاء من خلقه و الذاريات صفة الرياح و حذفت الموصوفات و التقدير و الرياح الذاريات ذروا روي أنّه لو حبس اللّه الريح عن الأرض ثلاثة أيّام ما بقي على وجه الأرض إلّا نتن.

و عن ابي امامة قال: قال رسول اللّه: ليبيتنّ قوم من أمّتي على أكل و شرب و لهو و لعب ثمّ ليمسخنّ قردة و خنازير و ليصيبنّ أقواما من أمّتي خسف و قذف باتّخاذهم القيان و شربهم الخمور و ضربهم الدفوف و لبسهم الحرير و لينسفنّ أحياء من امّتي الريح كما نسفت عادا، و النسف القلع من الشي ء من أصله.

ص: 228

ثمّ ذكر المقسم عليه بعد ذكر المقسم به فقال: [إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ من الثواب و العقاب صدق لا بدّ من كونه اسما وضع موضع المصدر و العائد محذوف أي إنّ الّذي توعدونه من الجزاء و البعث لذو صدق مثل قولهم: تامر و لابن [وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ أي إنّ الجزاء على الأعمال حاصل و كائن فإنّ من قدر على هذه الأفعال البديعة قادر على البعث و الجزاء [وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ و الحبك جمع حباك و المعنى الطرائق الّتي هي مساير الكواكب و مسالك الملائكة.

فأقسم سبحانه بها و قال: [إِنَّكُمْ يا أهل مكّة [لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في شأن القرآن بقولهم: إنّه سحر أو شعر و اختلاق و أساطير أو إنّكم في قول مختلف في حقّ محمّد فبعضكم يقول: شاعر و بعض يقول: ساحر كذّاب أو إنّكم منكم مكذّب به و منكم مصدّق به و منكم شاكّ فيه [يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ و رجل مأفوك مصروف عن الحقّ إلى الباطل أي يصرف عن القرآن أو الرسول من انصرف بسبب عدم قبول الدلائل و يحرم نفسه من الإيمان و ينصرف عن هذه السعادة لجحوده و إنكاره.

[قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ دعاء عليهم كقوله (1): «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ» و جرى هذا الكلام مجرى لعن و قبح، و الخرص تقدير القول بلا حقيقة و منه خرص الثمار و كلّ قول مقول عن ظنّ و تخمين يقال: خرص من حيث إنّ صاحبه لم يقله عن علم بل اعتمد عليه بالتخمين كفعل الخارص في خرصه و كلّ من قال قولا على هذا النحو يسمّى كاذبا و إن كان قوله مطابقا للقول المخبر به فالخرّاصون في الآية المراد الكذّابون و تقدير الآية قتل هؤلاء الكذّابون.

[الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ] من الجهل و الضلال، و الغمرة معظم الماء أي الجهالة غمرتهم [ساهُونَ أي غافلون.

[يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي متى يوم الجزاء إنكارا و استهزاء و سؤالهم لا على وجه الاستفهام و الاستفادة لمعرفته، و حذف المضاف أي متى وقوع يوم القيامة فأجيبوا بأن يقع.

[يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ و الظرف منصوب بفعل مقدّر أي يقع يوم هم على النار

ص: 229


1- عبس: 17.

يعذّبون كما يفتن الذهب بالنار.

[ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي مقولا لهم هذا القول إذا عذّبوا و القائل خزنة النار: ذوقوا جزاء كفركم و قوله: «فِتْنَتَكُمْ» أي كفركم مرادا بالكفر عاقبة الكفر و هو العذاب.

[سورة الذاريات (51): الآيات 15 الى 23]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (19)

وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (21) وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

ثمّ ذكر سبحانه ما أعدّه لأهل الجنّة فقال:

[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ أي المحترزين عن الكفر و المعاصي و المتّصفين بالإيمان و المعرفة و الطاعة في بساتين و التنكير للتعظيم أو للتكثير مثل قولهم: إنّ له لإبلا و إنّ له لغنما ولي أنهار جارية.

[آخِذِينَ قابلين لكلّ ما أعطاهم من الثواب متلقّين بالقبول لأنّه في غاية الجودة و منه قوله (1): «وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ» أي يقبلها و يرضاها ثمّ علّل استحقاقهم بقوله: [إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي قبل دخول الجنّة أي في الدنيا [مُحْسِنِينَ يفعلون الطاعات و يحسنون إلى غيرهم بضروب الإحسان.

[كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ الهجوع النوم أي كانوا يهجعون في طائفة قليلة من اللّيل و «ما» مزيدة لتأكيد معنى التقليل أي يذكرون و يصلّون أكثر اللّيل و ينامون أقلّه و بعض فسّروا هذا الحديث «نوم العالم عبادة» قالوا: فمن يعبد لا يكون نائما قيل: نزلت الآية في شأن الأنصار حيث كانوا يصلّون في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ يمضون إلى قبا و بينهما ميلان.

[وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ السحر السدس الأخير من اللّيل لاشتباهه بالضياء كالسحر يشبه الحقّ و هو باطل أي هم مع قلّة هجوعهم و كثرة تهجّدهم يداومون على الاستغفار

ص: 230


1- التوبة: 105.

في الأسحار و هذا دليل على أنّهم غير معجبين بأعمالهم و خائفين من التقصير و تقديم الظرف في الآية للاهتمام و رعاية الفاصلة و لعلّ يستغفرون استصغارا لفعلهم.

قيل: يا رسول اللّه كيف الاستغفار؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: قولوا: اللّهمّ اغفر لنا و ارحمنا و تب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم. في الحديث إنّ أحبّ أحبّائي إليّ الّذين يستغفرون بالأسحار أولئك الّذين إذا أردت بأهل الأرض سيّئا صرفت بهم عنهم. و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا قام من اللّيل يتهجّد قال: اللّهمّ لك الحمد أنت الحقّ و وعدك و لقاؤك حقّ و قولك حقّ و الجنّة حقّ و النار حقّ و النبيّون حقّ و محمّد حقّ و الساعة حقّ اللّهمّ لك أسلمت و بك آمنت و عليك توكّلت و إليك أنبت و بك خاصمت و إليك حاكمت فاغفر لي ما قدّمت و ما أخّرت و ما أسررت و ما أعلنت أنت المقدّم و أنت المؤخّر لا إله إلّا أنت و لا حول و لا قوّة إلّا بك.

و في الحديث قال داود عليه السّلام: يا جبرئيل أيّ من اللّيل أفضل قال: لا أدري إلّا أنّ العرش يهتزّ وقت السحر و لا يهتزّ العرش إلّا لكثرة تجلّيات رحمة اللّه فرحا لأهل السهر و إمّا طربا لأنين المذنبين و المستغفرين في ذلك الوقت و إمّا تعجّبا لكثرة عفو اللّه و مغفرته في ذلك الوقت و إمّا تعجّبا من حسن لطف اللّه على عباده الآبقين الهاربين منه مع غنائه عنهم ثمّ مع ذلك هم غافلون في نومهم و هو تعالى يتوجّه إليهم و يدعوهم بقوله: هل من سائل هل من مستغفر هل من تائب هل من نادم هل من من يقرض غير عدوم؟ و إمّا تعجّبا من غفلات أهل الغفلة بنومهم في ذلك الوقت و حرمانهم من البركة و اعلم أنّ اللّه أمر نبيّه بإحياء اللّيل لأنّ هذه الطريقة أقرب طرق إلى اللّه للمقبل الصادق و ما يطيقها إلّا المتمكّن الصابر.

قال صلّى اللّه عليه و آله: فرض عليّ قيام الليل و لم يفرض عليكم. قال أهل التحقيق: و ذلك لأنّه روح العالم صلّى اللّه عليه و آله و مداره فكيف يكون للّه وليّ كامل يبخل بنفسه على اللّه متكاسل و بتكاسله يخرب العالم و يشتدّ جهل أهله كما أنّ الروح إذا ضعف اختلّ الجسد و قواه و من هنا تعرف شدّة توغّل الأنبياء و الأتقياء في العبادات و كلّما قرب الإنسان من الكمال اشتدّ تكليفه.

ص: 231

قيل: إنّ إلياس النبيّ عليه السّلام أتى إليه ملك الموت ليقبضه فبكى فقال له: أ تبكي و أنت راجع إلى ربّك؟ فقال: بل أبكي على ليالي الشتاء و نهار الصيف؛ الأحباب يقومون و يصومون و يجذبون و يتلذّذون بمناجاة محبوبهم و أنا رهين التراب فأوحى اللّه إليه قد أجّلناك إلى آخر الدهر لحبّك خدمتنا فتمتّع.

[وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ أي نصيب وافر يوجبون على أنفسهم و يعدّونه واجبا عليهم تقرّبا إلى اللّه [لِلسَّائِلِ أي لطالب الجدوى و لحاجة المستجدي [وَ الْمَحْرُومِ أي المتعفّف الّذي يحسبه الناس غنيّا فيحرم الصدقة أو المحروم الممنوع من الخير و الرزق بترك السؤال أو ذهاب المال و خراب الضيعة أو مدبّر الأيّام و لعلّ تخصيص الذكر بالسائل و المحروم و لم يذكر سائر المستحقّين لأنّ ذلك حقّ سوى الصدقة المفروضة كما قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ في المال حقّا سوى الزكاة أي قد يقع في المال حقّ واجب سوى الزكاة و هو الحقوق الّتي تلزم عند ما يعرض من الأحوال مثل النفقة على الوالدين إذا كانا فقيرين و ما يجب من إطعام المضطرّ و حمل المنقطع.

[وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ أي دلائل واضحة على وجود الصانع و علمه و قدرته من حيث إنّها مدحوّة كالبساط الممهّد و فيها مسالك للمتقلّبين في أقطارها و السالكين في مناكبها و كيف و فيها سهل و جبل و برّ و بحر و عيون و معادن متفنّنة و ألوان النبات و الألوان و الطعوم و الحيوان و دبّر سبحانه لكلّ تدبيرا لبقاء نوعه و إنّما خصّ الموقنين لأنّهم يتأمّلون فيها فيحصل لهم العلم بموجبها.

[وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أي و في أنفسكم أيضا آيات و شواهد على خالقيّته و وحدانيّته [أَ فَلا تُبْصِرُونَ أي أفلا ترون أنّكم منتقلون من صفة إلى اخرى مثل أن كنتم نطفا فصرتم أحياء جنينا ثمّ كنتم أطفالا فصرتم شبابا ثمّ كهولا فهلّا دلّكم ذلك على أنّ صانعا و مقدّرا يقدّر و يدبّر هذه الأمور فساعة تجوع و ساعة تشبع و تغضب و ترضى و هذه الأمور كلّه من آيات اللّه و تصرّفه.

[وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ فينزل اللّه إليكم بأن يرسل الغيث و المطر عليكم فيخرج به من الأرض أنواع ما تقتاتونه و تلبسونه و تنتفعون به و كذلك اختلاف المطالع و المغارب الّتي

ص: 232

يترتّب عليه اختلاف الفصول الّتي هي مبادي حصول الأرزاق [وَ ما تُوعَدُونَ من الثواب لأنّ الجنّة على ظهر السماء السابقة تحت العرش قرب سدرة المنتهى أو أنّ كلّ ما توعدون من الخير و الشرّ و الشدّة و الرخاء و غيرها مكتوب مقدّر في السماء.

[فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أقسم سبحانه بنفسه ذكر الربّ لأنّه في بيان التربية بالرزق [إِنَّهُ لَحَقٌ أي ما توعدون لحقّ و واقع قيل: إنّ رسول اللّه قال: قاتل اللّه أقواما أقسم اللّه لهم بنفسه فلم يصدّقوه [مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي كما أنّه لا شكّ لكم في أنّكم تنطقون ينبغي أن لا تشكّوا في حقيقته و إنّما اختصّ التمثّل بالنطق في التشبيه لأنّه مختصّ بالإنسان و هو أخصّ صفاته.

[سورة الذاريات (51): الآيات 24 الى 37]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)

لمّا قدّم الوعد و الوعيد ذكر بشارة إبراهيم عليه السّلام و مهلك قوم لوط تخويفا للكفّار فقال:

[هَلْ أَتاكَ يا محمّد و هذا اللّفظ يستعمل إذا أخبر الناس بخبر ماض فيقال: هل سمعت خبر كذا و إن علم أنّه لم يأته [حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ عند اللّه و ذلك لأنّهم كانوا ملائكة كراما. و قيل: المراد بالمكرمين لأنّ إبراهيم أكرمهم و رفع مجالستهم و خدمهم بنفسه و سمّاهم ضيفا مع أنّهم لم يأكلوا من طعامه لأنّهم دخلوا مدخل الأضياف و اختلف في عددهم فقيل: كانوا اثني عشر ملكا و قيل: كان جبرئيل و معه سبعة أملاك و قيل:

ص: 233

ثلاثة جبرئيل و ميكائيل و ملك آخر.

و الضيف في الأصل مصدر ضافه و لذلك يطلق على الواحد و الجماعة و أصل معنى الضيف الميل و هو مأخوذ من مال إليك نزولا بك.

و في الراوية إنّ اللّه أوحى إلى إبراهيم- و هو أوّل من سنّ القرى- أكرم الضيف فكان يعدّ لكلّ من أضيافه شاة مشويّة فأوحى إليه أكرم أضيافك فجعله ثورا فأوحى إليه أكرم فجعله جملا فأوحى إليه أكرم فتحيّر فيه فعلم أنّ إكرام الضيف ليس في كثرة الطعام فخدمهم بنفسه فأوحى إليه: الآن أكرمت الضيف. قيل: لا عار للرجل و لو كان سلطانا أن يخدم ضيفه و أبويه و معلّمه.

[إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ و تقديره هل أتاك حديثهم الواقع وقت دخولهم عليه [فَقالُوا سَلاماً] أي نسلّم عليك سلاما و الفاء لبيان أنّ السّلام وقع بعد الدخول [قالَ إبراهيم: [سَلامٌ أي عليكم سلام فحيّاهم إبراهيم بتحيّة أحسن من تحيّتهم لأنّ تحيّتهم كانت بالجملة الفعليّة الدالّة على الحدوث حيث نصبوا سلاما و تحيّته بالجملة الاسميّة الدالّة على الثبوت و الدوام [قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي تصوّر إبراهيم في نفسه هؤلاء قوم منكرون لا أعرفهم و ذلك أنّه عليه السّلام ظنّ أنّهم من الإنس.

[فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي ذهب إليهم خفيّا و إنّما راغ مخافة أن يمنعوه من تكلّف الأكل [فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ و كان مشويّا لقوله في آية اخرى «حَنِيذٍ» فكان عامّة مال إبراهيم ذلك الوقت البقر فجاء به [فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه لديهم ليأكلوا فلم يأكلوا [قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ عرض عليهم الأكل و امتنعوا من الأكل.

[فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً] و ظنّ أنّهم يريدون به سوءا قيل: إنّهم قالوا: نحن لا نأكل بغير ثمن قال إبراهيم: كلوا و أعطوا ثمنه قالوا: و ما ثمنه؟ قال: إذا أكلتم فقولوا: بسم اللّه و إذا فرغتم قولوا: الحمد للّه فعجبت الملائكة من قوله.

و بالجملة لمّا رآهم لا يأكلون أوجس في نفسه الخوف. و الوجس الصوت الخفيّ في النفس و أضمر الخوف و ذلك أنّ من العادة من يجي ء بالشرّ و الضرّ أن لا يتناول من طعام من يريد إضراره و من المشهور: إنّ من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك.

ص: 234

و لمّا أحسّت الملائكة بخوفه [قالُوا لا تَخَفْ إنّا رسل اللّه. و قيل: مسح جبرئيل العجل بجناحه فقام يمشي حتّى لحق بامّه فعرفهم إبراهيم و أمن منهم.

[وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ و الغلام المبشّر به هو إسماعيل و قيل: هو إسحاق لأنّه من سارة و هذه القصّة لها فلمّا سمعت سارة امرأة إبراهيم البشارة أقبلت في ضجّة (و قيل: في جماعة عن الصادق عليه السّلام) و أخذت تصيح و تولول و معنى الصرّة الصيحة الشديدة يقال: صرّ إذا صوّت و منه صرير الباب و صرير القلم [فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها] أي جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجّبا و لطمت وجهها و الصكّ ضرب الشي ء بالشي ء العريض [وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟

[قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي كما قلنا لك إنّك ستلدين غلاما [إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ بخفايا الأمور.

[قالَ إبراهيم لهم: [فَما خَطْبُكُمْ أي فما شأنكم و لأيّ أمر جئتم [أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ كأنّه قال: قد جئتم لأمر عظيم و لا يستعمل الخطب إلّا في أمر عظيم [قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ متمادّين في الآثام. و قيل: المجرم فاعل الجرائم و هي صعاب المعاصي و المراد به قوم لوط.

[لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ بعد ما قلبنا قراهم و جعلنا عاليها سافلها [حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي طين متحجّر و هو السجّيل طبخت بنار جهنّم مكتوب عليها أسماء القوم و لو لم يقل من طين لتوهّم من الحجارة البرد بقرينة إرسالها من السماء [مُسَوَّمَةً] معلمة من السومة أي العلامة معلمة ببياض و حمرة أو بسيما يتميّز بها عن حجارة الأرض أو المراد من المسوّمة المرسلة من سوّمت الماشية أي أرسلتها لترعى [عِنْدَ رَبِّكَ أي في خزانة ربّك [لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الفجور و قيل: المراد من السرف هاهنا الشرك عن ابن عبّاس.

[فَأَخْرَجْنا] الفاء فصيحة مفصحة عن محذوف كأنّه قيل: فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ»* الآية [مَنْ كانَ فِيها] أي في قرى قوم لوط [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و ذلك أنّ اللّه أمر لوطا بأن يخرج هو و من معه من المؤمنين [فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعني لوطا و بيته وصفهم اللّه بالإيمان و الإسلام إذ كلّ مؤمن هو مسلم.

ص: 235

[وَ تَرَكْنا فِيها] أي في مدائن قوم لوط أبقينا [آيَةً] و علامة [لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ فيخافون مثل عذابهم و يعتبرون به دون من عداهم من ذوي القلوب الفاسدة بأنّهم لا يعدّونها آية كما أنّ أكثر الحاجّ حين المرور بمدائن لا يلتفتون و كان النبيّ يبكي حين المرور بمثل هذه المواضع و ينكس رأسه و يأمر بالبكاء و التباكي.

و اعلم أنّ المعتبر في باب النجاة الحشر مع أهل الصلاح و حسن اتّباعهم بالاتصال المعنويّ لا الاختلاط الصوريّ و إلّا نجت امرأة لوط و ابن نوح فعلى العاقل المسترشد باتّباع الكامل و الاحتراز عن أهل الفساد سيّما الناقص في العقل و الدين.

قوله تعالى: [سورة الذاريات (51): الآيات 38 الى 46]

وَ فِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ (40) وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)

وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)

[وَ فِي مُوسى عطف على قوله: «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ» فقصّة إبراهيم و لوط معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه.

أي و جعلنا في إرسال موسى إلى فرعون و إنجائه و ما لحق فرعون و قومه من الغرق آية [إِذْ أَرْسَلْناهُ أي وقت إرسالنا [إِلى فِرْعَوْنَ صاحب ملك مصر [بِسُلْطانٍ مُبِينٍ هو ما ظهر على يده من المعجزات و السلطان مصدر يطلق على المتعدّد و على الواحد.

[فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي أعرض فرعون و ثنى عطفه و التولّي كناية عن الإعراض و الباء للتعدية مثل قوله: «نَأى بِجانِبِهِ»* و الركن بمعنى الطرف و الجانب و قيل: المراد فتولّى فرعون بما يتقوّى به من الملك و العسكر و الجنود فإنّ الركن اسم لما يركن إليه الإنسان و الركن مستعار لجنوده نسبتهما بالركن الّذي يتقوّى البنيان به.

[وَ قالَ هو أي موسى [ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ و أو في الآية بمعنى الواو كقوله (1):

ص: 236


1- الصافات: 147.

«مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» و تأمّل في حمق فرعون أنّه نسب إلى موسى صفتين متناقضتين لأنّ السحر لا يعلمه إلّا من له حذاقة و إدراك و الجنون زوال هذه الأمور.

[فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ النبذ طرح الشي ء و إلقائه لقلّة الاعتداد به فطرحناهم في بحر القلزم و أخذناه و الحال أنّه مستحقّ للملامة أو مليم نفسه.

[وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ عطف على ما تقدّم أي و في قوم هود و هم العاديّون آيات إذ أرسلنا على أنفسهم أصالة و على دورهم و أموالهم و أنعامهم تبعا الريح العقيم، العقم هزمة يقع في الرحم فلا يقبل التوليد شبّه إهلاكهم و قطع دابرهم بإعقام النساء الّتي لا يلدن و لا يعقبن استعارة تبعيّة، و هو الدبور كما قال صلّى اللّه عليه و آله: نصرت بالصبا و أهلكت عاد بالدبور و هي تجي ء من جانب المغرب فإنّ الصبا تجي ء من جانب المشرق. و قيل: هي الجنوب مقابل الشمال و تجي ء من شمال من يتوجّه إلى المشرق.

[ما تَذَرُ] أي ما تترك، و أماتوا ماضيه و مصدره و اسم فاعله و ما نطق بها [مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي جرت على ذلك الشي ء [إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ مثل الشي ء البالي المتفتّت رمّ العظم أي بلى و فتّت قال ابن عبّاس: ما أرسل على عاد من الريح إلّا مثل خاتمي هذا.

[وَ فِي ثَمُودَ] أي و في قوم صالح آيات جعلنا [إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا] أي انتفعوا بالحياة الدنيا [حَتَّى حِينٍ إلى وقت العذاب و هو آخر ثلاثة أيّام الأربعاء و الخميس و الجمعة فإنّهم عقروا الناقة يوم الأربعاء و هلكوا بالصيحة يوم السبت و قال لهم صالح:

تصبح وجوهكم غدا مصفرّة و بعد غد محمرّة و اليوم الثالث مسودّة ثمّ يصبحكم العذاب فكان كذلك و لون جهنّم أسود فعند الهلاك صاروا إلى لون جهنّم.

[فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فاستكبروا عن الامتثال به و أمر ربّهم على لسان صالح من قوله: «اعْبُدُوا اللَّهَ» و قوله: «فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ» [فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ] و لمّا رأوا العلامات الّتي بيّنها صالح من تغيير ألوانهم حسب ما أوعد عمدوا إلى قتله فنجاه اللّه إلى أرض فلسطين و أخذتهم الصاعقة قيل: أتتهم صيحة من السماء فيها صوت صاعقة فتقطّعت قلوبهم و قيل: اهلكوا بالصاعقة حقيقة بأن جاءت نار من السماء فأهلكتهم جميعا [وَ هُمْ يَنْظُرُونَ إليها لأنّها جاءت معاينة بالنهار و هذا القول أقوى لأنّ الصيحة لا ينظر إليها

ص: 237

و إنّما تسمع بالإذن و يمكن الجمع بأنّ معها صيحة جبرئيل.

[فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ و هذا كقوله: «فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ»* (1) فما قدروا على القيام فضلا عن الهرب [وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ بغيرهم.

[وَ قَوْمَ نُوحٍ أي و أهلكنا قوم نوح [مِنْ قَبْلُ هؤلاء [إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود في الكفر و المعاصي و هو علّة لإهلاكهم.

قوله تعالى: [سورة الذاريات (51): الآيات 47 الى 60]

وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)

ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

نصب السماء على الاشتغال أي و بنينا السماء بأيد أي بقدرة. و القوّة هاهنا بمعنى القدرة بسبب قدرتنا لأنّ القوّة عبارة عن شدّة البنية و صلابتها المضادّة للضعف و اللّه منزّه عن ذلك لكنّ القدرة هي الصفة الّتي بها يتمكّن من الفعل و تركه بالإرادة تقول: أيد يأيد أيدا أي قوي و اشتدّ و لما في البدن من القوّة قيل: يد، و أيّدتك أي قوّيتك و قوّيت يدك [وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ أي لقادرون بيان لسعة قدرته و المعنى موسعون السماء و جاعلوها واسعة أو موسعون الرزق.

[وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها] أي فرشناها و مهّدناها من تحت الكعبة ليستقرّوا عليها و يتقلّبوا كما يتقلّب أحدهم على فراشه و مهاده قال مكحول الشاميّ: إنّ ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمسمائة سنة مائتان من ذلك في البحر و مائتان ليس يسكنها أحد و ثمانون

ص: 238


1- الأعراف: 77.

فيها يأجوج و مأجوج و عشرون فيها سائر الخلق لكن هذا القول و أمثاله لا يوجب العلم به [فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي فعلنا ذلك على حسب المصالح النافعة للعباد.

[وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي من أجناس الموجودات [خَلَقْنا زَوْجَيْنِ صنفين و نوعين مختلفين كالذكر و الأنثى و السماء و الأرض و اللّيل و النهار و الصيف و الشتاء و الإنس و الجنّ و الأشياء كلّها مركّبة من تركيب يقتضي كونه مصنوعا و إنّه لا بدّ له من صانع [لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فعلنا ذلك كلّه من البناء و الخلقة ليعرفوا أنّه خالق الكلّ و أنّه المستحقّ للربوبيّة و الخلق مستحقّ للعبوديّة و كلّ شي ء في عالم الملك و هو عالم الأجسام له اتّصال بعالم الملكوت و هو عالم الأرواح و قائم به و ملكوته قائم بقدرته تعالى.

[فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ قل يا محمّد لقومك: إذا كان الأمر كذلك و هو الخالق لكلّ شي ء فاحذروا عصيانه و فرّوا إليه لتنجوا من عقابه كي تفوزوا بثوابه و حاصل المعنى فرّوا بما سوى اللّه إلى اللّه و من المعصية إلى الطاعة و من الجهل إلى العلم و من العذاب إلى الرحمة [إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ] لكم من أمره و جهته منذر و مخوّفكم من عصيانه لا من قبل نفسي.

[وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] كأنّه قيل: و فرّوا من أن تجعلوا معه إلها غيره [إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من هذا الجعل المنهيّ عنه [نَذِيرٌ مُبِينٌ و في الآية تأكيد لما قبله لأنّ هذا الأمر مورد التأكيد لأنّه لا يغفر أن يشرك به.

[كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إنّ أمر الّذين من قبلهم من الأمم السالفة بالنسبة إلى رسلهم كذلك مثل تكذيب قريش و المشركين إيّاك [إِلَّا قالُوا] في حقّ ذلك الرسول [ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ و أنت لا تأس على تكذيب قومك إيّاك فسلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله.

[أَ تَواصَوْا بِهِ إنكار و تعجّب من أمر المكذّبين أي أ أوصى الأوّلون الآخرين بهذا القول الشفيع حتّى اتّفقوا عليه؟ [بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن التواصي و اتّفاقهم على هذا الأمر لبعد الزمان و عدم تلاقيهم في وقت واحد و إثبات الطغيان الّذي هو قبيح لأنّ الطغيان شامل لكلّ قبيح و بيان أنّ نفوسهم متمرّدة عن قبول الخير فما أتاهم رسول إلّا استكبروا و أنكروا أمره.

ص: 239

[فَتَوَلَّ عَنْهُمْ و أعرض عن جدالهم [فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على التولّي بعد ما بذلت المجهود و كرّرت لهم البيان و الدليل و لست بملوم بسبب العجز عن هدايتهم و قبولهم الكفر.

قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية حزن رسول اللّه و المؤمنون و ظنّوا أنّ الوحي قد انقطع و أنّ العذاب قد حلّ حتّى نزلت الآية [وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت نفوسهم و المعنى عظ بالقرآن من آمن من قومك فإنّ الذكرى تنفعهم كما قال:

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ» (1).

و المذكّر يكون تذكيره بأمور تسعة:

الاول أن يذكّرهم نعم اللّه عليهم حتّى يشكروا.

و الثاني: أن يذكّرهم مثوبات المحن و البلايا حتّى يصبروا.

و الثالث: يذكّرهم عقوبة المعاصي حتّى يمتنعوا و يتوبوا.

الرابع: أن يذكّرهم عداوة الشيطان و مكائده حتّى يحترزوا.

الخامس: أن يذكّرهم زوال نعمة الدنيا و فناءها حتّى ينقلعوا عن محبّتها.

السادس: أن يذكّرهم الموت حتّى يتداركوا ما فات.

السابع: أن يذكّرهم أهوال القيامة و وقوعها و أحوال النار و عقوباتها كي يخافوا و لا يطغوا.

الثامن: أن يصف لهم درجات الجنّة و نعيمها كي يرغبوا في الطاعة.

التاسع: أن يذكر لهم مقام القهر و العظمة و الجلال و مقام الرحمة و الإفضال كي يخافوا و يرجوا.

«وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» و قرئ بياء المتكلّم في يعبدون و لعلّ تقديم ذكر الجنّ في الآية لتقدّمه على الإنسان في الوجود أي إنّ خلقهم لأجل إظهارهم العبوديّة و الذلّة بالأفعال المخصوصة الّتي هي العبادة الوصفيّة حتّى يتخضّعوا لربّهم بالوجه المشروع الوارد لا بجعلهم من عند أنفسهم و هي رحمة منه و تفضّل على عباده بإيصال الخير

ص: 240


1- ق: 37.

إليهم بسبب الامتثال و يكفي في تحقّق معنى التعليل هذا الاعتبار في مدلول اللّام و أنّه غنيّ عن عبادة كلّ عابد و إرادة الفاعل لها فليست من مقتضيات اللّام حتّى يلزم من عدم صدور العبادة عن البعض تخلّف المراد عن الإرادة كما في قوله: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (1) و الخلقة لمعرفته و العبادة كاشفة عن المعرفة.

و الأشاعرة أنكروا صحّة توجيه أفعال اللّه معنىّ و إن كان واقعا لفظا تمسّكا بأنّ اللّه مستغن عن المنافع فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه و لا إلى غيره لأنّه قادر على إيصال تلك المنفعة من غير توسيط العمل فلا يصلح أن يكون غرضا فعندهم لام التعليل يكون استعارة تبعيّة تشبيها لعادة العباد.

و لكنّ أكثر الفقهاء من العامّة و جلّ العلماء من الخاصّة و المعتزلة قالوا بصحّة توجيه تعليل أفعال اللّه لمنفعة عائدة إلى عباده تمسّكا بأنّ الفعل الخالي من الغرض عبث و العبث من الحكيم محال و قالوا: إنّ مراد اللّه جائز أن يتخلّف عن إرادته إذا كان من الأفعال الاختياريّة للعباد و مصداق هذا القول هذه الآية بعينها لأنّ وضع اللام في ليعبدون بيان أنّ العبادة هي الغرض من خلق الجنّ و الإنس و معلوم أنّ بعضا منهم لم يعبدوه فيخلف مراده عن إرادته و لا يلزم من هذا البيان أنّه كان محتاجا لهذا الغرض حتّى ينافي الألوهيّة و هو تعالى مستكمل بذاته قبل القبل في أزل الآزال لكن بروز آثار الأسماء يتحقّق بعد الكونيّة.

قوله تعالى: [ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي تعالى شأنه متعاليا عن أن يكون كسائر السادة مع عبيدهم حيث يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم و تهيّة أرزاقهم [وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي يطعموني أي مستغن عن جميع ذلك و ما أريد منهم رزقي بل أتفضّل عليهم برزقهم و في الآية تعريض بأصنامهم فإنّهم كانوا يحضرون لها المآكل فربّما أكلتها الكلاب و الثعالب ثمّ بالت عليها.

[إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ و هو من قصر الصفة على الموصوف أي لا رازق إلّا اللّه [ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ

ص: 241


1- ابراهيم: 1.

على جميع خلقه متين و شديد في القوّة و القوّة يعبّر بها عن القدرة و المتنان مكتنفا الصلب. قال أهل التحقيق: اعتبروا باللبيب الطالب للأرزاق و حرمانه و بالطفل العاجز و تواتر الأرزاق عليه لتعلموا أنّ الرزق طالب و ليس بمطلوب، قيل: من خاصيّة اسم الرزّاق لسعة الرزق أن يقرأ قبل صلاة الفجر في كلّ ناحية من نواحي البيت عشرا يبدأ باليمين من ناحية القبلة قال السهرورديّ المداوم عليه يقضي حاجته من الملوك و ولاة الأمر فإذا أراد ذلك وقف مقابلة المطلوب و قرأه سبع عشر مرّة و من تلاه عشرين يوما على الريق رزق ذهنا جيّدا.

[فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا] أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب رسول اللّه و وضعوا مكان التصديق تكذيبا و هم أهل مكّة [ذَنُوباً] أي نصيبا وافرا من العذاب [مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ أي مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكيّة و هذا المعنى مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب و هو الدلو العظيم قال: لنا ذنوب و لكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب [فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أصله بياء المتكلّم أي لا يطلبوا منّي أن أعجل في المجي ء بالعذاب لأنّ له أجلا معلوما نازل بهم في وقته المحتوم و هو جواب لقولهم: «مَتى هذَا الْوَعْدُ»* و كان المستعجل النضر بن الحارث و أصحابه فأمهل إلى يوم بدر ثمّ قتل في ذلك اليوم.

[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا] و الويل أشدّ من العذاب و الشقاء و واد في جهنّم و وضع الموصول موضع ضميرهم إشعارا بعلّة الحكم و هو الكفر [مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ و قيل: المراد من يوم يوعدونه يوم بدر و قيل:

يوم القيامة و هو الأصحّ تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 242

سورة الطور

اشارة

* (مكية)* عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقرء الطور في المغرب.

روى محمّد بن هشام عن أبي جعفر قال: من قرأ سورة الطور جمع اللّه له خير الدنيا و الآخرة.

ص: 243

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الطور (52): الآيات 1 الى 17]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الطُّورِ (1) وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)

وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)

وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)

أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ (17)

[وَ الطُّورِ] الواو للقسم، و الطور الجبل بالسريانيّة. قال ابن عبّاس: الطود كلّ جبل ينبت قال الشاعر:

لو مرّ بالطور بعض ناعقةما أنبت الطور فوقه ورقه

و قيل: هو جبل محيط بالأرض، الأظهر الأشهر هو جبل مخصوص و هو طور سنين يعني الجبل المبارك و هو جبل واقع بمدين سمع موسى عليه السّلام فيه كلام اللّه و محلّ قدم الأحباب وقت سماع الخطاب أو بين الشام و مدين بالقرب من أيلة كان إذا جاء موسى للمناجاة ينزل عليه غمام فيدخل في الغمام و يتكلّم و هو الجبل الّذي دكّ عند التجلّي و هناك خرّ موسى صعقا و هذا الجبل قيل: إذا كسرت حجارته يخرج من وسطها شجر العوسج و يعظّم اليهود شجرة العوسج لهذا السبب.

[وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ] مكتوب على وجه الانتظام فإنّ السطر ترتيب الحروف المكتوبة و المراد به القرآن و قيل: هو الكتاب الّذي كتبه اللّه لملائكته في السماء يقرءون فيه ما كان و ما يكون و آخر سطر في اللوح المحفوظ: سبقت رحمتي غضبي من أتاني بشهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّد رسول اللّه و أنّ عليّا وليّ اللّه ادخله الجنّة. و قيل: هو صحائف الأعمال الّتي

ص: 244

يخرج إلى بني آدم يوم القيامة لقوله: «وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (1) و قيل:

هو التوراة كتبه اللّه لموسى و هو مناسب بالطور.

[فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ] الرقّ الجلد الّذي يكتب فيه، شبه كاغذ استعير لما يكتب فيه الكتابة من الصحيفة و هو ضدّ الغليظ و المنشور خلاف المطويّ نشر الثوب و الصحيفة أي بسطها و التنكير للتفخيم.

[وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ] قيل: هو الكعبة البيت الحرام معمور بالحاجّ و المعتمرين و قيل:

هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة تعمره الملائكة قال أمير المؤمنين: يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه أبدا و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: البيت المعمور في السماء الرابعة فيه نهر يقال له الحيوان يدخل فيه جبرئيل كلّ يوم و إذا خرج انتفض منه انتفاضة جرت منه سبعون ألف قطرة يخلق اللّه من كلّ قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلّون ثمّ لا يعودون أبدا و حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض و قيل: في السماء السابعة، و سمّي بالضراح- بضمّ الضاد المعجمة- من التنحية و الإبعاد أي رفع و أبعد.

[وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ عن الأرض مقدار خمسمائة عام.

[وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ] أي المملوء، و قيل: هو الموقد المحمى بمنزلة التنوّر و تحمى البحار يوم القيامة فتجعل نيرانا يفجر بعضها في بعض ثمّ يفجر إلى النار ورد به الحديث، و على كون المراد من المسجور هو البحر المحيط الأعظم الّذي منه مادّة البحار و هو بحر لا يعرف له ساحل و البحار الّتي على وجه الأرض خلجان منه و في هذا البحر عرش إبليس و فيه مدائن يطغو على وجه الأرض و هي أهلة من الجنّ و فيه قصور تظهر على وجه الماء ثمّ تغيب و تظهر و فيه من الجزائر المسكونة و الخالية ما لا يعلمه إلّا اللّه، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: هو بحر تحت العرش عمقه كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر منه على الموتى ماء كالمنيّ بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فيبيتون في قبورهم.

[إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ لنازل بهم حتما و المراد عذاب الآخرة للكفّار هو جواب

ص: 245


1- الإسراء: 13.

القسم [ما لَهُ مِنْ دافِعٍ يدفعه و الفرق بين الدفع و الرفع أنّ الدفع يستعمل قبل الوقوع و الرفع يستعمل بعد الوقوع و معلوم أنّ كلّ معصية و فعل قبيح و وصف ذميم فهو عذاب حكميّ و نار معنويّ و العذاب الصوريّ أثر ذلك و ليس من خارج عن الإنسان أمّا في الدنيا فلأن التلبّس بسبب الشي ء تلبّس بالشي ء.

[يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً] يوم ظرف لواقع، بيان لوقوع العذاب الأكبر في ذلك اليوم و المور الاضطراب قيل: تدور السماء كما تدور الرحى و تنكفئ بأهلها كما تنكفئ السفينة و قيل: يختلج أجزاؤها بعضها في بعض و يموج أهلها بعضهم في بعض و يختلطون و هم الملائكة و ذلك من الخوف [وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً] و تزول من أماكنها حتّى تستوي الأرض، و تسير الجبال كما تسير السحاب ثمّ تنشّ أثناء السير حتّى تصير آخره كالعهن المنفوش لهول ذلك اليوم و تأكيد الفعلين بمصدر لهما للإيذان بغرابتها بحيث لا يدرك كنه غرابتها.

[فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ و الفاء فصيحة أو بمعنى المجازاة و التقدير إذا وقع ذلك الأمر فويل لمن كذّب بآيات اللّه و رسله و كذّب بالبعث و هو لا ينافي تعذيب غير المكذّبين من أهل الكبائر لأنّ الويل و العذاب الشديد إنّما هو للمكذّبين باللّه و رسوله [الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ خائضين في الدنيا بالتكذيب و الاستهزاء و الأباطيل من الأقوال و الأفعال شبّه التخبّط بالباطل بخوض الماء و غوصه.

[يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا] الدعّ الدفع الشديد أي يدفعون إليها ذلك اليوم دفعا عنيفا بأن تغلّ أيديهم إلى أعناقهم و يجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار دفعا على وجوههم و في أقفيتهم حتّى يردوها.

[هذِهِ النَّارُ] يقال: لهم و القائل خزنة النار قبل الورود هذه النار [الَّتِي كُنْتُمْ في الدنيا [بِها تُكَذِّبُونَ أَ فَسِحْرٌ هذا] تقريع لهم حيث كانوا يسمّونه سحرا و كنتم تقولون:

للقرآن النّاطق بهذا الخبر سحر فهذا الأمر سحر أيضا و الفاء سببيّة لا عاطفة لئلّا يلزم عطف الإنشاء على الإخبار [أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أي أ ترون هذا العذاب أم لا ترون.

ثمّ يقال لهم: [اصْلَوْها] و قاسوا حرّها و شدائدها [فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا] لا خلاص

ص: 246

لكم منها [سَواءٌ عَلَيْكُمْ خبر مبتدء محذوف دلّ عليه فاصبروا أولا تصبروا أي الأمر سواء عليكم في الصبر و عدمه [إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء حيث إنّ الجزاء على كفرهم واجب الوقوع حتما و الغفلة عن خالق البريّات و الشرك به توقد نار الحسرات.

و في الآية إشارة إلى التحذير و مراتب الخوف كما أنّ الآية الّتي تليها إشارة إلى مرتبة الرجاء فإنّ الأمن و القنوط كلاهما ممنوع بل كفر فقال: [إِنَّ الْمُتَّقِينَ عن الكفر و المعاصي [فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ النعيم الخفض و الدعة و الترفّه و الاسم النعمة بفتح النون و النعيم النعم الكثيرة أي إنّهم في لين عيش من الملبوس و المأكول، و أيّة جنّات و أيّة نعيم كاملة الصفات؟

[سورة الطور (52): الآيات 18 الى 28]

فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)

يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ (23) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27)

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

إن المتقين في الجنّة [فاكِهِينَ متلذّذين من النعم [بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الكرامة [وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ صانهم اللّه عن عذاب النار و الجحمة شدّة تأجّج النار و منه الجحيم [كُلُوا وَ اشْرَبُوا] أي يقال لهم من قبل خزنة الجنّة دائما: كلوا و اشربوا [هَنِيئاً] صفة لمصدر محذوف أي طعاما و شرابا هنيئا و ترك الذكر لبيان تنوّعهما و كثرتهما و الهني ء و المري ء صفتان من هنؤ الطعام و مرؤ إذا كان سائغا لا يورث الكور و الكسل [بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فبيّن أنّ رتب الجنّة بحسب الأعمال لكن يمكن دخولها برحمة اللّه.

[مُتَّكِئِينَ حال من ضمير كلوا و اشربوا أي معتمدين [عَلى سُرُرٍ] جمع السرير [مَصْفُوفَةٍ] أي مصطفّة بعضها إلى جنب بعض أو المعنى مزيّنة بالذهب و الفضّة و الجواهر

ص: 247

قال الكلبيّ: صفّ بعضها إلى بعض طولها مائة ذراع يتقابلون عليها في الزيارة و إذا أراد أحدهم القعود عليها اتّضعت و تطأطأت فإذا قعد عليها ارتفعت إلى أصل حالها.

[وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ واحد الحور حوراء و واحد العين عيناء و إنّما سمّين حوراء لأنّ الطرف يحار في حسنهنّ و عيناء لأنّهنّ الواسعات الأعين أو الحور كيفيّة في العين مثل أن يكون البياض في غاية البياض و سواد العين في غاية السواد و الباء للسببيّة أي الإلصاق و الاتّصال وقع بسبب الحور فالتزويج حينئذ ليس على معنى العقد و النكاح فحينئذ تعدّى بالباء و إلّا فعل التزويج ممّا يتعدّى إلى مفعولين بلا واسطة كقوله تعالى:

«زَوَّجْناكَها» (1) و حاصل المعنى و فرنّاهم بهنّ، و في الواقعات المحموديّة مذكور أنّ لأهل الجنّة بيوت ضيافة يعملون فيها الضيافة للأحباب يتنعّمون و لكنّ أهليهم لا يظهرن لغير المحارم و عدم ظهورهنّ لا من حيث الحرمة لأنّ الحلّ و الحرمة من توابع التكليف و لا تكليف في الجنّة لكن لآجل تكميل اللذّة.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا] مبتدء و خبره «أَلْحَقْنا بِهِمْ» [وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ أي نسلهم [بِإِيمانٍ متعلّق بالاتّباع و المعنى و اتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمان في الجملة و في الآية إيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل إصالة لا إلحاقا [أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي أولادهم الصغار في الدرجة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تعالى يرفع ذرّيّة المؤمن في درجته و إن كانوا دونه لتقرّ عينهم بهم و يكمل سرورهم ثمّ تلا هذه الآية فحينئذ يحكم بإيمان الولد الصغير تبعا لأحد أبويه فإنّه تعالى لمّا جعلهم تابعين لآبائهم و لاحقين بهم في أحكام الآخرة فينبغي أن يكونوا لاحقين بهم في أحكام الدينا أيضا.

[وَ ما أَلَتْناهُمْ أي ما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق من باب ألت يألت كضرب يضرب [مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ] أي لم ننقص الآباء من الثواب حين ألحقناهم ذرّيّاتهم و في أطفال المشركين و أهل الفترة و المجانين أقوال كثيرة. قيل: يرسل إليهم يوم القيامة رسول من جنسهم و يدعون إلى الإيمان و يمتحن المؤمن منهم بإيقاع نفسه في النار هناك فمن قبل

ص: 248


1- الأحزاب: 37.

الدعوة و لم يمتنع عن الإيقاع في النار خلص و إلّا دخل جهنّم و قيل في أطفال الكافرين يكونون خدّام أهل الجنّة و قيل يلحقون بآبائهم في النار تبعا لآبائهم و هذا القول بعيد جدّا و قال آخرون: إنّهم في الجنّة لكونهم غير مكلّفين و توقّف طائفة فيه انتهى.

[كُلُّ امْرِئٍ عاقل [بِما كَسَبَ رَهِينٌ فهو بمكتسباته مرهون و الرهن ما يوضع وثيقة للدين أي كلّ إنسان مرهون عند اللّه بالعمل الصالح و الإيمان اللّذين هما دين عليه فإن عمل به و أدّاه فكّ رقبته من الرهن و إلّا أهلكها قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لكعب بن عجزة لا يدخل الجنّة لحم نبت من السحت يا كعب الناس صنفان فمبتاع نفسه فمعتقها و بايع نفسه فموبقها.

[وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ و الإمداد الإتيان بالشي ء و بعد الشي ء أي أعطيناهم حالا فحالا من جنس الثمار و من اللّحم من الجنس الّذي يشتهونه.

[يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً] يتعاطفون كأس الخمر و المراد التداول على طريق التجاذب تجاذب الملاعبة لفرط السرور و المحبّة و في هذه الكيفيّة نوع لذّة و لا يكون التنازع في الآية بمعنى التخاصم إذ لا خصومة في الجنّة بل يعطون الكؤوس و يأخذونها بعضهم بعضا و الكأس لا تسمّى كأسا إلّا إذا كان فيه شراب كما لا تسمّى مائدة ما لم يكن عليها طعام فمعنى كأسا أي خمرا تسمية لها باسم محلّها.

[لا لَغْوٌ فِيها] و الكأس مهموزة مؤنّثة أي لا لغو في شربها و لا يتكلّمون في أثناء الشرب بلغو الحديث و اللّغو سقط الكلام و ما لا يعتدّ به و يرد لا عن رويّة و فكر فيجري مجرى اللّغاء و هو في الأصل صوت العصافير و نحوها من الطيور [وَ لا تَأْثِيمٌ أي و لا يفعلون ما يأثم به فاعله و ينسب الإثم من الكذب و السبّ و الفواحش كما هو ديدن المنادمين في الدنيا و لا يؤول حالهم في الشرب إلى ما يؤول حال أهل الدنيا.

[وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الطواف المشي حول الشي ء أي و يدور على أهل الجنّة بالكأس [غِلْمانٌ لَهُمْ جمع غلام و هو الطار الشارب أي مماليك مخصوصون بهم [كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ كالدرّ المصون المخزون في الصفاء و البياض و الحسن و الصباحة و مع ذلك للغلمان في خدمتهم حصول اللّذّة و السرور. قيل للنبيّ: يا رسول اللّه إذا كان الخادم كالؤلؤ فكيف بالمخدوم؟

ص: 249

فقال صلّى اللّه عليه و آله: و الّذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب و عنه صلّى اللّه عليه و آله إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة من ينادي الخادم من خدّامه فيجيبه ألف خادم ببابه لبّيك لبّيك.

[وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل بعض أهل الجنّة بعضا آخر عن أحواله و أعماله على ما هو عادة أهل المجلس يشرعون في التحادث للانس و كلّهم سائلون و مسؤولون [قالُوا] أي السائلون [إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي قبل دخول الجنّة [فِي أَهْلِنا] في الدنيا [مُشْفِقِينَ خائفين من عصيان اللّه وجلين من العاقبة و المراد من الأهل الأزواج و الأولاد و العبيد و الإماء و الأصحاب [فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا] و أنعم بالرحمة [وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ و حفظنا من عذاب النار النافذة في المسامّ و ثقب الجسد مثل المنخر و الفم و الاذن نفوذ الريح الحارّة الّتي تؤثّر تأثير ألم و الإشفاق أرقّ من الخوف و الخوف أصلب و الشفقة نقيض الغلظة و أصله الضعف من قولهم ثوب شفيق أي رقيق النسج و منه الشفق للحمرة عند غروب الشمس لأنّها حمرة ضعيفة.

[إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ المصير إلى اللّه يعنون في الدنيا [نَدْعُوهُ أي نعبده و نسأله الوقاية [إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ] أي المحسن [الرَّحِيمُ كثير الرحمة و البرّ خلاف البحر و في البرّ التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي المتوسّع في فعل الخير و برّ الوالدين التوسّع في الإحسان إليهما.

قال علماء الأخلاق: لا يكون الفقير فقيرا حتّى يكون فيه خصلتان أحدهما الثقة باللّه و الثانية الشكر له فيما زوي عنه من الدنيا ممّا ابتلي به غيره و لا يكمل الفقير حتّى يكون نظره من اللّه له في المنع أفضل من نظره له في العطاء و علامة صدقه في ذلك أن يجد للمنع من الحلاوة ما لا يجد للعطاء.

قوله تعالى: [سورة الطور (52): الآيات 29 الى 43]

فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)

أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

ص: 250

ثمّ خاطب نبيّه فقال:

[فَذَكِّرْ] و لمّا بيّن سبحانه أنّ في الوجود قوما يخافون اللّه فأمر نبيّه بالتذكير و فرّع بقوله: «فَذَكِّرْ» و اثبت على ما أنت عليه من العظمة بما أنزل إليك من الآيات و لا تكترث بما يقولون من الأباطيل.

[فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ (نعمت) رسّمت بالتاء و وقف عليها بالهاء، أي لست بسبب إنعامه عليك بالنبوّة و زيادة العقل [بِكاهِنٍ و الكاهن من يبتدع القول و يخبر عمّا سيكون في غير وحي و قيل: الكاهن الّذي يخبر بالأخبار الماضية الخفيّة بضرب من الظنّ كالعرّاف الّذي يخبر عن الأخبار المستقبلة على نحو ذلك و لكون هاتين الصناعتين مبنيّتين على الظنّ الّذي يخطئ و يصيب قال صلّى اللّه عليه و آله: من أتى عرّافا أو كاهنا فصدّقه بما قال فقد كفر بما أنزل اللّه على محمّد لأنّ الغيب لا يعلمه إلّا اللّه.

و يجوز أن يكون الباء في قوله: «بِنِعْمَةِ» للقسم فأقسم سبحانه أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس بكاهن كما يقولون [وَ لا مَجْنُونٍ و الجنون زوال العقل و ستره و فساده و يحصل بحصول الحائل بين النفس و العقل و هو إذا حصل دائما أو في أكثر أوقات السنة فمطبق و إلّا فدوريّ.

[أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ] «أم» المكسورة في هذه الآيات منقطعة بمعنى بل لكنّ الخليل قال: ما في سورة الطور من ذكر أم كلمة استفهام و ليست بعطف يعني ليست بمنقطعة للتوبيخ «شاعِرٌ» أي هو شاعر قال المرزوقيّ شارح الحماسة: تأخّر الشعراء عن البلغاء لأنّ ملوكهم قبل الإسلام و بعده ينجّحون بالخطابة و يعدّونها أكمل أسباب الرياسة و يعدّون الشعر دناءة لأنّ الشعر كان مكسبة و تجارة و فيه وصف اللّئيم عند الطمع بصفة

ص: 251

الكريم و الكريم عند تأخّر صلته بوصف اللّئيم.

و ممّا يدلّ على شرف النثر أنّ الإعجاز وقع في النثر دون النظم لأنّ زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله زمن الفصاحة فلهذا السبب نسبوا الشعر إليه صلّى اللّه عليه و آله و ظنّوا أنّه كان يرجو الأجر على التبليغ و لذا قال اللّه تعالى: (1) «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً»* و قال: (2) «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ» و قوله: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ» من باب الترقّي لأنّ الشاعر أدخل في الكذب من الكاهن و قد قيل: أحسنه أكذبه و كانوا يقولون: لا نعارضه مخافة أن يغلبنا بقوّة كلامه و إنّا نصبر و نتربّص موته و هلكه و حينئذ يتفرّق أصحابه.

[نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ و المراد بالريب الحوادث الّتي يترتّب ضد مجي ء الموت أو حوادث الدهر فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء.

ثمّ قال سبحانه: [قُلْ يا محمّد: انتظروا حوادث الدهر و [تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ المنتظرين و تربّص الكفّار بالنبيّ قبيح و تربّص النبيّ و المؤمنين بالكفّار حسن و الكلام و إن كان بصورة الأمر و لكن معناه التهديد.

[أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ الحلم ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب و الحكم و إن كان في الحقيقة ليس هو العقل لكن من مسبّبات العقل و لذا فسّر بالعقل قال المفسّرون:

كانت عظماء قريش توصف بالأحلام و العقول فأزرى اللّه بعقولهم فقال: بل أ تأمرهم عقولهم بما يقولونه لك هذه الأقوال السخيفة و لم تثمر عقولهم بأن غيّروا الحقّ عن الباطل.

ثمّ أخبر عن طغيانهم فقال: [أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ و قرئ بل هم قوم طاغون يتجاوزون الحدود في المكابرة و العناد.

[أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ هو ترقّ إلى ما هو أبلغ في القبح و الإنكار و هو أن نسبوه إلى اختلاق القرآن من تلقاء نفسه و ليس الأمر كما زعموا [بَلْ لا يُؤْمِنُونَ البتّة لعنادهم فإن كان الأمر كما زعموا [فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ و يأتوا بكلام مثل القرآن و إذا قرئ بحديث منوّنا فالضمير في «مِثْلِهِ» راجع إلى القرآن و إذا قرئ على طريق الإضافة فيكون الضمير راجعا إلى النبيّ

ص: 252


1- الانعام: 90.
2- يس: 69.

[إِنْ كانُوا] فيما يزعمون [صادِقِينَ فإنّ صدقهم في قولهم يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله لمشاركتهم له صلّى اللّه عليه و آله في العربيّة و البشريّة و الفصاحة مع طول الممارسة لهم للخطب و الأشعار و قدرتهم على أساليب النظم و النثر و حفظ الوقائع و الأيّام و لهم مع ذلك دواع في الإتيان و قد عجزوا و لم يأتوا بمثله و لا بمثل بعضه لأنّ القرآن معجز من حيث معناه و أحكامه و تكاليفه بحيث أن لو اجتمع عقلاء الدنيا بأن يقنّنوا قانونا في العالم لنظام العالم أكمل و أتمّ من القرآن لا يقدرون و مثله أيضا لا يقدرون و كذلك معجز من حيث اللّفظ لأنّ القرآن متميّز من خطبة البلغاء ببلوغه حدّ الكمال من إنجاز اللّفظ و التنبيه الغريب و الاستعارة البديعيّة و تلاؤم الحروف و الكلمات و فواصل الآيات و تجانس الألفاظ و تعريف القصص و الأحوال و تضمين الحكم و الأسرار و حسن البيان في الطلب و تمهيد المصالح و الأسباب و الأخبار عمّا كان و ما يكون مع أنّ مادّته ألفاظ العرب و ألفاظه ألفاظهم و إنّه منظّم من ما ينظّمون به كلامهم و قد أعجزهم القرآن لفظا و معنى.

[أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ] أي أم أحدثوا و قدروا هذا التقدير البديع من غير محدث و قيل: المعنى أم خلقوا من أجل لا شي ء من عبادة و جزاء فحينئذ «من» للسببيّة [أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ لأنفسهم فلذلك لا يعبدون اللّه و لا يطيعونه.

[أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أي إذا سئلوا من خلقكم و خلق السماوات و الأرض؟ قالوا: اللّه، و هم غير موقنين بما قالوا و إلّا لما أعرضوا و أشركوا بعبادته.

[أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ جمع خزانة بالكسر و هو محرز المال أي أعندهم خزائن رزقه و رحمته حتّى يرزقوا من شاءوا و يمسكوها عن من شاءوا حتّى يختاروا لها من اقتضت الحكمة اختياره للنبوّة.

[أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ الغالبون على الأمور و يدبّروا أمر الربوبيّة و مسلّطون على الناس فيجبرونهم على ما شاءوا مأخوذ من السطر كأنّه يخطّ للمسلّط عليه خطّا لا يجاوزه.

[أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ منصوب إلى السماء و السلّم اسم لما يتوصّل به إلى كلّ شي ء رفيع

ص: 253

[يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فيمن يستمعون معنى الصعود، و «فِيهِ» متعلّق بمحذوف هو حال من فاعل يستمعون و تقدير الكلام يستمعون صاعدين في ذلك السلّم و مفعول يستمعون محذوف أي إلى كلام الملائكة و ما يوحى إليهم من علم الغيب حتّى يكونوا واثقين بقولهم أو في بمعنى على كقوله: «فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» [فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ و هو أمر تعجيز أي فليأتوا ما سمعوا [بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة واضحة تدلّ على صدق قولهم.

[أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ في الكلام إنكار عليهم حيث جعلوا ما يكرهون للّه و تركيك لعقولهم و اختيارهم و ذلك أنّ من جعل خالقه أدون حالا منه بأن جعل له ما لا يرضى لنفسه كما قال: «وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ» (1) و من كان في عنوان هذه الخرافات لم يستبعد منه هذه الحماقات.

[أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً] رجوع إلى خطابه صلّى اللّه عليه و آله و إعراضا عنهم أي أ تسألهم أجرا على تبليغ الرسالة [فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ فهم لأجل إلزام الغرامة يحملون الثقل و في الكشّاف الغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه من غير جناية منه أو ما يلزم أدائه و كذلك المغرم و الغريم من عليه الدين.

[أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي اللّوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب [فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه حتّى يتكلّموا في ذلك بنفي أو إثبات في أمر القيامة و غيرها.

[أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً] أي يكتفون بهذه المقالات الفاسدة بل يريدون مع ذلك أن يكيدوا بك كيدا و هو كيدهم في دار الندوة و قد مرّ بيانه من القتل و الحبس و الإخراج في حقّه صلّى اللّه عليه و آله و الكيد هو الأمر الّذي يسوء من نزل به أو ضرب من الاحتيال و إرادة مضرّة الغير خفية؛ و هو من الخلق الحيلة السيّئة، و من اللّه التدبير بالحقّ لمجازاة أعمال الخلق قال بعض المفسّرين مثل السدّيّ: المعنى أنّ هذا البيان من الأخبار بالغيب فإنّ السورة مكّيّة و ذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة.

[فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي هم الّذين يحيق بهم كيدهم و يعود إليهم وبال كيدهم لا من أرادوا أن يكيدوه فإنّه صلّى اللّه عليه و آله الغالب عليهم حجّة و سيفا و المراد ما أصابهم يوم بدر.

ص: 254


1- النحل: 58.

[أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يغنيهم و يحرسهم من عذابه [سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ نزّه نفسه تعالى عمّا ينسبون إليه من الشرك.

قوله تعالى: [سورة الطور (52): الآيات 44 الى 49]

وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبارَ النُّجُومِ (49)

[وَ إِنْ يَرَوْا] قطعة من العذاب أو من السماء أي إن عذّبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لأن ينتهوا عن كفرهم قالوا: هو قطعة من السحاب من فرط طغيانهم و عنادهم و الكفّ هو التغطية كالكسوف و المركوم المتراكم الغليظ أي سحاب هذا تراكم و القي بعضها على بعض و لم يصدّقوا أنّه كسف ساقط للعذاب و حاصل المعنى مثل قوله: «وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ» حتّى شاهدوا بالعين لقالوا: «إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا» فالمعنى [فَذَرْهُمْ يا محمّد ودعهم [حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ إلى أن يعاينوا اليوم الّذي فيه يهلكون و قرئ مجهولا من صعقته الصاعقة [يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] من العذاب بأن يتمكّنوا من ردّ العذاب عن أنفسهم [وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ بغيرهم في دفع العذاب عنهم.

[وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا] أي لهؤلاء الظلمة من الكفّار مثل أبي جهل و أصحابه [عَذاباً] آخر [دُونَ ذلِكَ أي دون عذاب الآخرة و المراد يوم بدر من القتل و الأسر و قيل: يريد عذاب القبر و قيل: المراد الجوع و القحط سبع سنين [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لفرط جهلهم و عنادهم و على العاقل أن يعتقد و يتعلّم علم الآخرة و هو من المعلوم الضروريّة الواجبة قال بعض المحقّقين: العلم علمان: علم تحتاج منه مثل ما يحتاج من القوت فينبغي الاقتصار على قدر الحاجة منه و هو علم الأحكام فينبغي النظر فيه بقدر ما تمسّ الحاجة إليه في الوقت فإنّ تعلّق تلك العلوم إنّما هو بالأحوال الواقعة في الدنيا للعمل حتّى يكون على بصيرة فقط لا غير و علم ليس له حدّ يوقف عليه و هو العلم المتعلّق بمعرفة اللّه

ص: 255

و مواطن القيامة إذ العلم بمواطنها يؤدّي العالم بها إلى الاستعداد لكلّ موطن بما يليق به لأنّ اللّه هو المطالب في ذلك اليوم و هو يوم الفصل فينبغي للإنسان أن يكون على بصيرة من أمره معدّا للجواب عن نفسه و عن غيره في المواطن الّتي يعلم أنّه يطالب بالجواب.

و من المواطن القبر؛ فإنّ اللّه يحيي العبد المكلّف في قبره و يردّ الحياة إليه و يجعله من العقل في مثل الحال الّذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه و ما يجيب به و قد سئل صلّى اللّه عليه و آله لمّا أخبر بفتنة الميّت في قبره و سؤال منكر و نكير و هما الملكان: (قيل: إنّ السائل كان عمر) أ يرجع عليّ عقلي؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: نعم و أنكره الملحدة و من تمذهب من الإسلاميّين بمذهب الفلاسفة عذاب القبر لكنّهم بمعزل عن الدين القويم و المداد أعزّ من أن يصرفه الإنسان في الاستمداد ببيان سواد وجوههم و قباحة مذهبهم و الأحاديث من رواة العامّة و الخاصّة في بيان عذاب القبر و ضغطته أكثر من أن تحصى و كان صلّى اللّه عليه و آله يدعو و يقول: اللّهم إنّي أعوذ بك من عذاب القبر و من عذاب النار و من فتنة المحيا و الممات و من فتنة المسيح الدجّال و ينجي المؤمن من عذاب القبر و أهواله خمسة أشياء: الأوّل الرباط في سبيل اللّه و لو يوما و ليلة و الثاني الشهادة بأن يقتل في سبيل اللّه و الثالث قراءة سورة الملك فإنّ من قرأها كلّ ليلة لم يضرّه القتال و الرابع الموت مبطونا فإنّه لا يعذّب في قبره و الخامس الوقت ففي الحديث من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة (؟).

قوله: [وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم إلى يومهم الموعود و حكم ربّك الّذي حكم به و ألزمك التسليم له إلى أن يقع عليهم العذاب الّذي حكمنا عليهم [فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا] أي بمرأى منّا و خبر استناد جمع العين للإيذان بغاية الاعتناء في الحفظ و بكثرة أسباب الحفظ و تأمّل بين الحبيب و درجة الكليم حيث أفرد فيه العين و قال «وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» و عناية عين اللّه تعالى على محمّد مستمرّة لا ينقطع لا في حياته و لو أنّ موته عين الحياة كما روي أنّه ينزل على قبر محمّد صلّى اللّه عليه و آله كلّ صباح سبعون ألف ملك و يضربون أجنحتهم عليه و يحفظونه إلى المساء ثمّ ينزل سبعون ألفا غيرهم فيفعلون به ما فعل الأوّلون و هكذا إلى يوم القيامة روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ من قال: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم ثلاث مرّات و قرأ ثلاث آيات آخر سورة الحشر «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا

ص: 256

هُوَ» إلى آخر السورة حين يصبح و كلّ اللّه به سبعين ألف ملك يحرسونه و كذلك إذا قرأها حين يمسي و كلّ اللّه به سبعين ألف ملك يحرسه قوله: [وَ سَبِّحْ أي نزّهه تعالى عمّا لا يليق به حال كونك متلبّسا [بِحَمْدِ رَبِّكَ على نعمائه [حِينَ تَقُومُ من أيّ مقام قمت قال سعيد بن جبير: أي قل حين تقوم من مجلسك: سبحانك اللّهم و بحمدك أي سبّح اللّه متلبّسا بحمده فإن كان ذلك المجلس خيرا ازددت إحسانا و إن كان غير ذلك كان كفّارة له قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه- بالغين المعجمة و الطاء المهملة و هو كلام الردي ء و اختلاط أصوات الكلام حتّى لا يفهم- فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللّهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك و أتوب إليك كان كفّارة له ما لم يتعلّق بحقّ آدميّ كالغيبة و كان رسول اللّه إذا قام لصلاة الليل كبّر عشرا و حمد اللّه عشرا و سبّح اللّه عشرا و هلّل عشرا و استغفر عشرا و يتعوّذ من ضيق المقام يوم القيامة.

[وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعني صلاة الليل روى زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن الباقر و الصادق عليهما السّلام في هذه الآية قالا: إنّ رسول اللّه كان يقوم من الليل ثلاث مرّات فينظر في آفاق السماء و يقرء الخمس من آل عمران الّتي آخرها «إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» ثمّ يفتح صلاة الليل الخبر و قيل: معناه صلّ المغرب و العشاء الآخرة [وَ إِدْبارَ النُّجُومِ بكسر الهمزة مصدر أدبر يعني الركعتين قبل صلاة الفجر عن ابن عبّاس و قتادة و هو المرويّ عن الصادقين و الرضا عليهم السّلام و ذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح و قيل: يعني صلاة الفجر المفروضة و قيل: إنّ المعنى لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا و مساء و نزّهه في جميع أحوالك ليلا و نهارا فإنّه لا يغفل عنك.

و في قوله تعالى: «وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» إشارة إلى أنّه أشقّ على النفس و أثوب و أبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل و الليل زمان المعراج و الصلاة معراج المؤمن فمن أراد أن يتأسّى في الجملة برسول اللّه فليصلّ بالليل و الناس نيام و لشرف ذلك الوقت كان معراجه صلّى اللّه عليه و آله فيه لأقرب الصباح لأنّ في قربه قد يستيقظ بعض النفوس للحاجات و في ختم هذه السورة بالنجوم و افتتاح الآتية بالنجم أيضا من حسن الانتهاء و الابتداء تمّت بعون اللّه.

ص: 257

سورة النجم

اشارة

مكّيّة غير آية منها فإنّها نزلت بالمدينة. «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ» الآية، عدد آيها اثنتان و ستّون آية.

فضلها: عن ابيّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة و النجم اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمّد و من جحد به.

و عن الصادق عليه السّلام قال: من كان يد من قراءة و النجم في كلّ يوم أو في كلّ ليلة عاش محمودا بين الناس.

ص: 258

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة النجم (53): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى (2) وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)

فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّها أوّل سورة جهر بها رسول اللّه و جهر بقراءتها في الحرم و المشركون يستمعون نزلت في شهر رمضان من السنة الخامسة من النبوّة و لمّا بلغ صلّى اللّه عليه و آله السجدة سجد معه المؤمنون و المشركون و الجنّ غير أبي لهب في رواية أنّه رفع من تراب حفنة إلى جبهته و قال: يكفيني هذا، و في رواية كان ذلك الوليد بن المغيرة فإنّه رفع ترابا إلى جبهته فسجد عليه لأنّه كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود و إنّما سجد المشركون.

قال الشيخ إسماعيل الحقّي صاحب تفسير روح البيان: لأنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا بلغ إلى قوله: «أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألحق الشيطان به قوله:

تلك الغرانيق العلى* منها الشفاعة ترتجى فسمعه المشركون و ظنّوا أنّه من القرآن فسجدوا لتعظيم آلهتهم و من ثمّ عجب المسلمون من سجود المشركين من غير إيمان و المراد بالغرانيق العلى الأصنام و شبّهت الأصنام بالغرانيق الّتي هي طائر الماء جمع غرنوق بكسر الغين المعجمة و إسكان الراء و هو طير طويل العنق أو الكركي و وجه الشبه بين الأصنام و تلك الطيور أنّ تلك الطيور تعلو و ترفع في السماء فالأصنام مشبهة بها في علوّ القدر و ارتفاعه.

ص: 259

أقول: و قد مرّ بيانه في تفسير سورة الحجّ و هذه الرواية رواها ابن عبّاس قال الطبرسيّ في المجمع: إن صحّ الخبر محمول على أنّه كان صلّى اللّه عليه و آله يتلو القرآن فلمّا بلغ إلى هذا الموضع و ذكر أسماء آلهتهم و قد علموا من عادته صلّى اللّه عليه و آله أنّه يعيبها قال بعض الحاضرين من المشركين: تلك الغرانيق العلى و ألقى ذلك في تلاوته توهّم أنّ ذلك من القرآن فأضافه اللّه إلى الشيطان لأنّه إنّما حصل بإغوائه و وسوسته حيث يقول عزّ و جلّ:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» (1) أي في تلاوته. هكذا أورده المرتضى قدّس سرّه في كتاب التنزيه.

و بالجملة قوله تعالى: [وَ النَّجْمِ إِذا هَوى الواو للقسم أقسم بالنجم و المراد به الثريّا فإنّه اسم غالب عليها و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله: ما طلع النجم قطّ و في الأرض من العاهة شي ء إلّا رفع يريد صلّى اللّه عليه و آله الثريّا و تسمّى الثريّا أيضا بالية الحمل لأنّها تطلع بعد بطن الحمل و هي سبعة كواكب و لا يكاد يرى السابع منها لخفائه تمتحن به الأبصار و كانت قريش تعظمها و تقول: أحسن النجم في السماء الثريّا و كانت رجلتاها عند طلوعها و سقوطها فإذا طلعت بالغداة عدوّها من الصيف و إذا طلعت بالعشيّ عدّوها من الشتاء «إِذا هَوى إذا غرب و الهويّ السقوط من علو إلى سفل.

و في تفسير قوله: «وَ النَّجْمِ إِذا هَوى أقوال:

الاول: أنّه تعالى أقسم بالنجم الثريّا إذا سقطت و غابت مع الفجر.

و الثاني: أقسم بالقرآن إذا نزل نجوما متفرّقة على النبيّ في ثلاث و عشرين سنة فسمّى القرآن نجما لتفرّقه في النزول و العرب يسمّي التفريق تنجيما و المفرّق منجّما.

و الثالث: أنّ المراد به جماعة النجوم إذا هوت و أخفيت و أراد به الجنس و إشارة في أفول النجم إلى طلوعه لأنّ ما يأفل يطلع فاستدلّ بافوله و طلوعه إلى وحدانيّته تعالى و قيل: المراد بهويّه و سقوطه يوم القيامة.

و الرابع: يعني به الرجوم من النجوم و هو ما يرمى به الشياطين عند استراق السمع و روت العامة عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: أراد بالنجم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل ليلة

ص: 260


1- الحج: 52.

المعراج و الهويّ النزول نزل من السماء السابعة ليلة المعراج و لمّا نزلت السورة و قرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جاء عتبة بن أبي جهل (1) إلى النبيّ و طلّق ابنته النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تفل اللعين في وجهه صلّى اللّه عليه و آله و قال: كفرت بالنجم و بربّ النجم فدعا صلّى اللّه عليه و آله عليه و قال: اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك فخرج عتبة مع أبيه إلى الشام فنزل في بعض الطريق و ألقى اللّه إليه الرعب فقال: لأصحابه أقيموني بينكم ليلا ففعلوا فجاء أسد أو كلب فافترسه من بين الناس.

الخامس: في المجالس عن ابن عبّاس قال: صلّينا العشاء الآخرة ذات ليلة مع رسول اللّه فلمّا سلّم أقبل إلينا بوجهه ثمّ قال: إنّه سينقضّ كوكب من السماء مع طلوع الفجر فيسقط في دار أحدكم فمن سقط ذلك الكواكب في داره فهو وصيّي و خليفتي و الإمام بعدي فلمّا كان قرب الفجر جلس كلّ واحد منّا في داره فلمّا طلع الفجر انقضّ الكواكب في دار عليّ قال ابن عبّاس- و كان أطمع القوم في ذلك-: فقال رسول اللّه لعليّ: يا عليّ و الّذي بعثني بالنبوّة لقد وجبت لك الوصيّة و الخلافة و الإمامة بعدي فقال المنافقون: لقد ضلّ محمّد في محبّة ابن عمّه و غوى و ما ينطق في شأنه إلّا بالهوى فأنزل اللّه تعالى: «وَ النَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى يعني في محبّة عليّ [وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى في شأن عليّ [إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى و عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام ما يقرب منه و القميّ عن الرضا عليه السّلام إنّ النجم رسول اللّه. و عن الباقر عليه السّلام يقول: ما ضلّ في عليّ و ما غوى و ما ينطق فيه عن الميل و الهوى و ما كان ما قاله فيه إلّا عن الوحي الّذي اوحي إليه و في الكافي عنه عليه السّلام: أقسم سبحانه بمحمّد إذا قبض ما ضلّ صاحبكم بتفضيله أهل بيته و ما غوى و ما ينطق بفضل أهل بيته بهواه و هو قول اللّه: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى إليه.

و في المجالس عن الصادق عليه السّلام إنّ رضى الناس لا يملك و إنّ ألسنتهم لا تضبط و كيف تسلمون ممّا لم يسلم منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنبيائه فنسبوا نبيّنا محمّدا إلى أنّه ينطق عن الهوى في ابن عمّه عليّ حتّى كذّبهم اللّه فقال: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى .ب.

ص: 261


1- الصحيح: عتبة بن أبى لهب.

و بالجملة ما عدل صلّى اللّه عليه و آله عن الحقّ و ما فارق الهوى و ما خاب عن إصابة الرشد. و قيل: ما خاب سعيه بل ينال ثواب اللّه و كرامته.

و قوله: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ» جواب القسم. و الوحي قد يكون اسما بمعنى الكتاب الإلهيّ و قد يكون مصدرا و له معان الإرسال و الإلهام و الكتابة و الإشارة إلى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد فنى عن ذاته و صفاته و أفعاله في ذات اللّه و صفاته و أفعاله بحيث لم يبق منه لا اسم و لا رسم فكان ناطقا بنطق الحقّ لا بنطق البشريّة فحينئذ لا يجري عليه الخطرات الشيطانيّة و الهواجس النفسانيّة به و هذا معنى قوله: لست كأحدكم أبيت عند ربّي يطعمني و يسقيني و قوله صلّى اللّه عليه و آله: أنا من اللّه و المؤمنون منّي.

[عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى أي علّم القرآن الرسول و نزل به عليه و قرأه عليه و بيّنه له هذا على أن يكون الوحي بمعنى الكتاب و إن كان بمعني الإلهام فتعليمه بتبليغه إلى قلبه صلّى اللّه عليه و آله فيكون كقوله: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» (1) «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى من إضافة الصفة إلى فاعلها مثل حسن الوجه و الموصوف محذوف أي ملك شديد قواه و هو جبرئيل عليه السّلام و يكفيك دليلا على شدّة قواه أنّه قطع قرى قوم لوط من الماء الأسود تحت الثرى و حملها على جناحه و رفعها إلى السماء حتّى سمع أهل السماء نياح الكلاب و صياح الديكة ثمّ قلبها و صاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين و رأى جبرئيل إبليس يكلّم عيسى صلّى اللّه عليه و آله في بعض عقبات الأرض المقدّسة فنفخه نفخة بجناحه و ألقاه في أقصى جبل في الهند و كان هبوطه على الأنبياء و صعوده عليه السّلام في أسرع من رجعة الطرف.

[ذُو مِرَّةٍ] أي حصافة و استحكام في رأيه و عقله و متانة في دينه و المرّة بالكسر قوّة الخلق و العقل و فلان ذو مرّة أي محكم الفتل و ذو مرّة جبرئيل.

[فَاسْتَوى عطف على علّمه أي فاستقام و استقرّ بصورته الّتي خلقه اللّه عليها و له ستّمائة جناح دون الصورة الّتي كان يتمثّل بها كلّما هبط إلى الأرض كما كان يهبط بالوحي أحيانا بصورة دحية الكلبيّ و أتى إبراهيم في سورة الضيف و لداود في صورة الخصم و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أحبّ أن يراه في صورته الّتي جعل عليها و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بجبل

ص: 262


1- الشعراء: 193.

حراء و هو الجبل المسمّى بجبل النور بقرب مكّة فقال جبرئيل: إنّ الأرض لا تسعني و لكن انظر إلى السماء فطلع له جبرئيل من المشرق فسدّ الأرض من المغرب و ملأ الأفق فخرّ رسول اللّه كما خرّ موسى في جبل الطور فنزل جبرئيل في صورة الآدميّين فضمّه إلى نفسه و جعل يمسح الغبار عن وجهه فإنّ الجسد و هو في الدنيا لا يتحمّل رؤية ما هو خارج عن طور العقول.

و ما رأى أحد من الأنبياء صورة جبرئيل بصورته غير نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله فإنّه رآه فيها مرّتين مرّة في الأرض و هي هذه و مرّة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى. و روي أنّ حمزة بن عبد المطّلب استدعى من رسول اللّه و قال: أرني جبرئيل في صورته فقال: إنّك لن تستطيع أن تنظر إليه قال: بلى يا رسول اللّه أرنيه فقعد و نزل جبرئيل على خشبة في الكعبة كان المشركون يضعون ثيابهم عليها إذا طافوا فقال صلّى اللّه عليه و آله: ارفع طرفك يا حمزة فانظر فرفع عينه فإذا قدماه كالزبرجد فخرّ مغشيّا عليه، و روي أنّه رآه على فرس و الدنيا بين كلكلها و في وجهه أخدود من البكاء لو ألقيت السفن فيه لجرت و إنّما رآه صلّى اللّه عليه و آله مرّتين ليكمل له الأمر مرّة في عالم الكون و الفساد و اخرى في المحلّ الأعلى و إنّما قام بصورته ليؤكّد أنّ ما يأتيه في صورة دحية هو هو.

فإن قيل: كيف يجوز أن يغيّر الملك صورة نفسه و هل يقدر غير اللّه على تغيير صورة المخلوقين و قد ثبت أنّ جبرئيل أتى رسول اللّه في صورة رجل و قد قيل: إنّ إبليس أتى قريشا (1) في صورة شيخ نجديّ.

فالجواب عنه أنّ التغيير الصورة الّذي هو تغيير التركيب و التأليف لا يقدر عليه إلّا اللّه لكن صفة جبرئيل بفعل اللّه و قد جعل اللّه لجبرئيل بأمره هذه القوّة و ليس انتقاله عليه السّلام من صورة إلى صورة يكون بنقض البنية و تفريق الأجزاء و تمزيقها حتّى إذا انقضت بطل الحياة و استحال وقوع الفعل من الجملة و يحتاج إلى إحياء ثان فيكون تلك القدرة من جبرئيل محال و أمّا إبليس فكان ذلك تخييلا للناظرين و تمويها دون التحقيق كفعل السحرة بالعصيّ و الحبال.ه.

ص: 263


1- عند اجتماعهم في دار الندوة لإطفاء نور اللّه.

قال القاضي أبو يعلى و لا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم و الانتقال في الصورة إنّما يجوز أن يكونوا معلّمين كلمات و ملقّنين ضربا من ضروب الأفعال إذا فعله و تكلّم به نقله اللّه من صورة إلى صورة فيكون قادرا على التصوير و التخييل معنى أنّه قادر على قول إذا قاله أو على فعل إذا فعله نقله اللّه من صورة إلى صورة اخرى و التمثّل بصورة رجل أو غيره ليس معناه أنّ ذاته انقلبت رجلا بل معناه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن خاطبه و القدر الزائد لا يزول و لا يفنى بل يخفى على الرائي فقط و تعدّد الصور بالتخيّل و التشكّل ممكن كما هو حاصل للجانّ.

قوله: [وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى كناية عن جبرئيل بالأفق المشرق و هو فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بحراء جبل النور قرب مكّة و قد مرّ بيانه.

[ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى و قيل: فتدانى و تقديره قرب جبرئيل بعد بعده و علوّه ثمّ تدلّى أي زاد في القرب مثل قولك: فلان قرب منّي و دنا و قيل: المعنى استوى أي اعتدل واقفا في الهواء بعد أن كان نزل بسرعة ليراه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بصورته و قيل: إنّ المعنى استوى جبرئيل أي ارتفع و علا إلى السماء بعد أن علّم محمّدا و قيل: استوى جبرئيل و محمّد بالأفق الأعلى يعني السماء ليلة المعراج و قيل: إنّ التدلّي استرسال مع التعلّق أي استرسل جبرئيل من الأفق الأعلى مع تعلّقه به فدنا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

[فَكانَ أي مقدار امتداد ما بين رسول اللّه و جبرئيل و مسافة بينهما [قابَ قَوْسَيْنِ و و القوس ما يرمي به و خصّت بالذكر على عادة العرب و قيل: المراد من القوس ما يقاس به الشي ء و المراد مقدار ذراعين يقال: قاس الشي ء يقوسه إذا قدّره و قوله: [أَوْ أَدْنى أو أقلّ من ذراعين أو أقلّ من سيتي القوسين و مسافتهما و العباد يخاطبون على لغتهم و هو كقوله:

«أَوْ يَزِيدُونَ» (1) فإنّ التشكيك لا يصحّ على اللّه فأو للشكّ من جهة العباد كما أنّ كلمة لعلّ كذلك في مواضع القرآن و المعنى لو رآهما راء منكم لقال: هو قدر قوسين في القرب

ص: 264


1- الصافات: 147.

أو أدنى و التبس القرب عليه و المراد بيان و تمثيل بملكة الاتّصال و تحقيق استماعه صلّى اللّه عليه و آله لما اوحى إليه.

[فَأَوْحى أي جبرئيل [إِلى عَبْدِهِ أي محمّد و إضماره قبل الذكر لغاية ظهوره مثل قوله: «ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها» (1) [ما أَوْحى من الأمور العظيمة الّتي لا تفي العبارة أو فأوحى اللّه بواسطة جبرئيل ما أوحى، و في العلل عن السجّاد عليه السّلام أنّه سئل عن اللّه هل يوصف بمكان فقال: تعالى اللّه عن ذلك قيل: فلم اسري بنبيّه محمّد إلى السماء قال: ليريه ملكوت السماء و ما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه قيل: فقول اللّه: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى قال: ذلك رسول اللّه دنا من حجب النور فرأى ملكوت السماوات ثمّ تدلّى فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتّى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى فحينئذ الضمير في قوله: «دَنا فَتَدَلَّى» راجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و عن الصادق عليه السّلام أوّل من سبق إلى اللّه و ذلك أنّه أقرب الخلق إلى اللّه بالمكان الّذي قال له جبرئيل: لمّا سري به إلى السماء تقدّم يا محمّد فقد وطئت موطئا ما وطئه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل.

و في الأماليّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: عرج بي إلى السماء و دنوت من ربّي كان بيني و بينه قاب قوسين أو أدنى فقال لي: يا محمّد من تحبّ من الخلق؟ قلت: يا ربّ عليّا قال:

فالتفت يا محمّد فالتفّت عن يساري فإذا عليّ بن أبي طالب و في الاحتجاج عن السجّاد قال:

أنا ابن من علا فاستعلى فجاء سدرة المنتهى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى. و في الكافي عن الصادق أنّه سئل كم عرج برسول اللّه فقال: مرّتين فأوقفه جبرئيل موقفا فقال له:

مكانك يا محمّد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك و لا نبيّ إنّ ربّك يصلّي فقال: يا جبرئيل و كيف يصلّي قال: يقول سبّوح قدّوس أنا ربّ الملائكة و الروح سبقت رحمتي غضبي فقال:

اللّهمّ عفوك عفوك.

قال الصادق عليه السّلام: ما جاء ولاية أمير المؤمنين من الأرض و لكن جاءت من السماء مشافهة قال الفيض: و لا تنافي بين هذه الأخبار و كلّها صدر من معدن العلم على مقادير

ص: 265


1- فاطر: 45.

الأفهام المخاطبين و المراد من الآية تمثيل المقدار القرب المعنويّ الروحاني بالمقدار الصوريّ الجسمانيّ المكانيّ تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون علوّا كبيرا و المراد من قوسين مقدار طرفي القوس فيكون مقدار مجموع مقدار جعل الطرفين من القوس قوسا على حدة لا أنّه طرفي قوسين متعدّدين فيكون مقدار مجموع القوسين مقدار قوس واحد.

قوله تعالى: [سورة النجم (53): الآيات 11 الى 22]

ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15)

إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَ فَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَ الْعُزَّى (19) وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20)

أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)

ثمّ بيّن سبحانه ما رآه النبيّ ليلة الأسرى و حقّق رؤيته فقال: لم يكذب فؤاد محمّد ما رآه بعينه و ما أوهمه الفؤاد إنّه رأى و لم ير بل حقيقة رأى و صدّقه الفؤاد رؤيته.

و قيل: المراد رأى محمّد ربّه بفؤاده و بصيرته لا بعينه روي ذلك عن محمّد بن الحنفيّة عن أبيه عليه السّلام فحينئذ يكون بمعنى العلم أي علّمه علما يقينيّا بما رآه بعينه من الآيات الباهرة كقول إبراهيم: «وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (1) و إن كان عالما قبل ذلك و قيل: المراد ممّا رأى من صورة جبرئيل أي ما قال فؤاده لمّا رآه لم أعرفك لأنّه عرفه بقلبه كما رآه ببصره.

[أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي أ تكذّبون محمّدا فتجادلونه على ما يراه معاينة من صورة جبرئيل أو آيات جلال ربّه و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أخبر بما رأى ليلة الأسرى أنكروا عليه و تعجّبوا و المماراة المجادلة بالباطل و اشتقاقه من مرى الناقة سخت ضرعها لتدرّ و مريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري و لمّا كانت رؤية جبرئيل أو الآيات مستمرّة إلى وقت الانتقال صحّ أن يقال بصيغة المستقبل.

القميّ: سئل رسول اللّه عن ذلك الوحي فقال: اوحي إليّ أنّ عليّا سيّد المؤمنين و إمام المتّقين و أوّل خليفة استخلفه خاتم النبيّين فدخل القوم في الكلام فقالوا: أمن اللّه أو من رسوله فقال اللّه لرسوله: قل لهم: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ثمّ ردّ عليهم فقال:

ص: 266


1- البقرة: 260.

«أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمرت أن أنصبه للناس فأقول: هذا وليّكم من بعدي و إنّه بمنزلة السفينة يوم الغرق من دخل فيها نجا و من خرج عنها غرق.

[وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى أي رأى جبرئيل في صورته الّتي خلق عليها مرّة اخرى و نزلة منصوب على الظرف الّذي هو مرّة لأنّ الفعلة للمرّة من الفعل فكانت في حكمها في المعنى فيكون تقدير الكلام و باللّه لقد رأى محمّد جبرئيل على صورته الأصليّة مرّة اخرى من النزول و ذلك أنّه كان للنبيّ عليه السّلام ليلة المعراج عرجات لمسألة التخفيف في أعداد الصلاة المفروضة فيكون لكلّ عرجة نزلة فرأى جبرئيل بصورته الأصليّة في بعض تلك النزلات.

[عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى أي كان جبرئيل عند السدرة و هي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة انتهى إليها علم كلّ ملك أو ينتهي ما يعرج إلى السماء و ما يهبط من فوقها و هذه الشجرة حيث انتهى إليه الملائكة فأضيفت إليه و قيل: هي شجرة طوبى و هو مقام جبرئيل و كان قد بقي هناك عند عروجه صلّى اللّه عليه و آله إلى مستوى العرش فقال جبرئيل: لو دنيت أنملة لاحترقت و الظاهر أنّ شجرة السدرة تبق في السماء السابعة عن يمين العرش ورقها كآذان الفيلة نبع من أصلها الأنهار المذكورة في القرآن و ينتهي إليها الملائكة و جبرئيل رسول الملائكة إذا لم يتجاوزها فبالحريّ أن لا يتجاوزها غيره فأعلاها لجبرئيل كالوسيلة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كما أن خواصّ الامّة يشتركون مع النبيّ في جنّة عدن بدون أن يتجاوزوا إلى مقامه المخصوص به فكذا الملائكة يشتركون مع جبرئيل في السدرة بدون أن يتعدّوا إلى ما خصّ به من المكان و إليها ينتهي علم الخلائق و لا يعلم أحد ما وراءها و لو أنّ ورقة من تلك السدرة وضعت لأهل الأرض لأضاءت الأرض و إضافة السدرة إلى المنتهى إضافة الشي ء إلى مكانه كقولك: أشجار البستان و إذا كان الفرض أنّ الضمير المفعول في قوله: «رَآهُ» راجع إلى اللّه كما أنّ المرئيّ هو اللّه يعني أنّ محمّدا رأى اللّه مرّة اخرى يعني مرّتين كما كلّم موسى مرّتين فحينئذ كلمة «عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى حال من الرائي لا من المرئيّ لأنّ اللّه منزّه عن أن يحلّ في مكان أو زمان و «عِنْدَ» متعلّق برأى.

ص: 267

قال ابن برجان: الإسراء مرّتين الاولى بالفؤاد و هذه المرّة بالعين و لمّا كان ذلك لا يتأتّى إلّا ينزل بقطع مسافة البعد الّتي هي الحجب عبّر بقوله: «نَزْلَةً أُخْرى و عبّر الوقت بتعيين المكان فقال: «عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى و لكن جلّ المفسّرين جعلوا الضمير في قوله «رَآهُ» كناية إلى جبرئيل لا إلى الربّ كما قالت عائشة: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك فقال صلّى اللّه عليه و آله: رأيت جبرئيل نازلا في الأفق على صورته الأصليّة.

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّ الشيخ الأكبر قال: إنّ معراجه صلّى اللّه عليه و آله أربع و ثلاثون مرّة واحدة بجسده و الباقي بروحه. قال البقليّ: بان الحقّ لحبيبه عند شجرة السدرة لا بالتجسّم كما بان لموسى من شجرة العنّاب.

و بالجملة فعظّم اللّه بيان شرف السدرة فقال: [عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى و إضافة الجنّة إلى المأوى مثل إضافة مسجد الجامع أي قرب السدرة جنّة الخلد و هي في السابعة و قيل:

هي الجنّة الّتي كان آوى إليه آدم عليه السّلام و تصير إليها أرواح الشهداء. و قيل: هي الّتي يأوي إليه جبرئيل و الملائكة و هذه الجنّة لا تقتضي الخلود لذاتها فلذلك أمكن خروج آدم منها.

[إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى الغشيان بمعنى التغطية و الستر و كلمة «إِذْ» ظرف زمان لرآه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: رأيت السدرة رفرف أي جماعة من طيور خضر- و قيل: يغشاها فراش أو جراد من ذهب- و رأيت على كلّ ورقة ملكا قائما يسبّح اللّه فالطيور هم الملائكة و قيل: يغشاها من النور و البهاء و الصفاء الّذي يروق الأبصار، و حاصل المعنى: إنّه صلّى اللّه عليه و آله رأى جبرئيل في الحال الّتي يغشى فيها السدرة من الملائكة بصورة الفراش يعبدون اللّه.

و التنكير في قوله: «ما يَغْشى لتفخيم الأمر مثل قوله: «ما أَوْحى . و قيل:

المراد من قوله: «ما يَغْشى المراد الملائكة الّذين استأذنوا للقاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأذن لهم و قيل لهم: لا تأتوه بغير نثار فجاء كلّ واحد منهم بطبق من أطباق الجنّة عليه من اللّطائف فنثروه بين يديه. و في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله اعطي عند السدرة ثلاثا الصلوات الخمس و خواتيم سورة البقرة و غفر لمن مات من امّته و هو غير مشرك باللّه شيئا.

ص: 268

[ما زاغَ الْبَصَرُ] أي ما مال بصر رسول اللّه أدنى ميل عمّا رآه [وَ ما طَغى و ما تجاوز مع ما شاهد هناك من الأمور العظيمة المدهشة للعقول و ما عدل عن رؤية العجائب الّتي امر برؤيتها و يستفاد من الآية على أنّ رؤيته صلّى اللّه عليه و آله الآيات كانت بعين بصره حقيقة و يقظة لا حكما و قلبا و لو كانت الرؤية قلبيّة لقال ما زاغ قلبه و لو كان المراد بالبصر بصر قلبه فلا بدّ له من القرينة و هي هاهنا معدومة.

[لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي و باللّه لقد رأى محمّد ليلة المعراج الآيات الّتي هي كبراها و عظماها ما لا يحيط به نطاق العبارة الّتي منها ما ذكر في الرفارف و السدرة و صورة جبرئيل و غيرها و اعلم أنّ القدم منزّه عن الحلول في المكان و كانت الشجرة مرآة لظهور جلاله تعالى جلّ جلاله و كان الإسراء ليلة السابع و العشرين من رجب في السنة الثانية عشر من النبوّة قبيل الهجرة.

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّ وقوع الإسراء في هذا التاريخ فيه إشكال بل يكون قبل هذا التاريخ لأنّ هذه السورة على ما قيل: نزلت في السنة الخامسة من النبوّة.

و أوّل من رأى صلّى اللّه عليه و آله في السماء ليلة الإسراء آدم في السماء الدنيا و كان آدم قبل ذلك في أمن اللّه و جواره فأخرجه عدوّه إبليس منها و ما أشبه حاله صلّى اللّه عليه و آله بحال آدم حين أخرجه أعداؤه من حرم اللّه و جوار بيته و كربته.

ثمّ رأى صلّى اللّه عليه و آله في السماء الثانية عيسى و يحيى و هما الممتحنان باليهود أمّا عيسى فكذّبته اليهود و آذته و همّوا بقتله فرفعه اللّه و أمّا يحيى فقتلوه كذلك يشبه حاله صلّى اللّه عليه و آله بحالهما من أذى اليهود إيّاه صلّى اللّه عليه و آله و همّوا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه و سمّوا في الشاة فلم تزل تلك الأكلة تعاوده حتّى قطعت أبهره.

و في السماء الثالثة لقاؤه ليوسف عليه السّلام يشبه حاله حال يوسف و ذلك أنّ يوسف ظهر بإخوته بعد ما أخرجوه من بين ظهرانيّهم فصفح عنهم و قال: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» (1) الآية، و كذلك نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله أسر يوم بدر جملة من أقاربه الّذين أخرجوه من

ص: 269


1- يوسف: 92.

مكّة و فيهم عمّه العبّاس و ابن عمّه عقيل فمنهم من أطلق و منهم من فداه و ظفر بعد ذلك عليهم عام الفتح فجمعهم و قال لهم: أقول لكم ما قال أخي يوسف: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ».

و كذلك لقاؤه صلّى اللّه عليه و آله إدريس في السماء الرابعة و هو المكان الّذي سمّاه اللّه مكانا عليّا و هو أوّل من آتاه اللّه الخطّ بالقلم و هو مؤذّن بحاله رافعة و علوّ شأنه حين أخاف الملوك و كتب صلّى اللّه عليه و آله إليهم يدعوهم إلى طاعته حتّى قال أبو سفيان: و هو عند ملك الروم حين جاء كتاب النبيّ و رأى ما رأى من خوف هرقل لقد آل أمر ابن أبي (1) كبشة حتّى أصبح يخافه ملك ابن أبي الأصفر و كتب إلى بعض ملوك الأرض فمنهم من اتّبعه على دينه كالنّجاشيّ و ملك عمّان و منهم من هادنه و أهدى إليه و أتحفه كهرقل ملك الشام و مقوقس سلطان مصر و منهم من تعصّى عليه فأظفر اللّه عليه فهذا مقام عليّ.

و لقاؤه في السماء السادسة لموسى عليه السّلام يؤذن بحاله تشبه بحالة موسى حين أمر بغزوة الشام على الجبابرة بعد إهلاك فرعون كذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله غزا تبوك من أرض الشام و ظهر على صاحب دومة الجندل حين صالحه على الجزية بعد أن أتى أسيرا و افتتح مكّة و أدخل أصحابه البلد الّذي خرجوا منه.

ثمّ لقاؤه في السماء السابعة لإبراهيم و هو الرافع لقواعد الكعبة المحجوجة و يؤذن بأنّه صلّى اللّه عليه و آله يحجّ هو و أصحابه و يتبع إبراهيم بالحجّ و قيام أمره.

قال أهل التحقيق: إنّ اللّه لا يرى و لا يمكن أن يرى كما هو الحقّ و هذه الآيات دالّة على أنّ محمّدا لم ير اللّه ليلة المعراج و إنّما رأى آيات ربّه المعظمة لأنّه تعالى ختم قصّة المعراج برؤية الآيات حيث قال: «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى و قال في موضع آخر:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» (2) إلى أن قال: «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» و لو كان رآه لكان ذلك أعظم ما يكون من الكرامة و كان يذكره و يختم به.

أقول: و رؤية ذاته تعالى أمر محال غير ممكن و لا يحصل أبدا في الدنيا و لا في الآخرة

ص: 270


1- يلقبون به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. لما سيأتي ذيل قوله تعالى: «وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى .
2- الإسراء: 1.

و لكنّه أظهر سبحانه لحبيبه من قدرته المظاهر العظيمة و الآيات الكبرى الّتي مفاتيح الفيض من فيضه الأقدس سبحانه لحبيبه المنتخب من كلّ العالم بحيث صارت حياته صلّى اللّه عليه و آله مادّة حياة العالم كلّه علويّة و سفليّة روحانيّة و جسمانيّة معدنيّة و نباتيّة حيوانيّة و إنسانيّة كما قال عزّ و جلّ: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» (1) و قال: لو لاك لما خلقت الأفلاك و قال صلّى اللّه عليه و آله: أنا من اللّه و المؤمنون منّي.

و كذلك علمه صلّى اللّه عليه و آله فقد علم الأوّلين و الآخرين و في رواية علم ما كان و ما سيكون و صار صلّى اللّه عليه و آله ببركة تجلّي صفاته تعالى شأنه له صار آدم بتبعيّته و خلافته خليفة العالم كما أخبر في كتابه العزيز «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» و أسجد اللّه الملائكة لتلألؤ نور هذا الحبيب في وجه آدم انتهى.

[أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هي أصنام كانت لهم فاللّات كانت لثقيف بالطائف و أصله من لويه لأنّهم كانوا يلوون عليها و يطوفون بها و هذا الأصل على قراءة الكسائيّ فإنّه كان يقف باللّاة بالهاء و يجعلها من هذه المادّة و الباقون يقفون بالتاء و أصله من اللّات و أصله من اسم رجل كان بيت السويق للحجّاج بسمن و أقط إذا قدموا و كان رجلا صالحا و كانت العرب تعظم ذلك الرجل بإطعامه في كلّ موسم فلمّا مات اتّخذوا مقعده الّذي كان بيت فيه السويق منسكا ثمّ سنح لهم الأمر إلى أن عبدوا تلك الصخرة الّتي كان يقعد عليها و مثّلوها صنما و سمّوها اللّات أي ملتّ السويق.

و العزّى تأنيث الأعزّ كانت لغطفان و هي سمرة كانوا يعبدونها فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خالد بن الوليد فقطّعها و هو يقول:

يا عزّ كفرانك لا سبحانك إنّي رأيت اللّه قد أهانك

قيل: فخرجت من أصلها شيطانة باشرة شعرها واضعة يدها على رأسها و هي تولول فجعل خالد يضربها بالسيف حتّى قتلها و قيل: صنم لا سمرة، و أوّل من اتّخذها ظالم بن اسعد من ملوك اليمن قيل: كانوا يسمعون فيها الصوت فبعث إليها خالد فهدم البيت الّذي هي فيه و أحرق السمرة.

ص: 271


1- الأنبياء: 107.

و مناة صخرة لهذيل و خزاعة سمّيت، لأن دماء المناسك تمنى و تراق عندها و منه منى و في إنسان العيون: مناة صنم كان للأوس و الخزرج. أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سعد بن زيد الأشهليّ في عشرين فارسا إلى مناة ليهدم محلّها فلمّا وصلوا إلى ذلك الصنم قال السادن لسعد: ما تريد؟ قال: هدم مناة قال: أنت و ذاك فأقبل سعد إلى ذلك الصنم فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء تائرة الرأس تدعو بالويل و تضرب رأسها فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك فضربها سعد فقتلها و هدم محلّها.

و وصف مناة بالثالثة تأكيدا لأنّها لمّا عطفت عليها علم أنّها ثالثتهما و الاخرى صفة ذمّ لها و هي المتأخّرة الوضعيّة المقدار لأنّ الأخرى يستعمل في الضعفاء كقوله تعالى «قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ» (1) أي ضعفاؤهم لرؤسائهم. و الاخرى تأنيث الآخر بفتح الخاء و هو في الأصل المتأخّر في الوجود نقل في الاستعمال إلى المغايرة مع الاشتراك مع موصوفه فيما أثبت له و كانت الأوّليّة و التقدّم عندهم للّات فيكون مناة من المتأخّر الرتبيّ.

و قيل: إنّ المشركين أرادوا أنّ لآلهتهم من الأسماء الحسنى فسمّوا في مقابلة اسم اللّه اللات و في مقابلة العزيز العزّى و في مقابلة المنّان المناة و كانوا يقولون: إنّ الملائكة و تلك الأصنام بنات اللّه.

و الحاصل في معنى الآية: أخبروني عن حال آلهتكم الّتي تعبدونها و اتّخذتموها معبودا هل وجدتم فيها صفة من صفات الألوهيّة من الإيجاد و الإعدام و النفع و الضرّ لا بل اتّخذتموها آلهة لغاية جهلكم و ظلمكم على أنفسكم، و الهمزة للإنكار و التبكيت و المفعول الثاني من رأيتم محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره خالقة و كان بعض المشركين يقولون:

إنّ الملائكة بنات اللّه و هذه الأصنام صورتها و يعبدونها فقال سبحانه على سبيل التوبيخ مثل توبيخ الأوّل:

[أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى أي الّذي تستنكفون منه تنسبونه إليه تعالى [تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إشارة إلى القسمة القبيحة المستنبطة من الجملة الاستفهاميّة و ضيزى فعلى

ص: 272


1- الأعراف: 38.

بضمّ الضاد من ضاز يضيز ضيزا إذا جار في الحكم و ضازه حقّه إذا بخسه و نقصه أي ما هذا إلّا قسمة الجور.

[سورة النجم (53): الآيات 23 الى 30]

إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى (25) وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27)

وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)

[إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ] أي ليس تسميتكم هذه الأصنام بأنّها آلهة و أنّها بنات اللّه إلّا مجرّد الأسامي لا معاني لها و لا مصاديق تحت هذه الأسماء لأنّه لا ضرّ لها و لا نفع و ما هي إلّا مجرّد الأسامي لا معاني لها و لا مصاديق تحت هذه الأسماء لأنّه لا ضرّ لها و لا نفع و ما هي إلّا أسماء ألقيت على جمادات [ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي لم ينزل اللّه حجّة و كتابا لكم فيها و ليس لكم فيما تقولونه حجّة [سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ و أسماء خالية عن المسمّيات وضعتموها للأصنام أنتم و من تقدّم منكم بمقتضى أهوائكم الباطلة.

[إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ التفات إلى الغيبة للإيذان بأنّ تعداد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم و ما يتّبعون إلّا توهّم أنّ ما هم عليه حقّا [وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ و يشتهونها تأسّيا بأفعال آبائهم و هوى أنفسهم [وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى حال من فاعل يتّبعون و فيه تأكيد لبطلان اتّباع الظنّ و هوى النفس و الهدى القرآن و الرسول و لم يهتدوا بهما مع أنّ القرآن و الرسول و المعجزات من موجبات الهدى و قد أعرضوا لجهلهم.

[أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أي ليس للإنسان كلّ ما يتمنّاه و تشتهيه نفسه من الأمور الّتي من جملتها طمعهم الفاسد في شفاعة هؤلاء الجمادات.

ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

ص: 273

و قيل: المعنى أم للإنسان ما اشتهى من طول الحياة و أن لا بعث و لا حشر و لا يتهيّأ له كلّ ما يتمنّاه إذ كلّ ميسّر لما أراد اللّه.

[فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما يتمنّاه فإنّ اختصاص امور الآخرة و الاولى به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون له أمر من الأمور التكوينيّة.

[وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ إقناط لهم ما طمعوا من شفاعة الملائكة حيث عبدوها و كم خبريّة مفيدة للتكثير و محلّها الرفع على الابتداء و الخبر الجملة المنفيّة أي و كثير من الملائكة [لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ عند اللّه [شَيْئاً] من الإغناء و لا تنفع شيئا من النفع و ليس المعنى أنّ الملائكة يشفعون فلا تنفع بل المعنى أنّهم لا يشفعون لأنّه لا يؤذن لهم في الشفاعة كما يفصح عن هذا المعنى [إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة [لِمَنْ يَشاءُ] أن يشفعوا له [وَ يَرْضى و يراه أهلا للشفاعة و يكون مرضيّ الدين و من أهل التوحيد و الإيمان و أمّا من عداهم من أهل الكفر و النفاق فهم من إذن اللّه بمعزل فإذا كان حال الملائكة في أمر الشفاعة كذلك فحال الأصنام الجماديّة و النباتيّة معلومة.

[إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] و بما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر و المعاصي [لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ] المنزّهين عن سمات النقص [تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي تسمية مثل تسمية الأنثى.

فإن قيل: كيف يصحّ أن يقال: إنّهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنّهم كانوا يقولون:

هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه و كان من عادتهم أن يربطوا مركوب الميّت على قبره و يعتقدون أنّه يحشر عليه؟

فالجواب أنّهم لا يجزمون به بل كانوا يقولون: لا نحشر فإنّ حشرنا فلنا شفعاء بدليل قوله حكاية عنهم: «وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى (1) ثمّ إنّهم ما كانوا يعترفون على الوجه الّذي ورد به الرسل.

و اعلم أنّ الملائكة ليسوا بذكور و لا إناث يعني أنّه ليس لهم آلة الرجوليّة و لا آلة الأنوثيّة و ما في الحديث من أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أتاني جبرئيل فعلّمني الوضوء و الصلاة

ص: 274


1- حم السجدة: 60.

فلمّا شرع في الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه أي محلّ الفرج من الإنسان.

[وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي يسمّون و الحال أنّه لا علم لهم بما يقولون أصلا [إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتّبعون [إِلَّا الظَّنَ الفاسد و ليس في الكلام تكرار لأنّ الأوّل متّصل بعبادتهم اللّات و العزّى و مناة و الثاني بعبادتهم الملائكة [وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً] مرّ تفسيره و الظنّ لا اعتداد به في شأن المعارف الاصوليّة. و الحقّ في الآية يجوز أن يكون بمعنى العلم و قيل: الحقّ في الآية بمعنى العذاب.

ثمّ خاطب نبيّه فقال: [فَأَعْرِضْ يا محمّد [عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا] و لم يقرّ بتوحيدنا و مال إلى الدنيا و منافعها و المراد من الإعراض في الآية أن لا تقابلهم على أفعالهم و احتملهم و لا تدع مع هذا دعاءهم إلى الحقّ.

[ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي الإعراض عن التدبّر في امور الآخرة و صرف الهمّة إلى التمتّع باللذّات العاجلة منتهى علمهم و هو مبلغ خسيس لأنّه من طباع البهائم لا تنتظر العافية.

[إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ منك و من جميع الخلق [بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ و عدل عن سبيل الحقّ [وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فيجازي كلّا على حسب أعمالهم.

[سورة النجم (53): الآيات 31 الى 41]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَ أَعْطى قَلِيلاً وَ أَكْدى (34) أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35)

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40)

ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)

ثمّ أخبر سبحانه عن كمال قدرته فقال:

[وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ و هذا اعتراض بين الآية السابقة و بين قوله:

ص: 275

[لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا] و اللام في قوله: «لِيَجْزِيَ» متعلّق بمعنى الآية السابقة لأنّه إذا كان أعلم بهم جازى كلّا منهم بما يستحقّه و اللام لام العاقبة و ذلك أنّ علمه تعالى بالفريقين أدّى إلى جزائهم باستحقاقهم و إنّما يقدر على مجازاة المحسن و المسي ء إذا كان كثير الملك و لذلك أخبر به في قوله: «وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ» في الآخرة «الَّذِينَ أَساؤُا» و أشركوا و عملوا بالمعاصي.

[وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا] و وحّدوا ربّهم لأنّه يعلم حالهم فيعلم ضلال من ضلّ و اهتداء من اهتدى [بِالْحُسْنَى أي بالمثوبة الحسنى الّتي هي الجنّة أو بسبب أعمالهم فالحسنى للزيادة المطلقة و الباء لتعدية الجزاء أو المقابلة.

[الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ صفة للّذين أحسنوا أو بدل منه و كبائر الإثم ما يكبر عقابه من الذنوب و هو ما خصّ عليه الوعيد كالشرك و الزنا و قتل النفس و أمثالها [وَ الْفَواحِشَ جمع فاحشة و هي أقبح الذنوب و أفحشها و اختلف في عدد الكبائر قال ابن عبّاس: هي إلى السبعين أقرب، و قيل: إنّ الكبيرة ما أوعد اللّه عليها النار و الفاحشة كلّ ذنب فيه الحدّ.

[إِلَّا اللَّمَمَ و الاستثناء منقطع لأنّ معنى اللّمم التقارب و النزول بقربه و يعبّر به عن الصغيرة و الصغائر لا تدخل في الكبائر و يمكن أن يكون الاستثناء متّصلا لأنّ الصغيرة داخلة في أفراد الذنوب و ليس خارج عنه من حيث الذات بل متفاوتة بالصفة و حاصل المعنى إلّا ما قلّ و صغر فإنّه مغفور ممّن يجتنب الكبائر و إنّ الصلاة الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر قال سبحانه: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» (1).

قيل في النزول: إنّ نبهان التمّار أتته امرأة لتشتري التمر فقال لها: ادخلي الحانوت فعانقها و قبّلها فقالت المرأة: خنت أخاك و لم تصب حاجتك فندم و ذهب إلى رسول اللّه فنزلت الآية.

قال ابن عبّاس: المعنى إلّا أن يلمّ بالمعصية مرّة أو اتّفاقا ثمّ يتوب و لم يثبت عليها

ص: 276


1- النساء: 30.

و قال بعض المحقّقين: إنّ الذنوب كلّها كبائر على الحقيقة لأنّ الكلّ يتضمّن مخالفة أمر اللّه تعالى لكن بعضها أكبر من بعض عند الإضافة و لا كبيرة أعظم من الشرك و أمّا اللمم فهو من جملة الكبائر أيضا إلّا أنّ اللّه أراد باللمم الفاحشة الّتي يتوب عنها مرتكبها و هذا قول جماعة من علماء العامّة مثل مجاهد و الحسن.

[إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ] حيث يغفر الذنوب قال ابن عبّاس: لمن فعل ذلك و تاب و معناه أنّ رحمته تسع الذنوب مع التوبة و لا تضيق عنه.

ثمّ قال سبحانه: [هُوَ أَعْلَمُ منكم [بِكُمْ أي بأحوالكم قبل أن خلقكم [إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي أنشأ أباكم من أديم الأرض أو المراد جميع الخلق أي خلقكم من الأرض بسبب تناول الأغذية الّتي خلقها من الأرض فكأنّه أنشأهم منها [وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي علم سبحانه في وقت كونكم أجنّة في الأرحام ما أنتم صانعون و صائرون و إذا علم ذلك منكم قبل وجودكم فكيف لا يعلم ما حصل منكم؟

[فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ الفاء لترتيب النهي عن تزكية النفس أي لا تمدحوها بحسن الأعمال و لا تصفوها بالتطهير من الآثام لأنّ كلّ واحد من التخلية و التحلية إنّما يعتدّ به إذا كان خالصا للّه و إذا كان هو سبحانه أعلم بأحوالكم فلا حاجة إلى التزكية للناس فهي شرك خفيّ و معصية جليّة [هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى المعاصي و الشرك و أعلم بمن برّ و أطاع و أخلص العمل من نفس العامل و تحقيق أعلميّة اللّه من نفس العامل هو أنّ الإنسان علمه و لو بنفسه علم إجماليّ و مقيّد بقواه البشريّة و هو متناه بحسب تناهي قواه البشريّة و علمه تعالى به علم مطلق إذ علمه عين ذاته في مقام الأحديّة و العلم المطلق أجمع و أكمل من العلم المقيّد.

[أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى* وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى نزلت الآيات السبع «أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي الآيات» في عثمان بن عفّان كان يتصدّق و ينفق ماله فقال أخوه من الرضاعة، عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح: ما هذا الّذي تصنع؟ يوشك أن لا يبقى لك مال فقال عثمان:

إنّ لي ذنوبا و إنّي بما أصنع أطلب رضى اللّه فقال له عبد اللّه: أعطني ناقتك برحلها و أنا أ تحمّل عنك ذنوبك كلّها فأعطاه و أمسك بعد ذلك عن الصدقة فنزلت: «أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي

ص: 277

تَوَلَّى» أي يوم أحد حين ترك المركز «وَ أَعْطى قَلِيلًا» ثمّ قطع نفقته إلى قوله: «وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى .

قوله: «وَ أَكْدى من أكدى حافر البئر إذا بلغ الصلابة و لا يمكن الحفر أي قطع و أبخل بعطيّته و في تاج المصادر أي قطع القليل.

و قيل: نزلت الآية في الوليد بن المغيرة كان يتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و طمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في إسلامه فعيّره بعض المشركين و قال له: تركت دين الأشياخ و ضلّلتهم؟ فقال: أخشى عذاب اللّه فضمن أن يتحمّل العذاب عنه و كلّ شي ء يخافه في الآخرة إن أعطاه بعض ماله فارتدّ و تولّى عن استماع الكلام النبويّ و أعطاه بعض المشروط و بخل بالباقي. و الكلام لا يخلو عن التوبيخ و التهكّم، نعوذ باللّه من الحور بعد الكور (1) و من التنكير بعد التعريف.

[أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي أ عنده علم ما غاب عنه من أمر العذاب فهو يرى و يعلم أنّ صاحبه يتحمّل عنه عذابه.

[أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أي ألم يخبر و لم يحدّث بما في أسفار التوراة و بما في صحف إبراهيم الّذي أكمل و أتمّ عليه السّلام ما أمر به و ما أوجب اللّه عليه من كلّ ما امر.

ثمّ بيّن سبحانه ما في صحفهما و هو [أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي مكتوب في صحفهما أن لا تحمل نفس حمل اخرى و لا تؤخذ نفس بإثم غيرها و الصحيفة الّتي يكتب فيها و يجمع على صحائف و صحف و المصحف مثلّث الميم ما جمع فيه القرآن و الصحف.

و عن أبي ذرّ الغفاريّ قال: سألت رسول اللّه كم من كتاب أنزل اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله:

مائة كتاب و أربع كتب أنزل اللّه على آدم عشر صحائف و على شيث خمسين صحيفة و على إدريس ثلاثين صحيفة و على إبراهيم عشر صحائف و أنزل اللّه التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان.

قال أبو ذرّ: قلت يا رسول اللّه ما كانت في صحف إبراهيم عليه السّلام؟ قال: كانت مواعظ وة.

ص: 278


1- أي النقص بعد الزيادة.

أمثالا منها أيّها الملك المغرور المبتلى إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض و لكن بعثتك كيلا تردّ دعوة المظلوم فإنّي لا أردّها و إن كانت من كافر، و كان فيها أمثال منها: و على العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات ساعة يناجي ربّه فيها و يفكّر في صنع اللّه و ساعة يحاسب نفسه فيما قدّم و أخّر و ساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم و المشرب و غيرهما و على العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه و من علم أنّ كلامه من عقله قلّ كلامه إلّا فيما يفيده.

و إنّما قدّم سبحانه في الذكر صحف موسى على إبراهيم لأنّ التوراة عندهم أشهر و أكثر و إنّما وصف سبحانه إبراهيم بالتوفية لأنّه عليه السّلام بالغ في الوفاء و الابتلاء و احتمل أمورا عظيمة كالصبر على نار نمرود بيقين ثابت حتّى أتاه جبرئيل حين القي في النار فقال:

ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا، و على ذبح الولد و على الهجرة و على ترك أهله و ولده في واد غير ذي ذرع. روي أنّه عليه السّلام كان يمشي كلّ يوم يرتاد ضيفا فإن وجده أكرمه و إلّا نوى الصوم و قد بذل مهجته للنيران و قلبه للرحمن و ولده للقربان و ماله للإخوان.

و بالجملة [وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى عطف على قوله: «أَلَّا تَزِرُ» أي و هذا أيضا ما في صحف موسى و إبراهيم أي ليس له من الجزاء إلّا جزاء عمله و السعي المشي الذريع دون العدو و يستعمل للجدّ في الأمر و «أَنْ» مخفّفة أي إنّ الشأن ليس للإنسان في الآخرة إلّا سعيه في الدنيا من العمل و هو بيان أنّه لا يؤخذ بذنب الغير و لا يعطى ثواب عمل الغير له. قيل: كان ذلك لقوم إبراهيم و موسى و أمّا هذه الامّة فلهم ما سعوا و ما سعى لهم غيرهم و ينفع اللّه الآباء في الأبناء و الأبناء في الآباء و على ذلك قوله تعالى:

«آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» (1) و لما روي أنّ امرأة رفعت صبيّا لها من محفّه و قالت: يا رسول اللّه أ لهذا حجّ؟ قال: نعم و لك أجره و المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره.

و المراد من الآية أنّ أحدا لا يقدر أن يدفع و يتحمّل عن غيره العقاب و هذا الحكم عامّ في كلّ الأمم و الأقرب أن يكون قوله: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى خالصا في

ص: 279


1- النساء: 10.

السيّئة و أمّا في الحسنة فمن باب التفضّل من العشر إلى السبعمائة و أزيد بطوله و رحمته.

قيل: إنّ من اعتقد أنّ الإنسان لا ينتفع إلّا بعمله كاد أن يخرق الإجماع من الفريقين العامّة و الخاصّة و ذلك باطل من وجوه:

أحدها أنّ الإنسان ينتفع بدعاء غيره و هو انتفاع بعمل الغير.

و الثاني أنّ النبيّ يشفع لأهل الموقف في الحساب ثمّ لأهل الجنّة في دخولها و لأهل الكبائر في الإخراج من النار أو قبل الدخول و هذا الانتفاع بسعي الغير.

و الثالث أنّ كلّ نبيّ و صالح له شفاعة و ذلك انتفاع بعمل الغير.

و الرابع أنّ الملائكة يدعون و يستغفرون لمن في الأرض و ذلك منفعة بعمل الغير.

و الخامس أنّ اللّه تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قطّ بمحض رحمته و هذا انتفاع بغير عملهم.

و السادس أنّ أولاد المؤمنين يدخلون الجنّة بعمل آبائهم ذلك انتفاع بمحض عمل الغير و كذا الميّت بالصدقة عنه و أنّ الحجّ المفروض يسقط عن الميّت بحجّ وليّه عنه و لو بغير ماله و كذا تبرأ ذمّة الإنسان من ديون الخلق إذا قضاها قاض و ذلك انتفاع بعمل الغير و كذا من عليه تبعات و مظالم إذا حلّل منها سقطت عنه.

و الحاصل قال ابن عبّاس في رواية الوالبيّ: إنّ هذا منسوخ الحكم في شريعتنا لأنّه سبحانه يقول: «أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» (1) و رفع درجة الذرّيّة و إن لم يستحقّوها بأعمالهم و من قال: غير منسوخ الحكم قال: الآية تدلّ على منع النيابة في الطاعات إلّا ما قام عليه الدليل كالحجّ و هو أنّ امرأة قالت: يا رسول اللّه إنّ أبي لم يحجّ قال صلّى اللّه عليه و آله:

فحجّي عنه.

[وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي ما يفعله الإنسان و يسعى فيه لا بدّ أن يرى فيما بعد و يجازى عليه و بيّن ذلك بقوله: [ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى و الهاء في «يُجْزاهُ» عائد إلى السعي أي يرى العبد سعيه يوم القيامة ثمّ يجزى سعيه أوفى الجزاء.

قوله تعالى: [سورة النجم (53): الآيات 42 الى 62]

وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى (43) وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا (44) وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)

وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَ أَقْنى (48) وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى (51)

وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى (52) وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)

أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ (60) وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ (61)

فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا (62)

ص: 280


1- الطور: 21.

المنتهى مصدر أي انتهاء الخلق في رجوعهم إلى اللّه بعد الموت لا إلى غيره فيجازيهم على أعمالهم [وَ أَنَّهُ تعالى [هُوَ] خلق قوّتي الضحك و البكاء و فعل سبب السرور و الحزن و قيل: المراد أضحك أهل الجنّة في الجنّة و أبكى أهل النار في النار. و قيل: أضحك الأشجار بالأنوار (1) و أبكى السحاب بالأمطار أو أضحك المطيع بالرحمة و أبكى العاصي بالسخطة و الضحك انبساط الوجه من سرور النفس و عجب في القلب و البكاء جريان الدمع على الخدّ عن غمّ في القلب و ربّما كان عن فرح يمازجه تذكّر حزن.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل: مالي لم أر ميكائيل ضاحكا قطّ؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار و لقي يحيى عيسى عليه السّلام فتبسّم عيسى في وجه يحيى فقال يحيى: مالي أراك لاهيا كأنّك آمن؟ فقال عيسى: مالي أراك عابسا كأنّك آيس؟ فقالا: لا نبرح حتّى ينزل علينا الوحي فأوحى اللّه تعالى أحبّكما إليّ أحسنكما ظنّا بي و في رواية أحبّكما إليّ الطلق البسّام.

[وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا] لا يقدر على الإحياء و الإماتة غيره لا خلقا و لا كسبا فانّ أثر القاتل نقض البنية و تفريق الاتّصالات لكن يحصل الموت عنده بفعل اللّه على العادة فللقاتل نقض البنية كسبا دون الإماتة و تقديم الإماتة على الإحياء لعلّ لمراعاة الفواصل و لتقدّم العدم قبل الوجود.

[وَ أَنَّهُ سبحانه [خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ من كلّ الحيوان صنفين [الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ]ر.

ص: 281


1- جمع النور بالفتح منشأ الأثمار.

هي الماء القليل [إِذا تُمْنى و تدفّق و تصبّ في الرحم من أمنى يمنى إمناء أو من مادّة قدر إذا القي على قدر يتكوّن منه الولد بقدره المقدّرة بالحكمة البالغة و آدم و عيسى و حوّاء مستثنون من هذا الأمر.

[وَ أَنَّ عَلَيْهِ أي على اللّه [النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي الخلقة الاخرى و هو الإحياء بعد الإماتة وفاء بوعده و فيه تصريح بأنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت النشأة الثانية للجزاء و و إيصال المؤمنين إلى كمالهم اللائق بهم و لو أراد تعجيل أجورهم في الدنيا لضاقت ثواب واحد منهم و أقلّ المؤمنين منزلة في الجنّة من له فيها مثل الدنيا عشر مرّات فما ظنّكم بالباقي.

[وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى أعطى الغنى و أغنى بعض الناس بالأموال [وَ أَقْنى و أعطى بعض الناس القنية و اصول المال و ما يدّخرون و يخزنون زيادة عن الكفاية. و قيل: أغنى بالقناعة و أقنى بالرضا و الاقتناء حفظ المال النفيس، يقال: ليس من لمس درهما صيرفيّا و لا من اقتنى درّا جوهريّا و قيل: المعنى أغنى من شاء و أقنى أي حرم من شاء. و قيل: أغنى بالذهب و الفضّة و الثياب و أقنى بالإبل و البقر و الغنم و الحشم، و إفراد القنية بالذكر بعد قوله:

«أَغْنى لأنّها أشرف الأموال و الأوفق من المعاني المذكورة في الإقناء الفقر مراعاة لصنعة الطباق و يكون الهمزة في باب الإفعال للسلب و الإزالة أي أزال المال.

[وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى كانت خزاعة تعبدها و أوّل من عبدها أبو كبشة من أقوام أجداد النبيّ من قبل امّهاته و كان المشركون يسمّون النبيّ ابن أبي كبشة لمخالفته صلّى اللّه عليه و آله إيّاهم في الدين كما خالف أبو كبشة غيره في عبادة الشعرى و الشعرى كوكب معروف نيّر خلف الجوزاء يقال له العبور و هي أشدّ بياضا من الغميصاء و إنّ الشعرى شعريان إحداهما اليمانيّة و هي المسمّاة بالعبور و ثانيتها الشاميّة و هي المسمّاة بالغميصاء فصّلت المجرّة بينهما، تزعم العرب أنّ الشعرويّين أختا سهيل و أنّ الثلاثة كانت مجتمعة فانحدر السهيل نحو اليمن و تبعته العبور فعبرت المجرّة و لقيت سهيل و أقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل فغمضت عينها فكانت أقلّ نورا من العبور فقال أبو كبشة و هو رجل من أشراف خزاعة: إنّ النجوم تقطع السماء عرضا و هذه تقطع طولا فليس نجم مثلها فاتّخذوها

ص: 282

معبودا فقال سبحانه: إنّه خالق الشعرى و هو مربوب و لا يصلح للإلهيّة و كلّ من كان من أهل البدع من الزنادقة و الضلالة يقال له: أبو كبشة.

[وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى هي قوم هود اهلكوا بريح صرصر و عاد الاخرى إرم و وصفهم بالأولى لتقدّم هلاكهم بعد قوم نوح بحسب الزمان على هلاك سائر الأمم و عاد الأخيرة هي الّتي قاتلها موسى بأريحاء كانوا تناسلوا من الهزيلة بنت معاوية و هي الّتي نجت من قوم عاد مع بنيها الأربعة عمر و عمرو و عامر و العتيد و كانت الهزيلة من العماليق فالعاد الأخيرة أيضا من عاد الاولى [وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى أي و أهلك ثمود قوم صالح فما أبقى أحدا منهم.

[وَ قَوْمَ نُوحٍ عطف عليه أي أهلك قوم نوح [مِنْ قَبْلُ إهلاك قوم عاد و ثمود [إِنَّهُمْ أي قوم نوح [كانُوا هُمْ أَظْلَمَ لنبيّهم [وَ أَطْغى من الفريقين لأنّهم كانوا يضربون نوحا حتّى لا يكون به حراك و ما أثّرت فيهم دعوته قريبا من ألف سنة و ما آمن معه إلّا قليل.

[وَ الْمُؤْتَفِكَةَ] هي قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها و انقلبت أي أهلك المؤتفكة و أهلها [أَهْوى أي أسقطها إلى الأرض مقلوبة و الأهواء بمعنى الإلقاء و ألقاها في الهاوية [فَغَشَّاها ما غَشَّى من فنون العذاب أي أستر تلك المدائن و ألبس اللّه المؤتفكة ما ألبسها من الحجارة المنضودة المسوّمة مثل قوله تعالى (1): «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ».

قوله: [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى الآلاء النعم واحدها آلى و التماري المجادلة و المحاجّة و الخطاب من باب التعريض بالغير مثل قوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» و جعل الأمور المعدودة نعما مع أنّ بعضها نقم لما أنّها أيضا نعم من حيث إنّها نصرة للأنبياء و المؤمنين و فيها عظات و عبر للمعتبرين و هلاك أعداء اللّه من أعظم آلائه الواصلة إلى المؤمنين. و حاصل المعنى بأيّ هذه النعم يشكّون و يتردّدون و يتخاصمون و الخطاب لأفراد الامّة و لذا أفرد لاشتمال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على امّته و فيه إشارة إلى أنّه كما نصرت إخوانك من الأنبياء الماضين و أهلكت أعداءهم فكذلك أفعل بك فلا تك قلبك في حرج من عنادهم.

ص: 283


1- طه: 78.

[هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى إشارة إلى القرآن أي هذا القرآن إنذار كائن من قبيل الإنذارات المتقدّمة أو إشارة إلى الرسول فحينئذ النذير بمعنى المنذر لا بمعنى المصدر الّذي هو نذير أي هذا الرسول نذير من جنس المنذرين المتقدّمين و كلّ منذر متأخّر فهو من قبيل النذير المتقدّم لاتّحاد كلمتهم و دعوتهم إلى اللّه على بصيرة فطوبى لمن تابع و ويل لمن خاف.

[أَزِفَتِ الْآزِفَةُ] في إيراده عقيب المذكورات إشعار بأنّ تعذيبهم مؤخّر إلى يوم القيامة تعظيما للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأزف ضيق الوقت و إشارة قرب الساعة و دنوّها و كلّ ما هو آت قريب [لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ] إذا غشيت الخلق شدائدها و أهوالها لم يكشف عنهم أحد و لم يردّها أي لا يكون نفس كاشفة أو جماعة كاشفة و يجوز أن يكون مصدرا كالعافية و العافية و الواقية المعنى ليس من دون اللّه كشف و لا يكشف عنها غيره كقوله: «لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» (1) أي ليس لها أنفس قادرة على إزالتها و كشفها عند وقوعها في وقتها إلّا اللّه و يجوز أن يكون التاء للمبالغة كتاء علامة و قيامة، العارفين باللّه المخصوصين بالولاية الكلّيّة مشهودة عنهم و لا يتوقّف شهودهم على وقوع القيامة الظاهرة كما قال سيّد الأولياء أمير المؤمنين: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا فطوبى لمن وصل إلى حقّ اليقين.

[أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ استفهام إنكاريّ و العجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشي ء قال بعض الحكماء: العجب ما لا يعرف سببه أي أمن هذا الأخبار المتقدّمة ذكرها تعجبون قال الصادق عليه السّلام: هذا المعنى أو أ فمن هذا القرآن و نزوله من عند اللّه تعجبون أيّها المشركون و هذا دليل على حدوث القرآن.

[وَ تَضْحَكُونَ استهزاء و لا تبكون انزجارا و تنبيها من الوعيد [وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ و لاهون في الغفلة، و قيل: معرضون. و قيل: المراد الغناء بلغة الحمير لأنّ المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ليشغلوا الناس عن استماعه روى أنّه صلّى اللّه عليه و آله ما رئي ضاحكا بعد نزول هذه الآية.

ص: 284


1- الأعراف: 186.

و عن أبي هريرة: لمّا نزلت هذه الآية بكى أهل الصفّة حتّى جرت دموعهم على خدودهم فلمّا سمع رسول اللّه حنينهم بكى معهم فبكينا لبكائه فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا يلج النار من بكى من خشية اللّه و لا يدخل الجنّة مصرّ على معصية اللّه و لو لم تذنبوا لجاء اللّه بقوم يذنبون ثمّ يغفر لهم. و في تفسير روح البيان: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نزل عليه جبرئيل و عنده رجل يبكي فقال جبرئيل: من هذا؟ فقال: فلان فقال جبرئيل: إنّا نزن أعمال بني آدم كلّها إلّا البكاء فإنّ اللّه ليطفى ء بالدمعة بحورا من نيران جهنّم.

[فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا] الفاء لترتيب موجب الأمر على ما تقرّر من بطلان مقابلة القرآن بالإنكار و الاستهزاء و وجوب تلقّيه بالإيمان و كمال الخضوع أي و إذا كان الأمر كذلك و حال الكفّار ما بيّنّاه «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ» الّذي فعل هذه الأمور و أنزل هذا الحديث و القرآن، و اعبدوه و لا تعبدوا غيره من ملك أو بشر فضلا عن جماد كالأصنام و الكواكب. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 285

سورة القمر

اشارة

* (مكية)* عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من قرأ سورة اقتربت في كلّ غبّ بعث يوم القيامة و وجهه على صورة القمر ليلة البدر و من قرأها كلّ ليلة كان أفضل و جاء يوم القيامة و وجهه مسفرّ على وجوه الخلائق.

و روى بريد بن خليفة عن الصادق عليه السّلام: من قرأ سورة اقتربت أخرجه اللّه من قبره على ناقة من نوق الجنّة ختم اللّه تلك السورة بذكر أزفت الآزفة و افتتح هذه السورة بمثله فقال:

ص: 286

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة القمر (54): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)

حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9)

فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)

الاقتراب لزيادة مبالغة في القرب كما في اقتدر مبالغة على قدر أي قربت الساعة الّتي تموت فيها الخلائق و تكون القيامة و الساعة جزءا من أجزاء الزمان عبّر بها عن القيامة تشبيها لها بذلك لسرعة حسابها أو لأنّها يقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنّها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم.

قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه جعل الدنيا كلّها قليلا فما بقي منها قليل من قليل و مثل ما بقي منها مثل الغدير شرب صفوه و بقي كدره فالاقتراب في الآية يدلّ على مضيّ الأكثر و يمضي الأقلّ عن قريب كما مضى الأكثر.

قال صاحب تفسير روح البيان: و قد قيل: إنّ مدّة هذه الأمد تزيد على ألف بنحو خمسمائة سنة و لا يكون الزيادة إلى خمسمائة سنة بعد الألف من الهجرة لعدم ورود الأخبار في ذلك؛ و قد قال صلّى اللّه عليه و آله: مثلي و مثل الساعة كفرس رهان فإذا وجوده صلّى اللّه عليه و آله من أشراط الساعة فمعجزاته من انشقاق القمر تكون كذلك. قيل: إنّ آدم خاطبته الدنيا و قالت:

يا آدم جئت و قد انقضى شبابي. فآدم على هذا التقدير جاء إلى الدنيا و قد انقضى عمرها و بقي شي ء قليل منها و على هذا يحمل قول من قال: إنّ عمر الدنيا سبعون ألف سنة.

ص: 287

و أمّا تعيين وقت الساعة فقد انفرد اللّه بعلمه و أخفاه عن عباده و في الحديث: إنّ بين يدي الساعة كذّابين فاحذروهم و المراد بالكذّابين الدجاجلة و هم الأئمّة المضلّون فكلّ كذّاب مبتدع فهو من مقدّمات الدجّال و أصحابه كما أنّ كلّ أهل صدق و حقّ من مقدّمات المهديّ انتهى كلام صاحب روح البيان.

قوله: [وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ] قال ابن عبّاس: اجتمع المشركون إلى رسول اللّه فقالوا:

إن كنت صادقا فانشقّ القمر فرقتين فقال لهم صلّى اللّه عليه و آله: إن فعلت تؤمنون؟ قالوا: نعم، و كانت ليلة بدر فسأل رسول اللّه ربّه أن يعطيه ما قالوا فانشقّ القمر فرقتين و رسول اللّه ينادي يا فلان يا فلان اشهدوا قال عبد اللّه بن مسعود: انشقّ القمر على عهد رسول اللّه شقّتين فقال لنا رسول اللّه: اشهدوا اشهدوا. و روي أيضا عن ابن مسعود أنّه قال: و الّذي نفسي بيده لقد رأيت الحراء بين فلقي القمر. و عن جبير بن مطعم قال: انشقّ القمر على عهد رسول اللّه فرقتين على هذا الجبل و هذا الجبل فقال ناس: سحرنا محمّد.

و قد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة منهم عبد اللّه بن مسعود و أنس بن ملك و حذيفة بن يمان و ابن عمر و ابن عبّاس و جبير بن مطعم و عبد اللّه عمر و عليه جماعة من المفسّرين إلّا ما روي عن عثمان بن عطا عن أبيه أنّه قال: سينشقّ القمر و أنكره الباقون.

قال البلخيّ: هذا لا يصحّ لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك فلا يعتدّ بخلاف من خالف فيه لأنّ اشتهاره بين الصحابة يمنع من القول بخلافه.

و من طعن في ذلك بأنّه لو وقع انشقاق القمر لما كان يخفى على أحد من أهل الأقطار فقول باطل لأنّه يجوز أن يكون اللّه قد حجبه عن أكثرهم لمصلحة لا نعرفها و قد رآه المقترحون. و في كتاب فتح الباري لابن حجر: إنّ الجذع و انشقاق القمر نقل مستفيضا يفيد القطع عند من يطّلع على طرق الحديث و أسند أبو إسحاق الزجّاج عشرين حديثا إلّا واحدا في تفسيره في انشقاق القمر، قال سعدي المفتي: و قد رواه ستّون أو أكثر من الصحابة.

[وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا] إخبار عن حال كفّار قريش إن يروا آية من آيات اللّه

ص: 288

و هي معجزة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و دليل على صدق نبوّته يعرضوا عن التأمّل فيها ليقفوا على حقيقتها فيؤمنوا [وَ يَقُولُوا] هذا [سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ] مطّرد دائم يأتي به محمّد صلّى اللّه عليه و آله كسائر أنواع السحر. و الاستمرار بمعنى الاطّراد أي تبع بعضه بعضا و هو يدلّ على أنّهم رأوا قبل انشقاق القمر آيات اخرى مترادفة حتّى يقولوا ذلك و فيه تأييد وقوع الانشقاق لا أنّه سينشقّ يوم القيامة كما قاله بعض. و يجوز مستمرّ بالكسر من المرّة و القوّة أي سحر ذو قوّة شديدة يعلو كلّ سحر و قيل: معناه مستمرّ أي ذاهب يزول و لا يبقى من المرور.

[وَ كَذَّبُوا] بالنبيّ [وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الّتي زيّنها الشيطان لهم من ردّ الحقّ بعد ظهوره أو كذّبوا الآية الّتي هي الانشقاق و قالوا: سحر أعيننا و القمر بحاله و لم يصبه شي ء.

[وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ] أي و كلّ ما وعد اللّه به كائن في وقته و حاصل لا محالة فالخير يستقرّ بأهله و الشرّ بأهله أو أنّ المعنى كلّ أمر من خير و شرّ مستقرّ ثابت حتّى يجازي به صاحبه إمّا في الجنّة أو في النار.

[وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ] أي و باللّه لقد جاءهم يعني أهل مكّة في القرآن من الأخبار النافعة و لا يقال لخبر في الأصل: نبأ حتّى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنّ أي أتاهم في القرآن أنباء القرون الخالية و أحوال الآخرة و ما وصف من عذاب الكفّار [ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ] أي ازدجار أو موضع ازدجار و تاء الافتعال يقلب دالا للتناسب في المخرج يقال: زجره أي نهاه عن السوء و وعظه غير أنّ افتعل أبلغ في المعنى من فعل و أيضا الزجر طرد بصوت ثمّ استعمل في الطرد تارة و في الصوت تارة فحينئذ قوله: «مُزْدَجَرٌ» أي فيه طرد و منع عن ارتكاب المآثم.

[حِكْمَةٌ بالِغَةٌ] لا خلل فيها و قد بلغت الغاية في الإنذار و الموعظة و هو بدل من ما أو خبر لمحذوف و الحكمة بالكسر العدل و العلم و الحكم و النبوّة و القرآن و إصابة الحقّ بالعلم و إذا وصف القرآن بالحكيم فلتضمّنه الحكمة و هي علميّة و عمليّة و القرآن حاولهما [فَما تُغْنِ النُّذُرُ] و مفعول تغني محذوف أي لم تغن النذر شيئا إذا كذّبوا و ما تنفعهم لتكذيبهم و فيه إشارة إلى عدم انتفاع النفوس المتمرّدة بإنذار منذر الروح [فَتَوَلَّ عَنْهُمْ و الفاء للسببيّة أي بسبب أنّ الإنذار لا يؤثّر فيهم أعرض عنهم إلى أن تؤمر بقتالهم و انتظر

ص: 289

عقوبتهم [يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ أصله يدعو الداعي لمّا حذف الواو يدعو من التلفّظ لاجتماع الساكنين حذفت في الخطّ أيضا اتّباعا للّفظ و أسقطت الياء من الداعي للاكتفاء بالكسرة تخفيفا و يوم منصوب بيخرجون و الداعي إسرافيل ينفخ في الصور قائما على صخرة بيت المقدس و يدعو الأموات و ينادي: أيّتها العظام البالية و اللحوم المتمزّقة و الشعور المتفرّقة إنّ اللّه يأمر كنّ تجتمعن لفصل القضاء. و قيل: إنّ إسرافيل ينفخ و جبرئيل يدعو و ينادي بذلك و قال بعضهم: هو مجاز كالأمر في قوله: «كُنْ فَيَكُونُ»* فحينئذ الدعاء في البعث مثل كن في التكوين و يكون الدعاء عبارة عن مشيّة و الأصحّ بقاؤه على حقيقته.

[إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ] أي منكر غير معتاد بل أمر فظيع لم يروا مثله، قرئ بضمّتين و قرئ بسكون الكاف و كلاهما بمعنى المنكر ينكره النفوس و هو هول يوم القيامة و منه منكر و نكير لأنّه لم يعهد عند الميّت مثلها.

[خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ حال من فاعل «يَخْرُجُونَ» أي خاشعة أبصارهم و ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب و إنّما وصف الأبصار بالخشوع لأنّ ذلّة الذليل و عزّة العزيز تتبيّن و تظهر في العين [يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور حالكونهم ذليلين [كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ] في الكثرة و التموّج و التفرّق في الأقطار.

[مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أي مسرعين إلى جهة الداعي مادّين أعناقهم إليه ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم يقال: هطع الرجل إذا أقبل ببصره على الشي ء لا يقلع عنه و أهطع إذا مدّ عنقه و أهطع في عدوه إذا أسرع.

[يَقُولُ الْكافِرُونَ استيناف وقع جوابا عمّا نشأ من وصف اليوم بالأهوال كأنّه قيل: فماذا يكون حينئذ فقيل في الجواب: يقول الكافرون [هذا يَوْمٌ عَسِرٌ] أي صعب شديد علينا فيمكثون بعد الخروج من القبور واقفين أربعين سنة يقولون: أرحنا من هذا أو إلى النار ثمّ يؤمرون بالحساب و في إسناد القول المذكور إلى الكفّار تلويح بأنّ المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة من الشدّة بل ذلك اليوم يسير لهم ببركة إيمانهم و أعمالهم بل المطهّرون الّذين ما تدنّست بواطنهم بالشبهة المضلّة و لا ظواهرهم أيضا بالمخالفات الشرعيّة آمنون.

ص: 290

[كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أي فعل التكذيب قبل قومك قوم نوح تسلية للرسول [فَكَذَّبُوا عَبْدَنا] نوحا تفسير لذلك التكذيب المبهم مثل قوله (1): «وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ» فالمكذّب و المقامان واحد و الفاء تفصيليّة تفسيريّة تعقيبيّة في الذكر فإنّ التفصيل يعقّب الإجمال و في ذكره بعنوان العبوديّة مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم لنوح عليه السّلام و رفع لحاله و زيادة تشنيع لمكذّبيه و إشارة إلى أنّه لا شي ء أشرف من العبوديّة.

[وَ قالُوا] في حقّه [مَجْنُونٌ قد غطي على عقله [وَ ازْدُجِرَ] أي و زجر بالشتم و الرمي بالقبيح و توعّد بالقتل و منع عن التبليغ بأنواع الأذيّة و قيل: المعنى أنّ و ازدجر من جملة ما قالوه أي هو مجنون و قد ازدجرته الجنّ و تخبّطته و أفسدته و ذهبت بلبّه.

[فَدَعا رَبَّهُ أي لمّا زجروا نوحا عن الدعوة و منعوه أشدّ المنع و بلّغ مدّة التبليغ و كمل إلى تسعمائة و خمسين سنة دعا ربّه [أَنِّي مَغْلُوبٌ أي بأنّي مغلوب من جهة قومي و مالي قدرة على الانتقام منهم [فَانْتَصِرْ] فانتقم لي منهم و ذلك بعد تقرّر يأسه منهم فقد روي أنّ الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتّى يخرّ مغشيّا فيفيق و يقول: اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون فلمّا أذن اللّه له في الدعاء للإهلاك دعا فأجيب كما قال في الصافّات:

«وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ» (2).

[سورة القمر (54): الآيات 11 الى 22]

فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (21) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

ثمّ بيّن سبحانه إجابته لدعاء نوح فقال:

[فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ] هاهنا حذف تقديره فاستجبنا لنوح دعاءه فأجرينا الماء من السماء كجريانه إذا فتح عنه باب كان مانعا له و ذلك من صنع اللّه الّذي لا يقدر عليه

ص: 291


1- هود: 45.
2- الصافات: 75.

سواه [بِماءٍ مُنْهَمِرٍ] الهمر صبّ الدمع و الماء؛ همره يهمره صبّه و انهمر انسكب و سال و المعنى بماء كثير منصبّ لم ينقطع أربعين يوما و كان مثل الثلج بياضا و بردا و الباء للملابسة.

[وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً] أي شققنا الأرض بالماء عيونا حتّى جرى الماء على وجه الأرض قيل: و كان ماء الأرض مثل الحميم حرارة و أصله: و فجّرنا عيون الأرض، فعبّر عن المفعوليّة إلى التمييز قضاء لحقّ المقام من المبالغة.

[فَالْتَقَى الْماءُ] أي ماء السماء و ماء الأرض و ارتفع على أعلى جبل في الأرض مائتين ذراعا [عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ] على حال قد قدّره اللّه أو على حالة قدّرت و هو أنّ قدر ما أنزل اللّه من السماء على قدر ما اخرج من الأرض أو المعنى على أمر قدّره اللّه في اللوح المحفوظ و هو هلاك قوم نوح و إنّما لم يثنّ و لم يقل: فالتقى الماء ان لأنّه اسم الجنس يقع على القليل و الكثير.

[وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أي حملنا نوحا على سفينة ذات ألواح مركّبة جمع بعضها إلى بعض و ألواحها خشباتها الّتي صنعت منها و اللوح كلّ صحيفة عريضة [وَ دُسُرٍ] جمع دسار و هو الدفع الشديد بقهر سمّي به المسمار لأنّه يدسر به منفذه و يدفع بالدقّ.

[تَجْرِي بِأَعْيُنِنا] أي تجري السفينة و تسير بمرأى منّا و محفوظة بحفظنا و منه قولهم للمودّع: عين اللّه عليك [جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ] أي فعلنا بهم ما فعلنا من إغراقهم جزاء لمن جحد نبوّته و كفر باللّه.

[وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] قيل: الضمير راجع إلى الفعلة و هي الغرق و قيل: راجع إلى السفينة أبقاها اللّه دهرا طويلا بياقردى من بلاد الجزيرة و في تفسير أبي الليث إنّ تلك السفينة كانت باقية على الجبل الجوديّ قريبا من خروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ اضمحلّت أ لا ترى أنّ مقام إبراهيم مع كونه حجرا صلدا لم يبق أثره بكثرة مسح الأيدي ثمّ لم يبق نفسه على ما هو الأصحّ و المعروف بالمقام الآن هو مقام ذلك المقام و قيل: المراد من قوله: «تَرَكْناها» أي جنس السفينة صارت عبرة و أنّ الناس لم يعرفوا قبل ذلك سفينة و اتّخذوا السفن بعد ذلك في البحر فكذلك كانت آية للناس.

ص: 292

قال بعضهم: لم يكن في الدنيا قبل الطوفان إلّا البحر المحيط و ذلك أنّ اللّه أمر الأرض بعد الطوفان فابتلعت ماءها و بقي ماء السماء لم تبلعه الأرض فهذه البحور على وجه الأرض منها و أمّا البحر المحيط فغير ذلك بل هو جزر عن الأرض حين خلق اللّه الأرض من زبده و إليه الإشارة بقوله: «وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» و بالجملة و كان نوح نجّارا فجاء جبرئيل و علّمه صنعة السفينة «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» أصله مدتكر أدغمت الدال في التاء ثمّ قلبت دالا مشدّدة.

[فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ] استفهام تعجيب و تعظيم على كيفيّة هائلة لا يحيط بها الوصف و النذر جمع نذير أصله نذيري حذفت الياء و اكتفي بالكسرة.

[وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ أي و باللّه لقد سهّلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم كما قال: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ»* [لِلذِّكْرِ] بأن وشّحناه بأنواع العبر و المواعظ و عن الحسن عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لو لا قول اللّه: «وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ» لما أطاقت الإنس أن يتكلّم به [فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] إنكار و نفي للمتّعظ.

[كَذَّبَتْ عادٌ] بالرسول الّذي بعثه اللّه إليهم و هو هود فاستحقّوا الهلاك فأهلكهم.

[فَكَيْفَ كانَ عَذابِي لهم [وَ نُذُرِ] أي و إنذاري.

ثمّ بيّن كيفيّة إهلاكهم فقال: [إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً] أي شديدة الهبوب و قيل: المراد من الصرّ و هو البرد أو من صرّ الباب و القلم أي شديدة الصوت و هي ريح الدبور و تقدّم تفصيله [فِي يَوْمِ نَحْسٍ النحس ضدّ السعد أي شؤوم [مُسْتَمِرٍّ] صفة ليوم أو نحس أي استمرّ شؤمه عليهم و اتّصل عذابهم في الدنيا حتّى اتّصل بالعقبى و روى العيّاشيّ عن أبي جعفر أنّه كان في يوم الأربعاء آخر الشهر لا تدور و يمكن أن يكون المراد من اليوم الحين و ابتداء ذاك يوم الأربعاء.

[تَنْزِعُ النَّاسَ أي ريحا تقلع الناس روي أنّهم دخلوا الشعاب و الحفر و تمسّك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح و صرعتهم موتى أو ينزع أرواحهم من أجسادهم دامت عليهم سبع ليالي و ثمانية أيّام كيلا ينجو منهم أحد ممّن في كهف أو سرب فأهلكت من كان ظاهرا و مستترا بالاقتلاع و الهدم أو الجوع و العطش [كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ] عجز الإنسان

ص: 293

مؤخّره و النخل اسم جنس يفرق بين جمعه و واحده بالتاء، و المنعقر المنقلع عن أصله قيل:

شبّهوا بأعجاز النخل و هي أصولها بلا فروع لأنّ الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجسادا و جثثنا بلا رؤوس.

قال أبو الليث: صرعتهم و كبّتهم على وجوههم كأنّهم اصول نخل منقلعة من الأرض فشبّههم لطولهم بالنخل الساقط قال مقاتل: كان طول كلّ واحد منهم اثني عشر ذراعا و قال الكلبيّ: كان طول كلّ واحد منهم سبعين ذراعا فاستهزءوا حين ذكر لهم الريح فخرجوا إلى الفضاء و ضربوا بأرجلهم و غيّبوا في الأرض إلى قريب من الركبة فقالوا:

قل للريح حتّى ترفعنا فجاءت الريح و جعلت ترفع كلّ اثنين و تضرب أحدهما بالآخر بعد ما ترفعهما في الهواء ثمّ تلقيهما في الأرض ثمّ رمت بالرمل و التراب عليهم.

[فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] مرّ تفسيرها.

[سورة القمر (54): الآيات 23 الى 24]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (24)

[كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ] أي الإنذار الّتي سمعوها من صالح أو بالرسل فإنّ تكذيب أحدهم تكذيب للكلّ للاتّفاق على الأصول [فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا] أي من جنسنا و انتصاب بشر بفعل يفسّره ما بعده [واحِداً] أي منفردا لا تبع له أو واحدا من آحادهم لا من أشرافهم [نَتَّبِعُهُ في أمره [إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ] أي تقدير اتّباعنا له و هو منفرد و نحن امّة، في الغواية عن الحقّ و الصواب و جنون، يقال: ناقة مسعورة إذا كان بها جنون و أصله التهاب الشي ء.

[سورة القمر (54): الآيات 25 الى 32]

أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ (27) وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29)

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

[أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ] بقيّة من كلام القوم أي أ ألقي الكتاب و الوحي [عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا] و

ص: 294

فينا من هو احقّ بذلك و الاستفهام للإنكار [بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ] شديد الكذب فيما يقوله بطر متكبّر يريد أن يتعظّم علينا بالنبوّة [سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ] و هذا وعيد لهم سيعلمون يوم القيامة إذا نزل بهم العذاب أهو الكذّاب أم هم في تكذيبه فذكر مثل لفظهم مبالغة في توبيخهم و إنّما قال: «غَداً» على وجه التقرّب على عادة الناس كما يقال: إنّ مع اليوم غدا.

[إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ باعثو الناقة بإنشائها على ما طلبوها معجزة لصالح و اختبارا لهم إذ بها يتميّز المثاب من المعاقب [فَارْتَقِبْهُمْ أي انتظر يا صالح فيهم أمر اللّه [وَ اصْطَبِرْ] على ما يصيبك من الأذى حتّى يأتي أمر اللّه.

[وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ يوم للناقة و يوم لهم [كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ] أي كلّ نصيب من الماء يحضره أهله لا يحضر آخر معه ففي يوم الناقة يحضر الناقة و في يومهم يحضرونه و حضر و احتضر بمعنى واحد و إنّما قال: «قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ» تغليبا لمن يعقل.

[فَنادَوْا صاحِبَهُمْ و هو قدار بن سالف بضمّ القاف و كان قصيرا شريرا أزرق أشقر أحمر يلقّب باحيمر ثمود [فَتَعاطى فَعَقَرَ] مجاز عن الاجتراء و التعاطي تناول الشي ء بتكلّف و العقر ضرب القوائم أي فاجترأ صاحبهم قدار على تعاطي الأمر العظيم فأحدث العقر بالناقة و معنى «فَنادَوْا صاحِبَهُمْ» أي نبّهوا قدار على مجي ء الناقة و قربها من مكمنه.

[فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ] مرّ تفسيره [إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً] هي صيحة جبرئيل جزاء الوفاق لفعلهم فإنّهم صاروا سببا لصيحة الولد بقتل امّه [فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ] أي فصاروا لأجل تلك الصيحة بعد أن كانوا في نضارة عيش و دعة كاليابس المكسّر من الشجر و غيره و أصله جمع الشي ء في حظيرة و المحتظر بكسر الظاء الّذي يجمع و يعمل الحظيرة قال الجوهريّ: الحظيرة الّتي تعمل للإبل من الشجر لتقيها البرد و الريح.

[وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] مرّ تفسيره و نعم المذكّر القرآن لكن لصالح النفس لا لثمود النفس:

و ما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة

ص: 295

و هي قبيلة تعرف بالدناءة و حقيقة النفس واحدة غير متعدّدة لكن بحسب توارد الصفات المختلفة عليها تسمّى بالأسماء المختلفة فإذا توجّهت إلى الحقّ توجّها تسمّى بالمطمئنّة و إذا توجّهت إلى الطبيعة البشريّة توجّها كلّيّا تسمّى بالأمّارة و إذا توجّهت إلى الحقّ تارة و إلى الطبيعة اخرى تسمّى اللوّامة.

[سورة القمر (54): الآيات 33 الى 42]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (37)

وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (39) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)

[كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ] بالإنذار أو بالمنذرين و هم الرسل و من كذّب نبيّا فقد كذّب بالأنبياء [إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً] ريحا حصبتهم و رمتهم بالحجارة و الحصباء، يريد ما حصبوا من الحجارة في الريح قال الفرزدق:

مستقبلين شمال الشام تضربنابحاصب كنديف القطن منشورا

ثمّ استثنى آل لوط، خلصناهم بسحر من ذلك العذاب من الأسحار و هو السدس الأخير من الليل أو السحر وقت اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار و الاستثناء منقطع لأنّه مستثنى من الضمير في عليهم و لا يدخل فيهم آل لوط [نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا] أنعمنا إنعاما منّا [كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء [نَجْزِي مَنْ شَكَرَ] نعمتنا بالإيمان و الطاعة من المؤمنين.

[وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا] أنذر لوط عليه السّلام أخذتنا الشديدة بالعذاب [فَتَمارَوْا] فكذّبوا [بِالنُّذُرِ] متشاكّين و أصله تماريوا على وزن تفاعلوا.

[وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ و المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فترود غير ما يروده لأنّهم أرادوا من لوط تمكينهم من أضيافه و هم الملائكة في صورة الشبّان و معهم جبرئيل و قصدوا الفجور بهم ظنّا منهم أنّهم بشر.

ص: 296

[فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ و الطمس المحو و استيصال أثر الشي ء أي مسحناها و سوّيناها كسائر الوجه بحيث لم بر لها شقّ روي أنّهم لمّا دخلوا دار لوط عنوة صفقهم جبرئيل بجناحه فتركتهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب حتّى أخرجهم لوط و الصفق الضرب الّذي ليس له صوت.

[فَذُوقُوا] قلنا لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا [عَذابِي وَ نُذُرِ] و الطمس من جملة ما أنذروه [وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً] أي جاءهم وقت الصبح [عَذابٌ الخسف و الحجارة [مُسْتَقِرٌّ] يستقرّ بهم و يثبت لا يغارقهم حتّى يفضي بهم إلى النار عذاب دائم متّصل بعذاب القيامة لأنّهم ينتقلون إلى البرزخ الموصول بالقيامة كما أشار إلى هذا المعنى قوله صلّى اللّه عليه و آله: من مات قامت قيامته.

[وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] مرّ ما فيه من التفسير.

[وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ] أي و باللّه لقد جاءهم الإنذارات من جهة موسى و هارون [كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها] يعني الآيات التسع و هي اليد و العصا و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم و حلّ عقدة من لسانه و انفلاق البحر.

[فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب عند التكذيب [أَخْذَ عَزِيزٍ] لا يغالب [مُقْتَدِرٍ] و لا يعجزه شي ء و العذاب هو الإغراق في بحر القلزم أو النيل و لعلّ سرّ العذاب بالغرق أنّ فرعون كفر نعمة وجود موسى حيث وصل فرعون إلى تلك النعمة بسبب الماء الّذي ساقه إليه في تابوته فلم يشكر لا نعمة الماء و لا نعمة موسى فانقلب النعمة نقمة فأهلكه بالماء.

قوله: [سورة القمر (54): الآيات 43 الى 55]

أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (47)

يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَ ما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)

وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

ص: 297

[أَ كُفَّارُكُمْ يا معشر العرب [خَيْرٌ] عند اللّه قوّة و شدّة [مِنْ أُولئِكُمْ المعدودين من قوم نوح و هود و صالح و لوط و آل فرعون و أصابهم ما أصابهم مع كونهم أقوى منكم عدّة و عددا فهل تطمعون أن لا يصيبكم مثل ذلك [أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ] إضراب أي بل أ لكم براءة و أمن من عذاب اللّه بمقابلة كفركم نازلة لكم في الكتب السماويّة فلذلك تصرّون على كفركم و تأمنون بتلك البراءة.

[أَمْ يَقُولُونَ جهلا منهم: [نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ] و الالتفات للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم و إسقاطهم عن رتبة الخطاب أي بل أ يقولون واثقين بشوكتهم نحن أولو حزم و أمرنا مجتمع لا نرام و لانضام و متناصرين ينصر بعضنا بعضا على أن يكون افتعل بمعنى تفعّل مثل اختصم و الإفراد في منتصر باعتبار لفظ جميع قال أبو جهل- و قد ركب فرسا كميتا و قد حلف أنّه يقتل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله-: و ننتصر اليوم من محمّد و أصحابه. و جرّ رأسه إلى رسول اللّه ابن مسعود.

[سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ] ردّ و إبطال لقولهم أي سيهزم جمع قريش البتّة و يولّون الأدبار و الإفراد في الدبر إرادة الجنس أي ينصرفون عن الحرب منهزمين و ينصر اللّه رسوله و المؤمنين و قد كان ذلك يوم بدر قال ابن عبّاس: بين نزول هذه الآية و بدر سبع سنين فالآية على هذا مكّيّة.

[بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل القيامة موعد أصل عذابهم و هذا العذاب القليل من طلائعه [وَ السَّاعَةُ أَدْهى و القيامة أعظم داهية و أقصى غاية من الفظاعة و الداهية الأمر الّذي لا يهتدي إلى الخلاص منه [وَ أَمَرُّ] و أشدّ مرارة كما أنّ نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نارها.

[إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أي المشركين و الكافرين من الأوّلين و الآخرين [فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ] أي في هلاك و نيران مسعرة ملتهبة أي في هلاك و ضلال عن الحقّ في الدنيا و نيران في الآخرة.

[يَوْمَ يُسْحَبُونَ أي يوم القيامة يجرّون في نار جهنّم على وجوههم يقال لهم:

ص: 298

[ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ] على لحنهم و لذلك لم يصرف أو اسم لطبقتها الخامسة من سقرته النار إذا غيّرته و المسّ كاللمس و هو إدراك ظاهر البشرة أي قاسوا حرّها و ألمها فإنّ مسّها سبب للتألّم بها.

[إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ] من الأشياء و هو منصوب بفعل يفسّره ما بعده، خلقناه بقدر متعيّن اقتضته الحكمة الّتي عليها يدور أمر التكوين فقدر بمعنى التقدير و هو تسوية صورته و شكله و صفاته أو المعنى خلقناه مقدّرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه فحينئذ المراد تقديره في علمه الأزليّ قضاء فالقضاء وجود جميع المخلوقات في اللوح و القدر وجودها في الأعيان بعد حصول شرائطها و التعبير عن الخلق متعلّق بالوجود الظاهريّ في الوقت المعيّن و في الحديث كتب اللّه مقادير الخلق كلّه قبل أن يخلق السماوات و الأرض خمسين ألف سنة و عرشه على الماء.

[وَ ما أَمْرُنا] لشي ء نريد تكوينه [إِلَّا واحِدَةٌ] لا تثنّى سريعة التكوين يعبّر بالكلمة أي كن لأنّه تعالى تكلّم بكن و المراد إرادة من كن الإرادة المحضة [كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ] اللمح لمعان البرق و سرعة النظر و حاصل المعنى أنّ قضاءه في الخلق أسرع من لمح البصر.

[وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] أي أشباهكم في الكفر من الأمم جمع شيعة و هو من يتقوّى به من الإنسان و أنصاره و أتباعه و يقع على الواحد و الاثنين و الجمع و المذكّر و المؤنّث [فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] متّعظ يتّعظ بذلك فيخاف.

[وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ] من الكفر و المعاصي مكتوب على الفصيل في ديوان الحفظة جمع زبور بمعنى الكتاب فهو بمعنى مذبور كالكتاب بمعنى المكتوب [وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ] من الأعمال [مُسْتَطَرٌ] و مسطور في الكتاب بتفاصيله يقال: استطره أي كتبه، روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ضرب لصغائر الذنوب مثلا فقال: إنّما محقّرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض و حضر جميع القوم فانطلق كلّ واحد منهم بحطب فجعل الرجل يجي ء بالعود و الآخر بالعود حتّى جمعوا سوادا و أجّجوا نارا فشووا خبزهم و لحمهم و إنّ

ص: 299

الذنب الصغير يجتمع على صاحبه فيهلكه إلّا أن يغفر اللّه له. اتّقوا صغائر الذنوب و محقّراتها فإنّ لها من اللّه طالبا و لقد أحسن من قال:

خلّ الذنوب صغيرها و كبيرها ذاك التقى و اصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ من المعاصي [فِي جَنَّاتٍ أي بساتين عظيمة الشأن [وَ نَهَرٍ] أي أنهار الماء و الخمر و العسل و اللبن و الإفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ خبر بعد خبر و الصدق بمعنى الجودة أي في مكان مرضيّ و مجلس حقّ و سالم من الكدورات [عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ] المراد من العنديّة قرب المكانة لا قرب المكان و المسافة و المليك أبلغ من المالك و التنكير للتعظيم قال الصادق عليه السّلام: مدح اللّه المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلّا أهل الصدق و هو المكان الّذي يصدق اللّه فيه وعده لأوليائه.

روي و هذه الرواية من طرق العامّة، روى صالح بن حيّان عن عبد اللّه بن بريدة أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال في هذه الآية: إنّ أهل الجنّة يدخلون كلّ يوم مرّتين على الجبّار تعالى فيقرءون عليه القرآن و قد جلس كلّ امرئ مجلسه الّذي له و مجلسي على منابر الدرّ و الياقوت و الزمرّد و الذهب و الفضّة بأعمالهم فلم تقرّ أعينهم بشي ء قطّ كما تقرّ أعينهم بذلك ثمّ ينصرفون إلى رحالهم ناعمين قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد.

أقول: و من المعلوم أنّ المراد بالدخول عليه تعالى دخول القرب و المكانة و الشرف في موضع مخصوص في الجنّة و ليس المراد أنّه تعالى متحيّز في مكان من الجنّة و هؤلاء يدخلون عليه تعالى شأنه أن يكون متحيّزا في مجلس و مكان و هذا معنى قوله عليه السّلام:

الفقراء جلساء اللّه و معلوم أنّ مقصد الصدق لا يقعد فيه إلّا الصادقين و لا بدّ أن يكون صادقا في قوله في الدنيا و فعله فيصون اللسان عن الكذب الّذي هو أقبح الذنوب.

قال صلّى اللّه عليه و آله: التجّار هم الفجّار فقيل: أليس اللّه قد أحلّ البيع؟ قال: نعم و لكنّهم يحلفون فيأثمون و يحدّثون فيكذبون قال صلّى اللّه عليه و آله: الكذب ينقص الرزق. في الحديث: أربع من كنّ فيه فهو منافق و إن

ص: 300

صام و صلّى و زعم أنّه مسلم: إذا حدّث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان و إذا خاصم فجر، و أمّا الصدق في فعله بأن يصون حاله عمّا ينقصه و يفسد عمله غير خالص للّه و لا بدّ أن يكون عزمه مستمرّة على دوام الطاعة. نسأل اللّه أن يرزقنا الصدق و الكرامة إنّه حميد مجيد.

تمّت السورة

ص: 301

المجلد 11

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

اشارة

أعوذ باللّه من الشيطان الرّجيم

سورة الرّحمن

اشارة

و تسمّى عروس القرآن مكّيّة. و قيل: مدنيّة.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الرّحمن رحم اللّه ضعفه و أدّى شكر ما أنعم اللّه عليه.

قال أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال: لا تدعوا قراءة الرّحمن و القيام بها فإنّها لا تقرّ في قلوب المنافقين و تأتي ربّها يوم القيامة في صورة آدميّ في أحسن صورة و أطيب ريح حتّى تقف من اللّه موقفا لا يكون أحد أقرب إلى قرب اللّه منها فيقول لها: من الّذى كان يقوم بك في الحياة الدنيا و يد من من قراءتك؟ فتقول: يا ربّ فلان و فلان و فلان فيبيضّ وجوههم فيقول لهم: اشفعوا فيمن أحببتم فيشفعون حتّى لا يبقى لهم غاية و لا أحد يشفعون له فيقول: لهم ادخلوا الجنّة و اسكنوا فيها حيث شئتم. ختم اللّه السورة باسمه و افتتح هذه السورة باسمه.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 13]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)

الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)

وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)

[الرَّحْمنُ مبتدأ و ما بعده خبره أي الّذي له الرحمة الشاملة و وسعت رحمته كلّ شي ء و في الدعاء: رحمان الدنيا و رحيم الآخرة لأنّه عمّ الرزق في الدنيا و خصّ المؤمنين بالعفو في الآخرة، و الرحمة الجنّة و العطف، و منه الرحم للانعطاف و هو بالنسبة إلى اللّه إرادة الخير و الإنعام بالإيجاد أوّلا و بالهداية إلى الايمان و أسباب السعادة ثانيا و هذه السورة مطرّزة بطراز اسم الرّحمن. و لمّا كان القرآن أعظم النعم شأنا و إنّه مدار جميع السعادات كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أشراف أمّتي حملة القرآن أي ملازمو قراءته و أصحاب الليل و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خيركم من تعلّم القرآن و علّمه، في القرآن جميع حقائق الكتب السماويّة.

و كان تعليمه من آثار الرحمة فقال: [عَلَّمَ الْقُرْآنَ بواسطة جبرئيل و بواسطة محمّد غيره من الامّة و كما علّم آدم الأسماء كلّها فخصّ محمّدا و أُمّته بخاصّة مثله [خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ أي أنشأه على ما هو عليه من القوى الظاهرة و الباطنة و البيان هو التعبير عمّا في الضمير و الكشف عن الشي ء.

و المراد بالإنسان آدم عن ابن عبّاس، فعلى هذا معنى علّمه البيان أي أسماء كلّ كلّ شي ء و اللغات كلّها قال الصادق: البيان الاسم الأعظم الّذي علم به كلّ شي ء.

ص: 3

و قيل: المراد من الإنسان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علّمه البيان أى علّم ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة [الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ مبتدء و خبر و الحسبان بالضمّ مصدر بمعنى الحساب كالغفران و الرجحان يقال: حسبه عدّة و باب نصر و بالكسر فبمعنى الظنّ من باب حسب بالكسر و المعنى يجريان بحساب مقدّر في بروجهما و منازلهما بحيث ينتظم بذلك الجريان أمور الكائنات السفليّة و يحصل اختلاف الفصول و الأوقات فالسنة القمريّة ثلاثمائة و أربعة و و خمسون يوما و الشمسيّة ثلاثمائة و خمسة و ستّون يوما و ربع يوم أو أقلّ و كلمة «يجريان» محذوف لدلالة الكلام عليه. و الفرض في الآية بيان النعم و خصّهما بالذكر لما فيهما من المنافع الكثيرة للناس من الضوء و الضياء و نضج الثمار إلى غير ذلك.

[وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ النجم النبات الّذي ينجم و يطلع من الأرض و لا ساق له مثل القرع و نحوه و الشجر الّذي له ساق و قيل: كلّ نابت إذا ترك حتّى يبرز و انقطع فليس شجرا و كلّ شي ء يبرز و لا يقطع من سنته فهو شجر «يَسْجُدانِ» أي ينقادان للّه تعالى فيما يريد بهما طبعا انقياد الساجد أو يسجد ظلّهما كما في قوله تعالى: «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ» (1) و ليس لنا علم بكيفيّة سجودهما كما أنّه لا نفقه تسبيح الأشياء فذكر سبحانه في مقابلة النعمتين السماويّتين اللتين هما الشمس و القمر نعمتين أرضيّتين و هما النجم و الشجر و هما أصل الرزق للحيوان.

و قيل: أراد بالنجم نجم السماء و هو موحّد و المراد جميع النجوم و الشجر يسجدان للّه بكرة و عشيّا. و يجوز أن يكون المعنى أنّ كلّ جسم له ظلّ فهو خاضع و خضوعه دلالته على الحدوث و إثبات المحدث المدبّر له.

[وَ السَّماءَ رَفَعَها] فوق الأرض انتصابه بمحذوف يفسّره المذكور أي خلقها مرفوعة محلّا كما هو المحسوس [وَ وَضَعَ الْمِيزانَ و شرع العدل أو آلة الوزن للتوصّل لكلّ ذي حقّ حقّه حتّى ينتظم به أمر العالم و إذا كان الميزان بمعنى العدل و به قامت السماوات و الأرض فالميزان هو القرآن و إذا كان بمعنى الآلة فبه يحصل التسوية و التعديل في الحقوق من أخذهم و إعطائهم.

ص: 4


1- النحل: 48.

و قوله: [أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أشدّ مناسبة في معنى الآلة و أن ناصبة و لا نافية و لام العلة مقدّرة متعلّقة بوضع الميزان أي وضعه لئلّا تعتدوا الإنصاف، و الطغيان مجاوزة الحدّ فمن قال: المراد من الميزان في الآية العدل فطغيانه الجور و من قال: إنّه الآلة فطغيانه البخس و النقص.

[وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ] أي اجعلوا أوزانكم مستقيما به و راعوا المعدلة في جميع أفعالكم و أقوالكم [وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ و الخسر و الاخسار النقص أي لا تنقصوا الموزون و الاقامة باليد و القسط بالقلب و التكرار في لفظ الميزان تشديدا للوصيّة و الحثّ على العدل. قيل: إنّ مالك بن دينار دخل على جار له احتضر فقال: يا مالك جبلان من نار بين يدي أكلّف الصعود عليهما قال مالك: فسألت أهله فقالوا: كان له مكيالان يكيل بأحدهما و يكتال بالآخر.

[وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي خفضها مدحوّة على الماء و مبسوطة لمنافع الخلق. و الأنام جمع لا واحد له من لفظه بمعنى الخلق فهي كالمهاد لهم يتقلّبون عليها و قيل: الأنام كلّ ذي روح لأنّه ينام و قيل: من و نم الذباب همس و عبّر عن الأرض بالوضع لما عبّر عن السماء بالرفع.

[فِيها فاكِهَةٌ] في الأرض ما يتفكّه به من ألوان الثمار من الأشجار و تنكير الفاكهة تشعر باختلاف الأنواع [وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ الكمّ وعاء الثمرة و غلفها قبل التفتّق أي النخيل الّتي صاحبات الكمّ و الكمّ كلّ ما يكم و يغطّى فيه ممّا ينتفع به من ليف و جمار و كفري و الجمار شحم النخل و كلّها ينتفع بها.

[وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ و العصف هو ورق الزرع أو اليابس منه كالتبن أى و حبوب ينتفع بها و بورقها [وَ الرَّيْحانُ يعني الرزق بلغة حمير أو ماله من الرائحة من النبات أو الريحان المعروف و هو الشاهسفرم و قيل: الريحان ما لساقه رائحة طيّبة كما لورقه مثل الآس، و الورد لورقه رائحة فقط كالياسمين و الجورى يقال: راح الشي ء يريحه إذا وجد ريحه في الحديث من قتل نفسا معاهدة لم يرح رائحة الجنّة و الريحان في الأصل رويحان كفعيلان من روح قلبت الواو يا و ادغم ثمّ خفّف بحذف عين الفعل كما في ميّت.

ص: 5

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الخطاب للثقلين أي الجنّ و الإنس المدلول عليهما قوله: «لِلْأَنامِ» لعمومه لهما و سينطق به قوله: «أَيُّهَ الثَّقَلانِ» و أيضا قوله: خلق الإنسان و خلق الجانّ إشعار بأنّ الخطاب لهما جميعا و الآلاء النعم الظاهرة و الباطنة واحدها آلى و قيل: الآلاء النعم الظاهرة و النعم هي الباطنة و الصواب أنّهما من الألفاظ المترادفة كالأسود و الليوث، و الفلك و السفن.

روي عن جابر بن عبد اللّه قال: قرأ علينا رسول اللّه سورة الرّحمن حتّى ختمها فقال: مالي أراكم سكوتا؟ الجنّ كانوا أحس منكم ردّا ما قرأت عليهم هذه الآية مرّة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»* إلّا قالوا: و لا بشي ء من نعمك ربّنا نكذّب فلك الحمد و في الآية دلالة على أنّ الجنّ مكلّفون و زعمت الحشويّة أنّهم مضطرّون إلى أفعالهم و أنّهم ليسوا بمكلّفين و الدليل على أنّهم مكلّفون ما في القرآن من ذمّ الشياطين و لعنهم و ذكر ما أعدّ اللّه لهم من العذاب و هذه الأمور لا يحصل إلّا لمن خالف اللّه و خالف الأمر و النهي و ارتكب الكبائر مع تمكّنه من أن لا يفعل ذلك.

[سورة الرحمن (55): الآيات 14 الى 32]

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)

وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32)

قوله: [خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ] من طين يابس كالمفخور في النار بحيث إذا تمسّه يتصلصل و له صوت و صلصلة يسمع من يبسه و الفخّار الخزف و الطين المطبوخ بالنار و تشبيهه بالفخّار لصوته من يبسه إذا نقر و لأنّه أجوف.

[وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ الجانّ أبو الجنّ أو الجنّ أو إبليس و المرج هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر و الأصفر و الأخضر الّذي يعلو النار إذا وقّدت

ص: 6

من مرج القوم إذا اختلط و اضطرب فمعنى «مِنْ مارِجٍ» أي من لهب مختلط [مِنْ نارٍ] بيان لمارج قيل: خلق الجنّ من مارج من نار و الملائكة من نورها و الشياطين من دخانها و قال بعضهم: خلقوا من النار الّتي بين الكلة الرقيقة و بين السماء و فيها يكون البرق و قيل:

المارج النار المخلوطة الممتزجة بالهواء فحينئذ الجنّ من عنصر النار و الهواء و الإنسان من عنصر التراب و الماء و هو الطين.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا أفاض عليكما من سوابغ النعم.

[رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ خبر مبتدء محذوف أي الّذي أصنع هذه الأفاعيل البديعة ربّ مشرقي الصيف و الشتاء و مغربيها و ذلك مثل قولك في وصف ملك عظيم: له المشرق و المغرب؛ فإنّه يفهم منه أنّ له ما بينهما أيضا، و أحد المشرقين هو الّذي تطلع منه الشمس في أطول يوم السنة و الثاني الّذي تطلع منه في أقصر يوم من السنة و بينهما مائة و ثمانون مشرقا بعدد أيّام السنة و كذا الكلام في المغربين و قيل: أحد المشرقين للشمس و الثاني للقمر و كذا المغربان و المراد من قولهم: ما بين المشرق و المغرب ميلة يعني لأهل المشرق و هو أن تجعل مغرب الصيف على يمينك و مشرق الشتاء على يسارك فتكون مستقبل القبلة.

القميّ روى عن الصادق عليه السّلام أنّ المشرقين رسول اللّه و أمير المؤمنين، و المغربين الحسن و الحسين.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و في ذلك من اختلاف المشارق فوائد لا تحصى من اعتدال الهواء و تغيير الفصول و حدوث ما يناسب في كلّ فصل في وقته.

[مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ مرجت الدابّة إذا أرسلتها للرعي و المعنى أرسل البحر الملح و البحر العذب و تطرّق المالح في العذب و العذب في المالح حالكونهما متجاورين و يتماسّ سطوحهما و [يَلْتَقِيانِ كدجلة مثلا تدخل البحر فتشقّه فيجري في خلال البحر فراسخ لا يتغيّر طعمها.

[بَيْنَهُما بَرْزَخٌ و حاجز من قدرة اللّه [لا يَبْغِيانِ و لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة و إبطال الخاصّيّة مع أنّ شأنهما الاختلاط على الفور بل يبقيان زمانا يسيرا

ص: 7

و قيل: المراد من البحرين بحر السماء و بحر الأرض فإنّ في السماء بحرا يمسكه اللّه بقدرته ينزل منه المطر فيلتقيان في كلّ سنة و بينهما حاجز يمنع بحر السماء من النزول و بحر الأرض من الصعود و ينزل من بحر السماء المطر و قيل: إنّهما بحر فارس و بحر الروم فإنّ آخر طرف هذا يتّصل بآخر طرف ذاك و البرزخ بينهما الجزائر.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و ليس من البحرين من الفوائد شي ء يقبل التكذيب.

[يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ اللؤلؤ كبار الدرّ و المرجان صغاره أو المرجان الخزر الأحمر المشهور يقال: يلقيه الجنّ في البحر و في خريدة العجائب: اللؤلؤ يكون في بحر هند و فارس و المرجان ينبت في البحر كالشجر و إذا كلس المرجان عقد الزيبق فمنه أبيض و منه أحمر و منه أسود و هو يقوّي البصر كحلا و ينشف رطوبة العين.

و اعلم أنّه إن أريد بالبحرين بحر فارس و بحر الروم فلا حاجة في قوله: «مِنْهُمَا» إلى التأويل إذا اللؤلؤ و المرجان بمعنييه يخرجان منهما و قال بعضهم: يخرج من الأجاج من المواضع الّتي يقع فيها المياه العذبة من الأنهار فيناسب إسناد ذلك إليهما و هذا مشهور عند الغوّاصين.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لأنّ الجواهر الثمينة من نعماء اللّه لخلقه حيث يتحلّون بها قال ابن عبّاس و جماعة: إنّ تكوّن هذه اللآلي في البحر بنزول المطر لأنّ الصدف تفتح أفواهها للمطر فتكون الأصداف كالأرحام للنطف و لذلك أنّ السنة إذا أجدبت قلّت الأصداف و هزلت الحيتان فضمير منهما للبحرين باعتبار الجنس.

و قيل: البحران عليّ و فاطمة و البرزخ النبيّ و يخرج منهما الحسن و الحسين عليهم السّلام قال صاحب روح البيان: و عن الصادق: عليّ و فاطمة بحران عميقان لا يبغيان أحدهما على صاحبه يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان الحسن و الحسين و في المجمع أيضا ذكر هذه الرواية عن سعيد بن جبير و سلمان الفارسيّ و سفيان الثوريّ.

و قيل: هما الدنيا و الآخرة و البرزخ القبر و قيل: الحياة و الممات، و الأجل البرزخ.

و قال بعض أهل التأويل: الخوف و الرجاء و يخرج منها الورع و التقوى. و قال ابن عطا:

ص: 8

بين العبد و الربّ بحران عميقان: أحدهما بحر النجاة و هو الدّين و القرآن و بحر الهلاك و هو الدنيا و من اعتصم بجبل اللّه نجى و من ركن إلي الدنيا هلك و ردى.

[وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ اللام لام الملك أو لام الاستحسان و التعجّب مثل قوله:

للّه أبوك و للّه درّك و الجوار بكسر الراء أصله الجواريّ بالياء جمع جارية بمعنى السفن أقيمت الصفة مقام الموصوف و سمّيت السفينة جارية لأنّ شأنها الجري في البحر و إن كانت واقفة في الساحل كما تسمّى المملوكة أيضا جارية لأنّ شأنها الجري و السعي في حوائج سيّدها، و المراد بالمنشآت المرفوعات الشرع يقال: أنشأه إذا رفعه أو مرفوعات على الماء أو المنشآت معناها المصنوعات و قرئ منشئات بكسر الشين أي تنشئ الموج بصدرها [فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ جمع علم و هو الجبل الشاهق لأنّ السفن في البحر كالجبال في البرّ.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من خلق موادّ السفن و الإرشاد إلى أخذها و نفعها و حصول التجارات و المعاملات المفيدة بسببها.

[كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ الهاء كناية عن غير مذكور و هو الأرض كقولهم: ما بين لابتيها و هم في المدينة و إنّما جاز ذلك لكونه معلوما أي كلّ من على الأرض من حيوان فهو هالك و يفنون. و لمّا نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت بنو آدم فلمّا نزلت «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ»* (1) أيقنوا بهلاك أنفسهم فإن لهم أرواحا و أجساما لطيفة و أرواحهم ليست مجرّدة عن تلك الأجسام اللطيفة فهم ذوات الأنفس.

[وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي الباقي ذاته و منه قولهم: كرّم اللّه وجهه أي ذاته و الوجه العضو المعروف استعير للذات لأنّه أشرف الأعضاء و مجمع أغلب المشاعر و موضع السجود و يجوز أن يكون الوجه بمعنى القصد فحينئذ المعنى كلّ من عليها من الثقلين و ما اكتسبوه من الأعمال هالك إلّا ما توجّهوا به جهة اللّه و عملوه ابتغاء مرضاته و على هذا المعنى. قال الشيخ أكبر- و هو من علماء العامّة- إنّ الضمير في وجهه راجع إلى الشي ء.

[ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ صفة وجه أي ذو الاستغناء المطلق و العظمة في ذاته و صفاته

ص: 9


1- آل عمران: 185.

و في الحديث ألظّوا بيا ذا الجلال و الإكرام؛ الإلظاظ اللزوم و الإلحاح و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه مرّ برجل و هو يعليّ و يقول: يا ذا الجلال و الإكرام قال: استجيب لك الدعاء؛ فالدعاء بهاتين الكلمتين مرجوّ الإجابة.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن قيل: أيّ نعمة في الإفناء؟ فالجواب أنّ النعمة التسوية بين الحقّ فيه و إنّه و صلة إلى الثواب و تصل بين الصواب و العمل بالفناء ليفعل الطاعة لحسنها فيستحقّ الثواب و لو عجّل الثواب لصار الإنسان ملجئا إلى العمل و لم يستحقّ الثواب.

[يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يسألونه حوائجهم و الرزق و المغفرة كما أنّ أهل السماء أيضا يسألونه في وجوداتهم حدوثا و بقاء و سائر أحوالهم سؤلا مستمرّا بلسان الحال و المقال فإنّ الخلق كافّة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود و ما يتفرّع عليه من الكمالات بالمرّة بحيث لو انقطع ما بينهم و بين العناية الإلهيّة من علائق اللطف لم يشمّوا رائحة الوجود أصلا فهم مستمرّون في كلّ آن على السؤال.

[كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي كلّ وقت من الأوقات و المراد بطن الزمان في الحقيقة و هو اليوم الإلهيّ الّذي هو الآن و هو غير منقسم في شأن من الأشؤن من الإعطاء و المنع و الفقر و الغنى و يأتي بأحوال منها و يذهب بأحوال منها من العزّة و الذلّة و الصحّة و المرض و نحو ذلك حسب ما يقتضيه الحكمة البالغة و في الحديث من شأنه أن يغفر ذنبا و يفرّج كربا و يرفع قوما و يضع قوما و سوق المقادير إلى المواقيت قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الربّ لينظر إلى عباده كلّ يوم ثلاثمائة و ستّين نظرة يبدئ و يعيد و ذلك من حبّه خلقه و عن عيينة إنّ الدهر كلّه عند اللّه يومان أحدهما اليوم الّذي هو مدّة الدنيا فشأنه فيه الأمر و النهي، الإماتة و الإحياء و الآخر يوم القيامة فشأنه فيه الجزاء و الحساب و الثواب و العقاب قيل: نزلت الآية في اليهود حين قالوا: إنّ اللّه لا يقضي يوم السبت شيئا فردّ عليهم.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مع مشاهدتكم من الإيجادات من كتم العدم إلى

ص: 10

الوجود.

[سَنَفْرُغُ لَكُمْ و هذا الكلام مستعار من قول المهدّد لصاحبه مثل قولهم: سأفرغ لك أي سأتجرّد لعقوبتك و أقصد و الخطاب للمجرمين من الطائفتين و حاصل المعنى أنّ عند انتهاء الشؤون نجازيكم و لا يبقى إلّا شأن واحد و هو جزاؤكم [أَيُّهَ الثَّقَلانِ و إنّ الجنّ و الإنس جعلا أثقالا أي محمولة على الأرض و جعل ما سواهما كالعلاوة أو لرزانة آرائهما أو لأنّهما مثقّلان بالتكليف أو لعظم قدرهما في الأرض كما في الحديث إنّي تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الّتي من جملتها البيان و البيّنة بأمور سيلقونه يوم القيامة للتحذير عمّا يؤدّي إلى سوء الحساب و إنّ في التحذير عنهما نعمة عظيمة.

[سورة الرحمن (55): الآيات 33 الى 45]

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42)

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)

المعنى: [يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ خوطبا باسم جنسهما و المعشر الجماعة العظيمة سمّيت به لبلوغه غاية الكثرة فإن العشر العدد الكامل الكثير الّذي لا عدد بعده إلّا بتركيبه بما فيه من الآحاد نقول: أحد عشر و عشرون و ثلاثون أي اثنتا عشرات و ثلاث عشرات و لذا سمّي العدد الكثير معشرا كأنّه قيل: محلّ العشر الّذي هو الكثيرة الكاملة و تقديم الجنّ في الذكر لتقدّم خلقه و الإنس على الجنّ في قوله: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ» (1)، لفضله. إن قدرتم على الجواز و الخروج و الخصوص من جوانب السماوات و الأرض هاربين من اللّه فارّين من حكمه.

ص: 11


1- الإسراء: 88.

[فَانْفُذُوا] و اخرجوا منها و أخلصوا أنفسكم من عقابي [لا تَنْفُذُونَ و لا تقدرون على النفوذ [إِلَّا بِسُلْطانٍ و بقوّة و أنتم بمعزل عن القدرة روي أنّ الملائكة تحيط بجميع الخلائق فيهرب الإنس و الجنّ فلا يأتون وجها إلّا وجدوا الملائكة أحاطت فيقول الملائكة لهم ذلك فكما لا يقدر أحد على الفرار يوم القيامة كذلك لا يقدر في الدنيا فيدركه الموت.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من التنبيه و التحذير و العفو مع كمال القدرة على العقوبة.

[يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ] هو لهب خالص لا دخان فيه أو دخان النار و حرّها كما في القاموس و ذلك حين يساق إلى المحشر عن ابن عبّاس، أي يرسل عليكما لهب خالص بلا دخان و يسوقكم إلى المحشر عن ابن عبّاس. و التنوين فيها للتفخيم و التشديد [وَ نُحاسٌ صفر مذاب يصبّ على رؤوسهم و قيل: دخان عن ابن عبّاس [فَلا تَنْتَصِرانِ أي لا يمنعان من ذلك العذاب.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من بيان عاقبة الكفر و الشرك و المعاصي و أيّ نعمة أكمل من تحذير الإنسان ممّا يؤول أمره إلى مثل هذا العذاب.

[فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ] و انصدعت يوم القيامة و انفكّ بعضها من بعض لقيام الساعة أو صارت أبوابا لنزول الملائكة كقوله: «وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا» (1) [فَكانَتْ وَرْدَةً] أي فصارت السماء كوردة حمراء في اللون و هي الزهرة المعروفة الّتي تشمّ أو هو الفرس الأبيض الّذي يضرب إلى الحمرة فتصير السماء كالوردة في لونها. ثمّ يجري [كَالدِّهانِ خبر ثان لكانت و هو جمع دهن أو اسم لما يدّهن به كالإدام لما يؤتدم به أي تذوب و تجري كذوبان الدهن و جريه و جواب إذا محذوف تقديره لرأيت أمرا هائلا عظيما.

روى مسعدة بن صدقه عن كليب قال: كنّا عند أبي عبد اللّه فأنشأ يحدّثنا فقال:

إذا كان يوم القيامة جمع اللّه العباد في سعيد واحد و يوحي إلى السماء الدنيا أن

ص: 12


1- الفرقان: 25.

اهبطي بمن فيك فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الملائكة و الجنّ و الإنس ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرّتين فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل السماوات السبع فينظر الجنّ و الإنس فإذا قد أحاط بهم سبعة أطواق من الملائكة.

و قيل: الدهان الأديم الأحمر و جمعه أدهنة و قيل: هو عكر الزيت يتلوّن ألوانا أحيانا قال الفرّاء: شبّه سبحانه تلوّن السماء بالدهان أي تتلوّن السماء مثل تلوّن الوردة من الخيل، و الفرس الورد يكون في الشتاء أحمر لونه و في الربيع أصفر و في الشتاء (1) أغبر فكذلك السماء فشبّهها في اختلاف ألوانها بالفرس الورد.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مع عظم شأن الآلاء.

[فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ أي يوم انشقاق السماء حسب ما ذكر لا يسأل عن ذنبه لأنّهم يعرفون بسيماهم فلا يحتاج في تمييز المذنب عن غيره إلى أن يسأل عن دينه و ذلك أوّل ما يخرجون من قبورهم و يحشرون إلى الموقف فوجا فوجا و لا ينافي ذلك مع قوله سبحانه «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (2)، و ذلك في موقف الحساب و المناقشة و مواقف القيامة كثيرة قال ابن عبّاس: لا يسألهم هل عليهم كذا و كذا فإنّه أعلم منهم و لكن يسألهم بم عملتم كذا و كذا و عنه أيضا لا يسألون سؤال تحقيق و إنّما يسألون سؤال تقريع و أراد بالجانّ الجنّ كما يقال: تميم و يراد ولده و طائفته.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و الإخبار بما يزجر الإنسان من الشرّ هو النعمة و إنّ الانتقام من الأعداء نعمة على الأحباب و لذا ورد الحمد عقيب العقوبة كما قال:

«فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (3)».

[يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ السيماء بالقصر و المدّ العلامة و الجملة استيناف يجري مجرى التعليل لعدم السؤال أي لا يحتاج إلى السؤال لأنّهم يعرفون بسواد الوجوه و زرقة العيون و ما يعلوهم من الكأبة و الحزن كما يعرف الصالحون بأضداد ذلك.

ص: 13


1- كذا في الأصل.
2- الحجر: 92.
3- الانعام: 45.

[فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ الناصية مقدّم الرأس و لعلّ المراد شعرها يأخذ الملائكة بشعور مقدّم رأسهم و أقدامهم أو يؤخذ بجمع نواصيهم و أقدامهم في سلسلة من و راء ظهورهم فيقذفونهم في النار.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من الزواجر.

[هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ أي يقال لهم ذلك بطريق التوبيخ [يَطُوفُونَ بَيْنَها] أي يدورون بين النار [وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ أي ماء بالغ في الحرارة أقصاها يصبّ عليهم أو يسقون منه يدورون من النار إلى الحميم و من الحميم إلى النار من أنى يأني آن مثل قضى يقضي قاض و قيل: معنى «الآن» الحاضر و في تفسير عليّ بن إبراهيم أي لها أنين من شدّة حرّها. يسلّط عليهم الجوع فيؤتى بهم إلى الزقّوم الّذي طلعها كرؤوس الشياطين فأكلوا منها من شدّة الجوع فأخذت في حلوقهم فاستغاثوا بالماء فأوتوا به من الحميم فإذا قرّبوه إلى وجوههم تناثر لحم وجوههم و يشربون من الحميم فتغلي أجوافهم و يخرج جميع ما فيها ثمّ يلقى عليهم الجوع فمرّة يذهب بهم إلى الحميم و مرّة إلى الزقّوم و هكذا.

قال كعب الأحبار: إنّ واديا من أودية جهنّم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتّى يخلع أوصالهم ثمّ يخرجون منه و قد أحدث اللّه لهم خلقا جديدا فيلقون في النار.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من هذه المواعظ النافعة الّتي توجب بعثا و حثّا على فعل ما يستحقّ به الثواب و تحفّظا عمّا يستلزم العذاب.

[سورة الرحمن (55): الآيات 46 الى 61]

وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)

فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)

ص: 14

المقام اسم مكان و لكن ليس للّه مكان، و مقامه تعالى موقفه الّذي يقف فيه العباد للحساب كما قال: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (1) و الإضافة للاختصاص الملكيّ إذ لا ملك يومئذ إلّا للّه و يدخل في عموم الآية من يهمّ بالمعصية فيذكر اللّه فيدعها من مخافة اللّه [جَنَّتانِ جنّة للخائف الإنسيّ و جنّة للخائف الجنّيّ فإنّ الخطاب للفريقين لكنّ الأصوب أن يكون المعنى كلّ أحد منهما جنّتان جنّة لعقيدته و أخرى لعلمه أو جنّة لفعل الطاعات و أخرى لترك المعاصي أو جنّة يثاب بها و أخرى يتفضّل بها عليه.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و قوله: «مَقامَ رَبِّهِ» أي مقام شهود ربّه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» من نعمة الفناء في اللّه و نعمة البقاء باللّه و بهذا المعنى كما يقول لعائشة حين يغيب عن حسّه: كلّميني، للتبليغ و الإرشاد.

[ذَواتا أَفْنانٍ صفة لجنّتان و ما بينهما اعتراض بينهما و تنبيه على أنّ تكذيب كلّ من الموصوف و الصفة موجب للإنكار و التوبيخ و ذواتا تثنية ذات بمعنى صاحبة و أصلها ذويه مؤنّثة ذوي و في تثنيتها لغتان الردّ على الأصل و هو ذواتا و التثنية على اللفظ فيقال: ذاتا و الأفنان جمع فنّ أي من الأشجار و الثمار أو جمع فنن و هو الغصن المستقيم طولا و يشعب من فروع الشجر كأنّه قيل: ذواتا أشجار و أغصان و أظلال و أثمار و على معنى الفنّ أيضا يستقيم المعنى قال الشاعر:

و من كلّ أفنان اللذاذة و الصبالهوت به و العيش أخضر ناضر

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و ليس فيها شي ء يقبل التكذيب.

[فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ صفة أخرى لجنّتان أي في الجنّتين عينان تجريان من جبل من مسك قال ابن عبّاس: تجريان من الماء الزلال: أحدهما التسنيم و الاخرى السلسبيل قيل: و تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة اللّه.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان و ضربان متشاكلان كتشاكل الذكر و الأنثى كالرطب و اليا بس فلذلك سمّاهما زوجين ضرب

ص: 15


1- المطففين: 6.

معروف عندهم و ضرب من شكله غريب لم يعرفوه في الدنيا.

[مُتَّكِئِينَ حال لأهل الجنّتين أي قاعدين كالملوك جلسة راحة معتمدين [عَلى فُرُشٍ جمع فراش و هو ما يبسط و يستمهد للجلوس و النوم [بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ قرئ بحذف الألف و كسر النون و قرئ بإسكان النون و كسر الألف و قطعها و البطانة من الثوب ضدّ الظهارة و الإستبرق ما غلظ من الديباج من البريق و هو الإضاءة و قيل:

من البرقة و هو اجتماع ألوان فإذا كان بطائنها كذلك فما ظنّك بظهائرها؟ لأنّ الظهارة في الملبوس أشرف و أعلى و قيل: ظهائرها من سندس أو من نور.

[وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ جنى اسم بمعنى المجنيّ كالقبض بمعنى المقبوض و دان من الدنوّ و هو القرب أي ما يتجنّى من أشجارها قريب يناله القائم و القاعد و المضطجع تدنو الشجرة حتّى يجتنيها وليّ اللّه بل قيل: إنّ تلك الثمار يقع في الفم بلا أخذ.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من هذه الآلاء اللذيذة الباقية.

[فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ في الجنان أو في الفرش قاصرات الطرف من إضافة الفاعل إلى منصوبه و متعلّق القصر و هو قوله: «على أزواجهنّ» محذوف للدلالة عليه و المعنى نساء يقصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ لا تبصرن إلى غيرهم و تقول كلّ منهنّ لزوجها: و عزّة ربّي ما أرى في الجنّه شيئا أحسن منك فالحمد للّه الّذي جعلك زوجي و جعلني زوجك و قيل: معنى «قاصِراتُ الطَّرْفِ» هو أن يقصر الطرف عنها من ضوء نورها أو المعنى إنّهن من الحياء و الدلال و الغنج عيونهنّ مقصورة و ليست في غاية الانفتاح حتّى يستلزم شيئا في الجملة في العين.

[لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ طمثت المرأة إذا افتضّها الرجل بالتدمية و أخذ بكارتها فالطمث الجماع المؤدّي إلى خروج دم البكر ثمّ أطلق على كلّ جماع طمث و إن لم يكن معه دم و في القاموس الطمث المسّ و المعنى لم يمسّهنّ أحد من الإنس و لا أحد من الجنّ و هذا دليل على أنّ الجنّ يطمثون كما يطمث الإنس و حاصل المعنى أنّ الحور الّتي جعلت للمؤمنين الخائفين من اللّه لم تنلها يد الإنس قبل ذلك و

ص: 16

الّتي جعلت للمؤمنين من الجنّ كذلك لم تنلها يد الجنّ قبل ذلك.

و في الآية دلالة على وقوع الطمث للجنّ في الدنيا و لكن ليس لهم ماء كماء الإنسان بل لهم هواء بدل الماء و به يحصل العلوق في أرحام إناثهم و هذا يستدعي أن لا تصلح المناكحة بين الإنس و الجنّ و كذا العكس هذا قول الجمهور من المفسّرين. و قال الشعبيّ و الكلبيّ هنّ من نساء الدنيا أي لم يجامعهنّ بعيد النشأة الثانية أحد سواء كنّ في الدنيا ثيّبات أو أبكارا.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من هذه النعم الّتي هي لتمتّع نفوسكم.

[كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ صفة لقاصرات الطرف قد سبق بيان المرجان و أمّا الياقوت فهو حجر صلب شديد اليبس رزين صاف منه أحمر و أبيض و أصفر و أخضر و أزرق و لا تعمل فيه النار لقلّة دهنيّته و لا يثقب غالبا لغلظة رطوبته و لا تعمل فيه المبارد لصلابته سيّما الأحمر منه و بعده الأصفر أصبر على النار من سائر أصنافه و أمّا الأخضر منه فلا صبر له على النار و في الطبّ أنفعها و أغلاها الرمّانيّ و هو الّذي يشابه النار في لونه قيل: و من تختّم بهذه الأوصاف أمن من الطاعون و إن عمّ الناس و أمن أيضا من الصاعقة و الغرق و من حمل شيئا منها أو تختّم به كان معظما عند الناس وجيها عند الملوك و أكل معجون الياقوت يدفع ضرر السمّ و يزيد في القوّة قال الشاعر:

و بقاء السمندر في لهب النار مزيل فضيلة الياقوت

و بالجملة شبّههنّ سبحانه بالياقوت في حمرة الوجنة و المرجان صغار الدرّ في بياض البشرة و صفائها فإنّ صغار الدرّ أنصع بياضا من كباره.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ «هل» يجي ء على أربعة أوجه: الأوّل بمعنى قد كقوله تعالى: «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ (1)» و الثاني بمعنى الأمر نحو قوله (2): «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» أي فانتهوا و الثالث بمعنى الاستفهام كقوله تعالى: «فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا (3)» و الرابع بمعنى «ما» الجحد كما في هذه

ص: 17


1- الدهر: 1.
2- المائدة: 94.
3- الأعراف: 43.

الآية ما جزاء الإحسان في العمل إلّا الإحسان في الثواب روي أنّه قرأ رسول اللّه «هل جزاء الإحسان» إلخ، ثمّ قال: هل تدرون ما قال ربّكم: قالوا: اللّه و رسوله أعلم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقول هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي بقبوله توحيدي إلّا أن اسكنه جنّتي و حظيرة قدسي برحمتي.

حكي أنّ ذا النون المصرى رأي عجوزا كافرة تنفق الحبوب للطيور وقت الشتاء فقال: إنّه لا يقبل من الأجنبيّ فقالت: أفعل قبل أولم يقبل ثمّ إنّه رآها في حرم الكعبة فقالت: يا ذا النون أحسن إلى نعمة الإسلام بقبضة من الحبّ. قال بعض الأكابر: الإحسان الأنعم و لا يخصّ مثل المطر و الريح و الشمس و القمر.

روي أنّ العبد إذا قال: لا إله إلّا اللّه بشروطها أتت هذه الكلمة إلى صحيفة فلا تمرّ على خطيئة إلّا محتها حتّى تجد حسنة مثلها فتجلس إلى جنبها. و عن أبي ذرّ الغفاري قال: قلت يا رسول اللّه دلّني على عمل يدخلني الجنّة و يباعدني عن النار فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إذا عملت سيّئة فاعمل بجنبها حسنة فإنّها بعشر أمثالها فقلت: يا رسول اللّه لا إله إلّا اللّه من الحسنات؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هي أحسن الحسنات.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من نعمه الواصلة في الدنيا و الآخرة.

[سورة الرحمن (55): الآيات 62 الى 78]

وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)

حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (78)

[وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ مبتدأ و خبر أي و من دون تينك الجنّتين الموعودتين للخائفين جنّتان أخريان لمن دونهم من أصحاب اليمين فالخائفون قسمان: المقرّبون و أصحاب اليمين و هم دون المقرّبين بحسب الفضائل العلميّة و العمليّة فدون بمعنى الأدنى مرتبة و منزلة لا بمعنى غير فالجنّتان الأوليان أفضل من الأخريين لفضل المقرّبين على

ص: 18

الأبرار و قيل: دون ليس من الدناءة بل من الدنوّ و هو القرب أي و من دون هاتين الجنّتين إلى العرش أقرب إليه، و حمل بعض المفسّرين على معنى الغير قالوا: و لكلّ رجل و امرأة من أهل الجنّة أربع جنان في الجهات الأربع ليتضاعف له السرور بالتنقّل من جنّة إلى جنّة.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا ذكر من الجنّات.

[مُدْهامَّتانِ صفة لجنّتان ادهام الشي ء يدهامّ ادهيماما فهو مدهامّ اسودّ و الأدهم الأسود فقوله: «مُدْهامَّتانِ» أي علا لونهما سواد و دهمة من شدّة الخضرة و الري و إن شئت قلت: خضراوان تضربا إلى السواد من شدّة الخضرة.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حيث تمتّع أبصاركم بخضرة هاتين الجنّتين.

[فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ نضخ الماء اشتدّ فورانه من ينبوعه أي في الجنّتين عينان فوّارتان بالماء لا ينقطعان و هذا يدلّ على فضل الجنّتين الأوليين على الأخريين لأنّه قال سبحانه في الأوليين: يجريان، و في الأخيرتين: نضّاختان، و النضخ دون الجري.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من الصفاء و الريّ.

[فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ عطف الأخيرين على فاكهة كعطف جبرئيل و ميكائيل على الملائكة بيانا لفضلهما فإنّ ثمرة النخل فاكهة قال ابن عبّاس: نخل الجنّة جذوعها زمرّد أخضر و كريها ذهب أحمر و سعفها كسوة لأهل الجنّة منها حللهم و ثمرها كالدلاء أشدّ بياضا من اللبن و أحلى من العسل و ألين من الزبد ليس له عجم كلّما نزعت و قطعت ثمرة عادت فكأنّها اخرى و أنهارها يجري من غير أخدود و قال عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام: ما من حبّة من الرمّان تقيم في جوف مؤمن إلّا أنارت قلبه و أخرجت شيطان الوسوسة منه أربعين يوما. قيل: و أجوده الكبار الحلو المليس و أظنّ أن معنى الحلو المليس ما يغلب حلاوته على طعم حموضته و هو حارّ رطب يلين الصدر و يجلو المعدة و ينفع من الخفقان و يزيد في الباءة، و ثمرة النخل فاكهة و غذاء و الرمّان

ص: 19

فاكهة و رواء. في الكافي عن الصادق عليه السّلام: الفاكهة مائة و عشرون لونا سيّدها الرمّان.

في الفقيه عن الصادق عليه السّلام: «الخيرات الحسان» من نساء أهل الدنيا و هنّ أجمل من حور العين. القميّ قال: جوار نابتات على شطّ الكوثر كلّما أخذت منها واحدة نبتت اخرى قال الصادق عليه السّلام: في قول الرجل: جزاك خيرا يعني به أنّ خيرا نهر في الجنّة مخرجه من الكوثر و الكوثر مخرجه من ساق العرش عليه منازل الأوصياء و شيعتهم و على حافتي ذلك النهر جوار نابتات سمّين باسم ذلك النهر و ذلك قوله تعالى: «فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ» فإذا قال الرجل لصاحبه: جزاك اللّه خيرا فإنّما المعنى رزقك اللّه تلك المنازل الّتي أعدّها اللّه لصفوته.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حيث هيّأ لكم ما به تلتذّون من الفواكه.

[فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ و خيرات مخفّفة من خيّرات جمع خيّرة لأنّ خير الّذي بمعنى أخير لا يجمع و لا يقال: خيرون و لا خيرات، و معنى خيرات منتخبات و مصطفيات و ليس فيهنّ ما يشينهنّ من القبائح و العاهات لا ذربات و طمّاحات و لا طوّافات و لا متشوّفات [حِسانٌ أي حسان الخلق و الخلق و في الحديث لو أنّ امرأة من نساء أهل الجنّة أطلعت على السماوات و الأرض لأضاءت ما بينهما و لملأت ما بينهما ريحا و لعصابتها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها و لو أنّ حوراء بزقت في بحر لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها و يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، الراضيات فلا نسخط و الخالدات فلا نبيد قيل:

المراد من خيرات الحوراء و قيل: المؤمنات.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و قد أنعم عليكم بما تستمتعون من هذه النساء.

[حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ بدل من خيرات جمع حوراء و هي البيضاء أو شديدة سواد العين قصرن في خدورهنّ لا يظهرن لغير المحارم و إن لم تكن الجنّة دار التكليف.

و الخيام جمع خيمة و هي القبّة المضروبة على الأعواد و لا تشبه خيام الدنيا إلّا بالاسم لأنّ الخيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة عرضها ستّون ميلا في كلّ زاوية منها أهلون ما

ص: 20

يرون إلّا حين يطوف عليهم المؤمنون و المعنى إنّهنّ مستورات في الحجال و يصف اللّه جواري جنانه الّتي خلقهنّ لخدمة أوليائه و ألبسهنّ لباس نوره و أجلسهنّ على سرير أنسه في حجال قدسه و ضرب عليهن خيام الدرّ و ينتظرن أزواجهنّ.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و قد خلق من النعم ما هي مقصورة لكم.

[لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ كالّذي مرّ نظيره و الأوّل في أزواج المقرّبين و هذا في أزواج الأبرار أو التكرار زيادة التشويق و الرغبة [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مع أنّها ليست كنعم الدنيا إذ قد يطمث المرأة في الدنيا فيا لها من طيب وصالها و براعة جمالها فالعقول فيها حيارى و القلوب سكارى.

[مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ] حال صاحبه المؤمنون، رفرف اسم جمع واحده رفرفة أو اسم جنس ضرب من البسط أو الوسائد أو هو ما تدلّى من الأسرّة أو ضرب من الثياب تتّخذ منه المجالس و تبسط و فضول الفرش و الرقيق من الديباج خضر جمع أخضر أحد الألوان نعت لرفرف.

[وَ عَبْقَرِيٍ عطف على رفرف و المراد الجنس قيل: عبقر موضع كثير الحسن و قرية نباتها في غاية الحسن و العبقريّ ضرب من البسط و موضع للحسن ينسب إليه كلّ نادر من إنسان و حيوان و ثوب، جعل مثلا لفرش أهل الجنّة و في التكملة عبقر اسم موضع يصنع فيه الوشي كانت العرب إذا رأت شيئا عجيبا نسبته إليه فخاطبهم اللّه على عادتهم و قيل: عبقر اسم رجل كان بمكّة يتّخذ الزرابيّ و يجيدها فنسب إليه كلّ شي ء جيّد «حسان» جمع حسن حملا على المعنى، و قيل: الرفرف فراش في الجنّة إذا استقرّ عليه المؤمن طاربه من فرحه و شوقه يمينا و شمالا و حيثما يريده المؤمن.

و روي في حديث المعراج أنّ رسول اللّه لمّا بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله من جبرئيل و طاربه نحو العرش فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه طاربي يخفضني و يرفعني حتّى وقف بي على ربّي و لمّا حان الانصراف تناوله فطار به خفضا و رفعا يهوي به حتّى أدّاه إلى جبرئيل فالرفرف خادم في الجنّة للمؤمنين مختصّ بخواصّ الأمور.

[فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و قد هيّأ لكم ما تتّكئون عليه.

ص: 21

[تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تنزيه و ثبوت لجلاله تعالى لما ذكر في السورة من آلائه الفائضة على المؤمنين و ارتفع شأنه عن جحود نعمائه و تكذيبها و هذا الموضع ممّا أريد فيه بالاسم المسمّى أو المراد الاسم فإذا كان الاسم حاله كذلك بالتبعة فكيف المسمّى؟ [ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ و العظمة و الكبرياء و يكرم أولياءه بهذه الكرامات و قيل: معنى الآية فاطلبوا البركة في كلّ شي ء بذكر اسمه و انطقوا بيا ذا الجلال و الإكرام و داوموا عليه

ص: 22

سورة الواقعة

اشارة

مكّيّة إلّا آية مدنيّة و هي «وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ».

عن ابيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه: من قرأ سورة الواقعة كتب أنّه ليس من الغافلين.

و روي أنّ عثمان بن عفّان دخل على عبد اللّه بن مسعود يعوده في مرضه الّذي مات فيه فقال: ما تشتكي قال: ذنوبي قال: ما تشهّي قال: رحمة ربّي قال: أفلا تدعو الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني قال: أفلا نأمر بعطائك؟ قال: منعتنيه و أنا محتاج إليه و تعطنيه و أنا مستغن عنه؟ قال: يكون لبناتك قال: لا حاجة لهنّ فيه فقد أمرتهنّ أن يقرأن سورة الواقعة فإنّي سمعت رسول اللّه يقول: من قرأ سورة الواقعة كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبدا.

و روى العيّاشيّ بالإسناد عن زيد الشحّام عن الباقر عليه السّلام قال: من قرأ الواقعة قبل أن ينام لقى اللّه و وجهه كالقمر ليلة البدر.

عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ الواقعة في كلّ ليلة الجمعة أحبّه اللّه و حبّبه إلى الناس و لم ير في الدنيا بؤسا أبدا و لا فقرا و لا آفة من آفات الدنيا و كان من رفقاء أمير المؤمنين عليه السّلام. تمام الخبر.

ص: 23

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)

وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)

وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)

عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)

الظرف منصوب بفعل محذوف تقديره اذكروا حين وقوع الحادثة و القيامة و هي الصيحة عند النفخة الأخيرة يكون من الأحوال ما لا يفي به المقال سمّاها واقعة مع أنّ دلالة اسم الفاعل على الحال لتحقّق وقوعها.

[إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ] الهائلة [لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ] يكنّى عن الحرب بالوقعة و كلّ أمر شديد يعبّر عنه بذلك قيل: سمّيت القيامة بالواقعة لصونها أي لا يكون عند وقوعها نفس تكذّب على اللّه و يفتري بالشريك و الولد و الإنكار للقيامة إذ ليس لمجيئها كذب و يقع صدقا إذ كلّ نفس حينئذ مؤمنة صادقة و قيل: كاذبة مصدر كالعاقبة بمعنى التكذيب.

[خافِضَةٌ] أي القيامة خافضة لأقوام [رافِعَةٌ] لآخرين و هو تقرير لعظمة ذلك اليوم فإنّ الوقائع العظام يرتفع فيها أناس إلى مراتب و يتّضع أناس و تقديم الخفض على الرفع للتشديد في التهويل و إنّ القيامة يخفض أقواما كانوا مرتفعين في الدنيا و يرفع أقواما كانوا متّضعين فيها بسبب تقواهم لأنّ جماعة يؤتي بهم بالذلّة و الأغلال و السلاسل و جماعة بالمراكب و الحليّ و الحلل.

[إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا] الرجّ تحريك الشي ء و اضطرابه أي يحصل الخفض

ص: 24

و الرفع إذا حرّكت الأرض تحريكا شديدا بحيث يهدم ما كان عليها من جبل و بناء و لا تسكن زلزلتها حتّى تلقى جميع ما في بطنها على ظهرها.

[وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا] أي فتّت حتّى صارت كالسويق الملتوت من بسّ السويق إذا التّه و المعنى مأخوذ من بسّ الغنم إذا أسيقت من أماكنها.

[فَكانَتْ أي فصارت بسبب ذلك [هَباءً] غبارا و الغبار ما يسطع من سنابك الخيل و الّذي يرى من شعاع الكوّة و ما ذرته الريح من الأوزان [مُنْبَثًّا] منشرا متفرّقا و في التفسير إنّ اللّه يبعث ريحا من تحت الجنّة فتحمل الأرض و الجبال و تضرب بعضها ببعض و لا يزال كذلك حتّى تصير غبارا و يسقط ذلك الغبار على وجوه الكفّار و ذلك قوله تعالى:

«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ».

[وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً] و الخطاب للامّة الحاضرة و الأمم السالفة لكن للحاضرة وقع الخطاب تغليبا «أزواجا» أي أصنافا [ثَلاثَةً] صنفان في الجنّة و واحد في النار.

[فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ] تقسيم للأزواج الثلاثة «فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» مبتدء و خبر ما أصحاب الميمنة على أن ماء الاستفهامية مبتدء ثان و ما بعده خبره أي أيّ شي ء هم في حالهم و المراد تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة و العظامة نحو زيد و أيّ زيد فهم أهل المنزلة السيّئة و أصحاب المشأمة هم أصحاب المنزلة الدنيّة أخذا من التيامن بالميامن و تشؤّمهم بالشمائل كما يقول: فلان منّي باليمين و الشمال إذا أوصفته بالرفعة و الضعة أو الّذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم و الّذين يؤتون صحائفهم بشمائلهم أو الّذين يكونون يوم القيامة على يمين العرش فيأخذون طريق الجنّة و الّذين يكونون على شمال العرش فيجي ء بهم إلى النار.

[وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هم القسم الثالث من الأزواج الثلاثة و أصل السبق التقدّم في السير ثمّ تجوّز به في غيره من التقدّم و الجملة مبتدأ و خبر مثل قوله:

«أنا أبو النجم و شعري شعري» أو السابقون الأوّل مبتدأ و الثاني تأكيد له كرّر تعظيما لهم و الخبر جملة «أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» و قيل: التقدير السابقون ما السابقون فحذف «ما» لدلالة

ص: 25

ما قبله عليه و المراد بالسبق الّذين سبقوا إلى الإيمان و الطاعة من غير توان و حازوا الكمالات الدينيّة و الفضائل اليقينيّة.

[أُولئِكَ الموصوفون بذلك النعت الجليل [الْمُقَرَّبُونَ درجاتهم و علت مراتبهم و رفعت إلى حظائر القدس نفوسهم [فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي كائنين في جنّات النعيم متعلق بالمقرّبون.

و قد قيل في السابقين: المراد السابقين إلى الإيمان أو الهجرة و قيل: إلى الصلوات الخمس عن عليّ عليه السّلام و قيل: إلى الجهاد و قيل: إلى التوبة و أعمال البرّ و إلى كلّ ما دعا اللّه إليه و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: السابقون أربعة ابن آدم المقتول و سابق في أمّة موسى و هو حزبيل مؤمن آل فرعون و سابق امّة عيسى و هو حبيب النجّار صاحب أنطاكية و السابق في امّة محمّد عليّ بن أبي طالب و قال كعب: هم أهل القرآن المتوجّون يوم القيامة فإنّهم كادوا أن يكونوا أنبياء إلّا أنّهم لا يوحى إليهم و المراد بأهل القرآن الملازمون لقراءته و العاملون به و قيل: الناس ثلاثة: فرجل ابتكر الخير في حداثة سنّه ثمّ داوم عليه حتّى خرج من الدنيا فهو السابق المقرّب، و رجل ابتكر عمره بالذنب طول الغفلة ثمّ تراجع بتوبة فهذا صاحب اليمين و رجل ابتكر شرّا في حداثة سنّه ثمّ لم يزل عليه حتّى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال.

[ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي هم جماعة كثيرة العدد من الأوّلين من الأمم الماضية [وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ من أمّة محمّد لأنّ من سبق إلى إجابة نبيّنا قليل بالإضافة إلى من سبق إلى إجابة الأنبياء قبله و لا يخالفه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أمّتي يكثّرون سائر الأمم أي يغلبونهم فإنّ أكثريّة سابقي الأمم السالفة من سابقي هذه الامّة لا تمنع أكثريّة تابعي هؤلاء من تابعي أولئك مثل أن يكون سابقو امم السابقة ألفين و تابعوهم ألف المجموع ثلاثة آلاف و يكون سابقو هذه الامّة ألفا و تابعوهم ثلاثة آلاف فالمجموع أربعة آلاف فرضا و هذا المجموع أكثر من من المجموع الأوّل و في الحديث أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة.

[عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ] حال اخرى من المقرّبين و السرر جمع سرير، المشبّكة

ص: 26

بالدرّ و الياقوت المنسوجة المتواصلة من الوضن و هو نسج الدرع و استعير لكلّ نسج محكم.

[مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ أي مستقرّين على سرر متّكئين عليها و قاعدين قعود الملك متقابلين لا ينظر بعضهم من أقفاء بعض و هو وصف لهم بحسن العشرة و تهذيب الأخلاق و الآداب.

[سورة الواقعة (56): الآيات 17 الى 26]

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ (19) وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)

وَ حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)

[يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي يدور حولهم للخدمة حال الشرب و غيره [وِلْدانٌ جمع وليد و خدمة الوليد أمتع من خدمة الكبير [مُخَلَّدُونَ أي مبقون أبدا على شكل الولدان و طراوتهم لأنّهم خلقوا للبقاء لا للفناء قيل في الأسئلة المفخمة: هؤلاء هل يدخلون تحت قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (1)»*؟ فالجواب أنّهم لا يموتون فيها بل يلقي بين النفختين نوم و قيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابون عليها و لا سيّئات فيعاقبون عليها و قيل: أولاد الكفّار خدّام أهل الجنّة، و قيل في معنى [مُخَلَّدُونَ : مقرطون و الخلد القلادة و السوار و القرط لأنّهم في حدّ الوصافة.

[بِأَكْوابٍ من الذهب و الجواهر لا عرى لها و لا خراطيم الواسعة الرأس و لا يعوق الشارب منها عائق عن شرب من أيّ موضع أراد منها [وَ أَبارِيقَ جمع إبريق و هو الّذي له عروة و خرطوم و قيل: هي عجميّة معرّبة آبريز أو الكوب للماء و الإبريق للغسل و الكأس للشرب من الخمر.

[وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ من خمر جارية من العيون و الكأس القدح إذا كان فيها شراب و إلّا فهو قدح و معنى الماء إذا جرى فهو فعيل بمعنى فاعل أو المعنى ظاهرة تراها العيون في الأنهار فيكون بمعنى المفعول من المعاينة من عانه إذا شخّصه و إفراد الكأس و جمع

ص: 27


1- آل عمران: 185.

الأكواب و الأباريق لأنّ العادة جرت على تعدّد الأواني و الشرب يكون بكأس واحدة [لا يُصَدَّعُونَ عَنْها] الصدع شقّ في الأجسام الصلبة كالزجاج و الحديد و منه الصداع و هو الانشقاق في الرأس من الوجع أي لا ينالهم بسبب شوبها صداع كما ينالهم ذلك من خمر لدنيا [وَ لا يُنْزِفُونَ أي لا يسكرون و لا تذهب عقولهم أو المراد لا ينفد شرابهم فالنفاد إمّا للعقل أو للشراب.

[وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ يأخذون خيره و أفضله من ألوانها و هو عطف على قوله: «بِأَكْوابٍ» أي يطوف عليهم ولدان بفاكهة ثمّ ذكر اللحم الّذي هو سيّد الإدام.

[وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يتناولون من لحوم الطير مشويّا أو مطبوخا بما يشتهون منها على حسب ميلهم و إرادتهم لا أنّهم مضطرّون و كارهون بل مشتهون.

[وَ حُورٌ عِينٌ عطف على ولدان أو مبتدء محذوف الخبر أي و لهم حور عين و حور جمع حوراء و هي الشديدة بياض العين و الشديدة سوادها و عين جمع عيناه و هي الواسعة الحدقة الحسنة [كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ صفة لحور، مثل الدرّ المصون في الصدف لم تمسّه الأيدي.

[جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مفعول له أي يفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم في الدنيا و يروى أنّ عقد ياقوتها يضحك في نحرها و في رجيلها نعلان شراكهما من لؤلؤ تصوّتان بالتسبيح على كلّ حوراء سبعون حلّة ليست منها حلّة على لون الاخرى و سبعون لونا من الطيب ليس منها لون على لون الآخر لكلّ امرأة سبعون سريرا من ياقوت أحمر منسوجة بالدرّ على كلّ سرير سبعون فراشا بطائنها من إستبرق و فوق السبعين فراشا سبعون أريكة لكلّ امرأة منهنّ سبعون وصيفة بيد كلّ وصيفة صفحتان من ذهب فيها لون من طعام يجد لآخر لقمة منه لذّة لا يجدها لأوّلها و يعطي لزوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر عليه سوارات من ذهب موشّح بالجواهر.

[لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً] أي باطلا و اللغو السقط من الكلام و ما لا يعتدّ به و ما يرد من الكلام لا عن رويّة و فكر و اللغا صوت العصافير و نحوها من الطيور [وَ لا تَأْثِيماً] أي لا

ص: 28

يقال لهم: أثمتم و الإثم اسم للأفعال البعيدة عن الثواب.

[إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً] و الاستثناء منقطع أي لكنّهم يسمعون فيها قولا سلاما سلاما أي سماعهم السلام فيسلّمون سلاما بعد سلام و لا يسمع كلّ من المسلّم و المسلّم عليه إلّا سلام الآخر بدءا و ردّا المشتمل على السلامة من الزوال و النقائص.

سلام من الرحمن نحو جنابه فإنّ سلامي لا يليق ببابه

[سورة الواقعة (56): الآيات 27 الى 40]

وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ (31)

وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ (33) وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)

عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

شروع في تفصيل ما أجمل في التقسيم بعد بيان شؤون السابقين فقال:

[وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ مبتدء و خبره جملة قوله: [ما أَصْحابُ الْيَمِينِ أي لا تدري ما لهم من الخير بسبب كوامل محاسنهم [فِي سِدْرٍ] أي هم في سدر [مَخْضُودٍ] غير ذي شوك ليس كسدر الدنيا كأنّه خضد و نزع عنه شوكه أو المعنى تثنى أغصانه لكثرة حمله من حصد الغصن إذا ثنّاه و السدر شجر النبق ثمر معروف عند العرب محبوب و يستظلّ به فجعل ذلك مثلا بظلّ أهل الدنيا و نعيمها.

[وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ] قد نضد حمله و تراكب بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه ليست له سوق بارزة و هو شجر الموز و هو شجر له أوراق كبار و ظلّ بارد و قيل: هو امّ غيلان له أنوار كثيرة منتظمة طيّبة الرائحة تقصد العرب منه النزهة و إن كان لا يؤكل منه شي ء قال مجاهد: كان لأهل الطائف واد معجب فيه الطلح و السدر و قالوا: يا ليت لنا في الجنّة مثل هذا الوادي! فنزلت هذه الآية.

[وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ] ممتدّ لا ينقص و لا يتفاوت مثل ما بين الطلوعين و في الحديث: في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام و لا يقطعها و يمكن أن يراد من معنى الظلّ الحفظ يقول: فلان في ظلّ فلان أيّ كنفه و حفظه و يمكن أن يكون المراد من الظلّ الراحة كما في قوله تعالى: «وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (1)» لأنّه إنّما يجلس المرء في

ص: 29


1- النساء: 56.

الظلّ للاستراحة.

[وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ أي يصبّ أينما شاءوا و كيفما أرادوا بلا تعب و مسكوب سائل تجري على الأرض من غير أخدود.

[وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ] بحسب الأنواع و الأجناس [لا مَقْطُوعَةٍ] في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا [وَ لا مَمْنُوعَةٍ] عن متناوليها بوجه من الوجوه من العبد و الشوك أو حائط يمنع عن التناوش.

[وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ] أي رفيعة القدر أو مرتفعة و ارتفاعها كما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام أو مرفوعة على الأسرّة و قيل: الكناية عن النساء رفعت عن نساء الدنيا جمالا و شأنا في الحديث الولد للفراش و حينئذ ارتفاعها كونهنّ على الأرائك بقرينة قوله: [إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً] و على المعنى الأوّل لدلالة ذكر الفرش الّتي هي المضاجع عليهنّ و المعنى ابتدأنا خلقهنّ ابتداء جديدا من غير ولادة و في الحديث هنّ اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا رمصا شميطا جمع شمطاء و الشمط بياض شعر الرأس يخالطه سواد و رمص جمع رمصاء و الرمص بالتحريك وسخ يجتمع في الموق جعلهنّ اللّه بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد كلّما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا فلمّا سمعت عائشة ذلك فقالت: وا وجعاه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس هناك وجع.

[فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً] بعد أن كنّ عجائز أبكارا أي عذارى، جمع بكر و المصدر البكارة بالفتح و البكرة أوّل النهار لتقدّمها على سائر أوقات النهار و سمّيت الّتي لم تفتضّ بكرا اعتبارا بالشيب لتقدّمها عليها.

[عُرُباً أَتْراباً] جمع عروب كرسل جمع رسول أي تبيّن محبّتها لزوجها بشكل و غنج و حسن تعرّبه بمحبّة زوجها و قيل: كلامهم عربيّ أترابا جمع ترب أي مستويات في السنّ و اللذة في سنّ ثلاث و ثلاثين سنة و كذا أزواجهنّ و القامة ستّون ذراعا في سبعة أذرع على قامة أبيهم آدم و في الحديث إنّ الرجل ليفتضّ في الغداة سبعين عذراء ثمّ ينشئهنّ اللّه أبكارا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الرجل من أهل الجنّة ليتزوّج خمسمائة حوراء و أربعة آلاف ثيّب و ثمانية آلاف بكر يعانق كلّ واحدة منهنّ مقدار عمره في الدنيا و أدنى

ص: 30

أهل الجنّة الّذي له ثمانون ألف خادم و اثنتان و سبعون زوجة و ينصب له قبّة من الجواهر كما بين الجابية إلى صنعا، و الجابية بلد بالشام.

[لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلّق بأنشأنا [ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي هم امّة من الأوّلين و امّة من الآخرين و قيل: المراد من الثلّتين امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على هذا القول الثلاثة الاولى المقدّمون في التقوى و التابعون بإحسان و من يجري مجراهم و أمّا الّذين أنزل منهم في العمل فهم الثلاثة الأخيرين روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّي لا أرجو أن يكونوا شطر أهل الجنّة ثمّ تلا: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» قال الحسن البصريّ: رأيت سبعين بدريّا كانوا فيما أحلّ اللّه لهم أزهد منكم فيما حرّم اللّه عليكم و كانوا بالبلاء أشدّ منكم فرحا بالرخاء لو رأيتموهم قلتم: مجانين و لو رأوا أخياركم قالوا: ما لهولاء من خلاق و لو رأوا أشراركم حكموا بأنّهم لا يؤمنون بيوم الحساب إن عرض عليهم الحلال من المال تركوه خوفا من فسادهم قلوبهم انتهى.

[سورة الواقعة (56): الآيات 41 الى 56]

وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ (42) وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَ لا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)

وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)

هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

[وَ أَصْحابُ الشِّمالِ شروع في تفصيل أحوالهم و هم الكفّار لقوله تعالى: «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ» [ما أَصْحابُ الشِّمالِ أي لا تدري ما لهم من شدّة الحال يوم القيامة.

[فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ أي هم في حرّ نار ينفذ في المسامّ و ثقوب البدن و السموم الريح الحارّة يكون غالبا في النهار و الحرور الريح الحارّة يكون بالليل و الحميم الماء المتناهي في الحرارة و الفور.

قوله: [وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ من دخان أسود بهيم يقول العرب أسود يحموم إذا كان

ص: 31

شديد السواد [لا بارِدٍ] كسائر الظلال [وَ لا كَرِيمٍ و لا نافع من أذى الحرّ لمن يأوي إليه نفى بذلك ما أوهم الظلّ من الاسترواح، و في الآية تهكّم بأصحاب المشأمة أنّهم لا يستأهلون للظلّ البارد.

[إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ تعليل لابتلائهم، ترف أي تنعّم و أترفته النعمة أطغته أي إنّهم كانوا قبل ذلك ممّا ذكر من سوء العذاب شغلوا أنفسهم بالنعم و تركوا الواجبات طلبا لراحة أبدانهم منهمكين في الشهوات.

[وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ أي الذنب العظيم الّذي هو الشرك و منه بلغ الغلام الحنث أي وقت المؤاخذة بالذنب و حنث في يمينه خلاف برّ فيها و قيل:

الحنث هنا الكذب لأنّهم كانوا مع شركهم يحلفون باللّه لا يبعث اللّه من يموت.

[وَ كانُوا يَقُولُونَ لغاية جهلهم و عتوّهم: [أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً] بعد الموت و كان أعضاؤنا من اللحم و الجلد ترابا و بعضها عظاما و تقديم التراب على العظام للاستبعاد [أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي لا يكون البعث لنا [أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الواو للعطف على الضمير في مبعوثون و مرجع المعنى أنّنا و آباءنا لا نبعث بعد تلك الحالة.

[قُلْ يا محمّد ردّا لهم: [إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ من الأمم الّذين من جملتهم أنتم و آباؤكم [لَمَجْمُوعُونَ بعد الموت [إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ و التعدية بإلى ضمّن فيه معنى السوق معلوم عند اللّه وقته و الإضافة بمعنى من كخاتم فضّة و الميقات هو الوقت المضروب للشي ء ينتهي عنده أو يبتدأ منه و الميقات قد يستعار للمكان و منه مواقيت الإحرام للحدود المعيّنة.

[ثُمَّ إِنَّكُمْ و ثمّ للتراخي زمانا أو رتبة الخطاب لأهل مكّة و أمثالهم [أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن الهداية و الصواب [الْمُكَذِّبُونَ بآيات اللّه و البعث [لَآكِلُونَ بعد الجمع و البعث [مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ من الاولى لابتداء الغاية و الثانية بيانيّة أي مبتدئون الأكل من شجر هو الزقّوم تخرج من قعر جهنّم.

[فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي تملئون بطونكم منها من شدّة الجوع أو بالقسر و لا يكتفي منكم بالأكل بل لا بدّ و ملزمون بأن تملئوا منها بطونكم.

ص: 32

[فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أي على أكل الزقّوم و عقيبه بلا ريث لعطشكم الغالب [مِنَ الْحَمِيمِ. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ الماء الحارّ الشديد في الحرارة و لا يكون شربكم شربا معتادا بل مثل الا بل الّتي بها الهيام و هو داء يصيبها يشبه الاستسقاء فتشرب و لا تروي حتّى أن تموت.

[هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ أي الّذي ذكر من الزقّوم و الحميم رزقهم المعدّ لهم كالنزل الّذي يعدّ للضيف تكرمة له [يَوْمَ الدِّينِ أي يوم الجزاء.

[سورة الواقعة (56): الآيات 57 الى 74]

نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70) أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)

أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

[نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فهلّا تصدّقون على الإعادة فإن من قدر على الإبداء قدر على الإعادة و اعلم أنّ اللّه تعالى إذا أخبر عن نفسه بلفظ الجمع يشير به إلى ذاته و صفاته و أسمائه كما قال: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (1)» و إذا أخبر عن نفسه بلفظ المفرد يشير به إلى ذاته المطلقة كما قال: «إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (2)» هذا إذا كان المخبر هو اللّه و أمّا إذا كان العبد فينبغي أن يقول: أنت يا ربّ لا أنتم لإيهام الشرك المنافي لتوحيد القائل و لذا يقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه ليدلّ على شهادته بخصوصه.

[أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي أخبروني ما تقذفونه في أرحام النساء من النطف و ما تمنون مفعول الأوّل يقال: أمنى الرجل يمني و منيت الشي ء إذا قضيته و سمّي المنيّ منيّا لأنّ الخلق منه يقضي.

ص: 33


1- يوسف: 12 و 63.
2- القصص: 30.

[أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي تقدّرونه و تصوّرونه بشرا و هذه الجملة الاستفهاميّة مفعول ثان [أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ له من غير دخل شي ء فيه و أم قيل: منقطعة لأنّ ما بعدها جملة و المعنى بل نحن الخالقون و الاستفهام للتقرير و قيل: متّصلة و مجي ء الخالقون بعد نحن بطريق التأكيد لا بطريق الخبريّة.

[نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وقّتنا موت كلّ أحد بوقت معيّن حسبما تقتضيه الحكمة [وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أي لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم و نأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق و قادرون على ذلك.

[وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ من الخلق و الأطوار و لسنا عاجزين عن خلق أمثالكم بدلا منكم أو تغيير صوركم إلى غيرها كما فعلنا بمن قبلكم من القردة و الخنازير كاليهود و الآية تشعر إلى الوعيد و إنشائهم من خلق لا يعلمونها من الألوان و الأشكال و في الحديث إنّ أهل الجنّة جرد مرد و إنّ الجهنّميّ ضرسته مثل احد، أ ما تخاف أن يجعلك من القردة و الخنازير و أنت تقرء كلّ صباح و مساء في ذمّ اليهود بقوله تعالى:

«يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ» تعني بذلك ما غيّروا حكم اللّه في الزنا من الرجم إلى أربعين جلدة و كذا غيّروا حكم القود من القتل إلى الدية حتّى كثر القتل فيهم؟ و أنت يا شرّ اليهود غيّرت أحكاما فاستعدّ جوابا.

[وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ] أي الخلقة [الْأُولى هي خلقتهم من نطفة ثمّ من علقة أو فطرة آدم من التراب [فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ فهلّا تتذكّرون أنّ من قدر عليها قدر على غيرها فإنّها أقلّ صنعا لحصول الموادّ و سبق المثال.

[أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أخبروني ما تبذرونه من الحبّ و تعملون في الأرض بالسقي و نحوه و الحرث إلقاء البذر في الأرض [أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ و تردّونه نباتا يربو و ينمو [أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المنبثّون لا أنتم، و الزرع الإنبات و ذلك بالأمور الإلهيّة دون البشريّة و لذا نسب الحرث إليهم و نفى عنهم الزرع و نسبه إلى نفسه، و في الحديث:

لا يقولنّ أحدكم: زرعت و ليقل: حرثت فإنّ الزارع هو اللّه.

[لَوْ نَشاءُ] لو للماضي و إن دخل على المضارع و لذا لا يجزمه فهو شرط غير جازم

ص: 34

أي لو أردنا [لَجَعَلْناهُ أي الزرع بمعنى المزروع [حُطاماً] الحطم كسر الشي ء مثل الهشم و يستعمل في كلّ كسر متناه المعنى يابسا متكسّرا متفتّتا بعد ما أنبتناه.

[فَظَلْتُمْ أي فصرتم بسبب ذلك [تَفَكَّهُونَ أي تتعجّبون من سوء حاله أثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون و تندمون علي ما فعلتم فيه و أنفقتم عليه أو تندمون على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتحدّثون فيه و التفكّه التنقّل بصنوف الفاكهة و يستعار للتنقّل بالحديث و قرئ تفكّنون بالنون و التفكّن التعجّب و التندّم [إِنَّا لَمُغْرَمُونَ حال من فاعل تقكّهون أي قائلين: إنّا ملزمون بغرامة ما أنفقنا أو المعنى إنّا مهلكون بهلاك رزقنا [بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ لا جدّ و لا نصيب لنا و حرمنا رزقنا و لو كنّا مجدودين لما فسد علينا هذا.

روي عن أنس بن مالك قال: مرّ رسول اللّه بأرض الأنصار فقال: ما يمنعكم من الحرث؟ قالوا: الجدوبة قال: أفلا تعقلون فإنّ اللّه يقول: أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء و إن شئت زرعت بالريح و إن شئت زرعت بالبذر ثمّ تلا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ» الآية.

و في الحديث إشارة إلى أنّ اللّه هو الّذي يعطي و يمنع بأسباب و بغيرها فالتوحيد هو أن يعتقد أنّ التأثير من اللّه لا من غيره كالكوكب و في الحديث ما سنة بأمطر من أخرى و لكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل اللّه ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف اللّه ذلك إلى الفيافي (1) و البحار.

[أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أخبروني الماء الّذي تشربون عذبا فراتا [أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ السحاب إذا السحاب الأبيض و ماؤه أعذب [أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ له بقدرتنا.

[لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً] ملحا زعافا لا يمكن شربه و حذف اللام هاهنا مع إثباتها في الشرطيّة الاولى لتقدّم أمر المطعوم على المشروب و الوعيد بفقد المطعوم أصعب من من الوعيد بالمشروب فإنّ المشروب إنّما يحتاج إليه تبعا للمطعوم [فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ فهلّا تشكرون بتوحيد منعمه و إطاعة أمره؟ء.

ص: 35


1- جمع الفيفاء: الصحراء.

و عن ابن عبّاس إنّ تحت العرش بحرا تنزل منه أرزاق الحيوانات يوحي اللّه إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتّى ينتهي إلى سماء الدنيا و يوحي إلى سماء الدنيا أن غربليه فتغربله فليس من قطرة تقطر إلّا و معها ملك يضعها موضعها و لا تنزل قطرة إلّا بكيل معلوم إلّا ما كان من يوم الطوفان فإنّه نزل بغير كيل و وزن و كان صلّى اللّه عليه و آله يكشف رأسه عند عند نزول المطر و يقول: حديث عهد بربّه.

[أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي أخبروني النار الّتي تخرجونها بسبب قدح الزناد أو بسبب قدح آخر و تشعلونها و العرب تقدح بعودين تحكّ أحدهما على الآخر يسمّون الأعلى الزند و الأسفل الزندة شبّهوهما بالفحل و الطروقة [أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها] الّتي منها الزناد و هي المرخ و العفار [أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ لها بقدرتنا.

[نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً] استيناف لبيان منافعها أي جعلنا نار الزناد تبصرة في أمر البعث فإنّ أمر البعث ليس أبدع من إخراج النار من الشجر الرطب و هو حجّة على منكري عذاب القبر حيث تضمّن النار ما لا يحرق ظاهره لكنّ النار حاصله و مؤثّره لكنّ الأثر غير بيّن أو المعنى أنّ هذه تذكرة لما أوعدوا به من نار جهنّم لينظروا إليها و يتذكّروا [وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ أي بلغة و منفعة للمسافرين و الّذين ينزلون القواء بالفتح و هو القفر الخالي من العمارة و تخصيصهم بذلك لأنّهم أحوج إليها لأنّ المقيمين في العمارة ليسوا بمضطرّين إلى الاقتداح و عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه: إنّ أدنى أهل النار عذابا الّذي يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه في رأسه.

[فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي أحدث التنزيه لربّك و نزّهه عمّا لا يليق به و قيل: معناه قل: سبحان ربّي العظيم فقد صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال: اجعلوا هذا الذكر في ركوعكم و الباء للاستعانة و قيل: المراد هنا تلاوة القرآن و شرّف عبيده بأن أمرهم بالتسبيح ليطهّروا أنفسهم بتسبيحه تعالى.

[سورة الواقعة (56): آية 75]

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75)

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75).

أي فاقسم و لا مزيدة للتأكيد و تقوية الكلام كقوله: «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» و يجوز أن يكون ردّا لما يقوله الكفّار في القرآن من أنّه سحر و شعر و كهانة ثمّ

ص: 36

استأنف القسم، و مواقع النجوم قيل: مطالعها و مساقطها و قيل: انكدارها و انتثارها يوم القيامة و قيل: هي الأنواء الّتي كان أهل الجاهليّة إذا امطروا قالوا: أمطرنا بنوء كذا قال الباقر و الصادق عليهما السّلام: إنّ مواقع النجوم رجومها للشياطين و كان المشركون يقسمون بها فحينئذ «لا» نافية فقال سبحانه: فلا اقسم بها. قرئ بموقع، أي عظم أمر من يحلف بها.

في الفقيه عن الصادق عليه السّلام المراد به اليمين بالبراءة من الأئمّه عليهم السّلام يحلف بها الرجل إنّ ذلك عند اللّه عظيم و قيل: المعنى اقسم بنزول القرآن فإنّه نزل نجما نجما متفرّقا عن ابن عبّاس.

[سورة الواقعة (56): الآيات 76 الى 87]

وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)

أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)

فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)

[وَ إِنَّهُ أي القسم المذكور [لَقَسَمٌ لو علمتم بموجبه لعظّمتموه و جواب القسم قوله: [إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ و هذه الجملة و هو قوله: «وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ» اعتراض بين القسم و جوابه أي الكتاب الكريم كثير النفع في صلاح المعاش و المعاد أو كريم عند اللّه و دالّ على مكارم الأخلاق و شرائف الأفعال أو كريم بسبب نزوله من عند كريم إلى أكرم الخلق.

[فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ و مصون عن غير المقرّبين إذ لا يطّلع عليه من سواهم لأنّه مستنسخ في اللوح المحفوظ [لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إمّا صفة اخرى للكتاب فحينئذ المراد بالمطهّرين الملائكة المنزّهون عن أوضار الأوزار أو صفة للقرآن فيكون نفيا بمعنى النهي أي لا ينبغي أن يمسه إلّا من كان على طهارة من الأدناس كالحدث و الجنابة و النفي بمعنى النهي مثل قوله عليه السّلام: المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه أي لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه إلى من يظلمه و قيل: (و القائل و القول كلاهما ضعيفان و هو محمّد

ص: 37

ابن فضيل من العامّة قال:) المراد من الطهارة هاهنا التوحيد يعني إنّ غير الموحّد لا يجوز أن يمسّه.

[تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة اخرى للقرآن مصدر بمعنى المفعول أي منزل مثل الخلق بمعنى المخلوق.

[أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ الّذي ذكرت صفاته و هو القرآن [أَنْتُمْ يا أهل مكّة [مُدْهِنُونَ أي مكذّبون أو أي متهاونون به و الإدهان عبارة عن المداراة و الملاينة و ترك الحدّ و الاستحقار و في الآية دلالة على حدوث القرآن.

[وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال ابن عبّاس: أصاب الناس عطش في بعض أسفاره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدعا فسقوا، فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء كذا فنزلت الآية و قيل:

المعنى تجعلون حظّكم من القرآن و شكر رزقكم الّذي رزقكم التكذيب بالقرآن و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: لو حبس اللّه القطر عن امّتي عشر سنين ثمّ أنزل لأصبحت طائفة تقول: سقينا بنوه كذا. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخوف ما أخاف على امّتي حيف الأئمّة و التكذيب بالقدر و الإيمان بالنجوم.

و في الحديث ثلاث من أمر الجاهليّة: الطعن في الأنساب و النياحة و الأنواء فالطعن معروف و النياحة البكاء على الميّت مع تعديد محاسنه و الأنواء جمع نوه المنازل الثماني و العشرون للقمر. و العرب كانت تعتقد أنّ الأمطار و الخير من الأنواء و آثارها و الصحيح أنّ الأنواء النجوم الّتي يسقط واحد منها في جانب المغرب وقت طلوع الفجر و يطلع رقيبه في جانب المشرق من ساعته. و بالجملة فللمؤمن أن يعتقد أنّ الخير بأمر اللّه و بيده و الأفلاك و الأنجم مسخّرات بأمره إن أراد كان و إن لم يشأ لم يكن.

[فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ للتحضيض لإظهار عجزهم قيل: الحلقوم مجرى النفس و البلعوم مجرى الطعام أي فهلّا إذا بلغت النفس أي الروح الحلقوم و تداعت إلى الخروج و الضمير كناية عن غير مذكور للدلالة [وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ و الحال أنتم أيّها الحاضرون حول صاحبها تنظرون إلى ما هو فيه من غمرات الموت و لكم تعطّف عليه و لكم رغبة في إنجائه من الموت تردّون روح ميّتكم إلى مقرّها.

ص: 38

[وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أي إلى المحتضر قدرة و علما و تصرّفا [مِنْكُمْ حيث لا تعرفون حاله إلّا ما تشاهدونه من آثار الشدّة و لا تقدرون على دفع أدنى شي ء منها و نحن المتولّون لتفاصيل أحواله و بقبض روحه [وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ كنه ما يجري عليه و المراد هنا البصيرة لا البصر.

[فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ يعني هلّا إن كنتم غير مربوبين و غير مملوكين أذلّاء من دان السلطان رعيّته إذا استعبدهم و ساسهم أو غير مجزيّين.

[تَرْجِعُونَها] أي تردّون النفس إلى مقرّها و تردّون روح ميّتكم إلى بدنه من الرجع و هو الردّ و المحضّض عليه بلو لا الاولى و الثانية مكرّرة للتأكيد و حاصل المعنى إن كنتم غير مربوبين و غير مصدّقين بخلقنا إيّاكم فهلّا ترجعون النفس إلى مقرّها عند بلوغها الحلقوم [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في اعتقادكم.

[سورة الواقعة (56): الآيات 88 الى 96]

فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)

فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

[فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أمّا في الكلام لتفصيل الجمل و شرح الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السورة مثل قولك جاءني القوم فأمّا زيد فأكرمته و أمّا عمرو فأهنته أي إن كان المتوفّى و ذلك المحتضر الّذي بلغت روحه الحلقوم من المقرّبين عند اللّه و هم السابقون و أجلّ الأزواج الثلاثة.

[فَرَوْحٌ أي فله استراحة و رحمة [وَ رَيْحانٌ يعني الرزق في الجنّة و قيل:

هو الريحان المشموم من رياحين الجنّة يؤتى بها عند الموت فيشمّه ثمّ يقبض روحه، و قيل: الروح النجاة من النار و الريحان الدخول في الجنّة، و قيل: روح في القبر و هو الهواء الّذي تستلذّه النفس و يزيل عنها المكروه و ريحان في القيامة [وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ أي ذات تنعّم.

[وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ و استعير اليمين للتيمّن و السعادة [فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ إي إن كان المتوفّى من أصحاب اليمن و البركة فسلام لك

ص: 39

بأصحاب المين من إخوانك المؤمنين و الملائكة و لك البشارة منهم بالسلامة من العذاب قال الفرّاء: فسلام لك إنّك من أصحاب اليمين فحذف إنّك فيكون السلام إشارة له بأنّه من أهل الجنّة و إلّا لقيل عليك.

[وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ و هم أصحاب الشمال و هم الّذين كذّبوا بالبعث و ضلّوا عن التوحيد و الهداية [فَنُزُلٌ فله نزل كائن [مِنْ حَمِيمٍ تشرب بعد أكل الزقّوم [وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ و إدخال في النار و قيل: إقامة فيها و مقاساة لألوان عذابها و قيل: ذلك ما يجده في القبر من سموم النار.

[إِنَّ هذا] الّذي ذكر في هذه السورة الكريمة [لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ حقّ الخبر اليقين الواقع و لا يطرء علي هذا الأمر التبدّل و التغيّر و إضافة العلم و الحقّ إلى اليقين إضافة الشي ء إلى مرادفه كما فعلوا في العطف التفسيريّ [فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ الفاء لترتيب التسبيح فسبّح يا محمّد و نزّه ربّك عمّا لا يليق به من الأمور الّتي من جملتها التكذيب بآياته الناطقة و الإشراك به و أعرض عمّا لا يليق من كلّ الأمور و لمّا نزل هذه الآية قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اجعلوها في ركوعكم فلمّا نزل سبّح اسم ربّك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم تمّت السورة بعون اللّه

ص: 40

سورة الحديد (مدنية)

اشارة

العرباض بن سارية قال: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقرء المسبّحات قبل أن يرقد و يقول: إنّ فيهنّ آية أفضل من ألف آية.

و عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام لم يمت حتّى يدرك القائم عليه السّلام و إن مات كان في جوار رسول اللّه.

الحسين بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه قال: من قرأ سورة الحديد و المجادلة في صلاة فريضة أدمنها (1) لم يعذّبه اللّه حتّى يموت أبدا و لا يرى في نفسه و لا في أهله سوءا أبدا و لا خصاصة في بدنه.

ص: 41


1- أدمنه: ادامه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)

التسبيح تنزيه اللّه تعالى اعتقادا و قولا و عملا عمّالا يليق بجنابه بدأ اللّه بالمصدر في الإسراء لأنّه الأصل ثمّ بالماضي في هذه السورة و الحشر و الصفّ لأنّ الماضي أسبق الزمانين ثمّ بالمستقبل في الجمعة و التغابن ثمّ بالأمر في الأعلى استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها و تعليم العباد استمرار التسبيح منهم في جميع الأزمنة و الكونات من لدن أخرجها من العدم إلى الوجود مسبّحة في الأزمنة و لا يختصّ تسبيحها بوقت دون وقت و في الحديث أفضل الكلام أربع: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر و سبّح متعدّ بنفسه كما في قوله: «وَ تُسَبِّحُوهُ» فاللام في للّه إمّا مزيدة للتأكيد كما في نصحت له و شكرت له أو للتعليل أي فعل التسبيح و أحدثه خالصا لوجهه.

[سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و المراد جميع الخلق من حيوان و جماد و نبات و غيره و عبّر بما تغليبا للأكثر و الجماد ميّت في نظر المحجوب حتّى في نفس الأمر لا ميّت لأنّ الجماد مدبّر حيّ و المدبّر حيّ و ليس من شرط الحيّ أن يحسّ لأنّ الإحساس و الحواسّ أمر معقول زائد على الحياة و إنّما هما من شرط الإدراك و العلم و قد يحسّ الشي ء و قد لا يحسّ أما ترى صاحب الأكلة و الجذام إذا أكل و استعمل ممّا

ص: 42

يغيب به إحساسه كيف يقطع عضوه و لا يحسّ به مع أنّه حيّ ليس بميّت «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» لأنّ وجود الشي ء دالّة على تنزيهه تعالى فضلا عن امور زائدة.

[وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب بقدرته و سلطانه الحكيم في أفعاله، ورد حديث أنّ كلّ شي ء من الجماد و الحيوان يسمع عذاب القبر إلّا الثقلين يدلّ على أنّ السماوات و الأرض بجميع أجزائهما و ما فيهما من الملك و الشمس و القمر و النجوم و الجنّ و الإنس و الحيوان و النبات و الجماد لها حياة و فهم.

[لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي التصرّف الكلّيّ [يُحْيِي وَ يُمِيتُ جعل الشي ء ميّتا و جعل الميّت حيّا مثل النطفة و البيض [وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ] من الأشياء [قَدِيرٌ] تامّ القدرة فإنّ الصيغة للمبالغة.

[هُوَ الْأَوَّلُ السابق على سائر الموجودات بالذات و الصفات لأنّه مبدؤها و المراد بالسبق و الأوّليّة هو الذاتيّ لا الزمانيّ فإنّ الزمان من جملة الحوادث أيضا [وَ الْآخِرُ] الباقي بعد فنائها حقيقة [وَ الظَّاهِرُ] وجود الأشياء دلائله الواضحة [وَ الْباطِنُ حقيقة فلا يحوم العقل حول إدراك كنهه و ليس يعرف اللّه إلّا اللّه و تلك الباطنيّة سواء في الدنيا و الآخرة.

[وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ من الظاهر و الخفيّ تامّ العلم بكلّ شي ء جليّه و خفيّة و يمكن أن يكون معنى هو الأوّل أي الّذي تبتدء منه الأسباب و الآخر الّذي تنتهي إليه المسبّبات و الظاهر أي الغالب على كلّ شي ء و الباطن أي العالم بباطن كلّ شي ء.

و احتجّ كثير من أهل التحقيق في إثبات أنّ الإله واحد بقوله تعالى: [هُوَ الْأَوَّلُ و قالوا: الأوّل هو الفرد السابق و لهذا لو قال: أحد أوّل مملوك اشتريته فهو حرّ ثمّ اشترى عبدين لم يعتقا لإنّ شرط كونه الأوّل حصول الفرديّة و هنا لم يحصل فلو اشترى بعد ذلك عبدا واحدا لم يعتق لأنّ شرط الأوّليّة كونه سابقا و هاهنا لم يحصل مع أنّ الشرط في كونه أوّلا أن يكون فردا فكانت الآية دالّة على أنّ صانع العالم واحد

ص: 43

فرد و الأوّل الّذي لم يسبقه شي ء في الوجود فهو تعالى شأنه نفى القدم عن كلّ أوّل بأوليّته و نفى البقا عن كلّ آخر بآخريّته.

و قال بعض علماء الكلام: المراد من الآية مبالغة في نفي التشبيه لأنّ كلّ من كان أوّلا لا يكون آخرا و كلّ من كان ظاهرا لا يكون باطنا فأخبر سبحانه أنّه الأوّل الآخر الظاهر الباطن ليعلم أنّه لا يشبه شيئا من المخلوقات و المصنوعات و أوضح المعاني قوله: «هُوَ الْأَوَّلُ» إنّه سبحان كان و لم يكن صور العوالم كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

كان اللّه و لم يكن معه شي ء.

و قال بعض المجرّبين: إنّ من قرأ بعد صلاة ركعتين خمسا و أربعين مرّة «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» حصل له ما طلبه.

[هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بقدرته [فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أوّلها الأحد و آخرها الجمعة و هذه المدّة ليشهد الملائكة بحدوثها و يعلموا سنّة التدريج في الأمور و اختلف في أنّ الأيّام من أيّام الدنيا أو الآخرة كما وقع اختلاف في الأربعين الّتي خمّر اللّه فيها طينة آدم عليه السّلام [ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استولى بالتدبير على امور أراد خلقه و نظمه و قيل: معنى «اسْتَوى قصد و عمد.

[يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها] أي يعلم ما يدخل في الأرض و يستتر فيها و يعلم ما يخرج من الأرض من أنواع النبات و الحيوان و الجماد لا يخفى عليه شي ء منها.

قال أهل التأويل: يعلم سبحانه ما يلج في أرض قلب المؤمن من النيّة و الإخلاص و التوحيد و في أرض قلب الكافر من الشكّ و الشرك و ما يخرج منها بحسب حالهم و الصحيح أنّ العلم محيط بتمام العوالم و قلب الكافر و المؤمن أيضا جزء من العالم.

[وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ] كالكتب و الملائكة و الأقضية و الصواعق و الأمطار [وَ ما يَعْرُجُ فِيها] كالملائكة الّذين يكتبون الأعمال و الأرواح السعيدة.

[وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ في الأرض و هو تمثيل لإحاطة علمه و في الحديث أفضل إيمان المرء أن يعلم أنّ اللّه معه حيث كان قال موسى عليه السّلام، أين أجدك يا

ص: 44

ربّ؟ قال: يا موسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ.

[وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] فيجازيكم عليه ثوابا و عقابا.

[لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تكرير للتأكيد و تمهيد لقوله تعالى: [وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] و التأكيد في قوله: «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ» الأوّل متعلّق بالإبداء و الثاني بالإعادة و لذا قرن بالأوّل «يُحْيِي وَ يُمِيتُ» و بالثاني ما يكون في الآخرة من ردّ الخلق إليه.

[يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ] الإيلاج الإدخال حتّى يصير النهار أطول ما يكون خمس عشر ساعة و الليل أقصر ما يكون تسع ساعات [وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ باختلاف الفصول و مطالع الشمس و مغاربها حتّى يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة و النهار أقصر ما يكون تسع ساعات قال الشاعر:

فالشمس بالقوس أمست و هي نازلةإن لم تزرني و بالجوزاء إن زارا

[وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] أي بمكنوناتها من الأسرار و المعتقدات و هو بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه في نيّاتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم قال ابن عبّاس:

اسم اللّه الأعظم في أوّل سورة الحديد في ستّ آيات من أوّلها و تعليقها على المقاتل في الصفّ نافع جدّا كما في فتح الرحمن.

[سورة الحديد (57): آية 7]

آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

[آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ جعلكم اللّه خلفاء في ذلك المال بالتصرّف فيه من غير أن تملكوه حقيقة لأنّ يدكم يد العارية على الحقيقة و في الآية أمر و ترغيب في الإنفاق أو المعنى جعلكم خلفاء من قبلكم فيما كان بأيديهم بتوريثه إيّاكم و سينتقل منكم إلى من بعدكم فلا تبخلوا به قيل: إنّ الآية نزلت في غزوة ذي العشرة و هي غزوة تبوك [فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا] حسبما أمروا به [لَهُمْ بسبب ذلك [أَجْرٌ كَبِيرٌ] و له عشر أمثالها إذا أتى بحسنة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حكاية عن اللّه أنفق أنفق عليك و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لأتوك فيوكى عليك (1).

ص: 45


1- أوكى الرجل: بخل.

[سورة الحديد (57): الآيات 8 الى 10]

وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

[وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي أيّ شي ء ثبت لكم و حصل حالكونكم غير مؤمنين و ما سبب عدم إيمانكم باللّه؟ [وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ توبيخ لهم بأنّه أيّ عذر لكم في ترك الإيمان و النبيّ ينبّهكم عليه بالحجج و الآيات؟

[وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ و الميثاق عقد يؤكّد بيمين و عهد أي قد أخذ اللّه ميثاقكم بالإيمان من قبل دعوة الرسول إيّاكم و ذلك بما أودع اللّه قلوبكم من دلالات العقل الموصلة إلى معرفة التوحيد أو المراد من الميثاق العهد المأخوذ يوم الذرّ حين أخرجهم من من صلب آدم في صورة الذرّ و هي النمل الصغير [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن دمتم على ما بدأتم به و مصدّقين بحقّ لأنّ الآن تمّت الحجّة و لزمتكم الحجّة بالأدلّة السمعيّة و العقليّة.

[هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ بواسطة جبرئيل عليه السّلام [عَلى عَبْدِهِ المطلق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات من الأمر و النهي و الحلال و الحرام [لِيُخْرِجَكُمْ اللّه [مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ] من ظلمات الجهل و الشرك إلى معرفة اليقين و التوحيد [وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث يهديكم لسعادة الدارين بإرسال الرسل و إنزال الكتب.

[وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و أيّ شي ء لكم من أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى اللّه و هو له في الحقيقة و إنّما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عيّنه من المصارف [وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و الحال أنّه لا يبقى لكم منها شي ء بل تبقى كلّها له بعد فناء الخلق فإنفاقها بحيث تستخلف عوضا يبقى و هو الثواب كان أولى من الإمساك و نسب نفسه إلى الوارث من حيث إنّ الأموال صائرة إليه و الميراث ما ترك الإنسان فخاطبهم

ص: 46

بما يعرفون بينهم، قال عيسى عليه السّلام: قلب كلّ إنسان حيث ماله فاجعلوا أموالكم في السماء يكن قلوبهم في السماء.

[لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ يا معشر المؤمنين [مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ أي فتح مكّة الّذي أزال الهجرة [وَ قاتَلَ العدوّ تحت لواء رسول اللّه و قسيم «مَنْ أَنْفَقَ» محذوف لوضوحه أي بعد الفتح و في «أَنْفَقَ» إشارة إلى إنفاق المال و في «قاتَلَ» إشارة إلى إنفاق النفس.

[أُولئِكَ المنفقون المقاتلون قبل الفتح [أَعْظَمُ دَرَجَةً] و أرفع منزلة عند اللّه [مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا] و قد صرّح صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا بفضل الأوّلين بقوله: لو أنفق أحدكم مثل احد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم و لا نصفه و المدّ قيل: مل ء كفّي الإنسان المعتدل إذا ملأهما و مدّيده بهما و به سمّي مدّا و قد جرّب مرارا أنّ هذا المقدار مساو مع الوزن المعروف الّذي يقال له: المدّ.

[وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي كلّ واحد من الفريقين وعدهم اللّه المثوبة الحسنى و هي الجنّة لكنّ الدرجات متفاوتة [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] بظواهره و بواطنه فيجازيكم بحسب نيّاتكم و إخلاصكم.

[سورة الحديد (57): الآيات 11 الى 15]

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

ثمّ حثّ سبحانه على الإنفاق فقال:

[مَنْ ذَا الَّذِي قيل: من مبتدأ و «ذَا» خبره و [الَّذِي بدله قال الطبرسيّ:

إنّ الصحيح أن يكون «ذَا» مبتدءا و الّذي يقرض اللّه صفته و من خبر المبتداء قدّم

ص: 47

عليه لما فيه من معنى الاستفهام و الإقراض إعطاء العين على وجه يطلب بدله و المعنى كأنّه قيل: أ يقرض أحد مالا طيّبا فيعطيه اللّه عوضه أضعافا من فضله من السبع إلى السبعين إلى السبعمائة؟ و إنّما قلنا بمعنى الاستفهام لأنّ قوله: «فَيُضاعِفَهُ لَهُ» و الفاء إنّما تنصب فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه و هاهنا السؤال لم يقع عن القرض بل عن فاعله.

[وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي و ذلك الأجر كريم حسن مرضيّ في نفسه. روي أنّه لمّا نزلت الآية جعل أبو الدحداح يتصدّق بنصف ماله من كلّ شي ء له حتّى أنّه خلع إحدى نعليه قال بعضهم: سأل اللّه القرض منهم و لو كانوا يمكن لهم أن يخرجوا من وجودهم لخرجوا قبل سؤاله فضلا عن المال فإنّ العبد و ما يملكه لمولاه، في الحديث: عبدي استطعمتك فلم تطعمني.

و في الإنفاق يكون عشر شرائط: الأوّل أن يكون من الحلال. و الثاني أن يكون من أطيب ماله دون الردي ء. و الثالث أن يتصدّق و يحبّ المال. و الرابع أن يعطيه و هو يرجو الحياة و هو صحيح يأمل العيش. الخامس يخشى الفقر. السادس أن يضعه في الأخلّ الأحوج الأولى بأخذه. السابع أن يكتمه ما أمكن. الثامن أن لا يتبعها المنّ و الأذى. التاسع أن يقصد به وجه اللّه. العاشر أن يستحقر ما يعطي فالصدقة لا بدّ و أن تكون موصوفة بهذه الصفات العشرة و في المرفوع: النافلة هديّة العبد ألى ربّه فليحسن أحدكم هديّته و ليطيّبها.

[يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ الظرف منصوب بإضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم أي اذكر يوم رؤيتهم يوم القيامة على الصراط أو غيره [يَسْعى نُورُهُمْ حال من مفعول ترى أي نور إيمانهم و طاعاتهم و معنى السعي المشي السريع دون العدو و يستعمل أيضا للجدّ في الأمر خيرا كان أو شرّا و أكثر استعماله في الأفعال المحمودة [بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ جمع يمين و المراد جهة اليمين قيل: يكون النور بين أيديهم و في جهة أيمانهم [و عن شمائلهم إلّا أن ذكر الشمائل مضمر و ذلك النور دليلهم ألى الجنّة و المراد بالنور الضياء الّذي يرونه و يمرون فيه إنّ المؤمن يضي ء له نور كما بين عدن إلى صنعاء و دون ذلك و دون ذلك حتّى أنّ من المؤمنين من لا يضي ء له نوره إلّا في موضع

ص: 48

قدميه، قال عبد اللّه بن مسعود: و يعطون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من نوره على قدر الجبل و أدناهم نورا نوره على إبهامه يطفى مرّة و يتّقد اخرى و يقول لهم الملائكة:

[بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي الّذي تبشّرون به اليوم جنّات و دخولها و حذف المضاف [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ صفة للجنّات أنتم دائمون فيها و ما ذكر [هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الّذي لا غاية و راءه.

[يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بدل من «يَوْمَ تَرَى» فذكر سبحانه حال المنافقين في ذلك اليوم يقولون: [لِلَّذِينَ آمَنُوا] ظاهرا و باطنا [انْظُرُونا] أي انتظرونا يقولون ذلك لما أنّ المؤمنين يسرع بهم إلى الجنّة كالبروق الخاطفة على ركاب تزفّ بهم و هؤلاء مشاة إذ المعنى من انظرونا استقبلونا نستضي ء بأنواركم و إنّ النظر بمعنى الإنظار لا يتعدّى بنفسه و إنّما يتعدّى بإلى فيكون المعنى اجعلوا نظركم إلينا لكن بمعنى النظرة و الإمهال أليق.

[نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ و الاقتباس التناول من الشعلة أي نأخذ من نوركم قبسا سراجا و شعلة لأنّهم كانوا يستضيئون بنور المؤمنين فإذا سبقهم المؤمنون و وصلوا إلى مكانهم بقوا هؤلاء في الظلمة فيقولون: انظرونا نقتبس، و هيهات! أين الثريّا من يد المتناول؟

[قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ طردا و تهكّما لهم و القول من جهة الملائكة أو المؤمنين ارجعوا إلى الموقف [فَالْتَمِسُوا نُوراً] و اطلبوا هناك فإنّه من ثمّة يقتبس النور أو فارجعوا إلى الدنيا لأنّ النور بالإيمان يحصل في الدنيا و هاهنا ليس دار التحصيل بل دار الجزاء فيرجعون فلا يجدون نورا.

[فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ] و قد ضرب بين المؤمنين و بينهم و حيل بينهم حائط بين الجنّة و النار و لمّا كان البناء ممّا يحتاج إلى ضرب باليد و نحوها من الآلات عبّر عنه بالضرب مثل قولهم: ضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة و بالجملة هو سوريين أهل الجنّة و النار يقف عليه أصحاب الأعراف يشرفون على أهل الجنّه و أهل النار و هو السور الّذي يذبح عليه الموت بمرأى الفريقين [لَهُ بابٌ أي لذلك السور و الحائط و المانع باب يدخل فيه المؤمن فيكون السور بينهم باعتبار حاله الثانية بعد الدخول لا حين الضرب

ص: 49

[باطِنُهُ باطن السور أو باطن. الباب فيه الرحمة لأنّه يلي الجنّة [وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ و من جهته و عنده [الْعَذابُ لأنّه يلي النار، و بالجملة إنّ المؤمنين يسبقونهم و يدخلون الجنّة و المنافقين يجعلون إلى النار و بينهم السور المذكور. في الحديث: بيت المقدس أرض المحشر و المنشر.

[يُنادُونَهُمْ أي ينادي المنافقون المؤمنين: [أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدنيا يريدون به ما كانوا يوافقون مع المؤمنين في الأمور الظاهرة كالمناكحة و الموارثة و الصلاة [قالُوا بَلى كنتم معنا بحسب الظاهر [وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ محنتموها بالنفاق و أهلكتموها إضافة الفتنة إلى النفس إضافة الميل و الشهوة و إلى الشيطان في قوله:

«لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ» إضافة الوسوسة.

[وَ تَرَبَّصْتُمْ و انتظرتم بالمؤمنين الدوائر و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الموت و هو وصف قبيح، إنّ انتظار موت وسائل الخير و وسائط الحقّ من أعظم الجرم و القباحة [وَ ارْتَبْتُمْ و شككتم في النبوّة أو في غد اليوم الموعود [وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ الفاسدة الّتي من جملتها انتكاس أمر الإسلام، جمع امنيّة أباطيل الدنيا [حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي الموت [وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الكريم [الْغَرُورُ] أي الشيطان غرّكم بحلمه تعالى و إمهاله و قيل:

الغرور الدنيا قال قتادة: ما زال أهل الدنيا على خدعة من الشيطان حتّى قذفوا في النار و الغرور مبالغة و هو كلّ ما يغرّ الإنسان من مال و جاه و شهوة و شيطان و فسّر بالشيطان لأنّه أخبث الغارّين.

[فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ أيّها المنافقون [فِدْيَةٌ] فداء تدفعون به العذاب عن أنفسكم و الفداء ما يحفظ الإنسان عن النائبة أي لا يؤخذ منكم دية و لا نفس اخرى مكان أنفسكم [وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا] ظاهرا و باطنا فالناس ثلاثة أقسام: مؤمن ظاهرا و باطنا و هو المخلص و مؤمن ظاهرا لا باطنا و هو المنافق و كافر ظاهرا و باطنا.

[مَأْواكُمُ النَّارُ] مرجعكم جهنّم لا ترجعون إلى غيرها أبدا [هِيَ أي النار [مَوْلاكُمْ تتصرّف فيكم تصرّف المولى في عبيده أو هي أولى بكم فالمولى مشتقّ من الأولى [وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ] و المرجع.

ص: 50

[سورة الحديد (57): الآيات 16 الى 20]

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)

من أنى الأمر يأني أنيا إذا جاء أناه أي وقته و حان حينه و أدرك أي ألم يجي ء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره و يسارعوا إلى طاعة بالامتثال من غير توان و لا فتور. قوله تعالى: [وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ أي القرآن و هو عطف على ذكر اللّه فإن كان المراد من الذكر القرآن أيضا فالعطف لتغاير العنوانين و تفسيريّ كما في قوله: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» (1) و معنى الخشوع في الآية في قوله: «أَنْ تَخْشَعَ» الانقياد التامّ و أوامره و نواهيه روي أنّ المؤمنين كانوا مجدبين بمكّة فلمّا هاجروا أصابوا الرزق و النعمة فصيّروا عمّا كانوا عليه من الخشوع فنزلت الآية و عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا و بين أن عوتبنا بهذه الآية أربع سنين و قيل: ظهر بين الأصحاب من المزاح و المضاحك فنزلت الآية: «أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا الآية» و قيل: إنّ هذه الآية قرئت بين قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فقال بعض الأصحاب: هكذا كنّا و قد قست قلوبنا.

[وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ عطف على تخشع و المراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله: [فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ] أي الأجل و الزمان أو الأعمار و الآمال و زالت عنهم الروعة الّتي كانت تأتيهم من التوراة و الإنجيل

ص: 51


1- الأنفال: 2.

إذا سمعوهما [فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ و القسوة غلظة القلب و إنّما تحصل من اتّباع الشهوة و الصفوة لا يجتمعان [وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ و خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتبهم بالكلّيّة.

و فيه إشارة إلى أنّ عدم الخشوع في أوّل الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر.

قال عيسى بن مريم عليه السّلام: لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه فتقسو قلوبكم و القلب القاسي بعيد من اللّه و لا تنظروا في ذنوب العباد كأنّكم أرباب و انظروا في ذنوبكم كأنّكم عبيد فإنّما الناس رجلان مبتلى و معافى فارحموا أهل البلاء و احمدوا اللّه على العافية انتهى.

[اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر و التلاوة بإحياء الأرض الميّتة بالغيث للترغيب في الخشوع و التحذير عن القساوة و بيان لمنكر في البعث أي كما أنّ اللّه يحيي الأرض بعد يبسها و جمودها كذلك يحيي الأموات بعد بلاها و محو صورتها [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كي تعقلوا و تعلموا بموجبها و كان استماع آية «أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ» سببا لتوبة فضيل بن عياض و مجاورته في الحرم و قصّته معروفة، و كذلك ابن المبارك و كان منهمكا في الشرب و ضرب العود، بينما هو في هذه الحالة إذ سمع قارئا يقرء هذه الآية فتاب و رجع ممّا كان عليه و آل أمره إلى ما آل لكن و تعيها اذن واعية.

و عن مالك بن دينار و هو أحد الزهّاد الثمانية أنّه سئل عن سبب توبته فقال:

إنّي كنت شرطيّا و كنت منهمكا على شرب الخمر ثمّ اشتريت جارية جميلة و وقعت في عيني أحسن موقع فولدت لي بنتا فشغفت بها فلمّا دبّت على الأرض ازدادت في قلبي حبّا و ألفتني و ألفتها فلمّا تمّ لها سنتان ماتت فأكمدني الحزن عليها لكنّي تجلّدت خوفا من أن يصيبني غضب من اللّه فلمّا كانت ليلة النصف من شعبان و كانت ليلة جمعة بتّ ممتلئا من الخمر و لم اصلّ صلاة العشاء فرأيت كأنّ أهل القبور قد خرجوا و حشر الخلائق و أنا معهم فسمعت حسّا من ورائي فإذا أنا بتنّين عظيم أعظم ما يكون أسود قد فتح فاه مسرعا نحوي فمررت بين يديه هاربا فزعا مرعوبا فمررت في طريقي بشيخ نقيّ

ص: 52

الثياب طيّب الرائحة فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام فقلت له: أجرني فقال: أنا ضعيف و هذا أقوى منّي و ما أقدر عليه و لكن مرّ و اسرع فلعلّ اللّه سبّب لك ما ينجيك منه فولّيت هاربا على وجهي و صعدت على شرف من شرف القيامة فأشرفت على طبقات النيران فنظرت إلى أهلها فكدت أهوي فيها من فزع التنّين و هو في طلبي فصاح بى صائح: ارجع فلست من أهلها فاطمأننت الى قوله و رجعت و رجع التنّين في طلبى فأتيت الشيخ فقلت:

يا شيخ سألتك باللّه أن تخبرني من هذا التنّين فبكى الشيخ و قال: أنا ضعيف و لكن سر إلى هذا الجبل فإنّ فيه ودائع للمسلمين فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك فنظرت إلى جبل فيه كوى و ستور معلّقة و على كلّ كوّة مصراعان من الذهب مكللان بالدرّ فلما نظرت إلى الجبل هربت إليه و التنّين من ورائي حتّى إذا قربت منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور و افتحوا المصاريع فلعلّ لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوّه و إذا الستور قد رفعت فأشرف عليّ أطفال بوجوه كالأقمار و قرب التنين منيّ فتحيّرت في أمرى فصاح بعض الأطفال: و يحكم أشرفوا كلّكم فقد قرب منه فأشرفوا فوجا بعد فوج فإذا بابنتي الّتي ماتت فلمّا رأتني بكت و قالت: أبي و اللّه ثمّ دنت و مدّت يدها الشمال فتعلّقت بها فولّى هاربا ثمّ اجلستني و قعدت في حجري و قالت يا أبت: «أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ» فبكيت و قلت: يا بنيّه و أنتم تعرفون القرآن؟ فقالت: يا أبت نحن أعرف به منكم قلت: فأخبرينى عن التنّين قالت: ذلك عملك السوء قوّيته قلت: و من الشيخ الّذي مررت به؟ قالت: ذلك عملك الصالح أضعفته حتّى لم يكن له طاقة بعملك السوء قلت: و ما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت: نحن أطفال المسلمين قد اسكنّا فيه إلى أن تقوم القيامة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم فانتبهت فزعا فلمّا أصبحت فارقت ما كنت عليه و تبت إلى ربّي انتهى.

[إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ أي المتصدّقين و المتصدّقات [وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً] عطف على الصلة من حيث المعنى أي إنّ الناس الّذين تصدّقوا و تصدّقن و أقرضوا و أقرضن اللّه و المراد من الحسن التصدّق من الطيّب عن طيبة النفس و خلوص النيّة.

ص: 53

و روى مسلم عن جابر أنّه قال: شهدت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلاة العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان و لا إقامة فلمّا فرغ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الصلاة قام متوكّئا على بلال فأمر بتقوى اللّه و حثّ على طاعته و وعظ الناس ثمّ مضى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى النساء فوعظهنّ و ذكّرهنّ فقال: تصدّقن فإنّ أكثركنّ حطب جهنّم قالت امرأة: لم يا رسول اللّه؟ فقال:

لأنّكنّ تكثرن الشكاية و تكفرن العشير أي الزوج فجعلن يتصدّقن من حليّهن و يلقين في ثوب بلال حتّى اجتمع فيه شي ء كثير قسّمه على فقراء المسلمين انتهى.

[يُضاعَفُ لَهُمْ أي ثواب التصدّق يضاعف لهم [وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ و هو رضى اللّه.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ كافّة و هو مبتدء [أُولئِكَ مبتدء ثان [هُمُ مبتدء ثالث خبره [الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ] أي أولئك [عِنْدَ رَبِّهِمْ بمنزلة الصدّيقين و الشهداء المشهورين في علوّ المرتبة و رفعة المحلّ قيل: الشهداء على ثلاث درجات الدرجة الاولى الشهيد بين الصفّين و هو أكبر هم درجة ثمّ كلّ من قضى و مات بقارعة أو بليّة و هي الدرجة الثانية مثل الغرق و الحرق و الهالك في الهدم و المطعون و المبطون و الغريب و الميّتة في نفاسها و الميّتة بالوضع و الميّت يوم الجمعة و ليلة الجمعة و الميّت على الطهارة، و الدرجة الثالثة ما نطقت به هذه الآية العامّة للمؤمنين و قال بعضهم في معنى الآية: هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا و صدّقوا بجميع ما أخبر سبحانه و أخبر رسله.

[لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ مبتدء و خبر أي لهم أجرهم و ثواب طاعاتهم مثل ثواب الصدّيقين و الشهداء الّذين معروفون بالفضيلة و الكمال و قد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوّة المماثلة و بلوغها حدّ الاتّحاد، و حاصل المعنى أنّ المؤمنين المصدّقين بآيات اللّه لهم من الأجر و النور ما للصدّيقين و للشهداء قال بعض أهل التحقيق: لا يكون الأجر إلّا مكتسبا فإن أعطيت ما هو خارج عن الكسب فهو نور و هبات و لا يقال له «أجر» و لهذا قال سبحانه: «لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ» فإنّ أجرهم ما اكتسبوه و نورهم ما وهبه اللّه لهم بالتفضّل.

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ الموصوفون بهذه

ص: 54

الصفات القبيحة أصحاب النار و ملازموها بحيث لا يفارقونها أبدا و فيه دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكافر و المراد بالكفر الكفر باللّه في مقابلة الإيمان باللّه و بالتكذيب ما بأيدي الرسل في مقابلة تصديق الرسل.

[اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا] فكلّ ما قبل الموت تسمّى دنيا و كلّ ما تأخّر عنه أخرى [لَعِبٌ أي عمل باطل تتعبون فيه أنفسكم إتعاب اللاعب [وَ لَهْوٌ] تشغلون أنفسكم بها عمّا يهمّكم من أعمال الآخرة [وَ زِينَةٌ] تزيّنون بها من الملابس و المراكب و المنازل الحسنة [وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ بالأنساب و الأحساب و يعبّر عن كلّ نفيس بالفاخر [وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ] بالعدد و تطاولون بها على الناس.

فالحياة في الدنيا و أمورها لعب كلعب الصبيان و زينة كزينة النسوان و تفاخر كتفاخر الأقران و تكاثر كتكاثر الدهقان و لذائذها تجمع في ستّة أشياء مطعوم و مشروب و ملبوس و مشموم و مركوب و منكوح فأكبر طعامها العسل و هو ريق ذبابة، و أكبر شرابها الماء و يستوي فيه جميع الحيوان، و أكبر الملبوس الديباج و هو نسج دودة، و أكبر المشموم المسك و هو دم ظبية، و أكبر المركوب الفرس و عليها يقتل الرجال، و أكبر المنكوح النساء و هو مبال في مبال، هذه اللذائذ أنفع أم ركعتان؟

[كَمَثَلِ غَيْثٍ أي هي صفاتها شبيهة بغيث و الغيث مطر يحتاج إليه يغيث الناس من الجدب عند قلّة المياه فهو مخصوص بالمطر النافع بخلاف المطر فإنّه عامّ [أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ الكفّار الحرّاث يقول العرب للزارع: كافر لأنّه يستر بذره بتراب الأرض و الكفر في اللغة التغطية و لهذا يسمّى الكافر كافرا لأنّه يغطّي الحقّ بالباطل و الكفر القبر يسترها الناس، و في الحديث: أهل الكفور أهل القبور و الليل كافر لستره الأشخاص «نَباتُهُ» أي النبات الحاصل من الغيث و المراد الكافرون باللّه لأنّهم أشدّ إعجابا بزينة الدنيا.

[ثُمَّ يَهِيجُ أي يجفّ بعد خضرته و نضارته و الهائجة أرض يبس بقلها أو اصفرّ [فَتَراهُ مُصْفَرًّا] بعد ما رأيته مونقا ناضرا و إنّما لم يقل: فيصفرّ إيذانا بأنّ اصفراره مقارن لجفافه.

ص: 55

[ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً] فيصير ذلك الزرع منكسرا و الحطم الكسر المتفاني و المقصود التحقير لأمور الدنيا و زينتها و بيان أنّها خياليّة باطلة لا حقيقة لها و تمثيل لحال الدنيا في سرعة تقضّيها و فخر الإنسان على مثل هذا الشي ء إنّما هو من جهله بحقيقته [وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ] لمن أقبل عليها و لم يطلب بها الآخرة.

[وَ مَغْفِرَةٌ] عظيمة كائنة [مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ لا يقدّر قدره لمن أعرض عنها و قصد بها الآخرة و إذا كان كذلك فنيّة الحسنة تجعل المباح طاعة كما قيل: إنّ من استقامت سريرته و صلحت نيّته أدرك جميع ما تمنّاه في الأعمال الصالحة، في الحديث: من نام على طهارة و في عزمه أنّه يقوم من الليل فأخذ اللّه بنفسه إلى الصباح كتب اللّه له قيام ليلة فالدنيا من هذه الجهة حسنة نافعة مفيدة للعاقل و من ذمّها فقد عقّ امّه لأنّ الأنكاد و الشرور الّتي ينسبها الناس إلى الدنيا ليس هو فعلها و إنّما هو فعل أولادها فإنّ الشرّ فعل المكلّف لا فعل الدنيا و هي مطيّة العبد؛ عليها يبلغ الخير و بها ينجو من الشرّ فمن لم يستوف حقّه من الدنيا بهذه الكيفيّة كان غاشّا لنفسه.

[وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ] أي كالمتاع الّذي يتّخذ من نحو الزجاج و الخزف ممّا يسرع فناؤه و يميل الطبع أوّل ما رآه فالعمل للحياة الدنيا متاع الغرور.

[سورة الحديد (57): الآيات 21 الى 25]

سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

ثمّ رغّب سبحانه في السياق إلى الجنّة فقال:

[سابِقُوا] أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار [إِلى مَغْفِرَةٍ] عظيمة

ص: 56

كائنة [مِنْ رَبِّكُمْ أي إلى أسبابها و موجباتها مثل الأعمال الصالحة و الاستغفار كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّهم إنّي أسألك عزائم مغفرتك أي توفّقني للأعمال الّتي تغفر لصاحبها لا محالة أي محتوماتها، و تلك الأسباب و الموجبات منحصرة كاتّباع شريعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمرنا سبحانه بالإسراع إلى هذا الأمر على وجه المبالغة فإنّ صيغة المفاعلة للمبالغة و أمرنا بالإسراع لقلّة عمر الدنيا و طريق الإسراع في مرتبة الطبيعة و الجسمانيّات الامتثال بالأوامر و الاجتناب على النواهي.

و في مرتبة النفس تزكيتها عن الأخلاق الرذيلة كالكبر و الرياء و العجب و الغضب و الحسد و حبّ الجاه و المال و تحليتها بالأخلاق المحمودة كالتواضع و الإخلاص و الحلم و الصبر على الشدائد و الرضى و التسليم و في مرتبة الروح بتحصيل معرفة اللّه و اليقين.

[وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي كعرض سبع سماوات و سبع أرضين و إذا كان عرضها كذلك فيكف بطولها فإنّ طول كلّ شي ء أكثر من عرضه في الغاية، و تقديم المغفرة في الآية لتقديم التخلية على التحلية [أُعِدَّتْ و هيّئت [لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ فيه دليل على أنّ الجنّة مخلوقة بالفعل و الإيمان بالرسل و العمل بكتابهم.

[ذلِكَ الّذي وعد بالمغفرة و الجنة [فَضْلُ اللَّهِ و عطاؤه [يُؤْتِيهِ تفضيلا و إحسانا [مَنْ يَشاءُ] إيتائه إيّاه مع وجود القابليّة و قبولهم [وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ و في الآية إشارة على أنّه سبحانه يجزي و يعطي الدائم الباقي على القليل و لو اقتصر في الجزاء على قدر ما يستحقّ بالأعمال كان عدلا منه لكنّه يفضل بالزيادة على أنّه سبحانه لو لم يدعنا إلى الطاعة و لم يبيّن لنا الطريق الموصل إلى السعادة لما اهتدينا فذلك كلّه من فضل اللّه.

في الحديث قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خرج من عندي خليلي جبرئيل آنفا فقال: يا محمّد و الّذي بعثك بالحقّ إنّ عبدا من عباد اللّه عبد اللّه خمسمائة سنة على رأس جبل يحيط به بحر فأخرج اللّه له عينا عذبة في أسفل الجبل و شجرة رمّان كلّ يوم تخرج رمّانة

ص: 57

فإذا أمسى نزل و أصاب من الوضوء و أخذ تلك الرمّان فأكلها ثمّ قام للصلاة فسأل ربّه أن يقبض روحه ساجدا و أن لا يجعل للأرض و لا لشي ء على جسده سبيلا حتّى يبعثه اللّه و هو ساجد ففعل و نحن نمرّ عليه إذا هبطنا و إذا عرجنا و هو على حاله في السجود.

قال جبرئيل: و نحن نجد في العلم أنّه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي اللّه فيقول له الربّ: أدخلوا عبدي الجنّة برحمتي فيقول العبد: بل بعملي فيقول اللّه:

فايسوا عبدي بنعمتي عليه و بعمله فتؤخذ نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسائة سنة وهبت عليه النعم الباقية بلا عبادة في مقابلتها فيقول اللّه: أدخلوا عبدي النار فيجرّ إلى النار فينادي و يقول: برحمتك أدخلني الجنّة فيقول اللّه: ردّوه إليّ فيوقف بين يديه فيقول:

عبدي من خلقك و لم تك شيئا؟ فيقول: أنت يا ربّ فيقول: أ كان ذلك بعملك أو برحمتي؟

فيقول: بل برحمتك فيقول: من قوّاك على عبادتي خمسمائة سنة؟ فيقول: أنت يا ربّ فيقول: من أنزلك في جبل وسط البحر و أخرج الماء العذب من بين المالح و أخرج لك رمّانة كلّ ليلة و سألتني أن اقبضك ساجدا من فعل ذلك كلّه بك؟ فيقول: أنت فقال:

ذلك كلّه برحمتي و برحمتي أدخلك الجنّة الباقية انتهى.

[ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ما نافية أصاب السهم إذا وصل إلى المري ثمّ استعير بالحادثة و النائبة أي ما حدث من حادثة كائنة في الأرض كجدب و آفة في الزروع و غيرها [وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ كمرض و موت و خوف عدوّ و جوع [إِلَّا فِي كِتابٍ مكتوبة مثبتة في علم اللّه أو في اللوح المحفوظ [مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها] و قبل أن نخلق النفوس ليستدلّ ملائكته به على علمه تعالى و الآية صريحة على أنّ جميع الحوادث الأرضيّة قبل دخولها في الوجود و كذا جميع أعمال الخلق مكتوبة في اللوح و ليعرف الملائكة حلمه سبحانه فإنّه تعالى مع علمه أنّهم يقومون على المعاصي خلقهم و رزقهم و أمهلهم و فيها دليل على أنّه عالم بالأشياء قبل وقوعها لأنّ إثباتها في الكتاب محال.

[إِنَّ ذلِكَ أي إثباتها في كتاب مع كثرتها [عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] متعلّق بقوله:

«يَسِيرٌ».

[لِكَيْلا تَأْسَوْا] أخبرناكم بإثباتها كي لا يحصل لكم الحزن و الألم [عَلى ما

ص: 58

فاتَكُمْ من نعم الدنيا يقال: أسى على مصيبة أي حزن [وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ و أعطاكم فإنّ من علم أنّ كلّا من المصيبة و النعمة مقدّر يذهب ما قدّر فواته و يأتي ما قدّر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات و لا فرحه بما هو آت، قيل لبزرجمهر: أيّها الحكيم مالك لا تحزن على ما فات و لا تفرح بما هو آت؟ قال: لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة و الآتي لا يستدام بالحبرة أي بالسرور.

و المراد من الآية نفي الأسى المانع لأمر اللّه و الفرح الموجب للبطر و الاختيال و لذا عقّب بقوله: [وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ] فإنّ من فرح بالحظوظ الدنيوية اختال و افتخر بها لا محالة و المختال المعجب المتكبّر من تخيّل فضيلة تتراءى للإنسان من نفسه و منها يتأوّل لفظ الخيل لما قيل: إنّه لا يركب أحد فرسا إلّا وجد في نفسه نخرة كأنّ الخضراء له عرشت و الغبراء باسمه فرشت و كسرى حامل غاشيته و قيصر راعي ماشيته و إسكندر قهرمان حاشيته.

و في الآية إشارة إلى أنّه يلزم أن يثبت الإنسان على حال في السرّاء و الضرّاء فإن كان لا بدّ له من فرح فليفرح شكرا لا بطرا و إن كان لا بدّ من حزن فليحزن صبرا على بلائه لا ضجرا.

قال قتيبة بن سعيد دخلت على أحياء العرب فإذا أنا بفضاء مملوّ من الإبل الميّتة بحيث لا تحصى و رأيت شخصا على تلّ يغزل صوفا فسألته فقال: كانت باسمي فارتجعها من أعطاها و ما سرّني أنّها لي في مباركها و ما حزنني أنّها خرجت من ملكي. و مثل هذا يكون دأب الصالحين و لا يجري عليهم أحلام التلوين و الاضطراب في اليقين بل لصاحب المال مصيبتان: يسلب عن كلّه و يسأل عن كلّه.

[الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بدل من كلّ مختال فإنّ المتكبّر بالمال يضنّ به غالبا و يأمر غيره به و البخل إمساك المقتنيات عمّا يحقّ إخراجها فيه و في الحديث: أربعة لا يجدون ريح الجنّة و إنّ ريحها ليوجد في مسيرة خمسمائة عام:

البخيل و المنّان و مدمن الخمر و العاقّ للوالدين.

[وَ مَنْ يَتَوَلَ و يعرض عن الإنفاق و لا يخرج من ماله حقّ اللّه [فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ

ص: 59

الْغَنِيُ عنه و عن إنفاقه [الْحَمِيدُ] المحمود في ذاته مستغن عن إقبال الخلق إليه و إدبارهم.

[لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا] أي الملائكة إلى الأنبياء إلى الأمم و هو الأظهر [بِالْبَيِّناتِ و الحجج الواضحة [وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ و أنزلنا مع الرسل جنس الكتب لتكميل القوّة النظريّة و العمليّة فالنزول مع الكتاب شأن الملائكة و الإنزال إليهم شأن الأنبياء [وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] ليعاملوا بينهم بالعدل إيفاء و استيفاء قيل:

المراد من الميزان و إنزاله إنزال أسبابه و إلّا فالميزان من مصنوعات البشر و قيل: المراد نفس الميزان. روي أنّ جبرئيل عليه السّلام نزل بالميزان نفسه فدفعه إلى نوح عليه السّلام و قال:

قومك يزنوا به حتّى يعدلوا في الحقوق.

قال الغزاليّ: إنّ هذا الميزان هو ميزان معرفة اللّه و معرفة كتبه و رسله ليتعلّم الإنسان من أنبيائه و ليس المراد ما يوزن به البرّ و الشعير و لعلّ دليله قوله: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ» (1)، أي مقيما للعدل في جميع أموره فإذا كان اللّه قائما بالعدل في جميع الأمور كان الواجب على العباد أن يقوموا به أيضا. و قال غير الغزاليّ: ما الدليل على العدول عن الظاهر؟ بل المراد من الميزان هو هذا الميزان المعروف.

[وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ] قيل: نزل آدم من الجنّة معه خمسة أشياء من حديد:

السندان و الثاني الكلبتان و الثالث الميقعة- أصله موقعة ما يحدّون به و قد وقعته بالمقيعة فهو وقيع حدّدته بها- و الرابع المطرقة و هي آلة الضرب من الحديد و الخامس الإبرة و هي مسلّة الحديد و في الحديث إنّ اللّه أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد و النار و الملح و عن ابن عبّاس ثلاثة أشياء نزلت مع آدم الحجر الأسود و كان أشدّ بياضا من الثلج و عصا موسى و كانت من اسّ الجنّة طولها عشرة أذرع و الحديد و قيل: المراد و أنزلنا الحديد أي خلقنا كقوله: «وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» و ذلك أنّ أوامره و أحكامه تنزل من السماء و قيل: أصل الحديد ماء و هو منزّل

ص: 60


1- آل عمران: 18.

من السماء.

[فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ] و هو القتال و الدفاع به و ذو قوّة شديدة و يحفظكم من أذى الموذي بالدفع به [وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ كالسكّين و الفأس و المسحاة و ما من صنعة إلّا و الحديد آلتها.

[وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ كأنّه قيل: ليستعملوه و ليعلم اللّه علما يتعلّق به الجزاء و إلّا فهو عالم بمن يعمله في جهاد دينه و مقاتلة أعداء دينه و من يعمل الحديد لإزهاق أرواح المؤمنين و يستعمله في الشرّ [بِالْغَيْبِ حال من فاعل ينصر أي غائبين عنه أي ينصرونه و لا يبصرونه و إنّما يحمد و يثاب من أطاع بالغيب من غير معاينة للمطاع أو حال من مفعول ينصر أي حالكونه تعالى غير مرئيّ لهم.

[إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] على إهلاك من أراد إهلاكه غالب لا يفتقر إلى نصرة الغير و استعمال القوّة في حقّ اللّه بمعنى القدرة و هي الصفة الّتي تتمكّن الحيّ من الفعل و تركه بالإرادة.

قال بعض أهل الأوراد: إنّ ذكر القويّ له خاصيّة ظهور القوّة في الوجود و ما تلاه ذو همّة ضعيفة إلّا وجده القوّة و لا ذو جسم ضعيف إلّا كان له ذلك و لو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرّة كان له ذلك و كذلك خاصّيّة اسم العزيز وجود الغنى فمن ذكره أربعين يوما في كلّ يوم أربعين مرّة أعانه اللّه و أعزّه. و في الأربعين الإدريسيّة يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شي ء يعادله قال السهرورديّ: من قرأه سبعة أيّام متواليات كلّ يوم ألفا أهلك خصمه إذا كان الخصم بغير حقّ و إن ذكره في وجه العسكر سبعين مرّة و يشير إليهم بيده فإنّهم ينهزمون.

[سورة الحديد (57): آية 26]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)

[وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً] اللام للقسم أي و باللّه قد بعثنا نوحا إلى قومه و هم بنو قابيل و نوح يقال له: آدم الثاني [وَ إِبْراهِيمَ إلى قومه أيضا و هم نمرد و من تبعه ذكرهما اللّه بالرسالة تشريفا لهما و لأنّهما أبوان للأنبياء و من أوّل الرسل فالبشر كلّهم

ص: 61

من ولد نوح و العرب و العبرانيّون كلّهم من ولد إبراهيم.

[وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا] و في نسلهما [النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ بأن استنبأنا بعض أولادهما و أوحينا إليهم الكتب مثل هود و صالح و موسى و هارون و داود [فَمِنْهُمْ أي فمن ذرّيّة هذين الصنفين أو من المرسل إليهم [مُهْتَدٍ] إلى طريق الحقّ [وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ و خارجون عن طاعة اللّه.

[سورة الحديد (57): الآيات 27 الى 29]

ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

قوله: [ثُمَّ قَفَّيْنا] أي ثمّ أرسلنا و أتبعنا على آثار نوح و إبراهيم و من عاصرهما و بعد عصرهما من الرسل مثل هود و صالح فإنّهما بعد نوح و مثل إسماعيل و إسحاق و يعقوب فإنّهم بعد إبراهيم و بالجملة أرسلنا رسولا بعد رسول حتّى انتهى إلى عيسى و الآثار جمع إثر بالكسر تقول: خرجت على إثره أي عقبه.

قال الحريريّ: يقال شفعت الرسول بآخر أي جعلتها اثنين فإذا بعثت بالثالث فوجه الكلام أن يقال: عزّزت بثالث أي قوّيت كما قال سبحانه «فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» (1)، فمعنى قوله: «وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» أي آتينا بعيسى بعد الرسل فأوّل أنبياء بني إسرائيل موسى و آخرهم عيسى.

[وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ دفعة واحدة [وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ المؤمنين [الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي اتّبعوا عيسى في دينه كالحواريّين و أتباعهم [رَأْفَةً] و هي اللين [وَ رَحْمَةً] و هي الشفقة كما كان الصحابة رحماء بينهم حتّى كانوا أذلّة على المؤمنين و كان أهل الإنجيل

ص: 62


1- يس: 14.

قد أمروا في الإنجيل بالصفح و الإعراض عن مكافاة الناس على الأذى و كانوا متوادّين متحابّين بينهم و وصفوا بالرحمة خلاف اليهود الّذين وصفوا بالقسوة.

[وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها] و رهبانيّة منصوب بفعل مضمر يفسّره الظاهر أي أتباع عيسى ابتدعوا الترهّب و حملوا أنفسهم على هذا الأمر و استحدثوها بينهم و الرهبانيّة المبالغة في العبادة بمواصلة الصوم و لبس المسوح و ترك أكل اللحم و الامتناع عن المطاعم اللذيذة و الملابس الفاخرة و المناكح و التعبّد في الغيران و الرهبة المخافة مع الحزن و الاضطراب و رهبان فعلان من رهب كخشيان من خشي.

و قرئ بضمّ الراء كالرهبان جمع راهب و ركبان جمع راكب و الرهبان لمّا كان اسما لطائفة مخصوصة صار بمنزلة العلم و إن كان جمعا في نفسه و التحقّق بالنصارى و أعراف فقيل: رهبانيّ كما يقال: أعرابيّ و أنصاريّ.

و سبب ابتداعها أنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السّلام فقاتلوا حتّى لم يبق منهم إلّا قليل فخافوا أن يفتتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانيّة في قلل الجبال فارّين بدينهم مخلّصين أنفسهم للعبادة منتظرين البعثة النبويّة الّتي وعدها عيسى لهم كما قال تعالى: «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (1).

و روي أنّ اللّه لمّا أغرق فرعون و جنوده استأذن الّذين كانوا آمنوا من السحرة موسى عليه السّلام في الرجوع إلى الأهل و المال بمصر فأذن لهم و دعا لهم فترهّبوا في رؤوس الجبال فكانوا أوّل من ترهّب و بقيت طائفة منهم مع موسى عليه السّلام حتّى توفّاه اللّه ثمّ انقطعت الرهبانيّة بعدهم حتّى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السّلام.

[ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ما فرضنا الرهبانيّة عليهم في كتابهم و لا على لسان رسولهم [إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع أي ما رعوا جميعا حقّ رعايتها بسبب التثليث و القول بالاتّحاد و الكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عدم تصديق النبيّ العربيّ و نحوها قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من آمن بي و صدّقنى فقد رعاها حقّ رعايتها و من لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون.

ص: 63


1- الصف: 6.

و قال الزجّاج: الاستثناء في قوله: «إِلَّا ابْتِغاءَ» استثناء متّصل تقديره ما فرضناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان اللّه و لكنّ الصحيح أنّا ما فرضنا الرهبانيّة عليهم لكن هم ابتدعوا ذلك و ألزموا أنفسهم ذلك التطوّع و دخلوا عليه فلزمهم تمامه كما أنّ الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يعرض عليه لزمه أن يتمّه فقوله: «فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها» على ضربين أحدهما أن يكونوا قصّروا فيما ألزموه أنفسهم و الثاني و هو الأجود أن يكونوا حين بعث النبيّ فلم يؤمنوا به كانوا تاركين طاعة اللّه فما رعوا تلك الرهبانيّة و دليل قوّة هذا المعنى قوله:

[فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ أي من العيسيّين إيمانا برسول اللّه لأنّ عدم تصديق محمّد يلزمه تكذيب عيسى لأنه بشّر به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالّذين عملوا منهم و صدّقوا بما يجب عليهم أعطيناهم ما يحسن و يليق لهم من الأجر.

[وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي من العيسيّين خارجون عن حدّ الإيمان روي أنّ نفرا من الصحابة أخذهم الخوف و الخشية حتّى أراد بعضهم أن يعتزل عن النساء و الإقامة على رؤوس الجبال و ترك الأكل و الشرب اللذيذ و بعضهم الخصاء فنهاهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك كلّه و قال: لا رهبانيّة في الإسلام و رهبانيّة امّتي في المسجد.

قال بعض أهل التحقيق: إنّ الكامل من الرجال من سدّ باب الابتداع و لم يزد في التكاليف حكما واحدا و لا يجعل ورده و ذكره غير ما ورد في الكتاب و السنّة فيكون حينئذ ممتثلا لا مخترعا و قد شاهدنا بعض الناس متسرّعين إلى بعض النوافل مثل وضع الخواتم العديدة في أصابعهم لكنّهم متكاسلون عن القيام بحقوق الواجبات و لا يقومون بفرض واحد على وجهه.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بالرسل المتقدّمه [اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه [وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني محمّدا و في إطلاقه إيذان بأنّه علم فرد الرسالة لا يذهب الوهم إلى غيره [يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين و أجرين و الكفل الحظّ الّذي فيه الكفالة كأنّه تكفّل بأمره نصيبا لإيمانكم بمن تقدّم من الأنبياء و نصيبا لإيمانكم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يوم القيامة حسبما نطق به قوله تعالى: «يَسْعى

ص: 64

نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ» و هو الضياء الّذي تمشون به على الصراط [وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتم من الكفر و المعاصي [وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة و الرحمة.

[لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ لا مزيدة مؤكّدة مثل قوله (1): «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» و إنّما يحسن إدخال مثل هذا اللام المزيدة في كلام أواخره أو أوائله جحد و تقدير الكلام إن تتّقو اللّه و تؤمنوا باللّه و رسله يؤتكم كذا و كذا ليعلم الّذين لم يسلموا من أهل الكتاب [أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أن هي المخفّفة و الاسم ضمير الشأن و المعنى أنّ الّذين لم يؤمنوا لا أجر لهم و لا نصيب من فضل اللّه.

[وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ] فأتى المؤمنين منهم أجرين و حاصل ليعلموا أنّهم لا ينالوا شيئا من الفضل و الكفلين و المغفرة و لا يتمكّنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الّذي هو الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّ الفضل بيده سبحانه و لا يعطيه إلّا لمن آمن به و قيل: إنّ المراد من فضل اللّه هنا النبوّة أي ليعلم أهل الكتاب أنّهم لا يقدرون على نبوّة الأنبياء و لا على صرفها عمّن شاء اللّه أن يخصّه بها فيصرفونها عن محمّد إلى من يحبّونه [وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تمّت السورة

ص: 65


1- الأعراف: 11.

سورة المجادلة

اشارة

من قرأها كتب من حزب اللّه يوم القيامة.

هي اثنتان و عشرون آية مدنيّة أو إلّا آية منها.

ص: 66

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المجادلة (58): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5)

سمع مجاز مرسل عن أجاب بعلاقة السببيّة، و المجادلة المفاوضة على سبيل الجدل و المبالغة من جدلت الحبل أي أحكمت فتله و المراد هنا المكالمة بالخشونة و المعنى قد أجاب اللّه دعاء المرأة الّتي تكالمك في حقّ زوجها و تستفتي في شأن زوجها في ظهاره إيّاها.

[وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ و الشكاية و الشكاة و الشكوى إظهار البثّ و المكروه و الشكوة سقاء صغير يجعل فيه الماء و هو استعارة كقولك: بثثت له ما في وعائي و نفضت ما في جرابي إذا ظهرت ما في قبلك.

نزلت في خولة بنت ثعلب بن مالك الخزرجية و زوجها أوس بن الصامت أخو عبادة روي أنّها كانت حسنة البدن رآها أوس و هي تصلّي فاشتهى مواقعتها فلمّا سلّمت راودها و أبت و كان به خفّة فغضب عليها و قال: أنت عليّ كظهر امّي و كان أوّل ظهار وقع في الإسلام ثمّ ندم على ما قال: و كان الظهار و الإيلاء من طلاق الجاهليّة فقال

ص: 67

لها: ما أظنّك إلّا و قد حرمت عليّ فشقّ ذلك عليها فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه إنّ زوجي أوس أبو ولدي و ابن عمّي و أحبّ الناس إليّ ظاهر منّي و ما ذكر طلاقا و قد ندم على فعله فهل من شي ء يجمعني و إيّاه؟ و ذكرت تفاني أهلها و أنّ لها صبية صغارا و قالت: إن ضممتهم إليّ جاعوا و إن ضممتهم إلى أبيهم ضاعوا فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أظنّ أنك حرمت عليه فجعلت تراجع رسول اللّه مقالتها الاولى و كرّر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مقالته عليها فقالت: أشكو إلى اللّه مما لقيت من زوجي حال فاقتي و وحدتي و قد طالت معه صحبتي و نفضت له بطني و صرت عقيما لا ألد بعد و كانت في كلّ ذلك ترفع رأسها إلى السماء استنزالا للأمر الإلهيّ حتّى نزل جبرئيل بهذه الآيات الأربع قبولا لشكواها فكانت سببا لظهور حكم الظهار و «قد» تدخل على ماض متوقّع.

[وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما] أي يعلم تخاطبكما و المحاورة رجع الكلام من الحور بمعنى الرجوع و منه في الدعاء نعوذ باللّه من الحور بعد الكور أي من الرجوع إلى النقصان بعد وصول الزيادة أو إلى الوحشة بعد الانس و ذلك التحاور لأنّ المرأة تراجع الرسول في طلب التحليل و الرسول لا يحكم به و يدافعها بجواب ينبئ عن التوقّف و ترقّب الوحي.

[إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] قال صاحب تفسير روح البيان: إنّ هذه المرأة هي الّتي وعظت عمر بن الخطّاب في أيام خلافته و هو راكب على حمار في طريق و الناس معه فاستوقفته و وعظته فقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا ثمّ قيل لك: عمر ثمّ قيل لك:

أمير المؤمنين فاتّق اللّه يا عمر فإنّه من أيقن الموت خاف الفوت و من أيقن الحساب خاف العذاب فقيل لعمر: أ تقف لهذا العجوز هذا الوقوف الطويل؟ فقال عمر: هي خولة سمع اللّه قولها من سبع سماوات و لا يسمع كلامها عمر؟.

قال بعض أهل التحقيق: من أكبر الذنوب أن يقول الرجل لأخيه: اتّق اللّه و لا تفعل كذا فيقول في جوابه: عليك نفسك. و الإنسان لا يستغني عن تنبيه و إيقاظ و ينبغي أن يكون الإنسان كالنحل يأخذ من النبات الطيّب و الأزهار المعطّرة ثمّ يخرجه عسلا فيه شفاء من كلّ داء و شمعا و ضياء لنفسه قال الشاعر:

ص: 68

المرء لو لا عرفه فهو الدميّ و المسك لو لا عرفه فهو الدم

العرف الأوّل بضم العين بمعنى المعروف و الثاني بمعنى الرائحة و الدميّ جمع دمية الصور المنقّشة من الرخام و العاج و في زماننا يقال له المجسّمة.

[الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ أيّها المؤمنون فلا يلحق بهم الذمّي لأنّه ليس من أهل الكفّارة من النساء، و الظهار مصدر ظاهر الرجل أي قال لزوجته: أنت عليّ كظهر امّي و يعبّر عن البطن بالظهر و كنّي عن البطن بالظهر الّذي هو عمود البطن لمراعاة الأدب في الكلام لئلّا يذكر ما يقارب الفرج و المعنى إنّ الّذين يقولون لنسائهم:

أنتنّ كظهور امّهاتنا.

[ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ يعني ما اللواتي تجعلونهنّ من الزوجات كالامّهات بامّهاتهم [إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ إن نافية بمعنى ما امّهاتهم في الحقيقة إلّا اللّائي جمع الّتي أي النساء اللّاتي ولدن المظاهرين فلا تشبه بهنّ في الحرمة إلّا من ألحقها الشرع بهنّ من أزواج النبيّ و مثل المرضعات و منكوحات الآباء لكرامتهنّ فدخلن بذلك في حكم الأمّهات و لكنّ الزوجات فأبعد شي ء من الأمومة.

[وَ إِنَّهُمْ أي إنّ المظاهرين منكم [لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ عند الشرع و العقل و الطبع لأنّ الزوجة ليست بالأمّ و لا ممّن ألحقه الشرع بالامومة فهدا التشبيه منكر غير معروف مطلقا [وَ زُوراً] و باطلا و كذبا منحرفا عن الحقّ، و الزور بالتحريك الميل و يقال للكذب: زور بالضمّ لكونه مائلا عن الحقّ. فإن قلت: قوله: أنت عليّ كظهر أمّي إنشاء لتحريم الاستمتاع بها و ليس بخبر و الإنشاء لا يوصف بالكذب قلنا:

هذا من قبيل إطلاق السبب على المسبّب لأنّ هذا الإنشاء يتضمّن إلحاق المحلّلة بالأمّ المحرّمة و هذا الإلحاق مناف لمقتضى الزوجيّة فيكون كاذبا لا محالة و في الحديث قال رسول اللّه: ألا انبّئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول اللّه قال: الإشراك باللّه و عقوق الوالدين و كان متّكئا و قال: ألا و قول الزور و شهادة الزور فما زال يقولها حتّى قلنا:

لا يسكت.

[وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ] أي مبالغ في العفو و المغفرة لما سلف إمّا على الإطلاق

ص: 69

على مذهب الأشاعرة أو بالمتاب عنه على مذهب الاعتزال.

[وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] أي الّذين يقولون ذلك القول المنكر ثمّ يعودون إلى ما قالوا، اللّام و إلى يتعاقبان كثيرا نحو يهدي للحقّ و إلى الحقّ و المراد إذا عادوا إلى ما قالوا بالتدارك قال ابن عبّاس: العود في الآية المراد الندم فقال: معناه يندمون و يرجعون إلي الالفة و قال الفرّاء: المعنى يرجعون عمّا قالوا يقال: عاد لما فعل أي رجع و نقض ما فعل و يحتمل أن يقال: عاد لما فعل يريد فعله مرّة اخرى و هو أن يكرّر لفظ الظهار عن أبي العالية و احتجّ بأنّ لفظ العود يدلّ على تكرير القول و ردّه أبو عليّ الفارسيّ ليس هذا كما ادّعوا لأنّ العود قد يكون إلى شي ء لم يكن عليه قبل و قد سمّيت الآخرة معادا و لم يكن فيها أحد ثمّ صار إليها. و قال الأخفش: تقدير الآية «و الّذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا» ثمّ يعودون إلى نسائهم و عليهم تحرير الرقبة لما نطقوا به و قال: التقديم و التأخير كثير في التنزيل.

و أمّا ما ذهب إليه أئمّة الهدى من آل محمّد عليهم السّلام فهو أنّ المراد بالعود إرادة الوطي و نقض القول الّذي قاله فعليه تحرير رقبة قبل الوطي فإنّ الوطي لا يجوز إلّا بعد الكفّارة كما قال سبحانه: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» أي من قبل أن يجامعها و التحرير هو أن يجعل الرقبة المملوكة حرّة بالعتق بأن يقول المالك لمن تملّكه: أنت حرّ.

و بالجملة فالنكاح باق و حرمة الوطي أيضا باق ما لم يكفّر و نزول بالتكفير.

[ذلِكُمْ أي الحكم بالكفّارة أيّها المؤمنون [تُوعَظُونَ بِهِ الوعظ زجر يقترن بتخويف أي تزجرون به من ارتكاب المنكر المذكور فإنّ الغرامات مزاجر من تعاطي الجنايات و التباعد عن الباطل فيحصل من هذا الحكم التدارك للمظاهر و لغير المظاهر الاجتناب عن ارتكاب مثله [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] من قليل و كثير فيجازيكم بها.

[فَمَنْ لَمْ يَجِدْ] المظاهر و لا يتمكّن من تحرير الرقبة بأن كان فقيرا وقت التكفير [فَصِيامُ شَهْرَيْنِ عليه [مُتَتابِعَيْنِ ليس فيها رمضان و لا الأيّام المحرّمة صومها كالعيدين بحيث لا يفعل يوما عن يوم و لا شهرا عن شهر بالإفطار و التتابع عند أكثر الفقهاء و قال

ص: 70

أصحابنا الإماميّة: إنّه إذا صام شهرا و من الثاني شيئا و لو يوما و أحدا ثمّ أفطر لغير عذر فقد أخطأ إلّا أنّه يبني عليه و لا يلزمه الاستيناف و إن أفطر قبل ذلك استأنف و متى بدأ بالصوم و صام بعض ذلك ثمّ وجد الرقبة لا يلزمه الرجوع إلى التحرير و إن رجع كان أفضل و قال قوم: إنّه يلزمه الرجوع إلى العتق.

[فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً] أي من لم يطق الصوم لعلّة أو كبر فعليه إطعام ستّين مسكينا و المسكين- و يفتح ميمه- من لا شي ء له أوله ما لا يكفيه و أسكنه الفقر أي قلّل حركته، لكلّ مسكين نصف صاع عند أصحابنا و هو مدّان فإن لم يقدر فمدّ هذا إذا كان حرّا و أمّا إذا كان المظاهر عبدا فعليه الصوم إلّا إذا أمكنه المولى عن ثمن الرقبة فحينئذ لا يجوز له الصوم.

[ذلِكَ البيان و التعليم [لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ و تعملوا بحكمه و ترفضوا ما كنتم عليه في جاهليّتكم.

[وَ تِلْكَ إشارة إلى الأحكام المذكورة [حُدُودُ اللَّهِ الّتي لا يجوز تعدّيها و تجاوزها و الحدّ الحاجز بين الشيئين اللّذين يمنع اختلاط أحدهما بالآخر [وَ لِلْكافِرِينَ الّذين لا يقبلون الحدود [عَذابٌ أَلِيمٌ .

[إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي يشاقّونهما و يعادونهما و يكونون في حدّ غير حدّ هما و في شقّ غير شقّهما و قيل: المحادّة مفاعلة من لفظ الحديد و المراد المقابلة سواء كان في ذلك حديد حقيقة أو كان ذلك مخالفة شديدة شبيهة بالخصومة بالحديد و و يضعون حدودا غير حدودهما قال صاحب تفسير روح البيان: كالامراء السوء الّذين وضعوا أمورا خلاف ما حدّه الشرع و سمّوها القانون.

[كُبِتُوا] أي أخزوا و صرعوا منكوسا و ذلّوا و العبارة تصلح أن يكون دعاء عليهم و إخبارا عمّا سيكون و أتى بالماضي لتحقّقه أي سيكبتون [كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفّار الأمم الماضية [وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ حال من واو الجمع في كبتوا أي و الحال إنّا قد أنزلنا آيات واضحات فيما فعلنا بمن حادّ اللّه من قبلهم من الأمم. فإن قيل: إنّ الإنزال نقل الشي ء من الأعلى إلى الأسفل و الآيات الّتي هي

ص: 71

من الكلام من الأعراض القارّة فكيف قال: أنزلنا؟ فالمراد: أنزل ما يتلقّف من اللّه و يرسل إلى عباده مثل جبرئيل فيسند الإنزال إليها مجازا فكونها المقصودة منه و يصدق على الآيات لفظ النزول لأنّها نازلة من السماء.

[وَ لِلْكافِرِينَ بالآيات [عَذابٌ مُهِينٌ يذهب بغيرهم من الإهانة الحاصلة بالعذاب.

[سورة المجادلة (58): الآيات 6 الى 10]

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (6) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (7) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

يوم منصوب باذكر المقدّر تهويلا له و المراد يوم القيامة أي يحييهم بعد الموت للجزاء [جَمِيعاً] كلّهم فيكون تأكيدا للضمير أو حالا أي مجتمعين [فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا] من القبائح ببيان صدورها أو بتصويرها في تلك النشئة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الأشهاد تشهيرا لحالهم [أَحْصاهُ اللَّهُ كأنّه قيل: كيف ينبّئهم بأعمالهم و هي أعراض فانية متلاشية؟ فقيل: أحصاه اللّه و أحاط بها عددا و حفظا لم يفت عن علمه شي ء و الإحصاء مأخوذ من لفظ الحصى إذ أصله العدد بآحاد الحصى للتقوّي على الضبط [وَ نَسُوهُ أي و الحال أنّهم قد نسوه لكثرته أو لتهاونهم حين ارتكبوه [وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] لا يغيب عنه أمر من الأمور و الشهود بمعنى الحضور و المراد بالحضور حضور العلمي لا الحضور الجسميّ.

ص: 72

[أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ بيان على شمول شهوده تعالى و الهمزة للإنكار الّذي مقرّر للرؤية و المعنى ألم تعلم علما يقينيّا بمرتبة المشاهدة و الرؤية أنّه تعالى يعلم ما في السماوات و ما في الأرض من الموجودات قال ابن عبّاس: إنّها نزلت في ربيعة و حبيب ابني عمرو و صفوان بن اميّة كانوا يتحدّثون فقال أحدهم:

أ ترى اللّه يعلم ما نقول: فقال الآخر: يعلم بعضا و قال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كلّا لأنّ من علم بعضا بغير سبب فقد علمها كلّها فنزلت الآية.

[ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ] «ما» نافية و يكون تامّة بمعنى يقع و يوجد و نجوى فاعله و هو مصدر بمعنى التناجي كالشكوى يقال: نجاه نجوى أي سارّه كناجاه المناجاة و النجوى السرّ الّذي يكتم و أصله أن تخلو في نجوة و مرتفع من الأرض منفصل بارتفاعه عمّا حوله كأنّ المتناجي بنجوة من الأرض لئلا يطّلع عليه أحد و المعنى أنّه ما يتسارّ ثلاثة [إِلَّا هُوَ] تعالى [رابِعُهُمْ أي جاعلهم أربعة من حيث يشاركهم في الاطّلاع عليها [وَ لا خَمْسَةٍ] أي و لا نجوى خمسة نفر [إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ثمّ عمّم الحكم فقال: [وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ أي أقلّ ممّا ذكر لا الاثنين و الواحد فإنّ الواحد أيضا يناجي نفسه [وَ لا أَكْثَرَ] كالستّة و ما فوقها [إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ بالعلم و الإحاطة [أَيْنَ ما كانُوا] و في أيّ مكان و لو كانوا تحت الأرض ثمّ إنّ هذه المعيّة مع المؤمن و الكافر لكن له سبحانه معيّة اللطف و التقرّب ببعض عباده المخصوصين بالفيض.

[ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا] و يخبرهم أعمالهم في الدنيا [يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لأنّ نسبة ذاته المفيضة للعلم ألى الكلّ سواء.

[أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ نزلت في اليهود و المنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم و يتخلّفون ثلاثة و خمسة و يتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين يريدون أن يغيضوهم فنهاهم رسول اللّه ثمّ عادوا لمثل فعلهم و الخطاب للرسول و الهمزة للتعجّب من حالهم [بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ عطف على قوله: «يَعُودُونَ» داخل في حكمه و بيان لما نهوا عنه أي بما هو إثم في نفسه و عدوان للمؤمنين و تواص بمعصية الرسول و العدوان و المعصية خلاف الطاعة.

ص: 73

[وَ إِذا جاؤُكَ أهل النجوى [حَيَّوْكَ و التحيّة في الأصل مصدر حيّاك على الإخبار من الحياة فمعنى حيّاك اللّه جعل لك حياة ثمّ استعمل للدعاء ثمّ غلب في الإطلاق عليه السّلام [بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي بشي ء لم يقع من اللّه أن يحيّك به فكانوا يقولون:

السام عليك و السام بلغتهم الموت أو القتل بالسيف و هم يوهمون أنّهم يقولون: السلام عليك و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يردّ عليهم «عليكم» بدون الواو.

[وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي فيما بينهم إذا خرجوا من عندك: [لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي هلّا يعذّبنا اللّه و يغضب علينا بجرأتنا علي الدعاء بالشرّ عليه لو كان نبيّا حقّا [حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها] أي كافيهم جهنّم في التعذيب من حسبه إذا كفاه يصلونها و يقاسون حرّها و إن لم يعجّل تعذيبهم لحكمة [فَبِئْسَ الْمَصِيرُ] و المقرّ، و الفاء في فبئس لما فيه من معنى التعقيب.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بألسنتهم و قلوبهم [إِذا تَناجَيْتُمْ في أنديتكم و خلواتكم [فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ كما يفعله المنافقون و اليهود [وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى و ما يتضمّن خير المؤمنين و ذكر اللّه و قراءة القرآن و إصلاح الناس.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ و المضاف محذوف أي اتّقوا عذاب اللّه و ما يفضي إلي سخطه [إِنَّمَا النَّجْوى المعهودة الّتي هي التناجي بالإثم بقرينة ليحزن [مِنَ الشَّيْطانِ لا من غيره لأنّه المزيّن لها فكأنّها منه [لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا] و الحزن بضمّ الحاء بعده السكون متعدّ من الباب الأوّل و الحزن بفتحين لازما من الباب الرابع و الحزن و الحزن خشونة في الأرض و خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ و يضادّه الفرح فالمعنى أنّ النجوى الممنوعة من الشيطان ليجعل قلوب المؤمنين محزونة و يشوّش قلوبهم و يتوهّمون أنّه تصيبهم نكبة أو أمر موحش، و في الحديث إذا كنتم ثلاثة فلا يناج اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزّنه.

[وَ لَيْسَ أي الشيطان أو التناجي [بِضارِّهِمْ بالّذي يضرّ المؤمنين [شَيْئاً] من الأشياء [إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بمشيّته و إرادته أو بعلمه و إنّ كان يوجب الحزن للمؤمنين لكن إذا سلّمت عاقبته لا يكون ضررا في الحقيقة و هذه نكتة كلاميّة اصوليّة

ص: 74

إذ الضرر إذا كانت عاقبته الثواب لا يكون ضررا في الحقيقة و النفع إذا كانت عاقبته العذاب لا يكون نفعا مثل الجهاد لأنّ سبب الجهاد أمره تعالى و هو يلحقهم الآلام و الأمراض عقيب ذلك لكن هذا ليس بضرر بل نفع لهم و قيل: إنّ الآية المراد بها الأحلام الّتي يراها الإنسان في نومه فيحزّنه.

روي أنّ فاطمة عليها السّلام رأت كأنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام أكلا من أطيب جزور بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهما فماتا فلمّا أصبحت سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سأل هو جبرئيل و جبرئيل ملك الرؤيا فقال: لأعلم لي به فعلم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه من الشيطان.

[وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و الشيطان يناجي النفس الأمّارة و يتزيّن لها القبائح و المعارضات ليقع القلب و الروح في الاضطراب و الحزن للتقاعد عمّا أمره اللّه و ينقطع عن السير فليكن العبد على المعالجة دائما بتفويض الأمور إليه و يشتغل بما هو عليه.

قوله [سورة المجادلة (58): الآيات 11 الى 15]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15)

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] يعني المخلصين [إِذا قِيلَ لَكُمْ من أيّ قائل كان من إخوانكم توسّعوا و لينفسح بعضكم عن بعض و لا تتضامّوا [فِي الْمَجالِسِ متعلّق بقيل أو بقوله «تَفَسَّحُوا» و الصحيح الثاني لأنّ البيهقيّ صرّح في تاج المصادر بأن التفسّح يعدّى بفي [فَافْسَحُوا] فتوسّعوا [يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فيما تريدون من المكان و الصدر و الرزق و القبر فإنّ الجزاء من جنس العمل و الآية عامّة في كلّ مجلس خيرا اجتمع

ص: 75

فيه المؤمنون سواء كان مجلس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانوا يتضامّون تنافسا في القرب منه أو مجلس الذكر أو الجمعة و في الحديث: لا يقيمنّ أحدكم الرجل من مكانه و مجلسه ثمّ يخلفه فيه و لكن تفسّحوا و توسّعوا.

روي إنّ رجلا من الفقراء دخل المسجد و أراد أن يجلس بجنب واحد من الأغنياء فلمّا قرب منه قبض الغنيّ إليه ثوبه فرأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك فقال للغنيّ: خشيت أن يعديه غناك أو يعديك فقره [وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا] يقال: نشز الرجل إذا ارتفع عن مكانه و كذلك النشز بفتحتين المكان المرتفع من الأرض و المعنى إذا قيل: لكم قوموا للتوسعة على المقبلين و لمن جاء بعدكم [فَانْشُزُوا] و ارتفعوا و قوموا و لا تتثاقلوا عن القيام و توسّعوا لإخوانكم لضرورة داعية إليه أو للتحبّب و المواساة و في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يكرم أهل بدر فأقبلت جماعة منهم فلم يوسّعوا لهم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قم يا فلان فأقام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المجلس بعدد المقبلين من أهل بدر فتغامز به المنافقون أنّه ليس من العدل يقيم أحدا من مجلسه و شقّ ذلك على من أقيم من مجلسه و عرف رسول اللّه الكراهة في وجوههم فأنزل اللّه الآية.

[يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ جواب لأمر أي من فعل ذلك طاعة للأمر يرفعهم اللّه بالنصر و الإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة لأنّ من تواضع رفعه اللّه و من تكبّر وضعه.

[وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي و يرفع العلماء منهم خاصّة و هو من عطف الخاصّ على العامّ للدلالة على طبقاتهم [دَرَجاتٍ أي مراتب مرتفعة بسبب ما جمعوا من العلم و العمل و العمل مع العلم لا يدرك شأوه العمل العاري عن العلم و إن كان العامل في غاية الصلاح قال ابن عبّاس: تمّ الكلام عند قوله: «مِنْكُمْ» و ينتصب «وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» بفعل مضمر تقديره و يرفعهم درجات أي إلى درجات أو رفع درجات أو على الحاليّة أي ذوي درجات.

[وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] عالم لا يخفى عليه شي ء و العمل لا بدّ و أن يكون

ص: 76

حسبما قرّره الشارع و بيّنه العلماء الربّانيّون و هم الأئمّة الاثنا عشر لأنّهم أهل البيت و أهل البيت أدرى بما في البيت و للعلماء إطلاقات كما قالوا: نحن العلماء و شيعتنا المتعلّمون و الباقي همج رعاع فالمتعبّد بغير طريقتهم و من غير علمهم كحمار الطاحونة يدور و لا يقطع المسافة و العالم من شأنه أن يجمع مع علمه العمل و كلّ علم لم يوطد بعمل فإلى ذلّ يصير و العلماء أيضا لهم درجات من الشرف في الزيادة و النقصان.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] خالصا [إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً] و كالمتوه سرّا في بعض شؤونكم فقدّموا قبل أن تسارّوه صدقة للفقراء و أراد بذلك تعظيم الرسول و أن يكون ذلك سببا لأن يتصدّقوا فيوجروا عليه فلمّا نهوا عن المناجاة حتّى يتصدّقوا ضنّ كثير من الناس فلم يناجه أحد إلّا عليّ بن أبي طالب فإنّه عليه السّلام كان له دينار فباعه بعشرة دراهم و ناجى رسول اللّه عشر نجوات.

و قال بعض أهل التفسير: و كان ذلك الحكم عشر ليال أو أقلّ و نسخت بآية «أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا» الآية.

و بالإسناد إلى مجاهد قال: قال عليّ: إنّ في كتاب اللّه لآية ما عمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها بعدي و هي آية النجوى و في الخصال عنه عليه السّلام في احتجاجه على أبي بكر قال: فاشدك باللّه أنت الّذي قدّم بين يدي نجواه لرسول اللّه صدقة فناجاه و عاتب اللّه قوما بقوله: «أَ أَشْفَقْتُمْ الآية» أم أنا؟ فقال أبو بكر: بل أنت و بالجملة نزلت الآية حين أكثر الناس عليه السؤال حتّى أسأموه و أملّوه فأمرهم اللّه بتقديم الصدقة للفقراء عند المناجاة فكفّ الناس أمّا الفقير فلعسرته و أمّا الغنيّ فلشحّه ثمّ نسخت بقوله: «أَ أَشْفَقْتُمْ» و هو و أن كان متّصلا به تلاوة لكنّه متراخ عنه نزولا.

[ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ أي ذلك التصدّق أنفع لكم من الإمساك [وَ أَطْهَرُ] لأنفسكم من درن البخل الناشي من حبّ الدنيا و هذا يشعر بالندب لكن قوله: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» منبئ عن الوجوب لأنّه ترخيص لمن لم يجد فهو غفور لهم و رحيم بهم.

[أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ و المعنى أخفتم الفقر؟

ص: 77

و المفعول محذوف و أفرد الصدقة أوّلا لكفاية شي ء منها و جمع ثانيا نظرا إلى كثرة التناجي و المناجي [فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا] و شقّ عليكم ذلك [وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخّص لكم في أن لا تعلوه و أسقط عنكم تقديم الصدقة و «إذ» في الآية فيها معنى الظرفيّة أي إنّكم تركتم ذلك فيما مضى و تجاوز اللّه عنكم فتداركوه بما تؤمرون به بعد هذا فإن فرّطتم فيما أمرتم به من تقديم الصدقات:

[فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ] و تداركوه بالمواظبة على إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة المفروضة [وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر الأوامر [وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة و الباطنة و في تخصيص الصلاة و الزكاة بالذكر إشارة إلى إنافة قدرهما و علوّ شأنهما فإنّ الصلاة رئيس الأعمال البدنيّة و بها يتحقّق صورة العبوديّة و معناها و هي مخّ العبادة و العبوديّة من الخضوع و الذلّة و التكبير و التهليل و الركوع و السجود و الصلاة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من تركها فهو محروم من تمام هذه الكيفيّة الجامعة و الويل لتاركها و إنّ الزكاة امّ الأعمال الماليّة بها يطهّر القلب من دنس البخل فإنّها هي المطهّرة و بها ينمو المال في الدنيا لأنّه سبحانه يمحق الربا و يربي الصدقات.

[أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تعجيب من حال المنافقين الّذين يتّخذون اليهود أولياء و يناصحونهم و يتحاببون إليهم بالمعاشرة أي ألم تنظر إلى هؤلاء الّذين يتولّون من الموالاة لا من الإعراض أي والوا قوما غضب اللّه عليهم و هم اليهود كما ينبئ عن هذا المعنى قوله: «مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ» و الغضب حركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام و هو بالنسبة إليه تعالى نقيض الرضا [ما هُمْ مِنْكُمْ أي المتولّين لمن غضب اللّه عليه منكم [وَ لا مِنْهُمْ أي و ليسوا من القوم المغضوب عليهم لأنّهم منافقون مذبذبون و إن كانوا كفّارا في الواقع لكنّهم ليسوا من اليهود.

[وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ أي يحلفون و اللّه إنّا لمسلمون و يدّعون الإسلام و هو عطف على تولّوا [وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أي هم في يمينهم عالمون بكذب حلفهم فإنّ الحلف على ما يعلم أنّه كذب في غاية القبح و الآية نزلت حين ما كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجرة

ص: 78

من حجراته فقال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار و ينظر بعين شيطان فدخل عبد اللّه بن نبتل- كجعفر بتقديم النون على الباء الموحّدة- و كان اللعين أزرق فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له علام تشتمني أنت و أصحابك؟ فحلف باللّه ما فعل فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعلت فانطلق بأصحابه فحلفوا باللّه ما سبّوه فنزلت الآية انتهى.

[أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب ذلك التولّي و النفاق [عَذاباً شَدِيداً] و تنكير العذاب يشعر بشدّته [إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي تمرّنوا على هذا العمل السيّئ و اعتادوا و يستفاد معنى الاعتياد و التمرين من «كان» الدالّة على الزمان الماضي أي ذلك كان دأبهم و بئس العمل عملهم و هو النفاق و موالاة أعداء اللّه.

[سورة المجادلة (58): الآيات 16 الى 22]

اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)

كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

[اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الكاذبة الفاجرة الّتي يحلفون بها عند الحاجة [جُنَّةً] و هي الترس الّذي يجنّ صاحبه و يستره، وقاية و سترة على أكاذيبهم و يحفظ نفوسهم و أموالهم [فَصَدُّوا] أي منعوا الناس و صرفوهم [عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دين اللّه و تثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام [فَلَهُمْ بسبب كفرهم و صدّهم [عَذابٌ مُهِينٌ مخز بين أهل أهل المحشر و قوله: «عَذابٌ مُهِينٌ» وعيد ثان بوصف آخر لأنّ العذاب الأوّل موصوف بالشدّة و الثاني بالخزي قيل: الأوّل عذاب القبر و هذا عذاب الآخرة.

ص: 79

[لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذابه [شَيْئاً] قليلا، من الإغناء و إذا دخلوا النار لا تنفعهم أموالهم الّتي صانوها و أولادهم الّذين ربّوهم فإنّ يوم القيامة يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون [أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات القبيحة [أَصْحابُ النَّارِ] و ملازموها [هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا و تقديم ضميرهم لتقوية الإسناد و رعاية الفاصلة لا للحصر لخلود غير المنافقين فيها أيضا من الكفّار.

[يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً] أي اذكر يوم يجمعهم اللّه [فَيَحْلِفُونَ في ذلك اليوم [لَهُ أي للّه على أنّهم مسلمون مخلصون كما قالوا: «وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» [كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا.

[وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الكاذبة [عَلى شَيْ ءٍ] مصدره الحسبان و يقارب الحسبان الظنّ و لكنّ الظنّ هو أن يخطر النقيضان بباله فيغلب أحدهما الآخر و الحسبان هو أن يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله [أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ المبالغون في الكذب حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علّام الغيوب و المراد من حرف التنبيه في قوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ» بيان و تنبيه على توغّلهم في النفاق موتا و حياة.

[اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ من حذت الإبل إذا استوليت عليها و جمعتها و سقتها سوقا عنيفا أي ملكهم الشيطان لطاعتهم له في كلّ ما يريد منهم [فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أي كان بالاستيلاء سببا لنسيان اللّه فلم يذكروه بقلوبهم و لا بألسنتهم [أُولئِكَ المنافقون [حِزْبُ الشَّيْطانِ و جنوده و أعوانه و الحزب الفريق الّذي يجمعه مذهب واحد [أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ الموصوفون بالخسران حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم.

قال بعض المشايخ: علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل و الملابس و يشغل قلبه عن القيام لشكرها و يشغل لسانه بالكذب عن ذكر ربّه و سمعه عن الحقّ بسماع اللهو و متى ما احتجب القلب عن التذكّر صار وطن إبليس و جنوده.

ص: 80

[إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي يعادونهما و يتعدّون حدودهما [أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي إنّهم في جملة من هو أذلّ خلق اللّه لأنّ ذلّة أحد المتخاصمين على مقدار عزّة الاخرى و حيث كانت عزّة اللّه غير متناهية كانت ذلّة من يحادّه كذلك و ذلك بالسبي و القتل في الدنيا و عذاب النار في الآخرة.

[كَتَبَ اللَّهُ أي قضى و أثبت في اللوح [لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي و لمّا جرى الكلام مجرى القسم بقوله «كَتَبَ اللَّهُ» فأورد الكلام كجواب القسم بقوله: «لَأَغْلِبَنَّ» و المراد بالغلبة الحجّة و السيف أو بالعاقبة لأنّهم الفائزون بالعاقبة الحميدة و سبب نزول الآية أنّ عبد اللّه بن ابيّ بن سلول رئيس المنافقين قال: أ تظنّون الروم و الفارس كبعض القرى الّتي غلبتم عليها؟ و اللّه إنّهم لأكثر عددا و أشدّ بطشا من أن تظنّوا فيهم ذلك فنزل الآية.

[إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] تعليل للغلبة، قويّ في نصرة أوليائه لا يغلب عليه في مراده.

فإن قلت: إذا كان اللّه قويّا غالبا فما وجه انهزام المسلمين في بعض الأحيان مع أنّه وعد النصرة؟

فالجواب أنّه لو شدّد المحنة على الكافر و الباطل في جميع الأوقات و أزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الضروريّ بأنّ الإيمان حقّ و ما سواه باطل و لو كان كذلك لبطل التكليف و الثواب و العقاب فلهذه الحكمة تارة يسلّط المحنة على المؤمنين و اخرى على الكافرين لتكون الشبهات باقية و المكلّف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل.

قوله: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو لكلّ أحد و المراد بنفي الوجدان نفي الموادّة أي إنّ الإيمان يفسد بموادّة الكفّار و لا يصدر من كامل الإيمان هذا الأمر و من أخلص توحيده لا يأنس إلى أعداء اللّه و إلى مبتدع و لا يجالسه و لا يؤاكله و يظهر من نفسه العداوه و من داهن مبتدعا سلبه اللّه التوفيق نعم إذا كانت المعاشرة مع الكفّار بسبب هدايته أو بسبب معاملة مشروعة فحينئذ غير ممنوعة بل في بعض الموارد لازمة و الموادّة المحرّمة هي إرادة منافع الكفّار دينا و دنيا مع كونه كافرا.

ص: 81

[وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أي و لو كان من حادّ اللّه آباء الموادّين أو أبناء الموادّين [أَوْ إِخْوانَهُمْ الموادّين [أَوْ عَشِيرَتَهُمْ و العشيرة أهل الرجل الّذين يتكثّر بهم و يصيرون بمنزلة العدد الكامل و ذلك أنّ العشرة هو العدد الكامل و حاصل المعنى أنّ المؤمن المتصلّب في الدين لا يوالي هؤلاء الأقارب بعد أن كانوا محادّين اللّه و رسوله فكيف بغيرهم كما أنّ أمير المؤمنين عليّا و حمزة و عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب قتلوا يوم بدر عتبة و شيبة ابني ربيعة و الوليدين عتبة و كانوا من عشرتهم و قرابتهم.

[أُولئِكَ إشارة إلى الّذين لا يوادّونهم [كَتَبَ اللّه [فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبته فيها [وَ أَيَّدَهُمْ و قوّاهم [بِرُوحٍ مِنْهُ و هو نور القرآن والدين أو المراد النصر على العدوّ [وَ يُدْخِلُهُمْ في الآخرة [جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] الأربعة من الماء و العسل و اللبن و الخمر [خالِدِينَ فِيها] مؤبّدين لا يقرب منهم زوال كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ينادي مناد إنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا و إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا و إنّ لكم أن تسبوا فلا تهزموا أبدا و إنّ لكم أن تنقموا فلا تيأسوا [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ و الرضى ترك السخط [وَ رَضُوا عَنْهُ بالكرامات [أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ لا حزب الشيطان [أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الناجون من المكاره تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 82

سورة الحشر مدنية

اشارة

فضلها: أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ الحشر لم يبق جنّة و لا نار و لا عرش و لا كرسيّ و لا حجاب و لا السماوات السبع و لا الأرضون السبع و الهواء و الرياح و الطير و الشجر و الدوابّ و الشمس و القمر و الملائكة إلّا صلّوا عليه و استغفروا له و إن مات في يومه أو ليلته مات شهيدا.

و عن أبي سعيد المكاري عن الصادق عليه السّلام من قرأ إذا أمسى الرّحمن و الحشر وكّل اللّه بداره ملكا شاهرا سيفه حتّى يصبح.

ص: 83

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحشر (59): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)

ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)

[سَبَّحَ لِلَّهِ التسبيح تبعيد اللّه عن ما لا يليق به و تطهير عمّا لا ينبغي بشأن الألوهيّة و لا بدّ أن يكون بالجنان و اللسان و الحال و الأوّل اعتقاد العبد بتعاليه عن الشريك فحينئذ يلزم المعتقد مثل التوحيد و التعظيم و الثاني القول بما يدلّ على تعاليه مثل التكبير و التهليل و الثالث دلالة المصنوعات على أنّ صانعها متّصف بنعوت الجلال متقدّس عن المكان و بهذا البيان يعمّ تسبيح كلّ الموجودات شاءوا أم أبوا.

[وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب على أمره الحكيم في أفعاله.

[هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني يهود بني النضير من ديارهم بأن سلّط اللّه المؤمنين عليهم و أمر نبيّه بإخراجهم من حصونهم و أوطانهم. النزول:

نزلت في إجلاء بني النضير فمنهم من خرج إلى خيبر و منهم من خرج إلى الشام.

و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا دخل المدينة صالحه بنو النضير و هم رهط من اليهود أولاد هارون على أن لا يقاتلوه و لا يقاتلوا معه فقبل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك منهم فلمّا غزا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدرا و ظهر على المشركين قالوا: و اللّه إنّه النبيّ الّذي وجدنا نعته في التوراة لا تردّ له

ص: 84

راية فلمّا غزا غزوة احد و هزم المسلمون ارتابوا و نقضوا العهد فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكّة و حالفوا قريشا على أن يكون كلمتهم واحدة على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ دخل أبو سفيان في أربعين فارسا و دخلوا البيت و أخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار و الكعبة ثمّ رجع كعب و أصحابه إلى المدينة و نزل جبرئيل فأخبر النبيّ بما تعاقد عليه كعب و أتو سفيان.

و في بعض الأخبار أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذهب إلى بني النضير في نفر من أصحابه دون العشرة في أمر دية فقالوا: يا أبا لقاسم نعم حتّى تطعم و ترجع بحاجتك و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالسا إلى جنب جدار من بيوتهم فخلا بعضهم ببعض و قالوا: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة فهل من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه فقال أحد ساداتهم و هو عمرو بن حجاش: أنا لذلك فقال الآخر منهم: لا تفعلوا و اللّه ليخبرنّ بما هممتم به إنّه لنقض للعهد فلمّا صعد الرجل ليلقي الصخرة أتاه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخبر من السماء بما أراد القوم فقام و رجع مسرعا إلى المدينة و بعث محمّد بن مسلمة إلى بني النضير أن اخرجوا من بلدي و كانوا ساكنين في قرية زاهرة من أعمال المدينة و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تساكنوني بها و لقد هممتم بما هممتم من الغدر فأرسل إليهم المنافقون أن أقيموا في حصونكم فإنّا نمدّكم فأرسلوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّا لا نخرج من ديارنا فافعل ما بدا لك و كان المتولّي أمر ذلك سيّد بني النضير حيّ بن أخطب فسار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع المؤمنين حتّى نزل بهم. و باقي القصّة معروفة. و المراد من الخارجين الّذين كفروا في الآية هؤلاء [لِأَوَّلِ الْحَشْرِ] اللّام تعلّق بأخرج قيل: كان ذلك أوّل حشرهم إلى أرض الشام ثمّ تحشر الناس يوم القيامة إلى أرض الشام أيضا في القيامة و ذلك الحشر الثاني قال ابن عبّاس: قال لهم البنيّ: اخرجوا قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر و قيل: معناه لأوّل الجلاء لأنّهم كانوا أوّل من اجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثمّ اجلي إخوانهم من اليهود و قيل: إنّما قيل: «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» لأنّ اللّه فتح على نبيّه في أوّل ما قاتلهم.

[ما ظَنَنْتُمْ أيّها المسلمون [أَنْ يَخْرُجُوا] من ديارهم بهذا الذلّ و الهوان لوثاقة حصونهم [وَ ظَنُّوا] هؤلاء اليهود ظنّا قويّا بمنزلة اليقين [أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ

ص: 85

مِنَ اللَّهِ و المراد من الحصن كلّ موضع لا يوصل إلى جوفه و لذا يقال: درع حصينة أي ظنّوا أنّ حصونهم تمنعهم عن بأس اللّه تقديم الخبر للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها و تقديم المسند يفيد حصر المسند إليه على المسند فإنّ معنى قائم زيد أنّ زيدا مقصور على القيام لا يتجاوزه إلى القعود.

[فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أتاهم أمره [مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا] و لم يخطر ببالهم و هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه الرضاعيّ بأمر رسول اللّه [وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ القذف الرمي البعيد و المراد هنا الإلقاء و إثباته و ركزه و الرعب خوف يملأ القلب فيغيّر العقل و يشوّش الرأي و يفرّق التدبير أي أثبت و ملأ قلوبهم هذا النوع من الخوف.

[يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ كانوا يخربون و يهدمون بيوتهم بأيديهم من داخل ليهزموا و لئلّا يكون للمؤمنين و يخربها المؤمنون من خارج ليصلوا إليهم و إزالة لتحصّنهم و إضرارا بهم و توسيعا لمجال القتال و إسناد هذا إليهم مع أنّه يقول: [وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ لما أنّهم السبب فيه فكأنّهم أمروهم بالتخريب.

[فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ] و الألباب اتّعظوا بما جرى عليهم و اتّقوا مباشرة ما يؤدّي إليه عن مثل هذه الأمور من الكفر و الاعتبار مأخوذ من العبور و هو المجاوزة من شي ء إلى شي ء و سمّي أهل التعبير في الرؤيا لأنّ صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول و سمّيت الألفاظ عبارات لأنّها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع و يقال: السعيد من اعتبر بغيره لأنّه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.

[وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ حكم [عَلَيْهِمُ بني النضير [الْجَلاءَ] الخروج من أوطانهم و لو لا امتناعيّة و ما بعدها مبتدء و أن مخفّفة اسمها ضمير الشأن أي و لو لا كتاب اللّه عليهم الجلاء في علمه أو في لوحه المحفوظ [لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا] بالقتل و السبي كما فعل ببني قريظة.

[وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ] استيناف و غير متعلّق بجواب لو لا إذ لو كان معطوفا عليه لزم أن ينجو من عذاب الآخرة أيضا لأنّ لو لا يقتضي انتفاء الجزاء لحصول

ص: 86

الشرط لكن جملة مستأنفة و بيان أنّهم إن نجوا من عذاب الدنيا بكتابة الجلاء لا نجاة لهم من عذاب الآخرة.

[ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي ما حاق لهم و سيحيق بسبب أنّهم [شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و خالفوا أمرهما و المشاقّة كون الإنسان في شقّ و طرفه في شقّ [وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ كائنا من كان [فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ له بحذف العائد فليحذر المؤمنون من المخالفة مطلقا و المشاقّة مع الرسول المنازعة في حكمة أمره و نهيه.

[ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ] ما شرطيّة نصب بقطعتم و اللينة فعلة نحو حنطة من اللون على أنّ أصلها «لونة» فياؤها مقلوبة عن و او لكسرة ما قبلها نحو ديمة و قيمة و يجمع على ألوان و هي ضروب النخل و قيل: من اللين و يجمع على أليان و هي النخلة الكريمة بكونها قريبة من الأرض و الطيّبة الثمرة فقوله: «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ» أي من نخلة كريمة ناعمة.

[أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً] الضمير راجع لما و تأنيثه لتفسيره باللينة قائمة [عَلى أُصُولِها] كما كانت من غير أن تتعرّضوا لها [فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي قطعها و تركها بأمر اللّه فلا جناح عليكم و في كلّ من القطع و الترك حكمة.

[وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ و ليذلّ اليهود الخارجين عن إطاعة المسلمين و حصول ضرب من الاستخفاف لهم لأنّهم إذا رأوا المؤمنين يتحكّمون في أموالهم كيف ما شاءوا من القطع و الترك يتضاعفون حسرة و يزدادون غيظا.

و سبب النزول أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أمر أن تقطع نخيلهم و تحرق قالت بنو النضير: يا محمّد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخيل و إحراقها؟

و كان في أنفس المؤمنين أيضا من ذلك شي ء فنزلت الآية. و في شرح مسلم للنوويّ أنّ أنواع التمر مائة و عشرون و قيل: أنواع التمر بلغت مائة و بضعا و ثلاثين.

و نقل أنّ عالم فاس محمّد بن غازي أرسل إلى عالم سلجماسة إبراهيم بن هلال يسأله عن حصر أنواع التمر بتلك البلدة فأرسل إليه جملا أو جملين من كلّ نوع تمرة

ص: 87

واحدة و أرسل إليه هذا ما يتعلّق به علم الفقير «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و أحسن أنواعها العجوة و الصيحانيّ، و البرنيّ، و البرنيّ فارسيّ معرّب أي ثمر مبارك و أصله «بر نيك» انتهى.

[وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ في تفسير روح البيان في الآية بيان حال ما أخذ من أموالهم و ما موصولة و يجوز أن تكون شرطيّة أي و ما جعله اللّه فيئا لرسوله و أرجعه إليه و جعله عائدا إليه و في معنى العود و الإرجاع إشعار بأنّ ما كان في يدهم بغير حقّ لعدم إيمانهم فرجعه اللّه إلى مستحقّه لأنّه تعالى خلق الناس لعبادته و خلق ما خلق ليتوسّلوا به إلى طاعته فمن خرج عن عبوديّته فليس له حقّ لكن لمّا كان هذا الحكم يوجب الهرج و المرج فيكون موجبه بإذن النبيّ و الوليّ و يجوز أن يكون معنى «ما أَفاءَ اللَّهُ»* أي صيّره له فالعود على هذا المعنى أن يتحوّل الشي ء إلى غيره بأمر و إن لم يكن ذلك التحوّل مسبوقا بالحصول له و كلمة «عَلى * في الآية يؤيّد هذا المعنى.

قال المطرّزي في مغرب اللغة: إنّ الفرق بين الغنيمة و الفي ء و النفل أنّ الغنيمة ما نيل من أهل الشرك عنوة و الحرب قائمة و حكمها أن تخمّس و سائرها بعد الخمس للغانمين خاصّة. و الفي ء ما نيل منهم بعد ما تضع الحرب أوزارها و تصير الدار دار الإسلام و حكمه أن يكون لكافّة المسلمين و لا يخمّس و النفل ما ينفله الغازي أي يعطاء زائدا على سهمه و هو أن يقول الإمام: من قتل قتيلا من أهل الشرك فله سلبه أو قال: للسريّة ما أصبتم فلكم ربعه أو نصفه و لا يخمّس.

قوله تعالى: [سورة الحشر (59): الآيات 6 الى 10]

وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)

ص: 88

المعنى: الفي ء ردّ ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك اللّه إيّاهم ذلك على شرط فيه، و أفأته عليه أي رددته عليه.

النزول: قال ابن عبّاس: الآية نزلت في أموال كفّار أهل القرى و هم بنو النضير و قريظة و هما بالمدينة و فدك و هي من المدينة علي ثلاثة أميال و خيبر و قرى عرينة و ينبع جعلها لرسوله يحكم فيها ما أراد و أخبر أنّها له كلّها فقال أناس:

فهلّا قسّمها فنزلت الآية «وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ» و قيل: الآية الاولى بيان أموال بني النضير خاصّة لقوله: «وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ الآية» و الآية الثانية بيان الأموال الّتي أصيب من غير قتال و قيل: إنّهما واحد و الآية الثانية بيان قسم المال الّذي ذكر اللّه في الآية الاولى.

و بالجملة بيّن كيفيّة أموال بني النضير فقال:

[وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من اليهود الّذين أجلاهم و إن كان الحكم ساريا في جميع الكفّار الّذين حكمهم حكمهم [فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ الإيجاف في الخيل و الإيضاع في الإبل و ما نافية أي لم تسيروا إليها على خيل و إبل و إنّما كانت ناحية من المدينة مشيتم إليها مشيا و الركاب الإبل الّتي يحمل القوم و «مِنْ» زائدة بعد النفي أي «ما أوجفتم خيلا» و هو جماعة الأفراس لا واحد له و قيل: واحده خائل لأنّ راكبه يختال و يتكبّر من تخيّل فضيلة تتراءى للإنسان من نفسه لما قيل: إنّه لا يركب أحد فرسا إلّا وجد في نفسه نخوة و الخيل يستعمل للأفراس و الفرسان نحو يا خيل اللّه اركبي فهذا للفرسان و قوله عليه السّلام: عفوت لكم عن صدقة الخيل يعني الأفراس و الفرس يرى المنامات كبني آدم و لا طحال له و هو مثل لسرعته و حركته و البعير لا مرارة له

ص: 89

انتهى. و حاصل المعنى أنّكم ما قطعتم لها شقّة بعيدة و لا لقيتم مشقّة شديدة، و ما كان فيهم راكب إلّا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان راكبا حماره مخطوما بليف و قيل: كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم راكبا جملا فافتتحها صلحا من غير أن يجري بينهما مسابقة.

[وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ] و قد سلّط النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أن تقتحموا مطابق الحروب فحينئذ لا حقّ لكم في أموالهم و الأمر فيه مفوّض إليه يضعه حيث يشاء و لا تقسّم قسمة الغنائم الّتي قوتل عليها و أخذت عنوة و قهرا و ذلك لأنّهم طلبوا القسمة كخيبر فنزلت لبيان هذا الأمر.

[وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فيفعل ما أراد بقدرته.

قوله: [ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى بيان للأوّل و لذلك لم يعطف عليه و يعيّنه سبحانه أنّه للرسول و أهل بيته خاصّة من غير أنّ يكون للمقاتلين حقّ.

[فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ و ذكر اللّه التعظيم و التبرّك و هو راجع إلى النبيّ [وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السّلام نحن و اللّه الّذين عنى اللّه بذي القربى الّذين قرنهم بنفسه و نبيّه و اليتامى و المساكين منّا خاصّة و لم يجعل لنا سهما في الصدقة أكرم اللّه نبيّه و أكرمنا أن يطعمنا الأوساخ ممّا في أيدي الناس و معنى الآية و لذي قربى الرسول و يتامى ذرّيّته و مساكينهم و أبناء سبيلهم من بني هاشم.

و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: نحن قوم فرض اللّه طاعتنا و لنا الأنفال و لنا صفو المال يعني ما كان يصطفى لرسول اللّه من فره الدوابّ و حسان الجواري و الدرّة الثمينة و الشي ء الّذي لا نظير له.

ثمّ بيّن سبحانه لم فعل ذلك فقال: [كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ و قرئ تكون بالتاء و رفع دولة و الدولة اسم للشي ء الّذي يتداوله القوم بينهم يكون لهذا مرّة و المعنى لئلّا يكون الفي ء متداولا بين الرؤساء منكم يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلّية فإنّ الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة و يقولون من عزّ بزّ و من غلب سلب فيجعلون الاستقلال منوطا بالغلبة على الأموال فكلّ من غلب على شي ء يستقلّ به مثل كليب بن

ص: 90

وائل و نظرائه.

[وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ما موصولة أي ما أعطاكم الرسول أيّها المؤمنون من الفي ء فخذوه و ما أمركم به فاعملوه [وَ ما نَهاكُمْ عن أخذه و فعله [فَانْتَهُوا] عنه و امتنعوا منه [وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقب من يخالف أمره و نهيه.

و الآية دالّة و صريحة بأن اتّباع أوامره و ترك نواهيه واجب سواء كان اصولا اعتقاديّة أو فردا عمليّة يجب التمسّك به و كلّما فعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأمر اللّه و قد قسم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أموال خيبر و منّ عليهم في رقابهم و أجلى بني النضير و بني قينقاع و أعطاهم شيئا من المال و قتل رجال بني قريظة و سبى ذراريّهم و نساءهم و قسّم أموالهم على المهاجرين و منّ على أهل مكّة و قد جعل اللّه تدبير الامّة إليه و إلى الّذي نصّ النبيّ بخلافته بعهده.

[لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الّذين هاجروا من مكّة إلى المدينة و من دار الكفر إلى دار الإسلام [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً] يطلبون بذلك رضى اللّه و نصرة دينه و رسوله و قوله: «لِلْفُقَراءِ» قيل: بدل من لذي القربى قال الزجّاج بيّن سبحانه من المساكين الّذين لهم الحقّ فقال: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ» و هذا الإبدال الّذي جعلوه من قوله: «لِذِي الْقُرْبى لئلّا يلزم دخول الرسول في زمرة الفقراء لأنّه يوهم الذمّ و النقصان و إذا لم يصحّ تسمية الرسول فقيرا فلأن لا يصحّ تسميته تعالى فقيرا أولى و منعوا الإبدال من اللّه و رسوله فحينئذ على الإبدال خصّ بأموال بني النضير من الفي ء و لو كان المراد عدم الإبدال فالمراد غنائم خيبر حيث قسّم للمهاجرين و لم يقسّم الأنصار و إن كان المعنى لرسول اللّه لأنّ الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم اللّه و رسوله.

و قوله: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا» حيث اضطرّ هم كفّار مكّة إلى الخروج و أخذوا أموالهم و كانوا مائة فخرجوا منها و إلّا فهم هاجروا باختيارهم حبّا للّه و رسوله و اختار و الإسلام على ما كانوا فيه من الشدّة حتّى كان الرجل يعصب الحجز على بطنه ليقيم

ص: 91

صلبه من الجوع و كان الرجل يتّخذ حفيرة في الشتاء ما له دار غيرها و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبشّر الصعاليك من المهاجرين بالنور التامّ يوم القيامة و يقول: يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم و ذلك مقدار خمسمائة عام.

[وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ عطف على يبتغون أي ناوين نصرة اللّه بإعلاء دينه و نصرة رسوله و أيّ نصرة [أُولئِكَ المهاجرون [هُمُ الصَّادِقُونَ الراسخون في الصدق كأنّ الصدق مقصور عليهم.

ثمّ مدح سبحانه الأنصار حتّى طابت عن الفي ء أنفسهم فقال: [وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ] يعني المدينة و هي دار الهجرة [وَ الْإِيمانَ مدحهم اللّه بخلوص الإيمان و لزوم دار الهجرة تبوّأ في مكان أي اتّخذه مسكنا و عطف الإيمان على الدار في المعنى لأنّ الإيمان ليس بمكان يتبوّءوه و المراد و آثروا الإيمان [مِنْ قَبْلِهِمْ قيل: المراد من قبل قدوم المهاجرين عليهم و قيل: تقدير الآية «و الّذين تبوّءوا الدار» من قبل المهاجرين لأنّ الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين و الّذي قال: معنى الآية قبل إيمان المهاجرين المراد منهم أصحاب ليلة العقبة و هم سبعون رجلا بايعوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حرب الأبيض و الأحمر.

و الأنصار بنو الأوس و الخزرج ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عامر بن شالح و هو أصل العرب العرباء و من الأنصار غسّان اسم ماء نزل عليه قوم من ولد الأزد فشربوا منه فنسبوا إليه و عطف الإيمان على التبوّء على تنزيل الحالّ منزلة المحلّ أو المعنى آثروا الإيمان كما ذكرنا و ذلك مثل قوله: «علّفتها تبنا و ماء باردا».

[يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ يوصف الأنصار أي يحبّون من هاجر إليهم لمحبّتهم الإيمان [وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ و نفوسهم [حاجَةً] ممّا اوتي المهاجرون من الفي ء أي إنّ نفوسهم لم تبتغ ما أوتوا و لم تطمع إلى شي ء منه يحتاج إليه و لم يحسدوا باقتصاصهم الفي ء من أموال بني النضير.

ص: 92

[وَ يُؤْثِرُونَ أي يقدّمون المهاجرين [عَلى أَنْفُسِهِمْ بأموالهم و منازلهم [وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ] أي فقر و حاجة و لم يكن إيثارهم عن غنى و الخصاصة خلّة و حاجة و أصلها خصاص البيت و هي فرجه شبّه حالة فقرهم ببيت ذي فرج و هو من القصب و الشجر و ذلك يرى من ذلك البيت الخلّة و الفرجة.

و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قسّم أموال بني النضير على المهاجرين و لم يعط الأنصار إلّا ثلاثة نفر محتاجين أبا دجانة سماك بن خرشة و سهل بن حنيف و الحارث بن الصّمة و قيل:

لم يعط إلّا رجلين لأنّ الحارث قتل في بئر معونة و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم و دياركم و شاركتموهم في هذه الغنيمة و إن شئتم كانت لكم دياركم و أموالكم و لم يقسم لكم شي ء من الغنيمة فقالت الأنصار: بل نقسّم لهم من أموالنا و ديارنا و نؤثر هم بالغنيمة و لا نشاركهم فيها فنزلت الآية «وَ يُؤْثِرُونَ» الآية و لمّا أعطى المهاجرين أمرهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بردّ ما كان للأنصار لاستغنائهم عنهم و لأنّهم لم يكونوا ملكوهم و إنّما كانوا دفعوا لهم النخيل لينفعوا بثمرها.

روي عن أنس إنّه قال: اهدي لرجل من الأنصار رأس شاة و كان مجهودا فوجّه به إلى جار له زاعما أنّه أحوج إليه منه فوجّه جاره أيضا إلى آخر فلم يزل لبعث به واحد إلى آخر حتّى تداول ذلك الرأس سبعة بيوت إلى أن رجع إلى المجهود الأوّل.

قال حذيفة العدويّ: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي و معي شي ء من المال و أنا أقول: إن كان به رمق سقيته فإذا أنا به فقلت: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم فإذا برجل يقول: آه آه فأشار إليّ ابن عمّي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص، فقلت:

أسقيك؟ قال: نعم فسمع آخر يقول: آه آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئت إليه فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمّي فإذا هو قد مات.

و الصحيح إنّ الآية نزلت في حقّ عليّ بن أبى طالب عليه السّلام في الأماليّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه جاء إليه رجل و شكا إليه الجوع فبعث رسول اللّه إلى بيوت أزواجه فقلن:

ما عندنا إلّا الماء فقال رسول اللّه: من لهذا الرجل الليلة فقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:

أنا له يا رسول اللّه فأتى فاطمة و قال: لها ما عندك يا ابنة رسول اللّه؟ فقالت: ما عندنا

ص: 93

إلّا قوت العشية لكنّا نؤثر ضيفنا فقال: ابنة محمّد نوّمي الصبية و أطفئ السراج فلمّا أصبح عليّ عليه السّلام غدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره الخبر فلم يبرح حتّى أنزل اللّه «وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ» الآية.

و عن أمير المؤمنين في الاحتجاج إنّه قال للقوم بعد موت عمر بن الخطّاب في حديث عدّ المناقب: نشدتكم باللّه هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية غيري؟ قالوا: لا.

[وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشحّ بخل مع الحرص في مقابلة السخاء و في مقابلة الجود البخل و الجود و البخل يتطرّق إليهما الاكتساب بطريق العادة بخلاف الشحّ و السخاء لأنّهما غريزيتان و كلّ سخيّ جواد و ليس كلّ جواد سخيّا و من يوق بالملكات و الرياضيّات من الإطاعة ينزّه نفسه و حرصه على إمساك المال [فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكلّ مطلوب الناجون من كلّ مكروه.

[وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ هم الّذين هاجروا بعد ما قوى الإسلام جاءوا إلى المدينة أو المراد التابعون بإحسان و هم الّذين اتّبعوا النبيّ بعد الفريقين و يشمل حال المؤمنين إلي يوم القيامة كما في الحديث مثل امّتي كالمطر لا يدري أوّله خير أم آخره [يَقُولُونَ خبر للموصل لمن تقدّمهم من المؤمنين يدعون لهم قائلين: [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ يستغفرون لأنفسهم و لمن سبقهم بالإيمان.

[وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا] أي حقدا و عداوة لأحد من المؤمنين و يعصمنا ربّنا من إرادة السوء بالمؤمنين لأنّ من أبغض مؤمنا و أراد به السوء لأجل إيمانه فهو كافر و إذا كان بغضة لغير ذلك فهو فاسق [رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ متعطّف على العباد منعم عليهم و في الآية دلالة على أنّ الترحّم و الاستغفار مستحبّ على المؤمنين الآخرين للسابقين منهم لا سيّما لآبائهم و لمن علّمهم امور دينهم.

فائدة الغلالة اسم لما يلبس بين الشعار و الدثار، و الغلّ و الغلول تدرّع الحقد و يستعار الغلالة للذرع كما يستعار الدرع قال الشاعر:

لا تعجبوا من بلى غلالته قد زرّ أزراره على القمر

ص: 94

قوله تعالى: [سورة الحشر (59): الآيات 11 الى 15]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)

لمّا وصف اللّه المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم عقّب ذلك بذكر المنافقين و الهمزة استفهام للتعجّب عن حال المنافقين و الكافرين [أَ لَمْ تنظر و تعلم [إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا] من أهل المدينة النفق الطريق النافذ و منه نافقاء اليربوع و هو الدخول من باب و الخروج من باب [يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ و المراد بالإخوان بنو النضير و بإخوانهم توافقهم في الكفر و صداقتهم و موالاتهم: [لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ اللام موطّئة للقسم أي و اللّه لئن أخرجتم أيّها الإخوان دياركم و قراكم قسرا بإخراج محمّد إيّاكم منها [لَنَخْرُجَنَ البتّة [مَعَكُمْ و نذهبنّ في صحبتكم أينما ذهبتم و هو جواب للقسم و جواب الشرط مضمر و لمّا كان جواب القسم و جواب الشرط متماثلين اقتصر على جواب القسم.

[وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً] أي في شأنكم لا نطيع أحدا يمنعنا من الخروج معكم أبدا [وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ أي قاتلكم محمّد و أصحابه حذف منه اللام الموطّئة [لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي لنعاونكم على عدوّكم [وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مواعيدكم المؤكّدة بالأيمان الفاجرة.

[لَئِنْ أُخْرِجُوا] قهرا [لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ تكذيب لهم في أقوالهم [وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ و كان الأمر كذلك فإن ابن ابيّ و أصحابه أرسلوا إلى بني النضير و ذلك سرّا أن لا تخرجوا من دياركم و أقيموا في حصونكم فإنّ معي ألفين من قومي

ص: 95

و غيرهم من العرب فطمع بنو النضير فيما قاله اللعين فقال أحد سادات بني النضير: و هو سلّام بن مشكين لحيّ بن أخطب الّذي كان هو المتولّي لأمر بني النضير: و اللّه يا حيّ إنّ قول ابن ابيّ لباطل و إنّما يريد أن يورّطك في الهلكة حتّى تحارب محمّدا فيجلس في بيته و يتركك فقال حيّ: تأبى نفسي إلّا عداوة محمّد و إلّا قتاله فقال سلّام: فهو و اللّه جلاؤنا من أرضنا و ذهاب أموالنا و سبي ذراريّنا فكان ما كان.

[وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ فرضا [لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ] فرارا و انهزاما و تولية الأدبار كناية عن الانهزام [ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي لا يكون النصر للمنافقين و لا ينفعهم نفاقهم.

[لَأَنْتُمْ يا معشر المسلمين [أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي إنّ خوف المنافقين منكم أشد من خوفهم من اللّه لأنّهم يشاهدونكم و يعرفونكم و لا يعرفون اللّه.

و حاصل المعنى أنّهم يظهرون لكم في العلانية خوف اللّه و أنتم أهيب في قلوبهم من اللّه فإن قلت: كأنّهم كانوا يرهبون من اللّه حتّى يكون رهبتهم منكم أشدّ قلنا: إنّ رهبتهم في السرّ منكم أشدّ من رهبتهم من اللّه الّتي يظهرونها لكم و ذلك لأنّهم كانوا يظهرون رهبة شديدة من اللّه.

[ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الحقّ و لا يعلمون عظمة اللّه و ذلك إشارة إلى ما ذكر من كون رهبتهم منكم أشدّ و العبد هو الّذي لا يخاف إلّا من مولاه و لا يراقب إلّا إيّاه و لا يلتفت إلى ما سواه.

و [لا يُقاتِلُونَكُمْ معاشر المؤمنين جميع [إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ] أي إنّهم لا يبرزون لحربكم و إنّما يقاتلونكم متحصّنين بالقرى [أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ] أي يرمونكم من وراء الجدران بالنبل و الحجر. و القرى جمع قرية و هي مجتمع الناس للتوطّن.

[بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ] استيناف سيق لبيان أنّ ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم و جبنهم في أنفسهم و هم بالنسبة إلى أقرانهم أقوياء و إنّما جبنهم و ضعفهم بالنسبة إليكم بما قذف اللّه في قلوبهم من الرعب و إذا أراد اللّه نصرة قوم استأسد أرنبهم و إذا أراد اللّه قهر قوم استرنب أسدهم و وصف البأس بالشدّة للمبالغة.

[تَحْسَبُهُمْ يا محمّد [جَمِيعاً] متّفقين ذوي السعة [وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى و الحال أنّ

ص: 96

قلوبهم متفرّقة و في الآية تشجيع لقلوب المؤمنين على قتالهم و أهل الباطل متفرّقون أبدا و إن اجتمعوا بالأبدان و توافقوا بالظواهر لأنّ اللّه يقول: «تَحْسَبُهُمْ» [ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي ما ذكر من تشتّت قلوبهم بسبب أنّهم [قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ لا شيئا حتّى يعرفوا الحقّ من عدم العقل و الفقه و هو مذموم في القرآن بموجب هذه الآية و ممّا نسب إلى أمير المؤمنين قوله: و إنّ العقل عقلان: فمسموع و مطبوع.

و لا ينفع مطبوع إذا لم يك مسموع كما لا تنفع الشمس و نور العين ممنوع

قال علىّ بن عبيدة: العقل ملك و الخصال رعيّة فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها فسمع هذا الكلام أعرابيّ فقال: هذا الكلام يقطر عسله: و كل شي ء إذا كثر رخص إلّا العقل فإنّه إذا كثر غلا: و قال أعرابيّ: لو صوّر العقل لأظلمت معه الشمس و لو صوّر الحقّ لأضاء معه الليل و غاية قوّة العقل أن يتسلّم لأوامر الشرع لأنّ الّذي وضع الأشياء أعرف بمواضعها.

قوله: [كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ خبر مبتدء محذوف تقديره مثله أي مثل المذكورين من المنافقين و اليهود كمثل المشركين الّذين قتلوا قبلهم ببدر لأنّ البدر كانت قبل غزاة بني النضير بستّة أشهر أو سنة أو كمثل بني قينقاع لأنّهم اخرجوا قبل بني النضير إلى الشام و لم يدر الحول عليهم حتّى هلكوا.

[ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ الوبل و الوابل المطر الثقيل و لمراعاة الثقل يقال: للأمر الّذي يخاف ضرره وبال أي ذاقوا سوء عاقبة كفرهم و هو عذاب القتل و الأسر ببدر [وَ لَهُمْ في الآخرة [عَذابٌ أَلِيمٌ مولم لا يقادر قدره حيث يكون ما في الدنيا بالنسبة إليه كالذوق بالنسبة إلى الأكل.

قوله: [سورة الحشر (59): الآيات 16 الى 20]

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)

ص: 97

أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضير و خذلانهم إيّاهم [كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ] و المراد من قول الشيطان مجاز عن الإغواء و الإغراء فإن أريد بالإنسان الجنس فالمراد من قوله: [قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ يكون يوم القيامة كما ينبئ عنه قوله: [إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ و إن أريد من الإنسان الإنسان المعهود و هو أبو جهل- كما قيل في بعض التفاسير- فقوله: «اكْفُرْ» أي دم على الكفر و ذلك يوم بدر حين قال لهم: «لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ» (1) لأنّ أصحاب أبي جهل لمّا قاتلوا يوم بدر و نصر اللّه محمّدا بإمداد الملائكة رأى إبليس جبرئيل مع محمّد فخافه فتبرّء اللعين منهم و انهزم.

و قال بعض أهل التفسير: إنّ المراد بالإنسان في الآية المذكورة برصيصا الراهب من بني إسرائيل في زمان الفترة عن ابن عبّاس قال: إنّه كان في بني إسرائيل عابد اسمه برصيصا عبد اللّه في صومعة سبعين سنة و قيل: مائتين و خمسين سنة حتّى كان يؤتى بالمجانين و المرضى فيعودهم فيبرءون على يده و كان يحسده إبليس غاية و قد عجز عن إغوائه فاوتي يوما بامرأة في شرف قد جنّت و كان لها إخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت فلمّا استبان حملها أخاف الراهب من الشناعة فقتلها و دفنها فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتّى لقي إخوتها فأخبر هم بالّذي فعل الراهب و أنّه دفنها في مكان كذا حتّى بلغ الخبر إلى ملكهم فسار الملك و الناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالّذي فعل فأمر به فصلب فلمّا وقع على خشبته تمثّل له الشيطان و قال:

أنا الّذي ألقيتك في هذا فهل أنت مطيعي في ما أقول لك اخلّصك مما أنت فيه؟ قال: نعم قال: اسجد لي سجدة واحدة فقال: كيف أسجد لك و أنا على هذه الحالة؟ فقال: أكتفي منك بالإيماء فأومأ له بالسجود فكفر باللّه و قتل فهو قوله: «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ» انتهى.

ص: 98


1- الأنفال: 43.

[فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أي صار عاقبة الفريقين من الداعي و المدعوّ و من المنافقين و اليهود أنّهما معذّبان في النار و ذلك جزاؤهم.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إيمانا خالصا [اتَّقُوا اللَّهَ و تحرّزوا عن العصيان بالطاعة و تجنّبوا عن الكفر بالشكر و توقّوا عن النسيان بالذكر [وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ] ما استفهاميّة أي أيّ شي ء قدّمت من الأعمال ليوم القيامة و عبّر عن يوم القيامة بالغد لدنوّه لأنّ كلّ آت قريب سمّاه باليوم الّذي بلي يومك تقريبا له أو لأنّ الدنيا زمانها كيوم و الآخرة كغده.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ تكرير للتأكيد في شأن التقوى و الأوّل في أداء الواجبات و الثاني في ترك المحرّمات كما يؤذن به الوعيد بقوله: [إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ و التقوى هو التجنّب عن كلّ ما يؤثم من فعل و ترك و وقاية النفس في الدنيا عن ترتّب الضرر في الآخرة و تقوى العامّة عن ضرر الأفعال و تقوى الخاصّة عن ضرر الصفات من الأخلاق و تقوى أخصّ الخواصّ عن جميع ما سوى اللّه.

قال مالك بن دينار: دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون المجنون فقلت له:

كيف حالك؟ فقال كيف حال من أصبح و أمسى يريد سفرا بعيدا بلا اهبة، و تقدّم على ربّ عدل حاكم بين العباد ثمّ بكى بكاء شديدا قلت: ما يبكيك؟ قال: أبكاني قلّة الزاد و بعد المسافة و العقبة الكؤود فقلت: إنّ الناس يزعمون أنّك مجنون فقال: و أنت اغتررت بقولهم مالي جنّة و لكن حبّ مولاي قد خالط قلبي و جرى بين لحمي و دمي فأنا من حبّه هائم ثمّ قال: يا مالك كن من الناس خائبا، و ارض باللّه صاحبا، قلّب الناس كيف شئت تجدهم عقاربا.

[وَ لا تَكُونُوا] أيّها المؤمنون [كَالَّذِينَ المراد بالموصول اليهود و المنافقين المعهودين أو الجنس كائنا من كان من الكفّار [نَسُوا اللَّهَ فيه حذف المضاف أي نسوا حقّ اللّه و تركوا أداء حقّ اللّه من الطاعات [فَأَنْساهُمْ بسبب ذلك [أَنْفُسَهُمْ أي جعلهم ناسين لأنفسهم حتّى يتداركوا بالاعتذار و التوبة و هذا الإنساء مجازاتهم بسبب

ص: 99

إقدامهم على ترك طاعة اللّه و نسيانهم ذكر اللّه.

[أُولئِكَ الناسون المخذولون بالإنساء [هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طريق الطاعة و «هم» يفيد معنى شدّة الخروج عن الطاعة بل عن الإيمان و الإنسان العاقل لا بدّ و أن يراعي حقّ ربوبيّة اللّه و مراعاة حطّ شخصه كي لا يحرم السعادة لأنّ المنسي محروم لا محالة.

[لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ] الّذين نسوا اللّه و استحقّوا النار، و النار مع اللام من أسماء جهنّم في تعبير القرآن كالساعة للقيامة و جاء في الشعر أيضا:

الجنّة الدار فاعلم إن عملت بمايرضي الإله و إن فرّطت فالنار

هما محلّان ما للناس غيرهمافانظر لنفسك ماذا أنت تختار

و يقال: أصحاب النار و أصحاب الجنّة فباعتبار الصحبة الأبديّة و الاقتران الدائم و الصحبة في الأصل اقتران الشي ء بالشي ء في زمان ممّا قلّ أو كثر و لا يقال للعصاة المؤمنين أصحاب النار قوله: [وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ] الّذين اتّقوا المعاصي أي لا يستوون [أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ بيان لكيفيّة عدم الاستواء بين الفريقين هم أهل الكرامة و أصحاب النار أهل الهوان فنبّه اللّه الناس بتذكير سوء حال أهل النار و حسن حال أهل الجنّة للاحتراز عن الغفلة.

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أهون أهل النار عذابا و أخفّهم من له شراكان و نعلان من النار و يغلي منها دماغه كما يغلي المرجل ما يرى إنّ أحدا أشدّ منه عذابا و كان بعض العارفين ليلة يردّد قوله: «وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ» (1) و يبكي فقيل له: قد أبكتك ما تبكي عند مثلها؟ فقال: فما ينفعني عرضها إذا لم يكن لي فيها موضع قدم.

قوله: [سورة الحشر (59): الآيات 21 الى 24]

لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

ص: 100


1- آل عمران: 133.

[لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ العظيم الشأن المنطوي على فنون القوارع قال ابن عبّاس: إن السماء أطبّ من ثقل الألواح لمّا وضع اللّه عليها في وقت موسي فبعث اللّه لكلّ حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها فخفّفها على موسى و كذلك الإنجيل على عيسى و الفرقان على محمّد ثمّ إنّه لا يلزم في الإشارة وجود حملة المشار إليه إي الأبعاض المترتّبة وجودا بل يكفي وجود بعض الإشارة حقيقة و وجود بعض حكما و يحتمل أن يكون المشار إليه هنا الآية السابقة من قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إلخ» فإنّ لفظ القرآن كما يطلق على المجموع يطلق على البعض منه حقيقة بالاشتراك أو باللغة أو مجازا بالعلاقة فيكون التذكير باعتبار تذكير المشار إليه.

[عَلى جَبَلٍ من الجبال و هي ستّة آلاف و ستّمائة و ثلاثة و سبعون جبلا سوى التلول كما في زهرة الرياض.

[لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً] يا من شأنه الرؤية أو لرأيته يا محمّد مع أنّ شأن الجبل القسوة و الصلابة خاضعا ذليلا و الفرق بين الخشوع و الخضوع أنّ الخشوع انقياد الباطن للحقّ و الخضوع انقياد الظاهر له و قيل: الخضوع في البلدان و الخشوع في الصوت و البصر و أكثر ما يستعمل في القلب بسبب ضراعة القلب [مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي متشقّقا من أن يعصيه فيعاقبه و الصدع شقّ في الأجسام الصلبة كالزجاج و الحديد و الصخر و المراد علوّ شأن تأثير القرآن لما فيه من المواعظ و توبيخ الإنسان على عدم تخشّعه و قسوة قلبه عند تلاوته.

و حاصل المعنى أنّه لو ركّب في الجبل عقل و شعور كما ركّب فيكم أيّها الناس ثمّ أنزل عليه القرآن و وعد و واعد كما و عدتم و أوعدتم لخشع و تصدّع من خشية اللّه و أنتم لا تنفعلون و هذا البيان مثل قولك لمن تعظه و لا تنجع فيه وعظك: لو كانت هذا الحجر لأثّر فيه.

[وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ إشارة إلى هذا المثل و إلى أمثاله في مواضع القرآن و المثل

ص: 101

حقيقة عرفيّة في القول المشهور السائر و يستعار لكلّ أمر غريب [نَضْرِبُها لِلنَّاسِ و نبيّنها لهم [لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيما ينفعهم و يتذكّرون به قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعطوا أعينكم حظّها من العبادة قالوا: ما حظّها من العبادة قال: النظر في المصحف و التفكّر فيه و الاعتبار عند عجائبه.

قال بعض العلماء: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو و من لم يكن سكوته تفكّرا فهو سهو و من لم يكن نظره عبرة فهو لهو و التفكّر إمّا أن يكون في الخالق أو الخلق و الأوّل إمّا في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله أمّا في ذاته فممنوع لأنّه لا يعرف اللّه إلّا اللّه إلّا أن يكون التفكّر في ذاته باعتبار عظمته و جلاله من حيث وجود الواجب و امتناع المكان و الصمديّة الّتي هي الاستغناء عن الكلّ و أمّا في صفاته فهو فيها باعتبار كمالها بحيث يحيط علمه بجميع المعلومات و قدرته بجميع الأشياء و نحو ذلك و أمّا في أفعاله فهو فيها بحسب شمولها و وقوعها على الوجه الأتمّ كلّ يوم هو في شأن و الثاني إمّا أن يكون فيما كان من العلويّات و السفليّات أو فيما سيكون من أهوال القيامة و أحوال الآخرة إلى أبد الآباد مثل أن يتفكّر في وعد اللّه بالثواب فيتولّد منه الرغبة في الطاعة و إمّا في وعيد اللّه بالعقاب فيتولّد منه الرهبة من المعصية و إمّا في تفريط نفسه في جنب اللّه فيتولّد منه الندامة و التوبة.

[هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ في سورة الحشر خواصّ بعض أسماء الحسنى و كلمة «هو» في أصل وضعه كناية عن المفرد المذكر الغائب و كثيرا ما يكنى به عن من لا يتصور فيه الذكورة و الأنوثة كما هو هاهنا فإنّه راجع إلى اللّه و هو مبتدء و خبره لفظة اللّه أي هو المعبود بالحقّ المسمّى باللّه الدالّ على جلال الذات و كمال الصفات فبهذا التعبير لا يلزم أن يتّحد المبتدء و الخبر بأن يكون التقدير اللّه اللّه حتّى لا يصح الحمل فحصل التغاير الاعتباريّ أو «اللّه» بدل من هو الموصول مع صلته خبر المبتدء أو «هو» إشارة إلى الشأن و اللَّهُ مبتدء و «الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» خبر و الجملة خبر ضمير الشأن و «إله» مبنيّ على الفتح مرفوع المحلّ على الابتداء و «لا» لنفي الجنس أي جنس المعبود بالحقّ لتعدّد

ص: 102

الآلهة الباطلة و «إِلَّا هُوَ» مرفوع على البدليّة من محلّ المنفي أو من ضمير الخبر المقدّر للا و المقدّر موجود أو ممكن.

[الْمَلِكُ بفتح الميم و كسر اللام هو المتصرّف بالأمر و النهي في الجمهور و ذلك يختصّ بسياسة الناطقين و لهذا يقال: «مَلِكِ النَّاسِ» و لا يقال: ملك الأشياء و الأنبياء و الأوصياء عبيد الملك على حسب الحقيقة لأنّهم مستغنون عن غيره تعالى و احتياج الناس كلّهم إليهم في حياتهم العاجلة و الآجلة فهم الملوك في العالم العرضي و إلّا فلا ملك للعبد قيل: و خاصّيّة اسم الملك صفاء القلب فمن واظب عليه وقت الزوال كلّ يوم مائة مرّة صفا قلبه و زال كدره و من قرأه بعد الفجر مائة و إحدى و عشرين مرّة أغناه اللّه من فضله.

[الْقُدُّوسُ هو من صيغ المبالغة من القدس و هو النزاهة و الطهارة أي البليغ في النزاهة عمّا يوجب نقصانا و هو بالعبريّ قديسا و حقيقة القدس الاعتلاء عن قبول التغيّر و روح القدس جبرئيل لأنّه عليه السّلام ينزل بما يطهّر به نفوسنا من الفيض الإلهيّ و القرآن و الحكمة و بيت المقدس لأنّه يتطهّر فيه من الذنوب، قال السهرورديّ: من قرأه كلّ يوم ألف مرّة في خلوة أربعين يوما شمله بما يريد.

[السَّلامُ أي ذو السلامة من كلّ آفة و نقص و عجز هو مصدر بمعنى السلامة وصف به للمبالغة نحو زيد عدل فما ورد من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنت السلام معناه أنت الّذي سلم من كلّ عيب و نقص و منك السلام أي الّذي يعطي السلامة و إليك السلام أي يرجع السلامة إليك و كلّ من عليها فان و خاصّيّة هذا الاسم صرف الآلام و المصائب و إذا قرئ على مريض مائة و إحدى عشرة مرّة برى ء أو خفّف عنه ما لم يحضر أجله.

[الْمُؤْمِنُ و الإيمان التصديق بوحدانيّة اللّه و هو تعالى موحّد نفسه بقوله: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» و قيل: المعنى واجب الأمن و الطمأنينة للنفوس بعدم ظلمه في امور لأنّ الإنسان في أصل فطرته عرضة للأخطار مثل المرض و الجوع و العطش و و المحرقة و المغرقة و الجارحة و الكاسرة و لم يؤمنه من هذه المخاوف إلّا الّذي أعدّ له الأسباب الدافعة له مثل الأطعمة و أعدّها لجوعه و الأشربة لعطشه و نحو ذلك فهو تعالى أمّنه ثمّ خوّفه الأعظم من هلاك الآخرة و لا يحصّنه منه إلّا كلمة التوحيد و اللّه هاديه

ص: 103

إليها حيث قال: لا إله إلّا اللّه حصني فمن دخله أمن من عذابي فلا آمن في العالم إلّا و هو مستفاد من أسباب هو متفرّد بخلقها و أحقّ العباد بهذا الاسم من كان سببا لأمن الخلق من عذاب اللّه بالهداية إلى طريق اللّه و الإرشاد إلى سبيل النجاة و بهذا المعنى أشار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: إنّكم تتهافتون في النار تهافت الفراش و أنا آخذ بحجزكم.

فإن قيل: هو الّذي خلق أسباب الخوف فكيف ينسب إليه الأمن؟

فالجواب أنّ الخوف تارة للعبد من معاصيه فهو المسبّب على نفسه الخوف و قد حذّره تعالى عن العصيان فالعبد أوجب على نفسه الخوف و تارة يكون الخوف من عظمته تعالى و ذلك أمر حسن له و أمّا الأمن فمنه تعالى و كونه تعالى مخوّفا لا يمنع كونه مؤمنا كما أنّ كونه مذلّا لم يمنع كونه معزّا، انتهى.

[الْمُهَيْمِنُ قيل: عدّ هذا الاسم من أسمائه الّتي علت لعلّ معناها عن مجاري الاشتقاق فلا يعلم تأويله إلّا اللّه و قال بعضهم: المبالغ في الصيانة عن المضارّ من قولهم: هيمن الطائر إذا نشر جناحه على فرخه حماية له و يؤول معناه إلى الرقيب الحافظ و قيل: معناه الشاهد و منه قوله تعالى: «وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ» و قيل: مفيعل من الأمن و أصله مؤامن بهمزتين قلبت الهمزة الثانية ياء لكراهة اجتماعهما فصار مؤيمن ثمّ صيّرت الاولى هاء كما قالوا في أراق الماء و الدم: هراقة فيكون حينئذ بمعنى المؤمن.

حكي أنّ ابن قتيبة لمّا قال في المهيمن: إنّه مصغّر من مؤمن و الأصل مؤيمن فأبدلت الهمزة هاء قيل له: هذا يقرب من الكفر فليتّق اللّه قائله لأنّ فيه ترك التعظيم و قد قيل: إنّه من أسماء اللّه في الكتب القديمة و قيل: إن خاصّيّة هذا الاسم الإشراف على البواطن و الأسرار و من قرأ مائة مرّة بعد الغسل و الصلاة في خلوة بجمع خاطر نال ما نوى و نافذ للنسيان.

[الْعَزِيزُ] الغالب في حكمه أو من عزّ عزازه إذا قلّ و المراد عديم المثل و خاصيّة هذا الاسم الغنى و العزّ صورة أو معنى فمن ذكره أربعين يوما في كلّ يوم أربعين مرّة أعزّه اللّه و لم يحوجه إلى أحد، و في الأربعين الإدريسيّة يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شي ء يعادله من قرأ سبعة أيّام متواليات كلّ يوم ألفا أهلك خصمه و إن ذكره في

ص: 104

وجه العسكر سبعين مرّة و يشير إليهم بيده فإنّهم ينهزمون.

[الْجَبَّارُ] الّذي قهر خلقه أو أصلح حالهم و سمّي الّذين يدّعون أنّ اللّه يكره العباد على للمعاصي في عرف المتكلّمين بالمجبّرة و في قول المتقدّمين: جبريّة و في وصف اللّه بالجبّار على أنّه يجبر الناس على ما هو المصلحة لهم من مرض أو موت و بعث و فقر و نحوها و خاصيّة هذا الاسم الحفظ من ظلم الجبابرة يذكر عشر صباحا و مساء إحدى و عشرين مرّة.

[الْمُتَكَبِّرُ] الّذي تكبّر عن كلّ ما يوجب حاجة و نقصانا أي إنّه المبالغ في الكبرياء و العظمة أقصى المراتب و الّذي تكبّر عن كلّ ما يوجب حاجة و نقصانا و صيغة التفعّل للتكليف بما لم يكن فإذا قيل: تكبّر و تسخّى دلّ على أنّه بري ء و يظهر الكبر و السخاء و ليس بكبير و لا سخيّ و التكليف بما لم يكن لمّا كان على اللّه مستحيلا حمل على لازمه و هو كمال الكبر و منه ترحّمت على إبراهيم بمعنى رحمة كمال الرحمة و الفرق بين المتكبّر أنّ المتكبّر عامّ لإظهار الكبر الحقّ كما وصف اللّه و لإظهار الكبر الباطل كما في قوله: «سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» و الاستكبار إظهار الكبرياء باطلا كما في حقّ إبليس استكبر.

فإن قيل: إنّ التكبّر صفة ذم فكيف جعل من أسماء الله؟

فالجواب أنّ التكبّر هو الامتناع عن الانقياد فلهذا كان مذموما في حقّ الخلق و هو صفة مدح في حقّ اللّه لأنّه يفيد الاستغناء و المتكبّر هو الّذي يرى غيره حقيرا بالنسبة إلى شخصه و هذا المعنى لا يتصوّر إلّا للّه فهو المتكبّر و خاصيّة هذا الاسم ظهور الخير و البركة.

[سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له تعالى عن إشراكهم أي سبّحوا اللّه تسبيحا و نزّهوه تنزيها عمّا يشركه الكفّار به من المخلوقات.

[هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته و معنى الخلق التقدير يقال:

خلق النعل إذا قدّرها و سوّاها بمقياس و خاصيّة هذا الاسم إذا ذكر في جوف الليل ساعة فما فوقها يتنوّر قلب الذاكر و يذكر لجمع الضائع و الغائب خمسة آلاف مرّة.

ص: 105

[الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ] الموجد للأشياء حالكون الأشياء بريئة من التفاوت و النقصان بحيث لا يجوز أن يزيد عليها أو ينقص منها على حسب ما يقتضيه المصلحة مثل أن يكون اللازم من السماوات أن تكون في الخلقة عالية و الأرض سافلة المصوّر لصور الأشياء بالشكل المخصوص و مميّزها عن غيرها و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خلق اللّه آدم على صورته أراد بالصورة ما خصّ الإنسان به و لو رجع الضّمير إليه تعالى فمن قبيل إضافة التشريف مثل بيت اللّه و ناقة اللّه لا على سبيل التشبيه و البعضيّة تعالى شأنه عن الصورة و الصورة الإلهيّة عبارة عن الصفات السبع المرتّبة و هي الحياة و العلم و الإرادة و القدرة و السمع و البصر و الكلام و آدم مظهر هذه الصفات بالفعل دون سائر الموجودات.

بالجملة فقد يظنّ أنّ هذه الأسماء مترادفة و الكلّ يرجع إلى معنى و ليس كذلك بل «الْخالِقُ» في الأسماء المقدّر على وجه الحكمة «الْبارِئُ» الموجد على ذلك التقدير «و المصوّر» المبدع لأشكال المحدثات بحيث يترتّب عليها خواصّها و كلّ ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى التقدير أوّلا و إلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيا و إلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا فقدّم سبحانه ذكر الخالق على البارئ لأنّ الإرادة و التقدير متقدّمة على تأثير القدرة و قدّم البارئ على المصوّر لأنّ إيجاد الذات متقدّم على إيجاد الصفات و لو أنّه تعالى يوجّه الأشياء بتمامها أقلّ من طرفة عين إذا أراد لكن صورة الترتيب كما وصف اللّه نفسه تعالى.

[لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لدلالتها على المعاني الحسنة و الحسنى تفضيل الأحسن مؤنّثا كالعليا في تأنيث الأعلى إذ لا نسبة لأسمائه إلي غير الأسماء كما لا نسبة لذاته المتعالية إلى ذوات الغير و تعدّد الأسماء لا يدلّ على تعدّد المسمّى كما أنّ الواحد يسمّى أبا من وجه و جدّا من وجه و خالا من وجه و عالما من وجه و طبيبا من وجه.

و قيل: إنّ أسماء اللّه أربعة آلاف اسم ألف منها في القرآن و الأخبار و ألف في التوراة و ألف في الإنجيل و ألف في الزبور قال رسول اللّه في دعائه: أسألك بكلّ اسم سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب فعلى هذا كون أسماء الحسنى تسعة و تسعين- على ما قيل- بالنظر إلى الأشهر

ص: 106

الأشرف.

قال بعض أهل الذكر: إنّ من السرّ المكتوم في الأسماء أن يأخذ حروف الأسماء مثل قولك: الكبير المتعال و لا يأخذ الألف و اللام بل يأخذ كبير متعال و ينظركم لها من العدد بالجمل الكبير فتذكّر ذلك العدد في خلوة بالشرائط المعتبرة عند أهل الذكر من الطهارة و أمثالها لا يزيد عن العدد و لا ينقص لأنّ العدد و لا ينقص لأنّ العدد في الذكر بالأسماء كأسنان المفتاح و إنّها إذا زادت أو نقصت لا تفتح الباب فإنّه يستجاب لك و هو الكبريت الأحمر فضنّ الدرّ و افهم السرّ.

و اعلم أنّ إطلاق الاسم على اللّه توقيفيّ عند الأكثر و لا يصحّ إطلاقه إلّا بعد أن كان و اردا في القرآن أو الحديث الصحيح و قيل: كلّ لفظ دلّ على جلالة اللّه و يليق به جائز الإطلاق و إلّا فلا و استدلّوا بقوله تعالى: «وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» فكلّ اسم دلّ على هذه المعاني كان اسما حسنا و إنّه لا فائدة في الألفاظ إلّا رعاية المعاني فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظ المقيّد غير لائق.

[يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ينطق بتنزّهه عن جميع النقائص الأشياء إمّا نطقا و بيانا و إمّا برهانا و خلقا لأنّ وجود كلّ موجود ينطق في عالم الصورة أو المعنى على قدرته لأنّ ذلك الموجود شاهد قدرته.

[هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب على أمره الحكيم العالم بحقيقة الأشياء على ما هي عليه و هي أنفس المعارف و أكثرها خيرا كما قال: «وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (1) و الإنسان إذا حصل له الحكمة لا ينبغي له أن يفتخر بذاته بل بصفاته و لا ينبغي أن يمدح نفسه إلّا على مصلحة دينه و الفخر بالذات لا يكون إلّا للّه و هذا كما قال سبحانه: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» (2) لكنّ الترتّب و المزايا بالأوصاف و لذا ذكر سبحانه شرف التربة و الوصف بقوله: «يُوحى إِلَيَّ» و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا سيّد ولد آدم و لا فخر أي لا افتخر عليكم بالسيادة و إنّما أفتخر بالعبودية فإذا كان هذا كلام

ص: 107


1- البقرة: 269.
2- الكهف: 111.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو أكمل الكاملين في الإمكان فكيف يجوز أن يمدح الناقص نفسه فمدحه لنفسه سمّ قاتل ينبئ عن العجب و شهادة الزور لجهله بمقامه عند اللّه هل هو مقبول أو مردود.

فائدة اعلم أنّ الحكمة الشريعة المحمّديّة هي الحكمة الكاملة الّتي نحن مأمورون بامتثالها و إنّما الأولى لنا أن نسكت عن امور يدقّ عن أفهامنا من العلوم الغامضة في علم الكلام مثلا مثل أنّ الصفات الثابتة هل هي موجودات بوجودات مستقلّة غير وجوده أوّلا و مثل أنّ الوجود هل هو واحد و اللّه سبحانه هو ذلك الوجود و سائر الموجودات مظاهر له و لا وجود لها بالاستقلال أوله وجود زائد على ذاته واجب لها مقتضية هي إيّاه و أمثال هذه المباحث و أنّ ما أبهم علمه فالأدب فيه السكوت بعد الإيمان بالقرآن و الحديث فإنّ المرء لا يسأل إلّا عن علم لزمه في إقامة الطاعة لمولاه بل لا يجوز أن يناظر أحد في ذات اللّه بل في صفاته المتعالية عن القياس.

و في الحديث إنّ هلاك هذه الأمّة إذا نطقوا في ربّهم و إنّ ذلك من أشراط الساعة فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخرّ ساجدا متى ما سمع ما يتعالى عنه ربّ العزّة و لا يجيب السائل عن ذلك إلّا بمثل ما جاء به القرآن في آخر سورة الحشر من ذكر أفعاله و صفاته و لا يدقّق الكلام فيه تدقيقا فإنّ ذلك من الشيطان و ضرر ذلك و فساده أكثر من نفعه حتّى قيل: إنّه ما في فرق الإسلاميّة أسوء حالا من المتكلّمين لأنّهم ادّعوا معرفة اللّه بالعقل على حسب ما أعطاهم نظر هم القاصر و الحقّ منزّه عن أن يدرك أو يعلم بأوصاف خلقه عقلا كان أو علما فإنّ اللّه ما جعل الحواسّ الظاهرة و الباطنة طريقا إلّا إلى معرفة المحسوسات و العقل بلا شكّ منها فلا يدرك الحقّ بها لأنّه تعالى ليس بمحسوس و لا بمعلوم معقول و طريق المعرفة من طريق ما بيّنه القرآن و الرسل.

و الفاضل محمّد الشهرستانيّ صاحب كتاب الملل و النحل كان من كبار المتكلّمين و فحولهم و له مباحث كثيرة في علم الكلام حتّى قيل في حقّه: لم يسبق إليه سواه ثمّ انتهى إلى العجز و تحيّر في الذات حتّى رجع إلى مذهب العجائز فقال: عليكم بدين العجائز فانّه أسنى الجوائز و أنشد:

ص: 108

لقد طفت في تلك المعاهد كلّهاو سيّرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلّا واضعا كفّ حائرعلى ذقن أو قارعا سنّ نادم

أتيت بيوتا لم تنل من ظهورهاو أبوابها عن فرع مثلك سدّت

و الوجه الأصح أن يعتقد العبد الدين الّذي جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دعا إليه و لا يدخل إليه شيئا من نظر عقله لا في تنزيه و لا في تشبيه بل يؤمن بكلّ آية جاءت في القرآن في ذاته و صفاته تعالى و يكل علمه إلى اللّه و هذا هو الطريق الصحيح و على ذلك كانت الصحابة و السالفون الصالحون و من طلب غير ذلك كان على خطر في المآل لأنّ فهم مثل هذه الأمور عسر لأنّا نرى أنّ العقلاء اختلفوا في اللّه و في الأدلّة و وقع بينهم اختلاف كثير في مثل هذا الأمر فالمعتزليّ يخالف الأشعريّ بل يكفّره و بالعكس و هم يخالفون الحكماء و بالعكس و كلّ طائفة تجهّل الاخرى و تكفّرها فعلم أنّ سبب ذلك هو اختلاف نظرهم و رأينا الأنبياء لم يختلف منهم اثنان في اللّه قطّ و كلّ دعوا إليه تعالى على باب واحد و كان اختلافهم في الفروع و ذلك بحكم اللّه في فصولها كما قال اللّه: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (1)» فقوله «وَ لا تَتَفَرَّقُوا» دليل على اجتماعهم على أمر واحد في الأصول و اختلاف الفروع لا يضرّ.

هذا آخر كلام الشيخ صدر الدين في رسالته المعمولة وصيّة للطالبين و عظة للراغبين.

و في عين المعاني قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سألت جبرئيل عن اسم اللّه الأعظم فقال: عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته فأعدت عليه فأعاد عليّ.

و عن أبي امامة يقول: قال رسول اللّه: من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فقبض ذلك اليوم أو الليلة فقد استوجب الجنّة و في رواية من قرء سورة الحشر فان مات في يومه أو ليلته مات شهيدا أي يثاب ثواب الشهادة على مرتبته و للشهادة مراتب تمت السورة بعون اللّه

ص: 109


1- الشورى: 13.

سورة الممتحنة

اشارة

(مدنية) و سمّيت سورة المودّة.

أبو حمزة الثماليّ عن عليّ بن الحسين قال: من قرأ هذه الصورة في فرائضه و نوافله امتحن اللّه قلبه للإيمان و نوّر بصره و لا يصيبه فقر و لا جنون. افتتح سبحانه هذه السورة بذكر تحريم موالاتهم و إيجاب معاداتهم.

ص: 110

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الممتحنة (60): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)

سمّيت السورة ممتحنة لقوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ» فأضيفت السورة إليها.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة العبسيّ- بالحاء المهملة- و كان حاطب يبيع الطعام و كان من المهاجرين و أصل القصّه أنّه لمّا تجهّز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لغزوة الفتح في السنة الثامنة من الهجرة كتب حاطب إلى أهل مكّة إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يريدكم فخذوا حذركم فإنّه توجّه إليكم في جيش كالليل و أرسل الكتاب مع امرأة يقال لها «سارة» و أعطاها عشرة دنانير و بردة و توجّهت إلى مكّة و معها كتاب حاطب.

ص: 111

فنزل جبرئيل و أخبره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا و عمّارا و طلحة و الزبير و المقداد و أبا مرثد و قال: انطلقوا حتّى تأتوا خاخ موضع بين الحرمين فإنّ بها ظعينة- و الظعينة المرأة مادامت في الهودج و إذا لم تكن في الهودج فهي المرأة- معها كتاب حاطب فخذوه منها و خلّوها فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمّة فجحدت فسلّ علي عليه السّلام سيفه فأخرجته من عقاصها.

(و روى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمن جميع الناس يوم فتح مكّة إلّا أربعة هي أحدهم فأمر بقتلها).

فاستحضر حاطبا فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول اللّه ما كفرت منذ أسلمت و لا غششتك مذ نصحتك و لكنّي كنت امرأ حليفا مع قريش و لم أكن منهم، و من معك من المهاجرين كان لهم فيهم قرابات يحمون أهاليهم و أموالهم و ليس لي من يحميني فأردت أن آخذ عندهم يدا و لم أفعله كفرا و ارتدادا عن ديني و قد علمت أنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدّقه رسول اللّه و قبل عذره و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم و إنّ حاطب ادّعى لعمله الفاسد تأويلا فقبل منه و العذر عند كرام الناس مقبول انتهى.

قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» خاطب سبحانه المؤمنين و نهاهم أن يتّخذوا الكافرين أولياء يوالونهم و يستنصرون بهم و ينصرونهم [تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ] الودّ تمنّي كون الشي ء و محبّته و يستعمل في كلّ من المعنيين أي توصلون محبّتكم بالمكاتبة و الهدية و نحوها من الأسباب المقتضية للمودّة و الباء زائدة مثل «بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» [وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ حال من فاعل «تُلْقُونَ» و الحق القرآن أو دين الإسلام أو النبيّ.

[يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ حال من فاعل كفروا أي مخرجين الرسول و إياكم من مكّة و المضارع لاستحضار الصورة [أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ تعليل للإخراج أي لعلّة إيمانكم باللّه خالقكم و مدبّركم [إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي لا تتولّوا أعدائي إن كنتم أوليائي و تبتغون مرضاتي و تجاهدون في سبيلي

ص: 112

لأنّكم إن كنتم خرجتم عن أوطانكم لأجل هذين الأمرين فلا ينبغي معهم التصادق.

و المرضاة مصدر كالرضى.

[تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ] استيناف وارد على جهة التوبيخ كأنهم سألوا ماذا صدر عنّا؟ فقيل: تلقون إليهم بالمودّة سرّا [وَ أَنَا أَعْلَمُ حال من فاعل «تسرّون» [بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ من مودّة الأعداء.

[وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ و يتّخذ المنهيّ عنه [فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ و أخطأ طريق الحقّ و الصواب و «من» من إضافة الصفة إلى الموصوف.

[إِنْ يَثْقَفُوكُمْ و الثقف الحذق في إدراك الشي ء أي إن يتمكّنوا منكم و يظفروا بكم [يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً] يرتبوا عليكم ما يقتضي عداوتهم إيّاكم و لا ينفعكم إلقاء المودّة إليهم [وَ يَبْسُطُوا] و يطيلوا [إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ] و بما يضرّكم من القتل و الأسر و الشتم.

[وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كلمة لو مصدريّة بمعنى أن و تمنّوا ارتدادكم و كونكم مثلهم كقوله: «وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ».

[لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ الرحم في الأصل وعاء الولد في بطن امّه فاستعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة [وَ لا أَوْلادُكُمْ الّذين يوالون المشركين لأجلهم و يتقرّبون إليهم محاماة عليهم.

[يَوْمَ الْقِيامَةِ] يوم يفر المرء من أخيه بجلب نفع أو دفع ضرّ و الظرف متعلّق لقوله: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ» فيوقف عليه ثمّ يبتدأ بما بعده [يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ و يفرق بين الوالد و الولد بما يعتريكم من أهوال القيامة و يدخل أهل طاعته الجنّة و أهل معصيته النار. [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] فيجازيكم بحسبه.

[قَدْ كانَتْ لَكُمْ أيّها المؤمنون [أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] الأسوة كالقدوة هي الحالة الّتي يكون الإنسان عليها في اتّباع غيره حسنا كان أو قبيحا و أسوة اسم كانت و لكم خبرها [فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أي من أصحابه من المؤمنين ولي بك أسوة أي اقتداء

ص: 113

في سنّتك و أقوالك و أفعالك و قيل: المراد من الّذين مع إبراهيم الأنبياء الّذين كانوا قريبا من عصره لأنّه لم يرد أنّ إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحة نمرود حتّى قيل: إنّه عليه السّلام قال لسارة حين رحل بها إلي الشام مهاجرا بلاد نمرود: ما على الأرض من يعبد اللّه غيري و غيرك.

[إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ الكفّار: [إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ جمع بري ء أي برءاء منكم كظريف و ظرفاء [وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام أظهروا البراءة أوّلا منهم مبالغة و ثانيا من عملهم الشرك و حاصل الآية هلّا فعلتم كما فعل إبراهيم حيث تبرّأ من عمّه و قومه لكفرهم [كَفَرْنا بِكُمْ أي بدينكم على إضمار المضاف [وَ بَدا بَيْنَنا] أي ظهر ظهور بيننا و البادية كلّ مكان يبدو ما يعقّ و يعرض فيه و بيننا ظرف لبدا [وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً] أي هذا دأبنا معكم لا نتركه و قد حصل بيننا و بينكم العداوة [حَتَّى غاية لبدا [تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ و تتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة حينئذ الولاية و المقت مقة و الوحشة الفة.

[إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ أي اقتدوا و تأسّوا بإبراهيم في كلّ أموره إلّا في هذا القول فلا تقتدوا به فيه فإنّه إنّما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إيّاه بالإيمان فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للّه تبرّأ منه قال الحسن: و إنّما تبيّن له ذلك عند موت أبيه و لو لم يستثن ذلك لظنّ أنّه يجوز الاستغفار للكفّار مطلقا من غير موعدة بالإيمان منهم فنهوا لمن يقتدوا به في هذا خاصّة و قيل: كان آزر ينافق إبراهيم و يريه أنّه مسلم فيستغفر له و حاصل معنى الكلام و الاستثناء أنّ استغفار إبراهيم لأبيه لا يحملنّكم على أن تتأسّوا به و تستغفرون للكفّار فذلك ممنوع لكم و أمّا استغفاره فكان لهذه الجهة ظنّا منه أنّه مسلم أو سيسلم.

[وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ] بقيّة قول إبراهيم أي أستغفر لك و ليس في قدرتي دفع العذاب عنك إن لم تؤمن [رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا] اعتمدنا [وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا] و رجعنا [وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ] و الرجوع في الآخرة و تقديم الجارّ و المجرور لقصر الإنابة و التوكّل عليه.

ص: 114

[رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا] من بقيّة كلام إبراهيم و من معه أي لا تسلّطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نطيقه فالفتنة بمعنى المفتون أو المعنى لا تقتر علينا الرزق و تبسط عليهم فيظنّوا أنّا على الباطل [وَ اغْفِرْ لَنا] ما فرط منّا من التقصير [رَبَّنا] تكرير النداء للمبالغة في التضرّع فيكون لاحقا بما قبله كما عليه السجاونديّ حيث وضع علامة الوقف الجائز على ربّنا و تلك العلامة الجيم و قيل: ربّنا استيناف لما بعده توسّلا إلى إثبات العزّة و الحكمة [إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب في أمره الحكيم في أفعاله.

قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60): الآيات 6 الى 9]

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

تكرير للمبالغة في الحثّ على الاتّساء بإبراهيم و من معه من الأنبياء أو أمر الاتّساء في الآية السابقة بالقول و في هذه الآية في الفعل و قيل: في الاولى التأسّي به في العداوة مع الكفّار و في الثانية في الخوف و الخشية من اللّه لتنالوا ثواب ما نالوا [لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ] بالإيمان به تعالى و التصديق بالقيامة و وقوعها و الرجاء و الخوف و توقّع محبوب و خوف مكروه عن أمارات مظنونة و الرجاء أيضا يستعمل في الخوف مجازا.

[وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] أي و من يعرض عند الاقتداء بهم في التبري عن الكفّار و الأهم فإنّ اللّه مستغن عن خلقه و مستحقّ للحمد في ذاته و في الحديث القدسيّ من صحاح الأحاديث يا عبادي لو أنّ أوّلكم و آخركم و إنسكم و جنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا و إذا كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أنّ أوّلكم و آخركم

ص: 115

و إنسكم و جنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك من عندي إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر يا عبادي إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ اوفيكم إيّاها فمن وجد خيرا فليحمد اللّه و من وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه.

[عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من أقاربكم المشركين و عسى و لعلّ في القرآن وعد من اللّه و تذكرة ليكون الإنسان منه على رجاء لا بمعنى أنّه تعالى راج. قوله: [مَوَدَّةً] بأن يوافقواكم في الدين و قد أنجز وعده حين أتاح لهم الفتح فأسلم منهم جمع و كانوا أعداء أشدّ العداوة و وقع بينهم التحابب و التصافي [وَ اللَّهُ قَدِيرٌ] مبالغ في القدرة [وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لمن أسلم من المشركين أو غفور لما فرط منكم في موالاة أعداء اللّه بشرط إيمانكم و في الحديث من نظر إلى أخيه المؤمن مودّة لم يكن في قلبه إحنة لم يطرف حتّى يغفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه.

[لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ أي لا ينهاكم اللّه عن مودّة الّذين لم يقاتلوكم و عاهدوكم على ترك القتال و لم يقاتلوكم على الدين [وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل الاشتمال عن الموصول و برّهم أن تعاملوهم بالعدل [وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تعدلوا فيما بينكم و بينهم من الوفاء بالعهد.

و قيل: إن المسلمين استأذنوا النبيّ في أن يبرّوا إلى أقربائهم من المشركين و يحسنوا إليهم و ذلك قبل أن يؤمروا بقتال جميع المشركين فنزلت هذه الآية و هي منسوخة بقوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (1)» و قيل: إنّه عنى بالّذين لم يقاتلوكم من آمن من أهل مكّة و لم يهاجر و قيل: هي عامّة في كلّ من كان بهذه الصفة. و الّذي عليه الإجماع أنّ برّ الرجل من يشاء قرابة كان أو غير قرابة ليس بمحرّم و إنّما الخلاف في إعطائهم الزكاة و الفطرة و الكفّارات و حاصل الكلام أنّكم غير منهيّين عن أن تبرّوا الّذين لم يقاتلوكم.

[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين و قيل: المعنى: إنّ اللّه يحبّ الّذين يجعلون لقراباتهم قسطا ممّا في بيوتهم من المطعومات و قيل: إنّ قوله: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الآية»

ص: 116


1- التوبة: 6.

نزلت في قوم من خزاعة كانوا معاهدين مع رسول اللّه و لم يقصدوا بالمسلمين بسوء و ما نصروا أعداء النبيّ فنزلت الآية فيهم و القسط إذا كان بمعنى الجور فالإقساط بمعنى إزالة الظلم و الهمزة للسلب مثل أشكيته، و من أزال الظلم اتّصف بالعدل.

[إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ و إطفاء نوره [وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ و هم عتاة مكّة و جبابرتهم [وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ و عاونوا الجبابرة في إخراجكم [أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل من الموصول أي إنّما ينهاكم عن أن تتولّوهم.

[وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ و يتوادّهم [فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لوضعهم الولاية في موضع العداوة بتعريض أنفسهم للعذاب و أورد كلمة الحصر تغليظا و لكنّ المبرّة غير الموالاة و الموالاة للكافر غير جائز إجماعا و المبرّة أيضا لغير المقاتل و للمقاتل غير جائزة.

قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60): الآيات 10 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

النزول: قال ابن عبّاس: صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحديبية مشركي قريش على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم و من أتى من أصحاب رسول اللّه فهو لهم و لم يردّوه و كتبوا بذلك كتابا و ختموا عليه كما سبق شرحه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلميّة مسلمة بعد الفراغ من الكتاب و النبيّ بعد بالحديبية فأقبل زوجها رجل من بني محزوم و كان كافرا فقال: يا محمّد اردد إليّ امرأتي فإنّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا و هذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد و فنزلت الآية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ» من دار الكفر إلى دار الإسلام «فَامْتَحِنُوهُنَّ».

قال ابن عبّاس: امتحانهنّ أن يستحلفن أنّها ما خرجت من بغض زوج و لا رغبة عن أرض إلى أرض و لا التماس دنيا و ما خرجت إلّا حبّا للّه و لرسوله فاستحلفها رسول اللّه

ص: 117

فحلفت باللّه الّذي لا إله إلّا هو على ذلك فأعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زوجها مهرها و ما أنفق عليها و لم يردّها عليه فكان رسول اللّه يردّ من جاءه من الرجال و يحبس من جاءه من النساء إذا امتحنّ و يعطي أزواجهنّ مهورهنّ انتهى.

المعنى: [إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ و لعلّ التسمية بالمؤمنات لكونهنّ كذلك في علم اللّه و ذلك لا ينافي الامتحان لغير، [مُهاجِراتٍ حال من المؤمنات [فَامْتَحِنُوهُنَ و اختبروهنّ أنّ قلوبهنّ موافقة للسانهنّ في الإيمان [اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ منكم و الجملة اعتراض.

[فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَ بعد الامتحان [مُؤْمِناتٍ العلم الّذي يمكنكم تحصيله و هو الظنّ الغالب بالحلف و ظهور الأمارات و إنّما سمّاها علما إشعارا بأنّه جار مجرى العلم في وجوب العمل به ففي علمتوهنّ استعارة تبعيّة [فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ] و لا تردّوهنّ إلى أزواجهنّ الكفرة.

[لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ تعليل للنهي عن ردّهنّ إليهم لأنّه لا تحلّ مؤمنة لكافر لشرف الإيمان و لا يجوز أن ينكح كافر مسلمة.

[وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا] و أعطوا أزواجهنّ مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور و الشرط في الحديبية إنّما كان للرجال دون النساء لضعف النساء عن الدفع عن أنفسهنّ و عجزهنّ لكنّ المقيمة منهنّ على شركها مردودة عليهم و في الآية إيذان بأنّ الوليّ كائنا من كان لا يجوز له تزويج مؤمنة له ولاية عليها بمبتدع في الدين بحيث تفضي بدعته إلى الكفر فضلا عن الكافر.

أقول: و لعلّ أن يكون بعض المتصوّفة من أهل زماننا داخلا في هذا الحكم لأنّ بعضهم يدّعون القطبيّة العظمى و بسبب هذا العنوان يغيّرون بعض الفروعات من العبادات إلى ما لا ينبغي فعله أو تركه و ليست البدعة إلّا أمثال هذه الأمور و لا شكّ أنّ القطبيّة لا يحصل إلّا لمن جعله اللّه قطبا لمدار أمر العالم و ذلك مختصّ بالنبيّ و الوليّ المنصوص عليه من قبل البنيّ خاصّة فادّعاؤهم هذا الأمر ليس إلّا كذبا محضا و خارجا عن الحكمة الإلهّية و يؤول إلى تحريف الدّين و تأسيس امور محرّفة عن وضعها

ص: 118

و هذه هي البدعة بل من أشراط الساعة لأنّ القيامة من أشراطها أن يتغيّر أحوال كلّ طائفة عاما فعاما شهرا فشهرا اسبوعا فاسبوعا يوما فيوما لا يزال هذا التغيّر إلى انقراض الأخيار و لا يقوم الساعة إلّا على الأشرار.

و في الحديث ما من نبيّ بعثه اللّه في امّة قبلي إلّا كان له من امّته حواريّون يأخذون بسنّته و يقتدون بأمره ثمّ إنّها تخلف من بعدهم خلوفا يقولون ما لا يفعلون و يفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن و من جاهدهم بلسانه فهو مؤمن و من جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يذهب الصالحون الأوّل فالأوّل و يبقى حثالة كحثالة الشعير و التمر لا يبالي بهم اللّه و أوّل التغيّر في الأمراء ثمّ في العلماء ثمّ في الفقراء ففي كلّ طائفة أهل هدى و أهل هوى فكن من أهل الهدى و لا تكن من أهل الهوى أو المشبّهين لهم فإنّ من تشبّه بقوم فهو منهم و من كثّر سواد قوم فهو منهم و في الحديث من أحبّ قوما على فعلهم حشر في زمرتهم و حوسب بحسابهم و إن لم يعمل بعملهم انتهى.

قوله: [وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ هذا هو الحكم الثالث يقال: جنحت السفينة أي مالت إلى أحد جانبيها و الإثم المائل بالإنسان عن الحقّ سمّي جناحا استعارة [أَنْ تَنْكِحُوهُنَ أي تنكحوا المهاجرات و تتزوّجوهنّ و إن كانت لهنّ أزواج كفّار من أهل الحرب فإنّ إسلامهنّ حال بينهنّ و بين أزواجهنّ الكفّار [إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ إذا ظرفيّة أو شرطيّة جوابها محذوف دلّ عليه ما تقدّمها شرط إيتاء المهر في نكاحهنّ إيذانا بأنّ ما اعطي أزواجهنّ لا تقوم مقام المهر لأنّ ظاهر النظم يقتضي إيتاءهنّ إيتاء إلى الأزواج و إيتاء إليهنّ على سبيل المهر.

[وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ] هذا هو الحكم الرابع أي لا تمسكوا بنكاح الكافرات و أصل العصمة المنع و سمّي النكاح عصمة لأنّ المنكوحة تكون في حبال الزوج و عصمته و في هذا دلالة على أنّه لا يجوز العقد على الكافرة سواء كانت حربيّة أو ذمّيّة لأنّه عامّ في الكوافر جمع كافرة و ليس لأحد أن يخصّ الآية بعابدة الوثن لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب و الكوافر طائفتان من النساء طائفة قعدت

ص: 119

عن الهجرة و ثبتت على الكفر في دار الحرب ارتدّت عن الهجرة و لحقت بأزواجها الكفّار و حاصل المعنى لا يكن بينكم و بين المشركات و الكافرات علقة زوجيّة.

قال بعض أهل التفسير من العامّة: المراد بالعصمة هنا النكاح بمعنى من كانت له زوجة كافرة بمكّة أو ارتدّت و رجعت إلى مكّة لا يعدّها من نسائه فيكون بيان حكم اللاتي بقين في دار الكفر و ما أسلمن و لا هاجرن بعد الإسلام أزواجهن و هجرتهم.

قال الحقّي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر فيكون قوله: «وَ لا تُمْسِكُوا» بمقابلة قوله: «إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ» أي حكم اللاتي أسلمن و هاجرن هذا و حكم المسلمات اللاتي ارتددن و خرجن من دار الإسلام إلى دار الكفر هذا.

قوله: [وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ هذا هو الحكم الخامس أي و اسألوا الكفّار أيّها المؤمنون من مهور نسائكم اللاحقات بالكفّار أي إذا ارتدّت امرأة أحدكم و لحقت بدار الحرب فاسألوا ما أنفقتم لها ممّن تزوّجها [وَ لْيَسْئَلُوا] أي الكفّار منكم ما أنفقوا من مهور نسائهم المهاجرات إليكم أي يسأل كلّ كافر أسلمت امرأته و هاجرت إلينا ممّن تزوّجها منّا مهرها.

[ذلِكُمْ الّذي ذكر في هذه الآية من الأحكام [حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ مستأنف للتأكيد [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قيل: كان في صدر الإسلام تكون المسلمة تحت الكافر و الكافرة تحت المسلم فنسخته هذه الآية.

و لمّا نزلت هذه الآية آمن المؤمنون بحكم اللّه و أدّوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم و أبى المشركون أن يقرّوا بحكم اللّه فيما أمرهم به من أداء نفقات المسلمين فنزل [وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي و إن سبقكم و أتلف منكم شي ء من أزواجكم و المراد من الأزواج الزوجات و فاتكم شي ء قلّ أو كثر من مهور أزواجكم [فَعاقَبْتُمْ من العقبة و هي المناوبة و المعنى فجاءت نوبتكم و عقبتكم من أداء المهر مثل أن هاجرت امرأة الكافر مسلمة إلى المسلمين و لزمهم أداء مهرها إلى زوجها الكافر بعد أن فاءت امرأة المسلم إلى الكفّار [فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا] أي من المهاجرة الّتي تزوّجتموها و لا تؤتوا زوجها الكافر أي إن فاءت امرأة مسلم إلى الكفّار

ص: 120

و لم يعط الكفّار مهرها فإذا هاجرت امرأة كافر إلى المسلمين وجب على المسلمين أن يعطوا المسلم الّذي فاءت امرأته إلى الكفّار مثل مهر زوجته الفائتة من مهر هذه المهاجرة ليكون كالعوض لمهر زوجته الفائتة و لا يجوز لهم أن يعطوا مهر هذه المهاجرة زوجها الكافر الأوّلي.

و إنّما عبّر سبحانه بالمعاقبة لأنّه شبّه ما حكم به على المسلمين و الكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة و أداء أولئك مهور نساء هؤلاء اخرى بأمر يتعاقبون فيه مثل النوبة كما يتعاقب في الركوب.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لا بغيره فإن الإيمان به يقتضي التقوى منه.

[سورة الممتحنة (60): الآيات 12 الى 13]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)

[يا أَيُّهَا النَّبِيُ نداء تشريف و تعظيم [إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ مبايعات و قاصدات للبيعة. نزلت يوم الفتح فإنّه عليه السّلام لمّا فرغ من بيعة الرجال شرع في بيعة النساء سمّيت البيعة لأنّ المبايع يبيع نفسه بالجنّة و من عادة الناس حين المبايعة بعد أن يضع أحد المتبايعين يده على يد الآخر ليكون معاملتهم محكمة فمبايعة الامّة رسولهم التزام طاعته و المعاونة له و مبايعة الرسول إيّاهم الوعد بالثواب و القيام بمصالحهم إن كانوا ثابتين على المعاهدة.

[عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً] من الأشياء من الإشراك و لا يتّخذون إلها غير اللّه [وَ لا يَسْرِقْنَ و السرقة أخذ ما ليس له أخذه في الخفاء أي لا يأخذن مال أحد بغير حقّ [وَ لا يَزْنِينَ الزنا وطي المرأة من غير طريق مشروع [وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ أريد به وأد البنات و دفنهنّ أحياء خوف الفقر و العار و في تفسير أبي الليث: و لا يشربن دواء فيسقطن حملهنّ.

ص: 121

[وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَ البهتان الكذب الّذي يبهت المكذوب عليه و يدهشه فيكون أقبح أنواع الكذب ثمّ وصفه بكونه مفترى مبالغة في الكذب و الافتراء الاختلاق فري فلان كذبا إذا خلقه بين أيديهن و أرجلهنّ ظرف متعلّق بفعل تقديره يوجد بين أيديهنّ.

و حاصل المعنى لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم. قال الفرّاء: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهنّ و أرجلهنّ و ذلك أنّ الولد إذا وضعته الأمّ سقط بين يديها و رجليها و ليس المراد نهيهنّ من أن يأتين بولد من الزنا فينسبنه إلى الأزواج لأنّ الشرط بنهي الزنا قد تقدّم. و قيل:

معنى الآية في البهتان الّذي نهين عنه قذف المحصنات و الكذب على الناس و إضافة الأولاد على الأزواج باطلا.

[وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ و لا يخالفنك فيما تأمرهن به و تنهاهن عنه و كلّ ما وافق في طاعة اللّه و رسوله فعلا أو تركا فهو معروف و المعروف خلاف المنكر مثل أن لا يتركن الواجبات مثل الصلاة و الصوم و لا يرتكبن المنكرات مثل المحرّمات حتّى النياحة و تمزيق الثوب و حلق الشعر في المصيبة و نتفه و نشره و خمش الوجه، و أن تحدّث المرأة الرجال إلّا ذا رحم محرّم و أن تخلو برجل غير محرّم و أمثاله و الآية شاملة للكلّ و تخصيص الأمور المذكورة المعدودة بالذكر في حقّهنّ لكثرة وقوعها فيما بينهنّ و لتقدّم الأقبح على ما هو أدنى قبحا منه.

[فَبايِعْهُنَ جواب لإذا و هو العامل فيه أي فبايعهنّ إذا قبلن هذه الشروط و ما لم يذكر من الشروط في المبايعة كالصلاة و الزكاة و غيرها فذلك أمر منطبق مفهوم من قوله: «وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ».

[وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهنّ إذا وفين بما بايعن عليه قال بعض أهل التحقيق: إنّه تعالى غافر لأنّه يزيل معصيتك عن ديوانك و غفور لأنّه ينسئ الملائكة أفعالك السوء و غفّار لأنّه ينسيك أيضا ذنبك كيلا تستحي.

ص: 122

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا و شرع في بيعة النساء و دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده الشريف ثمّ غمس أيديهنّ فجاءت هندة بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكّرة خوفا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم احد من المثلة.

فلمّا قال عليه السّلام: أبا يعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا رفعت هندة رأسها فقالت:

و اللّه لقد عبدنا الأصنام و إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام و الجهاد فلمّا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «وَ لا يَسْرِقْنَ» قالت: إنّ أبا سفيان رجل شحيح و إنّي أصبت من ما له هنات أي شيئا يسيرا فما أدري أ يحلّ لي؟ فقال أبو سفيان:

ما أصبت فهو لك حلال فضحك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: أنت هندة؟ فقالت: نعم فاعف عمّا سلف يا نبيّ اللّه عفا اللّه عنك.

فقال: «وَ لا يَزْنِينَ» فقالت: و هل تزني الحرّة؟.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ» فقالت: ربّينا هم صغارا و قتلتهم كبارا فأنتم و هم أعلم، و كان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر حتّى استلقى و تبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال: «وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ» فقالت: إنّ البهتان لأمر قبيح.

فقال: «وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ» فقالت: و اللّه ما جلسنا مجلسنا هذا و في أنفسنا أن نعصيك.

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بايعهنّ و بين يديه و أيديهنّ ثوب قطريّ ضرب من البرد و يأخذ بطرف منه و يأخذن بالطرف الآخر توقّيا عن مساس أيدي الأجنبيّات.

و روي أنّه جلس على الصفا و معه عمر أسفل منه و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشترط عليهنّ البيعة و عمر يصافحهنّ و في رواية: إنّ عمر كان يبايع النساء بأمره و يبلّغهنّ عنه و قيل:

إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّفت امرأة وقفت على الصفا بايعتهنّ و هي اميمة اخت خديجه خالة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها و الأظهر الأشهر القدح و الغمس و كيف يجوز مصافحة عمر مع الأجنبيّات و هو أعلى حالا من كلّ وجه و أولى؟ انتهى.

ص: 123

ثمّ خاطب سبحانه المؤمنين فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي لا تتولّوا اليهود و قيل: المراد نوع الكفّار لأنّ كلّهم مغضوب عليهم لا رحمة لهم من الرحمة الاخرويّة و كان بعض فقراء المؤمنين يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فعلى هذا يكون المراد في الآية اليهود كما صرّح تعالى «وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ (1)» و القوم الرجال و يدخل فيه النساء تبعا لأنّ قوم كلّ نبيّ رجال و نساء [قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ] قطعوا الطمع من ثواب الآخرة و ينبغي أن يقطعوا طمعهم عن ثواب الآخرة لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة أي إنّهم أهل الكتاب يؤمنون بالقيامة لكنّهم لمّا أصرّوا على كفرهم عنادا و حسدا لا بدّ و أن ييأسوا من ثوابها.

[كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ] أي كما يئس من السعادة و أيقن الّذين ماتوا منهم لأنّهم لمّا ماتوا و قفوا على حقيقة الحال و شاهدوا حرمانهم من الثواب و ابتلاءهم بالعذاب و قيل: معنى الآية كما يئس كفّار العرب من أن يحيي أهل القبور أبدا لأنّهم ما كانوا يعتقدون بالبعث و قيل: يعني يريد أنّهم يئسوا مثل يأسهم بعد دفن موتاهم منهم و قيل: «مِنَ» في الآية تبيينيّة فحينئذ يكون يأسهم مثل يأس الكفّار المقبورين و ذلك لأنّ الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك شديد الانتهار ثمّ يسأله: من ربّك و ما دينك و من نبيّك؟ فيقول: ما أدري فيقول الملك: أبعدك اللّه انظر إلى منزلتك من النار فيدعو الكافر بالويل و الثبور ثمّ يفتح له باب الجنّة فيقول: هذا لمن آمن باللّه فلو كنت آمنت بربّك نزلت الجنّة فيكون حسرة عليه و تنقطع رجاؤه و ييأس من خير الجنّة فذلك يأسه تمّت السورة بعون اللّه

ص: 124


1- المائدة: 63.

[سورة الصف (مدنية) و تسمّى سورة الحواريّين و سورة عيسى.

اشارة

ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ سورة عيسى كان عيسى مستغفرا له مادام في الدنيا و هو يوم القيامة رفيقه.

و عن أبي بصير عن الباقر عليه السّلام قال: من أدمن قراءة سورة الصفّ في فرائضه و نوافله صفّه اللّه مع ملائكته و أنبيائه.

ص: 125

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الصف (61): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)

نزّهه ما في السماوات من العلويّات الفاعلة و ما في الأرض من السفليّات القابلة آفاقا و أنفسا و سجّه جميع الأشياء من غير فرق بين موجود و موجود كما قال: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (1) [وَ هُوَ الْعَزِيزُ] الغالب على أمره [الْحَكِيمُ في أفعاله و كلّ شي ء هو يسبّحه طوعا أو كرها حتّى الكافر لأنّ وجوده دالّ على موجده و لا حكيم على الإطلاق غيره و لذا يجب تسبيحه و من أراد أن يصفو له تسبيحه فليصف عن آثار نفسه قلبه و من أراد أن يصفو له في الجنّة عيشه فليصف عن أوضار الهوى دينه.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إيمانا رسميّا [لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ روي أنّ المسلمين قالوا: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى اللّه لبذلنا فيه أموالنا و أنفسنا فلمّا نزل الجهاد كرهوه فنزلت الآية تعيير الهم بترك الوفاء و لم مركّبة من اللام الجارّة و ما الاستفهاميّة قد حذفت ألفها لكثرة استعمالهما معا كما في عمّ و فيم أي لأيّ شي ء تقولون نفعل ما لا تفعلون من الخير و المعروف؟ و مدار التعيير و التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم و إنّما و جهه إلى قولهم تنبيها على أنّ المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد به أيضا منكر و لو قيل: لم لا تفعلون ما تقولون لفهم منه أنّ المنكر هو ترك الموعود مثل أن تذمّون الدّنيا بلسان الظاهر و تمدحونها بلسان الباطن لشهادة ارتكابكم أنواع الشهوات الحيوانيّة و أصناف

ص: 126


1- الإسراء: 44.

اللذّات الجسمانيّة.

[كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «كَبُرَ» مثل نعم و بئس فيه ضمير مبهم يفسّر بالنكرة بعده قوله: «أَنْ تَقُولُوا» هو المخصوص بالذمّ و المقت البغض الشديد و حاصل المعنى أنّه عظم بغضا في حكمته و عند علمه تعالى هذا القول المجرّد عن الفعل فهو أشدّ ممقوتيّة و مبغوضيّة و نعم ما قيل:

لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

أوحى اللّه إلى عيسى يا بن مريم عظ نفسك فإن اتّعظت فعظ الناس و إلّا فاستحي منّي. قيل لبعض السلف: حدّثنا فسكت ثمّ قيل: له حدّثنا فقال: لهم أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت اللّه؟ و قال: ثلاث آيات منعتني أن أقصّ على الناس «أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» (1) الثانية «وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» (2) و الثالثة هذه الآية.

[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ أعداء اللّه [فِي سَبِيلِهِ و في طريق مرضاته و إعلاء دينه يرضى عنهم و يثني عليهم [صَفًّا] متصافّين قبالة أعداء اللّه و صفّا مصدر وقع موقع الفاعل أي صافّين أو موقع المفعول أي مصفوفين [كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ و البنيان الحائط و البناء ضدّ الهدم و بناه بناء و بنيانا مصدر بمعنى المبنيّ و الرصّ اتّصال بعض البناء بالبعض و استحكامه بوضع الحجر على الحجر ثمّ يرصّ بأحجار صغار ثمّ يوضع عليه اللبن أو غيره يسمى ه أهل مكة مرصوصا شبّه سبحانه وقوفهم في تراصّهم من غير فرجة و خلل بميل هذا البناء و هذا تعليم من اللّه للمؤمنين كيف يكونون في قتال عدوّهم و لذلك لا يجوز الخروج من الصفّ إلّا لحاجة تعرض للإنسان أو في رسالة يرسله الإمام أو منفعة يظهر للمقام المنتقل إليه. و في الخروج عن الصفّ للمبارزة و إرهابا للعدوّ و تحريضا على القتال قيل: لا بأس و قيل: لا يجوز و إنّما يكون المبارزة إذا طلبها الكافر كما كانت في حروب النبيّ يوم بدر و خيبر و ذلك صحيح و حسن بالاتّفاق و حكم الجهاد فرض كفاية على المستطيع و

ص: 127


1- البقرة: 44.
2- هود: 88.

إذا فعله البعض سقط عن الباقين و عند النفير العامّ و هو هجوم العدوّ فهو فرض عين و هذا الجهاد أحيانا دون أحيان و هو يقع مع الأعداء الظاهرة كالكفّار و المنافقين و أمّا الجهاد مع الأعداء الباطنة كالنفس و الشيطان فثابت مستقرّ حكمه إلى زهوق الروح كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المجاهد من جاهد نفسه في طاعة اللّه، و المهاجر هاجر الخطايا و الذنوب، و أعظم المجاهدات جهاد النفس.

[وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ كلام مستأنف مقرّر لمّا قبله من شناعة ترك القتال أي اذكر لهؤلاء المتقاعدين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (1)» فلم يمتثلوا بأمره و عصوه حيث قالوا: «يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إلى قوله:- فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (2)».

[يا قَوْمِ أصله يا قومي و لو لا تقدير الياء لقيل: يا قوم بالضمّ لأنّه حينئذ يكون مفردا معرفة فبني على الضمّ لكن ليس كذلك و إنّما قوم بالكسر و هو نداء بالشفقة و الرفق كما هو شأن الأنبياء [لِمَ تُؤْذُونَنِي بالمخالفة و العصيان فيما أمرتكم به قال في القاموس: آذى فعل الأذى فلفظ الإيذاء من الأغلاط في أفواه الناس [وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ جملة حاليّة مؤكّدة لإنكار الأذيّة أي و الحال أنّكم تعلمون علما قطعيّا بمشاهدة ما ظهر بيدي من المعجزات أنّي مرسل من اللّه إليكم و من لازم علمكم بذلك أن تبالغوا في تعظيمي و تسارعوا إلى طاعتي.

و في الحديث رحم اللّه أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر و ذلك أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قسّم غنائم الطائف قال بعض المنافقين: هذه القسمة ما عدل فيها فتغيّر وجهه الشريف و قال ذلك.

[فَلَمَّا زاغُوا] الزيغ الميل عن الاستقامة أي أصرّوا على الزيغ و الميل عن الحقّ

ص: 128


1- آل عمران: 149.
2- المائدة: 27.

الّذي جاء به موسى و استمرّوا عليه [أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي خلّا هم و سوء اختيارهم و منعهم الألطاف الّتي يهوي بها قلوب المؤمنين.

[وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يهديهم إلى الثواب و الكرامة و الجنّة الّتي وعدها المؤمنين و لا يفعل بهم الألطاف الّتي يفعلها بالمؤمنين بل يخلّيهم و اختيارهم.

[سورة الصف (61): الآيات 6 الى 9]

وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

[وَ إِذْ قالَ معطوف على إذ الاولى و ابن في هذه الآية و في «عزير» يثبت ألفه خطّا [يا بَنِي إِسْرائِيلَ ناداهم بهذه النسبة استمالة لقلوبهم إلى تصديقه في قوله: [إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ] فإنّ تصديقه عليه السّلام التوراة من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إيّاه أي أرسلت إليكم لتبليغ أحكامه الّتي لا بدّ منها و أنّها من اللّه و يمكن أنّه عليه السّلام ما خاطبهم بيا قوم كما قال موسى: لأنّه لا نسب له فيهم إذ النسب عندهم بالآباء.

[وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ أي حالكوني مصدّقا لأحكام التوراة و مبشّرا برسول [يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] أيّ إنّ ديني التصديق بكتب اللّه و أنبيائه ممّن تقدّم و تأخّر قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا دعوة إبراهيم و بشرى عيسى و قيل: إنّ بين رفع المسيح و مولد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسمائة و خمس و أربعون سنة و عاش المسيح عليه السّلام إلى أن رفع ثلاثا و ثلاثين سنة و بين رفعه و الهجرة الشريفة خمسمائة و ثمان و تسعون سنة و نزل جبرئيل عليه السّلام على عيسى عليه السّلام عشر مرّات و كذلك أثبته النصارى على اختلافهم.

و خصّ لفظ أحمد فيما بشّر به عيسى تنبيها على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحمد منه و من الّذين من قبله من الأنبياء و هو محمود في أخلاقه و أقواله. قال السهيليّ في كتاب التعريف و الأعلام:

ص: 129

أحمد اسم علم منقول من صفة و تلك أفعل الّتي يراد بها التفضيل فمعناه أحمد الحامدين لربّه و أمّا محمّد فمنقول أيضا من صفة و هو في معنى محمود و لكن فيه معنى المبالغة و التكرار فمحمّد هو الّذي حمد مرّة بعد مرّة كما أنّ المكرّم من أكرم مرّة بعد مرّة فهو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم محمود في الدنيا بما هدى إليه و نفع به من العلم و الحكمة و أيضا محمود في الآخرة بالشفاعة فقد تكرّر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ.

ثمّ إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن محمّدا حتّى كان حمد ربّه فنبّأه و شرّفه و لذلك يقدّم اسم أحمد على الاسم الّذي هو محمّد فذكره عيسى عليه السّلام فقال: اسمه أحمد و ذكره موسى حين قال له ربّه: تلك امّة أحمد فقال: اللّهمّ اجعلني من امّة أحمد فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمّد فلمّا وجد و بعث كان محمّدا و هذا بيان تقدّم ذلك الاسم على هذا الاسم و ما خصّ به من الحمد و المحامد مشا كلا لمعناه مصادقا لصفته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّ اللّه تعالى شرع له سنّة و قرآنا و أنزلت عليه سورة الحمد و خصّ بلواء الحمد و بالمقام المحمود في الآخرة و شرّع في اختتام الأمور ذكر الحمد كما قال سبحانه: «وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1)» و قال: أيضا «وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)» فهذا الاسم و المسمّى تطابقا لكونه خاتم الأنبياء و مؤذنا بانقضاء الرسالة و الوحي و ختم به و تخصيص اللّه إيّاه بهذا الاسم و بهذه الكرامات قبل وجوده تكرمة له و إشعارا بخاتميّته.

قال في فتح الرحمن: لم يسمّ بهذا الاسم أحد من العرب و لا غيرهم إلى أن شاع قبيل ميلاده من الكهّان و الأحبار أنّ نبيّنا اسمه محمّد يبعث فسمّى قوم قليل من العرب أبناء هم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو و هم: محمّد بن احيحة بن الجلاح الأوسيّ و محمّد بن مسلمة الأنصاريّ و محمّد بن البراء البكريّ و محمّد بن سفيان بن مجاشع و محمّد بن حمدان الجعفيّ و محمّد بن خزاعة السلميّ فهم ستّة لا سابع لهم و حمى اللّه كلّ من سمّى به أن يدّعي النبوّة أو يدّعيها له أحد أو يظهر عليه سبب يشكّك أحدا في أمره من الموسومين

ص: 130


1- الزمر: 69 و 75.
2- يونس: 10.

الستّة حتّى ظهر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و من أسمائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المقفّي بتشديد الفاء و كسرها لأنّه أتى بعد جميع الأنبياء و في قفاهم أو قفا آثارهم و أتبعهم في الآثار من الأصول.

و منها نبيّ التوبة لأنّه كثير الاستغفار أو لأنّ التوبة في امّته صارت أسهل و غيرهم يؤاخذ في الدنيا و في الآخرة و امّته لا يؤاخذ لا في الدنيا بعد التوبة و لا في الآخرة.

و منها نبيّ الرحمة لأنّه كان سبب الرحمة و هو سبب الوجود لقوله تعالى: لولاك لما خلقت الأفلاك و لأنّه هو الأمان الأعظم ما عاش و مادامت سنّته باقية على وجه الزمان قال اللّه: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (1)».

و منها نبيّ الملحمة أي الحرب لأنّه بعث بالقتال. فإن قلت: المبعوث بالقتال كيف يكون رحمة؟ فالجواب أنّ امم الأنبياء كانوا يهلكون في الدنيا إذا لم يؤمنوا بهم بعد المعجزات و يستأصلون و لكنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث بالسيف لير تدعوا به عن الكفر و لا يستأصلوا و منها الماحي و قد محا اللّه به الكفر.

و منها الحاشر و هو الّذي يحشر الناس في دعوته و عهده من غير أن تنسخ.

و منها العاقب و هو الّذي ليس بعده نبيّ فانقطعت النبوّة.

و منها الفاتح لأنّ به فتح الإسلام.

و منها الكافّ قيل: معناه الّذي أرسل إلى الناس كافّة و ليس هذا بصحيح لأنّ كافّة لا يتصرّف منه فيكون منه اسم فاعل و إنّما معناه الّذي كفّ الناس عن المعاصي و الشرك.

و منها الرءوف و الرحيم و الشاهد و المبشّر و السراج المنير و طه ويس و المزّمّل و المدّثّر و عبد اللّه و قثم أي الجامع للخير. و «ن» إشارة إلى اسم النور و الناصر و المتوكّل و المختار و المحمود و المصطفى و الخاتم بفتح التاء أي أحسن الأنبياء خلقا و خلقا كأنّه الخاتم الّذي يتجمّل به و لأجل كما له كان الخاتم الّذي يختم به الكتاب عند الفراغ

ص: 131


1- الأنفال: 33.

منه و أمّا الخاتم بالكسر فمعناه آخر الأنبياء اسم فاعل من ختم.

و منها راكب الجمل سمّاه به شعيا النبيّ كناية من أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عربيّ.

و منها صاحب الهراوة أي العصا سمّاه به سطيح الكاهن قبل أن يلد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و منها روح الحقّ سمّاه به عيسى عليه السّلام في الإنجيل في بيانه و سمّاه أيضا المنحنا بمعنى محمّد بالسريانيّة.

و منها حمياطي بالعبرانيّة و برقليطس بالروميّة بمعنى محمّد و ماذ ماذ بمعنى طيّب طيّب و فارقليطا مقصورا بمعنى أحمد و روي فارقلبط بالباء و معناه الّذي يفرق بين الحقّ و الباطل.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اسمي في التوراة أحيد لأنّي أحيد امّتي عن النار و اسمي في الزبور الماحي محا اللّه بي عبدة الأوثان و اسمي في الإنجيل أحمد و في القرآن محمّد لأنّي محمود في أهل السماء و الأرض.

أقول: و تخصيص الوارد بالخمسة أو الأربعة لا ينافي ما سواه و إذا اشتققت أسماءه من صفاته كثرت جدّا.

قوله: [فَلَمَّا جاءَهُمْ أي الرسول المبشّر به الّذي اسمه أحمد أي بني إسرائيل و النصارى و المشركين [بِالْبَيِّناتِ و المعجزات و القرآن [قالُوا هذا] مبشّرين إليه أو إلى ما جاء به لأنّه قرئ ساحر مكان [سِحْرٌ مُبِينٌ .

[وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ الفرق بين الكذب و الافتراء أنّ الافتراء افتعال الكذب من قول نفسه و الكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه [وَ هُوَ] أي و الحال أنّ ذلك المفتري [يُدْعى من لسان الرسول [إِلَى الْإِسْلامِ الّذي فيه نجاته أو يدعى إلى الاستسلام لأمر الرسول و الانقياد لطاعته، أي و من أشدّ ظلما ممّن اختلق الكذب على اللّه و نسب القرآن إلى السحر و الرسول إلى الساحر مع أنّه يدعوه للإسلام الّذي به نجاته فيضع موضع الإجابة الافتراء على اللّه بقوله للقرآن الّذي هو دعاء عباده إلى الحقّ: هذا سحر و اللام في الكذب للعهد و من الافتراء على اللّه الكذب في الإخبار عن النبيّ أو الإمام و الكذب في الرؤيا و الداعي في الحقيقة هو اللّه كما قال:

ص: 132

«وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ» (1) و الرسول يدعو بأمره تعالى كما قال: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ (2)» [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ و لا يرشدهم إلى طريق الجنّة بسبب إعراضهم عن الحقّ و عن متابعة الداعي.

[يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ الإطفاء الإخماد يريدون إخماد حجّته النيّرة و كتابه و دينه و اللام زائدة تأكيد المعنى الإرادة أو معنى الآية يريدون الافتراء ليطفئوا نور اللّه [بِأَفْواهِهِمْ و أقوالهم السخيفة و بمفترياتهم في كلامهم [وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ و اللّه يتمّ حجّته و كتابه و ينشره [وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إتمامه إرغاما لهم و «لو» في الآية بمعنى إن أي و إن كرهوا ذلك فإنّه تعالى يفعله لا محالة.

[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [بِالْهُدى أي القرآن و المراد من الهدى ما به الاهتداء إلى الصراط المستقيم [وَ دِينِ الْحَقِ و الملّة الحنيفة الّتي اختارها لرسوله و للناس و هو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة مثل عذاب الحريق [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليجعله بالحجّة ظاهرا عاليا على جميع الأديان.

[وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ففي الآية السابقة أسند الإكراه إلى الكفّار لأنّه لمّا كان إتمام نوره من أجل النعم و الكافر أيّ كافر كان من أصناف الكفر كفروا بهذه النعمة العظيمة فأسند الكراهة إليهم و في هذه الآية الّتي أسند الكراهة إلى المشركين فإنّه قد ورد في مقابلة دين الحق الّذي معظم أركانه التوحيد و إبطال الشرك و كفّار مكّة كارهون له من أجل إنكارهم للتوحيد و إصرارهم على الشرك فالمناسب في الآية التعرّض لشكر هم فقال: «وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

و لو قيل: إنّ دينه ما ظهر على جميع الأديان؟ فقد روى العيّاشيّ بالإسناد عن عمران بن ميثم عن عباية إنّه سمع أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: يظهر بعد ذلك فو الّذي نفسي بيده حتّى لا تبقي قرية إلّا و ينادي فيها بشهادة أن لا إله إلّا اللّه بكرة و عشيّا.

قال السهيليّ في كتاب الأمالي في بيان فائدة كون أبواب النار سبعة: وجدنا

ص: 133


1- يونس: 25.
2- النحل: 125.

الأديان سبعة واحد للرحمن و ستّة للشيطان فالّتي للشيطان اليهوديّة و النصرانيّة و الصابئيّة و عبادة الأوثان و المجوسيّة و امم لا شرع لهم و لا يقولون بنبوّة و هم الدهريّة و الصنف السابع هو من أهل التوحيد لكنّهم المصرّون على المعاصي و الكبائر من غير استغفار و توبة فإنّ فيهم من ينفذ فيه الوعيد و النار و منهم من يعفو اللّه عنه فهؤلاء كلّهم صنف واحد غير أنّه لا يحتم عليهم بالخلود فهؤلاء سبعة أصناف ستّة منها مخلّدون إجماعا و الصنف السابع غير مخلّد و يخرجون بالشفاعة و وافق عدد الأبواب عدد الأصناف و تبيّنت الحكمة في ذكرها في القرآن لما فيها من التخويف و الإرهاب.

و أمّا معنى الإشراك هو إثبات الشريك للّه تعالى في الألوهيّة سواء كانت بمعنى وجوب الوجود أو استحقاق العبادة لقوله في وصف المشركين «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (1)»* و الكفر لا يخلو عن الشرك و يدلّ على هذا المعنى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ»* و قد ثبت ضرورة أنّه تعالى لا يغفر كفر غير المشركين من اليهود و النصارى فيكون المراد في الآية: لا يغفر أن يكفر به. انتهى.

[سورة الصف (61): الآيات 10 الى 14]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ في صراط الإيمان هل اعلّمكم و أرشدكم و هل ترغبون في تجارة منجية من العذاب الأليم و هو الإيمان باللّه وحده و الجهاد في سبيل دينه بالمال و النفس؟ و صورة الكلام العرض و المراد الأمر على سبيل التلطّف في الاستدعاء فيكون العمل به سببا لإنجاء اللّه إيّاكم من العذاب و عكسه عكسه لأنّ من التجارة ما تكون

ص: 134


1- العنكبوت: 61.

لصاحبها سبب العذاب كجمع المال و منع حقوق اللّه منه فهي تجارة خاسرة موجبة للنكال و أضعف أفراد الجهاد في الدين مع الباطل بالألسنة، و كان حسّان مدّاح النبيّ يجلس على المنبر و يهجو المشركين بإذن رسول اللّه. و التاجر الّذي ببيع و يشتري و ليس في كلام العرب تاء بعدها جيم غير هذه اللفظة و أمّا كلمة «تجاه» فأصلها و جاه و «تجوب» تاؤه تاء المضارعة و هي قبيلة من حمير.

[ذلِكُمْ أي ما ذكر من الإيمان و الجهاد [خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّه خير لكم و تعقلون هذا الأمر فعل العاقل تبديل الفاني بالباقي و بعد نزول هذه الآية جاء رجل بناقة مخطومة و قال: هذه في سبيل اللّه فقال النبيّ: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلّها مخطومة.

[يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ في الدنيا [وَ يُدْخِلْكُمْ في الآخرة [جَنَّاتٍ لكلّ واحد منكم جنّة و لا بعد من لطفه أن يكون لكلّ واحد جنّات [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] من تحت أشجارها و تحت قصورها و غرفها الأنهار الأربعة من اللبن و العسل و الخمر و الماء.

[وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً] و منازل نزهة كائنة [فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي إقامة و خلود بحيث لا يخرج منها من دخلها و المسكن يستعمل في الاستيطان و سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن هذه المساكن الطيّبة فقال: قصر من لؤلؤ في الجنّة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء في كلّ بيت سبعون وصيفا و وصيفة. و المرويّ عن ابن عبّاس أنّ الجنّات سبع جنّة الفردوس و جنّة عدن و جنّة النعيم و دار الخلد و هي جنّة الخلد و جنّة المأوى و دار السلام و علّيّون و كلّ واحدة منها لها مراتب. و روي أيضا أنّها ثمان: دار الجلال و دار القرار و دار السلام و جنّة عدن و جنّة المأوى و جنّة الخلد و جنّة الفردوس و جنّة النعيم.

و قيل: الجنّات أربع كما قال اللّه: «وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (1)» ثمّ قال سبحانه: «وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (2)» فذلك جنان أربع إحداهن جنّة الخلد و الثانية

ص: 135


1- الرحمن: 46.
2- الرحمن: 62.

جنّة الفردوس و الثالثة جنّة المأوى و الرابعة جنّة عدن و أبوابها ثمانية و خازن الجنّة يقال له «رضوان» «و قد ألبسه اللّه الرأفة و الرحمة كما أنّ خازن النار يقال له «مالك» قد ألبسه اللّه الغضب و الهيبة.

[ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ما ذكر من المغفرة و إدخال الجنّة هو الفوز الّذي لا فوز وراءه و الفوز يكون بمعنى النجاة من المكروه و بمعنى الظفر بالبغية و الأوّل يحصل بالمغفرة و الثاني بإدخال الجنّة.

[وَ أُخْرى تُحِبُّونَها] أي و لكم إلى هذه النعمة العظيمة نعمة اخرى مبتدء حذف خبره عطف على يغفر لكم على المعنى تحبّونها و ترغبون فيها تعريض بأنّهم يؤثرون العاجل على الآجل.

[نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ بدل أو بيان للأخرى أي نصر على عدوّكم الكفّار أو قريش [وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ أي فتح مكّة أو فتح غيرها [وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يا أكمل الرسل بأنواع النعمة.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي أنصار دينه [كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ و «من» يحتمل أن يكون استفهاما حقيقة ليعلم وجود الأنصار و يحتمل العرض و الحثّ على النصرة و المعنى: من جندي إلى نصرة دين اللّه؟

[قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فحاصل الآية مخاطبا للمؤمنين: كونوا أنصار اللّه كما كان الحواريّون أنصاره حين قال لهم عيسى: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» أو قل لهم:

كونوا كما قال عيسى للحواريّين و الحواريّون أصفياء عيسى من الحور و هو البياض الخالص و هم أوّل من آمن به و كانوا اثني عشر رجلا قال اللّه لعيسى: إذا دخلت القرية فأت النهر الّذي عليه القصّارون فاسألهم النصرة فأتاهم عيسى و قال: من أنصاري إلى اللّه؟ فقالوا: نحن ننصرك فصدّقوه و نصروه و قيل: كانوا صيّادين أو كانوا يطهّرون نفوس الناس بإفادتهم العلم و الدين و إنّما قيل لهم إنّهم قصّارون على التمثيل و التشبيه أو قيل لهم: إنّهم صيّادون لاصطيادهم نفوس الناس إلى الحقّ.

ص: 136

[فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ آمنوا بعيسى و أطاعوه [وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ] الطائفة جماعة أقلّ من الفرقة [فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا] أي قوّينا مؤمني قومه بالحجّة أو بالسيف و ذلك بعد رفع عيسى [عَلى عَدُوِّهِمْ أي على الّذين كفروا و في لفظ العدوّ إيذان بأنّ الكافر لا زال كان عدوّا للمؤمن. و لمّا رفع عيسى تفرّق القوم ثلاث فرق فرقة قالوا: كان ابن اللّه فرفعه اللّه إليه و فرقة قالوا: كان عبد اللّه و رسوله فرفعه اللّه و هم المؤمنون و اتّبع كلّ فرقة منهم طائفة من الناس فاقتلوا و ظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتّى بعث اللّه محمّدا فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: «فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ».

[فَأَصْبَحُوا] صاروا [ظاهِرِينَ غالبين عالين يقال: ظهرت على الحائط علوته. و سبقوهم أيضا بالحجّة لأنّهم قالوا لهم: ألستم تعلمون أنّ عيسى عليه السّلام كان ينام و اللّه تعالى لا ينام و إنّه يأكل و يشرب و اللّه منزّه عن ذلك و قيل: المراد من قوله: «فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ» بمحمّد و كفرت طائفة به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صدّقوا و كذّبوا فأصبحت المؤمنة عالية على الكافرة بالحجّة قال أمير المؤمنين: أيّها الناس دينكم فإنّ السيّئة فيه أحسن من الحسنة في غيره لأنّ السيّئة فيه يغفر و الحسنة في غيره لا يقبل تمّت السورة بعون اللّه

ص: 137

[سورة الجمعة] (مدنية)

اشارة

عن ابيّ ابن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و من قرأ سورة الجمعة اعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة و بعدد من لم يأت في أمصار المسلمين.

و عن منصور بن فخّام عن الصادق عليه السّلام قال: من الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرء في ليلة الجمعة بالجمعة و سبّح اسم ربّك الأعلى و في صلاة الظهر بالجمعة و المنافقين فإذا فعل فكأنّما يعمل عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان ثوابه الجنّة.

ص: 138

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجمعة (62): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)

[يُسَبِّحُ جميعا من حيّ و جامد تسبيحات مستمرّة فما في السماوات هي البدائع العلويّة و ما في الأرض هي الكوائن السفليّة فللكلّ نسبة إلى اللّه بالحياة و الوجود [الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ المنزّه من كلّ نقص [الْعَزِيزِ] الغالب على ما أمر، أو [الْحَكِيمِ في أفعاله.

[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ و الأمّيّ من لا يكتب و لا يقرء كأنّه بقي على ما تعلّمه من امّه، منسوب إلى قبائل كثيرة.

و سمّي هو بالأمّيّ لأنّه لم يكتب و لم يقرء لاستغنائه بضمان اللّه له في الفضل و الحفظ عن العلم بقوله: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى أو لنسبته إلى امّ القرى مكّة و ليس المراد أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان لا يعرف القراءة و الكتابة و لقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرء و يكتب باثنين و سبعين لسانا كما في الحديث عن محمّد بن عليّ الرضا عليه السّلام قال الراوي: سألته يا بن رسول اللّه لم سمّي النبيّ امّيّا؟ فقال: ما يقول الناس؟ قلت: يزعمون أنّه لم يحسن أن يكتب و يقرأ فقال: كذبوا عليهم لعنة اللّه أنّى ذلك و اللّه تعالى يقول: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ» إلى أن قال: «وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» فكيف يعلّمهم و هو لا يعرف

ص: 139

أن يقرأ؟ و لقد يعرف و يكتب باثنين و سبعين لغة. الحديث.

أقول: و لو صحّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يقرء و لا يكتب فهذه فضيلة له لأنّه لا يحتاج إلى القراءة و تحصيل الكتابة من كان القلم الأعلى في نظره و اللوح المحفوظ مصحفه و منظره.

قيل: بدئت الكتابة في العرب بالطائف و تعلّمها ثقيف و أهل الطائف أخذوها من الحيرة و أهل الحيرة أخذوا من أهل الأنبار و هي مدينة قديمة على الفرات بينها و بين بغداد عشرة فراسخ و لم يكن في أصحاب الرسول كاتب غير حنظلة غسيل الملائكة و عليّ عليه السّلام ثمّ ظهر الخطّ في الصحابة بعد في معاوية و زيد بن ثابت و كانا يكتبان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[رَسُولًا] كائنا [مِنْهُمْ من جملتهم و نسبهم عربيّا امّيّا مثلهم و في كتاب شعيا النبيّ عليه السّلام مذكور أنّي أبعث امّيّا في الأمّيّين و أختم به النبيّين.

و اعلم أنّ البعث في الأمّيّين لا ينافي عموم دعوته على الناس كافّة لأنّ التخصيص بالذكر لا مفهوم له و له سلّم فلا يعارض المنطوق مثل قوله: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» على أنّه في الكلام فرق بين البعث في الأمّيّين و البعث إلى الأمّيّين فبطل احتجاج أهل الكتاب بهذه الآيه.

[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي القرآن مع كونه امّيّا مثلهم لم يعهد منه قراءة و تعلّم و الفرق بين التلاوة و القراءة أنّ التلاوة و قراءة القرآن متتابعة كالأوراد الموظّفة و القراءة أعمّ لأنّها جمع الحروف باللفظ لا اتّباعها.

[وَ يُزَكِّيهِمْ صفة اخرى لرسولا أي يحملهم على ما يصيرون أزكياء من خبائث الأعمال و العقائد و المزكّي في الحقيقة هو اللّه كما قال (1): «بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» إلّا أنّ الإنسان الكامل مظهر الصفات الإلهيّة.

[وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ] صفة اخرى لرسولا يعلّمهم القرآن و السنّة و هي ما شرع اللّه لعباده و المراد من الحكمة الفقه و العظة و الأحكام الشريعة الحكميّة و الحكميّة و نعم ما قال صاحب القصيدة البرديّة:

كفاك بالعلم في الأمّيّ معجزةفي الجاهليّة و التأديب في اليتم

ص: 140


1- النساء: 48.

[وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ و إن مخفّفة عن المثقّلة و ليست شرطيّة و لا نافية و اللّام هي الفارقة بينها و بينهما أي و إنّ الشأن كان الأمّيّون من قبل بعثته لفي ضلال ظاهر و هو الشرك و خبث عادات الجاهليّة و نسبة الضلال إلى الجميع من باب التغليب و إلّا فقد كان فيهم مهتدون مثل ورقة بن نوفل و زيد بن نفيل و قسّ بن ساعدة و غيرهم أو أنّ نسبة الضلالة إلى الجميع صحيحة لأنّ هؤلاء المذكورين و أمثالهم أيضا كانوا في الضلالة من الأحكام، النهاية أنّهم ما كانوا مشركين فكونهم مهتدين من وجه لا ينافي كونهم ضالّين من وجه آخر.

[وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أي و يعلّم قوما آخرين من الأمّيّين و المؤمنين يأتون بعد ذلك و لمّا يأتوا بعد و هم كلّ من بعد الصحابة إلى يوم القيامة لأنّ شريعته تلزمهم و إن لم يلحقوا بزمانه و قيل: هم الأعاجم لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مبعوث إلى من شاهده و إلى كلّ من لم يشاهده من العرب و العجم روي ذلك عن الباقر، و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء فوضع يده على كتف سلمان و قال: لو كان الإيمان في الثريّا لنالته رجال من هؤلاء فعلى هذا فإنّما قال: «منهم» لأنّهم إذا أسلموا صاروا منهم فإنّ المسلمين يد واحدة و امّة واحدة على من سواهم و إن اختلف أجناسهم و من لم يؤمن بالنبيّ فانّهم ليسوا بمن عناهم اللّه بقوله: «وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ» و إن كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مبعوثا إليهم و آخرين جمع آخر بمعنى غير و هو عطف إمّا على الأمّيّين الّذين على عهده أو على المنصوب في يعلّمهم و يعلّم آخرين منهم أي من الّذين يأتون بعد هؤلاء الّذين تعلّموا منه فهم يتعلّمون مثل هؤلاء فيكونون من جنسهم و منفيّ كلمة «لمّا» مستمرّ النفي إلى الحال و متوقّع الثبوت بخلاف منفيّ «لم».

[وَ هُوَ الْعَزِيزُ] الغالب و المبالغ في العزّة و لذلك مكّن سبحانه رجلا امّيّا و ذلك الأمر العظيم من الرياسة على الملك و الجنّ و البشر [الْحَكِيمُ في رعاية المصلحة و لذلك اصطفاه من بين كافّة البشر.

[ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ إشارة إلى هذا الأمر العظيم فضله و إحسانه [يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ] تفضيلا [وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الّذي يستحقر دونه نعم الدنيا بل نعيم الآخرة على

ص: 141

الخلق بإرسال محمّد إليهم.

[مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ] أي علموها [ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها] و لم يعملوا بما في تضاعيفها من آياتها الّتي من جملتها الآيات الناطقة بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اقتنعوا بمجرّد قراءتها و المراد اليهود [كَمَثَلِ الْحِمارِ] و الكاف زائدة و الحمار معروف (و في حياة الحيوان إن اتّخذ خاتم من حافر الحمار الأهليّ و لبسه المصروع لم يصرع) يعبّر به عن الجاهل.

[يَحْمِلُ أَسْفاراً] أي كتبا من العلم يتعب بحملها و لا ينتفع بها و الأسفار جمع سفر بكسر السين و هو الكتاب مثل شبر و أشبار و إنّما سمّي الكتاب بسفر لأنّه يسفر و يكشف عن الحقائق و على هذا فمن تلا القرآن و لم يعمل به و أعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه كان هذا المثل لاحقا به و إن حفظه و هو طالب لمعناه و العمل به فليس من أهل المثل.

[بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بئس مثلا مثل القوم المكذّبين و التمييز محذوف و الفاعل المفسّر له مستتر و المخصوص بالذمّ اليهود [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الواضعين التكذيب موضع التصديق و الظالمين أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد باختيار الضلالة على الهداية.

[سورة الجمعة (62): الآيات 6 الى 8]

قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

[قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا] من هاد يهود إذا اختار اليهوديّة فإنّ المهاداة الممايلة فإنّهم مالوا عن الحقّ و قال بعضهم: يهود من قولهم: «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» أي بيّنّا و كان بالأوّل اسم مدح كما أنّ النصارى اسم مدح لقولهم: «نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ»*.

[إِنْ زَعَمْتُمْ و الزعم هو القول بلا دليل و أكثر ما يستعمل فيما يشكّ فيه و قيل: الزعم حكاية قول يكون مظنّة للكذب و يقال للمتكفّل و الرئيس: زعيم [أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ جمع وليّ بمعنى الحبيب [مِنْ دُونِ النَّاسِ صفة أولياء أي من دون

ص: 142

الأمّيّين و غيرهم ممّن ليس من بني إسرائيل من العرب و العجم يريد بذلك قولهم:

«نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ» و يدّعون أنّ الدار الآخرة لهم عند اللّه خالصة و قولهم:

«لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً» فأمر اللّه رسوله بأن يقول لهم إظهارا لكذبهم: إن زعمتم ذلك [فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي تمنّوا من اللّه أن يميتكم من دار البليّة إلى دار الراحة و الكرامة و الفرق بين التمنّي و الاشتهاء أنّ التمنّي أعمّ من الاشتهاء لأنّه يكون في الممتنعات دون الاشتهاء.

[إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين و واثقين فتمنّوا الموت و المحبّ يكون مشتاقا إلى لقاء محبوبه كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه.

[وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً] إخبار بما سيكون منهم و أبدا ظرف بمعنى الزمان المتطاول و المراد به ماداموا في الدنيا [بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي يأبون التمنّي بسبب ما عملوا من الكفر و المعاصي الموجبة للنار و لمّا كانت اليد بين جوارح الإنسان مناط عامّة أفعاله عبّر بها تارة عن النفس و اخرى عن القدرة و الأيدي هنا بمعنى الذوات استعملت فيها لزيادة احتياجها إليها فكأنّها هي.

[وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم في كلّ أمورهم أي عليم بهم و بظلمهم و فنون ظلمهم و وقع الأمر كما ذكر فلم يتمنّ منهم أحد موته و في الحديث لا يتمنّنّ أحدكم الموت إمّا محسنا فإن يعش يزدد خيرا فهو خير له و إمّا مسيئا فلعلّه أن يستعتب أي يسترضى ربّه بالتوبة و الطاعة روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في حقّ اليهود: لو تمنّوا الموت لغصّ كلّ إنسان بريقه فمات مكانه و ما بقي على وجه الأرض يهوديّ.

[قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ و لا تجسرون أن تمنّوه مخافة أن تؤخذوا بوبال كفركم [فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ البتّة من غير صارف يلويه [ثُمَّ تُرَدُّونَ بعد الموت الاضطراريّ ترجعون [إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ] الّذي لا تخفى عليه أفعالكم و أحوالكم

ص: 143

الظاهرة و الباطنة [فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي و يجازيكم بها.

[سورة الجمعة (62): الآيات 9 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

النداء رفع الصوت و نداء الصلاة مخصوص في الشرع بالألفاظ المعروفة و المراد بالصلاة صلاة الجمعة و دلّ عليه يوم الجمعة.

أي إذا أذن لصلاة الجمعة و ذلك إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة و ذلك لأنّه لم يكن على عهد رسول اللّه نداء غيره و كان لرسول اللّه مؤذّن واحد هو بلال فإذا كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام الصلاة.

[مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ] بضمّ الميم و هو الأصل و السكون تخفيفا منه و إنّما سمّي جمعة.

لاجتماع الناس فيه للصلاة و أوّل من سمّى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤيّ لصغير لأي سمّاه بها لاجتماع قريش فيه إليه و كانت العرب قبل ذلك تسمّيه العروبة.

و قيل: إنّ الأنصار قبل الهجرة قالوا لليهود: يوم تجمعون فيه في كلّ سبعة و للنصارى كذلك فهلمّوا نجعل لنا يوما نجمع فيه فنذكر اللّه و نصلّي فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلّى بهم ركعتين فسمّوه الجمعة ثمّ ذبح لهم شاة فأكلوا فدارت عادة الإطعام بعد الصلاة إلى يومنا هذا فأنزل آية الجمعة فهي أوّل جمعة في الإسلام.

و أمّا أوّل جمعة جمعها رسول اللّه فهي أنّه لمّا قدم المدينة مهاجرا نزل قبائل بني عوف يوم الاثنين لاثني عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل حين امتدّ الضحى و من تلك السنة يعدّ التاريخ الإسلاميّ فأقام بها يوم الاثنين و الثلثاء و الأربعاء و الخميس و أسّ مسجدهم ثمّ خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف قد اتّخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا فخطب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صلّى الجمعة و هي أوّل خطبة خطبها بالمدينة و أوّلها: الحمد للّه و أستعينه إلخ.

[فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ السعي المشي السريع دون العدو أي اقصدوا إلى الخطبة

ص: 144

و الصلاة لاشتمال كلّ منهما على ذكر اللّه و في الحديث إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضّة و أقلام من ذهب يكتبون الأوّل فالأوّل على مراتبهم فإذا خرج النبيّ أو الإمام طويت الصحائف و اجتمعوا للخطبة و المهاجر إلى الصلاة كالمهدي بدنة ثمّ الّذي يليه كالمهدي بقرة ثمّ الّذي يليه كالمهدي شاة حتّى ذكر الدجاجة و البيضة و هذه المثوبات و الأحكام هل هو خاصّ من زمان الإمام و حضوره أو هذا الحكم جار في زمن الغيبة فيه بيان ليس هنا موضع بسطه.

[وَ ذَرُوا الْبَيْعَ أي اتركوا المعاملة قيل: إنّ البيع هنا مجاز عن المعاملة مطلقا و النهي عن البيع على أيّ صورة في المعنى يتضمّن النهي عن الشراء لأنّهما متضايفان لا يعقلان إلّا معافا كتفي بذكر أحدهما عن الآخر.

[ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي ما أمرتكم من حضور الجمعة و استماع الذكر و أداء الفريضة و ترك البيع أنفع لكم عاقبة [إِنْ كُنْتُمْ عالمين بمنافع أموركم و مصالح أنفسكم و في الآية دلالة على وجوب الجمعة و تحريم امور مانعة عن الحضور، و فيها دلالة على أنّ الخطاب للاحتراز لأنّ العبد لا يملك البيع و على اختصاص الجمعة بمكان و لذلك أوجب السعي إليه و فرض الجمعة لازم جميع المكلّفين إلّا أصحاب الأعذار من السفر أو المرض أو العمى أو العرج أو أن يكون امرأة أو شيخا همّا لا حراك به أو عبدا أو يكون على رأس أكثر من فرسخين من الجامع و عند حصول هذه الشرائط لا يجب إلّا عند حضور السلطان العادل أو من نصبه السلطان للصلاة و العدد عند أهل البيت صلوات اللّه عليهم يتكامل بسبعة و قيل:

ينعقد بثلاثة سوى الإمام عن أبي حنيفة و قيل: ينعقد بأربعين رجلا أحرارا بالغين مقيمين عند الشافعيّ و قيل: ينعقد باثنين سوى الإمام و بالجملة الاختلاف بين الفقهاء في مسائل الجمعة كثير من أراد فموضعه كتب الفقه.

[فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ فإذا قضيت الصلاة الّتي نوديتم لها و ادّيت و فرغ منها فانتشروا في الأرض لإقامة مصالحكم و تفرّقوا فيها لحوائجكم المشروعة و الأمر أمر الرخصة لا أمر العزيمة.

[وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ و اطلبوا لأنفسكم و أهليكم الرزق الحلال. قيل: إنّ هذا

ص: 145

الأمر للإطلاق بعد الحظر و هو الإباحة كقوله: «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا (1)» و قال سعيد بن جبير: إنّه للندب و قال: إذا انصرفت من الجمعة فساوم بشي ء و إن لم تشتره و قال ابن عبّاس: لم يؤمروا بطلب شي ء من الدنيا إنّما هو عيادة المرضى و زيارة أخ في اللّه و حضور الجنائز و طلب العلم و أمثالها.

[وَ اذْكُرُوا اللَّهَ بالجنان و اللسان [كَثِيراً] ذكرا كثيرا و زمانا كثيرا و لا تخصّوا ذكره تعالى بالصلاة و قيل: المراد من الذكر هنا الفكر كما قال: تفكّر ساعة خير من عبادة سنة و قيل: معناه اذكروا اللّه في تجاراتكم و أسواقكم كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: من ذكر اللّه في السوق مخلصا عند غفلة الناس و شغلهم بما فيه كتب له ألف حسنة و يغفر اللّه له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر.

[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفلحوا و تفوزوا بثواب النعيم و صحّ الحديث عن أبي ذرّ عن رسول اللّه قال: من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله و لبس صالح ثيابه و مسّ من طيب بيته أو دهنه ثمّ لم يفرّق بين اثنين غفر اللّه ما بينه و بين جمعة الاخرى و زيادة ثلاثة أيّام بعدها أورده البخاريّ في الصحيح و روى سلمان التيميّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ للّه تعالى في كلّ جمعة ستّمائة ألف عتيق من النار كلّهم قد استوجب النار.

[وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً] فأخبر سبحانه عن أحوال أهل الدنيا أنّهم قابلوا أكرم الكرم بألأم اللؤم فقال: و إذا رأوا بتجارة المراد تجارة دحية الكلبيّ قبل أن يسلم روي أنّ دحية بن خليفة الكلبيّ قدم المدينة بتجارة من الشام و كان بالمدينة مجاعة و غلاء سعر و كان معه جميع ما يحتاج إليه من برّ و دقيق و زيت و غيرها و النبيّ يخطب يوم الجمعة فلمّا علم أهل المسجد ذلك قاموا إليه خشية أن يسبقوا في الشراء فما بقي إلّا ثمانية أو أحد عشر أو أربعون فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفس محمّد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم اللّه عليهم الوادي نارا.

[أَوْ لَهْواً] و المراد الطبل و ما يشبهه و كانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبول و الدفوف و الصفيق و هو المراد من اللهو في الآية [انْفَضُّوا إِلَيْها] و تفرّقوا و انتشروا إلى التجارة و اللهو.

ص: 146


1- المائدة: 3.

[وَ تَرَكُوكَ حالكونك قائما على المنبر عن جابر بن عبد اللّه قال: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس و من ثمّة كانت السنّة في الخطبة ذلك و الخطبة مشتملة على التوحيد و الحمد و التصلية على النبيّ و النصيحة للمسلمين و الدعاء لهم.

[قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب [خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ] و استماعه [وَ مِنَ التِّجارَةِ] و نفعها [وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنّه موجد الأزراق و في قوله: خير من اللهو و التجارة و قوله: خير الرازقين من قبيل الغرض و التقدير إذا لا خيرة في اللهو و لا رازق إلّا اللّه فيكون إن وجد في اللهو خيرة و إن وجد رازقون غير اللّه و اللّه خيرهم.

قال في الأحياء: يستحبّ أن تقول بعد صلاة الجمعة: اللهمّ يا غني يا حميد يا مبدئ يا معيد يا رحيم يا ودود، أغنني بحلالك عن حرامك و بفضلك عمّن سواك فيقال: من دوام على هذا الدعاء أغناه اللّه عن خلقه و رزقه من حيث لا يحتسب و في الحديث من قال: يوم الجمعة اللهمّ أغنني بحلالك عن حرامك و بفضلك عمّن سواك سبعين مرّة لم تمرّ به جمعتان حتّى يغنيه اللّه، عن أنس بن مالك تمّت السورة بعون اللّه

ص: 147

سورة المنافقون

اشارة

(مدنية) من قرأها برى ء من النفاق.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المنافقون (63): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)

النفاق إظهار الإيمان باللسان و كتمان الكفر بالقلب و بعبارة اخرى الدخول في الشرع من باب و الخروج منه من باب مأخوذ من النافقاء إحدى جحر اليربوع و الضبّ يكتمها و يظهر غيرها فإذا اتي من قبل القاصعاء و هو الّذي يدخل منه ضرب النافقاء برأسه فانتفق، و النفق هو السرب في الأرض النافذ.

[إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ و حضروا مجلسك [قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ مؤكّدين كلامهم بأنّك [لَرَسُولُ اللَّهِ و جواب إذا محذوف تقديره فاحذرهم و الشهادة قول صادر عن علم حصل بشهادة بصر أو بصيرة [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ أي و اللّه يشهد إنّك لرسوله و كفى به شهيدا و كلّما جاء لفظة إنّ بعد العلم فهي مفتوحة إلّا إذا دخلت لام الابتداء على

ص: 148

خبرها فحينئذ تكون مكسورة و ذلك لأنّ اللام لتأكيد معنى الجملة و لا جملة إلّا في صورة المكسورة.

[وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ أي إنّهم كاذبون و الظاهر في موضع الضمير إشعارا لذمّهم.

[اتَّخَذُوا] أي المنافقون [أَيْمانَهُمْ الفاجرة [جُنَّةً] أي ترسا و وقاية عمّا يتوجّه إليهم من المؤاخذة بالقتل و غير ذلك و المعنى من اتّخاذ الأيمان جنّة إعدادهم و تهيّئهم لها إلى وقت الحاجة ليخلصوا بها من المؤاخذة.

[فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فمنعوا و صرفوا عن سبيل الإسلام من أراد الدخول فيه بقولهم: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس برسول و منعوا من أراد الإنفاق في سبيله [إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ساء الشي ء الّذي كانوا يعلمونه من الصدّ و النفاق.

[ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي كونهم أسوأ الناس عملا بسبب أنّهم [آمَنُوا] و نطقوا بكلمة الشهادة [ثُمَّ كَفَرُوا] و ظهر كفرهم من قولهم: إن كان ما يقوله محمّد حقّا فنحن حمير و يجوز أن يراد بهذه الآية أهل الردّة منهم كما قال الزمخشريّ في الكشّاف.

[فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ معاقبة على سوء أفعالهم و ليس لهم أن يقولوا: إنّ اللّه ختم على قلوبنا فكيف نؤمن؟ لأنّه تعالى خلّاهم و اختيارهم فصار ذلك طبعا على قلوبهم و هو إلفهم إلى ما اعتادوه من الكفر [فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ و لا يعلمون الحقّ من حيث إنّهم لا يتفكّرون حتّى يميّزوا بين الحقّ و الباطل.

[إِذا رَأَيْتَهُمْ و المراد الرؤية البصريّة [تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ و يروقك منظرهم لصباحة وجوههم و العجيب هو الّذي يعظم في النفس أمره لغرابته [وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي ألسنتهم ذلقة لفصاحتهم و حلاوة كلامهم و كان عبد اللّه بن ابيّ صبيحا جسميا يحضر مجلس رسول اللّه في نفر من أمثاله و هم رؤساء المدينة و الّذين مع رسول اللّه من أصحابه يعجبون بهيا كلهم و يسمعون كلامهم فإنّ الفصاحة و حسن المنظر داعية إلى الميل غالبا، قال بعضهم:

يدلّ على معروفة حسن وجهه و ما زال حسن الوجه إحدى الشواهد

روي عن بعض الحكماء إنّه رأى غلاما حسنا وجهه و استنطقه لظنّه ذكاء

ص: 149

فطنته فما وجد عنده معنى فقال: ما أحسن هذا البيت لو كان فيه ساكن.

[كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ] خبر مبتدء محذوف أي هم كالخشب بضمّتين جمع خشبة مثل أكم و أكمة و الخشب ما غلظ من العيدان كأنّها أسندت إلى موضع شبّههم سبحانه في جلوسهم مجلس رسول اللّه و مستندين فيه بأخشاب منصوبة مسنّدة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن الخير و الانتفاع فكما أنّ مثل هذا الخشب لا نفع فيه فكذا هم لا نفع فيهم و كذا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة، على أنّ الكمال و النقصان بالأصغرين: اللسان و القلب لا بالأكبرين:

الرأس و الجلد.

[يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ] يظنّون كلّ صوت ارتفع واقعة [عَلَيْهِمْ أي إذا نادى مناد في المدينة أو في العسكر لمصلحة أو انفلتت دابّة أو أنشدت ضالّة بين الناس ظنّوه إيقاعا بهم لجبنهم و استقرار الرعب في قلوبهم و الخائن خائف و في الآية تخفيف لقدرهم قال الشاعر:

«إذا رأى غير شي ء ظنّه رجلا» و كانوا على وجل من أن ينزّل اللّه فيهم ما يهتك أستارهم و يبيح دماءهم و أموالهم.

[هُمُ الْعَدُوُّ] أي هم العدوّ لك يا محمّد و للمؤمنين في الحقيقة فاحذرهم من أن تأمنهم على سرّك و لا تثق بهم فإنّهم يفشون سرّك و العدوّ لكونه بزنة المصادر يقع على الواحد و الجمع.

[قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم و لعنهم سبحانه أو تعليم للمؤمنين بالبراءة منهم و هي كلمة ذمّ و توبيخ بين الناس [أَنَّى يُؤْفَكُونَ تعجيب من حالهم أي كيف يصرفون عن الحقّ من الأفك بفتح الهمزة بمعنى الصرف عن الشي ء.

[وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا] قيل: إنّه بعد نزول هذه الآيات قال بعض أصحاب ابن ابيّ: إنّ هذه الآيات نزلت فيك اذهب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى يرضى عنك و يستغفر ربّه لك فقال اللعين: قال لي محمّد أن آمن فآمنت و قال: أدّ ذكاة مالك فأدّيت ما بقي لي إلّا أن أسجده فنزلت هذه الآية «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا» أصله تعاليوا فاعلّ بالقلب و الحذف و إنّ واحد الماضي «تعالى» بإثبات الألف المقلوبة عن التاء المقلوبة عن الواو الواقعة رابعة

ص: 150

و واحد الأمر تعال بحذفها وقفا و فتح اللام و أصل معنى التعالي الارتفاع فإذا أمرت منه قلت: تعال و تعالوا و معناه ارتفعوا ثمّ استعمل في كلّ داع يطلب المجي ء، لما فيه حسن الأدب في الطلب أي هلمّوا و ائتوا و من الأدب أن لا يقال: تعالى فلان لأنّه ممّا اشتهر به اللّه فتعالى اللّه الملك الحقّ.

[يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ جواب الأمر أي يدع اللّه لكم و يطلب منه أن يغفر ذنوبكم [لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي أمالوا و عطفوا رؤوسهم و وجوههم استكبارا [وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ و يعرضون عن القائل و الاستغفار [وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن هذا الأمر لغلبة الشيطنة و في الحديث إذا رأيت الرجل لجوجا معجبا برأيه فقد تمّت خسارته.

[سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ و كلمة سواء اسم بمعنى مستو خبر مقدّم و عليهم متعلّق به و ما بعده من المعطوف عليه و المعطوف مبتدء بتأويل المصدر و الأصل أ استغفرت فحذفت همزة الوصل الّتي هي ألف الاستفعال للتخفيف و معنى الآية:

يتساوى الاستغفار و عدمه لهم و لا يفيدهم.

[لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنّهم مبطنين الكفر و إن أظهروا الإسلام [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن الدّين إلى طريق الجنّة أخبر سبحانه نبيّه أنّهم يموتون على الكفر و قد كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستغفر لهم رجاء أن يسلموا و في الحقيقة استغفاره لهم طلب الهداية لهم لأنّه نبيّ الرحمة قيل: لمّا قال اللّه: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» قال: لأزيدنّ على السبعين فأنزل اللّه «سواء» إلخ، فعلم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّهم يموتون على الكفر فترك الاستغفار.

[سورة المنافقون (63): الآيات 7 الى 11]

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)

ص: 151

المنافقون [هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ للأنصار، تعليل لعدم مغفرتهم [لا تُنْفِقُوا] لا تعطوا النفقة الّتي يتعيّش بها [عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يعنون فقراء المهاجرين، و قولهم: رسول اللّه إمّا للهزؤ و التهكّم أو لكونه كاللقب له أو اشتهاره به فلو كانوا مقرّين برسالته لما صدر عنهم ما صدر أو تعبير اللّه له إجلالا له [حَتَّى يَنْفَضُّوا] و يتفرّقوا عن حوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الانفضاض التفرّق و التشتّت و ذلك لجهلهم عمّا في خزائن اللّه.

[وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و بيده تعالى خزائن الأرزاق [وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ذلك لجهلهم قيل: لمّا بلّغ موسى عليه السّلام جعله كلّا على بني إسرائيل امتحانا له فغلق موسى من تغيير الحال عليه و قال: يا ربّ أغنني عن بني إسرائيل فأوحي اللّه إليه أما ترضى أن افرغك لعبادتي و أجعل مؤونتك على غيرك فسكت ثمّ سأل ثانيا فأوحى اللّه إليه لا يليق بنبيّ أن يرى في الوجود شيئا لغير سيّده فكلّ من رزق ربّك و لا منّة لأحد عليك فسكت، فاللّه تعالى يوصل الرزق إلى عبده بيد من يشاء من عباده مؤمنا كان أو كافرا فالأغنياء إن خصّوا بوجود الأرزاق فالفقراء خصّوا بشهود الرزّاق و خزائن اللّه في السماوات الغيوب و في الأرض القلوب فما انفصل من الغيوب وقع على القلوب و يمكن أنّ الأرزاق السماويّة المعارف و العلوم المخزونة لخواصّ العباد القابلين لها و خزائن الأرزاق الأرضيّة هي المأكولات و المشروبات و أمثالها.

[يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين لقي بني المصطلق على المريسع من نواحي المدينة و قاتل معهم و هزمهم و سبى منهم و ازدحم على الماء جهجاه الغفاريّ و هو أجير لعمر بن الخطّاب و سنان الجهني المنافق حليف ابن ابيّ المنافق و اقتتلا فصرخ جهجاه بالمهاجرين و سنان الأنصار فلطم رجل يقال له «جعال» من فقراء المهاجرين سنانا فاشتكى سنان إلى ابن ابيّ فقال ابن ابيّ: ما صحبنا محمّدا إلّا لنلطم و اللّه ما مثلنا و مثلهم إلّا كما قيل: سمّن كلبك يأكلك أما و اللّه لئن رجعنا من هذا السفر إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ- و عنى بالأعزّ نفسه و بالأذلّ جانب المؤمنين- استناد القول إلى المنافقين مع أنّه هو

ص: 152

القائل لرضاهم به ثمّ قال اللعين: ماذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم و قاسمتموهم أموالكم فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد.

فسمع بذلك زيد بن أرقم و هو حدث فقال له: أنت و اللّه الذليل و محمّد في عزّ الرحمن ثمّ أخبر زيد بذلك رسول اللّه فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لابن ابيّ: أنت صاحب الكلام الّذي بلغني قال: و اللّه الّذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا و إنّ زيدا لكاذب فقال الحاضرون: شيخنا و كبيرنا تصدّق عليه كلام غلام؟ و عسى أن يكون و هم فروي أنّ رسول اللّه قال لزيد: لعلّك غضبت عليه قال زيد: لا، قال: فعلّه أخطاك سمعك قال لا: قال: فلعلّه شبّه عليك قال: لا، فلمّا نزلت الآية لحق رسول اللّه زيدا من خلفه فغرّك اذنه و قال: وفت اذنك يا غلام إنّ اللّه صدقك و كذّب المنافقين.

[وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي و للّه الغلبة و القوّة و لمن أعزّه من رسوله و المؤمنين لا لغيرهم و من كان في الدنيا عبدا محضا كان في الآخرة ملكا محضا و من كان في الدنيا يدّعي الملك لشي ء و لو من جوارحه نقص من ملكه في الآخرة بقدر ما ادّعاه في الدنيا فلا أعزّ في الآخرة ممّن بلغ في الدنيا غاية الذلّ في جانب اللّه و لا أذلّ في الآخرة ممّن بلغ في الدنيا غاية العزّة في نفسه و عزّة اللّه العظمة و القدرة و عزّة الرسول النبوّة و الشفاعة و عزّة المؤمنين الإيمان و العبوديّة و العزّة للّه بالأصالة و الدوام و عزّة غيره منه تعالى فللّه العزّة جميعا و لهذا قيل: من عظم الربّ في قلبه صغر الخلق في عينه و هذا معنى قوله: من تواضع غنيّا لأجل غناه ذهب ثلثا دينه لأنّ التواضع يكون بثلاثة أشياء بلسانه و بدنه و قلبه فإذا تواضع له بلسانه و بدنه و لم يعتقد له العظمة بقلبه ذهب ثلثا دينه فإنّ اعتقدها بقلبه أيضا ذهب كلّ دينه.

قال بعضهم: رأيت رجلا في الطواف و بين يديه خدم يطردون النّاس ثمّ رأيته بعد ذلك على جسر بغداد يتكفّف و يسأل فحدقت النظر إليه لأتعرّفه هل هو ذلك الرجل أولا فقال لي: مالك تطيل النظر إليّ؟ أنا ذاك إنّي تكبّرت في موضع بتواضع الناس فيه فوضعني في موضع يترفّع فيه الناس.

[وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ من فرط جهلهم، ختم الآية الاولى بلا يفقهون

ص: 153

و الثانية بلا يعلمون للتفنّن المعتبر في البلاغة و تأكيد بيان جهلهم. روي أنّ عبد اللّه ابن ابيّ لمّا أراد أن يدخل المدينة اعترضه ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه بن ابيّ و كان مخلصا و سلّ سيفه و منع أباه من الدخول و قال: لئن لم تقرّ للّه و لرسوله بالعزّ لأضربنّ عنقك فقال: ويحك أ فاعل أنت؟ قال نعم: فلمّا رأى منه الجدّ قال: أشهد أنّ العزّة للّه و لرسوله و للمؤمنين فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لابنه: جزاك اللّه عن رسوله و عن المؤمنين خيرا.

و لمّا كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرب المدينة هاجت ريح شديدة كادت يدفع الراكب فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة و لأجل ذلك عصفت الريح فكان كما قال، مات في ذلك اليوم زيد بن رفاعة و كان كهفا للمنافقين و كان من عظماء بني قينقاع و كان ممّن أسلم ظاهرا و إلى ذلك أشار السبكيّ في تائيّته بقوله:

و قد عصفت ريح فأخبر أنّهالموت عظيم في اليهود بطيبة

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إيمانا صادقا [لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها و بمصالحها عن الاشتغال بذكره تعالى من الصلاة و سائر العبادات المذكورة للمعبود قيل: الذكر باللسان الصلاة و قراءة القرآن و التسبيح و التهليل و التمجيد و تعلّم علم الدّين و تعليمها و الذكر بالقلب الخوف.

[وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ و تلهّى بالدنيا عن الدّين و عن الذكر [فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الكاملون في الخسران و في الحديث: ما طلعت الشمس إلّا و بجنبيها ملكان يناديان و يسمعان الخلائق غير الثقلين يا أيّها الناس هلمّوا إلى ربّكم، ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و ألهى، يقول اللّه سبحانه لهم: لا تشغلكم أموالكم و أولادكم من إطاعتي و عن أداء الفرائض في أوقاتها.

[أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ أي بعض ما أعطيناكم ادّخارا للآخرة [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بأن يشاهد دلائله و يعاين أماراته [فَيَقُولَ عند تيقّنه بحلوله: [رَبِ يا إلهي [لَوْ لا أَخَّرْتَنِي هلّا أمهلتني للتحضيض و قيل: لا زائدة للتأكيد و لو للتمنّي بمعنى لو أخّرتني [إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أمد قصير و ساعة اخرى قليلة و يقول ردّني إلى الدنيا و أبقني زمانا قليلا [فَأَصَّدَّقَ و هو بقطع الهمزة لأنّها للمتكلّم و همزته

ص: 154

مقطوعة بتشديد الصاد لأنّ أصله أتصدّق و أدغمت التاء في الصاد و ينصب المضارع بأن مضمرة بعد الفاء في جواب التمنّي [وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بالجزم عطفا على محلّ فأصّدّق لأنّ المعنى إن أخّرتني أصّدّق و أكن.

و الفرق بين الصدقة و الهديّة أنّ الصدقة للمحتاج بطريق الرحم و الهديّة للتحبّب و المودّة و لذا كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقبل الهديّة لا الصدقة فرضا كانت أو نفلا.

قال ابن عبّاس: الآية تشمل المؤمن و الكافر و من كان له مال تجب عليه الزكاة فلم يزكّه أو مال يبلغه إلى بيت اللّه الحرام فلم يحجّ يسأل الرجعة عند الموت، فسئل: و ما توجب الزكاة؟ فقال: مائتا درهم فصاعدا قيل: ما توجب الحجّ؟ قال: الزاد و الراحلة.

[وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها] و لن يمهلها مطيعة كانت أو عاصية صغيرة أو كبيرة إذا انتهى أمدها [وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ فسارعوا في الخيرات و بادروا لما هو آت قيل: حقيقة الإيمان غلبة حبّ اللّه على محبّة كلّ شي ء و في الحديث لأن يتصدّق المرء في حياته بدرهم خير من أن يتصدّق بمائة عند موته.

قال رجل: يا رسول اللّه أيّ الصدقة أعظم أجرا؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أن تتصدّق و أنت صحيح شحيح تخشى الفقر و تأمل الغنى جعلنا اللّه من المنفقين مالا و نفسا في مرضاته تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 155

سورة التغابن

اشارة

يختلف في كونها مكّيّة أو مدنيّة؛ قال ابن عبّاس: هي مكّيّة غير ثلاث آيات من آخرها نزلن بالمدينة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ» إلى آخر السورة عن أبي بن كعب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة ابن أبي العلا عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ سورة التغابن في فريضته كانت شفيعته يوم القيامة و شاهد عدل عند من يجيز شهادتها ثمّ لا تفارقه حتّى يدخل الجنّة.

ص: 156

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التغابن (64): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5)

المعنى: ينزّه اللّه [ما فِي السَّماواتِ من الروحانيّات [وَ ما فِي الْأَرْضِ من الجسمانيّات عمّا لا يليق بجناب كبريائه تنزيها مستمرّا و المراد إمّا تسبيح الإشارة الدالّة من وجود المسبّح على كمال تنزّهه تعالى عن جميع النقائص أو المراد من التسبيح هو أن يقول: سبحان اللّه و على المعنى الأوّل فظاهر لأنّه في الحقيقة لم يتحرّك موجود إلّا بأمره و خلقه و تلك الحركة و الموجوديّة إجابة داعي القدم لذاته تعالى و ذلك محض التقديس.

[لَهُ الْمُلْكُ الدائم الّذي لا يزول [وَ لَهُ الْحَمْدُ] أي حمد الحامدين و هو الثناء بذكر الأوصاف الجميلة و الأفعال الجزيلة و تقديم الجارّ و المجرور لتأكيد الاختصاص فان اللّام مشعر لمعنى الاختصاص و أمّا حمد غيره و ملك غيره لا من حيث الحقيقة بل عارية و مجاز تسليط من حيث الصورة.

[وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] لأنّ نسبة ذاته المفيضة للقدرة إلى الكلّ سواء فهو القادر على الإيجاد و الإعدام و الإسقام و الإبراء و الإعزاز و الإذلال و التبييض و التسويد من الأمور الغير المتناهية و قدرة اللّه تصلح للخلق و قدرة العبد مع أنّها عارية تصلح للكسب فالعبد لا يوصف بالقدرة على الخلق و اللّه لا يوصف بالقدرة على الكسب.

ص: 157

[هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ خلقا بديعا قابلا لجميع مبادئ الكمالات العلميّة و العمليّة و مع ذلك [فَمِنْكُمْ كافِرٌ] فبعضكم مختار للكفر كاسب له حسبما يقتضيه سوء اختياره و ميل نفسه مع أنّه كان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الإيجاد و الخلق و ما يتفرّع عليها من سائر النعم فما فعلتم ذلك مع تمام تمكّنكم منه بل تشعّبتم شعبا شعبا، و الكفر و الإيمان اكتساب العبد لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلّ مولود يولد على الفطرة إلّا أنّ أبويه يهوّدانه أو ينصّرانه، و قوله تعالى: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (1)» فلكلّ واحد من الفريقين كسب و اختيار، و هذا هو المذهب الحقّ خلاف ما يقول أهل السنّة [وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ و مختار للإيمان [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ مطلقا [بَصِيرٌ] فيجازيكم بذلك.

[خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ بالحكمة المتضمّنة للمصالح الدينيّة و الدنيوية فإن قيل: ما وجه عدم ذكر العرش و الكرسيّ في أمثال هذه المواضع مع عظم خلقهما؟

فالجواب إنّهما و إن كانا من السماء لأنّ السماء هو الفلك و الفلك جسم شفّاف محيط بالعالم و هما أوسع الأفلاك إحاطة و عظمة إلّا أن آثار هما غير ظاهرة للخلق بخلاف السماوات و الأرض و ما بينهما فإنّها معلوم حالها عند المخاطبين في الجملة و مكشوفة آثارها كما قالوا: إنّ الشمس تنضج الفواكه و القمر يلوّنها و الكواكب تعطيها الطعوم و التغيّرات فيها أظهر فهي على عظم القدرة أدلّ و هذه الشؤون و التغيّرات فيها بأمر اللّه و وديعته إيّاها و هي في عالم الكون و الفساد الّذي هو عبارة عن السماوات و الأرض إذ هما من العنصريّات النهاية أنّ عنصر الأرض غير عنصر السماء لكنّها من العناصر بخلاف العرش و الكرسيّ فإنّهما ليستا من العناصر و لهذا لا يفنيان.

[وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ الفاء للتفسير أي صوّركم أحسن تصوير و تقويم و خصّكم بخصائص مبدعاته و لذا لا يتمنّى الإنسان أن يكون صورته خلاف ما هو عليه و لا يقدح في كونه أحسن الصور كون بعض الصور قبيحا بالنسبة إلى بعض لأنّ الحسن هو الجمال في الوضع و ذلك القبيح الصورة إذا قايست وضعه و خلقته مع كلّ ذي روح

ص: 158


1- الانعام: 79.

من نوع الحيوان بل الأجسام السفليّة مطلقا فذلك القبيح الصورة أحسن وضعا و أتمّ خلقة.

و المعتدّ به هو الحسن المعنويّ و يكون مقارنا بالإيمان الّذي هو أحسن السير و في الحديث:

خلق اللّه آدم على صورته أي على الصورة الإلهيّة الّتي هي عبارة عن صفاته العليا و أسمائه الحسنى و إلّا فالحسن الصوريّ يوجد في الكافر أيضا نعم قد يوجد في الكافر سيرة حسنة و خلق حميد كعدل أنوشيروان لكنّ المعتدّ به أيضا الإيمان و لو أنّ تلك السيرة الحسنة تنفعه لكن نفعا مختصرا و الجميل لا يضيّع و لو في الجملة.

[وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] و الرجوع إليه في النشأة الآخرة فأحسنوا سرائركم باستعمال قواكم في طاعته حتّى يوافق السيرة الجميلة و الصورة الحسنة في الرجوع فكم من صورة حسناء تكون في العقبى شوهاء بقبح السريرة و كم من صورة قبيحة تكون حسناء بحسن السيرة و قد ثبت أنّ ضرس الكافر يوم القيامة مثل جبل احد و أنّ غلظ جسده مسافة ثلاثة أيّام و أنّه يسوء خلقه فيغلظ شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه و تسترخي شفته السفلى حتّى تضرب سرّته و إنّ أهل الجنّة ضوء وجوههم كضوء القمر ليلة البدر مكحلون أبناء ثلاث و ثلاثون، فيا عجبا من إنسان خفي عليه ما أودع في أرض وجوده من كنز إلهيّ غيبيّ من نال إليه لو يفتقر أبدا و كيف أقام في الحضيض مع سهولة العروج.

[يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ من الأمور الكلّيّة و الجزئيّة و الجليّة و الخفيّة [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] محيط بجميع المضمرات في الصدور و في الآية بيان ترقّ من الأظهر إلى الأخفى من الحقّ و الباطل و الرياء و الإخلاص.

[أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا] أيّها الكفرة؟ و الهمزة للاستفهام و لم للجحد و معناه التحقيق و المراد من نبأهم أي خبر قوم نوح و من بعدهم من الأمم [مِنْ قَبْلُ متعلّق بكفروا أي قبلكم [فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ و الذوق و إن كان في العرف للقليل لكنّه مستصلح للكثير إذ ما ذاقوا بالنسبة إلى عذاب جهنّم كالذوق و الوبال الثقل و الشدّة و منه الوابل للمطر الثقيل و المراد من الأمر الكفر عبّر عنه بالأمر للإيذان بأنّه أمر هائل و جناية عظيمة.

ص: 159

[وَ لَهُمْ في الآخرة بعد ذلك الذوق [عَذابٌ أَلِيمٌ كثير الألم و فيه إخبار بأنّ ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفّارة لذنوبهم و إلّا لم يعذّبوا في الآخرة بخلاف المؤمنين فإنّ ما أصابهم في الدنيا من الآلام و المصائب كفّارة لذنوبهم على ما ورد في الأخبار الصحيحة.

[سورة التغابن (64): الآيات 6 الى 10]

ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

المعنى: [ذلِكَ أي ما ذكر من العذاب الّذي ذاقوه و سيذوقوه في الآخرة [بِأَنَّهُ بسبب أنّ الشأن [كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الظاهرة و الباء إمّا للملابسة أو للتعدية [فَقالُوا] عطف على كانت [أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا] و أنكروا أن يكون الرسول من جنسهم متعجّبين من ذلك أبشر و آدميّ مثلنا يهدينا إلى اللّه كما قالت ثمود:

«أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ» أنكروا أن يكون الرسول بشرا و لم ينكروا أن يكون المعبود حجرا و مثل أن عبدوا العجل و أقرّوا له بالمعبوديّة و أنكروا نبوّة موسى.

[وَ تَوَلَّوْا] و أدبروا فيما أتوا به عن التصديق لهم فاستغنى اللّه أي أظهر استغناءه عن إيمانهم حيث أهلكهم و قطع دابرهم حيث علم سبحانه أنّه ليس فيهم من يؤمن [وَ اللَّهُ غَنِيٌ عن العالمين [حَمِيدٌ] في أفعاله يحمده كلّ مخلوق بلسان الحال و إن كان لم يعرفه و يقرّ بالوهيّته و في الأربعين الإدريسيّة: يا حميد الفعال ذا المنّ على جميع خلقه بلطفه، من داومه يحصل له من الأموال غاية.

[زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا] عبّر سبحانه بالزعم إشعارا بأنّه لا سند في الحكم سوى ادّعائه إيّاه و المراد من الموصول كفّار مكّة و أن مخفّفة ادّعوا أنّ الشأن

ص: 160

لن يبعثوا بعد موتهم و لن يقاموا، قيل: لكلّ شي ء كناية و كناية الكذب زعم.

[قُلْ ردّا لهم و إبطالا لزعمهم [بَلى أن تبعثوا فإنّ بلى لإيجاب النفي الّذي قبله [وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي لتحاسبنّ و تجزون بأعمالكم و بيان لتأكيد إثبات البعث و لتبعثنّ أصله لتبعثون حذفت واوه لاجتماع الساكنين و هو جواب قسم قبله [وَ ذلِكَ البعث و الجزاء [عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] لوجود القدرة التامّة و قبول المادّة.

و إذا كان الأمر كذلك [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ محمّد [وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا] و هو القرآن حقّ نازل من عند اللّه مظهرا للحقّ و الباطل كما أنّ النّور كذلك و الالتفات إلى نور العظمة لإظهار العناية [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الامتثال بالأمر و عدمه [خَبِيرٌ] [يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف لتنبؤنّ و ما بينهما اعتراض أو مفعول لا ذكر [لِيَوْمِ الْجَمْعِ ليوم يجمع فيه الأوّلون و الآخرون من الجنّ و الإنس و أهل السماء و الأرض لأجل الحساب و الجزاء و هو يوم القيامة و اللام للعهد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا جمع الأوّلين و الآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلّهم سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم اليوم ثمّ يرجع ينادي: ليقم الّذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون و هم قليل فيسرحون إلى الجنّة ثمّ يحاسب سائر الناس و قيل: المراد جمع اللّه و عمله.

و قيل بين الظالم و المظلوم أو بين كلّ نبيّ و امّته.

[ذلِكَ اليوم [يَوْمُ التَّغابُنِ تفاعل من الغبن و هو أن تخسر صاحبك في معاملة بينك و بينه بضرب من الإخفاء و التغابن أن يغبن بعضهم بعضا و يوم القيامة يوم غبن بعض الناس بعضا بنزول السعداء منازل الأشقياء و بالعكس فالكافر أخذ الشرّ و ترك الخير و المؤمن ترك حظّه من الدنيا و أخذ حظّه من الآخرة ترك ما هو شرّ له و أخذ ما هو خير له فكان غائبا و الكافر كان مغبونا فيظهر في ذلك اليوم التغابن لظهور الغبن في المباهاة المشار إليها بقوله: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (1)».

و قيل: يظهر الغبن من الكافر بترك الإيمان و من المؤمن بتقصيره في الإحسان و في الحديث لا يلقى اللّه أحد إلّا نادما إن كان مسيئا أن لم يحسن و إن كان محسنا أن لم يزدد.

ص: 161


1- التوبة: 112.

[وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بالإخلاص و يعمل صالحا بمقتضى إيمانه، حكي أنّ إبراهيم ابن أدهم أراد أن يدخل الحمّام فطلب الحمّامي الاجرة فتأوّه ثمّ قال: إذا لم يدخل أحد بيت الشيطان بلا اجرة فإنّى يدخل بيت الرحمن بلا عمل؟

[يُكَفِّرْ] أي يغفر اللّه [عَنْهُ سَيِّئاتِهِ يوم القيامة [وَ يُدْخِلْهُ بفضله له بالإيجاب [جَنَّاتٍ على حسب درجات أعماله [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] الأربعة [خالِدِينَ فِيها] و مؤبّدين [أَبَداً] نصب على الظرف تأكيد للخلود [ذلِكَ من تكفير السيّئات و إدخال الجنات [الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الّذي لا فوز وراءه لانطوائه على النجاة و الخلاص من أعظم الهلكات و الظفر بأجلّ الطيّبات.

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] و حججنا [أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ] ملازمون النار لخلودهم فيها [خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ] هذه النار.

[سورة التغابن (64): الآيات 11 الى 18]

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (11) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

المعنى: [ما أَصابَ ما نافية، أصاب الخلق [مِنْ مُصِيبَةٍ] من المصائب الدنيويّة و المصيبة المضرّة الّتي تلحق صاحبها كالرمية الّتي تصيبه و إنّما عمّ ذلك سبحانه و إن كان في المصائب ما هو ظلم و هو لا يأذن بالظلم لأنّه ليس من أفراد الظلم إلّا ما أذن اللّه في وقوعه أو التمكّن منه و ذلك إذن للملك الموكّل به و المعنى أنّه لا يمنع من وقوع المصيبة و قد يكون ذلك بتمكين من اللّه فكأنّه يأذن أن يكون فيرجع المعنى بتخلية اللّه بينكم و بين من يريد فعلها و قيل: إنّه خاصّ فيما يفعله اللّه أو يأمر به و قيل: معنى

ص: 162

بإذن اللّه أي بعلم اللّه و لا يصيبكم مصيبة إلّا و هو عالم بها.

[وَ مَنْ يُؤْمِنْ بتوحيد اللّه و يصبر لأمر اللّه عند نزول المصيبة [يَهْدِ قَلْبَهُ فإن ابتلي صبر و إن اعطي شكر و إن ظلم غفر قال ابن عبّاس: «يَهْدِ قَلْبَهُ» للاسترجاع حتّى يقول: «إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» فيثيب عند إصابتها و لا يضطرب بأن يقول قولا يدل على التضجّر من قضاء اللّه. قال بعض المحقّقين: و من يؤمن باللّه تحقيقا يهد قلبه على العمل بمقتضى إيمانه.

[وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم إيمان المؤمن.

[وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ إطاعة العبد لمولاه و إطاعة الامّة لنبيّها فيما يؤدّيه عن اللّه و لا يشغلنّكم المصائب عن الاشتغال بطاعته و العمل بكتابه و كرّر الأمر للتأكيد و الإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفيّة.

[فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم عن إطاعة الرسول [فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تعليل للجواب المحذوف تقديره فلا بأس عليه إذ ما عليه إلّا التبليغ و إضافة الرسول إلى نون العظمة و إظهار الرسول في مقام إضماره لتشريفه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[اللَّهُ لا إِلهَ في الوجود [إِلَّا هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ أي عليه تعالى خاصّة [فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فانّ الألوهيّة مقتضية للتبتّل اليه و قطع التعلّق عمّا سواه بالمرّة و التوكّل اظهار العجز و الاعتماد على الغير.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ الزوج يعمّ الحليل و الحليلة [وَ أَوْلادِكُمْ يعمّ الابن و البنت [عَدُوًّا لَكُمْ يشغلونكم عن طاعة اللّه و إن لم يكن لهم عداوة ظاهرة فإنّ العدوّ لا يكون عدوّا بذاته و إنّما يكون عدوّا بفعله و قدّم الأزواج لأنّها مصادر الأولاد قيل: إنّ أناسا أرادوا الهجرة عن مكّة فثبّطهم أزواجهم و أولادهم فرقّوا لهم و وقفوا فلمّا هاجروا بعد ذلك و رأوا الّذين قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم و لهذا زيّن اللّه لهم العفو عن العقوبة.

[فَاحْذَرُوهُمْ الحذر احتراز عن مخيف و الضمير راجع إلى العدوّ فإنّه يطلق على الجمع أي احفظوا أنفسكم عن شدّة التعلّق بهم و لا تؤثروا حقوقهم على حقوق اللّه بترك

ص: 163

طاعته بالانهماك في محبّتهم و في الحديث إذا كان امراؤكم شراركم و أغنياؤكم بخلاءكم و أمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها و في الحديث شاوروهن و خالفوهنّ و السبب أنهنّ في الغالب ضعيفات العقول و الحظوظ و الإيمان و تطيع هوى نفسها لكنّ المرأة الفاضلة في الدين يجوز استشارتها و قد استشار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امّ سلمة في قصّة صلح الحديبية لفضلها و وفور عقلها و قصّة خسرو و شيرين و الصيّاد و السمكة معروفة.

و حكي أنّ رجلا من بني إسرائيل أتى سليمان عليه السّلام و قال: يا نبيّ اللّه أريد أن تعلّمني لسان البهائم فقال سليمان: إن كنت تحبّ أن تعلم لسان البهائم أنا اعلّمك و لكن إذا أخبرت أحدا تموت من ساعتك فقال: لا أخبر أحدا فقال سليمان: قد علّمتك و كان للرجل ثور و حمار يعمل عليهما في النهار فإذا أمسى أدخل عليهما علفا فحطّ العلف بين يديهما فقال الحمار للثور أعطني الليلة عشاءك حتّى يحسب صاحبنا أنّك مريض فلا يعمل عليك فتستريح يوما ثمّ أنا أعطيك عشائي في الليلة القابلة فرفع الثور رأسه من علفه فضحك الرجل فقالت امرأته: لم تضحك قال: لا شي ء فلمّا جاءت الليلة القابلة أعطى الرجل للحمار علفه و للثور علفه فقال الثور للحمار: اقضني السلف الّذي عندك فإنّى أمسيت مغلوبا من الجوع و التعب فقال له الحمار: إنّك لا تدري كيف كان الحال فقال الثور: و ما ذلك قال: إنّ صاحبنا ذهب البارحة و قال للجزّاز: ثوري مريض اذبحه قبل أن يعجف فاصبر الليلة و أسلفني عشاءك أيضا حتّى إذا جاءك الجزّاز صباحا وجدك عجيفا و لست قابلا للذبح فلا يذبحك فتنجو من الموت و لو تعشّيت يمتلئ بطنك و يحسبك سمينا فيذبحك إنّى أردّ لك ما أسلفتني الليلتين فرفع الثور رأسه أيضا من علفه و لم يأكل فضحك الرجل فقالت المرأة لم تضحك؟ أخبرني و إلّا طلّقني فقال الرجل:

إذا أخبرتك أموت في ساعتي فقالت: لا ابالي إلّا أن تخبرني فقال: ايتني بالدواة و القرطاس حتّى أكتب وصيّتي ثمّ أخبرك ثمّ أموت فناولته فبينما هو يكتب إذ طرحت المرأة كسرة من الخبز إلى الكلب فسبق الديك و أخذها بمنقاره قال الكلب: ظلمتني قال الديك: صاحبنا يريد الموت اصبر فتكون أنت شبعانا من وليمة المأتم و لكن نحن نبقي في بيتنا إلى ثلاثة أيّام لا يفتح لنا الباب و إن يمت يرضي امرأته أبعده اللّه و أسخطه

ص: 164

فإنّ لي تسع نسوة لا تقدر واحدة منهنّ أن تسأل عن سرّي لو كنت أنا مكانه لأضربنّها حتّى تموت أو تتوب و بعد ذلك لا تسأل عن سرّ زوجها فأخذ الرجل عصا و لم يزل يضربها حتّى تابت من ذلك الطلب، انتهى. و النساء إذا وافقتموهنّ في المعروف يطمعن في المنكر.

[وَ إِنْ تَعْفُوا] عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن تكون متعلّقة بأمور الدنيا أو بأمور الدين لكن مقارنة للتوبة [وَ تَصْفَحُوا] و تسامحوا [وَ تَغْفِرُوا] بإخفائها و قبول عذرها [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعاملكم بمثل ما عملتم.

و في الحثّ على العفو و الصفح إشارة إلى أن ليس المراد من الأمر بالحذر تركهم بالكلّيّة و الإعراض من معاشرتهنّ كيف و بها نظام العالم. و ما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يقول: اتّقوا الدنيا و النساء إنّما هو للتحذير عمّا يضرّ معاشرتها في محبّتها الشاغلة عن طاعة اللّه لا الترك بالكليّة.

[إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ] بلاء و محنة يوقعونكم في الإثم من حيث لا تحتسبون و المعنى محنة امتحنكم اللّه بها حتّى يميّز المطيع و العاصي في محبّتهم و محبّة اللّه [وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر طاعته على محبّة الأموال و الأولاد و زهدهم في الدنيا و رغبتهم في الآخرة.

عن ابن مسعود لا يقولنّ أحدكم: اللّهم اعصمني من الفتنة و لكن ليقل: اللّهم إنّي أعوذ بك من مضلّات الفتن يقال: إنّما يتعلّق بالرجل يوم القيامة أهله و أولاده فيوقفونه بين يدي اللّه تعالى و يقولون: يا ربّنا خذ بحقّنا منه فإنّه ما علّمنا ما نجهل و كان يطعمنا الحرام و نحن لا نعلم فيقتصّ لهم منه و يأكل عياله حسناته فلا يبقى له حسنة و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يؤتي الرجل يوم القيامة فيقال له: أكل عياله حسناته.

قال بعض العارفين: العيال سوس الطاعات.

و بالجملة فكلّ شي ء يشغل عن اللّه فهو مشؤوم على صاحبه قيل: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في دعائه: اللهمّ من أحبّني و أجاب دعوتي فأقلل ماله و ولده و من أبغضني و لم يجب دعوتي فأكثر ماله و ولده و هذا الغالب عليهم النفس و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: في حقّ أنس

ص: 165

اللّهم أكثر ماله و ولده فهو لأمر هو أعرف بصلاحه.

[فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ابذلوا في التقوى جهدكم و تحرّزوا عمّا يكون سببا لمؤاخذة اللّه إيّاكم و هذه الآية نزلت بعد قوله: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» لمّا اشتدّ على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن قام في الصلاة حتّى و رمت قدماه و تقرّحت جبهته الشريفة فنزلت «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» قال ابن عبّاس: كلتا الآيتين محكمة لا ناسخ فيها و حقّ التقوى ما يحسن أن يطلق عليه اسم التقوى و ذلك لا يقتضي أن يكون حقّ التقوى فوق الاستطاعة فإنّه سبحانه لا يكلّف نفسا إلّا وسعها.

[وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا] أوامره [وَ أَنْفِقُوا] ممّا رزقكم في الوجوه الّتي أمركم اللّه بالإنفاق فيها خالصا لوجهه و المراد مطلق الإنفاق أو الزكاة كما قال ابن عبّاس:

[خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ مفعول لفعل محذوف أي افعلوا خيرا لأنفسكم أو يكون الإنفاق خيرا.

[وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أي و من يقه اللّه و يعصمه من بخل نفسه الّذي هي الرذيلة [فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكلّ مرام و في المقاصد الحسنة كفى بالمرء من الشحّ أن يقول: أخذ منه حقّي لا أترك منه شيئا أبدا.

و روي عن النبيّ انّه كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلّق بأستار الكعبة و هو يقول: إلهي بحرمة هذا البيت إلّا غفرت لي فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما ذنبك؟ صفه لي قال: هو أعظم من أصفه لك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و يحك ذنبك أعظم أم الأرضون؟ قال: بل ذنبي قال:

و يحك ذنبك أعظم أم السماوات؟ قال: بل ذنبي قال. فذنبك أعظم أم العرش؟ قال: بل ذنبي أعظم قال: فذنبك أعظم أم اللّه؟ قال: بل اللّه أعظم و أعلى قال: و يحك صف لي ذنبك قال: يا رسول اللّه إنّى ذو ثروة من المال و إنّ السائل ليأتيني و يسألني فكأنّها يستقبلني بشعلة من النار فقال: إليك عنّي لا حرّقني اللّه بنارك فو الّذي بعثني بالهداية لو قمت بين الركن و المقام ثمّ بكيت ألقي عام حتّى يجري من دموعك الأنهار و تسقي بها الأشجار ثمّ متّ و أنت لئيم لكبّك اللّه في النار أما علمت أنّ البخل كفر و أن الكفّار في النار ثمّ تلا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية انتهى و الإنفاق على الغير إنفاق على نفسك في الحقيقة.

[إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ بصرف أموالكم إلى المصارف الّتي عيّنها و ذكر القرض تلطّفا

ص: 166

في الطلب و أصل القرض القطع و قيل للقرض: قرض لأنّه قطع شي ء من المال و استعمل في أن يعطي أحدا شيئا ليرجع إليه [قَرْضاً حَسَناً] مقرونا بالأخلاق و طيب النفس و قرضا إن كان بمعنى الإقراض كان نصبه على المصدريّة و إن كان بمعنى مقرضا كان مفعولا ثانيا لتقرضوا لأنّ الإقراض يتعدّى إلى مفعولين.

[يُضاعِفْهُ لَكُمْ أي يجعل لكم أجره مضاعفا و يكتب بالواحد عشرة و سبعين و سبعمائة و أكثر على حسب النيّات و الأوقات و المحالّ.

[وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ما فرط منكم من بعض الذنوب [وَ اللَّهُ شَكُورٌ] يعطي الكثير بمقابلة اليسير من الطاعة و سمّي جزاء الشكر شكرا أو المعنى و اللّه كثير الثناء على عبده بذكر أفعاله الحسنة و ينبغي أنّ العبد لا يقصّر في الشكر فشكر البدن أن لا يستعمل جوارحه في غير طاعته و شكر قلبه أن لا يشتغل بغير معرفته و ذكره و شكر اللسان أن لا يستعمل غير ثنائه و مدحته و حمده و شكر المال و هو أن ينفقه في محبّته و سبيله [حَلِيمٌ لا يغافل بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم من المنع و الإمساك و هو يرى مخالفة العاصين و لا يعتريه غيظ و لا يحمله علمه على المسارعة إلى الانتقام.

قيل: إنّ إبراهيم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا رئي ملكوت السماوات و الأرض رأى عاصيا في معصيته قال: اللّهمّ أهلكه فأهلكه اللّه ثمّ رأى آخر فدعا عليه فأهلكه اللّه ثمّ رأى آخر فدعا عليه فأهلكه اللّه ثمّ رأى رابعا فدعا عليه فأوحى اللّه إليه أن قف إبراهيم، فلو أهلكنا كلّ عاص رأيناه لم يبق أحد من الخلق و لكنّا تحمّلنا لا نعذّبهم بل نمهلهم فإمّا أن يتوبوا و إمّا أن يصرّوا فلا يفوتنا بشي ء.

قيل: الحلم حجاب الآفات و ملح الأخلاق و الفرق بين الصبور و الحليم أنّ المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم يعني إنّ الصبور يشعر بأنّه يعاقب في الآخرة بخلاف الحليم و التخلّق باسم الحليم إنّما هو بأن يصفح عن جنايات الناس بل يجازيهم بالإحسان.

قال السهرورديّ: يا حليم ذا الأناة فلا يعادله شي ء من خلقه، من ذكره كان مقبول

ص: 167

القول وافر الحرمة قويّ الجاش بحيث لا يقدر عليه سبع و لا غيره.

[عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ] خبر بعد خبر أي لا يخفي عليه خافية [الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ البالغ في القدرة و الحكمة و يعلم من هو في نيّة صادقة و في عمله خلوص و من ليس كذلك و من هو أهل للكرامة كما ردّ بلعم بن باعور و قبل كلب أصحاب كهف قيل: إنّهم لمّا طردوا الكلب و لم ينصرف أنطقه اللّه فقال: لم تصرفونني إن كان لكم إرادة فلي إرادة أيضا و إن كان خلقكم فقد خلقني أيضا فازدادوا بكلامه يقينا و اتّفقوا على استصحابه معهم إلّا أنّهم قالوا: يستدلّ علينا بآثار قدمه فالحيلة أن نحمله فحمله الأولياء على أعناقهم و هم يمشون و ذلك لخلوصه فأدركه من العناية الأزليّة كما أن الاستكبار أخرج إبليس من ذلك المقام المنيع و جعله في أسفل السافلين.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 168

سورة الطلاق مدنية

اشارة

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و من قرء سورة الطلاق مات على سنّة رسول اللّه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الطلاق (65): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3) وَ اللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)

ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)

[يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ] أصل الطلاق التخلية من وثاق و يقال: أطلقت بعيرا من عقاله و منه استعير طلاق المرأة إذا خلّيتها فهي طالق أي مخلّاة عن حبالة النكاح.

و الطلاق كالسلام و الكلام بمعنى التسليم و التكليم و المستعمل في المرأة لفظ التطليق و في غيرها لفظ الطلاق حتّى لو قيل: أطلقتك لم يقع الطلاق.

و تخصيص النداء به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع عموم الخطاب لأمّته لتشريف الخطاب و لأنّ

ص: 169

النبيّ إمام امّته و قدوتهم كما يقال لرئيس القوم و كبيرهم: يا فلان افعلوا كيت و كيت اعتبار الترؤّسه و إنّه لسان قومه و هذه العبارة مثل قوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُ قل للمؤمنين إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» و قيل: إنّه في التقدير يا أيّها النبيّ و المؤمنون إذا طلّقتم فحذف المؤمنون لأنّ الحكم يدلّ على المحذوف أو من قبيل «إيّاك أعني» و المراد امّته.

[فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ العدّة مصدر عدّه يعدّ و من هذا قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سئل عنه متى يكون القيامة؟ قال: إذا تكاملت العدّتان أي عدد أهل النار و عدد أهل الجنّة و سمّي الزمان الّذي تتربّص فيه المرأة عقيب الطلاق أو الموت عدّة لأنّ المرأة تعدّ الأيّام المضروبة عليها و تنتظر أيّام الفرج أي طلّقوهنّ مستقبلات لعدّتهن فاللّام متعلّقة بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام أي واقع وقت عدّتهنّ و ذلك أن يطلّقها في طهر لم يجامعها فيه حتّى يحسب العدّة من ذلك اليوم و يصحّ الطلاق فإن لم يقع الطلاق في ذلك الطهر و وقع في طهر واقع الرجل فيه لم يقع الطلاق فهذا هو الطلاق للعدّة لأنّها تعتدّ بذلك الطهر من عدّتها و تحصل في العدّة عقيب الطلاق فيكون على هذا العدّة الطهر لا الحيض.

[وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ] أي اضبطوها بحفظ الوقت الّذي وقع فيه الطلاق و أكملوها ثلاثة أقراء لكنّ القرء بمعنى الطهر في الآية عندنا و قيل: اللام في «لِعِدَّتِهِنَّ» للسبب فالمعنى فطلّقوهنّ ليعتددن و لا شبهة أنّ هذا الحكم أي الاعتداد للمدخول بها لأنّ المطلّقة قبل المسيس لا عدّة عليها و قد ورد به التنزيل في سورة الأحزاب و هو قوله: «فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها» (1).

و بالجملة و إنّما أمر سبحانه الرجال بالإحصاء و إن كانت النساء مأمورة لأنّهم أضبط للحساب و للزوج في هذا الضبط حقّ و هي المراجعة و لها حقّ و هو النفقة و السكنى و أيضا قعود الزوجة عن اتّخاذ البعل حتّى تنقضي و قد يحصل الفراق بغير الطلاق كالارتداد و اللعان و إن لم يسمّ طلاقا و يحصل أيضا بالفسخ للنكاح بأشياء أخر.

و الطلاق منهيّ عنه من غير سبب و مبغوض قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تزوّجوا

ص: 170


1- الأحزاب: 49.

و لا تطلّقوا فإنّ الطلاق يهتزّ منه العرش و عن ثوبان رفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنّة و عن أبي موسى الأشعريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لا تطلّقوا النساء إلّا من ريبة فإنّ اللّه لا يحبّ الذوّاقين و الذوّاقات.

و اعلم أنّ العدّة على ضروب فضرب بالإقراء لمن تحيض و ضرب يكون بالأشهر للّتي لم تبلغ المحيض و مثلها تحيض و كذلك الآيسة من المحيض و مثلها تحيض فعدّتها بالشهور و حدّها أصحابنا بأن تكون سنّها أقلّ من خمسين سنة و من ستّين سنة للقرشيّات فإن كان سنّها أكثر من ذلك فلا عدّة عليها عند أكثر أصحابنا و المتوفّى عنها زوجها عدّتها بالشهور أيضا و ضرب تكون بوضع الحمل في الجميع إلّا المتوفّى عنها زوجها فإنّ عدّتها أبعد الأجلين ثمّ إنّ عدّة الطلاق للحرّة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر و للأمة قرءان أو شهر و نصف و وضع الحمل.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ و لا تعصوه فيما أمركم به و [لا تُخْرِجُوهُنَ من بيوتهنّ [وَ لا يَخْرُجْنَ هنّ أيضا في زمان العدّة و لا يجوز للزوج أن يخرج المطلّقة المعتدّة من مسكنه الّذي كان يسكنها فيه قبل الطلاق و على المرأة أيضا أن لا تخرج في عدّتها إلّا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت.

[إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ] ظاهرة و اختلف في الفاحشة فقيل: إنّها الزنا فتخرج لإقامة الحدّ عليها و قيل: هي البذاء على أهلها فيحلّ لهم إخراجها عن ابن عبّاس و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام و روى عليّ بن أسباط عن الرضا عليه السّلام قال:

الفاحشة أن تؤذي أهل زوجها و تسبّهم و قيل: هي النشوز فإن طلّقها على نشوز فلها أن تتحوّل من بيت زوجها و في رواية اخرى إنّ كلّ معصية للّه ظاهرة فهي فاحشة.

[وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ممّا ذكر من أحكام الطلاق [وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بأن على غير ما أمر اللّه به [فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ و أثم فيما بينه و بين اللّه و خرج من الطاعة إلى المعصية و فعل ما يستحقّ به العقاب.

لا تدري [لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً] أي يغيّر رأي الزوج في محبّة الطلاق و يوقع في قلبه المحبّة لترجعها في ما بين الطلقة الواحدة و الثانية و في ما بين الثانية و

ص: 171

الثالثة و لعلّ اللّه يحدث الرجعة في العدّة و طلاق السنّة في مقابلة طلاق البدعيّ الّذي هو غير مشروع عندنا و الطلاق السنّيّ يطلق على الطلاق الّذي لم يطأ فيه بعد الرجعة و يكون طلاق عدّة إن وطأ بعد الرجعة و طلّق و الحاصل إنّ أصحابنا الإماميّة قد اصطلحوا على أن يسمّوا الطلاق الّذي لا يزاد عليه بعد المراجعة طلاق السنّة و الطلاق الّذي يزاد عليه بشرط المراجعة طلاق العدّة، فطلاق السنّة أيضا طلاق العدّة و هو ما كان مستجمعا لشرائط الصحّة المذكورة في كتاب الطلاق.

قوله: [فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أي شارفن آخر زمان العدّة و لم تنقص و ذلك لأنّه لا يمكن الرجعة بعد بلوغهنّ آخر العدّة و حمل البلوغ في الآية عند الفريقين على المشارفة [فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فأنتم بالخيار إن شئتم راجعوهنّ بالمعروف و حسن المعاشرة و إنفاق لائق و في الحديث أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا و ألطفهم بأهله [أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بإيفاء الحقّ و إنفاء الضرار بأن يراجعها ثمّ يطلّقها تطويلا للعدّة و خصومة لها.

[وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قال المفسّرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق و عند الرجوع شاهدي عدل حتّى لا يجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدّة و الرجل الطلاق و قال أصحابنا: الإشهاد على الطلاق و هو المرويّ عن أئمّتنا و هذا أليق بظاهر الآية و عليه العمل عندنا لأنّ العطف على قوله: «إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» في الكافي عن الكاظم عليه السّلام قال لأبي يوسف: إن اللّه تبارك و تعالى أمر في كتابه في الطلاق بشاهدين و لم يرض لهما إلّا عدلين و أمر في كتابه بالتزويج فأهمله بلا شهود و أنتم أثبتّم شاهدين و أوجبتم فيما أهمل و أبطلتم الشاهدين فيما أكّد.

[وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ و هذا خطاب للشهود أي أقيموها لوجه اللّه لا لطلب رضاء المشهود له و الشهادة أمانة و لا بدّ من تأدية الأمانة فلو كتمها أو حرّفها فقد خان و الخيانة من الكبائر دلّ عليه: «وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» [ذلِكُمْ إشارة إلى الحثّ على جميع امور المذكورة من الشهادة و أحكام الطلاق و العدّة [يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] إذ هو المنتفع به و المؤمن باللّه و اليوم الآخر لا يترك العمل بما وعظ

ص: 172

به رغبة في الثواب و رهبة من العقاب.

[وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ عن مخالفته في هذه المذكورة و غيرها [يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً] مصدر ميميّ أي خروجا و خلاصا يجعل سبحانه له من شبهات الدنيا و من غمرات الموت و من شدائد يوم القيامة و من الحرام إلى الحلال و من النار إلى الجنّة و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من أكثر الاستغفار جعل اللّه له من كلّ همّ فرجا و من كلّ ضيق مخرجا.

[وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال الصادق: يبارك له فلما أتاه و عن أبي ذرّ الغفاريّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّي لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم و هي قوله:

«وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» الآية.

[وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي و من يفوّض أمره إلى اللّه و وثق بتقديره و تدبيره فهو كافيه و يعطيه ثواب الجنّة و يجعله مكفّى في أموره و في الحديث من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكّل عليه.

[إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ أي يبلغ ما أراد على ما أراد و لا يقدر أحد على منعه عمّا يريده أو المعنى أنّه تعالى منفذ أمره فيمن يتوكّل عليه [قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً] و بيّن لكلّ شي مقدارا بحسب المصلحة في الإباحة و الوجوب و الترغيب و الترهيب و الشدّة و الرخاء.

ثمّ بيّن تعالى اختلاف أحكام العدّة باختلاف أحوال النساء فقال: [وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ فلا يحضن [إِنِ ارْتَبْتُمْ اللّائي من الموصولات جمع الّتي أي النساء اللّاتي دخلتم بهنّ و يئسن من الحيض لكبرهنّ يقال: آيس إذا كان يأسها من الحيض و لا يقال لها: آيسة لأنّ الياء إنّما تزاد في المؤنّث إذا استعملت الكلمة للمذكّر أيضا فرقا بينهما فإذا لم تستعمل له فأيّ حاجة إلى الزيادة مثل طالق و حائض.

و المحيض و الحيض مصدر حائض و هو خروج الدم من قبلها و يكون للأرنب و الضبع و الخفّاش و منه الحوض لأنّ الماء يسيل إليه.

[إِنِ ارْتَبْتُمْ و شككتم و أشكل عليكم لجهلكم بحكم عدّتهن أي شككتم في أمرهنّ فلا تدرون لكبر ارتفع حيضهنّ أم لعارض، عن أئمّتنا عليهم السّلام هنّ اللواتي أمثالهنّ يحضن

ص: 173

لأنهنّ لو كنّ في سنّ من تحيض لم يكن للارتياب معنى روي في المجمع كذلك.

[فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ] و اللائي يئسن مبتدء خبره: فعدّتهنّ و الشهر العدد المعروف من الأيّام و سمّي شهرا لأنّه يشهر و يعرف بالقمر و بإهلال الهلال.

[وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي ما رأين الدم لصغرهنّ و الشابّة الّتي كانت تحيضن فارتفع حيضها بعذر من الأعذار قبل بلوغها من الآيسات فتعتدّ بثلاثة أشهر أيضا.

[وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ و واحدة الأولات ذات بمعنى صاحبه و المراد من الحمل الحبل و هو المحمول في البطن أي الحبالى منهنّ [أَجَلُهُنَ أي منتهى عدّتهن [أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ قال ابن عبّاس: هذا الحكم خاصّ بالمطلّقات و هو المرويّ عن أئمّتنا فأمّا المتوفّى عنها زوجها إذا كانت حاملا فعدّتها أبعد الأجلين فإذا مضت بها أربعة أشهر و عشرا و لم تضع انتظرت الوضع و إذا وضعت قبل المدّة انتظرت المدّة و لكن عند غيرنا أنّه عام في المطلّقات و المتوفّى عنها زوجها و إن كانت المرأة حاملا باثنين و وضعت و أحدا لم تحلّ للأزواج حتّى تضع جميع الحمل.

قال أصحابنا: إذا وضعت واحدا انقطعت عصمتها من الزوج و لا يجوز لها أن تعقد على نفسها لغيره حتّى تضع الآخر.

و الّذين قالوا: إنّ الآية عامّة في المطلّقة و المتوفّى عنها زوجها قالوا: إنّ هذه الآية نسخت قوله «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» (1)، لتراخي نزوله لكن عندنا لا يصحّ لأنّ النسخ لم يثبت و في الكافي عن الصادق عليه السّلام سئل عنه عن الحبلى يموت زوجها فتضع و تزوّج قبل أن يمضي لها أربعة أشهر و عشر فقال عليه السّلام: إن كان دخل بها فرّق بينهما و اعتدّت بما بقي عليها من الأوّل و استقبلت عدّة اخرى من الأخير ثلاثة قروء، الحديث.

[وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فيما أمره بالطاعة و الاجتناب عن المعصية [يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً] و يسهّل عليه امور الدنيا و الآخرة إمّا بفرج عاجل أو عوض آجل و قيل:

يسهّل عليه فراق أهله و يزول الغموم عن قلبه.

ص: 174


1- البقرة: 234.

[ذلِكَ أي ما ذكر من الأحكام [أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ من الصلاة إلى الصلاة و من الجمعة إلى الجمعة قال الربيع: إنّ اللّه قد قضى على نفسه أنّ من توكّل عليه كفاه و من آمن به هداه و من أقرضه جازاه و من وثق به أنجاه و من دعاه لبّاه و تصديق ذلك في كتاب اللّه حيث قال: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» و قال عزّ و جل: «وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» (1) و قال: «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ» (2) و قال: «وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (3) و قال: «وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» (4).

[وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً] و هو ثواب الجنّة لأنّه الأجر العظيم.

[سورة الطلاق (65): الآيات 6 الى 10]

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10)

«أَسْكِنُوهُنَّ» استيناف وقع جوابا عن سؤال نشأ ممّا قبله من الحثّ على التقوى كأنّه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدّات؟ فقيل: [أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي بعض مكان سكناكم و الخطاب للمؤمنين المطلّقين [مِنْ وُجْدِكُمْ و وسعكم ممّا تطيقونه و الوجد القدرة و الغنى يقال: فلان افتقر بعد وجده و هو عطف بيان لقوله:

«حَيْثُ سَكَنْتُمْ» و البدل أحسن قال أبو حيّان: إنّه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل إنّما عهد ذلك في البدل.

ص: 175


1- التغابن: 11.
2- البقرة: 245.
3- آل عمران: 101.
4- البقرة: 184.

[وَ لا تُضآرُّوهُنَ و لا تقصدوا عليهنّ الضرر [لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ و تلجئوهنّ إلى الخروج من مساكنكم.

[وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ أي المطلّقات ذوات حمل، و أولات بالكسر على قانون جمع المؤنّث و تنوين حمل للتنكير أي أيّ حمل كان قريب الوضع أو بعيده [فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ فيخرجن من العدّة و تحلّ لهنّ تزوّج غيركم أيّا شئن فأمر سبحانه بالإنفاق على المطلّقة الحامل سواء كانت رجعيّة أو مبتوتة.

[فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي فإن أرضعن الولد لأجلكم بعد البينونة فأعطوهنّ اجرة الرضاع سواء كان الولد منهنّ أو من غيرهنّ فانّ حكمهن في ذلك حكم الأضآر [وَ أْتَمِرُوا] أيّها الآباء و الأمّهات [بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ و الائتمار قبول الأمر أمرهم اللّه سبحانه بالتلقّي لأمره بما يوجب المعروف فلا يكون من الأب مماسكة و من الأمّ معاسرة و عليهما الإشفاق للولد [وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ و تضايقتم في الرضاع و الاجرة و اختلفتم في هذا الأمر [فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى أي فليسترضع الوالد امرأة أجنبيّة و توجد مرضعة اخرى و لا يجوز إجبارها على الإرضاع.

[لِيُنْفِقْ لام الأمر [ذُو سَعَةٍ] و ثروة و غنى [مِنْ سَعَتِهِ و ماله أمر سبحانه أهل التوسعة أن يوسّعوا على نسائهم المرضعات أولادهنّ على قدر سعتهم [وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ و ضيّق عليه رزقه [فَلْيُنْفِقْ على قدر ذلك و على حسب إمكانه و طاقته [مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها] من المال جلّ أو قلّ و لا يقع منه تعالى تكليف ما لا يطاق.

[سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً] أكّد الوعد باليسر بعد العسر عاجلا أو آجلا و ليس في السين دلالة على تعيّن وقت، نعم السين تعيّن قرب الوعد و كلّ ما هو آت قريب و لو في الآخرة فلينتظر المعسر اليسر فإنّ الانتظار للفرج عبادة قال الزمخشريّ: هذا وعد لفقراء ذلك الوقت و الصحابة خصوصا فإنّ الغالب على أكثر هم في ذلك الوقت الفقر ثمّ فتح عليهم البلاد فيما بعد.

[وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ] بمعنى كم الخبريّة للتكثير و القرية اسم لموضع يجتمع و يسكن فيه الناس أي و كثير من أهل قرية [عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ استكبرت

ص: 176

و طغت عن قبول أمر ربّها و أمر رسل ربّها و في الآية تحذير للناس عن المخالفة و كأيّن مبتدء و من قرية بيان له و عتت خبره.

[فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً] أي ناقشناها في الحساب و شددنا عليها و أخذنا بدقائق ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة من غير عفو بنحو من القحط و الجوع و الأمراض و السيف و تسليط الأعداء عليها معّجلا على استيصالها العذاب الأكبر و ذلك لترجع إلى اللّه فلم تفعل فابتلاها اللّه بما فوق ذلك [وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً] منكرا عظيما لشدّته و إيلامه و النكر الأمر الصعب الّذي لا يعرف.

[فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها] و ضرر كفرها و أحسّته إحساس الذائق الطعام [وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً] لا خسر وراءه لتضييع رأس ما لهم و هو العمر في المخالفة.

[أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مع ذلك [عَذاباً شَدِيداً] و اللام للتخصيص فهم أهل الحساب و العذاب في الدنيا و الآخرة فإنّ ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفّارة لذنوبهم لعدم رجوعهم عن الكفر فعذّبوا بعذاب الآخرة أيضا و قيل: في الآية تقديم و تأخير فيكون المعنى إنّا عذّبناها عذابا شديدا في الدنيا و نحاسبها حسابا شديدا في الآخرة و لفظ الماضي للتحقيق كأكثر ألفاظ القيامة.

[فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ و اعتبروا بحال الأمم الماضين من المنكرين و اتّقوا من مخالفة أمره تعالى إن خلصت عقولكم من شوائب كدورات النفس و اعلموا أنّ الدنيا دار تجارة [الَّذِينَ آمَنُوا] ثمّ وصف سبحانه اولي الألباب و خصّ المؤمنين بالذكر لأنّهم المنتفعون بذلك دون الكفّار.

[قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ و الخطاب للالتفات [ذِكْراً رَسُولًا] و هو النبيّ و أبدل منه «رَسُولًا» و عبّر عنه بالذكر لمواظبته على تلاوة القرآن و تبليغه أو لأنّه سبب عن إنزال الوحي إليه يعني إنّ رسول اللّه شبّه بالذكر الّذي هو القرآن لشدّة ملابسته به فأطلق عليه اسم المشبّه به استعارة تصريحيّة و قرن به ما يلائم المستعار منه و هو الإنزال ترشيحا لها أو مجازا مرسلا من قبيل إطلاق السبب على المسبّب فإنّ إنزال الوحي إليه سبب لإرساله.

ص: 177

و قيل: معنى الآية قد أنزل إليكم ذكرا يعني القرآن و أرسل إليكم رسولا يعني محمّدا لكنّ الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول و قد دلّ عليه القرينة و هو قوله: «أَنْزَلَ» نظير قوله: «علّفتها تبنا و باردا» أي و سقيتها ماء باردا.

قوله تعالى: [سورة الطلاق (65): الآيات 11 الى 12]

رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (12)

[رَسُولًا يَتْلُوا] و يقرء عليكم أيّها الناس [آياتِ اللَّهِ أي القرآن [مُبَيِّناتٍ حال كون الآيات مظهرات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام أو مبيّنات بالفتح أي واضحات لا خفاء فيها لأهلها أو لا مرية في إعجازها و إنّما يتلوها.

[لِيُخْرِجَ الرسول أو اللّه بناء على أنّ اللام متعلّقة بأنزل لا بقوله: «يَتْلُوا» ... [الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الموصول عبارة عن المؤمنين بعد إنزال القرآن و إلّا فإخراج الموصوفين بالإيمان من الكفر لا يمكن إذ لا كفر فيهم حتّى يخرجوا منه [مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ] من الضلالة إلى الهدى و من الجهل إلى العلم و من الغفلة إلى اليقظة على طبقاتهم في السعي و الاجتهاد.

[وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً] خالصا من الرياء و إذا كان مكارم الأخلاق تنفع للإنسان في الجملة و لو كان كافرا فكيف إذا كان مؤمنا؟ كما قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا عرج به أطلع على النار فرأى حظيرة فيها رجل لا تمسّه النار فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما بال هذا الرجل في هذه الحظيرة لا تمسّه النار؟ فقال جبرئيل: هذا حاتم طيّئ صرف اللّه عنه جهنّم بسخائه وجوده كما في أنيس الوحدة و كما رئي أبو لهب في المنام و هو يمصّ ماء من إبهامه ليلة الاثنين لعتقه بعض جواريه حين بشّرته بولادة رسول اللّه.

[يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا] أي من تحت قصورها أو أشجارها [الْأَنْهارُ] الأربعة [خالِدِينَ فِيها] و مقيمين في تلك الجنّات دائمين [أَبَداً] تأكيد للخلود لئلّا يتوهّم أنّ المراد المكث الطويل المنقطع آخرا [قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً] حال ثان من

ص: 178

مفعول يدخله و في الكلام معنى التعجّب و التعظيم لما رزق اللّه المؤمنين من الثواب كأنّه قيل: ما أحسن رزقهم و ما أعظمه! [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ أي اللّه الملك القادر الّذي خلق سبع سماوات على وفق حكمته الشاملة و قدرته الكاملة [وَ مِنَ الْأَرْضِ أي و خلق من الأرض [مِثْلَهُنَ في العدد و الطباق.

و اختلف في كيفيّة طبقات الأرض فقال قوم: إنّها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض كالسماوات لأنّها لو كانت مصمّته لكانت أرضا واحدة و في كلّ أرض خلق خلقهم اللّه كما شاء و روى أبو صالح عن ابن عبّاس إنّها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض بينهنّ البحار و يظلّ جميعهنّ السماء و اللّه سبحانه أعلم بصحّة ما استأثر بعلمه و أبهم على خلقه.

و بالجملة ليس في القرآن آية تدلّ على أنّ الأرضين سبع مثل السماوات إلّا هذه الآية و بعض الأخبار الّتي ينقلونها أنّ في كلّ أرض آدم كآدمكم و نوح مثل نوحكم ضعيفة غير معلومة و لا نعلم بصحّتها فالأولى السكوت عنها و اللّه أعلم بصحّتها.

قوله: [يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ] أي أمر اللّه و اللام عوض عن المضاف إليه [بَيْنَهُنَ أي بين السماوات السبع و الأرضين السبع و المراد نفوذ أمره تعالى في العلويّات و السفليّات كلّها و الأمر عند الأكثرين القضاء أي يجري حكمه و ينفذ بينها و لا يقتضي من قوله:

«بَيْنَهُنَّ» أن لا يجرى في العرش و الكرسيّ لأنّ المقام اقتضى ذكر ما ذكره و التخصيص بالذكر لا يقتضي التخصيص بالحكم.

[لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] متعلّق بخلق أو يتنزّل أي فعل ذلك لتعلموا أنّ من قدر على ما ذكر قادر على كلّ شي ء و منه البعث للجزاء فتطيعوا أمره و تستعدّوا لكسب السعادة و اللام لام الغرض و المصلحة [وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً] كما أحاط به قدرة و قوله: «عِلْماً» نصب على التمييز.

تمّت السورة

ص: 179

سورة التحريم مدنية

اشارة

قال ابيّ: عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأها أعطاه اللّه توبة نصوحا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التحريم (66): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)

عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً (5)

[يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ أصل لم لما و الاستفهام لإنكار التحريم.

النزول: فيه اختلاف قيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا صلّى الغداة يدخل على أزواجه امرأة امرأة و كان قد أهديت لحفصة عكّة عسل فكانت إذا دخلها عليها رسول اللّه حبسته و سقته منها و إنّ عائشة أنكرت احتباسه عندها فقالت لجويرية عندها: إذا دخل رسول اللّه على حفصة فادخلي عليها و انظري ماذا تصنع فأخبرتها الخبر و شأن العسل فغارت عائشة و أرسلت إلى صواحبها فأخبرتهنّ و قالت: إذا دخل عليكنّ رسول اللّه فقلن:

ص: 180

إنّا نجد ريح المغافير و هو صمغ العرفط كريه الرائحة و كان رسول اللّه يكره و يشقّ عليه أن يوجد منه ريح غير طيّبة لأنّه يأتيه الملك.

قال: فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على سودة فقالت: ما أردت أن أقول ذلك لرسول اللّه ثمّ إنّي خفت من عائشة فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الريح الّتي أجدها منك أكلت المغافير؟ فقال: لا و لكن حفصة سقتني عسلا ثمّ دخل على امرأة امرأة و هنّ يقلن له ذلك فدخل على عائشة فأخذت بأنفها فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أجد ريح المغافير أكلتها يا رسول اللّه؟ قال: لا بل سقتني حفصة عسلا فقالت: جرست إذا نحلها العرفط فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اللّه لا أطعمه أبدا فحرّمه على نفسه فنزلت الآية و قيل: إنّ الّتي كانت تسقي العسل رسول اللّه امّ سلمة و قيل: كانت زينب بنت جحش.

و قيل في النزول: إنّ رسول اللّه قسّم الأيّام بين نساءه فلمّا كان يوم حفصة قالت يا رسول اللّه: إنّ لي إلى أبي حاجة فأذن لي أن أزوره فأذن لها فلمّا خرجت أرسل رسول اللّه إلى جاريته مارية القبطيّة و كان قد أهداها له المقوقس ملك مصر فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا و جلست عند الباب فخرج رسول اللّه و وجهه يقطر عرقا فقالت حفصة: إنّما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ثمّ وقعت عليها في يومي و على فراشي أما رأيت لي حرمة و حقّا؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أليس هي جاريتي قد أحلّ اللّه ذلك لي اسكتي فهو حرام عليّ و اللّه ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهنّ فلمّا خرج رسول اللّه قرعت حفصة الجدار الّذي بينها و بين عائشة فقالت: ألا ابشّرك! إنّ رسول اللّه قد حرّم أمته مارية عليه و أخبرت عائشة بما رأت فلم تكتم فطلّقها رسول اللّه بطريق الجزاء على إفشاء سرّه و اعتزل نساءه و مكث تسعا و عشرين يوما في غرفة مارية حتّى نزلت آية التخيير في سورة الأحزاب و هي: «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ» (1) الآية.

و بالجملة [يا أَيُّهَا النَّبِيُ ناداه بهذا النداء تشريفا له و تعليما لعبادة كيف يخاطبونه في أثناء محاوراتهم [لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ من الملاذّ [تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ

ص: 181


1- الأحزاب: 51.

و تطلب رضاء نسائك و هنّ أحقّ يطلب مرضاتك منك و ليس في هذا ما يدلّ على وقوع ذنب منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّ تحريم الرجل بعض نسائه أو بعض الملاذّ لسبب أو لغير سبب ليس بقبيح و قد يكون خرج هذا القول مخرج المتوجّع له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ بالغ في إرضاء أزواجه و تحمّل في ذلك المشقّة و لو أنّ إنسانا أرضى بعض نسائه بتطليق بعضهنّ لصحّ أن يقال له: لم فعلت ذلك و تحمّلت هذه المشقّة و إن كان لم يفعل قبيحا و لو قلنا:

إنّه عوتب على ذلك لأنّ ترك التحريم كان أفضل من فعله لم يمنع لأنّه يحسن أن يقال لتارك النفل: لم لم تفعله و لم عدلت عنه و إنّ تطييب قلوب النساء ممّا لا ينكره العقول.

حكي أنّ عبد اللّه بن رواحة كان من النقباء كانت له جارية فاتّهمته زوجته ليلة بالنسبة إلى الجارية فقال قولا يشبه الإنكار فقالت له زوجته: إن كنت لم تقربها فاقرء القرآن فأنشد:

و فينا رسول اللّه نتلو كتابه كما لاح معروف مع الصبح ساطع

أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنابه موقنات إنّ ما قال واقع

فقالت: زدني، فأنشد:

شهدت بأنّ وعد اللّه حقّ و أنّ النار مثوى الكافرينا

و إنّ محمّدا يدعو بحقّ و إنّ اللّه مولى المؤمنينا

فقالت: إذا قرأت القرآن صدّقتك فأخبر به رسول اللّه فتبسّم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال:

خيركم خيركم لنسائه.

و اختلف فقهاء العامّة فيمن قال لامرأته: أنت حرام عليّ فقال مالك: هو ثلاث تطليقات و قال أبو حنيفة: إن نوى به الظهار فهو ظهار و إن نوى الإيلاء فهو إيلاء و إن نوى الطلاق فهو طلاق بائن و إن نوى ثلاثا كان ثلاثا و إن لم يكن له نيّة فهو يمين.

و قال الشافعيّ: إن نوى الطلاق كان طلاقا، أو الظهار كان ظهارا و إن لم يكن له نيّة فهو يمين. و قال أصحابنا: إنّه لا يلزم به شي ء و وجوده كعدمه و إنّما أوجب اللّه فيه الكفّارة لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله كان حلف أن لا يقرب جاريته أوّلا بشرب الشراب

ص: 182

المذكور فأوجب عليه أن يكفّر عن يمينه و يعود إلى استباحة ما كان حرّمه و هو قوله:

و اللّه لا اقرّبها قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعتق جارية في تحريم مارية و عاودها.

[وَ اللَّهُ غَفُورٌ] لعباده [رَحِيمٌ بهم إذ ارجعوا إلى ما هو الأولى.

[قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي قد قدّر اللّه تعالى لكم ما تحلّلون به أيمانكم إذا فعلتموها و شرع لكم الحنث و الكفّارة فيها و اليمين ينحلّ بالحنث فسمّي ذلك تحلّة و قد بيّن اللّه كفّارة أيمانكم في سورة المائدة و في هذا دلالة على أنّه قد حلف و لم يقتصر على قوله: حرام عليّ لأنّ هذا القول ليس بيمين.

[وَ اللَّهُ هو مَوْلاكُمْ و وليّكم يحفظكم و هو أولى بكم [وَ هُوَ الْعَلِيمُ بمصالحكم [الْحَكِيمُ في تدبير أموركم في أوامره و نواهيه.

[وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ و هي حفصة [حَدِيثاً] أي كلاما أمرها بإخفائه [فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي أخبرت غيرها فأفشت سرّه إلى صاحبتها و هي عائشة أو إلى صواحبها نساء النبيّ [وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي اطّلع اللّه النبيّ على إفشاء حفصة ذلك الحديث على لسان جبرئيل، و ظهر الشي ء أصله أن يحصل شي ء على ظهر الأرض فلا يخفى و بطن إذا حصل في بطنان الأرض فيخفى.

[عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي عرّف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حفصة بعض الحديث الّذي أفشته إلى صاحبتها بأن قال: لها ألم أك أمرتك أن تكتمي سرّي و هو إمّا حديث الإمامة او قصّة مارية و أخبرها ببعض ما أفشت و أعرض عن بعض آخر لمكارم أخلاقه لأنّ الكريم لا يستقصي قطّ و على قراءة عرف بالتخفيف فمعناه غضب عليها و جازاها بأن طلّقها تطليقة أو همّ بطلاقها.

[فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ و أخبر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حفصة بما أظهره اللّه عليه قالت حفصة: [مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ رسول اللّه: [نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ] بسرائر الصدور.

ثمّ خاطب سبحانه عائشة و حفصة [إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ من التعاون على النبيّ بالإيذاء و التظاهر عليه و الشرط و قيل في معنى الأمر: أي وجب عليكما التوبة [فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما] و مالت قلوبكما إلى الإثم و عدلت عن الثواب و قيل: «إِنْ» على معناه أي

ص: 183

إن تتوبا إلى اللّه يقبل توبتكما.

[وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ بإسقاط إحدى التاءين أي و إن يتعاونا على النبيّ بالإيذاء قال ابن عبّاس: قلت: لعمر بن الخطّاب و المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول اللّه قال:

عائشة و حفصة أورده البخاريّ في الصحيح [فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ الّذي يتولّى نصرته [وَ جِبْرِيلُ رئيس الكرّوبين قرينه [وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال قتادة: يعنى الأنبياء و قال الزجاج: صالح هنا ينوب عن جميع المؤمنين و لكن وردت الرواية من طريق الخاصّ و العامّ أنّ المراد بصالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و هو قول مجاهد.

و في كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن سدير الصير فيّ قال: لقد عرف رسول اللّه عليّا أصحابه مرّتين مرّة حيث قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه و أمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية أخذ رسول اللّه بيد عليّ فقال: أيّها الناس هذا الصالح المؤمنين و قالت أسماء بنت عميس: سمعت أنّ النبيّ يقول: و صالح عليّ بن أبي طالب.

قيل: إنّ رجلا قال لإبراهيم بن أدهم: إنّ الناس يقولون لي: صالح فبم أعرف أنّي صالح فقال: أعرض أعمالك على الصالحين فإن قبلوها و وافق مع القرآن فإن وافقت فاعلم أنّك صالح.

قوله: [وَ الْمَلائِكَةُ] مع تكاثر عددهم [بَعْدَ ذلِكَ أي نصرة اللّه و رئيس الكرّوبين و ناموسه الأعظم و صالح المؤمنين وزيره الّذي بمنزلة هارون من موسى [ظَهِيرٌ] خبر و الجملة معطوفة على جملة «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ» و ذكر نصرة غير اللّه مع الإخبار بكونه تعالى مولاه لتذكير كمال رفعة النبيّ و بيان لشأنه و لكون سوق الكلام في مقام التظاهر لكون عائشة و حفصة متظاهرتين.

[عَسى رَبُّهُ يعني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عسى للمقاربة [إِنْ طَلَّقَكُنَ و جواب الشرط مقدم أي ان طلّقكن عسى [أَنْ يُبْدِلَهُ و يبدلكن [أَزْواجاً له خَيْراً مِنْكُنَ و أصلح له منكنّ ثمّ نعّمت سبحانه تلك الأزواج [مُسْلِماتٍ و مسلّمات لأمر اللّه و نهيه [مُؤْمِناتٍ مصدّقات اللّه و رسوله أو المعنى مصدّقات في أقوالهنّ و أفعالهنّ [قانِتاتٍ مواظبات على الطاعة و الذكر [تائِباتٍ من الذنوب [عابِداتٍ متذّللات لأمر الرسول

ص: 184

[سائِحاتٍ أي صائمات سمّي الصائم سائح لأنّه يسيح في النهار بلا زاد أو المراد مهاجرات من مكّة إلى مدينة [ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً] أي مدخولات و غير مدخولات وسّط بين هاتين الكلمتين بالعاطف دون غير هما لتنافيهما و عدم اجتماعهما في ذات واحدة بخلاف سائر الصفات و يمكن أن يكون المراد بالأبكار تعريضا لعائشة و بالثيّبات غيرها من بعض أزواج النبيّ.

قال بعض أهل التحقيق: إنّ في الآية إشارة إلى مريم البتول و هي البكر و إلى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون و أنّ اللّه سيزوّجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيّاهما في الجنّة كما روي عن ابن عبّاس قال أبو الليث: يكون وليمة في الجنّة و يجتمع عليها أهل الجنّة فيزوّج اللّه هاتين المرأتين من محمّد و بدأ في الآية بالثيّب قبل البكر لأنّ زمن آسية قبل زمن مريم.

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل على خديجة و هي تجود بنفسها فقال: أتكرهين ما نزل بك يا خديجة و قد جعل اللّه في الكره خيرا كثيرا فإذا قدمت على ضرّاتك فاقرئيهنّ منيّ السلام فقالت: من هنّ يا رسول اللّه؟ قال: مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم و حليمة اخت موسى فقالت: بالرفاء و البنين، و كان هذا دعاء الأوائل للمعرّس ثمّ نهى النبيّ عن هذا القول و أمر بقوله: بارك لك و بارك عليك و جمع بينكما في خير.

و في الحديث أنّ الرجل من أهل الجنّة ليتزوّج خمسمائة حوراء و أربعة آلاف ثيّب و ثمانية آلاف بكر يعانق كلّ واحدة منهنّ مقدار عمره في الدنيا.

[سورة التحريم (66): الآيات 6 الى 12]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)

ص: 185

[قُوا] أصله اوقيوا كاضربوا أي احفظوا [أَنْفُسَكُمْ بترك المعاصي و فعل الطاعات [وَ أَهْلِيكُمْ بالنصح و التعليم جمع أهلين حذفت النون بالإضافة و المراد من الأهل كلّ من في عيال الرجل و نفقته من المرأة و الولد و الأخ و الاخت بل قد يطلن على أصحابه.

و في الحديث كلّكم راع كلّكم مسؤولون عن رعيّته و هو من الرعاية و كلّكم مسؤول عمّا التزم حفظه يوم القيامة فالإمام راع على الناس و الرجل راع على أهل بيته و المرأة راعية على بيت زوجها و عبد الرجل راع على مال سيّده و الكلّ مسؤول و قد خصّ الأهلين لأنّ شرائط الأمر و النهي قد لا توجد في حقّ الأجانب بخلاف الأهلين و إلّا حكم الأجانب كحكمهم في الأمر و النهي لكنّ الأقرب مقدّم كما قال سبحانه:

«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (1) فإذا طهّرتم أنفسكم عن دنس المعاصي و اتّباع الهوى فانصحوا إخوانكم حتّى يأتمّون بهدايتكم.

[ناراً وَقُودُهَا] ما يوقد به النار يعني حطبها و الوقود بالفتح اسم لما توقد به النار من الحطب و بالضمّ مصدر بمعنى الاتّقاد [النَّاسُ كفّار الإنس و الجنّ و إنّما لم يذكر الجنّ لأنّ كفّار الجنّ تابعة لكفّار الإنس [وَ الْحِجارَةُ] أي تتّقد بها أيضا اتّقاد غيرها بالحطب فإنّ اتّقاد النار بالحجارة مكان الحطب يكون من زيادة حرّها و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم قال ابن عبّاس: هي حجارة الكبريت و لها سرعة الاتّقاد و نتن الرائحة و كثرة الدخان و شدّة الالتصاق بالأبدان

ص: 186


1- الشعراء: 214.

و قيل: وقودها الناس إذا صاروا إليها و الحجارة قبل أن يصيروا إليها.

[عَلَيْها] أي على تلك النار [مَلائِكَةٌ] تلي أمرها و تعذيب أهلها و هم الزبانية التسعة عشر و أعوانهم و المراد بقوله: «عَلَيْها» ليس الاستعلاء الحسّيّ بل الولاية و الغلبة [غِلاظٌ] القلوب خالية عن الرحمة [شِدادٌ] أقوياء أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال إذا استرحموا لأنّهم خلقوا من الغضب و جبّلوا على القهر لا لذّة لهم إلّا فيه، ما بين منكبيهم مسيرة سنة أو كما بين المشرق و المغرب يضرب أحدهم بمقمعته ضربة واحدة سبعين ألفا فيهوون في النار.

[لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ في عقوبة الكفّار [وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ من غير تثاقل و تأخير.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا] يقال لهم عند إدخال الملائكة إيّاهم في النار حسبما أمروا به: [لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أي في هذا اليوم و العذر تجري الإنسان بما يمحوبه ذنوبه [إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الكفر و المعاصي بعد ما نهيتم عنها أشدّ النهي فلا عذر لكم أبدا و قوله: «وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» فمواقف القيامة كثيرة [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً] أبلغ وجوه الاعتذار مثل أن تقول: فعلت و أسأت و في الشرع ترك الذنب لقبحه و الندم على ما فرط منه و العزيمة على ترك المعاودة و تدارك ما أمكنه أن يتدارك و النصح جري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه و النصوح فعول من أبنية المبالغة أي بالغة في النصح و صفت التوبة بذلك على الإسناد المجازيّ و هو وصف التائبين و هو أن ينصحوا أنفسهم بالتوبة و يأتوا بها على طريقها.

و في الحديث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّها الناس توبوا إلى اللّه فإنّي أتوب إلى اللّه في اليوم مائة مرّة و توبة العوامّ عن الزلّات و الخواصّ عن الغفلات و الأخصّ عن رؤية الحسنات و مراتب التوبة كمراتب التقوى فكما أنّ أوّل مراتب التقوى هو الاجتناب عن المنهيّات و آخرها الاتّقاء عن الأنانيّة و البقيّة (؟) فكذلك التوبة أوّلها الرجوع عن المعاصي و آخرها الرجوع عن ذنب الوجود الآنيّة و الإقبال حقيقة على طاعة اللّه بحيث لا يكون له غير الطاعة شغل يشغله و هذه التوبة ترفو جميع خروق وقعت في ثوب دينه

ص: 187

و بالجملة النصوح في التوبة الصدق فيها و ترك ما منه تاب سرّا و علنا قولا و فكرا و هي واجبة على الفور لما في التأخير من الإصرار على المحرّم و الإصرار يجعل الصغيرة كبيرة و قصّة النصوح معروفة و قد شرح حاله المولوي في المثنويّ فراجعه.

[عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يسترها بل يمحوها و يبدلها حسنات [وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] قيل: ورود صيغة المقاربة و الإطماع و و الترجية على سنن الكبرياء فإنّ الملوك يجيبون بلعلّ و عسى و يقع ذلك موقع القطع و الإشعار بأنّه تفضّل و أنّ العبد ينبغي أن يكون بين الخوف و الرجاء و إن بالغ في وظائف العبوديّة.

[يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَ ظرف متعلّق ليدخلكم و الخزي إمّا الفضاحة فيكون تعريضا للكفرة أو من الخزاية بمعنى الحياء و الخجل و هو الأنسب هنا بالنظر إلى شأن الرسول و إن أريد المعنى الأوّل فباعتبار أنّ خزي الامّة لا يخلو عن إنشاء خزي كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في دعائه: اللّهم لا تخزنا يوم القيامة و لم يقل: لا تخزني ليكون دعاؤه عامّا لأمّته و أدخل فيهم نفسه العالية من كمال مروّته و قيل: الخزي كناية عن العذاب للملازمة بينهما و الأولى العموم لكلّ خزي يكون سببا من الأسباب من الحساب و الكتاب و العقاب و غيرها.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ عطف على النبيّ و معه صلة أي لا يخزي معه الّذين آمنوا و اتّبعوه في الإيمان [نُورُهُمْ أي نور إيمانهم و طاعتهم على الصراط [يَسْعى السعي المشي القويّ السريع إشارة إلى اللمعان [بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي قدّامهم يراد بين أيديهم قدّام الشي ء لكونه بين اليدين غالبا [وَ بِأَيْمانِهِمْ أي و عن أيمانهم و تخصيص الجهتين لأنّ أرباب السعادة يؤتون صحائف أعمالهم منها كما أنّ أصحاب الشقاوة يؤتون من شمائلهم و من وراء ظهورهم فلكون ذلك علامة لذلك و قائدا على الصراط إلى دخول الجنّة و في الحديث من المؤمنون من نوره أبعد ما بيننا و بين عدن و منهم من نوره لا يجاوزه قدمه.

ص: 188

[يَقُولُونَ أي المؤمنين يقولون [رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا] المراد بالإتمام الإدامة إلى أن يصلوا إلى دار السلام [وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] من الإتمام و المغفرة و يمكن أنّ نورهم لمّا كان بحسب أعمالهم متفاوتا فيسألون إتمامه تفضّلا فيكون قوله:

«يَقُولُونَ» من باب بنو فلان قتلوا زيدا.

ثمّ إنّ الأنوار كثيرة نور الصفات و نور الأفعال و نور العبادات مثل الصلاة و و الوضوء كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الصلاة نور و السرّ فيه أنّ المصلّي يناجي ربّه و يتوجّه إليه و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ العبد إذا قام يصلّي فإنّ اللّه ينصب له وجهه للقائه و اللّه نور النور فالذات المظلمة إذا واجهت الذات المنيرة و قابلتها بمحاذاة صحيحة فإنّها تكتسب ألا ترى أنّ القمر الّذي هو في ذاته جسم أسود مظلم كمد كثيف كيف يكتسب النور بالمقابلة و كيف يتفاوت نوره بحسب التفاوت الحاصل في المحاذاة و المقابلة فإذا تمّت المقابلة كمل اكتساب نوره و في الحديث: بشّر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التامّ يوم القيامة.

[يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ] بالسيف [وَ الْمُنافِقِينَ و جاهد المنافقين بالحجّة و الموعظة و القول الرادع عن القبيح لا بالحرب لأنّه فيه أيضا بذل المجهود فلذلك سمّي جهادا و إنّ رسول اللّه لم يقاتل منافقا قطّ إنّما كان يتألّفهم و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قرء جاهد الكفّار بالمنافقين.

[وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي اشدد عليهم قيل: أي على المنافقين من غير محاباة و قيل:

اشدد عليهم في اقامة الحدّ عليهم قال الحسن: أكثر من كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقون فأمر اللّه تعالى أن يغلظ عليهم في الحدود.

[وَ مَأْواهُمْ أي الكفّار و المنافقين [جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ] و المستقرّ.

ثمّ مثل اللّه و ضرب لأزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثلا حثّا لهنّ على الطاعة و بيانا لهنّ أنّ مصاحبة النبيّ مع مخالفته لا ينفعهنّ فقال: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا] و ضرب المثل عبارة عن إيراد حالة غريبة لنعرف بها حالة اخرى مشاكلة لها في الغرابة أي جعل

ص: 189

اللّه مثالا لحال هؤلاء الكفّار حالا و مالا و مثلا مفعول ثان لضرب [امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ] أي حالهما و امرأة نوح اسمها واعلة أو والعة و امرأة لوط هي واهلة.

[كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ و المراد بكونهما تحتهما كونهما في حكمهما و تصرّفهما بعلاقة النكاح و صالحين صفة عبدين أي كانتا تحت نكاح نبيّين و في عصمة رسولين و حيازة سعادتهما [فَخانَتاهُما] بيان لما صدر عنها من الخيانة العظيمة بالكفر و النفاق و النسبة إلى الجنون و الدلالة على الأضياف ليتعرّضوا لهم بالفجور و المراد بالخيانة هذه الأمور لا البغاء فإنّه ما بغت امرأة نبيّ قطّ فالبغيّ للزوجة أشدّ في إيراث الأنفة لأهل العار و الناموس من الكفر و إن كان الكفر أشدّ منه جرما يؤاخذ به العبد يوم القيامة.

[فَلَمْ يُغْنِيا] أي فلم يغن النبيّان [عَنْهُما] عن تينك المرأتين بسبب حقّ الزواج [مِنَ اللَّهِ أي من عذاب اللّه [شَيْئاً] من الإغناء أي لم يدفعا العذاب عنهما فغرقت امرأة نوح و أمطرت بالحجارة امرأة لوط.

[وَ قِيلَ لهما] عند موتها أو يوم القيامة و صيغة الماضي للتحقيق قاله الملائكة الموكّلون بالعذاب: [ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ من الكفرة المعذّبين و جمع المذكّر لأنّهنّ لا ينفردن بالدخول و إذا اجتمعا فالغلبة للذكور فتحقّق أنّ الاتّصالات الدينيّة و الروحانيّة هي المؤثّرة فحسب و أمّا العلائق الصوريّة و الدنيويّة لا يبقى لها أثر بعد الموت.

[وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ سبحانه حالها مثلا لحال المؤمنين بأنّ وصلة الكفر لا يضرّها حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء اللّه و هي في أعلى غرف الجنّة و المراد آسية بنت مزاحم و في الآية حثّ للمؤمنين على الصبر في الشدّة و الثبات في الدين حتّى لا يكونوا أضعف من امرأة فرعون.

[إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي بيد قدرتك [عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ] أي قريبا من رحمتك لأنّ اللّه منزّه عن الحلول في مكان أو المراد ابن لي من عند كرمك و فضلك لا باستحقاق منّي قيل: إنّها لمّا قالت: ذلك: رفعت الحجب حتّى رأت بيتها في الجنّة من درّة بيضاء

ص: 190

و انتزع روحها [وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ الجاهل و عمله الباطل و سوء جواره [وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ عن القبط التابعين له في الظلم.

روي أنّه لمّا غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون و قيل: هي عمّة موسى فلمّا تبيّن لفرعون إسلامها طلب منها أن ترجع عن إيمانها فأبت فأوتد يديها و رجليها بأربعة أوتاد و ربّطها في الشمس فأمر اللّه ملائكته أن يظلّوها بأجنحتهم و أراها اللّه بيتها في الجنّة بحيث نسيت ما هي فيه من العذاب فضحكت فعند ذلك قالوا هي مجنونة تضحك و هي في العذاب و قال الضحّاك: أمر فرعون بأن يلقى عليها حجر رحى و هي في الأوتاد فقالت: «رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ» فما وصل الحجر إليها حتّى رفع روحها إلى الجنّة فالقي الحجر عليها بعد خروج روحها، و مسألة الخلاص و الالتجاء إلى اللّه عند المحن و البلاء من سير الصالحين و يحسن إظهار التجلّد للهدي و يقبح غير العجز عند الأحبّة.

[وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ عطف على امرأة فرعون و المعنى و ضرب اللّه مثلا للّذين آمنوا حال مريم ابنة عمران و مريم بمعنى العابدة عندهم الإحصان العفاف أي حفظت فرجها عن مساس الرجال مطلقا حراما و حلالا و قال السهيليّ: معنى إحصان الفرج طهارة الثوب يريد فرج القميص يعني لم يعلّق بثوبها ريبة و سمّي الفرج بالسوءة استعارة من هذا المعنى و فروج القميص أربعة الكمّان و الأعلى و الأسفل فلا يذهبنّ وهمك إلى غير هذا لأنّ القرآن أنزه معنى و أوجز لفظا و أحسن عبارة من أن يريد معنى ذهب إليه الناس.

[فَنَفَخْنا فِيهِ الباء سببيّة أي نفخنا و النفخ الريح في الشي ء بسبب ذلك الإحسان في ما انفرج من جيبها و فرج درعها و هو إلى التذكير أقرب و إذا كان المراد من الفرج معنى المتبادر المعروف فحينئذ قوله: «فِيهِ» من باب الاستخدام و أراد بالضمير معنى الثاني الّذي فسّره السهيليّ بالدرع و فروجه و قد نفخ جبرئيل في قميصها [مِنْ رُوحِنا] أي من روح خلقناه بلا توسّط أصل و أضاف الروح إلى ذاته تفخيما لها و تشريفا

ص: 191

لعيسى أو المعنى من جهته روحنا جبرئيل.

[وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها] معطوف على أحصنت أي آمنت بالصحف المنزلة على الأنبياء أو أيقنت بالبشارات و بما يكلّم اللّه به و أوحاه [وَ كُتُبِهِ المنزلة على رسله مثل التوراة و الإنجيل متقدّمة أو متأخّرة و من وحّد و قرء و كتابه فالمراد الإنجيل [وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ و من المطيعين المعتكفين في المسجد الأقصى و التذكير لتغليب المذكّر فإنّ مريم جعلت داخلة في ذلك اللفظ مع المذكّرين و الإشعار بأنّ طاعتها لم تقصر عن طاعات الرجال حتّى عدّت من جملتهم أو كانت من القانتين أي من نسلهم لأنّها من أعقاب موسى و هارون و لأنّ رهطها و عشيرتها كانوا من أهل بيت طاعة و صلاح و عن أبي موسى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: الكمّل من الرجال كثير و لم يكمل من النساء إلّا أربعة: آسيه امرأة فرعون و مريم ابنة عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تمّت السورة

ص: 192

سورة الملك

اشارة

و تسمّى سورة المنجية لأنّها تنجي صاحبها من عذاب القبر و قد ورد به الخبر.

و تسمّى الواقية لما روي أنّها الواقية من عذاب القبر. و هي مكّيّة.

فضلها: ابيّ بن كعب عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و من قرء سورة تبارك فكأنّما أحيا ليلة القدر.

و عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وددت أنّ تبارك في قلب كلّ مؤمن.

و عن أبي هريرة قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ سورة تبارك من كتاب اللّه ما هي إلّا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته يوم القيامة من النار فأدخلته الجنّة.

و عن ابن مسعود قال: إذا وضع الميّت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل لأنّه قد كان يقوم بسورة الملك ثمّ يؤتي من قبل رأسه فيقول لسانه: ليس لكم عليه سبيل لأنّه يقرء بي سورة الملك ثمّ قال: هي المانعة من عذاب القبر، و هي في التوراة سورة الملك من قرءها فقد أكثر و أطنب و لم يكتب من الغافلين.

ص: 193

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الملك (67): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4)

وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)

البركة الثبوت و النماء و الزيادة باعتبار تعاليه عمّا سواه في ذاته و صفاته و أفعاله و أمّا قوله: تخلّقوا بأخلاق اللّه فباعتبار اللوازم و بقدر الاستعداد من حصول فيوضاته سبحانه لا باعتبار الحقيقة فمثل إحياء عيسى الأموات من اللّه على يده بقدر استعداده منه تعالى له [الَّذِي بقبضته [الْمُلْكُ و التصرّف الكلّيّ بأمر و نهي و إعطاء و منع و إحياء و إماتة و غيره [وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ].

[الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ] الموصول بدل الموصول الأوّل و الحياة ما يصحّ بوجوده الإحساس و الموت عدم ذلك و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يذبح الموت بين الجنّة و النار على صورة كبش و لا شكّ أنّ الذبح إنّما يتعلّق بالأعيان لأنّ عالم الآخرة عالم الصفة يعني إنّ كلّ صفة باطنة في الدنيا تتصوّر بصورة ظاهرة في العقبى حسنة أو قبيحة فلا شي ء من المعاني إلّا و هو مجسّم مصوّر.

و معنى قوله: «خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ» إيجاد ذلك المصوّر و إعدامه و إيجاد أثر الحياة بنفخ الروح و إضاءة ظاهر البدن و باطنه و إيجاد أثر الموت بقطع ضوء الروح عن ظاهر الحيّ و باطنه و بجعله معدوم الحركة فعدم تلك الملكة ليس عدما محضا بل فيه

ص: 194

شائبة الوجود و إلّا لم يعتبر فيه المحلّ القابل للأمر الوجوديّ فلذلك صحّ تعلّق الخلق بالموت كتعلّقه بالحياة و هذا التقرير دفع لما اعترضوا به من أنّ العدم حال يكون مخلوقا هذا كلّه إذا كان الموت أمرا وجوديّا في الجملة و لكن لو كان الموت عبارة عن عدم الحياة فمعنى «خَلَقَ الْمَوْتَ» أي قدّر الموت فإنّ الخلق يجي ء بمعنى التقدير فمن جعله نصب عينه أفلح و في الحديث لو لا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه: الفقر و المرض و الموت ثمّ إنّ الألف و اللّام في «الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ» عوض عن المضاف إليه أي موتكم و حياتكم أيّها المكلّفون.

[لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا] اللّام لام العلّة و الغرض خلافا للأشاعرة أي ليعاملكم معاملة المختبر حتّى يجازيكم بموجب عملكم و البلوى الاختبار و ليس هنا على حقيقته لأنّ الاختبار إنّما يتصوّر ممّن يخفى عليه عواقب الأمور فالابتلاء من اللّه أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في الغيب لأنّه رتّب سبحانه الجزاء بعد وقوع الفعل و لو أنّه سبحانه يعلم الفعل من العبد قبل وقوعه لكنّ الجزاء يقع على تفاوت المراتب و الطبقات من العلم و العمل و أنّ العمل غير مختصّ بعمل الجوارح و لذلك فسّره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله:

أيّكم أحسن عقلا و أورع من محارم اللّه و أسرع في طاعته و أتمّ عقلا لمراده تعالى.

و أفضل العمل و أوجبه و أولاه معرفة اللّه و طريقها النظر و التفكّر في بدائع صنعه و آياته المنصوبة في الأنفس و الآفاق كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تفضّلوني على يونس بن متّى فإنّه كان يرفع له كلّ يوم مثل عمل أهل الأرض و ذلك لكمال تدبّر يونس عليه السّلام في بدائع صنعه تعالى ضرورة أنّ أحدا لا يقدر على أن يعمل بجوارحه كلّ يوم مثل عمل أهل الأرض و الحديث إشارة إلى أنّ أعمال المقرّبين واحد منها مقابل بمائة ألف باعتبار التفاوت بالنسبة إلى الأشخاص مثل بيتوتة أمير المؤمنين تلك الليلة في فراش رسول اللّه و لعلّ المراد من الحديث في قوله: «مثل عمل أهل الأرض» أهل الأرض في زمانه و قوله:

لا تفضّلوني خضوع منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ] و الحال أنّه غالب على حكمه غفور لمن تاب منهم.

[الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ أبدعها من غير مثال [طِباقاً] صفة للسموات و الصفة

ص: 195

للأعداد يكون للمضاف إليه مثل (1) «سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ»* و طابقت بين الشيئين إذا جعلتها على حذو واحد و ألزمتها و المعنى مطابقة بعضها فوق بعض و سماء فوق سماء غلظ كلّ سماء خمسمائة عام و كذا جوّها بلا علاقة و لا عماد و لا مماسّة فالسماء الاولى على ما قيل:

موج ممنوع من السيلان و الثانية من درّة بيضاء و الثالثة من حديد و الرابعة من نحاس أو صفر و الخامسة من فضّة و السادسة من ذهب و السابعة من ياقوتة حمراء و ما فوقها من الكرسيّ و العرش بحار من نور.

[ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ و الخطاب لرسوله أي اختلاف و تناقض من طريق الحكمة و ليس فيها عدم تناسب بل مستو مستقيم قيل: سلب التفاوت عنها مطابقة بعضها بعضا و حسن انتظامها لأنّ أحد المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر فحينئذ لا يلائمه فلو قيل: إنّ التفاوت حاصل فيها أو في المخلوقات كما نشاهد مثل أنّ الليل غير النهار و في السماء الاولى امور ليس في الثانية و هكذا فكيف يكون ليس في خلق الرحمن من تفاوت فالجواب بأنّ المعنى ليس تناقص أو تزايد غير محتاج إليه أو محتاج إليه بل الكلّ مستقيمة على قدر موافق للحكمة لا ينبغي أن ينقص منها شي ء أو يزيد فيها شي ء.

[فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ] أي ردّ البصر و أدره و استقص في النظر في السماء هل ترى شقوق و فتوق أو و هن و خلل؟

[فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ] أي ردّ البصر و أدره و استقص في النظر في السماء هل ترى شقوق و فتوق أو وهن و خلل؟

[ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرّر النظر و أدم و ارجع النظر و البصر مرّة بعد اخرى و لا يريد حقيقة التثنية لقوله: «وَ هُوَ حَسِيرٌ» و لا يصير حسرا بمرّتين و ذلك مثل قولهم: لبّيك و سعديك و المعنى إلبابا بعد إلباب و إسعادا بعد إسعاد كلّما دعوتني فأنا ذو إجابة و ثبات بمكاني بعد ثبات من قولهم: لبّ بالمكان و ألبّ إذا أقام.

[يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً] أي يرجع إليك بصرك بعيدا عن نيل المراد ذليلا صاغرا [وَ هُوَ حَسِيرٌ] أي طال، و خاسئا حال من البصر يقال: خسأ الكلب تباعد من ذلّه كأنّه زجر و طرد مستهينا به و ذلك إذا قيل له: اخسأ.

ص: 196


1- يوسف: 43.

[وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا] تصدير الجملة بالقسم لإبراز بيان خلوّها عن شائبة القصور و كونها في غاية الحسن و الانتظام أي و باللّه لقد زيّنّا أقرب السماوات إلى الأرض و الناس و جمّلناها، و الدنيا تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب [بِمَصابِيحَ * أي بالسرج و التنكير للتعظيم يعني بكواكب مضيئة بالليل كإضاءة السرج من السيّارات و الثوابت تتراءى كلّها مع أنّ بعضها في سائر السماوات لكن لمّا كانت السماوات صافية و أجراما شفّافة فهي لا بدّ و أن تظهر و تلوح منها.

[وَ جَعَلْناها] أي المصابيح المعبّر بها عن النجوم [رُجُوماً] جمع رجم بالفتح و هو ما يرجم به و يرمي للطرد و الزجر أو جمع راجم كسجود جمع ساجد [لِلشَّياطِينِ و هم كفّار الجنّ و المعنى و جعلنا للكواكب فائدة اخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من الكواكب لا نفس الكواكب فإنّها قارّة في الفلك على حالها فمنهم من يقتله الشهاب و منهم من يفسد عضوا من أعضائه أو عقله و الشهاب شعلة ساطعة من نار تنفصل من النجم فأطلق عليها النجم. و قالت الفلاسفة: إنّ الشهب هي أجزاء ناريّة تحصل في الجوّ عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة و اتّصالها بالنار الّتي دون الفلك و هذا القول بمعزل عن القبول مع الآية و دلائل لا يسع هذا المقام بيانه.

[وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ] أي هيّأنا للشياطين بعد الإحراق بالشهب عذاب النار المسعرة الموقدة.

[سورة الملك (67): الآيات 6 الى 11]

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)

فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)

[وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من الشياطين و غيرهم بسبب كفرهم [عَذابُ جَهَنَّمَ أي الدركة الناريّة الّتي تلقاهم بالتجهّم و العبوسة و الكلوحة [وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ]

ص: 197

جهنّم و يجوز أن يكون جهنّم من الجهنام و هي بئر بعيدة القعر.

و دركات النار سبع و هي جهنّم ثمّ لظى ثم الحطّة ثمّ السقر ثمّ الجحيم ثمّ الهاوية و لكن كلّ من هذه الأسماء يطلق على جهنّم و كلّ فرقة دركة من الدركات السبع كعصاة أهل التوحيد و النصارى و اليهود و الصابئة و المجوس و المشركين و المنافقين و لم يذكروا الشياطين في واحدة من الدركات السبع و لعلّهم يقسّمون على مراتب إضلالهم و ضلالهم كما قال سبحانه: «وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ» (1) أي مع شياطينهم.

[إِذا أُلْقُوا] أي الّذين كفروا في جهنّم و طرحوا كما يطرح الحبّ في النار و في تعبير الإلقاء دون الإدخال إشعار بتحقيرهم و كون جهنّم سفليّة [سَمِعُوا لَها] لجهنّم نفسها [شَهِيقاً] أي صوتا كصوت الحمار الّذي هو أنكر الأصوات و أفظعها غضبا عليهم و هو حسيس النار قالوا: الشهيق في الصدر و الزفير في الحلق أو الشهيق آخر صوت الحمير و الزفير أوّله و الشهيق ردّ النفس و الزفير إخراجه.

[وَ هِيَ تَفُورُ] و الحال أنّها يغلي لهم غليان المرجل بما فيها من شدّة التلهّب و التعسّر فهم لا يزالون صاعدين هابطين كالحبّ إذا كان الماء يغلي به لا قرار لهم أصلا و الفور شدّة الغليان و فعلت كذا من فوري أي من غليان الحال [تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ] يقال: فلان يكاد ينشقّ من غيظه إذا وصف بالإفراط في الغضب و التميّز الانفصال و التقطّع و تميّز أصله تتميّز أي يقرب من شدّة غيظها أن يتمزّق تركيبها و استعير لفظ الغيظ لهذا الاستعمال استعارة تصريحيّة و ذلك كلّه لغضب سيّدها و تأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمام لكلّ زمام سبعون ألف ملك و هي من شدّة الغيظ تقوى على الملائكة و تحمل على الناس فتقطع الأزمة و تحطم أهل المحشر و تقول: لأنتقمنّ اليوم ممّن أكل رزق اللّه و عبد غيره فلا يردّها عنهم إلّا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقابلها بنوره فترجع مع أنّ لكلّ ملك من القوّة ما لو أن امر به أن يقتلع الأرض و ما عليها من الجبال و يصعد بها فعل من غير كلفة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد أدنيت منّي النار حتّى جعلت أنفثها خشية أن تغشاكم.

ص: 198


1- ابراهيم: 94.

قال جعفر الطيّار: كنت مع النبيّ في طريق فاشتدّت عليّ العطش فعلمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان حذاءنا جبل فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بلّغ منّي السلام إلى هذا الجبل و قل له يسقيك إن كان فيه ماء قال: فذهبت إليه قلت: السلام عليك أيّها الجبل فقال الجبل بنطق فصيح:

لبّيك يا رسول اللّه فعرضت القصّة فقال الجبل: بلّغ سلامي إلى رسول اللّه و قل:

منذ سمعت قوله تعالى: «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ» (1) بكيت لخوف أن أكون من الحجارة الّتي هي وقود النار بحيث لم يبق فيّ ماء.

[كُلَّما أُلْقِيَ فِيها] أي في جهنّم [فَوْجٌ جماعة الكفرة بدفع الزبانية [سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها] أي سأل الخزنة و الزبانية ذلك الفوج و ضمير الجمع باعتبار المعنى [أَ لَمْ يَأْتِكُمْ في الدنيا [نَذِيرٌ] منذر يتلو عليكم آيات ربّكم و ينذركم لقاء يومكم هذا و الإنذار لا يكون إلّا في التخويف.

[قالُوا] اعترافا: [بَلى لإيجاب نفي إتيان التذكير [قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا] ذلك النذير في كونه نذيرا من اللّه فإن قلت: هذا يقتضي أن لا يدخلها الفاسق المصرّ لأنّه لم يكذّب النذير فالجواب أنّ الأدلّة السمعيّة دلّت على تعذيب العصاة مطلقا [ما نَزَّلَ اللَّهُ على أحد [مِنْ شَيْ ءٍ] من الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات عليكم و قيل: المراد ما نزّل اللّه من كتاب و لا رسول [إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم أيّها الرسل في هذا الادّعاء [إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ] بعيد عن الحقّ.

[وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ من النذر و ما جاءونا به و دعونا إليه [ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ] و لو كنّا نسمع من يعي و نتفكّر و نعقل عقل من يميّز ما كنّا من أصحاب السعير و عن أنس قال: أثنى قوم على رجل عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

كيف عقل الرجل؟ قالوا: نخبرك عن اجتهاده في العبادة و أصناف الخير و تسألنا عن عقله؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الأحمق يصيب بتحمّقه أعظم من فجور الفاجر و إنّما يرتفع العباد غدا في الدرجات و ينالون الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم.

ثمّ قال: [فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ في ذلك الوقت الّذي لا ينفعهم الإقرار فيه و الإقرار

ص: 199


1- البقرة: 24.

من قرّ الشي ء يقرّ قرارا إذا ثبت و الاعتراف مأخوذ من المعرفة و هو الإقرار عن معرفة و الذنب مصدرا لا يثنّى و لا يجمع و يفيد فائدة الجمع بكونه اسم الجنس و شامل للقليل و الكثير أو أريد به الكفر و هو و إن كان على أنواع فهو على ملّة واحدة.

[فَسُحْقاً] مصدر إمّا لفعل من المزيد بحذف الزائد أي فأسحقهم اللّه من رحمته سحقا أي إسحاقا و إبعادا أو أنّهم سحقوا سحقا أي بعدوا بعدا [لِأَصْحابِ السَّعِيرِ] و قيل: ألزمهم اللّه سحقا عن الخير و بعدا عن الرحمة فجاء المصدر على غير لفظه مثل «نَباتاً حَسَناً» (1) و معنى سحقته باعدته بالتفريق عن حال اجتماعه حتّى صار كالغبار و اللام في قوله: «لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» للبيان.

[سورة الملك (67): الآيات 12 الى 21]

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)

أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ (21)

[إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ و يخافون عذابه و هو عذاب القيامة و يوم الموت و يوم القبر خوفا و راء عيونهم حالكون ذلك العذاب غائبا عنهم و لم يعاينوه [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ] عظيمة و لمّا كان السرور إنّما يتمّ بالإعطاء قال: و [وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ] أي ثواب عظيم في الآخرة قال مسروق: إنّ المخافة قبل الرجاء فإنّ اللّه خلق جنّة و نارا فلن تخلصوا الجنّة حتّى تمرّوا بالنار قال تعالى: «وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» (2).

قال فضيل بن عياض: إذا قيل لك: أ تخاف اللّه؟ فاسكت فإنّك إن قلت: لا فقد

ص: 200


1- آل عمران: 37.
2- مريم: 71.

جئت بأمر عظيم و إذا قلت: نعم فالخائف لا يكون على ما أنت عليه؛ ألا ترى أنّ اللّه لمّا اتّخذ إبراهيم عليه السّلام خليلا ألقى في قلبه الوجل حتّى أنّ خفقان قلبه يسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء.

[وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ قال ابن عبّاس نزلت في المشركين كانوا يتكلّمون في شأن النبيّ فيما بينهم بأشياء فيظهره اللّه رسوله عليها فقال بعضهم لبعض أسرّوا قولكم كيلا يسمع ربّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيخبره بما تقولون فقال لهم: «وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ» الآية [إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] و بمضمرات جميع الناس و أسرارهم و بما في قلوبهم.

[أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي ألا يعلم اللّه من خلقه [وَ هُوَ] و الحال أنّه [اللَّطِيفُ العالم بدقائق الأشياء [الْخَبِيرُ] المطّلع ببواطنها و إنّما يستحقّ اسم اللطيف من يعلم دقائق المصالح و غوامضها ثمّ يسلك في إيصالها إلى المستصلح على سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل و اللطف في الإدراك ثمّ معنى اللطف و لا يتصوّر كما ذلك في العلم و الفعل إلّا للّه.

[هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ لمنافعكم اختلفوا في مبلغ الأرض و كميّتها قال مكحول: ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمسمائة سنة مائتان من ذلك في البحر و مائتان ليس يسكنها أحد و ثمانون فيها يأجوج و مأجوج و عشرون فيها سائر الخلق قال قتادة: بسيطها من حيث محيط بها البحر المحيط أربعة و عشرون ألف فرسخ فملك السودان منها اثنا عشر ألف فرسخ و ملك الروم ثمانية آلاف فرسخ و ملك العجم و الترك ثلاثة آلاف فرسخ و ملك العرب ألف فرسخ، قال عبد اللّه بن عمر: ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس.

و قد خرّج بطلميوس مقدار قطر الأرض في المجسطي بالتقريب و هو كتاب له يذكر فيه القواعد الّتي يتوسّل بها في بيان الأوضاع الفلكيّة و الأرضيّة قال: بسيط الأرض مائة ألف و ثمانون ألف اسطاربوس و هي أربعة و عشرون ألف ميل فتكون على هذا ثمانية آلاف فرسخ و الفرسخ ثلاثة أميال و ثلاثة آلاف ذراع بالمكّيّ و الذراع ثلاثة أشبار و كلّ شبر اثنتا عشر إصبعا و الأصبع خمس شعيرات مضمومات بطون بعضها إلى

ص: 201

بعض و عرض الشعيرة الواحدة ستّ شعرات بغل و الأسطاربوس أربعمائة ألف ذراع.

قوله: [ذَلُولًا] أي منقادة يسهل عليكم السلوك فيها و السكونة بها و لتتوصّلوا إلى ما ينفعكم و الذلّ بالضمّ و الكسر ضدّ الصعوبة و الذلّ بمعنى الهوان بالضمّ فقط و الذلول فعول بمعنى الفاعل و لذا عري عن علامة التأنيث مع أنّ الأرض مؤنّث سماعيّ.

[فَامْشُوا فِي مَناكِبِها] و الأمر أمر إباحة أي فاسلكوا في جوانبها حيث إنّ منكبي الرجل جانباه و استعير للأرض كاستعارة الظهر لها في قوله: (1) «ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها» و المراد من مناكب الأرض جبالها و شبّهت بالمناكب من حيث الارتفاع.

[وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ من الحبوب و الفواكه و نحوها [وَ إِلَيْهِ أي إلى اللّه وحده [النُّشُورُ] و المرجع بعد البعث.

[أَ أَمِنْتُمْ استفهام توبيخ [مَنْ فِي السَّماءِ] أي هل أمنتم من عذاب ملائكة السماء الموكّلين بتدبير أمر العالم أو اللّه سبحانه لا أنّه تعالى في جهة السماء لأنّ ذلك من صفات الأجسام و المراد بالفوقيّة القدرة و السلطنة لا فوقيّة الجهة مثل رفع الأيدي إلى السماء في الدعاء لكونها محلّ البركات و قبلة الدعاء و يجوز أن يكون الظرفيّة باعتبار زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنّه تعالى في السماء فحينئذ المعنى: أنتم من تزعمون أنّه في السماء.

[أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ و يقلبها عليكم فيغيبكم فيها كما فعل بقارون و الباء في مثل هذه المواضع للتعدية و خسف اللّه به الأرض أي غاب به فيها [فَإِذا هِيَ تَمُورُ] و تضطرب و تتحرّك و أنتم مخسفون فيها و الأرض تدور بكم إلى الأرض السفلى و المور التردّد في الذهاب و المجي ء في مثل الموج.

[أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً] أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط و أصحاب الفيل و المعنى هل جعل لكم من هذين أمانا؟ و إذ لا أمان لكم منهما فما معنى تماديكم في شرككم و عصيانكم [فَسَتَعْلَمُونَ عن قريب [كَيْفَ نَذِيرِ] أي إنذاري عند مشاهدتكم للمنذر به أهو واقع أم لا؟ أ شديد أم ضعيف؟

ص: 202


1- فاطر: 45.

[وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفّار مكّة من كفّار الأمم السابقة كالمذكورين و أضرابهم و الالتفات إلى الغيبة إشعار بالإعراض عنهم [فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ] أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب و إنكار اللّه على عبده أن يفعل به أمرا صعبا هائلا لا يعرف.

[أَ وَ لَمْ يَرَوْا] و ينظروا [إِلَى الطَّيْرِ] فالرؤية بصريّة لأنّها تتعدّى بإلى و أمّا القلبيّة فتعديتها بفي و الطير يطلق على جنس الطائر إمّا لكون جمعه في الأصل مثل ركب و راكب أو مصدره جعل اسما لجنسه.

[فَوْقَهُمْ ظرفا ليروا أو حالا من الطير أي كائنات فوقهم [صافَّاتٍ و الصفّ أن يجعل الشي ء على خطّ مستو كالناس و الأشجار و المعنى باسطات أجنحتهنّ في الجوّ عند طيرانها فإنّهنّ إذا بسطنها صففن قوادمها صفّا و هي عشر في كلّ جناح الواحدة قادمة.

[وَ يَقْبِضْنَ و يضممنها إذا ضربن بها جنوبهنّ حينا فحينا للاستظهار به على التحرّك فإنّ الطيران كالسباحة في الماء فكما أنّ السباحة مدّ الأطراف و بسطها فكذا الطيران لا بدّ فيه صفّ الأجنحة و بسطها و حاصل المعنى أنّ الطير في الطيران صافّات و قابضات و لذا جاز العطف مع أنّ الثانية فعليّة.

[ما يُمْسِكُهُنَ في الجوّ عن السقوط عند الصفّ و القبض على خلاف مقتضى الطبع الجسمانيّ فإنّه يقتضي الوقوع إلى السفل [إِلَّا الرَّحْمنُ الواسع رحمته كلّ شي ء بأن خلقهنّ على خصائص و صنع تركيب للجري في الهواء [إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ] يعلم تدبير العجائب و يشاهد و ينكشف له كمال صفات المبصرات.

[أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أم منقطعة مقدّرة ببل لتوبيخه و المعنى بل من هذا الحقير الّذي هو في زعمكم جند لكم و عون من آلهتكم ينصركم عند نزول الآفات و العذاب من غير اللّه و ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو حاصل الكلام أنّ اللّه الّذي له هذه الأوصاف ينصركم و ينجيكم من الخسف و الحصب إن أصابكم أم الّذي تزعمون أنّه جند لكم و على هذا المعنى أم متّصلة.

[إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ] إن نافية أي ما هم في زعمهم أنّهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم و أنّ آلهتهم يحفظهم من بأس اللّه إلّا في غرور عظيم.

ص: 203

[أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ و يعطيكم الرزق [إِنْ أَمْسَكَ الرّحمن و حبس [رِزْقَهُ بإمساك المطر و مباديه و لو كان الرزق موجودا أو كثيرا و سهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسك اللّه عنه قوّة الابتلاع عجز أهل السماوات و الأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة كما يقع هذا الأمر أحيانا لبعض المرضى. قيل: كان الكفّار يمتنعون عن الإيمان و يعاندون الرسول عليه السّلام معتمدين على شيئين: أحدهما بمالهم و عددهم و الثاني اعتقادهم أنّ الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات و تدفع عنهم الآفات فأبطل اللّه عليهم الأوّل بقوله: «أمّن هذا الّذي هو جند لكم» إلخ، و ردّ عليهم الثاني بقوله: «أمّن هذا الّذي يرزقكم» إلخ.

[بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ] الكلام منبئ عن مقدّر يستدعيه المقام كأنّه قيل:

إنّهم لم يذعنوا للحقّ بل لجّوا و تمادوا في عتوّ و عناد و استكبار و شراد عن الحقّ.

[سورة الملك (67): الآيات 22 الى 30]

أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)

[أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى مثل ضرب للمشرك و الموحّد توضيحا لحالهما و إلغاء لترتيب البيان و تقديم الهمزة على إلغاء صورة لاقتضائها الصدارة و أمّا بحسب المعنى فالأمر بالعكس حتّى لو قيل مكان الهمزة «هل» لقيل: فهل يمشي مكبّا و المكبّ الساقط على وجهه و المعنى فمن يمشي و هو يعترّ في كلّ ساعة و يخرّ على وجهه في كلّ خطوة لتوعير طريقه و اختلال قواء أشدّ هداية و رشدا إلى المقصد الّذي يؤمّه.

[أَمَّنْ أي هو أهدى أم من [يَمْشِي سَوِيًّا] قائما سالما من العثار [عَلى صِراطٍ

ص: 204

مُسْتَقِيمٍ مستوي الأجزاء و قيل: المكبّ كناية عن الأعمى قيل للنبيّ: و كيف يمشون على وجوههم؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الّذين أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم.

[هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ و جعل لكم السمع أيّها الكفّار إنشاء بعيدا بأن صوّركم فأحسن صوركم [وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا آيات اللّه و تعملوا بموجبها و قدّم السمع لأنّ فوائد السمع أقوى بالنسبة إلى عموم الناس و إن كانت فوائد البصر أعلى بالنسبة إلى الخواصّ [وَ الْأَبْصارَ] لتنظروا بها إلى الآيات الكونيّة الشاهدة بشئون الخالق [وَ الْأَفْئِدَةَ] و القلوب لتتفكّروا بها فيما تسمعونه و تتعقّلونه من الواردات عليكم و التفؤد التوقّد و منه الفؤاد للقلب لأنّ العلوم و المعارف يتّقد و ينكشف به و هو كالحوض حيث ينصبّ إليه ما حصل من طريق السمع و البصر.

[قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ باستعمالها فيما خلقت لأجله و قليلا صفة لمحذوف و ما مزيدة لتأكيد القلّة أي شكرا قليلا تشكرون و قيل: المراد من القلّة النفي إذا كان الخطاب للكفرة و بمعناه المعروف إذا كان الخطاب للكلّ قال بعض المتّقين:

لو عشت ألف عام في سجدة لربّي شكرا لفضل يوم لم أقض بالتمام

و العام ألف شهر و الشهر ألف عام و اليوم ألف حين و الحين ألف عام

و اعلم أنّ شكر السمع التعلّم و الاستماع من العلماء و المواعظ الحسنة و ردّ أقوال البدعة و الهوى و شكر البصر النظر بالدقّة إلى المصاحف و كتب الدين و إلى وجوه أهل الإيمان و الفقراء بعين الرحمة و شكر القلب قبول أحكام اللّه و اليقين بتوحيده و الخوف و الرجاء منه و به و المحبّة لأوليائه و البغض لأعدائه.

[هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم و كثّركم فيها و ذرأه أي كثره و منه الذرّيّة [وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي إليه تعالى تجمعون و تبعثون للحساب و الجزاء فابنوا أموركم على ذلك و استعدّوا لذلك اليوم و جميع البيان المذكور لإثبات هذا المطلوب.

[وَ يَقُولُونَ من فرط عنادهم أو بطريق الاستهزاء: [مَتى هذَا الْوَعْدُ] أي الحشر الموعود و كانوا يقولون: متى هذا [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به النبيّ و جواب الشرط

ص: 205

محذوف أي كنتم صادقين فيما تخبرون به من مجي ء الساعة فبيّنوا وقته.

[قُلْ ما أعلم الخلق [إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقته [عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ مخوّف بلغة تعرفونها و أمّا العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار.

[فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً] أي فلمّا رأوا العذاب قريبا و ذا قرب أو على أنّه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفا و المراد يوم بدر أو المراد يوم القيامة و رأوا أنّ القيامة قد قامت و ما اعدّ لهم العذاب كما عليه أكثر المفسّرين و أتى بلفظ الماضي لتحقّق وقوعها و أراد به المستقبل [سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا] قبحت وجوههم و ظهر عليها الكأبة و نالهم السوء و يقال لهم: [هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي هذا الّذي كنتم به تستعجلون و تدّعون بتعجيله قال الفرّاء: تدّعون و تدّعون واحد مثل: تدّخرون و تدخرون قيل: هو تدّعون من الدعوى أي تدّعون أن لا جنّة و لا نار.

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ بالأسانيد الصحيحة عن شريك عن الأعمش قال: لمّا رأوا عليّ بن أبي طالب و ماله من الزلفى و التقرّب عنّد اللّه سيئت وجوه الّذين كفروا و عن أبي جعفر عليه السّلام فلمّا رأوا مكانة عليّ من النبيّ سيئت وجوه الّذين كفروا و كذّبوا بفضله و أصل الكلام أنّ رؤية الموعود ساءت وجوههم و السياءة من ساءه الشي ء يسوؤه سوءا و مساءة نقيض سرّه و هذا المعنى متعدّ و يجوز أن يكون لازما بمعنى قبح و منه «ساء مثلا» فالمعنى حينئذ ساءوا و قبحوا و قيل: توبيخا لهم هذا الكلام.

[قُلْ يا خير الخلق: [أَ رَأَيْتُمْ أخبروني خبرا أنتم في الوثوق به مثل الرؤية قال بعضهم: لمّا كان الإخبار قويّا بالرؤية شاع أ رأيت في معنى أخبر [إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ و أماتني و ذلك لما يتربّصون به ريب منون [وَ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين و حصل مقصودكم [أَوْ رَحِمَنا] بتأخير آجالنا [فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ استحقّوه بكفرهم و من ينقذهم و قيل: معنى رحمنا غفرنا أي لا ينجيكم من عذابه أحد سواء متنا أو بقينا إنّما النجاة بالإيمان و العمل الصالح و وضع الكافرين موضع ضمير هم ليتخيّل عليهم بالكفر و بيان نفي الإنجاء بسبب الكفر.

[قُلْ يا محمّد: [هُوَ الرَّحْمنُ الّذي أدعوكم إلى عبادته مولى التنعّم [آمَنَّا بِهِ

ص: 206

و لم نكفر به كما كفرتم [وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا] و فوّضنا أمورنا عليه لا على غيره مثلكم حيث توكّلتم على عدّتكم و عددكم [فَسَتَعْلَمُونَ يا كفّار مكّة [مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ من استفهاميّة أو موصولة منّا و منكم أيّنا المصيب و أيّنا المخطئ.

[قُلْ يا محمّد: [أَ رَأَيْتُمْ أخبروني [إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً] و صار غائرا في الأرض بالكلّيّة و نازلا و ذاهبا فيها و نضب أو غار في المنهبط من الأرض [فَمَنْ يَأْتِيكُمْ على عجزكم [بِماءٍ مَعِينٍ جار، من عان الماء أو معن الماء كلاهما أي ظاهر للعيون بجريه و بسهولة تناوله بالأيدي و كان ماء أهل مكّة من بئرين: بئر زمزم و بئر ميمون الحضرميّ و إنّما خصّ سبحانه من النعم بذكر الماء لأنّه أصل الحياة و هو أهون موجود و أعزّ مفقود.

و في تفسير الزاهديّ إنّ زنديقا سمع معلّما تلقّن تلميذه قوله: «فمن يأتيكم بماء معين» فأجاب الزنديق: يأتي به المعول فلمّا أمسى الزنديق و نام في فراشه فسمع هاتفا و هو يسمع صوته و لا يرى شخصه فهتف الهاتف يا زنديق غار ماء عينك فقل حتّى يأتي به المعول! فعوقب بذهاب ماء عينيه لأنّ الجزاء من جنس العمل، و نعم ما حكى هذه القصّة المولوي في المثنوي نعوذ باللّه من الجرءة على اللّه و ترك حرمة القرآن تمّت السورة بعون اللّه

ص: 207

سورة ن و القلم

اشارة

هي مكّيّة و قيل: بعضها مكّيّة و بعضها مدنيّة.

عليّ بن ميمون عن الصادق عليه السّلام قال: من قرء سورة ن في فريضة أو نافلة آمنه اللّه أن يصيبه في حياته فقرا و أعاذه من ضغطة القبر.

ص: 208

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القلم (68): الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)

وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ (14)

إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

أي هذه سورة «ن» أو بحقّ ن أقسم اللّه بها على سبيل التأكيد في إثبات الحكم على ما عليه عادة الخلق مع ما فيه من بيان عظم شأن المقسم به، و النون حرف واحد في في الكتابة و ثلاثة أحرف في التلفّظ و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف بل ألف حرف و لام حرف و ميم حرف و قال بعضهم: هو مفتاح اسم النور و الناصر. و قيل فيه: إنّه اسم من أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: النون الحوت العظيم قال عكرمة، أقسم اللّه بالحوت الّذي لطخ سهم نمرود بدمه لمّا رمى السهم نحو السماء عاد السهم مختضبا بدم سمكة في بحر معلّق في الهواء فأكرم اللّه ذلك الحوت بأن أقسم به و أحلّ جنسه من غير ذكاة فإنّه لا يحلّ إلّا ميتتان: السمك و الجراد. و قيل: المراد الحوت الّذي احتبس يونس في بطنه. و قيل: هو الحوت الّذي على ظهر الأرض و هو في بحر تحت الأرض السفلى اسمه ليوثا أو يهموت أو برهوت. و قيل: هو الدواة. و قيل: هو نهر في الجنّة قال اللّه: له كن مدادا فحينئذ.

[وَ الْقَلَمِ هو ما يكتب به و الواو للقسم على التقدير الأوّل و للعطف على الثاني و المراد قلم اللّوح كما جاء في الخبر إنّ أوّل ما خلق اللّه القلم و نظر إليه

ص: 209

فانشقّ بنصفين ثمّ قال: له أجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك من الآجال و الأعمال و الأرزاق ثمّ ختم على القلم و هو قلم من نور طوله كما بين السماء و الأرض، و بعد ما خلق القلم خلق النون فدحي الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السماوات و اضطرب النون فمادّت الأرض فأثبتت بالجبال.

و عن ابن عبّاس أنّ المراد بالقلم قلم الكرام الكاتبين أو جنس القلم أقسم اللّه بالدواة و القلم لكثرة منافعها كما قيل: البيان اثنان بيان لسان و بيان بنان و هو باق على الأيّام و بيان اللسان تدرسه الأعوام و او لم يكن للقلم مزيّة سوى كونه آله لتحرير كتب اللّه لكفى به فضلا مرحبا لتعظيمه و من تعظيمه تعظيم برايته فتوضع حيث لا تطأها الأقدام و إلّا أورثت الآلام.

كفى قلم الكتّاب فخرا و رفعةمدى الدهر، أنّ اللّه أقسم بالقلم

[وَ ما يَسْطُرُونَ ما موصولة و العائد محذوف و السطر الصفّ من الكتابة و من القوم الوقوف و ضمير الجمع لأصحاب القلم من الحفظة الملائكة أو غيرهم و لعلّ مناسبة كون «ن» من أسمائه تعالى هي أنّ النون في الرقم نصف دائره محسوسه و نصف دائره معقوله تشعر نقطتها بأحدية ذاته تعالى و النصف المحسوس مظهر و ظرف مداد عالم الخلق و النصف المعقول ظرف عالم الأمر فالمناسبة حاصلة.

قوله: [ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم أي لست مجنونا و ليس شي ء حائلا بين نفسك و عقلك و أنت ملتبس بنعمة ربّك و هي نعمة النبوّة و الرياسة العامّة و المراد تنزيهه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عمّا كانوا ينسبونه إليك حسدا و مكابرة مع كونه في غاية من حصافة العقل و رزانة الرأي و قوله: «بنعمة ربّك» قسم اعترض به بين المحكوم عليه و الحكم- على ما قال أبو حيّان- علي سبيل التأكيد في انتفاء الوصف الذميم عنه و ذهب غيره أيضا أنّ الباء للقسم مثل شيخ نجم الدين في تأويلاته.

و قيل في النزول: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غاب عن خديجة إلى حراء جبل النور قالت خديجة: فلم نجده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإذا هو قد طلع و وجهه متغيّر بلا غبار فقالت له: مالك؟ فذكر نزول جبرئيل و أنّه قال: له اقرأ باسم ربّك فهو أوّل ما نزل من القرآن قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 210

نزل جبرئيل إلى قرار الأرض فتوضّأ و توضّأت ثمّ صلّى و صلّيت معه ركعتين و قال:

هكذا الصلاة يا محمّد فذكر ذلك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لخديجة فذهب خديجة إلى ورقه بل نوفل و هو ابن عمّها و كان قد خالف دين قريش و دخل في النصرانية فجاء ورقه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال:

هل أمرك جبرئيل أن تدعو أحدا؟ فقال: لا فقال ورقة: لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنّك نصرا عزيزا ثمّ مات قبل دعاء الرسول.

و وقعت تلك الواقعة في ألسنة كفّار قريش فقالوا: إنّه مجنون فأقسم اللّه على أنّه ليس بمجنون و هو خمس آيات عن أوّل هذه السورة لكن قال ابن عبّاس: أوّل ما نزل «سبّح اسم ربّك» و «اقرأ» هي الثانية.

قوله: [وَ إِنَّ لَكَ بمقاساة تحمّلك أعباء الرسالة و ألوان الشدائد من جهة الكفّار [لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ و غير مقطوع و منه قيل «المنون» للمنيّة لأنّها تقطع العدد و المدد و يجوز أن يكون معناه غير مكدّر بسبب المنّة.

[وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ لا يدرك شأوه أحد من الخلق لأنّك تحتمل من جهتهم ما لا يكاد يحتمله أحد و دلّت الآية على أنّك مستول على الأخلاق الحميدة و الأفعال المرضيّة حتّى صارت بمنزلة الأمور الطبيعيّة و لذا قال: «قل لا أسألكم عليه أجرا و ما أنا من المتكلّفين (1)، أي لست متكلّفا فيما يظهر من أخلاقي لأنّ المتكلّف لا يدوم أمره طويلا بل يرجع إليه الطبع و سمّي خلقا لرسوخه و ثباته حتّى صار بمنزلة الخلقة الّتي جبّل عليها الإنسان و إن احتاج في كونه ملكة راسخة إلى اعتمال و مجاهدة طويلة و لذا يتبدّل بالمصاحبة فيكون الحسن قبيحا و القبيح حسنا على حال المصاحبين كما في الحديث المرء علي دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل و في حديث آخر: لا تجالسوا أهل الهوى و البدع فإنّ لهم عرّة كعرّة الجرب و لذلك صنّف أطبّاء الأرواح أبوابا في علم الأخلاق لترتيب الصحّة الروحانيّة كما ألّف أطبّاء الأشباح فصولا في علم الأبدان.

و إنّما وصف سبحانه خلقه بالعظمة كما وصف العرش و القرآن بالعظيم لبيان

ص: 211


1- ص: 88.

أنّ ذلك الخلق جامع لمكارم الأخلاق اجتمع فيه شكر نوح و خلّة إبراهيم و إخلاص موسى و صدق إسماعيل و صبر يعقوب و أيّوب و اعتذار داود و تواضع سليمان و عيسى و هكذا من أخلاق سائر الأنبياء كما قال: «فبهداهم اقتده (1)» إذ ليس هذا الهدى معرفة اللّه لأنّ ذلك تقليد و هو غير لائق بالرسول و ليس هذا الهدى معرفة اللّه لأنّ ذلك تقليد و هو غير لائق بالرسول و ليس الشرائع لأنّ شريعته ناسخة لشرائعهم و المراد الاقتداء بكلّ منهم فيما اختصّ به من الخلق الكريم إذ كان كلّ واحد منهم مختصّا بخلق حسن غالب على سائر أخلاقه و هذه درجة عالية لم يتيسّر لأحد من الأنبياء.

لكلّ نبيّ في الأنام فضيلةو جملتها مجموعة لمحمّد

و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متحلّيا بما في القرآن من مكارم الأخلاق و قد جمع فيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما في الآي العشر في سورة المؤمنين من قوله: «قد أفلح» فذلك خلقه العظيم و هو عين الصراط المستقيم.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ للّه ثلاثمائة و ستّين خلقا من لقيه بخلق منها مع التوحيد دخل الجنّة و أحبّها إلى اللّه السخاء.

قال بعض المحقّقين: من أراد أن يرى رسول اللّه ممّن لم يدركه من امّته فلينظر إلى القرآن فإنّه لا فرق بين النظر فيه و بين النظر إلى رسول اللّه فكأنّ القرآن انتشاء صورة جسديّة يقال له محمّد: و الأنبياء كلّهم أنوارهم كالكواكب بالنسبة إلى نوره و مع أنّه كان غائبا عنهم استناروا من صفاء نوره؛

فاق النبيّين في خلق و في خلق و لم يدانوه في علم و لأكرم

[فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ عند كشف الغطاء فيعلمون حينئذ أنّك مجنون أو أنّهم مجانين [بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي أيّكم الّذي ابتلي بفتنة الجنون على أنّ المفتون بمعنى الفتون و هو الجنون كالمعقول بمعنى العقل و الباء مزيدة في المبتداء كما في بحسبك زيد أو الباء بمعنى «في» أي الفريقين من المؤمنين و الكافرين يوجدون من يستحقّ عليه هذا الاسم.

ص: 212


1- الانعام: 9.

[إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الحقّ المؤدّي إلى سعادة الدارين أوهام في تيه الضلال متوجّها إلى ما يفضيه إلى الشقاوة الأبديّة و هو المجنون الّذي لا يفرّق بين النفع و الضرّ [وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى سبيله فيجزي كلا الفريقين حسبما يستحقّه و إعادة «هو أعلم» لزيادة التقرير و حصول الهداية أمر متوقّف على قبول المهتدي لأنّ الرسول الصادق الأمين قال: «إنّي دعوت قومي ليلا و نهارا فلم يزدهم دعائي إلّا فرارا (1)».

[فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ أي إذا تبيّن عندك حالهم فدم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم فقوّى سبحانه قلبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتشدّد مع قومه مع قلّة العدد و كثرة الكفّار و في الآية بيان للامّة أنّ الإطاعة للعاصي عصيان و الاقتداء بالطاغي طغيان.

[وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ لو للتمنّي و المراد من الإدهان الملاينة و التسهيل و المسامحة و ترك الدعوة أي إنّهم لو سامحتهم في الدعوة يداهنونك حينئذ بترك الطعن و الفرق بين المداهنة و المداراة إنّ الإدهان الملاينة لمن لا ينبغي له ذلك و تغضي عنهم لحظّ نفسك و سلامة جاهك و اجتلاب نفعك و المداراة لما ترى فيه من اصطلاح الأمر بالإغضاء و هي في الغالب مع من يخاف شرّه.

قوله: [وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ كثير الحلف في الحقّ و الباطل لجهله حرمة اليمين و عدم مبالاته من الحنث لسوء عقيدته و أصل الحلف اليمين الّذي كان يأخذ بعضهم من بعض على أمر أي العهد ثمّ عبّر به عن كلّ يمين و المهين الحقير الرأي و هي الحقارة في التدبير.

[هَمَّازٍ] عيّاب طعّان يلوي شدقيه في أقفية الناس و في الحديث لا يكون المؤمن طعّانا و لا لعّانا و الهمّاز مبالغة هامز و الهمز الطعن و منه المهمزة حديدة تطعن بها الدابّة قيل لأعرابيّ: أ تهمز الفار؟ قال: السنّور يهمزها استعير للمغتاب الّذي يذكر الناس بالمكروه و يظهر عيوبهم و يكسر أعراضهم.

[مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجهه السعاية و الإفساد بينهم

ص: 213


1- نوح: 5.

و إظهار الحديث بالوشاية و هو من الكبائر أمّا نقل الكلام بقصد النصيحة للمؤمنين فواجب كما قال: من قال: «يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين (1)» و في الحديث لا يدخل الجنّة نمّام.

[مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ] الخير المال أي بخيل يمنع الناس من أقسام الخير من الإيمان و الطاعة و الإنفاق و كان للوليد بن المغيرة عشرة من البنين و كان يقول لهم و لأقاربه:

من تبع منكم دين محمّد لا أنفعه بشي ء و كان موسرا.

[مُعْتَدٍ] متجاوز في الظلم من استغراقه في الأخلاق الذميمة و مجاوزة الحقّ و الحدّ [أَثِيمٍ كثير الاثم و المعصية.

[عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ عتله إذا قاده بعنف و غلظة أي جاف غليظ القلب بحيث لا يقبل الخير و النصح «بعد ذلك» أي بعد هذه القبائح «زنيم» دعيّ ملتصق بالقوم و ملحق بهم في النسب و ليس منهم فالزنيم هو الّذي تبنّاه أحد و اتّخذه ابنا و ليس بابن له في الحقيقة و الزائد في القوم تشبيها بالزنمتين من الشاة و هما المندلبتان من اذنها أو شي ء يقطع من اذن البعير فيترك معلّقا.

قال العتبيّ: لا نعلم أنّ اللّه وصف أحدا و لا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارا لا يفارقه أبدا و كان الوليد دعيّا في قريش و ليس من سنخهم، ادّعاه أبوه المغيرة بعد ثمان عشرة سنة من مولده و حاصل معنى الزنيم ولد الزنى.

زنيم ليس يعرف من أبوه بغيّ الأمّ ذو حسب لئيم

و في الحديث لا يدخل الجنّة جوّاظ و لا جعظريّ و لا العتلّ الزنيم. و الجوّاظ: الجموع المنوع، و الجعظريّ: الفظّ الغليظ، و العتلّ: رحيب الجوف أكول شروب غشوم ظلوم.

[أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ متعلّق بقوله: «لا تطع» بحذف الجارّ أي لأن كان مستظهرا بالمال و البنين، و من قرء بالاستفهام فيكون المعنى أ لأن كان ذا مال و بنين يجحد آياتنا و جعل مجازاة النعم الكفر بآياتنا؟

ص: 214


1- سورة القصص: 20.

[إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ استيناف جار مجرى التعليل المنهيّ أي إذا تقرء عليه آياتنا و كلامنا قال: هي أحاديث و قصص لا اعتبار بها اكتتبوها كذبا.

[سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أصله سنوسمه من الوسم و هو إحداث السمة و العلامة و المسيم المكواة و آلة الكيّ و الخرطوم الأنف أو مقدّمه أو ما ضممت عليه الحنكين أي سيجعل له كيّا على أكرم مواضعه لإهانته و إذلاله إذ الأنف أكرم موضع من الوجه لتقدّمه له و لذلك جعلوه مكان العزّ و الحميّة و اشتقّوا منه الأنفة فيقال: فلان شامخ العرنين و يقال للذليل: رغم أنفه.

و لقد وسم العبّاس أباعره في وجوهها فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أكرموا الوجوه فوسمها في جواعرها أي في أدبارها و في التعبير عن الأنف بلفظ الخرطوم استقباحا لصاحبه و استهانة له لأنّه لا يستعمل إلّا في الفيل و الخنزير.

[سورة القلم (68): الآيات 17 الى 33]

إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَ لا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)

أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)

عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)

[إِنَّا بَلَوْناهُمْ يقال: بلي الثوب أي خلق، و بلوته: اختبرته كأنّي أخلقته من كثرة اختباري له و المعنى إنّا ابتلينا أهل مكّة بالقحط و الجوع سبع سنين بدعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أكل الجيف لتمرّدهم [كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ] مثل ابتلاء أصحاب الجنّة المعروف خبرها عندهم و اللام في الجنّة للعهد.

و أصحاب الجنّة قوم من أهل صنعاء قيل: كانوا إخوة و كانت الجنّة لأبيهم دون

ص: 215

صنعاء بفرسخين و قيل: هي جنّة بضروان و ضروان على فرسخ من صنعاء و كان أصحاب هذه الجنّة بعد رفع عيسى عليه السّلام بيسير و كانوا بخلاء و كان أبوهم يأخذ من البستان قوت سنة و يتصدّق بالباقي و كان ينادي الفقراء وقت الصرام و يترك لهم ما أخطأه المنجل و ما في أسفل الأكداس و ما أخطأه القطّاف من العنب و ما بقي على البساط الّذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شي ء كثير و يتزوّدون به أيّاما.

فلمّا مات أبوهم قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر و نحن أولو عيال فحلفوا فيما بينهم و ذلك قوله تعالى: [إِذْ أَقْسَمُوا] و الإقسام الحلف [لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ و يقطعون الثمار من النخل و العنب و يجمعنّ محصولها مبكرين و سواد الليل باق «ليصر منّها» جواب للقسم [وَ لا يَسْتَثْنُونَ و لا يقولون: إن شاء اللّه و كانوا غير مستثنين فلم يقولوا: إن شاء اللّه و قيل: المعنى و لا يستثنون حصّة المساكين و لا يخرجونها كما يفعل أبوهم و قال أبو حيّان: المعنى لا يستثنون عمّا عزموا عليه من حرمان المساكين.

[فَطافَ عَلَيْها] أي أحاط على الجنّة [طائِفٌ أي بلاء طائف و ذلك بالليل إذ لا يكون الطائف إلّا بالليل و كان ذلك الطائف نارا نزلت من السماء فأحرقتها [مِنْ رَبِّكَ من جهته تعالى أي من جهة أمره و هو منزّه عن الجهة و الطوف الدوران حول الشي ء و منه الطائف لمن يدور حول البيت حافظا و منه استعير الطائف من الجنّ و الخيال و الخادم.

[وَ هُمْ نائِمُونَ غافلون بالنوم عمّا جرت به المقادير و النوم استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه أو أن يتوفّى اللّه النفس من غير أن يقطع ضوء الروح عن الجسد فالنوم موت خفيف و الموت نوم ثقيل.

[فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالبستان الّذي صرمت ثماره حيث لم يبق فيها شي ء و قيل:

معناه كالليل لأنّ الليل يقال له الصريم، أي صارت سوداء كالليل لاحتراقها [فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي نادى بعضهم بعضا حالكونهم داخلين في الصباح [أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أي اخرجوا غدوة على ضيعتكم و بستانكم و الحرث يجوز أن يراد به الحاصل مطلقا

ص: 216

و أن يراد به الزرع خصوصا و تعدية الغدوّ بعلى لتضمّنه الاستيلاء [إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ و قاصدين للصرم و قطع الثمرة و جمع المحصول.

[فَانْطَلَقُوا] و مضوا إليها [وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافة و السرّ كيلا يسمع أحد و لا يدخل عليهم [أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا] في الجنّة [الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ من المساكين فضلا عن أن يكثروا.

[وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ] أي مشوا بكرة على الحدّة و الغضب و الامتناع من مخالطة المساكين [قادِرِينَ حال من فاعل «غدوا» فلم يحصل لهم إلّا النكد و الحرمان و ذلك أنّهم قصدوا حرمان الفقراء فتعجّلوا الحرمان جزاء.

[فَلَمَّا رَأَوْها] الجنّة [قالُوا] قال بعضهم البعض: [إِنَّا لَضَالُّونَ طريق جنّتنا [بَلْ نَحْنُ قوم مَحْرُومُونَ قالوه بعد ما تأمّلوها و وقفوا على حقيقة الأمر أي لسنا ضالّين بل حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا بسوء نيّتنا.

[قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم و خيرهم و أصوبهم رأيا و الوسط تارة يقال: فيما له طرفان مذمومان كالجود الّذي بين البخل و السرف فيستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط و التفريط و تارة يقال: فيما له طرف محمود و طرف مذموم كالخير و الشرّ و يراد به الرذل [أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ لو لا تذكرون اللّه بالتسبيح و تتوبون إليه من خبث نيّتكم و قد كان قال لهم: حين عزموا على ذلك اذكروا اللّه و توبوا من هذه العزيمة الخبيثة فعلّلوه و لم يقبلوا منه فعيّرهم لعلّ كانت الأمم السابقة يؤاخذون على ما عزموا عليه من المعصية.

[قالُوا] معترفين بالذنب [سُبْحانَ رَبِّنا] نزّهه عن كلّ سوء سيّما عن أن يكون ظالما فيما فعل بنا [إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بقصد حرمان المساكين كأنّهم قالوا: نستغفر اللّه من سوء صنيعنا و لو تكلّموا بهذه الكلمة قبل نزول العذاب لنجوا من نزوله لكنّهم تكلّموا بعد خراب البصرة.

[فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا فإنّ منهم من أشار بذلك و منهم من استصوبه و منهم من أنكره [قالُوا يا وَيْلَنا] أي الويل و السخط لنا [إِنَّا كُنَّا

ص: 217

طاغِينَ متجاوزين حدود اللّه.

[عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا] و يعوّضنا بدلا منها ببركة التوبة [خَيْراً مِنْها] من هذه الجنّة [إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ راجعون العفو.

روي أنّهم تعاقدوا: إن أبدلنا اللّه خيرا منها لنصنعنّ كما صنع أبونا فأبدلهم اللّه من ليلتهم ما هو خير منها قالوا: إنّ اللّه أمر جبرئيل أن يقتلع تلك الجنّة المحتوفة فيجعلها بزعر من أرض الشام أي موضع قليل النبات و يأخذ من الشام جنّة فيجعل مكانها قال ابن مسعود: إنّ القوم لمّا تابوا و أخلصوا أبدلهم جنّة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا. قال أبو خالد اليمانيّ: دخلت تلك الجنّة فرأيت كلّ عنقود منها كالرجل الأسود القائم.

[كَذلِكَ الْعَذابُ جملة من مبتدء و خبر مقدّم لإفادة القصر و الألف و اللام للعهد أي مثل الّذي بلونا به أهل مكّة من القحط و أصحاب الجنّة كذلك أفعل بامّتك إذا لم تعطف أغنياؤهم على فقرائهم بأن أمنعهم القطر و أرفع البركة من ذروعهم و تجارتهم و فيه وعيد لمانعي الزكاة بأيّ طريق كان.

[وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ] و أشدّ [لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أنّه أشدّ و أكبر لاحترزوا عمّا يؤدّيهم.

[سورة القلم (68): الآيات 34 الى 45]

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)

أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ (43)

فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)

[إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ من الكفر و المعاصي [عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة و ذكر «عند» للتشريف و التكريم لأنّ كلّ شي ء حقيقة و صورة له و ملكة فكأنّها حاضرة عنده و إلّا فمحال

ص: 218

كون عنديّة الجنّة بالنسبة إلى اللّه مكانيّة و عند لفظ موضوع للقرب فتارة يستعمل في المكان و تارة يستعمل في الاعتقاد مثل عندي الأمر كذا و تارة في المنزلة كقوله: «أحياء عند ربّهم (1)» و على ذلك يقال: الملائكة المقرّبون.

[جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي جنّات ليس فيها إلّا التنعّم الخالص و استفيد الحصر من الإضافة اللاميّة الاختصاصيّة فإنّها تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه.

[أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ كان صناديد قريش يرون و فور حظّهم من الدنيا و قلّة حظوظ المسلمين منها فإذا سمعوا بحديث الآخرة و ما وعد اللّه المسلمين قالوا: إن صحّ أنّا نبعث كما يزعم محمّد و من معه لم يكن حالنا و حالهم إلّا مثل ما هي في الدنيا و أقصى أمرهم أن يساوونا فردّهم اللّه و الهمزة للإنكار أي أ نحيف في الحكم فنجعل المؤمنين كالكافرين في حصول النجاة و الوصول إلى الدرجات؟ و المراد من المجرمين الكافرون على ما دلّ عليه سبب النزول و إلّا فالإجرام في الجملة لا ينافي الإسلام.

[ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ تعجّبا من حكمهم، و ما استفهاميّة في موضع الرفع بالابتداء و «لكم» خبرها و المعنى أيّ شي ء ظهر لكم حتّى حكمتم هذا الحكم؟

[أَمْ لَكُمْ أي بل أ لكم [كِتابٌ نازل من السماء [فِيهِ متعلّق بقوله: «تدرسون» [تَدْرُسُونَ و تقرءون فيه [إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ و المعنى تقرءون في الكتاب أنّ لكم ما تختارونه لا نغلبكم و أنّ في ذلك الكتاب أنّ العاصي كالمطيع بل أرفع حالا.

[أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ] أي أضمنّا أو أو أقسمنا بأيمان مغلّظة فثبت لكم علينا عهود مؤكّدة بالأيمان [إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها و لا ننقطع ذلك العهد إلى يوم الحشر [إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ لأنفسكم من الخير و ما تطلبونه و تحكمون به حاصل لكم.

[سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ تلوين للخطاب و توجيه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهم مبكّتا بهم أيّهم بذلك الحكم الغلط الخارج عن العقول قائم يتصدّى بتصحيحه كما يقوم زعيم القوم بإصلاح أمورهم و يقيم الحجّة عليها و يتكفّل بها.

ص: 219


1- آل عمران: 169.

[أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ] يشاركونهم في هذا القول و يذهبون مذهبهم [فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم أي إذا كان ليس لهم دليل في هذا القول الغلط و هو التسوية بين المحسن و المسي ء إذ لا أقلّ من التقليد فليأتوا بمن يوافقهم من العقلاء على صحّة هذا القول حتّى يقلّدوهم و الأدلّة من السمع و العقل قائمة بخلافه.

[يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ الظرف متعلّق باذكر المقدّر و «عن ساق» قائم مقام الفاعل «ليكشف» و المراد يوم القيامة أو المعنى فليأتوا بشركائهم و بشهدائهم في ذلك اليوم الشديد الّذي تظهر فيه الأهوال و كشف الساق مثل و كناية عن الشدّة في الأمر.

قال عكرمة: سئل ابن عبّاس عن معنى قوله: «يوم يكشف عن ساق» فقال:

إذا خفي عليكم شي ء في القرآن فابتغوه في الشعر أما سمعت العرب تقول: «و قامت الحرب بنا على ساق» و يريدون شدّة اليوم و الحرب و أصله أنّ الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى الجدّ يشمّر عن الساق فاستعير كشف الساق عن الشدّة استعارة تمثيليّة قال دريد بن الصّمة:

كميش الإزار خارج نصف ساقه بعيد من الآفات طلّاع أنجد

[وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ] أي يقال للكفّار و المنافقين: على وجه التوبيخ اسجدوا تعنيفا على تركهم السجود في الدنيا لا تكليفا لأنه لا تكليف لهم ذلك في ذلك اليوم فلا يستطيعون، و فيه دلالة على أنّهم يقصدون السجود فلا يتأتّى لهم ذلك عن ابن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تعقم أصلابهم أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع و الخفض فيبقون قياما على حالهم و في الحديث: و تبقى أصلابهم طبعا واحدا أي فقارة واحدة كأنّ سفافيد الحديد في ظهورهم لا تنثني.

[خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ ذليلة لا يعرفون نظرهم عن الأرض ذلّة و مهانة [تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ] الرهق غشيان الشي ء الشي ء أي تغشاهم ذلّة شديد بيان لخضوع أبصارهم [وَ قَدْ كانُوا] في الدنيا [يُدْعَوْنَ دعوة التكليف [إِلَى السُّجُودِ] و المراد به الصلاة و خصّ السجود بالذكر من حيث إنّه أعظم الطاعات و أنّ الدعوة إلى الصلاة دعوة إلى السجدة و من

ص: 220

أعظم الدعوة أذان المؤذّنين فإنّ قولهم: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح.

[وَ هُمْ سالِمُونَ أي أصحّاء يمكنهم السجود فلم يفعلوا.

قال كعب الأحبار: ما نزلت هذه الآية إلّا في الّذين يتخلّفون حكي عن الربيع بن خثيم أنّه عرض له الفالج فكان بهاوي بين رجلين إلى المسجد فقيل له: يا بايزيد لو جلست فإنّ لك رخصة قال: من سمع حيّ على الفلاح فليجب و لو حبوا.

و في الآية وعيد لمن ترك الصلاة المعروضة حتّى لو تخلّف عن الجماعة المشروعة من غير عذر سيّما إذا سمع النادين أو كان في جوار المسجد، و حدّ الجوار على قاله بعض العلماء: أن تكون بينه و بين المسجد مائة دار، و تعمير بيت اللّه الصلاة فيه. قال أبو الدرداء:

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أحبّ الأعمال إلى اللّه ثلاثة أمر بصدقة و خطوة إلى الصلاة جماعة و إصلاح بين الناس. و حديث أمير المؤمنين عليه السّلام أن احرقوا عليهم بيوتهم صحيح السند إذا كان ترك مستحبّ هذا حكمه فكيف المخالطة مع الزنادقة؟

قال مجاهد و قتادة و غيرهما: يؤذّن المؤذّن يوم القيامة فيسجد المؤمن و تصلب ظهور الكافرين و المنافقين فيصير سجود المؤمنين حسرة على المنافقين و الكافرين.

[فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي كل أمرهم إليّ و إذا كان حالهم كذلك فدعني و من يكذّب بالقرآن و توكّل عليّ في الانتقام منهم و في الآية دليل على حدوث القرآن و كلّ كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي يقال له: حديث [سَنَسْتَدْرِجُهُمْ استدرجه إليه درجة درجة درجة باستحقاقهم و قبولهم الكفر أي سنستزلّهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإحسان و إدامة الصحّة و ازدياد النعمة [مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أي الجهة الّتي لا يشعرون أنّه الهلاك و في الحديث إذا رأيت اللّه ينعم على عبد و هو مقيم على معصية فاعلم أنّه مستدرج و تلا هذه الآية.

روي أنّ رجلا من بني إسرائيل قال: يا ربّ كم أعصيك و كم أنت لا تعاقبني فأوحى اللّه إلى نبىّ زمانه أن قل له: كم من عقوبة لي عليك و أنت لا تشعر كونها عقوبة و إنّ جمود عينك و قساوة قلبك استدراج منيّ و عقوبة لو عقلت قيل: من المقت الإلهيّ بالعبد أن يرزق العلم و يحرم العمل به أو يرزق العمل و يحرم الإخلاص فيه

ص: 221

فمن علم اتّصافه بهذا من نفسه فليعلم أنّه ممقوت به.

[وَ أُمْلِي لَهُمْ الإملاء الإمهال بإطالة العمر و ازدياد النعمة [إِنَّ كَيْدِي أي أخذي بالعذاب [مَتِينٌ قويّ شديد لا يطاق و لا يدفع بشي ء و الكيد ضرب من الاحتيال و قد يكون محمودا و مذموما و إن كان يستعمل في المذموم أكثر و كذلك الاستدراج و المكر و هو من الخلق الحيلة السيّئة و من اللّه التدبير بالحقّ لمجازاة أعمال الخلق.

[سورة القلم (68): الآيات 46 الى 52]

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَ ما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)

[أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً] على التبليغ [فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ فلأجل ذلك من الغرامة الماليّة مكلّفون حملا ثقيلا فيعرضون عنك [أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ و المغيبات [فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ما يحكمون به من أباطيلهم.

[فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في تأخير نصرتك و إمهالهم [وَ لا تَكُنْ في التفجّر بعقوبة قومك [كَصاحِبِ الْحُوتِ يونس عليه السّلام في استعجال عقاب قومه لا تخرج من بين قومك من قبل أن يأذن اللّه لك كما خرج هو [إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ أي دعا ربّه و هو في بطن الحوت محبوس عن التصرّف و مملوّ من الغمّ، و كظم السقاء إذا ملأه و شدّ رأسه و أمسك عليه و الّذي نادى به قوله: «لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين (1)» قوله: [لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ و ناله و وصل إليه [نِعْمَةٌ] و رحمة كائنة [مِنْ رَبِّهِ و هو توفيقه سبحانه و تفضيله [لَنُبِذَ] و طرح من بطن الحوت [بِالْعَراءِ] بالأرض الخالية من الأشجار و العراء مكان لا سترة به [وَ هُوَ مَذْمُومٌ مليم لكنّه رحم فنبذ غير مذموم.

[فَاجْتَباهُ رَبُّهُ و قرّبه بالتوبة عليه من ترك الأولى إذا صحّ هذا القول بأن ردّ

ص: 222


1- الأنبياء: 78.

إليه الوحي و أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته و الحوض الجامع له جابية و الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء و كان رسولا قبل احتباسه في بطن الحوت.

[فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ بأن عصمه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى قيل: إنّ هذه الآية بأحد حين همّ رسول اللّه أن يدعو على المنهزمين فيكون الآية مدنيّة.

و المعتزلة فسّروا قوله: «فجعله من الصالحين» أنّه سبحانه أخبر بصلاحه.

[وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ إن مخفّفة و اللام دليلها، أزلّ رجله أزلقها و «لمّا» ظرفيّة أي إنّهم من شدّه عداوتهم لك ينظرون إليك شزرا نظر الغضبان بمؤخر العين بحيث يكادون يزلّون قدمك فيرمونك وقت سماعهم القرآن [لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ] و ذلك لاشتداد حسدهم مأخوذ المعنى من قولهم: نظر إليّ نظرا يكاد يصر عني أو أنّهم يكادون يصيبونك بالعين و الجمهور على هذا القول.

روي أنّه كان في بني أسد عيّانون و العيّان شديد الإصابة بالعين و كان الواحد منهم إذا أراد أن يعين شيئا يتجوّع له ثلاثة أيّام ثمّ يتعرّض له فيقول: رأيت ما أحسن من هذا فيتساقط ذلك الشي ء و كان الرجل منهم ينظر إلى النافة السمينة أو البقرة السمينة ثمّ يعينها فتقول لجاريته: خذي المكتل و الدرهم فأتينا بلحم من لحم هذه فما تبرح حتّى تقع فتخرّ فسأل الكفّار من قريش من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول: في رسول اللّه هكذا فعصمه اللّه.

و في الأسرار المحمّديّة قيل: إنّ في هذه الآية خاصيّة لدفع العين تعليقا و غسلا و شربا و في الحديث: العين حقّ أي أثرها في العين واقع و لمّا خاف يعقوب عليه السّلام على أولاده من العين لأنّهم كانوا اعطوا جمالا و قوّة و كانوا ولد رجل واحد قال:

«يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرّقة (1)» لئلا يصابوا بالعين.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعوّذ الحسن و الحسين فيقول: أعوذ بكلمات اللّه التامّة

ص: 223


1- يوسف: 67.

من كلّ شيطان و هامة و من كلّ عين لامة و يقول: هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل و إسحاق.

و عن عبادة بن الصامت قال: دخلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أوّل النهار فرأيته شديد الوجع ثمّ عدت إليه آخر النهار فوجدته معافى فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ جبرئيل أتى و رقّاني فقال: بسم اللّه أرقيك من كلّ شرّ يؤذيك و من كلّ عين و حاسد يشفيك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فأفقت و إنّما تكره الرقية إذا كانت بغير لسان العرب و الدعاء و لا يدري ما هو و لعلّه سحر أو كفر و أمّا إن كان من القرآن أو شي ء من الدعوات فلا بأس به و لا تختصّ العين بالإنس بل تكون في الجنّ أيضا حتّى قيل: إنّ عيونهم أنفذ من أسنّة الرماح و عن امّ سلمة إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأي في بيتها جارية تشتكي و في وجهها صفرة فقال: استرقوا لها فإنّ بها النظرة و أراد بها العين أصابتها من الجنّ.

و في الحديث لو كان شي ء يسبق القدر لسبقه العين و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ العين لتدخل الرجل القبر و الجمل القدر.

قيل: و من الشفاء من العين أن يقال على ماء نظيف و يسقيه منه و نغسله عيس عايس بشهاب قابس رددت العين من العين عليه إلى أحبّ الناس إليه فارجع البصر هل ترى من فطور الفاتحة و آية الكرسي و ستّ آيات الشفاء و هي «و يشف صدور قوم مؤمنين (1)، و شفاء لما في الصدور (2)، فيه شفاء للناس (3)، و ننزّل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين (4)، و إذا مرضت فهو يشفين (5)، قل هو للذين آمنوا هدى و شفاء (6)» انتهى.

[وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ لتنفير الناس عنه و جهلهم و عنادهم أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمجنون أي هو مصاب الجنّ أو هو معلّم من جنّي كما قال الوليد بن المغيرة: يأتيه جنّي فيعلّمه.

ثمّ ردّ سبحانه قولهم فيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ على أنّه حال

ص: 224


1- التوبة: 15.
2- يونس: 57.
3- النحل: 69.
4- الإسراء: 72.
5- الشعراء: 80.
6- حم السجدة: 44.

من فاعل «يقولون» مفيدة لبطلان قولهم أي و الحال أنّ القرآن ذكر للعالمين و تذكّر و بيان للجنّ و الإنس:

إذا لم يكن للمرء عين صحيحةفلا غرو أن يرتاب و الصبح مسفر

و قيل: إنّ الضمير راجع إلى النبيّ و كونه ذكرا أو شرفا لا ريب فيه تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 225

سورة الحاقة (مكية)

اشارة

روى جابر الجعفيّ عن الباقر عليه السّلام قال: أكثروا من قراءة الحاقّة فإنّ قراءتها في الفرائض و النوافل من الإيمان باللّه و رسوله و لم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى اللّه.

ص: 226

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ (4)

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10)

[الْحَاقَّةُ] هي عن أسماء القيامة من حقّ يحقّ إذا وجب و ثبت لأنّها يجب مجيئها [مَا الْحَاقَّةُ] الأصل ما هي أي أيّ شي ء هي في حالها فوضع الظاهر موضع المضمر تأكيدا لهو لها كما يقال: زيد ما زيد على التعظيم لشأنه فقوله: «الحاقّة» مبتدء و ما مبتدء ثان و ما بعده خبره و الجملة خبر للمبتدأ الأوّل و المراد أنّ الحاقّة أمر بديع و خطب فظيع.

[وَ ما أَدْراكَ من الدراية بمعنى العلم يقال: درى به أي علم به و أدراه أي أعلمه و المعنى و أيّ شي ء أعلمك يا محمّد بها و بأهوالها لأنّه لا يكاد تبلغه دراية أحد و لا و همه من شدّة عظمتها و أهوالها و جملة ما الحاقّة في موضع المفعول الثاني لأدراك و يمكن أن يكون صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عالما بوقوعها و لكن لم يكن عالما بكمال كيفيّتها و يحتمل أن يقال له و إسماعا لغيره.

[كَذَّبَتْ ثَمُودُ] قوم صالح من الثمد و هو الماء القليل الّذي لا مادّة له [وَ عادٌ] قوم هود و تمنع ثمود و هي قبيلة [بِالْقارِعَةِ] من أسماء القيامة لأنّها تقرع و تضرب بفنون الأقراع و الأهوال و تصيبهم كأنّهم تقرعهم و السماء بالانشقاق و الانفطار و الأرض و الجبال بالدكّ و النسف و النجوم بالطمس و الانكدار و يقال: قارعة الدهر أي شدّتها.

ص: 227

[فَأَمَّا ثَمُودُ] كانوا عربا منازلهم بالحجر بين الشام و الحجاز [فَأُهْلِكُوا] لتكذيبهم [بِالطَّاغِيَةِ] بالصيحة الّتي جاوزت عن حدّ سائر الصيحات فرجفت منها الأرض و تصدّعت القلوب.

[وَ أَمَّا عادٌ] و كانت منازلهم بالأحقاف و هي الرمل بين عمّان إلى حضر موت و اليمن و كانوا عربا أيضا ذوي بسطة في الخلقة و كان أطولهم مائة ذراع و أقصرهم ستّين و أوسطهم ما بين ذلك و كان رأس الرجل منهم كالقبّة يفرخ في عينيه و منخريه السباع [فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ] شديدة الصوت في هبوبها أو شديدة البرد تحرق ببردها النبات و الحرث [عاتِيَةٍ] مجاوزة الحدّ لشدّة العصف و الرياح مسخّرة لميكائيل تهبّ بإذنه و تنقطع بإذنه.

[سَخَّرَها عَلَيْهِمْ التسخير سوق الشي ء إلى الغرض المختصّ به قهرا فسلّط اللّه تلك الريح الموصوفة عليهم و في الكلام بيان لدفع ما يتوهّم من كون هذه الواقعة باتّصالات فلكيّة مع أنّه لو كان كذلك لكان بتسبيبه أيضا [سَبْعَ لَيالٍ منصوب على الظرفيّة و أنّث العدد لكون الليالي جمع ليلة يقال: ليل و ليلة و لا يقال: يوم و يومة و تجمع الليل على الليالي بزيادة التاء على غير القياس فتحذف تاؤها حالة التنكير بالإعلال إلّا حالة النصب نحو «سيروا فيها ليالي و أيّاما آمنين (1)» لأنّه غير منصرف و الفتح خفيف.

[وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ ذكّر العدد لكون الأيّام جمع يوم و هو مذكّر [حُسُوماً] جمع حاسم مثل شهود جمع شاهد بمعنى حاسمات حال من مفعول «سخّرها» أي حالكون الريح متتابعات حتّى أهلكتهم تمثيلا بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكيّ على داء الدابة مرّة بعد اخرى حتّى ينقطع و ينحسم الدم أي تلك الرياح المتتابعة حسمت و استأصلت دابرهم و من ذلك يسمّي السيف حساما لأنّه يقطع و يحسم العدوّ.

و هي كانت أيّام برد العجوز من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوّال أو آخر أربعاء من شهر صفر إلى غروب الأربعاء الآخر و عن ابن عبّاس يرفعه: آخر أربعاء في

ص: 228


1- سبا: 18.

الشهر يوم نحس مستمرّ و سمّيت عجوزا لأنّ عجوزا توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الآخر فأهلكتها و قيل: هي أيّام الفجر و هي آخر الشتاء.

و في روضة الأخبار: رغبت عجوز إلى أولادها أن يزوّجوها و كان لها سبعة بنين فقالوا: إلى أن تصبري على البرد عارية لكلّ واحد منّا ليلة ففعلت فلمّا كانت في السابعة ماتت فسمّيت تلك الأيّام أيّام العجوز و أسماء هذه الأيّام: الصنّ بالكسر أوّل أيّام العجوز، و الصنبر و هي الريح الباردة و هو الثاني، و الوبر و هو الثالث، و المعلل كمحدث و هو الرابع، و مطفى ء الجمر و هو الخامس أو مكفئ الظعن أي مميلها و هو جمع ضعينة و هو الهودج، و الأمر و هو السادس، و المؤتمر و هو السابع. و التاريخ يكون بالليالي دون الأيّام و لذلك لم يذكر الثامن.

[فَتَرَى الْقَوْمَ أي قوم عاد [فِيها] في محالّ هبوب تلك الريح أو في تلك الليالى و الأيّام [صَرْعى موتى جمع صريع مثل قتلى و قتيل ساقط على الأرض [كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ] مشبهين بأصول نخل خاوية أي خالية مجوّفة لأنّ أبدانهم خلت من أرواحهم و كانت الريح يدخل في أفواههم فيخرج ما في أجوافهم من أدبارهم كالنخل الخالية المجوّفه.

[فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ] و الباقية اسم كالبقيّة لا وصف و التاء للنقل إلى الاسميّة و من زائدة أي ما ترى منهم بقيّة من صغارهم و كبارهم غير المؤمنين و يجوز أن يكون صفة موصوف محذوف بمعنى نفس باقية أو مصدر بمعنى البقاء كالكاذبة و الطاغية.

[وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ و تقدّمه من الكفرة و قرأ أبو عمرو و الكسائيّ و من قبله بكسر القاف و فتح الباء بمعنى و من معه من القبط [وَ الْمُؤْتَفِكاتُ القميّ المؤتفكات البصرة و الخاطئة فلانة. أي قرى قوم لوط فهي المنقلبات بالخسف و هي خمس قريات صبعه و سعده و عمره و دوما و سدوم [بِالْخاطِئَةِ] بالأفعال ذات الخطاء العظيم الّتي من جملتها تكذيب البعث و ذلك الفعل الرجس.

[فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي فعصى كلّ امّة من المذكورين رسل ربّهم و الرسول

ص: 229

بمعنى الجمع لأنّ فعول يستوي فيه المذكّر و المؤنث و الواحد و الجمع [فَأَخَذَهُمْ اللّه بالعقوبة [أَخْذَةً رابِيَةً] زائدة في الشدّة على عقوبات سائر الكفّار لمّا زادت معاصيهم في القبح.

[سورة الحاقة (69): الآيات 11 الى 12]

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)

[إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ] المعهود وقت الطوفان و جاوز حدّه المعتاد حتّى ارتفع على كلّ شي ء حتّى الجبال الشامخة فانتفم اللّه منهم بالإغراق [حَمَلْناكُمْ أي حملنا آباءكم و أنتم في أصلابهم فكأنّكم محمولون بأشخاصكم و إنّ نجاة آبائهم سبب ولادتهم [فِي الْجارِيَةِ] في السفينة لأنّ من شأنها أن تجري على الماء.

[لِنَجْعَلَها] أي فعلة النجاة للمؤمنين و إغراق الكافرين [لَكُمْ تَذْكِرَةً] و عبرة لكمال قدرة اللّه و قوّة قهره على العاصين المتمرّدين.

[وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ] و تحفظ هذه التذكرة اذن من شأنها أن تحفظ ما يجب و و ينبغي حفظه و الإفراد في الأذن حيث لم يقل الآذان الواعية لعلّ للإشعار على قلّتها قيل: الاذن الواحدة إذا وعت و عقلت عن اللّه فهي السواد الأعظم عند اللّه و إنّ ما سواها لا يبالي بهم و إنّ ملئوا الخافقين.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند نزول هذه الآية إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لعليّ عليه السّلام سألت اللّه أن يجعلها اذنك يا عليّ قال عليّ عليه السّلام: فما نسيت بعد ذلك شيئا و ما كان لي أن أنسي فصار عليه السّلام حافظا للأسرار الإلهيّة و قد قال عليه السّلام: ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإيمان و الهجرة و في رواية أخذ باذن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و قال: هي هذه و قد صحّ هذا الحديث عند الفريقين و رووها.

[سورة الحاقة (69): الآيات 13 الى 24]

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)

قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)

ص: 230

[فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ] النفخ إرسال الريح من الفم و الصور قرن من نور أوسع من السماوات ينفخ فيه إسرافيل فيحدث صوت عظيم فإذا سمع الناس ذلك الصوت يصيحون ثمّ يموتون و المصدر المبهم يكون لمجرّد التأكيد و المراد النفخة الاولى و إن كانت النفختان فالمعنى أنّها لا تثنّى في وقتها و ذكر الواحدة للتأكيد مثل نفخة واحدة.

[وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ أي قلعت و رفعت من أماكنها بتوسّط الزلزلة و الريح العاصفة فإنّ الريح في قوّة عصفها تحمل الأرض و الجبال كما حملت قوم عاد [فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً] أي ضربت جملة الأرضين و جملة الجبال بعضها ببعض ضربة واحدة بلا احتياج إلى تكرار الضرب و تثنية الدقّ و الدكّ أبلغ من الدق و دكّه إذا ضربه و كسره حتّى سوّاه بالأرض فتصير كثيبا مهيلا.

[فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ] أي فحينئذ وقعت القيامة و الواقعة من أسماء القيامة بالغلبة لتحقّق وقوعها.

[وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ] و انفرجت السماء لأمر عظيم أراده اللّه أو بسبب شدّة ذلك اليوم «فهي» أي السماء «يومئذ» ظرف لقوله: «واهية» ضعيفة ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة أي انشقّت و انحرقت و استرخت.

[وَ الْمَلَكُ أي الخلق المعروف بالملك [عَلى أَرْجائِها] أي على جوانب السماء جمع رجاء بالقصر أي بعد انشقاق السماء الّتي هي مساكن الملك يلجئون إلى أكنافها و حافاتها وقوفهم على حافاتها لحظة و موتهم بعدها فإنّ الملائكة يموتون عند النفخة الاولى و يمكن أن يكون هم المستثنون بقوله: «إلّا من شاء اللّه» أن يموتوا في هذا الوقت المخصوص.

[وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ] العرش جسم عظيم لا يعلم عظمته إلّا اللّه و إنّه في الآفاق بمنزلة القلب في الأنفس و هو معنى الحديث: قلب المؤمن عرش الرحمن

ص: 231

و ظاهر الآية في ذكر العرش عقيب ما تقدّم أنّ العرش بحاله خلاف السماء و الأرض «فوقهم» أي فوق الملائكة أو فوق الثمانية أي يحملون العرش «يومئذ» يوم القيامة ثمانية من الملائكة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيّدهم اللّه بأربعة اخرى و قيل: المراد بالثمانية الثمانية آلاف و قيل: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلّا اللّه.

[يَوْمَئِذٍ] متعلّق بقوله: [تُعْرَضُونَ على اللّه أي تسألون و تحاسبون عبّر عنه بذلك تشبيها له بعرض السلطان العسكر ليعرف أحوالهم.

روي أن في يوم القيامة ثلاث عرضات عرضتان اعتذار و احتجاج و توبيخ و أمّا الثالثة ففيها تنشر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بيمينه و الهالك بشماله و هذا العرض و إن كان بعد النفخة الثانية لكن لمّا كان اليوم اسما لزمان متّسع يقع فيه النفخات و الصعقة و النشور و الحساب صحّ جعله ظرفا للكلّ كما تقول: جئت عام كذا و إنّما كان المجي ء في وقت واحد من أوقاته و ذهب و المشبّهة الضالّة من حمل العرش و العرض إلى كونه تعالى محمولا في العرش لكنّه هذا المعنى كفر و غلط بل تمثيل لعظمة اللّه و المراد في هذه الآية و من إتيانه في ظلل من الغمام إتيان أمره سبحانه و قضائه و بالجملة يا معاشر المكلّفين يوم القيامة يوم العرض لأعمالكم.

[لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ] أي فعلة خافية أو نفس خافية و قيل: الخافية مصدر كالعاقبة أي خافية أحد لا تخفى و هو كقوله: «يوم تبلى السرائر (1)» فيظهر أحوال المؤمنين فيتكامل سرورهم و أحوال غيرهم فيحصل الحزن و الفضيحة.

[فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ أي مكتوبه الّذي كتبته الحفظة [بِيَمِينِهِ تعظيما له لأنّ اليمين يتبرّك بها و الباء بمعنى في أو للإلصاق و المراد الأبرار فإنّ المقرّبين لا لا كتاب لهم لمكانتهم من اللّه [فَيَقُولُ فرحا و سرورا و ليظهر ذلك لغيره: [هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ أي هلمّوا و خذوا كتابي و اقرءوه و هاء اسم فعل معناه خذ يقال: هاء يا رجل- بفتح الهمزة- و هاء- بكسرها- يا امرأة و هاؤما يا رجلان أو يا امرأتان و هاؤم يا رجال

ص: 232


1- الطارق: 9.

و هاؤنّ يا نسوة بمعنى خذ خذا خذوا خذي خذا خذن و مفعوله محذوف و كتابي مفعول اقرءوا لأنّه أقرب العاملين فهو أقوى و الهاء هاء الاستراحة لنظم الآي و هذه الهاء لا تكون إلّا ساكنة و تمسّى هاء السكت و هي في سبعة مواضع في القرآن في لم يتسنّه و في بهداهم اقتده و في كتابيه و في حسابيه و في ماليه و في سلطانيه و في ماهيه و أمّا الهاء الّتي في القاضية و الهاوية و في خاوية و ثمانية و عالية و أمثالها للتأنيث فيوقف عليهنّ بالهاء و يوصلن بالتاء.

[إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي علمت و أيقنت أنّي مصادف حسابي في ديوان الحساب الإلهيّ و أحاسب عليه و إنّما فسّر الظنّ بالعلم لأنّ البعث و الحساب ممّا يتيقّن المؤمن بهما و لا إحسان بدون اليقين و يمكن أن يكون المراد أنّي ظننت أنّي ملاق حسابي على الشدّة و المناقشة لما سلف منّي من الهفوات و الآن أزال اللّه عنّي ذلك.

قال في الكشّاف: و إنّما أجرى الظنّ مجرى العلم لأنّ الظنّ الغالب يقام مقام العلم في العبادات و الأحكام ثمّ إن الظنّ استعمل بمعنى العلم في مواضع من القرآن كما في قوله تعالى حكاية: «قال الّذين يظنّون أنّهم ملاقو اللّه (1)» و هم المؤمنون بالآخرة و في قوله: «و ظنّ داود إنّما فتّناه (2)» أي علم.

[فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ] أي من اوتي كتابه بيمينه في نوع من العيش و إذ كسر العين من العيش يلزمه التاء و العيش الحياة المختصّة بالحيوان «راضية» ذات رضى يرضاها من يعيش فيها أو بمعنى مرضيّة «كماء دافق» أي مدفوق.

[فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ] مرتفعة المكان لأنّها في السماء كما أنّ النار سافلة لأنّها تحت الأرض [قُطُوفُها دانِيَةٌ] جمع قطف و هو ما يقطف و يجتنى بسرعة و القطف بالفتح مصدر و القطف بالكسر العنقود دانية أي قريبة من مريديها ينالها القائم و القاعد و المضطجع من غير تعب و نعيم الجنّة تابع لإرادة المتنعّم به.

ص: 233


1- البقرة: 44.
2- ص: 24.

[كُلُوا وَ اشْرَبُوا] أمر إباحة يقال لهم: كلوا و اشربوا من طعام الجنّة و شرابها [هَنِيئاً] سائغا لا تنغيص فيه في الحلقوم و جعل الهنأ صفة للأكل و الشرب لأنّ المصدر يتناول المثنّى و منه اليهناى ء في اللحم المطبوخ و يستعمله الناس بالخاء المعجمة بدل الهاء من هنأ يهنأ و يهنى هناءة أي صار سائغا [بِما أَسْلَفْتُمْ بمقابلة ما قدّمتم من الأعمال الصالحة [فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ] الماضية في الدنيا و قيل: المراد أيّام الصيام أي تدلّ ما أمسكتم عن الأكل و الشرب لوجه اللّه و هذا المعنى أنسب لأنّ الجزاء لا بدّ و أن يكون من جنس العمل.

[سورة الحاقة (69): الآيات 25 الى 52]

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَ لا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَ ما لا تُبْصِرُونَ (39)

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)

لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)

وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

[وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ تحقيرا له لأنّ الشمال يتشأّم بها [فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ أي لم اعط هذا المكتوب الّذي جمع جميع سيّئاتي [وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ من الدراية بمعنى العلم لما شاهد من سوء الجزاء.

[يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ] تكرير للتمنّي و تجديد للتحسّر أي يا ليت الموتة الّتي ذقتها كانت قاطعة لأمري و لم ابعث بعدها و كانت دائمة عليّ الموتة و الموتة و إن لم يكن مذكورة إلّا أنّها في حكم المذكور بدلالة المقام و لمّا كانت تلك الحالة عليه أمر من الموت فتمنّاها عندها قال الشاعر:

و شرّ من الموت الّذي إن لقيته تمنّيت من الموت و الموت أعظم

[ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ و لم يدفع عنّي شيئا من العذاب الّذي كان لي في الدنيا من المال و هذا المعنى على كون ما نافية و المفعول محذوفا و على كون ما موصولة فاللام جارّة داخلة على ياء المتكلّم، و يمكن أن تكون للاستفهام على سبيل الإنكار أي أيّ شي ء أغنى عنّي ما كان لي في الدنيا من اليسار؟

[هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ السلاطة التمكّن من القهر أي هلك و فنى سلطاني و ملكي و بقيت ذليلا و ضلّت عنّي حجّتي كما قال ابن عبّاس: لأنّ الحجّة سلطة و استعملت في السلطة.

[خُذُوهُ فَغُلُّوهُ حكاية لما يقوله اللّه يومئذ للزبانية أي خذوا هذا العاصي المتمرّد لربّه و اجمعوا يديه إلى عنقه بالقيد و الحديد و الغلّ بالضمّ الطوق من حديد الجامع

ص: 234

لليد الى العنق المانع عن تحرّك الرأس [ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ دلّ التقديم على التخصيص أي لا تدخلوه إلّا الجحيم و هي النار العظمى.

[ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ] من نار و هي حلق منتظمة و الجارّ متعلّق بقوله: «فاسلكوه» [ذَرْعُها] مبتدء خبره [سَبْعُونَ أي طول السلسلة [ذِراعاً] تميز [فَاسْلُكُوهُ السلك هو الإدخال في الطريق و الخيط و القيد و تقديم السلسلة على السلك كتقديم الجحيم على التصلية و الملازمة بالنار و جعل السلسلة سبعين ذراعا إرادة الوصف بطول السلسلة لأنّ هذا العدد معروف و مستعمل في الكثرة كما قال سبحانه: «إن تستغفر لهم سبعين مرّة (1)» يزيد مرّات كثير لا خصوص السبعين من العدد.

و قال بعض أهل التحقيق: و لا منع من الحمل على ظاهره من العدد و المراد من الذراع ذراع الملك و ذراع الملك سبعون باعا و مساحة باع الملك كلّ باع ما بين الكوفة إلى مكّة. قال كعب: لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها و لو وضعت حلقة من تلك السلسلة على جبل لذاب مثل الرصاب ص، تدخل السلسلة في فيه و تخرج من دبره و يلوى فضلها على عنقه و جسده و يقرن بها بينه و بين شيطانه و حينئذ يشمل الآية الكافر لأنّ جسده يكون في العظم مسيرة ثلاثة أيّام و ضرسه مثل جبل احد على ما جاء في الحديث و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أنّ رضاضة مثل هذه- و أشار إلى صخرة مثل الجمجمة- سقطت من السماء إلى الأرض و هي خمسمائة عام لبلعت الأرض قبل الليل و لو أنّها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل و النهار قبل أن تبلغ أصلها و قعرها و اللام في السلسلة في هذا الحديث للعهد إشارة إلى السلسلة الّتي ذكرها اللّه في قوله:

«ثمّ في سلسلة».

حكي أنّ شابّا حضر صلاة الفجر من الجماعة خلف واحد من المشايخ فقرء الشيخ سورة الحاقّة فلمّا بلغ إلى قوله: «خذوه فغلّوه ثمّ الجحيم صلّوه» صاح الشابّ و سقط و غشي عليه فلمّا أتّم الشيخ صلاته قال: من هذا؟ قالوا: شابّ صالح خائف من اللّه و له والدة عجوز ليس لها غيره قال الشيخ: ارفعوه و احملوه حتّى نذهب به إلى امّه ففعلوا فلمّا

ص: 235


1- التوبة: 81.

رأت امّه فزعت و أقبلت و قالت: ما فعلتم بولدي؟ قالوا: ما فعلنا به شيئا إلّا أنّه حضر الجماعة و سمع آية مخوّفة من القرآن فلم يطق سماعها فقالت: أيّة آية هي؟ فاقرءوها حتّى أسمع، فقرأها الشيخ فلمّا وصلت الآية إلى سمع الشابّ شهق شهقة اخرى خرجت معها روحه فلمّا رأت الأمّ ذلك و سمعت الآية خرّت ميتة فهكذا تفعل المواعظ في القلوب الواعية.

[إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ كأنّه قيل: ما له يعذّب بهذا العذاب الشديد؟

فأجيب: بهذا السبب عذّب هذا العذاب [وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ الحضّ الحثّ على الفعل و أصله من الحثّ على الحضيض و الحضيض قرار الأرض و المعنى لا يحثّ أهله و غيرهم على إعطاء طعام يطعم به الفقير فضلا عن أن يعطي من ماله و ذكر الحضّ دون الفعل ليعلم أنّ تارك الحضّ بهذه المنزلة فيكون ترك الفعل أشدّ عقوبة و جعل سبحانه حرمان المسكين قريبة للكفر حيث عطفه عليه و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: البخل كفر و الكافر في النار و تخصيص الأمرين بالذكر لما أنّ أقبح العقائد الكفر و أشنع الرذائل البخل و عن أبي الدرداء أنّه كان يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين و كان يقول:

جعلنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الآخر بالإطعام و الحضّ عليه.

[فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ و هو يوم القيامة [هاهُنا] أي في هذا المكان و هو مكان الأخذ الغلّ [حَمِيمٌ أي قريب نسبا أو ودادا و هذا الكلام من بقيّة ما يقال للزبانية حثّا لهم على بطشه [وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أي و لا طعام إلّا من غسالة أهل النار و ما يسيل من أبدانهم من الصديد و القيح و الدم بعصر قوّة الحرارة الناريّة روي أنّه لو وقعت قطرة منه على الأرض لأفسدت على الناس معايشهم و وجه التلفيق بين هذه الآية و بين قوله: [ «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ»] أنّ للنار دركات و لكلّ دركة نوع طعام و الشراب، و قيل: الغسلين شجر في النار أخبث طعامهم.

[لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أصحاب الخطايا أو الخاطئون طريق التوحيد و الخاطئ هو الّذي يفعل ضدّ الصواب متعمّدا و المخطئ هو الّذي يفعله غير متعمّد أي يريد الصواب فيصير إلى غيره.

ص: 236

[فَلا أُقْسِمُ أي فاقسم على أنّ «لا» مزيدة للتأكيد أو المعنى نفي الإقسام لظهور الأمر و استغنائه عن التحقيق بالقسم و قيل: هو جملتان و التقدير و ما قال المكذّبون فلا يصحّ لأنّه قول باطل ثمّ قال: اقسم [بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ قسم عظيم لأنّه قسم بالأشياء كلّها على سبيل الشمول و الإحاطة لأنّها لا تخرج عن قسمين مبصر و غير مبصر فالمبصر المشاهدات و غير المبصر المغيبات فدخل فيهما الدنيا و الآخرة و الأجسام و الأرواح و الإنس و الجنّ و الخلق و الخالق و النعم الظاهرة و الباطنة ممّا يكون لائقا بأن يكون مقسما به إذ من الأشياء ما لا يكون لائقا بأن يكون مقسما به و قيل: إنّ المراد بما أظهره للخلق و الملائكة و القلم و اللوح و بما اختزن في علمه و لم يجز القلم به و لم يشعر أحد به من الملائكة و ما أبدى لهم من علمه في جنب ما اختزنه في علمه عنهم إلّا كذرّة في جنب الدنيا و الآخرة و لو أظهر اللّه ما اختزن لذاب الخلائق عن آخرهم فضلا عن جملة.

[إِنَّهُ أي القرآن [لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ على اللّه و قوله قول الحقّ و أضاف القول إليه لأنّه لمّا قال: «قول رسول» اقتضى مرسلا و ما يقرؤه ليس من كلامه بل هو مبلّغ ذاك الكلام و هو قول مرسلة فالإضافة إلى الرسول من حيث التبليغ إذ الرسول شأنه التبليغ لا الاختراع و قيل: معنى الرسول الكريم المراد جبرئيل أي هو قول جبرئيل الرسول الكريم و النسبة و الإضافة إليه من حيث إنّه أنزله من السماوات إلى الأرض و أملاه على خاتم النبيّين فجبرئيل أيضا منزّل و مبلّغ لا أنّه قوله و القول الأوّل أنسب في المقام و يدلّ عليه مقابلة رسول بشاعر و كاهن لأنّهم كانوا يقولون للنّبي: شاعر و كاهن و لم يقولوا لجبرئيل: شاعر و كاهن.

[وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ] كما تزعمون تارة [قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أى إنّ القليل منكم تؤمنون أو إيمانا قليلا تؤمنون بالقرآن و الرسول، أو المراد بالقلّة النفي أي لا تؤمنون أصلا كقولك لمن لا يزورك: فلمّا تأتينا و أنت لا تأتينا أصلا.

[وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ أي القرآن ليس بقول الكاهن كما يزعمون و الكاهن هو الّذي يخبر عن الكوائن من مستقبل الزمان أو الّذي يزعم أنّ له خدما من الجنّ يأتونه

ص: 237

بضرب من الأخبار و قد انقطعت الكهانة بعد نبيّنا لأنّ الجنّ منعوا من الاستماع.

و قال الراغب في المفردات: الكاهن الّذي يخبر بالأخبار الماضية الخفيّة بضرب من الظنّ كالعرّاف الّذي يخبر بالأخبار المستقبلة بالظنّ و لكون هذه الصناعتين مبنيّتين على الظنّ الّذي يخطئ و يصيب قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أتى عرّافا أو كاهنا فصدّقه بما قال:

فقد كفر بما أنزل اللّه على محمّد و في شرح المشارق: العرّاف من يخبر بما أخفى من المسروق و الضالّة و الكاهن من يخبر بما يكون في المستقبل و في الصحاح: العرّاف الكاهن.

[قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكّرا قليلا أو زمانا قليلا تذكّرون و المراد لا تذكّرون أو المتذكّر منكم قليل و النسبة الّتي نسبوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الشعر و الكهانة ناشئة من عدم شعورهم و قصورهم لأنّ معاني ما يلقيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منافية لمعاني أقوال الكهنة فإنّهم لا يدعون الناس إلى تهذيب الأخلاق و الأعمال المتعلّقة بالمعاد و المبدء بل الكاهن ينصب نفسه للدلالة على بعض الضوائع و بعض الأخبار بالمغيبات حدثا يصدق فيها تارة و يكذب كثيرا و يأخذ جعلا على ذلك فلو تذكّر و تعقّل أهل مكّة معاني القرآن و معاني أقوال الكهنة لما قالوا بأنّه كاهن.

[تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي القرآن منزل من اللّه نزله على لسان جبرئيل تربية و تبشيرا للسعداء و إنذارا للأشقياء و عبّر سبحانه عن المفعول بالمصدر مبالغة.

[وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أي و لو ادّعى محمّد علينا شيئا لم نقله كما تزعمون و التقوّل افتعال القول و اختراعه [لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي بيمينه و سلبنا منه القوّة على التكلم بذلك و قيل، المعنى منعناه بقوّتنا و قدرتنا فيكون المعنى من قبيل ذكر المحلّ و إرادة الحالّ و ذكر الملزوم و إرادة اللازم.

[ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ أي أهلكناه و قطعنا نياط قلبه و النياط عرق أبيض غليظ كالقصبة علّق به القلب إذا انقطع مات صاحبه و في الآية بيان لإهلاكه بأفظع ما يكون.

[فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أي ما من أحد أيّها الناس يقدر على منع إهلاكه و حاصل المعنى أنّه لو قال من عند نفسه شيئا أو زاد أو نقص على ما اوحي إليه لعاقبه اللّه و هو أكرم الناس.

ص: 238

[وَ إِنَّهُ أي القرآن [لَتَذْكِرَةٌ] موعظة [لِلْمُتَّقِينَ من الشرك و حبّ الدنيا بخلاف المشرك و من مال إلى الدنيا فإنّه يكذّب به و لا ينتفع منه [وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ منكم أيّها الناس مكذّبين بالقرآن فنجازيهم على تكذبيهم.

[وَ إِنَّهُ أي القرآن [لَحَسْرَةٌ] و ندامة يوم القيامة [عَلَى الْكافِرِينَ عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين المصدّقين بالقرآن.

[إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ أي القرآن هو الحقّ و اليقين صفتان بمعنى واحد أضيف أحدهما إلى الآخر إضافة الشي ء إلى نفسه مثل «حبّ الحصيد» للتأكيد فإنّ الحقّ هو الثابت الّذي لا يتطرّق إليه الريب و كذا اليقين فالتجلّيات في المعلومات ثلاثة: تجلّي علميّ و تجلّي عينيّ و تجلّي حقّيّ فاليقينيّ هو العلم الحاصل بالإدراك من النظر و الاستدلال بحيث يحصل به اطمينان و يزول الارتياب منه و هو المعبّر عنه بعلم اليقين و مرتبة عين اليقين أعلى من المرتبة الاولى لأنّ أهل الطبقة الاولى يمكن أن يقع لهم خطرات بخلاف أهل عين اليقين فإنّهم أهل إرشاد و النبوّة و أهل حقّ اليقين مرتبة أكمل من المرتبة الثانية بحيث لو رأوا ما كان غائبا لا يزداد في يقينهم يقين و هذه مرتبة الأكملين من الأنبياء و الأولياء كما قال عليّ عليه السّلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا مثاله فالأوّل كعلم الكعبة علما ضروريّا من غير رؤية و الثاني مثل رؤيتها من بعيد و الثالث كدخولها فافهم.

[فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فسبّح اللّه بذكر اسمه العظيم بأن تقول: سبحان اللّه تنزيها عن الرضى بالتقوّل عليه فمفعول سبّح محذوف و الباء في «باسم ربّك» للاستعانة كما في ضربته بالسوط.

روي أنّه لمّا نزلت الآية قال رسول اللّه: اجعلوها في ركوعكم و معنى هذا التسبيح تنزيهه تعالى عن شوب الغير و التشريك و تجريد غيره عن الاستحقاق لهذا الاسم الأعظم الحاوي للأسماء و لكن لا يظهر في قلبك و شهودك أيّها المسبّح تلوين من النفس أو القلب و التوجّه لغيره تعالى فتكون مشبّها لا مسبّحا و مشركا لا مخلصا موحّدا تمّت السورة بعون اللّه

ص: 239

سورة المعارج

اشارة

مكّيّة إلّا قوله: «وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ» مدنيّة.

و عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من أدمن قراءة سورة سأل سائل لم يسأله اللّه يوم القيامة عن ذنب عمله و أسكنه جنّته مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 240

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المعارج (70): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَ نَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)

وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10)

السؤال بمعنى الدعاء و الطلب و اختلف أنّ هذا السائل من هو قيل: القائل هو الّذي قال: «اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك (1)» الآية، هو النضر بن الحارث العبدريّ (2) فالمعنى دعا داع على نفسه بعذاب واقع مستعجلا له و قيل: معنى الآية سأل بعض المشركين من النبيّ فقالوا: لمن هذا العذاب الّذي تذكر؟ جوابه بأنّه [لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ و قيل: معناه دعا داع بعذاب على الكافرين و ذلك الداعي هو النبيّ فحينئذ الباء زائدة للتأكيد كما في قوله: «و هزّي إليك بجزع النخلة» و قرئ «سال سائل بعذاب واقع» على قراءة الألف من سال يسيل سيلا و التقدير سال سيل سائل بعذاب واقع.

و أخبرنا (3) السيّد أبو الحمد قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ قال:

حدّثنا أبو عبد اللّه الشيرازيّ قال، حدّثنا أبو بكر الجرجانيّ قال: حدّثنا أبو أحمد البصريّ قال: حدّثنا محمّد بن سهل قال: حدّثنا زيد بن أبي إسماعيل مولى الأنصار قال: حدّثنا محمّد بن أيّوب الواسطيّ قال حدّثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائه عليه السّلام قال: لمّا نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا يوم غدير خمّ و قال: من كنت مولاه فعليّ

ص: 241


1- الأنفال: 8.
2- منسوب الى عبد الدار.
3- نقله عن مجمع البيان.

مولاه انتشر ذلك في البلاد فقدم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النعمان بن الحرث الفهريّ فقال: أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه فهذا شي ء منك أو أمر من عند اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و اللّه الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من اللّه فولّى النعمان بن الحرث و هو يقول: «اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء» فرماه بحجر على رأسه فقتله و أنزل اللّه تعالى «سأل سائل بعذاب واقع ليس له دافع من اللّه» إذا جاء وقته و أوجبت الحكمة وقوعه.

[مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ صفة للّه تعالى مثل «فالق الإصباح» و المعارج المصاعد و المراد الأفلاك التسعة المرتّبة بعضها فوق بعض أي له مواضع العروج و منه الأعرج لارتفاع إحدى رجليه عن الاخرى.

[تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ] المأمورون بالنزول و الصعود [وَ الرُّوحُ أي جبرئيل أفرده بالذكر لتميّزه و فضله [إِلَيْهِ أي يعرجون من مسقط الأمر إلى عرشه فجعل عروجهم إلى العرش عروجا إلى الربّ لأنّ منه تبتدء الأحكام و إلى حيث شاء اللّه تهبط الملائكة بأمور بني آدم [فِي يَوْمٍ متعلّق بتعرج [كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ ممّا يعدّه الناس و قوله: «خمسين» خبر كان و المعنى كمقدار خمسين ألف سنة اختلف في معناه:

فقيل: تعرج الملائكة إلى الموضع الّذي يأمرهم به في يوم كان مقداره من عروج غيرهم خمسين ألف سنة و ذلك من أسفل الأرضين إلى فوق السماوات السبع و قوله تعالى في سورة السجدة: (1) «في يوم كان مقداره ألف سنة» هو لما بين السماء السماء الدنيا و الأرض خمسمائة في النزول و المراد أنّ الآدميّين لو احتاجوا إلى قطع هذا المقدار الّذي قطعته الملائكة في يوم واحد لقطعوه في هذه المدّة.

و قيل: إنّه يعني يوم القيامة و إنّه سبحانه يفعل فيه من الأمور و يقضي فيه من الأحكام بين العباد ما لو فعل في الدنيا لكان مقداره خمسين ألف سنة عن الجبّائيّ و قتادة و عكرمة. و روى أبو سعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللّه: ما أطول هذا اليوم! فقال:

ص: 242


1- الآية: 5.

و الّذي نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ من صلاة مكتوبة في الدنيا. و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: لو ولّى الحساب غير اللّه لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرقوا و اللّه سبحانه يفرغ عن ذلك في ساعة و عنه أيضا قال: لا ينتصف ذلك اليوم حتّى يقبل أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار.

و قيل: معناه إنّ أوّل نزول الملائكة في الدنيا و أمره و نهيه و قضائه بين الخلائق إلى آخر عروجهم إلى السماء و هو القيامة هذه المدّة فيكون مقدار الدنيا خمسين ألف سنة لا يدري كم مضى و كم بقي و إنّما يعلمه اللّه.

و قال الزجّاج: يجوز أن يكون المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة و ذلك العذاب يقع يوم القيامة.

و في الكافي مقطوعا أنّ قوله: «سأل سائل بعذاب واقع للكافرين» نزلت للكافرين بولاية عليّ قال: هكذا و اللّه نزل بها جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هكذا هو و اللّه مثبت في في صحف فاطمة عليه السّلام. القمّي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في معنى قوله: «يعرج الملائكة و الروح» في صبح ليلة القدر إلى محلّ أمره سبحانه من عند النبيّ و الوصيّ.

و اليوم يوم كالآن و هو أدنى ما يطلق عليه و منه يمتدّ الكلّ و هو المشار إليه بقوله تعالى: «كلّ يوم هو في شأن (1)» فسمّي الزمن الفرد يوما لأنّ الشأن يحدث فيه و هو أصغر الأزمان و يوم كألف سنة و هو اليوم الإلهيّ كما قال: «و إنّ يوما عند ربّك كألف سنة (2)» و قال تعالى: «يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض في يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون (3)» للصعود و الهبوط خمسمائة من سماء الدنيا إلى الأرض و خمسمائة إلى السماء للملائكة المأمورين و يوم كخمسين ألف و هو أوّل أيّام الآخرة و هو يوم القيامة و يوم أهل الجنّة و النار إلى ما لا يتناهى.

و إنّ للقيامة خمسين موقفا يسأل العبد في كلّ موقف منها عن أمر من امور

ص: 243


1- الرّحمن: 29.
2- الحج: 47.
3- حم السجدة: 5.

الدين فإن لم يقدر على الجواب وقف كلّ موقف بمقدار اليوم الإلهيّ الّذي هو ألف سنة ثمّ لا ينتهي اليوم إلى ليل لأنّ زمان أهل الجنّة كالنهار أبدا و زمان أهل النار كالليل أبدا.

و بالجملة في الآية تنبيه و تذكير على أنّ أيّام الآخرة إذا كان يومه و أوّل يومه مقدار خمسين ألف فالويل للعاصي و طوبى للمطيع.

و قيل: المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره كذا و الباء بمعنى عن فيكون قوله: «تعرج الملائكة» معترضة بين الظرف و متعلّقه انتهى.

[فَاصْبِرْ] يا محمّد [صَبْراً جَمِيلًا] على أذاهم و تكذيبهم إيّاك لأنّ سؤالهم كان عن استهزاء و تكذيب و ذلك ممّا يضجره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [إِنَّهُمْ أي المكذّبين و أهل مكّة [يَرَوْنَهُ العذاب الواقع يزعمونه [بَعِيداً] أي يستبعدونه بطريق المحالية كما كانوا يقولون: «أ إذا متنا و كنّا ترابا، الآية» يقول المرء لخصمه: هذا بعيد أي لا يكون [وَ نَراهُ أي نعلمه [قَرِيباً]. و المراد من القرب قرب الإمكان كما أنّ مرادهم من البعد بعد الإمكان لا بعد الزمان أو من باب كلّ ما هو آت قريب:

هل الدنيا و ما فيهما جميعاسوى ظلّ يزول مع النهار

و في الحديث ما الدنيا فيما مضى و ما بقي إلّا كثوب شقّ باثنين و بقي خيط واحد و كاد ذلك الخيط قد انقطع.

و من عجب الأيّام أنّك قاعدعلى الأرض في الدنيا و أنت قسير

فسيرك يا هذا كسير سفينه بقوم قعود و القلوب تطير

[يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ و هو هاهنا خبث الحديد و نحوه ممّا يذاب على مهل و تدريج أو درديّ الزيت لسيلانه على مهل لثخانته قال ابن مسعود: كالفضّة المذابة في تلوّنها أو كالقير و القطران في سوادهما و الظرف متعلّق بقريبا أو متعلّق بمقدّر مؤخّر عن الظرف أي يوم تكون السماء كالمهل تكون من العذاب و الأحوال ما لا يوصف.

[وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ العهن الصوف المصبوغ أي تكون الجبال كالصوف المصبوغ ألوانا فإذا لفّت و طيّرت في الجوّ أشبهت العهن المنفوش إذا طيّرته الريح

ص: 244

و أوّل ما تتغيّر الجبال تصير رملا مهيلا ثمّ عهنا منفوشا ثمّ هباء منثورا.

[وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً] أي لا يسأل قريب قريبا عن أحواله و لا يتكلّمه لابتلاء كلّ منهم بشغله عن ذلك و إذا كان حال القريب هكذا فكيف الأجنبىّ؟ و التنكير للتعميم.

[سورة المعارج (70): الآيات 11 الى 44]

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15)

نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)

وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (25)

وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)

فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)

فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)

عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)

[يُبَصَّرُونَهُمْ استيناف لبيان معنى كأنّه قيل: لعلّه لا يبصره فكيف يسأل عن حاله فقيل: يبصّرونهم و الضمير الأوّل لحميم الأوّل و الثاني للثاني و جمع الضميرين لعموم الحميم و يعدّى بصر إلى المفعول الثاني بالباء و قد تخذف الباء و إذا نسبت الفعل للمفعول به حذفت الجارّ و قلت: بصرت زيدا و يعدّى بالتضعيف إلى ثان و يقوم الأوّل مقام الفاعل لكنّ الشائع تعديته إلى الثاني بحرف الجرّ يقال: بصرته به، لكنّ الآية من قبيل الأوّل.

[يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي يتمنّى الكافر و قيل: كلّ مذنب [لَوْ يَفْتَدِي لو بمعنى التمنّي [مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ] بكسر الميم في يومئذ لإضافة العذاب إلى يوم و قرئ أيضا بالفتح بناء على أنّ الاضافة إلى غير متمكّن أي يتمنّى الكافر أو المذنب أن يفتدي [بِبَنِيهِ بأولاده أصله بنين سقطت نونه بالإضافة و جمعه.

[وَ صاحِبَتِهِ زوجته الّتي يصاحبها [وَ أَخِيهِ الّذي كان ظهيرا له و المراد أنّ اشتغالهم بنفسهم في العذاب بلغ إلى حيث يتمنّى أن يفتدي بأقرب الناس إليه حتّى ينجو فضلا عن أن يهتمّ بشأنهم [وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ الفصيلة في الأصل القطعة المفصولة من الجسد و الجسم و تطلق على الآباء الأقربين و الأولاد. و المراد في الآية الآباء الأقربون لأنّ الأولاد قد ذكروا لقوله: «و بنيه» و معنى «تؤويه» أي تضمّه إليها في النسب، آوى إلى كذا: انضمّ إليه و لاذ بها عند الشدائد أي كانوا في الدنيا ملاذهم و كهفهم.

[وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً] من الثقلين و الخلائق [ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على يفتدي أي يودّ أن يفتدي بهم ثمّ ينجيه الافتداء و ثمّ لاستبعاد الإنجاء و هيهات أن ينجيه! [كَلَّا] للمجرم المتمنّي و تصريح بامتناع الافتداء و فائدته و في الحديث يقول اللّه سبحانه لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أنّ لك ما في الأرض من شي ء أ كنت

ص: 245

تفتدي به؟ فيقول: نعم فيقول اللّه: أردت منك أهون من هذا و أنت في صلب آدم أن لا تشرك بي.

[إِنَّها لَظى أي النار المدلول عليها بقرينة العذاب «لظى» علم للدرك الثاني من جهنّم منقول من اللهب الخالص الّذي لا يخالطه دخان فيكون في غاية الإحراق لقوّة حرارته الناريّة بالصفاء و هو خبر «إنّ» و المراد إنّ النار الّتي تتمنّون أن تفدون عنها لهب خالص.

[نَزَّاعَةً لِلشَّوى النزع جذب الشي ء و قلعه من مقرّه و الشوى جمع شواة و هي جلدة الرأس فالنار تقشّرها عنه، و الشوى الأطراف و الأعضاء فالنار قلّاعة و نزّاعة لها بقوّة الإحراق ثمّ تعود كما كانت و هكذا أبد الآباد.

[تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى عن الحقّ و معرفته و تجذب النار إلى نفسها مجاز عن إحضارهم لأنّها تدعوهم فتحضرهم من مسافة ما بين سنة كالمغناطيس و تقول لهم: إليّ إليّ يا كافر و يا منافق و يا زنديق فإنّي مستقرّك أو المراد أنّ النار تدعوهم بلفظ فصيح بأسمائهم ثمّ تلتقطهم مثل التقاط الطير الحبّ أو تدعو زبانيتها المعرضين عن الطاعة و الإيمان و المقبلين على الكفر و الدنيا.

[وَ جَمَعَ فَأَوْعى و جمع المال حرصا فجعله في وعاء و كنزه و لم يؤدّ حقوقه الواجبة فيه و تشاغل به عن الدين و تكبّر باقتنائه و ذلك لطول أمله و انعدام شفقته على عباد اللّه و في الآية تنبيه على قباحة البخل و أنّه لا يليق بالمؤمن و في الخبر أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بصق عليه السّلام يوما في الأرض و وضع عليها إصبعه ثمّ قال: يقول اللّه لا بن آدم: تعجزني و قد خلقتك من مثل هذه حتّى إذا سوّيتك و عدلتك مشيت بين بردين و للأرض منك وئيد أي صوت شديد فجمعت و منعت حتّى إذا بلغت التراقي قلت: إنّي أتصدّق و أنّى أو ان الصدقة؟

[إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً] أي جنس الإنسان خلق حالكونه هلوعا مبالغة هالع أي سريع الجزع عند مسّ المكروه و سريع المنع عند مسّ الخير يقال: ناقة هلوع حريص سريعة السير.

ص: 246

[إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ] إذا ظرف لجزوعا أي وصل إليه الفقر أو المرض و نحوهما [جَزُوعاً] مظهرا للجزع و هو ضدّ الصبر قال ابن عطا: الهلوع الّذي عند الموجود يرضى و عند المفقود يسخط.

[وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً] أي الصحّة و الخير و السعة مبالغ في الإمساك و المنع أي منوع عند الجدة و جزوع لدى الشدّة قال مقاتل: الهلوع دابّة وراء جبل قاف تأكل كلّ يوم كلاء سبعة أودية و تشرب مياه سبعة أبحر و مع ذلك لا تطيق الحرّ و القرّ و تضطرب لأكل غدها و الأوصاف الثلاثة و هي هلوعا و جزوعا و منوعا امور يتعلّق بها الذمّ و ليست هذه الأوصاف مع أنّها طبائع جبّل الإنسان عليها لا يمكنه أن يفارقها بل يجب عليه تنزيه نفسه عنها لأنّها ليست من اللوازم الماهيّة للوجود بل إنّما حصولها فيه بوضع اللّه و جعل ما يزيلها أيضا بالأسباب الّتي سبّبها في كتب الأخلاق و ليس الإنسان مجبورا في ارتكابها لأنّها كبرودة الماء و حرارته بل هي صفات تتغيّر في مراتبها كزيد و القائم و النائم و زيد هو هو و واحد، فصفة السبعة أو الملكيّة ليست جزء ذات زيد كملازمة الجسميّة لماهيّة زيد و لك الخيار في الصفات فيختار واحد السلمانيّة و الآخر الأباجهليّة قال المتنبّي:

الظلم من شيم النفوس فإن تجدذا عفّة فلعلّه لا يظلم

و الحكمة في وضع هذه الأمور في الطبيعة كخلق الشهوة ليصحّ التكليف و يحارب نفسه و شيطانه فيستحقّ به الثواب إذ لا يحصل الترقي إلّا بالمحاربة فأصل النفس أمّارة لكن لا يظهر أثرها في الكاملين و الممتثلين لأوامر الإلهيّة كما يظهر للناقصين.

[إِلَّا الْمُصَلِّينَ استثناء من الإنسان أي المطبوعين على الصفات الرذيلة مستمرون عليها «إلا المصلّين» فإنهم بدلوا تلك الطبائع و اتّصفوا بأضدادها [الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ لا يشغلهم عنها شاغل فيواظبون على أدائها قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أوّل ما افترض اللّه على امّتي الصلاة الخمس و أوّل ما يرفع من أعمالها الصلاة الخمس و أوّل ما يحاسب به العبد صلاته و إنّه آخر ما يجب عليه رعايته فإنّه يؤخّر الصوم في المرض دون الصلاة و كان آخر ما أوصى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به الصلاة و ما ملكت أيمانكم.

ص: 247

[وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ أي و إلّا الّذين في أموالهم نصيب معيّن يجعلونه تقرّبا إلى اللّه من الزكاة المفروضة و الصدقة [لِلسَّائِلِ للّذي يسأل [وَ الْمَحْرُومِ الفقير الّذي يتعفّف و لا يسأل قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الحقّ المعلوم ليس من الزكاة و هو الشي ء الّذي تخرجه من مالك للفقير.

[وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ و يتعبون أبدانهم و أنفسهم في الطاعة لتصديقهم بيوم الجزاء فمجرّد التصديق بالجنان و اللسان و إن كان ينجي من الخلود في النار لكن لا يؤدّي إلى أن يكون صاحبه مستثنى من المطبوعين بالأحوال المذكورة.

[وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون على أنفسهم مع مالهم من الأعمال الفاضلة استصغارا لها و استعظاما لجنابه تعالى و علامة الخوف الاجتناب عن المعاصي و الملاهي و المؤمن الكامل خوفه من أن لا يقبل حسناته [إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ لا يمكن الأمن من عذابه و الآية بيان أنّه لا ينبغي لأحد أن يأمن من عذابه بل يكون بين الخوف و الرجاء لأنّه لا يعلم أحد عاقبته.

[وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ فرج الرجل و المرأة سوآتهما و الجارّ متعلّق بقوله: «حافظون» عن مباشرة الحرام و حفظ الفرج كناية عن العفّة.

[إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ و على بمعنى «من» أي إلّا من نسائهم المنكوحات و مضيّ مدّة الاستبراء و إيراد ما ملكت الأيمان يدلّ على أنّ المراد من الحافظين إلّا على ملك اليمين هذا الاستثناء خاصّ بالذكور دون الإناث بمعنى أنّ المرأة تملك يمينها لا يجوز لها أن لا تحفظ نفسها عن مملوكها بل واجب عليها صون نفسها عن مملوكه [فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ أي لا تؤاخذون في موارد الاستثناء في الدنيا و لا في الآخرة.

[فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ الّذي ذكر [فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ فالمبتغون بغير ما شرع اللّه هم المتعدّون حدوده الكاملون في العدوان و التجاوز عن الحد و حدّ النكاح أربع من الحرائر و لكن عقد التمتّع و ملك اليمين لا حدّ له و دخل في المنع حرمة وطء الذكران و البهائم و الزنا و الاستمناء روي أنّ العرب كانوا يستمنون في الأسفار

ص: 248

فنزلت الآية.

و في الحديث و من لم يستطع التزويج فعليه بالصوم فلو كان الاستمناء مباحا لكان الإرشاد إليه أسهل لكنّ الحنابلة و بعض الحنفيّة يجوّزونها لكنّه هذا رأي فاسد حتّى عند علماء السنّة و الجماعة قال ابن عطا: سمعت أنّ قوما يحشرون حبالى و أظنّهم هؤلاء قال البغويّ: و الآية دليل على حرمة الاستمناء و الواجب على فاعله التعزير كما قال سعيد بن جبير: عذّب اللّه قوما كانوا يعبثون بمذاكيرهم و يجب العمل بالإرشاد النبويّ الّذي هو الصوم حين التوقان و الحقّ أحقّ أن يتّبع.

[وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ و الأمانة اسم لجنس ما يؤتمن الإنسان عليه سواء كان من جهة الباري و هي أمانات الدين و الشرائع أو من جهة الخلق و هي الودائع و نحوها و قد جعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخيانة عند الائتمان و الكذب عند التحديث و الخلف عند المعاهدة و الفجور عند المخاصمة من خصال المنافق، قال بعض الكبار: من اتّصف بالأمانة كاملا و كتم الأسرار سمع كلام الموتى و عذابهم و نعيمهم كما سمعت البهائم عذاب أهل القبور لعدم نطقها.

[وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ و الجمع باعتبار أنواع الشهادة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا علمت مثل الشمس فاشهد و إلّا فدع و تخصيصها بالذكر مع اندراجها في الأمانات للتأكيد بها لأنّ في إقامتها إحياء الحقوق و في كتمها تضييعها و إبطالها و لا يحلّ أخذ اجرة عليها بالاتّفاق.

[وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ تقديم الجارّ و المجرور تفيد الاختصاص أي يراعون شرائطها و سننها و يحفظونها من الإحباط باقتران الذنوب و القيام بأوقاتها و إنّهم إذا حافظوا عليها فهي يحفظهم أيضا كما قال سبحانه: «إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر (1)» و في الحديث من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيامة و من لم يحافظ عليها لم تكن له نور و لا برهان و لا نجاة و كان يوم القيامة مع قارون و فرعون و هامان و ابيّ بن خلف و هو الّذي ضربه النبيّ في غزوة احد برمح في

ص: 249


1- العنكبوت: 45.

عنقه فمات منه في طريق مكّة و كان أشدّ و أطغى من أبي جهل دلّ على ذلك كونه مقتولا بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يقتل بيده غيره.

[أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ الموصوفون مكرمون بالثواب الأبديّ مستقرّون في جنّات لا يقادر قدرها و لعلّ تقديم الجنّات لمراعاة الفواصل أو المعنى مكرمون كائنين في جنّات.

[فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا] ما استفهاميّة للإنكار في موضع الرفع بالابتداء و «الّذين كفروا» خبرها أي أيّ شي ء للّذين كفروا بتوحيد اللّه و ما بالهم و ما حملهم على ما فعلوا [قِبَلَكَ عندك يا محمّد [مُهْطِعِينَ مسرعين إليك أي ناظرين إليك بالعداوة مبادي أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك.

[عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ الجارّ متعلّق بعزين مفترقين فرقا شتّى و الأصل عزوه من العزو بمعنى الانتساب كان كلّ فرقه تعتزي إلى غير من يعتزي إليها الاخرى و كان المشركون يتحلّقون حول رسول اللّه حلقا حلقا و فرقا فرقا و يستهزءون بكلامه و يقولون: إن دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمّد فلندخلنّها قبلهم فنزلت.

[أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ من هؤلاء المهطعين [أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ليس فيها إلّا التنعّم [كَلَّا] ردع لهم عن ذلك الطمع القارع أي اتركوا هذا الطمع و في تنكير جنّة إشعار بأنّه لا يدخلون في كلّ جنّة [إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ العلم بالنشأة الاولى من حال النطفة ثمّ العلقة ثمّ المضغة.

[فَلا أُقْسِمُ أي اقسم أي ليس الأمر كما يقولون، اقسم [بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ المراد مشرق كلّ يوم من السنة و مغربه فيكون مائة و ثمانون مشرقا و مغربا أو المعنى مشرق كلّ كوكب و مغربه أو أنواع الهدايات و الخذلانات.

[إِنَّا لَقادِرُونَ جواب القسم [عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ و حذف المفعول الأوّل أي نبدّلهم خيرا منهم و خيرا مفعوله الثاني بمعنى التفضيل على فرض التسليم إذ لا خير في المشركين و قد قيل: إنّ اللّه بدّل بهم الأنصار و المهاجرين [وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ و مغلوبين إن أردنا ذلك لكن حكمتنا اقتضت تأخير عقوبتهم و عدم إهلاكهم.

ص: 250

[فَذَرْهُمْ و خلّهم لشأنهم يخوضوا و يشرعوا في باطلهم و يلعبوا في الدنيا بالاشتغال بما لا ينفعهم و هذه الآية منسوخة بآية السيف [حَتَّى يُلاقُوا] من المعاينة [يَوْمَهُمُ هو يوم البعث و الإضافة لأنّه يوم كلّ الخلق و هم منهم أو لأنّ يوم القيامة يوم الكفّار من حيث العذاب و يوم المؤمنين من حيث الثواب فكأنّه يومان: يوم للكافر و يوم للمؤمن [الَّذِي يُوعَدُونَ .

[يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ بدل من يومهم و الأجداث جمع جدث و هو القبر [سِراعاً] جمع سريع حالكونهم مسرعين إلى جانب الداعي و صوته و هو إسرافيل [كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ هو كلّ ما نصب فعبد من دون اللّه و قيل: النصب شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها صاحبها، و نصب و احد الأنصاب و كان للعرب حجارة تعبدها و تذبح عليها قال الأخفش: نصب جمع كرهن و رهن و الأنصاب جمع الجمع [يُوفِضُونَ أي يسرعون أيّهم يستلمه و في الآية تهكّم بهم بذكر جهالتهم الّتي اعتادوها من الإسراع إلى ما لا يملك نفعا و لا ضرّا.

[خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال من فاعل يوفضون و المعنى أبصارهم ذليلة و وصف أبصارهم بالخشوع مع أنّ الدلالة شاملة لهم لغاية ظهورها فيها [تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ] أي تغشاهم حقارة عظيمة و يحيط بهم [ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي ذلك اليوم المذكور بهذه الكيفيّات الّتي سيقع، مبتدء و خبره اليوم الّذي و عدوا به على ألسنة الرسل تمّت السورة بحمد اللّه.

ص: 251

سورة النوح عليه السّلام (مكية)

اشارة

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الّذين تدركهم دعوة نوح.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا تدع أن يقرء سورة إنّا أرسلنا فأي عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة أسكنه اللّه مساكين الأبرار و أعطاه ثلاث (؟) مع جنّته، كرامة من اللّه و زوّجه مائة حوراء و أربعة آلاف ثيّب.

ص: 252

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة نوح (71): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)

النون نون العظمة و الإرسال يقابل بالإمساك أرسل نوح عليه السّلام و اسمه عبد الغفّار سمّي نوحا لكثرة نوحه على نفسه أو هو سريانيّ معناه الساكن لأنّ الأرض سكنت إليه لأنّها طهرت به من خبث الكفّار و هو أوّل اولي العزم من الرسل على قول الأكثرين و كان قومه يعبدون الأصنام و أوّل من عذّبت امّته و هو شيخ المرسلين، بعث ابن أربعين سنة أو ثلاثمائة و خمسين أو أربعمائة و ثمانين و لبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما و عاش بعد الطوفان تسعين سنة.

قال بعض المفسّرين: إنّ في الآية دلالة على أنّه لم يرسل إلى أهل الأرض كلّهم لأنّه تعالى قال: «إلى قومه» فلو أرسل إلى الكلّ لقيل: إلى الخلق أو ما يشابهه كما قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و ما أرسلناك إلّا كافّة للناس (1)» و لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

كان نوح النبيّ بعث إلى قومه خاصّة و بعثت إلى الناس عامّة.

ص: 253


1- سبا: 28.

ثمّ قال: إن قيل: فما جريمة غير قومه حتّى عمّم الناس في الدعاء عليهم فقال:

«لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا»؟ فإنّه إذا لم يرسل إليهم لم يكن كلّهم مخالفا لأمره حتّى يستحقّوا الدعاء أجيب بأنّه تحقّق أنّ الناس في زمانه في الكفر على سجيّة واحدة يستحقّون بذلك و لمّا أخبر بأنّه لا يؤمن منهم إلّا من آمن معه دعا على من عدا باستيصال العذاب لهم.

و قال بعضهم: إنّه كان مرسلا لجميع أهل الأرض لأنّه لو لم يكن مرسلا للجميع ما دعا عليهم لقوله تعالى: «و ما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا (1)».

فإن قلت: إذا كانت رسالته عامّة لجميع الناس فكانت مساوية لرسالة نبيّنا فما معنى قول النبيّ: إنّ نوحا بعث إلى قومه خاصّة و بعثت إلى الناس عامّة؟

فالجواب إنّ رسالة نوح عامّة في زمنه و رسالة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عامّة لجميع من في زمنه و من يوجد بعد زمنه إلى يوم القيامة فلا مساواة فحينئذ سقط السؤال و في الكلام بيان آخر و هو أنّ هذا العموم الّذي حصل له بعد الطوفان لم يكن من أصل بعثته بل طرأ بعد الطوفان بخلاف رسالة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ و خوّفهم بالنار على عبادة الأصنام كي ينتهوا عن الشرك و أن مفسّرة لما في الإرسال من معنى القول [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ من اللّه عاجل كالطوفان أو آجل كعذاب الآخرة لئلّا يبقى لهم عذر.

[قالَ يا قَوْمِ و أصله قومي، خاطبهم بإظهار الشفقة على قومه [إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ] منذر من عاقبة الكفر و أفرد الإنذار مع كونه بشيرا لأنّ الإنذار أقوى في تأثير الدعوة و هو مقدّم كما قال لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قم فأنذر» و الإنذار متعلّق بالكافر كما أنّ التبشير متعلّق بالمؤمن و قومهم كانوا كفرة و لا يستحقّون حال الكفر التبشير [مُبِينٌ أي موضح لكم أمركم بلغة تعرفونها.

[أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي بأن اعبدوا اللّه و الأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات و الأحكام من الأفعال القلوب و الجوارح [وَ اتَّقُوهُ يتناول الزجر و المنع عن جميع

ص: 254


1- الإسراء: 15.

المحظورات [وَ أَطِيعُونِ في أخلاقي و صفاتي و أضاف الإطاعة إلى نفسه لأنّ طاعة الرسول طاعة اللّه و إن كانت تقع له عليه السّلام في الظاهر.

[يَغْفِرْ لَكُمْ جواب الأمر [مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم هو ما سلف في الجاهليّة لا ما تأخّر عن الإسلام فإنّه يؤاخذ به و لا يكون مغفورا بسبب الإيمان لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله [وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى بالحفظ من عذاب الاستيصال و استحقاق العذاب إلى زمان مقدّر عند اللّه أي لا يصيبكم في هذه المقدّرة هلاك بسبب كفركم إذا آمنتم.

[إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ] و هو الأجل الّذي قدّر لكم على تقدير بقائكم على الكفر و هو الأجل القريب الّذي استحققتم بسبب الكفر [لا يُؤَخَّرُ] فبادروا إلى الإيمان قبل وقوعه [لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شيئا لسارعتم إلى ما أمرتكم به.

[قالَ أي نوح مناجيا لربّه و حاكيا له و هو أعلم بحال ما جرى بينه و بين قومه من القيل و القال بعد ما بذل مجهوده في الدعوة و ضاقت عليه الحيل: [رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى الايمان [لَيْلًا وَ نَهاراً] أي دائما بلا فتور فهما ظرفان لدعوت أراد على الدوام لأنّ الزمان منحصر فيهما و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأتي بالليل على أبوابهم و يرد على جماعتهم بالنهار فيقرع الباب؟ فيقول صاحب البيت: من على الباب؟ فيقول أنا نوح: قل لا إله إلّا اللّه.

[فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً] ممّا دعوتهم إليه [وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان [لِتَغْفِرَ لَهُمْ بسبب قبول الدعوة [جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ و سدّوا مسامعهم قصدا إلى عدم الاستماع [وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ الاستغشاء التقنّع و التغطّي باللباس و بالغوا في التغطّي بثيابهم لئلّا يبصروا نوحا كراهة منه فإنّ المبطل يكره رؤية المحقّ و لئلّا يعرفهم و يدعوهم [وَ أَصَرُّوا] و أقاموا على الكفر و المعاصي و أكبر الإصرار السعي في طلب الأوزار و قيل: في معنى الإصرار في الآية أن يعتقد بقلبه أنّه متى قدر على الذنب فعله [وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً] تعظّموا عن طاعتي و أخذتهم العزّة لأنّهم قالوا: «أ نؤمن لك و اتّبعك الأرذلون».

ص: 255

[ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً] أظهرت لهم الدعوة علنا و الجهر ظهور الشي ء بإفراط لحاسّة البصر و السمع [ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً] إشارة إلى ذكر عموم الحالات بعد ذكر جميع الأوقات أي دعوتهم على وجوه متخالفة و أساليب متفاوته و ثمّ لتفاوت الوجود.

و في بعض التفاسير أنّ نوحا عليه السّلام لمّا آذوه بحيث لا يوصف حتّى كانوا يضربونه في اليوم مرّات قلّ صبر نوح فسأل اللّه أن يواريه عن أبصارهم بحيث يسمعون كلامه و لا يرونه ينالونه بمكروه ففعل اللّه ذلك به فدعاهم كذلك زمانا فلم يؤمنوا فسأل أن يعيده إلى ما كان و هو قوله: «أعلنت لهم و أسررت لهم إسرارا».

[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي قلت لهم عقيب الدعوة عطف على قوله: «دعوت» اطلبوا المغفرة منه لأنفسكم بالتوبة عن الكفر و المعاصي [إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً] للتابئين و المراد من كونه غفّارا في الأزل كونه مريدا للمغفرة في وقتها المقدّر و هو وقت وجود المغفور له و في الحديث من اعطي الاستغفار لا يمنع المغفرة لأنّه قال: «استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا» و لذا كان أمير المؤمنين يقول: ما ألهم اللّه عبدا الاستغفار و هو يريد أن يعذّبه و الغفّار أبلغ من الغفور و الغفر الستر و التغطية و منه قيل لجنّة الرأس «المغفر» لأنّه يستر الرأس و المغفرة من اللّه سترة للذنوب و عفوه عنها بفضله و رأيت في بعض الأخبار من كتب أهل السنّة عبدي لو أتيتني بتراب الأرض ذنوبا لغفرتها لك ما لم تشرك بي.

حكي أنّ شيخا حجّ مع شابّ فلمّا أحرم الشيخ قال: لبّيك اللّهم لبّيك فقيل له: لا لبّيك فقال الشابّ للشيخ: أ ما تسمع هذا الجواب؟ فقال: كنت أسمع هذا الجواب منذ سبعين سنة قال، فلأيّ شي ء تتعب نفسك؟ فبكى الشيخ فقال: فإلى أيّ باب ألتجئ؟

فقيل له: قد قبلناك.

[يُرْسِلِ السَّماءَ] أي المطر كما قال الشاعر: «إذا نزل السماء بأرض قوم» و قيل: حذف المضاف أي ماء السماء [عَلَيْكُمْ حالكونه [مِدْراراً] كثير الدّرور و السيلان و الانصباب و في الإرسال مبالغة بالنسبة إلى الإنزال و كذا

ص: 256

المدرار صيغة مبالغة و مفعال ممّا يستوي فيه المذكّر و المؤنّث و يرسل جواب شرط محذوف و التقدير: إن تستغفروا يرسل السماء و لمّا طالت الدعوة و ما نفعت و كذّبوه حبس اللّه عنهم القطر و أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة و قيل: سبعين سنة فوعدهم إن آمنوا أن يرزقهم اللّه الخصب و يدفع عنهم ما كانوا فيه.

[وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ و يعط لكم المدد و القوّة بهما [وَ يَجْعَلْ لَكُمْ و ينشئ لكم [جَنَّاتٍ بساتين ذوات أشجار و أثمار [وَ يَجْعَلْ لَكُمْ فيها [أَنْهاراً] جارية تزيّنها بالنبات.

[ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً] أي أيّ سبب حصل لكم في أنّكم غير معتقدين للّه عظمة موجبة لتوحيده و الطاعة له و الرجاء بمعنى الاعتقاد و الظنّ و كذلك لا تخشون منه عقابا و لا ترجون منه ثوابا.

[وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً] يقال: عدا طوره أي تجاوز حدّه و المعنى و الحال أنّه تعالى خلقكم تارات حالا بعد حال عناصر ثمّ أغذية ثمّ أخلاطا ثمّ نطفا ثمّ علقة ثمّ مضغا ثمّ عظاما و لحوما ثمّ أنشأكم خلقا آخر و قيل: المراد خلقكم صبيانا و شبابا و شيوخا و طوالا و قصارا و أقوياء و ضعفاء مختلفين في الخلق و الخلق فحينئذ التقصير في توقير من هذه قدرته ممّا لا يكاد يصدر من العاقل.

[سورة نوح (71): الآيات 15 الى 28]

أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)

لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23) وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)

مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)

[أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ الرؤية يمكن أن يكون بمعنى العلم لأنّ ذلك علم بالسماع من أهله أو بمعنى الإبصار و المراد مشاهدة الصنع الدالّ على العلم كيف خلق هذه السماوات المرفوعة حالكونها [طِباقاً] مطابقا بعضها فوق بعض.

[وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً] أي جعله منوّرا لوجه الأرض في ظلمة الليل و نسبة إلى الكلّ مع أنّه في السماء الدنيا لأنّ كلّ واحدة من السماوات شفّافة لا تحجب ما وراءها فيرى الكلّ كأنّها سماء واحدة، و من ضرورة ذلك أن يكون ما في واحدة منها كأنّه في الكلّ على أنّه ذهب جماعة مثل ابن عبّاس و وهب بن منبّه إلى أنّ الشمس و القمر و النجوم وجوهها ممّا يلي السماء و ظهورها ممّا يلي الأرض و لفظ السراج يقتضي ذلك لأنّ ارتفاع نوره في طرف العلوّ و لو لا ذلك لأحرقت جميع ما في الأرض

ص: 257

لشدّة حرارتها و نورها فجعلها اللّه نورا و سراجا لأهل الأرض و السماوات على أن لو كان في واحدة منهنّ يجوز أن يقال: فيهنّ كما يقال: أتيت بني تميم و إنّما أتى بعضها.

[وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً] أي مصباحا يضي ء لأهل الأرض فهي سراج العالم كما أنّ المصباح سراج الإنسان هي في السماء الرابعة و قيل: في الخامسة و قيل: في الشتاء في الرابعة و في الصيف في السابعة و لو أضاءت من الرابعة أو من سماء الدنيا لم يطق لها شي ء لكنّ الجمهور على أنّها في الرابعة لا يختلف و قوله تعالى: «سراجا» من باب التشبيه البليغ و كذلك شبّه اللّه نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالسراج قال: «و سراجا منيرا» لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أزال ظلمة الكفر و أنار الخلق بنور التوحيد.

[وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً] أي إنباتا عجيبا بواسطة إنشاء أبيكم آدم منها أو إنشاء الكلّ منها من حيث إنّه خلقهم من النطف المتولّدة من الأغذية المتولّدة من النبات المتولّدة من الأرض استعير الإنبات للإنشاء لكونه أول التكوين و الحدوث و وضع نباتا موضع إنباتا مصدر بحذف الزوائد و قيل: نباتا حال لا مصدر.

[ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها] في الأرض بالدفن [وَ يُخْرِجُكُمْ منها عند البعث [إِخْراجاً] محقّقا لا ريب فيه لمجازاة الأعمال [وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ كرّر الاسم الجليل للتعظيم [الْأَرْضَ بِساطاً] مبسوطة متّسعة كالفراش تتقلّبون عليها تقلّبكم على بسطكم.

[لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً] من السلوك و هو الدخول لا من السلك و هو الإدخال طرقا واسعة جمع سبيل و فجّ هو الطريق الواسع و جعل صفة لسبلا. و يستعمل في الطريق الواسع أي لتسلكوا متّخذين من الأرض سبلا فتتصرّفوا فيها مجيئا و ذهابا و جعلها مبسوطة للسلوك و العيش كالنوم و الاستقرار و الحرث و الفرش و السلوك جسمانيّ و روحانيّ كطلب العلم و الحجّ و المعرفة و التجارة و الطرق الموصلة إلى الكمال و الأحوال كالعبادة و الزهد و السلوك الروحانيّ لا يحصل إلّا بالسلوك الجسمانيّ كما كان معراجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالبدن.

[قالَ نُوحٌ أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربّه فهو بدل من «قال» الأوّل و لذا ترك العطف أي قال مناجيا لربّه: أي [رَبِ بحذف الياء [إِنَّهُمْ عَصَوْنِي

ص: 258

و داموا على عصياني مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة [وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً] استمرّوا على اتّباع رؤسائهم الّذين أبطرتهم أموالهم و أولادهم و صارت سببا لخسارتهم في الآخرة فصاروا أسوة لهم في الخسار و اتّبعوهم لوجاهتهم بسبب المال و الأولاد لما شاهدوا فيهم من شبهة مصحّحة للاتّباع كما قالت قريش: لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فجعلوا إقبال الدنيا سببا مصحّحا للاتّباع.

[وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً] أي الكبرياء منهم مكروا مكرا كبيرا في الغاية و الكبّار نحو الطوّال بالتشديد أبلغ من الكبار بالتخفيف و مكرهم الكبير احتيالهم في منع الناس عن اتّباع نوح و تحريص الناس على أذيّة نوح، و لمّا كان التوحيد أعظم المراتب كان المنع منه أعظم الكبائر و لذا وصف بالكبائر.

[وَ قالُوا] أي الرؤساء للأتباع و السفلة: [لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً] أي لا تتركوا عبادتها [وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً] جرّد يغوث و يعوق عن حرف النفي إذ بلغ التأكيد نهايته و خصّ عبادة هؤلاء بالذكر فهو من باب عطف الخاصّ على العامّ لأنّها كانت أكبر أصنامهم و أعظم ما عندهم و قد انتقلت هذه الأصنام عنهم إلى العرب فكان ودّ لكلب بدومة الجندل و لذلك سمّت العرب بعبد ودّ.

قال الراغب: الودّ صنم سمّي عند العرب لاعتقادهم أن بينه و بين اللّه مودّة و كان سواع لهمدان قبيلة باليمن و يغوث لمذحج كمجلس و عنه كانت العرب تمسّي عبد يغوث و يعوق لمراد أبو قبيلة سمّي به لأنّه تمرّد عن قبيلته و نسر لحمير موضع غربيّ صنعاء اليمن و انتقلت أسماء هذه الأصنام إلى العرب فاتّخذوا أمثالها فعبدوها.

و قيل: إنّها أعيان تلك الأصنام و الطوفان دفنها و غمرها في ساجل جدّة فلم تزل مستورة حتّى أخرجها العين لمشركي العرب نظيره ما روي أنّ آدم عليه السّلام كتب اللغات المختلفة في طين و طبخه فلمّا أصاب الأرض الغرق بقي مدفونا ثمّ وجد كلّ قوم كتابا مكتوبة فأصاب إسماعيل الكتاب العربيّ.

و قيل: إنّ الأصنام أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم و نوح ماتوا فحزن الناس عليهم حزنا شديدا و اجتمعوا حول قبورهم لا تكادون يفارقونها و ذلك بأرض بابل فلمّا رأى

ص: 259

إبليس فعلهم ذلك جاء إليهم في صورة إنسان و قال لهم: هل لكم أن اصوّر لكم صورهم إذا نظرتم إليها ذكرتموهم و استأنستم و تبرّكتم بهم قالوا: نعم فصوّر لهم صورهم من صفر و رصاص و نحاس و خشب و حجر و سمّى الصور بأسمائهم ثمّ لما تقادم الزمن و انقرضت الآباء و الأبناء و أبناء الأبناء قال اللعين لهم: إنّ من قبلكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوها في زمان مهلاييل بن قينان ثمّ صارت سنّة في العرب في الجاهليّة.

و قيل: إنّ المؤسّس لعبادة الأصنام في العرب عمر بن لحيّ بن قمعة علّمه جنيّ كان تابعه فقال له: اذهب إلى جدّة و ائت منها بالآلهة الّتي تعبد في زمن نوح و إدريس و هي ودّ، فذهب و أتى بها إلى مكّة و دعا إلى عبادتها فانتشرت عبادة الأصنام في العرب و عاش عمر و ثلاثمائة و أربعين سنة و رأى من ولده و ولد ولده ألف مقاتل و مكث هو و ولده في ولاية البيت خمسمائة سنة ثمّ انتقلت الولاية إلى قريش مكثوا فيها خمسمائة سنة اخرى فكان البيت بيت الأصنام ألف سنة.

و ذكر الشعرانيّ أنّ أصل وضع الأصنام إنّما هو من قوّة التنزيه من العلماء الأقدمين فإنّهم نزّهوا اللّه عن كلّ شي ء و أمروا بذلك عامّتهم فلمّا رأوا أنّ بعض عامّتهم صرّح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام و كسوها الديباج و الحليّ و الجواهر و عظّموها بالسجود و غيره ليتذكّروا بها الحقّ الّذي غاب عن عقولهم و غاب عن أولئك العلماء الجهلاء أنّ ذلك لا يجوز إلّا بإذن اللّه و إنّ ما أمروا به يفضي إلى هذا الأمر الشنيع.

و قيل: إنّ هذا الأمر سرى من الهند إلى أرض العرب، و ودّ كان على صورة رجل و سواع على صورة امرأة و يغوث على صورة أسد و يعوق على صورة فرس و نسر على صورة نسر.

[وَ قَدْ أَضَلُّوا] الرؤساء أو الأصنام و الجملة حاليّة [كَثِيراً] جمعهم جمع العقلاء لعدّهم آلهة [وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ بالإشراك فإنّ الشرك ظلم عظيم [إِلَّا ضَلالًا] الجملة عطف على قوله: «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي» أي قال: ربّ إنّهم عصوني و قال: «و لا تزد الظالمين إلّا ضلالا» من غير أن يعطف أحدهما على الآخر فحكى اللّه أحد قولي نوح بتصديره بلفظ «قال» و حكى قوله الآخر بعطفه على قوله الأوّل بالواو النائبة عن لفظ «قال»

ص: 260

و لا يلزم عطف الإنشاء على الإخبار.

و المراد من الضلال في الآية الضياع و الهلاك و الضلال في تمشية مكرهم بالإهلاك لا في أمر دينهم حتّى يقال: إنّ هذا الدعاء يتضمّن الرضى بكفرهم و قد بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق أن يدعو اللّه في ضلالهم و إن كان يمكن أن يجاب عن هذا الإيراد بأنّه بعد ما اوحي إليه أنّه لا يؤمن من قومك إلّا من قد آمن و نظيره دعاء موسى بقوله:

«وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» (1) و من أحبّ عذاب الكافر و أحبّ موت الشرير بالطبع على الكفر حتّى ينتقم اللّه منه لا ضرر فيه فيؤول المعنى «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» و غيّا ليزدادوا عقابا نظير قوله: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» (2) و قد دعا عليه السّلام بهذا الدعاء بعد أن دعا الأبناء بعد الآباء بلغوا سبعة قرون فلمّا آيس من إيمانهم و اخبر أنّهم لا يؤمنون دعا عليهم.

[مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من أجل خطيئات قوم نوح و كفرهم و معاصيهم و ما زائدة بين الجارّ و المجرور لتأكيد الحصر المستفاد من تقديم الظرف أي إغراقهم بالطوفان لم يكن إلّا من أجل خطيئاتهم تكذيبا لقول المنجّمين من أنّ ذلك كان لاقتضاء الأوضاع الفلكيّة و هذا القول كفر لكونه مخالفا لتصريح هذه الآية و لزيادة «ما» الإبهاميّة فائدة غير التأكيد و هي تفخيم خطيئاتهم العظيمة و من لم ير زيادتها جعلها نكرة و جعل خطيئاتهم بدلا منها [أُغْرِقُوا] في الدنيا بالطوفان [فَأُدْخِلُوا ناراً] تنكير النار لتعظيمها أو المراد عذاب القبر عقيب الإغراق و إن كانوا في الماء فإنّ منّ مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع أو الطير أصابه ما يصيب المقبور من العذاب:

لا تعجبنّ لأضداد إذا اجتمعت فاللّه يجمع بين الماء و النار

أو المراد من النار نار جهنّم و التعقيب لتنزيله منزلة المتعقّب لاقترابه و تحقّقه [فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً] و فيه تعريض باتّخاذهم آلهة من دون اللّه و بأنّها غير قادرة على نصرهم [وَ قالَ نُوحٌ بعد أن قنط من اهتدائهم بالأمارات و بإخبار اللّه إيّاه

ص: 261


1- يونس: 88.
2- المائدة: 32.

[رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ و لا تترك [مِنَ الْكافِرِينَ بك [دَيَّاراً] يدور في الأرض و يتحرّك فيذهب و يجي ء أي فأهلكهم بالاستيصال.

و قال بعض: إنّ معنى الدّيار ليس من الدور بل من الدار و أصله ديوار و قد فعل به ما فعل بأصل «سيد» و المراد لا تذر ممّن ينزل الدار و يسكنها إذ لو كان بمعنى الدوران كما فسّرنا لم يبق على وجه الأرض جنّي و لا شيطان و إنّما أراد صلّى اللّه عليه أهل كلّ ساكن دار من الكفّار أي كلّ إنسيّ. لكن هذا القول: ضعيف لأنّ نوح ما كان الجنّ و الشيطان من امّته إذ لم يكن نوح مبعوثا إلى الثقلين فهذا الدليل الّذي قال: لم يبق على وجه الأرض جنّي و لا شيطان غير موجّه على أنّه ليس ديّار فعالا من الدار و إلّا لقيل: دوّار لأنّ أصل دار دور فقلبت واوه ألفا فلمّا ضعّفت عينه كان دوّارا بالواو المشدّدة و لا وجه لقلبها ياء.

[إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ عليها كلّا أو بعضا بيان لوجه دعائه عليهم و إظهار بأنّه كان من الغيرة في الدين لا لغلبة غضب النفس لهواها [يُضِلُّوا عِبادَكَ عن طريق الحقّ و يصدّوهم عن السبيل لأنّ الرّجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح عليه السّلام فيقول له: احذر هذا فإنّه كذّاب و إنّ أبي حذّرنيه و أوصاني بمثل هذه الوصيّة فيموت الكبير و ينشأ الصغير على ذلك.

[وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً] و الفجور شقّ ستر الديانة [كَفَّاراً] مبالغة في الكفر أي لا يلدون و لا ينتجون إلّا من سيفجر و يكفر و إنّما قاله بالوحي لقوله في سورة هود: «وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» و هذا الدعاء كان في الأواخر.

[رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ أبو نوح اسمه لمك بن متوشلخ على وزن متدحرج و امّه سمخاء بنت أنوش كانا مؤمنين قال ابن عبّاس: لم يكفر لنوح أب ما بينه و بين آدم و في إشراق التواريخ امّه قسوس بنت كابيل و قيل: هيجل بنت لاموس و كانا مسلمين على ملّة إدريس و قيل: المراد بوالديه آدم و حوّاء [وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ أي منزلي و قيل:

مسجدي و قيل: سفينتي فإنّها له بمنزلة البيت [مُؤْمِناً] حالكون الداخل مؤمنا و

ص: 262

بهذا القيد خرجت امرأته واعلة و ابنه كنعان و [لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ خصّ أوّلا من يتّصل به نسبا و دينا ثمّ عمّ المؤمنين و المؤمنات.

و في الحديث ما الميّت في قبره إلّا كالغريق المتنوّث ينتظر دعوة يلحقه من أب أو أخ أو صديق فإذا لحقته كانت أحبّ إليه من الدنيا و ما فيها و إنّ اللّه ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الأرض أمثال الجبال و إنّ هديّة الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم.

[وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً] أي هلاكا و التبر دقاق الذهب قال عليه السّلام في الأوّل: «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» لأنّه وقع بعد قوله: «و قد أضلّوا كثيرا» و في الثاني «إلّا تبارا» لأنّه وقع بعد قوله: «و لا تذر على الأرض» فذكر في كلّ مكان ما شاكل معناه و ما اقتضاه فاستجيب دعاؤه و عمّهم الطوفان بالغرق و أهلكهم عن آخرهم و ما نقل عن بعض المنجّمين من أنّه أراد جزيرة العرب فوقع الطوفان عليهم دون غيرهم فذلك كلام فاسد مخالف للقرآن و السنّة و تفسير العلماء و أصحاب التواريخ.

و أمّا صبيانهم قيل: إنّ اللّه أعقم أرحام نسائهم و أيبس أصلاب رجالهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنّة فلم يكن معهم صبيّ و لا مجنون حين غرقوا لأنّ اللّه قال: «و قوم نوح لمّا كذّبوا الرسل أغرقناهم» (1) و لم يوجد التكذيب من الأطفال و المجانين و قيل:

غرق معهم صبيانهم أيضا لكن لا على وجه العقوبة لهم بل لتشديد عذاب آبائهم و امّهاتهم بإراءة إهلاك أطفالهم الّذين كانوا أعزّ عليهم من أنفسهم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يهلكون مهلكا واحدا و يصدرون مصادر شتّى، و عن الحسن أنّه سئل عن ذلك فقال: علم اللّه سرايتهم فأهلكهم بغير عذاب و كم من صبيان يموتون بالغرق و الحرق و سائر أسباب الهلاك و اللّه أعلم بمصالح الحكمة تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 263


1- الفرقان: 37.

سورة الجن (مكية)

اشارة

ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و من قرء سورة الجنّ اعطي بعدد كلّ جنّي و شيطان صدّق بمحمّد و كذّب به عتق رقبته.

و قال الصادق عليه السّلام: من أكثر قراءة قل اوحي لم يصبه في حياة الدنيا من أعين الجنّ و لا من نفثهم و لا من كيدهم و سحرهم و كان مع محمّد و آله.

ص: 264

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً (3) وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)

وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (8) وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)

وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)

[قُلْ يا محمّد لقومك: [أُوحِيَ إِلَيَ و القي عليّ بطريق الوحي و أخبرت بأعلام من اللّه و الإيحاء إعلام في خفاء [أَنَّهُ بالفتح لأنّه فاعل اوحي و الضمير الشأن و الحديث [اسْتَمَعَ أي القرآن أو طه أو اقرأ و المفعول محذوف لدلالة ما بعده عليه و المستمع من كان قاصدا للسماع مصغيا إليه و السامع من اتّفق سماعه من غير قصد إليه [نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ جماعة منهم ما بين الثلاثة و أقل من العشرة و الجنّ واحده جنّي كروم و روميّ.

قال ابن عبّاس: انطلق رسول اللّه في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ فأدركهم وقت صلاة الفجر و هم بنخلة فأخذ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي بأصحابه صلاة الفجر فسحر عليهم نفر من الجنّ و هم في الصلاة فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له و فيه دليل على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ير الجنّ حينئذ إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي و كذا لم يشعر بحضورهم و باستماعهم و لم يقرء عليهم و إنّما اتفق حضورهم في قراءة فسمعوها فأخبر اللّه بذلك.

و الجنّ أجسام رقاق في صورة تخالف صورة الملك و الجنّ عاقلة مدركة كالإنس خفيّته عن الأبصار لا يظهرون لهم و لا يكلّمونهم إلّا صاحب معجزة و يغلب عليهم الناريّة

ص: 265

و الهوائيّة و المركّبات كلّها من العناصر فما يغلب عليهم للناريّة فناريّ كالجنّ و ما يغلب فيه الهواء فهوائيّ كالطير و ما يغلب فيه الماء فمائيّ كالسمك، و ما يغلب فيه التراب فترابيّ كالإنسان و سائر الحيوانات الأرضيّة.

[فَقالُوا] لقومهم عند رجوعهم إليهم: [إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً] أي كتابا مقروّا على لسان الرسول [عَجَباً] مصدر بمعنى العجيب وضع موضع العجيب للمبالغة أي بديعا مباينا لكلام الناس.

و فيه إشارة إلى أنّهم كانوا من أهل اللسان؛ قال عيزار بن حريث: كنت عند عبد اللّه بن مسعود فأتاه رجل فقال له: كنّا في سفر فإذا بحيّة جريحة تتشحّط في دمها فقطع رجل قطعة من عمامته فلفّها فيها فدفنها فلمّا أمسينا و نزلنا أتانا امرأتان من أحسن نساء الجنّ فقالتا: أيّكم صاحب عمرو، أي الحيّة الّتي دفنتموها؟ فأشرنا لهما إلى صاحبها فقالتا: إنّه آخر من بقي ممّن استمع القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بين كافري الجنّة و مسلميهم قتال فقتل فيهم فإن كنتم أردتم به الدنيا عوّضناكم، فقلنا: لا إنّما فعلنا ذلك للّه، فقالتا: أحسنتم و ذهبتا فقال: إنّ اسم الّذي لفّ الحيّة صفوان بن معطّل المراديّ.

[يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ] إلى الحقّ و صلاح الدين و الدنيا، و الرشد كالقفل خلاف الغيّ، و الرشد كالذهب يقال في الأمور الاخرويّة فقط [فَآمَنَّا بِهِ أي بذلك القرآن [وَ لَنْ نُشْرِكَ بعد اليوم [بِرَبِّنا أَحَداً] و لا نعبد غيره.

[وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا] أي و أنّ الشأن ارتفع عظمة ربّنا مستعار من الجدّ الّذي معناه الحظّ و البخت و الغنى [مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً] أي لم يختر لنفسه لكمال تعاليه زوجة و لا ابنا و لا بنتا لأنّهم بعد ما سمعوا القرآن و وقفوا للتوحيد تنبّهوا للخطاء فيما اعتقده كفرة الجنّ من تشبيه اللّه بخلقه فاستعظموه و نزّهوه عن هذه النقيصة و لوازم الإمكان و الحدوث.

[وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا] و جاهلنا و مردة الجنّ [عَلَى اللَّهِ شَطَطاً] و تجاوزا عن الحدّ في الظلم و وصف القول بالمصدر للمبالغة في التجاوز في الظلم و هو نسبة الشريك

ص: 266

و الصاحبة و الولد إليه.

[وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً] اعتذارهم من تقليدهم لسفيههم أي كنّا نظنّ أنّ الشأن و القصّة: لن يكذب على اللّه أحد أبدا و لذلك اتّبعنا قولهم فلمّا سمعنا القرآن علمنا أنّهم كذبوا عليه تعالى، و «كذبا» مصدر مؤكّد لتقول.

[وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ أي و أنّ الشأن كان في الجاهليّة رجال كائنون من الإنس يلتجئون و يتعلّقون برجال من الجنّ قال أهل التفسير كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر في بعض مسائره و خاف على نفسه يقول:

أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه فيبيت في أمن و جوار حتّى يصبح فإذا بذلك استكبروا و قالوا: سدنا الإنس و الجنّ و ذلك قوله تعالى: [فَزادُوهُمْ رَهَقاً] أي فزاد الرجال العائذون الإنسيّون الجنّ رهقا و تكبّرا و عتوّا و سفها و الرهق محرّكة يجي ء على معان: منها السفه و ركوب الشرّ و الظلم، و يجوز أن يكون المراد من الرجال العائذين رجال الجنّ زادوا الأنس ظلما و ضلالة.

[وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً] اختلف في معناها قيل: إنّ هذه الآية بقيّة من حكاية قول مؤمني الجنّ لكفّارهم إنّ الكفّار الّذين يعوذون برجال من الجنّ الكفرة في الجاهلية حسبوا كما حسبتم أن لن يبعث اللّه رسولا بعد موسى و عيسى و قيل: هذه الآية ما قبلها اعتراض من كلام اللّه و معناه إنّ الجنّ ظنّوا كما ظننتم معاشر الإنس أنّ اللّه لا يحشر أحدا يوم القيامة و لا يحاسبه أو لن يبعث اللّه أحدا رسولا.

[وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ] أي طلبنا و التمسنا قرب السماء لاستراق السمع أو طلبنا الصعود إلى السماء فعبّر باللمس مجازا [فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً] أي حفظة من الملائكة شدادا [وَ شُهُباً] و الشهب جمع شهاب و هو نور يمتدّ من السماء كالنار أي ملئت السماء من الحرس و الشهب.

[وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ لاستراق السمع أي كان يتهيّأ لنا فيما قبل القعود في مواضع الاستماع فنسمع منها بعض كلام الملائكة و من أحاديث البخاري

ص: 267

عن عائشة عن رسول اللّه أنّ الملائكة تنزل في العنان بالفتح و هو السحاب فتذكّر الأمر الّذي قضى في السماء فتسترق الشياطين السمع و تسمعه ثمّ توحيه إلى الكهّان فيكذبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم.

[فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ في مقعد من المقاعد و الآن أي في هذا الزمان و بعد البعث [يَجِدْ لَهُ جواب للشّرط أي يجد لنفسه [شِهاباً رَصَداً] أي شهابا راصدا لأجله و مترقّبا له يصدّه عن الاستماع بالرجم أو ذوي شهاب راصدين ليرجموا المستمع بما معهم من الشهب فلمّا رأى الجنّ ذلك قالوا: ما هذا إلّا لأمر أراده اللّه بأهل الأرض و ذلك قولهم:

[وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء منّا [أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً] خيرا و صلاحا، و في بيان الآية أدب أدّب اللّه الخلق لأنّ نسبة الخير في الآية إلى اللّه و نسب الشرّ مجهولا.

[سورة الجن (72): الآيات 11 الى 20]

وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً (13) وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)

وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)

ثمّ قال في تمام الحكاية عن الجنّ الّذين آمنوا عند سماع القرآن: [وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ و هم الّذين عملوا الصالحات المخلصون [وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ أي دون الصالحين في الرتبة و [كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً] أي فرقا شتّى و متباينة كلّ فرقة تباين صاحبتها كما يبيّن المقدود بعضه من بعض و الجنّ أمثال الإنس فمنهم قدريّة و مرجئة و شيعة و خوارج و صفت الطرائق بالقدد لدلالتها على التقطّع و الاختلاف.

[وَ أَنَّا ظَنَنَّا] أي علمنا الآن بالاستدلال [أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ و لن نفوته إذا أراد بنا أمرا [وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً] و أنّه تعالى يدركنا حيث كنّا.

ص: 268

[وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي القرآن [آمَنَّا بِهِ من غير تأخير و تردّد [فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ و بما أنزله من الهدى [فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً] نقصا في الجزاء و لا ترهقه و تغشاه ذلّة و ظلم فلا يخاف نقصا في حسناته و لا زيادة في سيّئاته أو لا يخاف نقصا قليلا و لا كثيرا و ذلك أنّ أجره و ثوابه موفّر و هذا حكاية عن قوّة إيمان الجنّ و صحّة إسلامهم.

ثمّ قالوا: [وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ الّذين انقادوا للحقّ [وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عن طريق الحق الّذي هو الإيمان و القاسط الجائر لأنّه عادل عن الحق و المقسط العادل لأنّه عادل إلى الحق يقال: قسط إذا جار و أقسط إذا عدل.

قال صاحب تفسير روح البيان: و قد غلب هذا الاسم على حزب معاوية و منه الحديث خطابا لعليّ عليه السّلام: تقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين، فالناكثون أصحاب عائشة فإنّهم الّذين نكثوا البيعة و استنزلوا عائشة و ساروا بها إلى البصرة على جمل اسمه عسكروا لذا سمّيت الوقعة يوم الجمل، و القاسطون أصحاب معاوية لأنّهم قسطوا و جاروا حين حاربوا الإمام الحقّ و الواقعة تعرف بصفّين، و المارقون الخوارج فإنّهم الّذين مرقوا و خرجوا من دين اللّه و استحلّوا القتال مع خليفة رسول اللّه و هم عبد اللّه بن وهب الراسبيّ و حرقوص بن زهير البجليّ المعروف بذي الثديّة و تعرف تلك الواقعة بيوم النهروان هي من أرض العراق على أربعة فراسخ من بغداد انتهى كلامه.

[فَمَنْ أَسْلَمَ يجوز أن يكون من بقيّة كلام الجنّ و يجوز أن يكون مخاطبة من اللّه لرسوله [فَأُولئِكَ إشارة إلى من أسلم و الجمع باعتبار المعنى [تَحَرَّوْا رَشَداً] التحرّي طلب الأليق أي طلبوا الهداية العظيمة.

[وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عن سنن الهدى [فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً] أي هم حطب توقد بهم في جهنّم.

[وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا] أن مخفّفة من المثقّلة أي أنّ الشأن: لو استقام الجنّ أو الإنس أو كلاهما على طريقة الإسلام [لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً] الإسقاء و السقي بمعنى و قيل: السقي و السقيا هو أن تعطيه ماء ليشرب و الإسقاء أن تجعل له ذلك حتّى يتناوله

ص: 269

كيف شاء و غدق إذا غزر وصف الماء به في غزارته كرجل عدل و تخصيص الماء الكثير بالذكر لأنّه أصل السعة و المعنى لأعطيناهم مالا كثيرا و عيشا رغدا.

[لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ و لنعاملهم معاملة المختبر في ذلك التوسيع أ يشكرونه أم يكفرون به و فيه إشارة إلى أنّ المرزوق يجب عليه القيام بشكره و ذلك لوظائف الطاعات و العبادات و الواجبات.

[وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ و وحيه [يَسْلُكْهُ يدخله [عَذاباً صَعَداً] أي شاقّا صعبا يعلو المعذّب و يعذّبه على أنّه مصدر وصف العذاب به للمبالغة ثمّ إن كان إعراضه عن الوحي و الذكر بعدم التصديق كان عذاب التأبيد و إلّا فبقدر جرعة إن لم تغفر له و روي أنّ «صعد» جبل في النار إذا وضع عليه يديه أو رجليه ذابتا و إذا رفعهما عادتا و قيل:

«صعد» جبل أملس في جهنّم و يكلّف الوليد بن المغيرة صعوده أربعين عاما فيجذب في أعلاه بالسلاسل فإذا انتهى إلى أعلاه انحدر إلى أسفله ثمّ يكلّف ثانيا و هكذا يعذّب أبد الآباد.

[وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ عطف على قوله: «استمع» أي و اوحي إليّ أنّ المساجد مختصّة باللّه و بعبادته خصوصا المسجد الحرام فالمراد بالمساجد المواضع الّتي بنيت للصلاة و العبادة كمسجد رسول اللّه و مسجد بيت المقدس و أمثالها و حاصل المعنى أن لا تذكروا مع اللّه في المواضع الّتي بنيت للعبادة أحدا على وجه الإشراك في عبادته كما يفعل النصارى في بيعهم و المشركون في الكعبة قال الحسن: و من السنّة عند دخول المساجد أن يقال:

لا إله إلّا اللّه لا أدعو مع اللّه آخر.

و قيل: المراد من المساجد مواضع السبعة في السجود من الإنسان و هي الجبهة و الكفّان و أصابع الرجلين و عينا الركبتين و هي للّه فلا ينبغي أن يسجد بها إلّا اللّه و روي أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمّد بن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام عن قوله: «و أنّ المساجد للّه» فقال: هي الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها.

و قيل: إنّ المراد بالمساجد البقاع كلّها و ذلك لأنّ الأرض كلّها جعلت للنبيّ مسجدا قال سعيد بن جبير: قالت مؤمنو الجنّ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف لنا أن تأتي المسجد

ص: 270

و نشهد معك الصلاة و نحن نامون عنك؟ فنزلت الآية و يروى عن كعب أنّه قال: إنّي لأجد في التوراة أنّ اللّه يقول: إنّ بيوتي في الأرض المساجد و إنّ المسلم إذا توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ أتى المسجد فهو زائر اللّه و حقّ على المزور أن يكرم زائره و لعلّ الحكمة في إيجاب السجود على هذه الأعضاء أنّ هذه الأعضاء الّتي عليها مدار الحركة هي المفاصل الّتي تنفتح و تنطبق و السعي و يحصل بها اجتراح السيّئات و ارتكاب موجبات الشهوات فشرع اللّه بها السجود للتكفير و التطهير و محو الذنوب.

[وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي و اوحي إليّ أنّ الشأن و القصّة: لمّا قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لذا جعلوه في أسمائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه هو العبد الحقيقيّ لمّا قام يدعو يقول: لا إله إلّا اللّه و يقرء القرآن [كادُوا] يعني قريشا [يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً] جمع لبدة بالكسر مثل قربة و قرب، و هي ما تلبّد بعضه على يعض و تراكب و تلاصق و منها لبدة الأسد و هي الشعر المتراكب بين كتفيه.

و المعنى أنّ قريشا و مشركي العرب يتراكمون و يزدحمون للإنكار و يتعاونون عليه، عن الحسن و قتادة.

و قيل: الضمير في كادوا راجع إلى الجنّ من ازدحامهم عليه تعجّبا ممّا رأوا من قراءته و عبادته عن ابن عبّاس و الضحّاك.

و قيل: هو بيان قول النفر من الجنّ: لأصحابهم حين رجعوا إليهم و مرادهم أنّ أصحاب النبيّ يتزاحمون عليه لاستماع القرآن منه يودّ كلّ واحد منهم أن يكون أقرب من صاحبه فيتلبّد بعضهم على بعض فعلى هذا المعنى هذا الكلام حكاية اللّه حال النفر من الجنّ و ليس من جملة ما أوحى اللّه إلى النبيّ.

و بالجملة إذا كان المراد من الآية ما ذهب إليه ابن عبّاس و أكثر المفسّرين، فالازدحام و التلبّد من النفر القليل يمكن أن يراد منه أنّ النفر لم يزالوا يدنون من جهة واحده حتّى كانوا عليه لبدا أو بأن يتجوّز في النفر و هم أكثر من النفر و حينئذ تعيين العدد على ما فعله بعضهم بلا معنى قال ابن مسعود: وقع الازدحام في المجنون بعدّ العود من نخلة.

ص: 271

[قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً] و ذلك أنّ قريش قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إنّك جئت بأمر عظيم لم نسمع مثله فارجع عنه فأمره سبحانه قل لهم: إنّما أدعو ربّي و معنى هذه يعضد قول الحسن: حيث ردّ ضمير كادوا إلى قريش.

[سورة الجن (72): الآيات 21 الى 28]

قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)

عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً (28)

ثمّ خاطب نبيّه فقال:

[قُلْ يا محمّد: للناس لا أقدر على دفع الضرر عنكم و لا إيصال الخير إليكم و إنّما القادر على ذلك هو اللّه تعالى و هذا اعتراف بالعبوديّة و إضافة الحول و القوّة إليه.

ثمّ قال: [قُلْ يا محمّد لهم: [إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ] و لا يمنعني أحد ممّا قدّره اللّه عليّ و لا يخلّصني من اللّه إن خالفت أمره أحد [وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً] يقال: التحد فيه أي مال عنه و يقال للملتجأ: الملتحد أي لن أجد عند الشدائد ملتجأ غيره و إذا لا أملك لنفسي شيئا فكيف أملك لكم شيئا.

[إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء متّصل من قوله: «لا أملك» و فائدة الاستثناء المبالغة في توصيف نفسه بالتبليع للدلالة على أنّه لا يدع التبليغ الّذي يستطبعه و قوله: «من اللّه» صفة بلاغا أي بلاغا كائنا منه و بلاغا واقع موقع التبليغ كما يقع السلام و الكلام موقع التسليم و التكليم و المعنى لا أملك شيئا سوى تبليغ وحي اللّه [وَ رِسالاتِهِ الّتي أرسلني بها و جمع الرسالة باعتبار تعدّد ما أرسل هو به.

[وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي خالف أمره في التوحيد و ارتكب الكفر و المعاصي

ص: 272

[فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً] جزاء على ذلك و الجمع باعتبار المعنى و قوله:

«أبدا» دفع لأن يراد بالخلود المكث الطويل.

[حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ غاية لمحذوف يدلّ عليه الحال من استضعاف الكفّار له و لأنصاره و لاستقلا لهم لعددهم حتّى قالوا هم بالإضافة إلينا كالحصاة من جبال كأنّه قيل: لا يزالون على ما هم عليه حتّى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب في الآخرة [فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ عند حلول العذاب بهم [مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً] أهم أم المؤمنون؟ و ناصرا و عددا منصوبان على التمييز و حمل بعضهم ما توعدون على ما رأوه يوم بدر و أيّا ما كان ففيه دلالة على أنّ الكفّار مخذولون و إن كثروا عددا لأنّ الكافرين لا مولى لهم و الواحد على الحقّ هو السواد الأعظم فإنّ نصره ينزل من العرش.

[قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً] أي ما أدري، «أ قريب» خبر مقدّم لقوله: «ما توعدون» أو يكون ما توعدون فاعلا لقريب سادّ مسدّ الخبر لوقوعه بعد همزة الاستفهام و ما موصولة و العائد محذوف أي ما أدري أ قريب الّذي توعدونه أم غاية تطول مدّتها و الأمد و إن كان يطلق على القريب إلّا أنّ المقابلة تخصّصه بالبعيد و الفرق بين الزمان و الأمد أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية و الزمان عامّ في المبدء و الغاية و حاصل المعنى أنّ الموعود كائن لا محالة و أمّا وقته فما أدري لأنّ اللّه لم يبيّنه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة.

فإن قيل: أليس قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بعثت أنا و الساعة كهاتين؟ فكان عالما بقرب وقوع القيامة فكيف قال هاهنا: لا أدري أ قريب أم بعيد؟

فالجواب أنّ المراد بقرب وقوعه هو أنّ ما بقي من الدنيا أقلّ ممّا انقضى فهذا القدر من القرب كان معلوما عنده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمّا قربه بمعنى كونه يتوقّع ساعته و يعرف زمانه فغير معلوم عنده و عند غيره، على أنّ كلّ آت قريب.

[عالِمُ الْغَيْبِ وحده أي هو عالم لجميع ما غاب عن الخلق و اللام للاستغراق [فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً] أي لا يطلع على الغيب أحدا من عباده.

ثمّ استثنى فقال: [إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعني الرسل فإنّه يستدلّ على

ص: 273

نبوّتهم بأن يخبروا بالغيب لتكون آية معجزة لهم فمن اختار للرسالة فإنّه يطّلعه على ما شاء من غيبه على حسب ما يراه من المصلحة و هو قوله:

[فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً] أي يدخل و يثبت قدّام الرسول المختار المرتضى و من جوانب الرسول عند إظهاره له على الغيب حرسا من الملائكة يحرسونه من بعض الشياطين و لمّا أظهره عليه من الغيوب المتعلّقة برسالته يعني إنّ جبرئيل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يسمع الجنّ الوحي فيلقونه إلى كهنتهم فتخبر به الكهنة قبل الرسول فيختلط على الناس أمر الرسالة هذا كما جرّب عادة الملوك بأن يضمّوا إلى الرسول جماعة من خواصّهم تشريفا له كما روي أن سورة الأنعام نزلت و معها سبعون ألف ملك، و الراصدون هم الراقبون من الملائكة لهذا الأمر.

و قيل: معنى الآية أنّ اللّه يجعل لرسوله المختار للرسالة رصدا و طريقا إلى علم ما كان قبله من الأنبياء و السلف و علم ما يكون بعده.

[لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ليعلم الرسول أنّ الملائكة قد أبلغوا قال سعيد بن جبير: ما نزل جبرئيل بشي ء من الوحي إلّا و معه أربعة من الملائكة حفظة فيعلم الرسول قد أبلغ الرسالة على الوحي الّذي قد امر به. و قيل: ليعلم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الرسل قبله قد أبلغوا جميع رسالات ربّهم كما أبلغ أو كانوا محروسين محفوظين بحفظ اللّه.

و قيل: ليعلم اللّه أن قد أبلغوا لا أنّه سبحانه ما كان يعلم قبل وقوعه قبل الإبلاغ بل المعنى ليظهر المعلوم على ما كان سبحانه عالما به و يعلمه واقعا كما كان يعلم أنّه سيقع و قيل: المعنى ليبلغوا فجعل بدل ذلك ليعلم إبلاغهم توسّعا.

[وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي أحاط سبحانه علما بما لدى الأنبياء و الخلائق و هم لا يحيطون إلّا بما يطّلعهم اللّه عليه ممّا هو عند اللّه.

[وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً] أي عرف عدد ما خلق لم يفته علم شي ء حتّى مثاقيل الذرّ و الخردل و لا شي ء يعلمه عالم أو يذكره ذاكر إلّا و هو تعالى عالم و إن حمل الإحصاء على العلم تناول جميع المعلومات و إن حمل على العدّ تناول الموجودات.

ص: 274

و الآيه صريحة على أنّ علمه بالأشياء ليس على وجه كلّي إجماليّ بل على جزئيّ تفصيليّ و أيضا يستدلّ من الآية على أنّ المعدوم ليس بشي ء لأنّه لو كان شيئا لكانت الأشياء غير متناهية و كونه أحصى عددها يقتضي كونها متناهية لأنّ الإحصاء إنّما يكون في المتناهي فيلزم الجمع بين كونها متناهية و غير متناهية و ذلك محال تمّت السورة بعون اللّه

ص: 275

سورة المزمل

اشارة

مكّيّة و قيل: مدنيّة و قيل: بعضها مكّيّ و بعضها مدنيّ. قال رسول اللّه: و من قرء سورة المزّمّل دفع عنه العسر في الدنيا و الآخرة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)

وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)

[يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ و المتلفّف بثيابه و المتغطّي بها، أدغمت التاء في الزاي لقرب المخرج و لأنّه أبدى إلى المسموع من التاء فقيل: المزمّل بتشديدين، كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نائما بالليل في قطيفة فأمر أن يترك التزمّل إلى التشمّر للعبادة و يختار التهجّد على الجهود قال ابن عبّاس: أوّل ما جاءه جبرئيل خافه فظنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسّا من الجنّ فرجع من جبل حراء إلى بيت خديجه مرتعدا و قال: زمّلوني فبينما هو كذلك إذ جاء جبرئيل و قال: [يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ و عن عكرمة أنّ المعنى يا أيّها الّذي زمّل أمرا عظيما و حمله و الزمل الحمل و ازدمله احتمله.

قال السهيليّ: ليس المزّمّل من أسمائه و إنّما المزّمّل مشتقّ من حالته الّتي كان عليها وقت الخطاب و كذا المدّثّر و في هذا الخطاب الملاطفة فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب سمّوه باسم مشتقّ من حالته الّتي هو عليها كقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ حين وقعت معاتبة بينه و بين فاطمة فأتاه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ نائم قد لصق بجبينه التراب

ص: 276

فقال له: قم يا أبا تراب، ملاطفة له و كذلك قوله لحذيفة: قم يا نومان و كان حذيفة نائما و إنّما خوطب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا الخطاب في بدو الوحي و لم يكن قد بلغ شيئا ثمّ خوطب بعد ذلك بالنبيّ و الرسول.

[قُمِ اللَّيْلَ أي لا تزمّل و ترقد و دع هذه الحال لما هو أفضل منها و قم إلى الصلاة في الليل و حذف «في» و أوصل الفعل إلى الظرف فنصب لأنّ عمل الجرّ لا يكون في الفعل و النصب أقرب إليه من الرفع و من ذلك قال بعضهم: هو مفعول نظرا إلى الظاهر في الاستعمال [إِلَّا قَلِيلًا] استثناء من الليل.

[نِصْفَهُ بدل من الليل بدل البعض من الكلّ أي قم نصفه و التعبير عن المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتناء بشأن النصف المقارن للقيام و الإيذان بفضله و كون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب بمعنى أنّه يجوز أن يوصف النصف المستثنى بكونه قليلا بالنسبة إلى النصف المشغول بالعبادة مع أنّهما متساويان في المقدار حيث إنّ النصف الفارغ لا يساويه بحسب الفضيلة و الشرف فالاعتبار بالكيفيّة لا بالكمّيّة.

[أَوِ انْقُصْ مِنْهُ أي انقص القيام من النصف إلى الثلث [قَلِيلًا] أي نصفا قليلا أو مقدارا قليلا [أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي على النصف إلى الثلثين بمعنى أن قم و صلّ ثلثي الليل الليل و نم ثلثه قال الصادق عليه السّلام القليل النصف. أو انقص من القليل قليلا أو زد على القليل قليلا و قيل: معنى الآية قم نصف الليل إلّا قليلا من الليالي و هي ليالي العذر كالمرض و غلبة النوم و علّة العين و نحوها أو انقص من النصف قليلا أ وزد عليه و بالجملة خيّر اللّه سبحانه نبيّه في هذه الساعات للقيام بالليل و جعله موكولا إلى رأيه.

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير و شقّ ذلك عليهم و كان الرجل منهم لا يدري كم صلّى و كم بقي من الليل فكان يقوم الليل كلّه مخافة أن لا يحفظ قدر الواجب حتّى خفّف عنهم بآخر هذه السورة.

و عن سعيد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول اللّه فقالت: أ لست تقرء يا أيّها المزّمّل؟ قلت: بلى قالت: فإنّ اللّه أفرض قيام الليل في أوّل هذه السورة فقام النبيّ و أصحابه حولا و أمسك اللّه خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتّى أنزل

ص: 277

اللّه في آخر هذه السورة التخفيف بقوله تعالى: «فاقرءوا ما تيسّر من القرآن» فصار قيام الليل تطوّعا بعد أن كان فريضة.

و قيل: كان بين أوّل السورة و آخرها الّذي نزل فيه التخفيف عشر سنين، و القائل سعيد بن جبير، و قيل: هذا كان بمكّة قبل فرض الصلوات الخمس ثمّ نسخ بالخمس و قيل:

هذا التخيير في القيام بين نصف الليل أو أقلّ منه أو أزيد منه في الآية على حسب طول الليل و قصره فالنصف إذا استوى الليل و النهار و النقص منه إذا قصر الليل و الزيادة إذا طال الليل.

[وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا] أي بيّنه بيانا و اقرأه على هنيئتك و لا تنثره نثر الرمل و اقرأه بالتئيب و النظم و التوالي و التؤدة و توفّ حقّها في أداء الحروف و لا تغيّر لفظا و لا تقدّم مؤخّرا و هو مأخوذ من ترتّل الأسنان إذا استوت و أحسن انتظامها يقال: ثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها.

و بالجملة رتّله ترتيلا بليغا في قراءتك في القيام و غيره بحيث يتمكّن السامع من عدّها و لذا نهى ابن مسعود عن التعجيل و قال: لا يكن همّ أحدكم آخر السورة و لذا قيل: شرّ القراءة الهذرمة أي السرعة و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجوّد القرآن، و تجويده تحسين ألفاظه بإخراج الحروف من مخارجها و إعطاء حقوقه من صفاته كالجهر و الهمس و اللين و نحوها بغير تكلّف من التمطيط و التجاوز عن الحدّ و كان ينبغي للقاري أن يحذر عن الإدماج و التخليط بحيث يلفّ بعض الكلمات في بعض الكلمات في بعض آخر لزيادة السرعة كالبياض إن قلّ صار سمرة و إن كثر صار برصا و ما فوق الجعودة فهو القطط.

قال النبيّ: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرء القرآن أقلّ من ثلاث لم يفهمه و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم عشرين مرّة و كان له كلّ مرّة فهم و في كلّ كلمة علم و قد كان بعض الأصحاب يقول: كلّ آية لا أفهمها و لا يكون قلبي فيها لم أعدّ لها ثوابا و إذا قرء سورة لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية.

قال بعض العلماء: لكلّ آية ستّون ألف فهم و ما بقي من فهمها أكثر و المقصود

ص: 278

من إنزال القرآن فهم الحقائق و العمل بالفحاوي شرّع الإنصات لقراءة القرآن وجوبا عند بعض و ندبا عند بعض أو وجوبا في القراءة في الصلاة و ندبا في غيرها على الاختلاف بين العامّة و الخاصّة و للقاري أجر و للمستمع أجران.

قال صاحب روح البيان ختم القرآن في ركعة واحدة أربعة: تميم الدارميّ و عثمان ابن عفّان و سعيد بن جبير و أبو حنيفة و كان همسر بن المنهال يختم في الشهر تسعين ختمة و ما لم يفهم رجع فقرء مرّة اخرى. و في القاموس: و أبو الحسن عليّ بن عبد اللّه ابن ساوان ختم في النهار أربع ختمات إلّا ثمنا مع إفهام التلاوة.

و في الخبر طيّبوا طرق القرآن من أفواهكم باستعمال السواك، و الصلاة بعد السواك تفضل على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفا.

و فيما روى أبو عبيد القاسم بن سلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن قال السيّد المرتضى في الغرر و الدرر: معناه أراد أن يستغني بالقرآن تقول العرب تغنّيت تغنّيا و تغانيت تغانيا قال ابن مسعود: من قرأ سورة آل عمران فهو غنيّ أي مستغن قال الأعشى:

و كنت امرءا زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغنّ

و في حديث: نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل. و في حديث آخر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا ينبغي لحامل القرآن أن يظنّ أنّ أحدا اعطي أفضل ممّا ممّا اعطي لأنّه لو ملك الدنيا بأسرها لكان القرآن أفضل ممّا ملكه و لو كان معنى ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن الترجيع و حسن الصوت لعظمت المحنة على أكثر الناس بذلك.

و ذكر الأنباريّ وجها آخر في الخبر و هو أنّ المراد من لم يتلذّذ بالقرآن و لم يستحله و لم يستعذب تلاوته كاستحلاء أصحاب الطرب للغناء و التذاذهم به و سمّي ذلك تغنّيا توسّعا نظير قولهم: العمائم تيجان العرب و الحبى حيطان العرب و الشمس حمّامات العرب انتهى.

[إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا] أي سنرمي إليك قولا ثقيلا و هو القرآن العظيم المنطوي على تكاليف شاقّة ثقيلة بالنسبة إلى عدم التكليف و الثقل حقيقة في الأجسام ثمّ

ص: 279

يقال: للمعاني باعتبار اللازم منه أو ثقيلا حين إلقائه عليه كما سئل رسول اللّه كيف تأتيك الوحي؟ قال: يأتيني مثل صلصلة الجرس أحيانا و هو أشدّ عليّ فيفصم و يقلع عنّي و قد وعيت ما قال و أحيانا تمثل إلى الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول: قالت عائشة:

و لقد رأيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينزّل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إنّ جبينه ليترشّح عرقا.

و قوله «إنّا سنلقي، الآية» اعتراض بين الأمر و هو «قم الليل» و تعليله و هو [إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ لتسهيل ما كلّفه من القيام و عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه قالا:

«الناشئة» هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل و قيل: معناه ساعات الليل لأنّها تنشأ ساعة بعد ساعة أي إنّ ساعات الليل الناشئة و قيل: الناشئة بالجنسيّة قيام الليل.

[هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً] أي كلفة و ثقلا مصدر وطئ الشي ء أي داسه برجله لأنّ العبادة في تلك الساعات أثقل على الإنسان من العبادة في النهار و المقصود بيان أفضليّة العبادة في ذلك الوقت و قد جعل اللّه الليل لباسا يستر الناس و يمنعهم عن الاضطراب و الحركة و أقدامهم للعبادة أثبت بخلاف النهار فإنّهم فيه مباشرون امور معاشهم.

[وَ أَقْوَمُ قِيلًا] اسم من القول بمعناه فقلب الواو ياء أي أزيد في الاستقامة في المقال و الطبع أفرغ فيه و قيل: الناشئة أن تكون بعد النوم فلو لم يتقدّمها نوم لم تكن ناشئة.

[إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا] أي تقلّبا و تصرّفا في مهمّاتك كتردّد السائح في الماء و مشتغلا بشواغلك فلا تستطع أن تنفرغ كاملا في العبادة و قيل: المعنى إن فاتك من الليل شي ء من العبادة فلك فراغ في النهار فتداركه فيه حتّى لا ينقص شي ء من حظّك من العبادة لربّك.

و في بعض كلمات المحقّقين: من فاته نافلة من النوافل أو ورد من الأوراد استحبّ له فعل مثله متى ذكره لا على وجه القضاء في الأوراد و لكن على سبيل التدارك و رياضة النفس كيلا تعتاد الرخص و أمّا في النوافل لا بأس على وجه القضاء بتداركها.

[وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ و دم على ذكره تعالى ليلا و نهارا على أيّ وجه كان من

ص: 280

تسبيح و تهليل و تحميد و صلاة و قراءة قرآن و دراية علم خصوصا بعد صلاة الغداة و قبل غروب الشمس فإنّهما من ساعات الفتح و الفيض قلبا لسانا أركانا قياما و قعودا لأنّ العبد بسبب دوامه و اشتغاله بهذا الفيض الأعظم و هذه المناسبة يغلب قدسه على دنسه إن كان من أهل الدنس و تصير مناسبا لعالم القدس و إن كان أهل السعادة فحينئذ يترقّى مقامه من مرتبة إلى مرتبة و هلمّ جرّا و يفيض عليه من العلوم ما شاء اللّه.

[وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا] أي انقطع إلى ربّك انقطاعا بالعبادة و التوجّه الكلّيّ و إخلاص النيّة و جرّد نفسك عن امور الصادّة عن مراقبة اللّه و اقطع العلائق عمّا سواه و ليس هذا منافيا لقوله: لا رهبانيّة و لا تبتّل في الإسلام فإنّ التبتّل هنا هو الانقطاع عن النكاح و منه قيل لمريم: البتول، أي المنقطعة عن الرجال و أمّا إطلاق البتول على فاطمة عليه السّلام فلكونها شبيهة بمريم في أنّها سيّدة نساء بني إسرائيل في الانقطاع عمّا سوى اللّه لا عن النكاح.

و قيل: تبتيلا مكان تبتّلا لأنّ معنى التبتّل بتّل نفسه، فجي ء على معناه مراعاة لحقّ الفواصل أو من قبيل قوله: «و اللّه أنبتكم من الأرض نباتا» تقديره أنبتكم منها إنباتا فنبتم نباتا و كذا هنا التقدير تبتّل إليه تبتّلا بتبتّلك عمّا سواه تبتيلا.

فإن قيل: إنّ التبتّل و الانقطاع الكلّي ينافي معه قوله: «إنّ لك في النهار سبحا طويلا».

فالجواب أنّ عمل الظاهر لا يقع الكامل عن ذكره و مراقبته فمن مستنفل و من ذاكر و ذلك بحسب اختلاف الأحوال و الأشخاص و قد يكون مشاغله الظاهرة في حكم العبادة و الانقطاع.

[رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ أي هو ربّهما و خالقهما يريد به جنس المشارق و المغارب في الشتاء و الصيف [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] استيناف لبيان ربوبيّته بنفي الألوهيّة عمّا سواه [فَاتَّخِذْهُ لمصالح دينك و دنياك، و الفاء لترتيب الأمر و موجبة على اختصاص الربوبيّة [وَكِيلًا] مفوّضا إليه موكولا له لإصلاحها و استرح أنت.

و اعلم يا أخي أنّ من جعل اللّه و كيلا لزمه أيضا أن يكون و كيلا للّه على نفسه

ص: 281

في استحقاق حقوقه و فرائضه و كلّ ما يلزمه فيخاصم نفسه في ذلك ليلا و نهارا لا يقصر لحظة و لا يقصر طرفة قال الزورقي: خاصيّة الاسم نفي الحوائج و المصائب فمن خاف ريحا أو صاعقة أو نحوهما فليكثر منه فإنّه يصرف عنه السوء و يفتح له أبواب الرزق.

[وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ يعني قريشا من الخرافات و الهذيانات في حقّ اللّه من الشريك و الصاحبة و الولد و في حقّك من الساحر و الشاعر و الكاهن و المجنون و في حقّ القرآن من أنّه أساطير الأوّلين و نحو ذلك.

[وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا] تأكيد للأمر بالصبر أي و اتركهم تركا حسنا بأن تجانبهم بقلبك و هواك و الهجر و الهجران مفارقة الإنسان غيره و ذلك يكون بالبدن أو باللسان أو بالقلب و قوله: «و اهجرهم» يحتمل للثلاثة.

[سورة المزمل (73): الآيات 11 الى 13]

وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَ جَحِيماً (12) وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً (13)

[ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أي دعني و إيّاهم و كل أمرهم إليّ و لا تشتغل قلبك بمجازاتهم. و الآية للتهديد كما يقول القائل: دعني و إيّاه. و «ذر» أمر من و ذر لكن لم يجعلوا له ماضي مثل دع لم يجعلوا و دع لأنّ الابتداء بالواو يستكرهونه و لذلك أبدلوا في بعض الموارد الواو بالهمزة أو التاء مثل اقّتت و تراث و تخمة، و المكذّبين مفعول معه و يجوز على العطف أي دعني على أمري ودع المكذّبين.

[أُولِي النَّعْمَةِ] صفة للمكذّبين بين أي أرباب التنعّم و الترفّه قريشا لا سيّما بني المغيرة. و النعمة بفتح النون التنعّم و بكسرها الإنعام و ما أنعم به عليك و بالضمّ السرور و التنعّم استعمال ما فيه النعومة و اللين من المأكول و الملبوس و معلوم أنّ متعلّق الذمّ ليس نفس النعمة و الرزق بل المتنعّم كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن واليا: إيّاك و التنعّم فإنّ عباد اللّه ليسوا بالمتنعّمين، و فيه تسلية للفقراء فإنّهم يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.

[وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا] و المهل التؤدة و السكون أي مهّلهم زمانا قليلا و أجلا يسيرا و لا تعجل فإنّ اللّه سيعذّبهم في الآخرة إذ عمر الدنيا قليل و كلّ آت قريب.

ص: 282

[إِنَّ لَدَيْنا] في الآخرة [أَنْكالًا] أي قيودا ثقالا يقيّد بها أرجل المجرمين إهانة لهم و تعذيبا لا خوفا من فرارهم جمع نكل بالكسر و هو القيد الثقيل بيان الاقتدار على الانتقام منهم و مضادّة على تنعّمهم الباطل في الدنيا بكفران النعمة [وَ جَحِيماً] و هي كلّ نار عظيمة في مهواة شديدة الحرّ و الاتّقاد.

[وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ] هو ما ينشب في الخلق و يعلّق من عظم و غيره فلا ينساع لا هو نازل و لا هو خارج كالضريع و الزقوم و هما في الدنيا من النباتات و الأشجار سمّان قاتلان للحيوان الّذي يأكلهما مستكرهان فما ظنّك بضريع جهنّم و زقّومها؟

[وَ عَذاباً أَلِيماً] و نوعا آخر من العذاب مؤلما لا يقادر قدره كما يدلّ عليه التنكير. في التفسير: إنّه لمّا نزلت هذه الآية خرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مغشيّا عليه.

قيل: إنّ حسن البصريّ أمسى صائما فاتي بطعام فعرضت له هذه الآية فقال:

ارفعه و وضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال: ارفعه و كذلك الثالثة فأخبر ثابت البنانيّ و يزيد الضبيّ و يحيى البكّاء فجاءوا فلم يزالوا حتّى شرب شربة من سويق.

[سورة المزمل (73): الآيات 14 الى 19]

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)

إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)

[يَوْمَ تَرْجُفُ ظرف للاستقرار من الأنكال و الجحيم و الرجفة الزلزلة و الزعرة الشديدة أي تضطرب بهيبة اللّه ليكون علامة القيامة و أمارة لجريان حكم اللّه في مؤاخذة العاصي و أفرد الجبال بالذكر لعظمتها و غلظ أجسامها و هي أوتاد فإذا تزلزلت الأوتاد لم يبق للأرض قرار و أيضا زلزلة العلويّات أظهر من زلزلة السفليّات و من زلزلتها تبلغ القلوب الحناجر خوفا من الوقوع.

[وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا] من شدّة الرجفة مع صلابتها مثل رمل هبل هبلا و اسيل و نثر بحيث لو حرّك من أسفله امهال من أعلاه و مهيل اسم مفعول من هال و أصله مهيول كمبيع و الحاصل أنّ الأرض و الجبال يدقّ بعضها ببعض فتصير الجبال

ص: 283

كالمجموعة من الرمل المهيل ثمّ ينسفها الريح فيصير هباء منبثّا و تبقى الأرض مكانها ثمّ تبدل.

[إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا] أيّها الناس، يعني محمّدا [شاهِداً عَلَيْكُمْ في الآخرة يشهد بما يكون منكم وقع في الدنيا [كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ بمصر [رَسُولًا] يعني موسى بن عمران [فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ و تخصيص فرعون لأنّه الرئيس و الباقي تبع فعصى فرعون المعلوم حاله تنعّما و كبرا الرسول الّذي أرسلناه إليه فعصيتم أنتم رسولكم كما كذّب فرعون و قومه موسى [فَأَخَذْناهُ بسبب عصيانه [أَخْذاً] ثقيلا [وَبِيلًا] لا يطاق و أذهبناهم من طريق الماء إلى النار و الوبيل الثقيل الغليظ و منه الوابل للمطر العظيم.

[فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إن كفرتم كأنّه قيل: هبوا أنّكم لا تؤخذون في الدنيا أخذة فرعون فكيف تتّقون أنفسكم، اتّقى بمعنى وقى المتعدّي إلى مفعولين [إِنْ كَفَرْتُمْ أي بقيتم على الكفر [يَوْماً] أي عذاب يوم مفعول به لتتّقون [يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً] من شدّة هوله و الوالدان جمع وليد يقال: و يستعمل في من يقرب عهده بالولادة و إن كان يستعمل فيمن بعد عهده منها تجوّزا «شيبا» و شيوخ جمع أشيب و هو بياض الشعر.

قال الزمخشريّ: رأيت في بعض الكتب أنّ رجلا أمسى فاحم الشعر كحلك الغراب و أصبح هو أبيض الرأس و اللحية كالثغامة بياضا و هو نبت أبيض قال: رأيت القيامة و الجنّة و النار و رأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار فمن ذلك أصبحت كما ترون.

و قال أحمد الدورقيّ: مات رجل من جيراننا شابّا فرأيته و قد شاب فقلت: و ما قصّتك قال: دفن رجل في مقبرتنا فزفرت جهنّم زفرة شاب منها كلّ من في المقبرة كما في فصل الخطاب.

فإن قلت: إيصال الضرر و الألم إلى الصبيان غير جائز لكونهم غير مكلّفين.

أجابوا أنّه إذا كان في القيامة من هيبة المقام ما يجثو به الأنبياء على الركب فما ظنّك بغيرهم؟ النهاية أنّ هذا المكروه لهم لعلّ لوجوب الاستحقاق للنعيم الدائم لهم لأنّهم ليس لهم عمل أو أنّه محمول على التمثيل، و سرعة الشيب موجبها الهموم و الأحزان

ص: 284

لأنّ الهمّ إذا تفاقم على المرء ضعفت قواه لأنّه يوجب انعصار الروح إلى داخل القلب و ذلك الانعصار يوجب انطفاؤها الحرارة الغريزيّة و ضعفها و انطفائها يوجب بقاء الأجزاء الغذائيّة غير تامّة النضج و ذلك يوجب بياض الشعر لعدم استعداد بصلة الشعر كاملا من منبته فيسرع الشيب و قيل: يجوز ذلك أن يكون وضعا لليوم بالطول يعني على الكناية بأنّه في طوله بحيث يبلغ الأطفال فيه أوان الشيخوخيّة و الشيب لا أنّه تقدير حقيقيّ من هو لا ينقضي بعد بل يمتدّ إلى حيث يكون مقداره خمسين ألف سنة.

[السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ السماء مبتدء خبره منفطر به أي منشقّ بسبب ذلك اليوم فذكر سبحانه من هول ذلك اليوم هذا الانفطار فإذا انفطرت السماوات و انشقّت على عظمتها بسبب ذلك الهول فما ظنّك بغيرها من الخلائق؟ فالباء للسببيّة أي بسبب الهول و الشدّة و يجوز أن يكون الباء بمعنى في أي في ذلك اليوم، قال المكّيّ في قوت القلوب: حرف العوامل يقوم بعضها مقام بعض و استشهد بهذه الآية و قيل: الباء للاستعانة مثل فطرت العود بالقدوم فالمعنى السماء منفطر باستعانة شدّة ذلك اليوم و هذا المعنى الآخر ركيك جدّا لأنّ اتّخاذ الآلة و الاستعانة لا يليق بجنابه تعالى.

[كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا] الضمير راجع إلى اللّه تعالى و إن لم يجر له ذكر، للعلم به و المصدر مضاف إلى فاعله أي كان وعده كائنا متحقّقا أو الضمير راجع لليوم و المصدر مضاف إلى مفعوله و الفاعل مقدّر و هو اللّه، قال في الصحاح: الوعد يستعمل في الخير و الشرّ فإذا أسقطوا الخير و الشرّ قالوا في الخير: الوعد و العدة و في الشرّ: الإيعاد و الوعيد.

[إِنَّ هذِهِ إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة [تَذْكِرَةٌ] موعظة لمن يطلب الخير لنفسه و كيف لا و القرآن موعظة للمتّقين طريق للسالكين و نجاة للهالكين و بيان للمستبصرين و شفاء للمتحيّرين و أمان للخائفين و أنيس للعابدين و نور للعارفين و هدى لمن أراد الطريق إلى ربّ العالمين.

[فَمَنْ شاءَ] من المكلّفين [اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا] بالتقرّب إليه بالإيمان و القبول.

ص: 285

[سورة المزمل (73): آية 20]

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

. ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ يا محمّد إنّك تقوم أقلّ من ثلثي الليل و أقلّ من نصفه و أقلّ من ثلثه و الهاء تعود إلى الليل أي نصف الليل و ثلث الليل فحاصل المعنى يكون إنّك تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين و في بعضها قريبا من نصف اللّيل و في بعضها قريبا من ثلث اللّيل و قيل: إنّ الهاء تعود إلى الثلثين أي أقرب من نصف الثلثين و من ثلث الثلثين و لكن إذا قرئت نصفه و ثلثه بالنصب فالمعنى تقوم نصفه و ثلثه و إطلاق الأدنى على الأقلّ مجاز مرسل من قبيل إطلاق الملزوم على اللازم لأنّ المسافة بين الشيئين إذا دنت قلّ ما بينهما من الأحياز و الحدود و إذا بعدت كثر ذلك.

روي أنّه تعالى افترض قيام اللّيل في أوّل هذه السورة فقام النبيّ و أصحابه حولا مع مشقّة عظيمة من حيث إنّه يعسر عليهم تمييز القدر الواجب حتّى قام أكثر الصحابة اللّيل كلّه خوفا من الخطاء في أصابة المقدار المفروض و صاروا بحيث انتفخت أقدامهم و اصفرّت ألوانهم و أمسك اللّه خاتمة السورة من قوله: «إنّ ربّك إلخ» اثنى عشر شهرا في السماء حتّى أنزل اللّه في آخر السورة التخفيف فنسخ تقدير القيام بالمقادير المذكورة مع بقاء فريضة أصل التهجّد حسبما تيسّر ثمّ نسخ نفس الوجوب أيضا بالصلوات الخمس.

[وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ مرفوع معطوف على الضمير في «تقوم» أي و يقوم معك طائفة من أصحابك و تبايعك و هم عليّ و أبو ذرّ كما قال ابن عبّاس: [وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ] يعلم مقادير اللّيل و النهار فيعلم القدر الّذي يقومونه من اللّيل و العالم بمقادير ساعات اللّيل و النهار و مكوّرهما على الحقيقة هو اللّه و أنتم تعلمون ذلك

ص: 286

بالتحرّي و الاجتهاد الّذي يقع فيه الخطاء أحيانا.

[عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ و لا تطيقوا المداومة و معرفة الساعات و يقع منكم التقصير فيه لا يحصل لكم العلم الحقيقي بتقدير اللّيل و أوقاته [فَتابَ عَلَيْكُمْ و خفّف بأن جعله تطوّعا بعد و رفع التبعة عن الحكم الوجوبيّ كرفع التبعة عن التائب و لم يلزمكم إثما كالتائب لا يلزمه إثم بعد التوبة فاستعمل لفظ المشبّه به فيه ثمّ اشتقّ منه فقال:

«فتاب» أي فرخّص و سهّل لكم ترك القيام بنفي الوجوب و العزيمة و جعل الحكم رخصة و ندبا.

[فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي فصّلوا ما تيسّر لكم من صلاة اللّيل غير مقدّرة بكونها هذا المقدار أو نحوه و لو قدر حلب شاة و قيل: معنى الآية فاقرءوا في صلاة الليل ما تيسّر من القرآن و عبّر عن الصلاة بالقرآن لأنّها تتضمّنه و من قال: إنّ المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة فهو محمول على الاستحباب عند الأكثرين دون الوجوب و لكن فسّر أبو مسلم بالقيام لقراءة القرآن لا غير و الّذين حملوا المعنى على قراءة القرآن استحبابا.

اختلفوا في القدر الّذي تضمّنه هذا الأمر من القراءة فقال سعيد بن جبير: خمسون آية و قال ابن عبّاس: مائة آية قال الحسن: و من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن و قال كعب: من قرأ مائة آية كان من القانتين و قيل: مائتا آية و القائل السدّيّ و قال جويبر: ثلث القرآن لأنّ مقدار الثلث متيسّر.

و الظاهر أنّ المراد من معنى ما تيسّر مقدار ما أردتم و حصل لكم اليسر في قراءته قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه ليبغض كلّ جعظريّ أي الفظّ الغليظ جوّاظ أي الضخم المختار سخّاب بالأسواق أي شديد الصوت جيفة باللّيل حمار بالنهار عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة و بالجملة فللعاجز لمرض أو ضعف أو عذر آخر يقرء بالآيتين من سورة البقرة في ليلة و المراد «آمن الرسول إلخ» و الأعجز منه قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرّات يقوم مقامه ختمه.

[عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى استيناف داع إلى الترخيص و التخفيف

ص: 287

[وَ آخَرُونَ أي و منكم قوم آخرون [يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يسافرون فيها للتجارة ابتغاء الرزق و طلب الأرباح و تحصيل العلم طلب رزق الأرواح كما أنّ طلب الربح في الأموال طلب رزق الأجسام و في حديث أبي ذرّ أنّه قال: حضور مجلس العلم يعني علم آداب الشريعة أفضل من صلاة ألف ركعة و أفضل من شهود ألف جنازة و من عيادة ألف مريض.

[وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ الأعداء [فِي سَبِيلِ اللَّهِ عطف على مرضى كالجهاد و في الآية إشعار بأنّ المكتسب للمال الحلال للنفقة على نفسه و عياله و للإنفاق في سبيل اللّه للفقراء و ذوي الحاجات بمنزلة الجهاد له من الثواب كما يفصح من هذا المعنى ما رواه عبد اللّه بن مسعود قال: إنّما رجل جلب شيئا من مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند اللّه من الشهداء.

[فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي إذا كان الأمر كما ذكر و تعاضدت المعاذير فاقرءوا ما تيسّر من القرآن من غير تحمّل المشاقّ.

[وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ] المفروضة [وَ آتُوا الزَّكاةَ] الواجبة و قيل: المراد من هذه الزكاة هي زكاة الفطرة إذ لم يكن بمكّة زكاة غيرها و إنّما وجبت الزكاة المفروضة بعدها و من فسّرها بالزكاة المفروضة جعل الآية مدنيّة [وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً] و القرض القطع و سمّي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردّ بدله قرضا لأنّه مقطوع من ماله أريد من معنى القرض في الآية الإنفاقات في سبيل اللّه و في الآية حثّ على التطوّع دون المفروض كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ في المال حقّا سوى الزكاة على أحسن وجه و معنى أحسن الوجه إخراجها من أطيب المال لأنّ اللّه تعالى طيّب و لا يقبل إلّا الطيّب و لا بدّ أن ينفق المنفق للفقراء بحسن النيّة و صفاء الخاطر إلى أحوج الصلحاء و شروط أخر و قوله: «قرضا حسنا» يشعر بهذه الشروط و تسمية الإنفاق لوجه اللّه اقتراضا استعارة تشبيها له بالإقراض من حيث إنّ ما أنفقه يعود عليه مع زيادة.

[وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ] ما شرطيّة [تَجِدُوهُ جواب الشرط أي أيّ خير كان ما ذكر و ما لم يذكر تقدّموا لغدكم من الأمور الخيريّة المشروعة تجدوا ثوابه

ص: 288

[عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً] من الّذي تؤخّرونه إلى الوصيّة عند الموت لأنّ أجر ما قدّمت تعطى بغير حساب، في الحديث: اعلموا أنّ كلّ امرئ على ما قدّم قادم و على ما خلّف نادم قال الشاعر:

قدّم لنفسك قبل موتك صالحاو اعمل فليس إلى الخلود سبيل

[وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي سلوا اللّه المغفرة لذنوبكم في جميع أوقاتكم و كافّة أحوالكم.

و استحبّ الاستغفار على الأسماء من القرآن مثل أن يقول: أستغفر اللّه إنّه كان توّابا أستغفر اللّه إنّه غفور رحيم أستغفر اللّه إنّه كان غفّارا [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] للذنوب [رَحِيمٌ يبدّل السيّئات حسنات للمؤمنين.

و في بعض المجامع أنّ من كتب هذا الاستغفار و جرّعه لمن صعب عليه.

الموت انطلق لسانه و سهل عليه الموت و هو قوله: «اللّهم أنت ربّي لا إله إلّا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شرّ ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ و أبوء بذبني فاغفر لي إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت» تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 289

سورة المدثر

اشارة

(مكية) قال أبو جعفر عليه السّلام: من قرأ في الفريضة سورة المدّثرّ كان حقّا على اللّه أن يجعله مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يدركه شقاء في الحياة الدنيا.

ص: 290

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)

عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

المدّثّر بتشديدين أصله المتدثّر و هو لابس الدثار و هو ما يلبس فوق الشعار الّذي يلي الجسد و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الأنصار شعار و الناس دثار.

روي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: كنت على جبل حراء فنوديت يا محمّد إنّك رسول اللّه فنظرت عن يميني و عن يساري و لم أر شيئا فنظرت فوقي فإذا به قاعدا على عرش بين السماء و الأرض يعني الملك الّذي ناداه فرعبت و رجعت إلى خديجة فقلت: دثّروني دثّروني و صبّوا عليّ ماء باردا فنزل جبرئيل و قال:

[يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ] و إنّما تدثّر بناء على اقشعرار جلده و ارتعاد فرائصه رعبا من الملك النازل من حيث إنّه رأى ما لم يره قبل [قُمْ من مضجعك [فَأَنْذِرْ] الناس جميعا من عذاب الدنيا إن لم يؤمنوا، و أفرد الإنذار بالذّكر مع أنّه أرسل بشيرا لأنّ التخلية قبل التحلية و كان الناس عاصين مستحقّين للتخويف فكان أوّل الأمر هو الإنذار.

[وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ] و خصّص ربّك بالتكبير اعتقادا و عملا و عظّمه عمّا يقول فيه عبدة الأوثان و سائر الظالمين و يروى أنّه لمّا نزل قال رسول اللّه: اللّه أكبر فكبّرت خديجة و أيقنت أنّه الوحي لأنّ الشيطان لا يأمر بالتكبير و الفاء لمعنى الشرط كأنّه قيل: أيّ شي ء حدث فلا تدع تكبيره و وصفه تعالى بالكبرياء، فأمره أوّلا أن ينزّه ربّه عمّا لا يليق به من الشرك.

[وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ] أي طهّر لباسك ممّا ليس بطاهر للصلاة بحفظها و صيانتها عن النجاسات و غسّلها بالماء الطاهر بعد تلطّخها فإنّه قبيح بالمؤمن الطيّب أن يحمل

ص: 291

خبيثا أو بتقصيرها أيضا فإنّ طولها يؤدّي إلى جرّ الذيول على القاذورات فيكون التطهير كناية عن التقصير لأنّه من لوازم التطهير و حدّ التقصير أن يكون إلى أنصاف الساقين أو إلى الكعب فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعل غاية طول الإزار إلى الكعب و توعّد على ما تحته بالنار.

قال عليّ عليه السّلام: قصّر ثوبك فإنّه أتقى و أنقى و أبقى، و أمر به من رفض العادات المذمومة فإنّ المشركين ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات للكبر و عدم الاستنجاس و الدين بني على الطهارة و لا يدخل الجنّة إلّا طاهر نظيف و اللّه يحبّ الناسك النظيف.

و من المعلوم أنّه كما يجب تطهير الجسم عن النجاسة يجب تطهير النفس عن الشرك و المعاصي و تنزيهها عن المعائب، و منه الحديث: يحشر المرء في ثوبيه اللّذين مات فيهما أي عمليه الخبيث و الطيّب.

[وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ] أي اهجر الأصنام و الأوثان عن ابن عبّاس و الزهريّ و مقاتل و قتادة من قبيل إيّاك أعني و قيل: المعنى اجتنب المعاصي قال الكسائيّ: الرجز بالكسر العذاب و بالضمّ الصنم و المراد اهجر ما يؤدّي إلى العذاب أو جانب الفعل القبيح و الخلق الذميم.

[وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ] أي و لا تعط مستكثرا أي يكون ما تعطيه بنظرك كثيرا أو المعنى طالبا للكثير و هو أن يهب شيئا هو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر ممّا أعطاه و هذه النهي إمّا للتحريم و هو خاصّ بالرسول لعلوّ منصبه في الأخلاق الحسنة و لشرفه أو النهي للتنزيه، و لأمّته و قيل: و لا تمنن حسناتك على اللّه مستكثرا لها فينقّصك ذلك عند اللّه و قيل: هو نهي عن الرباء المحرّم و قيل: لا تمنن بإبلاغ الرسالة على امّتك عن الجبّائيّ.

[وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ] أي و لوجه ربّك فاصبر على أذى المشركين و على ما حمّلت من الأمور الشاقّة.

[فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ] بمعنى ما ينقر فيه و هو القرن الّذي ينفخ فيه إسرافيل مرّة للإصقاع و اخرى للإحياء فاعول من النقر بمعنى التصويت و أصله القرع الّذي هو سبب الصوت و المراد هذا النفخ إذ هو نوع ضرب للهواء الخارج من الحلقوم

ص: 292

أي فإذا نفخ في الصور و الفاء للسببيّة كأنّه قيل: اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم و تلقى عاقبة صبرك عليه.

[فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ أي عسر الأمر على الكافرين من جهة العذاب و سوء الحساب و ذلك إشارة إلى وقت النقر و هو مبتدء و يومئذ بدل منه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكّن و هو إذ و التقدير إذ نقر فيه و الخبر يوم عسير فيوم النقر يوم عسير على الكافرين [غَيْرُ يَسِيرٍ] خبر بعد خبر و تأكيد يفسّر ذلك اليوم و المراد به يوم النفخة الثانية إذ هي الّتي يختصّ عسرها بالكافرين جميعا و في الحديث: كيف أنتم و صاحب القرن قد التقم قرنه ينظر متى يؤمر أن ينفخ فيه؟ فقيل له: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف نصنع؟ قال: قولوا حسبنا اللّه و نعم الوكيل.

[سورة المدثر (74): الآيات 11 الى 31]

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَ بَنِينَ شُهُوداً (13) وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)

كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)

ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)

[ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً] أي ذرني وحدي معه فإنّي أكفيكه في الانتقام منه حال من الياء أو حال من التاء في خلقت أي خلقته وحدي أو حال من العائد المحذوف أي و من خلقته وحيدا فريدا لا مال له و لا ولد نزلت في الوليد بن المغيرة المخزوميّ و كان يلقّب في قومه بالوحيد زعما منهم أنّه لا نظير له في وجاهته و لا في ماله و كان يفتخر أيضا فسمّاه اللّه بالوحيد تحكّما به كقوله: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» و كان الوليد زنيما و ملحقا بالقوم و ليس منهم.

[وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً] أي مبسوطا كثيرا و هو ما كان له بين مكّة و طائف من صنوف الأموال و من النقد كان له ألف ألف دينار [وَ بَنِينَ شُهُوداً] و أعطيته ولدا حضورا معه بمكّة يتمتّع بمشاهدتهم لا يفارقونه لتجارة و عمل لأنّ لهم من به الكفاية لوفور نعمهم و خدمهم و كانوا معه حاضرين في الأندية لوجاهتهم و اعتبارهم و كان للوليد عشرة بنين أسلم منهم ثلاثة خالد و هشام و عمارة و لكن إسلام عمارة غير موجّه بل قتل كافرا يوم بدر أو في الحبشة و لكن قالوا: أسلم خالد بن الوليد الّذي يقال له «سيف اللّه» و الوليد بن الوليد و هشام بن الوليد.

[وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً] أي و بسطت له الجاه و الرياسة فأتممت عليه النعمة في

ص: 293

الدنيا و لذا كان يلقّب بريحانة قريش [ثُمَّ يَطْمَعُ و يرجو [أَنْ أَزِيدَ] على ما آتيته من المال و الولد و ثمّ استبعاد و استنكار مطمعه و حرصه.

[كَلَّا] ردع له عن طمعه و قطع لرجائه [إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً] و العناد و المجانبة و المعارضة بالخلاف و العنيد بمعنى المعاند كالجليس بمعنى المجالس لأنّ إنكار الآيات القرآنيّة مع وضوحها هو المعاندة و إنّما اوتي ما اوتي من المال استدراجا قيل: ما زال يعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتّى هلك و هو فقير.

[سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً] رهقه الأمر غشيه بقهر و الصعود العقبة الشاقّة و يستعار لكلّ مشاقّ و صعود فعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكّر و المؤنّث فيكون من قبيل تسمية المحلّ باسم الحالّ أو باعتبار معنى الطريق و حاصل المعنى سأكلّفه كرها ارتقاء عقبة شاقّة المصعد و تغشاه حالة تصعد فيها نفسه النزع و لم يتعقّبه موت أو الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثمّ يهوي كذا أبدا و المراد من الخريف العام لأنّ الخريف آخر السنه فيه تتمّ الثمار و تدرك فصار لهذه المناسبة كأنّه العام كلّه.

[إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ] تعليل للوعيد أي فكّر و عمل فكره في حقّ القرآن ما يصنع به من التكذيب و الطعن فيه و قدّر في نفسه ما يقوله و هيّأه.

[فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ] تعجيب من تقديره أي هذا الّذي هيّأه و ذكره من أنّ القرآن سحر في غاية الركاكة.

و بيان ذلك أنّ الوليد مرّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقرء حم السجدة أو حم المؤمن فقال لبني مخزوم: و اللّه لقد سمعت من محمّد كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجنّ إنّ له لحلاوة و إنّ عليه لطلاوة أي حسنا و قبولا و إنّ أعلاه لمثمر و إنّ أسفله لمغدق أي ريّان، شبّه القرآن بالشجرة الغضّة الطريّة الّتي استحلم أصلها بكثرة الماء و أثمرت فروعها في السماء و أثبت له أعلى و أسفل و لأعلاه الثمار و لأسفله الأغداق على طريق الاستعارة التخييليّة ثمّ قال الوليد: و إنّه يعلو و لا يعلى، فقالت قريش: صبأ و اللّه الوليد و لتصبأنّ قريش كلّهم بمتابعته لكونه رئيس القوم، فقال ابن أخيه أبو جهل:

أنا أكفيكموه فقعد عنده حزينا و كلّم وليدا ما أغضبه و قال له: توقّر محمّدا و تعظم كلامه

ص: 294

لأن تأكل من فضل طعامه و تنتفع منه إن كان هذا مقصودك فليجتمع قريش و يجمعون لك من المال ما يغنيك فغضب الوليد من كلامه و قال: ألم تعلم قريش أنّي من أكثرهم مالا و ولدا و أصحاب محمّد لم يشبعوا؟ ثمّ قام الوليد و قام أبو جهل و وردا على قريش في مجتمعهم فقال الوليد: اعلموا أنّ أمرّ محمّد قد انتشر في العرب و الموسم قريب فإن اجتمعت العرب لمناسكهم و سألتكم عن حال محمّد فما ذا تقولون؟ تزعمون أنّه مجنون فهل رأيتموه يختنق؟ لأنّ العرب كانت تعتقد أنّ الشيطان يختنق المجنون و يتخبّطه، أو تقولون إنّه كاهن فهل رأيتموه يتكهّن؟ أو تزعمون أنّه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قطّ؟ أو تزعمون أنّه كذّاب فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا في كلّ ذلك:

اللّهم لا. ثمّ قالوا: فما هو و ما تقول في حقّه؟ ففكّر فقال: ما هو إلّا ساحر أما رأيتموه يفرّق بين المرء و أهله و ولده و مواليه و ما الّذي يقوله إلّا سحر يأثر عن مسيلمة و عن أهل بابل فارتج الناس فرحا و تفرّقوا معجبين بقوله.

[ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ] تكرير للتعجّب للمبالغة في التشنيع و ثمّ للدلالة على أنّ الفكرة الثانية في التعجيب أبلغ من الاولى.

[ثُمَّ نَظَرَ] في القرآن و تأمّل فيه [ثُمَّ عَبَسَ و قلب وجهه و قطب لمّا لم يجد فيه مطعنا و كره كالمهتمّ المتفكّر [وَ بَسَرَ] أي قبض بين عينية من السوء و اسودّ وجهه منه و إمّا إتباع لعبس و حاصل المعنى قاتله اللّه كيف قدّر في آياتنا ما قدّر مع وضوح الحجّة! [ثُمَّ أَدْبَرَ] عن الحقّ و لم يقرّ به و استكبر عن اتّباعه [فَقالَ بعد تولّيه عن الحقّ: [إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ] أي ما هذا القرآن الّذي يقرؤه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا سحر مأثور و منقول ينقله يقال: آثرت الحديث إذا حدّثت به عن قوم ينقله خلف عن سلف.

[إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ] إن نافية تأكيد لما قبله و لذا أخلى عن العاطف قاله اللعين تمرّد احسبما شرّح في صدر الجملة من شرح حاله و أراد يسار أو جبر أو أبا فكيهة أمّا الأوّلان فكانا عبدين من بلاد فارس و كانا بمكّة و كان النبيّ يجلس معهما و أمّا أبو فكيهة فكان غلاما روميّا يتردّد إلى مكّة من طرف مسيلمة الكذّاب من اليمامة فلو كان

ص: 295

سحرا كما قال أو كلام البشر فهلّا أتوا بمثله؟

[سَأُصْلِيهِ سَقَرَ] أي أدخله جهنّم، و سقر اسم من أسماء النار أو طبقة من جهنّم طبقته السادسة يقال: سقرته الشمس إذا آذته و آلمته، و سمّيت سقر لإيلامها. قوله:

«سأصليه سقر» بدل من «سأرهقه صعودا» بدل الاشتمال.

[وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ] «ما» الاولى مبتدء و أدراك خبره و ما الثانية خبر لقوله:

«سقر» لأنّها المفيدة لما قصد من التهويل و المعنى أيّ شي ء أعلمك ما سقر؟ يعني خارج عن دائرة إدراك العقول شدّتها.

[لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ] أي لا تبقي شيئا تلقى فيها إلّا أهلكته بالإحراق و إذ أهلك لم تذره هالكا حتّى يعاد خلقا جديدا و تهلكه إهلاكا ثانيا كما قال: «نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» و لا تبقي و لا تذر لأنّها خلقت من غضب الجبّار.

[لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ] لاحت النار الشي ء إذا أحرقته و سوّدته أي مغيّرة للجلود حتّى أشدّ سوادا من الليل. فإن قيل: وصف الجلود بتسويد البشر مع قوله: «لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ» كيف يطابق؟ فالجواب إنّ لمراتب العذاب درجات و ليس في الآية دلالة على أنّها تفنى بالكلّيّة و لو دلّ على الفناء فيكون بعد التسويد و قيل: المعنى في «لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ» أي لائحة للناس و هي للبشر من مسيرة خمسمائة عام فهو في المعنى كقوله: «وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ»* فيصل إلى الكافر سمومها و حرورها كما يصل إلى المؤمن ريح الجنّة و نسيمها من مسيرة خمسمائة عام.

[عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ] أي على جهنّم و سقر تسعة عشر ملكا يتولّون أمرها و هم مالك و ثمانية عشر معه أعينهم كالبرق الخاطف و أنيابهم كالصياصى و أشعارهم تمسّ أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة نزعت منهم الرحمة يأخذ أحدهم سبعين ألفا في كفّه و يرميهم حيث أراد من جهنّم و هذه التسعة عشر عدد الرؤساء و النقباء و أمّا جملة أشخاصهم فكما قال: «وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ».

[وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ] أي المدبّرين لأمرها القائمين بتعذيب أهلها و تقدير

ص: 296

الآية. و ما جعلنا خزنة أصحاب النار فحذف المضاف [إِلَّا مَلائِكَةً] جعلنا شهوتهم في تعذيب أهل النار و ليخالفوا جنس المعذّبين من الثقلين و الملائكة أقوم بحقّ اللّه و الغضب له تعالى و أشدّهم بأسا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقوّة أحدهم مثل قوّة الثقلين يسوق أحدهم الامّة و على رقبته جبل فيرمي بهم في النار و يرمي الجبل عليهم، و يسع كفّ أحدهم مثل ربيعة و مضر.

و يروى أنّه لمّا نزل قوله تعالى: «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» قال أبو جهل: أ يعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأسود الجمحيّ- و كان شديد البطش و القوّة حتّى كان من قوّته أنّه إذا قام على أديم و اجتمع جماعة على إزالة رجليه عنه لم يقدروا عليه فكانوا يشدّون و يجرّون الأديم حتّى ينقطع قطعا و رجلاه على حالهما-:

أنا أكفيكم سبعة عشر عنهم فاكفوني أنتم اثنين فنزلت الآية أي و ما جعلنا هم رجالا من جنسكم يطافون فمن ذا الّذي يغلب الملائكة و الواحد منهم له من القوّة ما يقلّب جملة من الأرض فيجعل عاليها سافلها و الواحد منهم يأخذ أرواح جميع الخلق.

[وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا] أي و ما جعلناهم على هذه العدد إلّا محنته و تشديدا في التكليف للكفّار و الجاحدين بوحدانيّته حتّى يتفكّروا فيعلموا أنّه القادر الحكيم لأنّهم إذا رجعوا عقولهم لعلموا أنّ من سلّط ملكا واحدا على كافّة بني آدم لقبض أرواحهم فلا يغلبونه قادر على سوق بعضهم إلى النار فهم ما تدبّروا بعقولهم هذا الأمر بل استبعدوا لتولّي هذا العدد القليل أمر الجمّ الغفير و تحقّق افتتانهم باستقلالهم للعدد.

[لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى أنّه حقّ و أنّ محمّدا صادق و ليكتبوا اليقين بنبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صدق القرآن لما شاهدوا ما فيه موافقا لما في كتبهم حيث أخبر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما هو في كتبهم من غير قراءة لها [وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً] بما رأوا من تسليم أهل الكتاب و تصديقهم أنّه في كتبنا كذلك [وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ تأكيد لما قبله من الاستيقان و ازدياد الإيمان أي و لئلا يشكّ أهل الكتاب لأنّ العدد المذكور في كتابهم فليستيقن من لم يؤمن

ص: 297

بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من آمن بصحّة نبوّته إذا تدبّر.

[وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا] اللّام لام العاقبة أي عاقبة أمر الّذين في قلوبهم من الأمراض الباطنة من قبيل الشكّ و النفاق و الكافرون الجازمون في التكذيب: أيّ شي ء أراد بهذا العدد المخصوص و ممثّلا به؟ و قيل:

المعنى: و لأن يقولوا: ماذا أراد اللّه بهذا الوصف و العدد فتدبّروه فيؤدّي بهم التدبّر في ذلك إلى الإيمان.

[كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ] ذلك إشارة إلى ما قبله من المذكور من جعل خزنة النار ملائكة ذوي عدد معيّنة محنة و اختبارا ليظهر الضلال و الهدى و أضافهما إلى نفسه لأنّ سبب التكليف و هو من جهته تعالى فالاختبار من جانبه تعالى و الاختيار من جانبهم و ليس المعنى أنّه تعالى أضلّهم و إنّما وقع الضلال بعنادهم و إنكارهم الحقّ و ذلك بصرف اختيارهم السوء كأبي جهل و أصحابه لكنّ اللّه لمّا علم بعلمه الأزليّ أنّه سيمتحن و يكفر بآياته كتبه في الأشقياء و ذلك بإحاطة علمه المعلومات أي هو عالم بأنّ هذا الأمر سيقع و قيل: معنى يضلّ اللّه عن طريق الجنّة و الثواب من يشاء و يهدي من يشاء إليه كهداية أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكما أنّه تعالى ما أجبر أصحاب أبي جهل على الضلالة كذلك ما أجبر أصحاب محمّد على الهداية.

[وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ أي جموع خلقه الّتي من جملتها الملائكة و لم يجعل خزنة النار تسعة عشر لقلّة جنوده بل بهم الكفاية و الحكمة اقتضت هذا العدد و هذا الكلام جواب أبي جهل حيث قال: ما لمحمّد أعوان إلّا تسعة عشر أو المعنى و ما يعلم عدّة الملائكة الّذين خلقهم اللّه لتعذيب أهل النار إلّا اللّه لكن هؤلاء التسعة عشر رؤساؤهم و لهم من الأعوان و الجنود [إِلَّا هُوَ].

ثمّ رجع إلى ذكر سقر فقال: [وَ ما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ] أي السقر و ذكر صفتها ما هي إلّا موعظة و تذكرة و إنذار للبشر بسوء عاقبة الكفر و تخصيص الإنس مع أنّها تذكرة للجنّ أيضا لأنّهم هم الأصل في القصد بالتذكرة.

و قيل: الضمير راجع إلي نار الدنيا إلّا تذكرة للبشر من نار الآخرة حتّى

ص: 298

يتفكّروا فيها و يحذروا نار الآخرة أو المراد ما هذه التسعة عشر إلّا عبرة للخلق فليستدلّوا بذلك على كمال قدرة اللّه.

في الكافي عن الكاظم عليه السّلام يعني ولاية عليّ ذكرى للبشر كما في قوله تعالى:

«إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ» قال: المراد الولاية و كذلك في قوله: «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» يعني من تقدّم إلى ولايتنا أخّر عن سقر و من تأخّر عن ولايتنا تقدّم إلى سقر، و الاستثناء في قوله «إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» قال عليه السّلام: اليمين أمير المؤمنين فأصحاب اليمين شيعته، و قد حرّفوا فلا تصغ إلى كلّ ناعق.

[سورة المدثر (74): الآيات 32 الى 56]

كَلاَّ وَ الْقَمَرِ (32) وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)

لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)

ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)

حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَ ما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

ثمّ أقسم سبحانه على عظيم ما ذكر من الوعيد فقال:

[كَلَّا] ردع لمن أنكر سقر أي ارتدع عن إنكارها أيّها المنكر فإنّها حقّ [وَ الْقَمَرِ] مقسم به مجرور بواو القسم تنبيه على عجائب القمر في حركاتها المختلفة على نظام واحد لا يختلّ و قيل: بحذف المضاف أي بخالق القمر، و القمر الهلال بعد ثالثه [وَ اللَّيْلِ معطوف على القمر و كذا الصبح أي و بالليل و بالصبح [إِذْ أَدْبَرَ] و إذا ظرف للماضي أي انصرف و ذهب [وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ] إذا ظرف لما يستقبل من الزمان و استعمل إذا نظرا إلى تأخّره عن الليل من وجه أسفر أي أضاء و انكشف و الصبح الفجر أو أوّل النهار و الصبح و الصباح بمعنى واحد و هو انفجار شعاع الشمس من الفلك الأسفل إذا ظهرت.

ص: 299

[إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ] جواب للقسم و «الكبر» جمع الكبرى، و المعنى إنّ سقر لإحدى الدواهي الكبر مثل ركبة و ركب و ألف التأنيث مثل تائه أو المعنى أنّ آيات القرآن لإحدى الكبر في الوعيد.

[نَذِيراً لِلْبَشَرِ] أي منذرا مخوّفا و نصب نذيرا إمّا على التمييز أو على الحال و النذير مصدر كالنكير و على التمييز فالمعنى لإحدى الكبر إنذارا و على الحال أي إنّها لإحدى الكبر منذرة و حذف التاء مع أنّ فعيلا بمعنى فاعل يفرق بين المذكّر و المؤنّث لكون ضمير إنّها أو النذير بمعنى ذات إنذار على معنى النسب كقولهم امرأة لابن و تامر و طاهر أي ذات طاهر طهارة [لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ] بدل من للبشر أي نذيرا لمن شاء منكم أن يسبق إلى الجنّة و الطاعة فبهداية اللّه أو لم يشأ ذلك و يتأخّر بالمعصية فيضلّه عن طريق الجنّة و في الآية بيان أنّ لكسب العبد دخلا في حصول المرحوميّة.

[كُلُّ نَفْسٍ من نفوس الجنّ و الإنس المكلّفين [بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ] مرهونة عند اللّه بكسبها محبوسة ثابتة و أرهنته أي تركته مقيما و ثابتا عنده، و نفس المكلّف محبوسة عند اللّه بما أوجبه عليه من التكاليف الّتي هي حقّ خالص له تعالى فإن أدّاها المكلّف كما وجبت عليه فكّ رقبته و خلّص نفسه و إلّا بقيت محبوسة.

و قال بعضهم: الرهينة اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم و الياء للنقل من الوصفيّة إلى الاسميّة أو التاء للمبالغة و ليس أي الرهينة صفة و إلّا لقيل رهين لأنّ فعيلا بمعنى مفعول لا يدخله التاء بل يستوي فيه المذكّر و المؤنّث إلّا أن يحمل على الفاعل فإنّه يؤتى في مؤنّثه بالتاء كما قال الراغب: إنّه بمعنى الفاعل أي ثابتة و مقيمة.

[إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ استثناء متّصل من النفوس، و أصحاب اليمين أهل الأعمال الصالحة من المؤمنين فإنّهم فاكّون رقابهم بحسن أعمالهم [فِي جَنَّاتٍ أي كائنون في جنّات و التنكير لبيان أنّ الجنّات لا يوصف وصفها.

[يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ يسأل بعضهم بعضا و قيل: المعنى فمن يتساءلون

ص: 300

عن المجرمين عن حالهم و عن ذنوبهم الّتي استحقّوا بها النار [ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ] أي أيّ شي ء أدخلكم فيها من قوله: سلكت الخيط في الإبرة و ذلك السؤال توبيخا لهم.

[قالُوا] أى المجرمين مجيبين للمسائلين: [لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ للصلاة الواجبة بعدم إقرارنا بفرضيّة الصلاة و عدم أدائها سلكنا فيها [وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ على معنى استمرار نفي الإطعام لا على نفي استمرار الإطعام، و المراد الإطعام الواجب مثل الزكاة و كانوا يقولون (1): «أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» و في الآية دلالة على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع [وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أي كنّا نشرع في الباطل مع الشارعين فيه و المراد ذمّ النبيّ و أصحابه بقولهم بأنّه: شاعر أو ساحر و الخوض الشروع في القبيح و الباطل و ما لا ينبغي [وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ و الجزاء حتّى [أَتانَا الْيَقِينُ أي الموت و سمّي باليقين لأنّه أمر متيقّن لا شكّ في إتيانه.

[فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ أي لو فرض هذا الأمر المحال لو اجتمع الأنبياء و الملائكة على شفاعتهم لا تنفعهم تلك الشفاعة و ليس المراد أنّهم يشفعون لهم إذ الشفاعة موقوفة بالإذن و قابليّة المحلّ، فلو وقعت من المأذون للقابل قبلت و الكافر ليس بقابل لها فلا إذن في الشفاعة له، و لا شفاعة فلا نفع في الحقيقة.

و في الآية دلالة على صحّة الشفاعة و نفعها للعصاة من المؤمنين و إلّا لما كان لتخصيصهم بعدم منفعة الشفاعة وجه قال ابن مسعود: تشفع الملائكة و النبيّون و الشهداء و الصالحون و جميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلّا أربعة ثمّ تلا قوله: «لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلى قوله بِيَوْمِ الدِّينِ» و قال ابن عبّاس: إنّ محمّدا يشفع ثلاث مرّات ثمّ تشفع الملائكة ثمّ الأنبياء ثمّ الآباء ثمّ الأبناء ثمّ يقول اللّه: بقيت رحمتي و لا يدع في النار إلّا من حرمت عليه الجنّة و يقول الرجل من أهل النار لواحد من أهل الجنّة: يا فلان أما تعرفني أنا الّذي سقيتك شربة و يقول آخر، أنا الّذي وهبت لك وضوء و يقول آخر:

أطعمتك لقمة، و آخر: كسوتك خرقة و على هذا فيشفع له فيدخله الجنّة إمّا قبل دخول النار أو بعده.

ص: 301


1- سورة يس: 47.

[فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أي أيّ شي ء تسبّب لهم و لم أعرضوا و تولّوا و لم يؤمنوا بالقرآن؟ و التذكرة التذكير بمواعظ القرآن و لم نفروا عنه؟ [كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ] حال من ضمير معرضين و حمر جمع حمار و هو معروف و يكون وحشيّا و هنا هو المراد كأنّهم حمر وحشيّة هاربة من الأسد لأنّها إذا عاينت الأسد هربت منه كذلك هؤلاء الكفّار إذا سمعوا النبيّ يقرء القرآن هربوا منه و قيل: القسورة الرماة و رجال القنص أو حبالهم و القسورة فعولة من القسر و هو القهر و الغلبة لأنّه يغلب السباع و يقهرها. و في الآية من تهجين حالهم حيث كانوا يهربون من استماع القرآن شبّه سبحانه حالهم بحال الحمير النافرة قيل: إنّ واحدا من العلماء كان يعظ الناس في مسجد جامع و حوله جماعة كثيرة فرأى ذلك رجل من الحمقاء و كان قد فقد حماره فنادى للواعظ و قال إنّي فقدت حماري فاسأل هذه الجماعة لعلّ واحدا منهم رآه فقال له الواعظ: اقعد مكانك حتّى أدلّك عليه فقعد الرجل فإذا واحد من أهل المسجد قام و أخذ في أن يذهب فقال الواعظ للرجل: خذ هذا فإنّه حمارك فإنّه فرّ من تذكرة الملك العلّام.

[بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً] عطف على مقدّر يقتضيه المقام كأنّه لا يكتفون و لا يرضون بتلك التذكرة بل يريد كلّ واحد منهم كتبا من السماء تنزل بأسمائهم أن: يا فلان آمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و ذلك أنّ أبا جهل بن هشام و عبد اللّه بن اميّة و أصحابهما قالوا لرسول اللّه:

لن نتّبعك حتّى تأتي كلّ واحد منّا بكتب من السماء أو يصبح عند رأس كلّ رجل منّا أوراق منشورة عنوانها: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان، نؤمر فيها باتّباعك.

و قيل: المعنى أنّهم يريدون من اللّه البراءة من العقوبة و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا أقاموا على كفرهم و قيل: يريد كلّ واحد منهم أن يكون رسولا يوحى إليه خصوصا و أنف أن يكون تابعا.

[كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ] ردع عن اقتراحهم فإنّهم إنّما اقترحوه لا هدى و إرشادا بل لأجل عدم خوفهم من عذاب الآخرة بسبب عدم عقيدتهم بها و مستهلكين في محبّة الدنيا.

ص: 302

[كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ليس الأمر كذلك إنّ القرآن مذكّر و الضمير في إنّه و في ذكره راجع إلى التذكرة و التذكير لأنّها بمعنى الذكر و هو مذكّر أي تذكير للحقّ و عدل إليها للفاصلة فمن شاء أن يتّعظ به و يتذكرّ منه و جعله نصب عينيه قبل الحلول في القبر فإنّه ممكن ذلك.

[وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هذه المشيّة في قوله: «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» غير المشيّة الاولى إذ لو كانت واحدة لتناقض الكلام فالاولى مشيّة اختبار و الثانية مشيّة إجبار و المعنى أنّ هؤلاء الكفّار لا يذكرون إلّا أن يجبرهم اللّه تعالى على ذلك و ذلك مناف للتكليف [هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ] أي هو تعالى حقيق أن يتّقى عقابه و محارمه و أهل أن يغفر الذنوب.

قال أنس: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلا هذه الآية فقال: قال اللّه سبحانه:

أنا أهل أن اتّقى فلا تجعل معي إلها، فمن اتّقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له تمّت السورة بعون اللّه

ص: 303

المجلد 12

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

سورة القيامة

اشارة

(مكية) قال ابي بن كعب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة القيامة شهدت أنا و جبرئيل له يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بيوم القيامة و جاء و وجهه مسفر على وجوه على الخلائق يوم القيامة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9)

يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)

وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)

لمّا ختم اللّه سورة المدّثّر بذكر القيامة و أنّ الكافر لا يؤمن بها افتتح هذه السورة بذكر القيامة و أهوالها. قرئ لا اقسم و قرئ لأقسم، و من قرء لا اقسم كانت لا صلة كالّتي في قوله (1): «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» و ما كان لتأكيد مدخوله لا يدلّ على النفي و إن كان في الأصل للنفي قال الشاعر:

تذكّرت ليلى فاعترتني صبابةو كاد ضمير القلب لا يتقطّع

فإن قيل: لا و ما و الحروف الّتي هي زوائد و يؤتى بها للتأكيد إنّما تكون بين

ص: 2


1- سورة الحديد: 29.

كلامين مثل قوله (1): «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ» و (2) «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ» و مثل قوله (3): «فَبِما نَقْضِهِمْ»* و لا يكاد يزاد في أوّل الكلام.

فالجواب أنّ عنوان القرآن مجاري الكلام و السورة الواحدة، و الّذي يدلّ على ذلك أنّه قد يذكر الشي ء في سورة و يجي ء جوابه في سورة اخرى مثل قوله تعالى (4):

«يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» جاء جوابه في سورة اخرى (5) «ما أنت بنعمة ربّك بمجنون».

فعلى كون «لا» للتأكيد فالمعنى اقسم [بِيَوْمِ الْقِيامَةِ] و على كونها بمعنى النفي ردّ على المنكرين بالبعث أي ليس الأمر على ما يزعمون ثمّ ابتدأ بالقسم فقال: «أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» فيكون تقدير الكلام: لا و اللّه إنّ البعث حقّ. و أمّا ما قيل: من أنّ معنى الآية نفي الإقسام لوضوح الأمر كما عن بعض المفسّرين فيأباه تعيين المقسم به.

[وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] و القول في لا اقسم مثل الأوّل و المراد بالنفس اللّوامة هي النفس الواقعة بين الأمّارة و المطمئنّة و لها وجهان: وجه يلي النفس الأمّارة تلومها على فعل المعاصي و ترك المبالغة و الإقدام على المخالفة و وجه يلي النفس المطمئنّة فإذا نظرت إلى المطمئنّة تنوّرت بنورانيّتها و انصبغت بصبغتها تلوم أيضا نفسها على التقصيرات الواقعة منها و المحذورات الكائنة عليها فهي لا تزال لائمة قائمة على سوق لومها إلى أن تحقّق بمقام الاطمينان و لذلك استحقّت أن أقسم اللّه بها على قيام البعث و الحشر.

و بالجملة فجواب القسم محذوف لدلالة قوله: [أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ على الجواب لأنّ مفاد هذه الآية بلى ليبعثنّ، و المراد من الإنسان الجنس و

ص: 3


1- سورة نوح: 25.
2- «آل عمران: 159.
3- «النساء: 154.
4- «الحجر: 6.
5- «القلم: 22.

الإسناد إلى الكلّ بحسب البعض كثير، و الهمزة لإنكار الواقع و استقباحه، و أن مخفّفة و ضمير الشأن اسمها محذوف، أي أ يحسب الإنسان الّذي ينكر البعث أنّ الشأن و القصّة لن نجمع عظامه البالية؟ فإنّ ذلك حسبان باطل فإنّا نجمعها بعد تشتّتها و بعد ما نسفتها الريح و طيّرتها في أقطار الأرض و ألفتها في البحار.

[بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ إيجاب لما ذكر بعد النفي و هو الجمع أي نجمعها حالكوننا قادرين أن نجمع سلامياته و نضمّ بعضها إلى بعض كما كانت مع صغرها و لطافتها فكيف بكبار العظام. جمع سلامى كحبارى و هي العظام الصغار في اليد و الرجل و في الحديث «كلّ سلامى من الناس عليه صدقة كلّ يوم تطلع فيه الشمس» أي على صاحبه صدقة من أيّ أنواع الصدقة من قول أو فعل أو مال. و البنان مفرد اللفظ مجموع المعنى و في تأويل العظام إشارة إلى كبار الأعمال من الحسنة و السيّئة، و في البنان إلى صغار الأعمال من الحسنة و السيّئة فإنّ اللّه يجمع كلّا منهما بالحساب و يجازي عليها.

[بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ و اللام في «ليفجر» للتأكيد مثل قوله (1): «وَ أَنْصَحُ لَكُمْ» في أنصحكم. فأضرب سبحانه عن توبيخهم في إنكار البعث و وبّخهم بفجورهم أي يريد الإنسان ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات و يستديم عليه و يريد الحياة لا لما ينفعه بل ليتعاطى الفجور.

[يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ] أصل أيّان «أيّ آن» و هو خبر مقدّم لقوله: «يَوْمُ الْقِيامَةِ» أي متى يكون؟ قيل: هذا السؤال استهزاء فالمراد بالفجور حينئذ هو التكذيب و قيل: معناه إنّه يقول: أعمل و أتوب، يستعجل بالمعصية و يسوّف التوبة و يقول غد بعد غد.

[فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ] أي شخص و تحيّر فزعا عند معاينة الموت فلا يطرف من شدّة الخوف، و قيل: لما يرى من أهوال القيامة، من برق الرجل (2) إذا نظر إلى البرق فدهش ثمّ استعمل في كلّ حيرة و إن لم يكن هناك نظر إلى البرق.ر.

ص: 4


1- سورة الأعراف: 61.
2- من باب نصر.

[وَ خَسَفَ الْقَمَرُ] و ذهب ضوؤه و فيه ردّ لمن عبد القمر فإنّ القمر لو كان إلها كما زعمه العابد لدفع عن نفسه الخسوف [وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ] في ذهاب ضوئهما أو المراد جمع بينهما في الطلوع من المغرب أو في الإلقاء إلى النار ليكون حسرة على من يعبدهما و جاز تكرار القمر لأنّه أخبر عنه بغير الخبر الأوّل.

[يَقُولُ الْإِنْسانُ المنكر للقيامة [يَوْمَئِذٍ] أي يوم الواقع فيه هذه الأمور قول الآيس: [أَيْنَ الْمَفَرُّ] أين الفرار أو أين موضع الفرار قال الزجّاج: المفرّ بفتح الفاء الفرار و بالكسر موضع الفرار.

قال اللّه: [كَلَّا لا وَزَرَ] لا مهرب، مستعار من الجبل فإنّ الوزر محرّكة الجبل المنيع. و خبر «لا» محذوف أي لا ملجأ هناك أو في الوجود و من بلاغات الزمخشري في عباراته: اتل على كلّ من وزر: كلّا لا وزر.

[إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ] أي إليه تعالى استقرار العباد و إلى حكمه يعود أمرهم كقوله: (1) «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى ... وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى يدخل من يشاء الجنّة و من يستحقّ النار النار.

[يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ] أي يخبر كلّ امرئ حال العرض و المخبر هو اللّه [بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ] من حسنة أو سيئة أو بأوّل عمله و آخره أو بما قدّم من مال تصدّق به و بما أخّر فخلّفه. قال عبد اللّه الأنصاري: قدّمت الذنوب بالجرأة و عقّبت مالك للحسرة فقدّم التوبة حتّى تذهب الذنوب و لا تبقى و تصدّق بما لك فيبقى.

[بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] أي إنّ جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه عليه و قيل: أقام جوارحه مقام نفسه و لذلك أنّث و المراد من الإنسان هاهنا الجوارح و قيل: الإنسان بصير بنفسه و عمله و التاء للمبالغة.

[وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أي و لو اعتذر بكلّ عذر و جادل عن نفسه للذبّ عن نفسه بعد شهادة الجوارح لم ينفعه ذلك و قيل: المعاذير الستور و المعنى على هذا القول:

ص: 5


1- سورة العلق 8- 9.

و إن أسبل (1) الإنسان الستور ليخفي ما يعمل فإنّ نفسه شاهدة عليه.

[سورة القيامة (75): الآيات 16 الى 25]

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)

وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)

[لا تُحَرِّكْ بِهِ أي بالقرآن [لِسانَكَ مادام جبرئيل يقرء و يلقي عليك [لِتَعْجَلَ بِهِ بأخذه مخافة أن ينفلت و كان صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل عليه القرآن عجّل بتحريك لسانه لحرصه على ضبطه.

[إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك بحيث لا يخفى عليك شي ء من معانيه [وَ قُرْآنَهُ أي إثبات قراءته في لسانك بحيث تقرءه متى شئت فالقرآن مصدر بمعنى القراءة كالغفران بمعنى المغفرة، و القراءة ضمّ الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل لكن لا يقال ذلك لكلّ جمع فلا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم.

[فَإِذا قَرَأْناهُ أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبرئيل، و إسناد القراءة إلى نون العظمة للمبالغة في التأنّي [فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي فاشرع فيه بعد فراغ جبرئيل منه بلا مهلة، و حاصل المعنى أنّه إذا جمعناه و أثبتناه في صدرك فاعمل به.

[ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان ما أشكل من معانيه و أحكامه و سمّي ما يشرح المبهم من الكلام بيانا، و ليس في الآية ما يدلّ على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما زعمه بعض و إنّما يدلّ على تأخير البيان عن وقت الخطاب.

[كَلَّا] أي لا يتدبّرون القرآن و ما فيه من البيان [بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ] أي أنتم تختارون الدنيا على العقبى فتعملون للدنيا لا للآخرة جهلا منكم و سوء اختيار.

ثمّ بيّن سبحانه حال الناس في الآخرة فقال: [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ] يعني يوم القيامة [ناضِرَةٌ] ناعمة بهجة حسنة، و النضرة طراوة البشرة و جمالها و الناضر الغضّ الناعم من كلّ شي ء. و وجوه مبتدء و ناضرة خبره و صحّ وقوع النكرة مبتدء لأنّ المقام مقام تفصيل [إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ] قوله: «ناظِرَةٌ» خبر ثان للمبتدأ و النظر تقليب البصر و توجيه البصيرة لإدراك الشي ء و اللّه منزّه عن الإدراك بالبصر.

و اختلف في معنى النظر على وجهين: أحدهما أنّ معناه نظر العين و الثاني أنّه

ص: 6


1- أسبل الستر: أرخاه.

الانتظار. و اختلف من حمله على نظر العين علي قولين:

أحدهما أنّ المراد إلى ثواب ربّها ناظرة أي هي ناظرة إلى نعيم الجنّة حالا بعد حال فيزداد سرورها بذلك. و المراد من الوجوه أصحاب الوجوه روي ذلك عن جماعة من علماء المفسّرين من الصحابة و التابعين لهم و غيرهم و حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقام المضاف كما في قوله (1): «وَ جاءَ رَبُّكَ» أي أمر ربّك و قوله (2):

«وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ» أي إلى طاعة العزيز الغفّار و قوله: (3) «إنّ الّذين يؤذون اللّه» أي أولياء اللّه.

و القول الثاني أنّ النظر بمعنى الرؤية أي الوجوه تنظر معاينة، رووا عن الكلبيّ و مقاتل و عطا و غيرهم من أهل السنّة. و هذا لا يجوز لأنّ كلّ منظور إليه بالعين مشار إليه بالحدقة و اللحاظ، و اللّه يتعالى عن أن يشار إليه بالعين كما يجلّ عن أن يشار إليه بالأصابع و أيضا إنّ الرؤية بالحاسّة لا تتمّ إلّا بالمقابلة و التوجّه و اللّه يتعالى عن ذلك لأنّ رؤية الحاسّة لا تتمّ إلّا باتّصال الشعاع بالمرئيّ و اللّه منزّه عن اتّصال الشعاع به. ثمّ إنّ النظر في اللغة لا يفيد الرؤية و إنّما يفيد طلب الرؤية بدلالة قولهم: نظرت إلى الهلال فلم أره، فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا الكلام ساقطا متناقضا و لأنّا نعلم الناظر ناظرا بالضرورة و لا نعلمه رائيا بالضرورة بدلالة أنّا نسأله: هل رأيت أم لا؟ ففسد القول الأوّل بالرؤية إرادة المعاينة.

و أمّا من حمل النظر في الآية على الانتظار فإنّهم اختلفوا على أقوال:

أحدها أنّ المعنى منتظرة لثواب ربّها روي ذلك عن مجاهد و الحسن و سعيد ابن جبير و الضحّاك و هو المرويّ عن عليّ عليه السّلام. و من اعترض على هذا أنّ النظر بمعنى الانتظار لا يتعدّى بإلى و لا يقال: انتظرت إليه و إنّما يقال: انتظرته، فالجواب عنه على وجوه: منها أنّه قد جاء كثيرا في كلام العرب بمعنى الانتظار معدّى بإلى نحو قوله:

ص: 7


1- سورة الفجر: 22.
2- «المؤمن: 42.
3- «الأحزاب: 57.

وجوه يوم بدر ناظرات إلى الرحمن تنتظر الفلاحا

و كذلك الناظرة بمعنى المنتظرة مثل قوله تعالى: (1) «وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ» أي فمنتظرة و استعمل النظر بمعنى الانتظار معدّى بإلى كثيرا كقول الآخر:

إنّي إليك لما وعدت لناظرنظر الفقير إلى الغنيّ الموسر

و نظائره كثيرة.

و منها أنّ معنى إلى في الآية اسم لا حرف و هو واحد الآلاء الّتي هي النعم فإنّ في واحده أربع لغات إلى و إلا و ألى و ألي مثل جدي و سقط التنوين بالإضافة و ليس لأحد أن يقول: إنّ هذا من قول المتأخّرين و قد سبقهم الإجماع، فإنّا لا نسلّم ذلك لما ذكرناه من أنّ عليّا و الحسن البصريّ و مجاهد و غيرهم قالوا: المراد بذلك:

تنتظر الثواب.

و منها أنّ المعنى قطعوا آمالهم عن كلّ شي ء سوى اللّه فكنّى سبحانه عن الطمع بالنظر كما أنّ الرعيّة تتوقّع نظر السلطان و تطمع إفضاله دون غيره.

فلو قيل: إذا كان المراد بالنظر نظر العين حقيقة و بمعنى الانتظار مجازا فكيف يحمل عليهما؟ فالجواب أنّه عند المتكلّمين في اصول الفقه يجوز أن يراد بلفظ واحد إذ لا تنافي بينهما و هو اختيار المرتضى و لم يجوّز أبو هاشم إلّا إذا تكلّم به مرّتين مرّة يريد النظر و مرّة يريد الانتظار.

فإن قيل: المنتظر لا يكون نعيمه خالصا فكيف يوصف أهل الجنّة بالانتظار فالجواب أنّ المنتظر لشي ء لا يحتاج إليه و هو واثق بوصوله إليه لا يهتمّ بذلك و لا ينغّص عيشه و سروره بالانتظار و إنّما يلحق المنتظر الهمّ إذا كان يحتاج إلى ما ينتظره في الحال و يلحقه بفوته مضرّة. انتهى.

[وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ] الظرف متعلّق بقوله: [باسِرَةٌ] أي شديد العبوس مظلمة

ص: 8


1- سورة النمل: 35.

و هي وجوه الكفرة و المنافقين و البسر (1) الاستعجال بالشي ء قبل أوانه و ذلك بيان لحالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار فخصّ لفظ البسر.

[تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ] قيل: الظنّ هنا معناه اليقين و قيل: الظنّ بمعناه لا بمعنى اليقين لأنّه لو كان بمعنى العلم لكان «أن» بعده مخفّفة من المثقّلة و لا تقع أن المصدريّة بعد العلم، أي تظنّ بالأمارات أن تعمل بها داهية تفقر و تكسر ظهورهم فيكون حال الوجوه الراجية للأحوال السارّة على الضدّ من حال الوجوه الظانّة الفاقرة لأنّ داهيتهم تقصم فقار الظهر و منه سمّي الفقير فانّ الفقير كسر فقار ظهره فجعله فقيرا أي مفقورا، فوجوه يومئذ ناظرة للتنوّر بنور الفيض و الجنّة و الإيصال بعالم السرور الدائم و وجوه كالحة باسرة لجهامة (2) ظلمة ما بها من الجحيم و البعد و الأهوال و سوء الجيران.

[سورة القيامة (75): الآيات 26 الى 30]

كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَ قِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)

[كَلَّا] ردع عن إيثار العاجلة على الآجلة أي ارتدعوا عن ذلك و تنبّهوا لما بين أيديكم من الموت الّذي ينقطع عنده ما بينكم و بين العاجلة من العلاقة [إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ الضمير للنفس أو الروح و إن لم يجر له ذكر لدلالة الكلام كقوله (3):

«ما ترك على ظهرها من دابّة» و التراقي العظام المكتنفة بالحلق و كنّي بذلك عن الإسفاء (4) على الموت.

[وَ قِيلَ مَنْ راقٍ قال من حضره من أهله: هل من راق يرقيه و طبيب يشافيه و يداويه؟ فلا يجدونه و التمسوا له الأطبّاء فلم يغنوا عنه من عذاب اللّه شيئا. و قيل:

المعنى قالت الملائكة: من يرقي بروحه، أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ عن ابن عبّاس و جماعة.

[وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ و أيقن المحتضر حين عاين ملك الموت و نزل ما به هو

ص: 9


1- بالفتح مصدر قولك بسره من باب نصر.
2- جهم- من باب كرم- جهامة، بالفتح: صار عابس الوجه.
3- سورة فاطر: 45.
4- الاسفاء في الشي ء: الاسراع فيه.

الفراق من الدنيا و عبّر عمّا حصل له من المعرفة حينئذ بالظنّ لأنّ الإنسان لشدّة حبّه للحياة الدنيا مادامت روحه متعلّقة ببدنه يطمع في الحياة و لا ينقطع رجاؤه. قال الرازي: هذه الآية تدلّ على أنّ الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن لأنّ اللّه سمّى الموت فراقا و الفراق إنّما يكون إذا كانت الروح باقية فإنّ الفراق و الوصال صفة و هي تستدعي وجود الموصوف.

[وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ التفّت ساقه بساقه التواء إحداهما بالأخرى قال سعيد بن المسيّب: المراد بهما ساقاه حين تلفّان في أكعابه أو المراد التفّت شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة على أنّ الساق مثل في الشدّة، وجه المجاز أنّ الإنسان إذا دهمته شدّة شمّر لها عن ساقيه فقيل للأمر الشديد «ساق» من حيث إنّ ظهورها لازم لظهور ذلك الأمر و قيل: المعنى هو أن يضطرب فلا يزال يمدّ إحدى رجليه و يرسل الأخرى فيلفّ إحداهما بالأخرى و حاصل المعاني أنّه تتابعت عليه الشدائد فلا يخرج من شدّة إلّا جاءته أشدّ منها.

[سورة القيامة (75): الآيات 30 الى 34]

إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى (31) وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34)

[إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي إلى اللّه و إلى حكمه يساق الإنسان لا إلى غيره هنا لك و المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق و الألف و اللام عوض عن المضاف إليه أي سوق الإنسان.

[سورة القيامة (75): الآيات 31 الى 35]

فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى (31) وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)

[فَلا صَدَّقَ الإنسان ما يجب تصديقه من الرسول و القرآن أي لم يصدّق ف (لا) هنا بمعنى لم و حسّن دخول لا على الماضي تكراره كما تقول: لا قام و لا قعد.

و قيل: معنى لا صدّق لم يؤدّ زكاته و تقديم الزكاة على الصلاة مع أنّ دأب القرآن تقديم ذكر الصلاة مراعاة الفواصل [و لا صلّى ما فرض عليه و فيه دلالة على أنّ الكفّار مخاطبون و مكلّفون بالفروع [وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى كذّب القرآن و الرسول و أعرض عن الطاعة.

[ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يرجع إلى أهله و بيته يختال في مشيه و يتبختر افتخارا بذلك و المطّ هو المدّ فإنّ المتبختر يمدّ خطاه و التمدّد في المشي من لوازم

ص: 10

التبختر فجعل كناية عنه فيكون أصله يتمطّط أبدلت الطاء الأخيرة ياء كراهة اجتماع الأمثال أو مأخوذ من المطا و هو الظهر فإنّه يلويه و يحرّكه في تبختره فألفه حينئذ مبدلة من واو، و في الحديث «إذا مشت امّتي المطيطا و خدمتهم فارس و الروم كان بأسهم بينهم» و المطيطا كحميراء مدّ اليدين في المشي.

[أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى هذا تهديد من اللّه مستعمل في موضع الويل مشتقّ من الولي و المعنى وليك المكروه و العذاب يا أبا جهل و من تبعك و جاءت الرواية أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ بيد أبي جهل ثمّ قال له: أولى لك فأولى فقال أبو جهل:

بأيّ شي ء تهدّدني؟ لا تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعلا بي شيئا و إنّي لأعزّ أهل الوادي فأنزل اللّه سبحانه بهذه الآية كما قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و التكرار للوعيد على الوعيد و قيل: معنى الآية وليك العذاب في الدنيا كما وقع له يوم بدر و وليك في القبر ثمّ أولى لك يوم القيامة فلذلك ادخل ثمّ أولى لك في النار.

[سورة القيامة (75): الآيات 36 الى 40]

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (39) أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)

[أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مهملا لا يؤمر و لا ينهى أي لا ينبغي أن يظنّ ذلك تقول: أسديت حاجتي و سديتها إذا أهملتها و لم تقضها [أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أي كيف يظنّ أن يهمل و هو يرى في نفسه من تنقّل الأحوال ما يمكنه أن يستدلّ به على أنّ له صانعا حكيما أكمل عقله و أقدره في أموره فيعلم بذلك أنّه لا يجوز أن يهمله عن التكليف. و لمّا كان استبعادهم للإعادة استدلّ سبحانه ببدء خلقه على تحقّق الإعادة و البعث، و يمنى أي يصبّ و يراق في الرحم و سمّي منى لذلك لما يمنى فيها من دماء القرابين (1) و حاصل المعنى ألم يكن الإنسان في بدء خلقه ماء قليلا بخسّة القدر و استقدار الطبع و كان خسيس القدر أوّلا ثمّ استكمل في القدرة ثانيا حتّى صار بشرا سويّا فكيف يليق بمثل هذا أن يتمرّد عن طاعة خالقه و مدبّره.

[ثُمَّ كانَ عَلَقَةً] أي ثمّ كان المنيّ بعد أربعين يوما قطعة دم جامد غليظ أحمر بعد أن كان ماء قليلا أبيض [فَخَلَقَ فَسَوَّى أي فخلق من تلك العلقة خلقا في

ص: 11


1- جمع القربان.

الرحم و سوّى صورته و أعضاءه الباطنة و الظاهرة في بطن أمّه و سوّاه إنسانا مستويا و أكمل قوّته و سوّاها للأفعال في جعله له جوارح و خصّ لكلّ جارحة من جوارحه عملا [فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى من الإنسان أو من المنيّ الصنفين. الذكر و الأنثى بدل من الزوجين.

[أَ لَيْسَ ذلِكَ الّذي فعل هذا الفعل العجيب [بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فهو أهون من خلق البدء في قياس العقل لوجود الأصل، و هو عجب الذنب أو العناصر الأصليّة، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا تلا هذه الآية: سبحانك اللّهمّ و يلي.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 12

سورة الإنسان

اشارة

و تسمّى سورة الدهر و سورة الأبرار.

و اختلفوا فيها فقيل: مكّيّة كلّها و قيل: مدنيّة كلّها و قيل: إنّها مدنيّة إلّا قوله: «و لا تطع منهم آثما أو كفورا» فإنّه مكّي و هو الصحيح.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و من قرء سورة هل أتى كان جزاؤه على اللّه جنّة و حريرا و قال أبو جعفر عليه السّلام: و من قرء سورة هل أتى في كلّ غداة خميس زوّجه اللّه من الحور العين مائة عذراء و أربعة آلاف ثيّب و كان مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 13

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإنسان (76): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً (4)

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (9)

إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)

قيل: الأصل «أ هَلْ أَتى لأنّ هل فسّروه بمعنى قد و قيل: هل بمعنى الاستفهام التقريريّ أي أليس قد أتى عليك يا إنسان دهور و لم تكن شيئا مذكورا و لم تكن موجودا فوجدت. و المراد بالإنسان آدم عليه السّلام و قيل: المراد به كلّ إنسان و الألف و اللام للحقيقة قيل: إنّه أتى على آدم أربعون لم يكن مذكورا لا في السماء و لا في الأرض بل كان جسدا ملقى من طين قبل أن ينفخ فيه الروح و روى العيّاشي باسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله: «لم يكن شيئا مذكورا» قال عليه السّلام:

كان شيئا و لم يكن مذكورا.

و قال بعض: المراد من الإنسان في الآية العلماء، لأنّهم كانوا لا يذكرون فصيّرهم اللّه بالعلم مذكورين بين الخاصّ و العامّ.

[إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ و هي ماء الرجل و المرأة [أَمْشاجٍ أي أخلاط من الماءين فأيّهما علا ماء صاحبه كان الشبه له عن ابن عبّاس و جماعة، و قيل: أطوار طورا نطفة و طورا علقة و طورا مضغة إلى أن صار إنسانا، و قيل: أراد

ص: 14

اختلاف ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء و حمراء و نطفة المرأة خضراء و صفراء فهي مختلفة الألوان، و قيل: نطفة مشجت و خلطت بدم الحيض فإذا حبلت ارتفع الحيض و كما أنّ آدم أبوهم نفخ فيه الروح بعد مائة و عشرين سنة كذلك أولاده ينفخ فيهم الروح بعد مضيّ مائة و أربعين يوما و ما كان سنين في آدم كان أيّاما في أولاده.

[نَبْتَلِيهِ حال من فاعل «خلقنا» أي مريدين اختباره و ابتلاءه ليظهر أحوال بعضهم عن بعض من القبول و الردّ من السعادة و الشقاوة [فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً] ليتمكّن من استماع الآيات التنزيليّة و مشاهدة الآيات التكوينيّة فهو كالمسبّب عن إرادته فأعطيناه ما يصحّ معه التكليف و هو السمع و البصر و سائر آلات التمييز و موجبات معرفة التكليف.

[إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ و بيّنّا له الطريق و أزحنا عنه العلّة حتّى يتمكّن من أداء ما هو عليه و هو أدلّة العقل و الشرع الّتي يعمّ جميع المكلّفين [إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً] ليختار إمّا السعادة و إمّا الشقاوة، إمّا يقبل بحسن اختياره الشكر للّه و يعترف بنعمه و يقوم بالواجب عليه و إمّا أن يكفر و يجحد نعمه فيكون ضالًّا عن الصواب، فأيّهما اختار جوزي عليه و «شاكِراً» و «كَفُوراً» حالان من مفعول «هَدَيْناهُ» و قرأ أبو السماك بفتح الهمزة في «إمّا» و هي قراءة حسنة و المعنى: أمّا كونه شاكرا فبتوفيقنا و أمّا كونه كفورا فبسوء اختياره.

[إِنَّا أَعْتَدْنا] في الآخرة و هيّأنا، فإنّ الاعتداد إعداد الشي ء حتّى يكون عتيدا حاضرا متى احتيج إليه [لِلْكافِرِينَ من أفراد الإنسان الّذي هديناه السبيل [سَلاسِلَ بها يقادون إلى جهنّم، و تسلسل الشي ء اضطرب، كأنّه تصوّر منه تسلسل و السلسلة بالفتح اتّصال الشي ء بالشي ء و بالكسر دائرة من حديد و نحوه [وَ أَغْلالًا] بها يقيّدون إهانة و تعذيبا لا خوفا من الفرار جمع «غلّ» بالضم و هو ما تطوّق به الرقبة للتعذيب [وَ سَعِيراً] نارا بها يحرقون و هذا حال الكافرين باللّه و المشغولين عن الحقّ بسلاسل التعلّقات الشهويّة من حبّ الدنيا و لذّاتها المحرّمة و عدم انقيادهم للعبوديّة. و أمّا الشاكرين فشرع سبحانه في بيان حالهم بقوله:

ص: 15

[إِنَّ الْأَبْرارَ] جمع برّ مثل ربّ و أرباب أو جمع بارّ مثل شاهد و أشهاد و هو من يبرّ خالقه و يطيعه كمال الإطاعة، قيل: البرّ من لا يؤذي الذرّ و لا يضمر الشرّ:

و لا تؤذ غلا إن أردت كمالكافإنّ لها نفسا تطيب كمالكا

و برّ العبد ربّه أي توسّع في طاعته، و البرّ خلاف البحر و تصوّر منه التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي التوسّع في فعل الخير.

و قد روى الخاصّة و جماعة من العامّة أن هذه الآية «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ» إلى قوله: «وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» نزلت في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جارية لهم تسمّى فضّة و هو المرويّ عن ابن عبّاس و مجاهد و أبي صالح و ذلك أنّهم قالوا: مرض الحسن و الحسين عليهما السّلام فعاودهما جدّهما و وجوه العرب و قالوا:

يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا، فنذر صوم ثلاثة أيّام إن شفاهم اللّه و نذرت فاطمة عليها السّلام كذلك و كذلك فضّة فبرئا و ليس عندهم شي ء فاستقرض عليّ عليه السّلام ثلاثة أصوع من شعير من يهوديّ و قيل: إنّه أخذ ليغزل له صوفا و جاء به إلى فاطمة عليها السّلام فطحنت صاعا منها فاختبزته و صلّى عليّ عليه السّلام المغرب و قرّبته إليهم فأتاهم مسكين يدعو لهم و سألهم فأعطوه و لم يذوقوا إلّا الماء فلمّا كان اليوم الثاني أخذت صاعا فطحنته و خبزته و قدّمته إلى عليّ عليه السّلام فإذا بيتيم في الباب يستطعم فأعطوه و لم يذوقوا إلّا الماء فلمّا كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته و خبزته و قدّمته إلى عليّ عليه السّلام فإذا أسير بالباب يستطعم فأعطوه و لم يذوقوا إلّا الماء فلمّا كان اليوم الرابع و قد قضوا نذورهم أتى عليّ عليه السّلام و معه الحسن و الحسين عليهما السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بهما ضعف فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نزل جبرئيل بسورة هل أتى.

و في رواية عطا عن ابن عبّاس أنّ عليّا عليه السّلام آجر نفسه ليسقي نخلا بشي ء من شعير ليلة حتّى أصبح و قبض الشعير و طحن ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه يقال له الحريرة، فلمّا تمّ إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الحريرة، ثمّ الليلة الثانية

ص: 16

كذلك و ثمّ الثالثة كذلك أسير من المشركين، و ذكره الواحديّ في تفسيره.

و ذكر عليّ بن إبراهيم أنّ أباه حدّثه عن عبد اللّه بن ميمون عن الصادق عليه السّلام قال: كان عند فاطمة عليها السّلام شعير فجعلوه عصيدة (1) إلى آخر الحديث.

و في هذا دلالة على أن السورة مدنيّة و قال أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدّثني الحسن بن الحسن أبو عبد اللّه بن الحسن أنّها مدنيّة نزلت في عليّ و فاطمة عليهما السّلام السورة كلّها؛ حدّثنا (2) السيّد أبو المحامد مهدي بن نزار الحسيني القائنيّ قال: أخبرني الحاكم أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكانيّ قال: حدّثنا أبو نصر المفسّر قال: حدّثني عمّي أبو حامد إملاء قال: حدّثني الفزاري أبو يوسف يعقوب بن محمّد المقري قال:

حدّثني محمّد بن يزيد السلمي قال: حدّثنا زيد بن أبي موسى قال: حدّثني عمرو بن هارون عن عثمان بن عطا عن أبيه عن ابن عبّاس قال: أوّل ما أنزل بمكّة: اقرء باسم ربّك ثمّ ن و القلم ثمّ المزّمّل ثمّ المدّثّر ثمّ تبّت ثمّ إذا الشمس كوّرت ثمّ سبّح اسم ربّك الأعلى ثمّ و اللّيل ثمّ و الفجر ثمّ و الضحى ثمّ ألم نشرح ثمّ و العصر ثمّ و العاديات ثمّ إنّا أعطيناك ثمّ ألهاكم ثمّ أ رأيت ثمّ الكافرون ثمّ ألم تر ثمّ قل أعوذ بربّ الفلق ثمّ النّاس ثمّ التوحيد ثمّ و النجم ثمّ عبس ثمّ إنّا أنزلنا ثمّ و الشمس ثمّ البروج ثمّ و التين ثمّ لإيلاف ثمّ القارعة ثمّ القارعة ثمّ القيامة ثمّ الهمزة ثمّ و المرسلات ثمّ ق ثمّ لا أقسم ثمّ الطارق ثمّ ص ثمّ الأعراف ثمّ قل اوحي ثمّ يس ثمّ الفرقان ثمّ الملائكة ثمّ كهيعص ثمّ طه ثمّ الواقعة ثمّ الشعراء ثمّ النمل ثمّ القصص ثمّ بني إسرائيل ثمّ يونس ثمّ هود ثمّ يوسف ثمّ الحجر ثمّ الأنعام ثمّ الصافّات ثمّ لقمان ثمّ القمر ثمّ السبا ثمّ الزمر ثمّ حم المؤمن ثمّ حم السجدة ثمّ حمعسق ثمّ الزّخرف ثمّ الدخان ثمّ الجاثية ثمّ الأحقاف ثمّ الذاريات ثمّ الغاشية ثمّ الكهف ثمّ النحل ثمّ نوح ثمّ إبراهيم ثمّ الأنبياء ثمّ المؤمنون ثمّ الم تنزيل ثمّ الطور ثمّ الملك ثمّ الحاقّة ثمّ ذو المعارج ثمّ عمّ ثمّ النازعات ثمّ انفطرت ثمّ انشقّت ثمّ الروم ثمّ العنكبوت ن.

ص: 17


1- بفتح العين، دقيق يلتّ بالسمن و يطبخ.
2- منقول من مجمع البيان.

ثمّ المطفّفين. فهذه السور و هي خمس و ثمانون سورة أنزلت بمكّة، ثمّ أنزلت بالمدينة: البقرة ثمّ الأنفال ثمّ آل عمران ثمّ الأحزاب ثمّ الممتحنة ثمّ النساء ثمّ إذا زلزلت ثمّ الحديد ثمّ سورة محمّد ثمّ الرعد ثمّ سورة الرحمن ثمّ هل أتى ثمّ الطلاق ثمّ لم يكن ثمّ الحشر ثمّ إذا جاء نصر اللّه ثمّ النور ثمّ الحجّ ثمّ المنافقون ثمّ المجادلة ثمّ الحجرات ثمّ لم تحرّم ثمّ الجمعة ثمّ التغابن ثمّ سورة الصفّ ثمّ سورة الفتح ثمّ المائدة ثمّ سورة التوبة. فهذه ثمانية و عشرون سورة، و قد رواه الأستاذ أحمد الزاهد بإسناده عن عثمان بن عطا عن أبيه عن ابن عبّاس في كتاب الإيضاح و زاد فيه: و كانت إذا نزلت سورة بمكّة ثمّ يزيد اللّه فيها ما يشاء بالمدينة.

و بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن البصريّ أنّ أوّل ما أنزل اللّه من القرآن بمكّة على الترتيب: اقرأ باسم ربّك و ن و المزّمّل- إلى قوله:- و الّذي نزل بالمدينة: ويل للمطفّفين و البقرة و الأنفال و آل عمران و الأحزاب و المائدة و الممتحنة و النساء و إذا زلزلت و الحديد و سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الرعد و الرحمن و هل أتى إلّا قوله: «فلا تطع» فهذا ما انزل بالمدينة فجميع سور القرآن مائة و أربع عشر سورة انتهى.

و بالجملة في المجالس عن الصادق و عن أبيه أنّ الحسنين عليهما السّلام قالا: و نحن نصوم ثلاثة أيّام فألبسهما العافية فأصبحوا صياما و في آخره هبط جبرئيل عليه السّلام قال: يا محمّد خذ ما هنّأك اللّه لك في أهل بيتك، قال صلّى اللّه عليه و آله: ما آخذ يا جبرئيل؟ قال:

هل أتى إلى قوله: «وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً».

و قال أكثر علماء التفسير من العامّة: إنّا نحن لا نشكّ في صحّة الرواية:

و أيضا في رواية أهل البيت في المناقب عن أكثر المفسّرين من كبارهم ما يقرب ممّا ذكره في المجالس إلّا أنّه ليس فيه صيام الصبيّين عليهما السّلام و في آخر الرواية: فرآهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جياعا فنزل جبرئيل و معه صحفة من الذهب مرصّعة بالدرّ و الياقوت مملوءة من الثريد و عراق (1) يفوح منها رائحة المسك و الكافور فجلسوا و أكلوا حتّى م.

ص: 18


1- بضم العين، العظم بلا لحم.

شبعوا و لم ينقص منها لقمة واحدة و خرج الحسين عليه السّلام و معه قطعة عراق فنادته يهوديّة يا أهل بيت الجوع من أين لكم هذه؟ أطعمنيها، فمدّ يده الحسين عليه السّلام ليطعمها فهبط جبرئيل و أخذها من يده و رفع الصحفة إلى السماء فقال صلّى اللّه عليه و آله: لو لا ما أراد الحسين من إطعام الجارية تلك القطعة من اللحم ترك تلك الصحفة في أهل بيتي يأكلون منها إلى الأبد.

رجع إلى التفسير [إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ في الجنّة [مِنْ كَأْسٍ هي الزجاجة إذا كانت فيها خمر و تطلق أيضا على نفس الخمر على طريق ذكر المحلّ و إرادة الحالّ و هو المراد هنا عند الأكثر حتّى قيل: كلّ كأس في القرآن فإنّما عني به الخمر [كانَ مِزاجُها] بتكوين اللّه [كافُوراً] أي ماء كافورا و هو اسم عين في الجنّة في المقام المحمّدي و كذا سائر العيون ماؤها من بياض الكافور و برده و رائحته، يقال: مزج الشراب أي خلطه و مزاج البدن ما يمازجه و يخالطه من الصفراء و السوداء و البلغم و الدم. و الكافور اشتقاقه من الكفر و هو الستر لأنّه من شدّة رائحته الطيّبة يغطي الأشياء و الكافور المعروف في الدنيا طيب يكون من شجر بحبال بحر الهند يظلّ خلقا كثيرا و تألفه النمورة و خشبة أبيض هشّ (1) و توجد في أجوافه الكافور و هو أنواع و لونها أحمر و إنّما تبيضّ بالتصعيد.

[عَيْناً] بدل من «كافورا» [يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ صفة عين و عباد اللّه الأبرار أي يشربون هذا الشرب من هذا العين أو يشربون بها الخمر لكونها ممزوجة بها مثل شربت الماء بالعسل، و إنّ حروف العوامل ينوب بعضها مناب بعض و حاصل المعنى: هذا الشراب من عين يشرب بها أولياء اللّه، قال الفرّاء: شربها و شرب بها سواء في المعنى كما يقولون: تكلّمت بكلام حسن و كلاما حسنا.

[يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً] أي يوصلون تلك حيث شاءوا من منازلهم و قصورهم و التفجير تشقيق الأرض لجري الماء، و أنهار الجنّة تجري بغير أخدود (2) فإذا أراد المؤمن ة.

ص: 19


1- النمورة بضم النون جمع النمر. عود هشّ: سريع الكسر.
2- الأخدود: الحفرة المستطيلة.

أن يجري نهرا خطّ خطّا فينبع الماء من ذلك الموضع فالتفجير في الآية سوق الماء حيث أرادوا الفناء في محبّة اللّه و إطاعته يوجب الشرب من هذا الكأس بخلاف كأس النفسانيّة الشيطانيّة فإنّه يشرب الحميم و خبال (1) جهنّم و ذلك لأهل الفسق في الدنيا و هي حرام. و في الحديث «إذا تناول العبد كأس الخمر ناشده الإيمان باللّه: لا تدخلها عليّ فإنّي لا أستقرّ أنا و هي في وعاء واحد فإن أبى العبد و شربها نفر الإيمان نفرة لا يعود إليه أربعين صباحا فإن تاب تاب اللّه عليه و نقص من عقله شي ء لا يعود إليه أبدا».

[يُوفُونَ بِالنَّذْرِ] كأنّه قيل: ما ذا فعلوا حتّى ينالوا هذه الدرجة؟ يوفون بما أوجبوه على أنفسهم فكيف بما أوجبه اللّه عليهم من الصلاة و الزكاة و غير هما، و النذر إيجاب الفعل المباح على نفسه تعظيما للّه مثل أن يقول: للّه عليّ من الصدقة و غيرها إن شفي مريضي أو ردّ غائبي.

[وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً] أي كانوا في الدنيا يخافون اللّه من مخالفته من يوم و هو يوم القيامة كان شرّه و عذابه فاشيا منتشرا في الأقطار غاية الانتشار، و استطار الفجر انتشر و هو أبلغ من طار، و أطلق الشرّ على أهوال القيامة بالنسبة إلى مستحقّيها و إنّ ليوم القيامة أمورا سارّة للمؤمنين كما أنّ للكافرين أمورا ضارة.

[وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ قال ابن عبّاس: الضمير راجع إلى الطعام أي يطعمون على غاية شهوتهم و جوعهم و على أشدّ ما تكون حاجتهم إليه، وصفهم بالأثرة على أنفسهم و قيل: الهاء كناية عن اللّه أي على حبّ اللّه [مِسْكِيناً] فقيرا عاجزا عن الكسب و الدائم السكون إلى التراب [وَ يَتِيماً] طفلا لا أب له [وَ أَسِيراً] الأسر الشدّ بالقدّ (2) سمّي الأسير بذلك ثمّ يستعمل لكلّ مأخوذ مقيّد و إن لم يكن مشدودا بذلك و الأسير كان يطلق على المأخوذ من دار الحرب من المشركين و قيل: هو المحبوس ة.

ص: 20


1- الخبال بالفتح: الفساد، النقصان، السم القاتل.
2- القدّ بالفتح: جلد السخلة.

من أهل القبلة و قيل: الأسير المرأة.

[إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ الوجه مجاز عن الرضى، أي قائلين بلسان الحال أو بلسان المقال إزاحة لتوهّم المنّ المبطل للصدقة و توقّع المكافئة المنقّصة للأجر:

[لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً] على ذلك بالمال و النفس و لا نريد مقابلة و عوضا [وَ لا شُكُوراً] و مدحا و تشكّرا منكم بالذكر الجميل، و في الآية أدب أدّب اللّه العباد في خلوص العمل بأن يكون القصد خالصا لرضاه و لا يشوب بالرياء.

[إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً] أي عذاب يوم تعبس فيه الوجوه من شدّة أهواله كما روي أنّ الكافر يعبس يومئذ حتّى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران و العبس قطوب الوجه من ضيق الصدر و إنّ العبوس الأسد كالعبّاس لحدّته على إيصال الضرر بالعنف على فريسته و وصف اليوم بالعبوس توسّعا لما فيه من الشدّة كما يقال يوم صائم و ليل قائم [قَمْطَرِيراً] القمطرير اليوم الشديد الشرّ، و التفّ شرّه بعض على بعض؛ قال الشاعر:

بني عمّنا هل تذكرون بناءناعليكم إذا ما كان يوم قماطر

قال الحسن: ما أشدّ اسمه و هو من اسمه أشدّ! و قيل: في معنى القمطرير الأمر الّذي يقبض الحياة و يقلص الوجوه من شدّته.

[سورة الإنسان (76): الآيات 11 الى 22]

فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (11) وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً (13) وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15)

قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20)

عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)

ص: 21

[فَوَقاهُمُ اللَّهُ بسبب خوفهم و تحفّظهم على القربات وقاهم شرّ ذلك اليوم الشديد. و الخوف من اللّه له فوائد عظيمة، في الحديث «قال رجل و هو لم يعمل حسنة قطّ و وصّى لأهله إذا متّ فحرّقوني ثمّ اذروا (1) نصفي في البرّ و نصفي في البحر فو اللّه لئن قدر اللّه عليّ ليعذّبني عذابا لا يعذّبه أحدا من العالمين فلمّا مات الرجل فعلوا ما أمرهم فأمر اللّه البرّ فجمع ما فيه و أمر البحر فجمع ما فيه ثمّ قال له: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا ربّ و أنت أعلم فغفر اللّه له بسبب خشيته» و قوله:

«لئن قدر اللّه» بالتخفيف من القدرة أي لئن تعلّقت قدرته يوم البعث بعذاب جسمه، ظنّ المسكين أنّه بالفناء على الوجه المذكور يلتحق بالمحال و قدرة اللّه لا يتعلّق بالمحال فلا يلزم منه الكفر.

[وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً] لقّيته كذا إذا استقبلته به أي أعطاهم بدل عبوس الفجّار و حزنهم نضرة في الوجوه و سرورا في القلوب.

[وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً] أعطى كلّ واحد منهم بطريق الأجر و العوض بسبب صبرهم في اجتناب المحرّم و إيثار الأموال جنّة و بستانا يأكلون منها ما شاءوا و حريرا يتزيّنون به و يلبسونه.

[مُتَّكِئِينَ فِيها] أي في الجنّة [عَلَى الْأَرائِكِ السرر في الحجال من الدرّ و الياقوت موضونة بقضبان (2) الذهب و ألوان الجواهر، أي مستقرّين عليها.

[لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً] حرّا و لا بردا كما يرون في الدنيا لأنّ الحرارة غالبة في أرض العرب و البرودة في أرض العجم و الروم. و الزمهرير شدّة البرد و ازمهرّ النهار اشتدّت برده، روي عن ابن عبّاس أنّه قال: فبينما أهل الجنّة إذ رأوا ضوءا كضوء الشمس و قد أشرقت الجنان فيقول أهل الجنّة يا رضوان قال اللّه تعالى «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً» فيقول لهم رضوان: ليست هذه بشمس و لا قمر و لكن هذه فاطمة و عليّ ضحكا ضحكا أشرقت الجنان من نور ضحكهما و فيهما أنزل ب.

ص: 22


1- ذرا الريح التراب- من باب نصر- اطارته و فرقته.
2- الموضونة الدرع المقاربة النسج او المنسوجة بالجواهر. القضبان جمع القضيب.

اللّه «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ» إلى قوله: «وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً».

[وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها] الظلال جمع ظلّ نقيض الضحّ أي ظلال الأشجار في الجنّة قربت من الأبرار من جوانبهم حتّى صارت الأشجار بمنزلة المظلّة عليهم و إن كان لا شمس فيها موذية لتظلّهم و المراد بيان زيادة نعيمهم و راحتهم فإنّ الظلّ في الدنيا للراحة.

[وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا] أي سخّرت ثمارها لمتناوليها و سهل أخذها للقائم و القاعد و المضطجع من الذّلّ بالكسر و هو ضدّ الصعوبة، و الحاصل تدنو ظلالهم عليهم مذلّلة قطوفها لهم، و قطوف جمع «قطف» بكسر القاف بمعنى العنقود (1) و سمّي العنقود قطفا لأنّه يقطع وقت الإدراك.

[وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ أي يدار على الأبرار إذا أرادوا الشرب [بِآنِيَةٍ] أوعية جمع إناء و أصل آنية أأنية بهمزتين [مِنْ فِضَّةٍ] نعت لآنية [وَ أَكْوابٍ جمع كوب و هو الكوز العظيم المدوّر الرأس لا اذن له و لا عروة فيسهل الشرب منه من كلّ موضع و لا يحتاج عند التناول إلى إدارته [كانَتْ قَوارِيرَا] القارورة ما قرّ فيه الشراب و نحوه [قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ] أي تكوّنت جامعة بين صفاء الزجاجة و شفيفها و لين الفضّة و بياضها يرى ما في داخلها من خارجها و «كان» تامّة و قوارير الأوّل حال من فاعل كانت. فإن قيل: إنّ القوارير إنّما تتكوّن من الزجاج فكيف تكون القوارير؟

قال الصادق عليه السّلام: «ينفذ البصر في فضّة الجنّة كما ينفذ في الزجاج» قال أبو عليّ الفارسي:

القول في ذلك أنّ الشي ء إذا قاربه شي ء و اشتدّت ملابسته له قيل: إنّه من كذا و إن لم يكن منه في الحقيقة. و قوارير الثانية بدل من الاولى و ليست بتكرار و يجوز تقدير حذف المضاف أي من صفاء الفضّة. و يمكن أن يكون المراد أنّ القوارير أصلها من الرمل في الدنيا و أرض الجنّة من فضّة فقواريرها من فضّة.

[قَدَّرُوها تَقْدِيراً] الضمير في «قدّروها» الأوّل للسقاة و الخدم، و الثاني للكاسي أي من غير زيادة و لا نقصان و هو ألذّ للشارب فإنّ طرفي الاعتدال مذمومان ه.

ص: 23


1- العنقود ما تراكم من حب العنب و نحوه.

لا فيض فيها و لا غيض أي لا كثرة و لا قلّة.

[وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً] أي إنّ الأبرار يسقون في الجنّة بأمر اللّه خمرا [كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا] الزنجبيل عرق (1) برّيّ في الأرض و نباته كالقصب و البرديّ (2) شبّه طعمها بالزنجبيل لأنّ الممزوج به أطيب ما يستطيب العرب أي تمزج و تخلط بماء من العين المسمّاة بالزنجبيل.

[عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا] عينا بدل من زنجبيلا في الجنّة تسمّى عند الملائكة سلسبيلا لسلاسة انحدارها و سهولة مساغها و العين سمّيت بصفاتها. قيل: إنّ سلسبيلا صفة لا اسم و إلّا لامتنع من الصرف للعلميّة و التأنيث و قيل: اسم و إنّما صرف لرعاية رأس الآية و هي مؤنّث معنويّ لا حقيقيّ يقال: شراب سلسل و سلسبيل سهل الورود في الحلق لعذوبته و زيدت الباء على السلسال للمبالغة على غاية السلاسة تتسلسل في الحلق.

[وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ يدور على الأبرار [وِلْدانٌ فإنّهم أخفّ في الخدمة، جمع وليد و هو من قرب عهده بالولادة [مُخَلَّدُونَ دائمون على ما هم عليه من الطراوة و البهاء. لا يتغيّرون أبدا أو مقرطون (3) للخدمة، أو من الخلد و هو الروح كأنّهم روحانيّون من اللطافة لا جسم لهم.

[إِذا رَأَيْتَهُمْ يا من شأنه الرؤية [حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً] جمعه اللئالئ؛ تلألأ الشي ء لمع [مَنْثُوراً] بالثاء متفرّقا لحسنهم و صفاء ألوانهم و إشراق وجوههم و تفرّقهم في مجلس الخدمة و طوافهم على المخدومين، و اللؤلؤ إذا كان متشتّتا يكون في المنظر أحسن من المنظوم و لو كانوا مصطفّين على وتيرة واحدة لشبّهوا باللؤلؤ المنظوم فلتفرّقهم شبّهوا بالمنثور كما أنّ الحور لتجمّعهنّ بل هنّ مقصورات في الخيام باللؤلؤ المكنون. و قال بعضهم: منثورا من صدفه، أي شبّهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثرط.

ص: 24


1- المراد به هنا اصل الشجر.
2- نبات كالقصب.
3- اى تزينوا بالقرط.

من صدفه و هو غير ممسوس و مثقوب لأنّه أكثر ماء و صفاء. أنشأهم اللّه من غير ولادة و قيل: إنّهم ولدان الكفّار يدخلون الجنّة خدما لأهلها. و في رواية المراد بالولدان هنا ولدان المسلمين الّذين يموتون صغارا لا حسنة لهم و لا سيّئة فوضعوا هذا الموضع.

[وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً] قيل: ليس له مفعول ملفوظ و لا منويّ و لا مقدّر بل المعنى أنّ بصرك أين ما وقع في الجنّة [رَأَيْتَ نَعِيماً] كثيرا لا يوصف [وَ مُلْكاً كَبِيراً] واسعا كما في الحديث «أدنى أهل الجنّة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه».

[عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ] عاليهم قيل: ظرف و خبر مقدّم، و ثياب مبتدء مؤخّر أي فوقهم ثياب سندس و هو الديباج الرقيق، و إضافة الثياب إلى السندس كإضافة الخاتم إلى الفضّة، و قيل: عاليهم حال أي يعلوهم ثياب سندس، و قيل: المراد فوق خيامهم المضروبة عليهم فالمعنى أنّ حجالهم من الحرير و الديباج و خضر جمع أخضر صفة الثياب و الضمير راجع إلى الأبرار [وَ إِسْتَبْرَقٌ أي ثياب إستبرق عطف على الثياب بمعنى الديباج الغليظ سبق بيانه في سورة الرحمن و هو بقطع الهمزة لكونه اسما للديباج الغليظ الّذي له بريق.

[وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ] عطف على قوله: «و يطوف عليهم» و هو ماض لفظا و مستقبل معنى أي يحلّون و يتزيّنون بأساور جمع أسورة في جمع سوار و كان الملوك في الزمان الأوّل يتحلّون بها و يسوّرون من يكرمونه و لا ينافي هذه الآية مع ما في الكهف و الحجّ (1) من قوله: «مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ» لإمكان الجمع بين السوارين أو على التعاقب في الأوقات تارة يلبسون الذهب و تارة يلبسون الفضّة أو التبعيض بأن

ص: 25


1- آية 31 و آية 23.

يكون أسورة البعض ذهبا و البعض فضّة بحسب اختلاف شؤونهم [وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً] من الأقذار لم يدنّسها الأيدي و لم تدسه الأرجل كخمر الدنيا و لا يصير بولا نجسا بل يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك و يجوز أن يكون بمعنى الفاعل مطهّر باطنه من كلّ كدورة إذ لا يكون شي ء خالص من كدورة الأكوان إلّا اللّه فبخّ للشراب و شاربه و ساقيه.

و أسكر القوم دور كأس و كان سكري من المدير

قال بعضهم: صلّيت خلف سهل بن عبد اللّه العتمة (1) فقرأ قوله: «و سقاهم ربّهم شرابا طهورا» فجعل يحرّك فمه كأنّه يمصّ فلمّا فرغ من صلاته قيل له: أ تقرأ أم تشرب؟ قال: و اللّه لو لم أجد لذّته عند قراءته كلذّتي عند شربه ما قرأته.

[إِنَّ هذا] أي الّذي ذكر من أنواع العطايا [كانَ لَكُمْ جَزاءً] عوضا بمقابلة أعمالكم [وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً] مرضيّا مقبولا و سعيكم و قيامكم بطاعته مرضيّ عنده سبحانه فكأنّه شكر لكم عملكم و فعلكم.

[سورة الإنسان (76): الآيات 23 الى 31]

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (25) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)

[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي فصّلناه في الإنزال آية بعد آية و لم ننزّله جملة واحدة لحكمة بالغة مقتضية له و نحن نزّلناه لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير على سبيل التأكيد فكأنّه تعالى يقول: إنّ هؤلاء الكفّار يقولون

ص: 26


1- يعنى صلاة العشاء.

إنّ ذلك كهانة و سحر فأنا الملك الحقّ أقول: إنّ ذلك وحي حقّ و تنزيل صدق من عندي فلا تكترث (1) بطعنهم.

[فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بتأخير نصرك على الكافرين فإنّ الأمور مرهونة بأوقاتها و كلّ آت قريب [وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ من الكفّار [آثِماً أَوْ كَفُوراً] أي لا تطع من يدعوك إلى إثم أو كفر، و قيل: الآثم في الآية يعني عتبة بن ربيعة و الكفور يعني الوليد بن المغيرة فإنّهما قالا له صلّى اللّه عليه و آله: ارجع عن هذا الأمر و نحن نرضيك بالمال و التزويج و قيل: الكفور أبو جهل نهى النبيّ عن الصلاة و قال:

لئن رأيت محمّدا يصلّي لأطأنّ عنقه فنزلت الآية. و في نهيه صلّى اللّه عليه و آله عن الإطاعة فيما يدعونه إليه مع أنّه ما كان يطيع أحدا منهم و لا يتصوّر في حقّه ذلك من باب «إيّاك أعني و اسمعي يا جاره» و المراد الامّة و هذا الخطاب كقوله (2): «لئن أشركت ليحبطنّ عملك» و إشارة إلى أنّ الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد و التنبيه و ركّب في طبعهم الشهوة الداعية إلى السهو و الغفلة.

[وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا] أي داوم على ذكره أوّل النهار و آخر النهار أو المعنى دم على صلاة الفجر و الظهر و العصر.

[وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي فاسجد له في بعض الليل لأنّه لم يأمره بقيام الليل كلّه و قيل: المراد صلاة المغرب و العشاء [وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا] و المراد بالتسبيح في هذه الآية صلاة الليل كما في الحديث روي عن الرضا عليه السّلام أنّه سأله أحمد بن محمّد عن هذه الآية قال عليه السّلام: «المراد بذلك التسبيح صلاة الليل» و حاصل المعنى صلّ صلاة التهجّد لأنّه كان واجبا عليه في طائفة طويلة من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه و المراد بقوله: «ليلا طويلا» بيان طول التسبيح فيه و ليس المراد أن يتهجّد في الليل و لا يتهجّد في الليل القصير.

[إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ] أي كفّار مكّة يحبّون اللّذّات العاجلة في الدنيا

ص: 27


1- اكترث له: بالى به.
2- سورة الزمر: 65.

فهو الحامل على كفرهم و عدم قبولهم أو أمرك [وَ يَذَرُونَ يتركون [وَراءَهُمْ أي أمامهم [يَوْماً ثَقِيلًا] عسيرا شديدا لا يستعدّون له و ينبذونه وراء ظهورهم.

و «وراء» يستعمل في كلّ من أمام و خلف و في وجه الاستعمالين أنّ وراء اسم للجهة المتوارية المستترة المختفية عنك و استتار جهة الخلف ظاهر و ما في جهة الأمام قد يكون متواريا عنك غير مشاهد فيشبه الخلف في الاستتار فيستعار له اسم الوراء و وصف اليوم بالثقل مع أنّ الثقل من صفات الأعيان الجسميّة لتشبّه شدّته و هوله و ما يلزمه من العذاب استعارة تخييليّة و في الآية و عيد لأهل الدنيا و المنهمكين فيها بالظلم على أنفسهم.

[نَحْنُ لا غيرنا [خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ خلقناهم من نطفة و أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب ليتمكّنوا بذلك من القيام و القعود و الأخذ و الدفع.

و الأسر الربط و منه أسر الرجل (1) إذا وثق بالقدّ و قيل: المراد من قوله: «و شددنا أسرهم» أي شددنا مخرج بولهم و غائطهم و أحكمنا ربطه إذا خرج الأذى انقبض و إذا يريد الإنسان الدفع استرخى و لا يسترخي قبل الإرادة من الإنسان.

[وَ إِذا شِئْنا] تبديلهم [بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي بدّلناهم بأمثالهم بعد إهلاكهم [تَبْدِيلًا] بديعا لا ريب فيه و هو البعث. و المثليّة في النشأة الاخرى التركيب الأوليّة باعتبار إيجاد الأجزاء الأصليّة و إعادتها، أو المعنى لو شئنا أهلكناهم و آتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم و لكن نبقيهم إتماما للحجّة.

[إِنَّ هذِهِ إشارة إلى السورة و الآيات القريبة [تَذْكِرَةٌ] أي عظة مذكّرة في تحصيل السعادة الأبديّة و إذكار بما غفلت عنه عقولهم [فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا] و تقرّب إليه بالإطاعة و النجاة من ثقل اليوم المذكور [وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي و ما تشاءون شيئا من الطاعات إلّا و اللّه يشاؤه و يريده، و ليس المراد في الآية أنّه سبحانه يشاء كلّ ما يشاؤه العبد من المعاصي لأنّ الدلائل الواضحة قد دلّت ب.

ص: 28


1- من باب ضرب.

على أنّه يتعالى عن أن يريد القبائح و إشاءة (1) القبيح ظلم و ما اللّه يريد ظلما للعباد و لا يريد بكم العسر.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً] عليم بأفعالكم حكيم في تدبير مصالحكم [يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ و جنّته ممّن يؤمن به و بكتابه فلا تكن ظالما شقيّا [وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً] و هم الّذين يصرفون مشيّتهم في مخالفة اللّه فيجزيهم جهنّم و هيّأ لهم العذاب المولم و الظالمون الّذين وضعوا الضلالة في مقام الهداية و الجهالة في مقام المعرفة تمّت السورة بعون اللّه.ه.

ص: 29


1- أشاءه: ألجأه.

سورة المرسلات

اشارة

مكّيّة كلّها بلا خلاف إلّا آية قيل: استثني منها «و إذا قيل لهم اركعوا الآية».

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها كتب له أنّه ليس من المشركين و عرّف اللّه بينه و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 30

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المرسلات (77): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَ النَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)

فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)

وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

الواو للقسم [وَ الْمُرْسَلاتِ بمعنى الطوائف المرسلات جمع مرسلة أي طائفة مرسلة باعتبار أنّ ملائكة كلّ يوم أو كلّ عام أو كلّ حادثة طائفة و [عُرْفاً] بمعنى متتابعة مأخوذ من عرف الفرس و هو الشعرات المتتابعة فوق عنقه من باب التشبيه البليغ بأن شبّهت الملائكة المرسلون في تتابعهم بشعر عرف الفرس، و انتصابه على الحاليّة أي جاريات بعضها أثر بعض كعرف الفرس أو العرف بمعنى المعروف و الإحسان، نقيض النكير و المنكر فإنّهم إن أرسلوا للرحمة فظاهر و إن أرسلوا لعذاب الكفّار فذلك أيضا معروف و إحسان للأنبياء و المؤمنين. و قيل: المرسلات الرياح أرسلت متتابعة و قيل: المراد الأنبياء جاءت بالمعروف.

[فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً] فعصفن أي الملائكة في مضيّهنّ لأمر اللّه كما يعصف الرياح في هبوبها مخفّفا في امتثال أوامره تعالى أو أقسم بالرياح العاصفة [وَ النَّاشِراتِ نَشْراً] و اقسم بطوائف من الملائكة نشرن أجنحتهنّ في الجوّ عند انحطاطهنّ بالوحي أو نشرن الشرائع و الأحكام في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالكفر و الإيمان ففرّقن بين الحقّ و الباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عذرا للمحقّين أو نذرا للمبطلين.

[فَالْفارِقاتِ فَرْقاً] يعني الملائكة تأتي بما يفرّق بين الحقّ و الباطل و الحلال

ص: 31

و الحرام و هي آيات القرآن و الكتب السماويّة و هي فارقة بين الهدى و الضلال.

[فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً] يعني الملائكة كأنّها الحاملات للذكر الطارحات له ليأخذه من خوطب به [عُذْراً أَوْ نُذْراً] أي للإعذار و الإنذار إمّا عذرا و محوا لسيّئاتهم للّذين يعتذرون إلى اللّه بتوبتهم و استغفارهم و إمّا إنذارا للّذين يغفلون عن الطاعة و يرتكبون المعاصي فالملائكة عاذرين و منذرين «عذرا أو نذرا» بدل من الذكر إمّا بدل البعض أو بدل الكلّ أي الذكر الملقى إمّا الترغيب في الطاعات أو الترهيب من المعاصي و قيل: «الناشرات» هي الرياح الّتي تأتي بالمطر تنشر السحاب نشرا للغيث أو أنّها الأمطار ينشر النبات كما أنّه قيل في معنى الفارقات:

إنّها الرياح الّتي تفرّق السحاب و تبدّده. و هذه أقسام أقسم اللّه بها أو المراد أقسم بربّ هذه الأشياء بناء على أنّه لا يجوز القسم إلّا باللّه.

و جواب القسم [إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ أي إنّ الّذي توعدونه من مجي ء القيامة كائن لا محالة و الفرق بين الكائن و الواقع أنّ الواقع لا يكون إلّا حادثا تشبيها بالحائط الواقع و الكائن أعمّ منه.

ثمّ بيّن وقت وقوعه: [فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي محيت آثارها و محقت ذواتها فإنّ الطمس محو الأثر، و النجوم مرفوعة بالابتداء و طمست خبره أو مرفوعة بفعل يفسّره ما بعده و هو الأولى لأنّ «إذا» فيها معنى الشرط و الشرط بالفعل أولى و جواب إذا محذوف أي إذا طمست النجوم وقع ما توعدون.

[وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ صدعت من خوف الرحمن و شقّقت و وقعت فيها الفروج الّتي نفاها، و الفرج الشقّ.

[وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ جعلت كالحبّ الّذي ينسف بالمنسف و قلعت من مكانها أو ذهبت بسرعة و فنيت حتّى لا يبقى لها أثر و تذرّى و تلاشى.

[وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي جمعت لوقتها تشهد على الأمم عيّن لهم الوقت الّذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم فيقال لهم: احضروا للشهادة فقد جاء وقتها أو بلغ الوقت الّذي كانوا ينتظرونه و هو يوم القيامة، و قرأ أبو عمر و «وقّتت» على الأصل

ص: 32

الباقون أبدلوا الواو همزة لأنّ الضمّة من جنس الواو فيكون ثقيلا كما أنّ الكسرة تستثقل على الياء و العرب تبدّل الألف من الواو تقول: أسادة في وسادة و مؤرّخ في مورّخ.

[لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ مقدّر بقول هو جواب لإذا في قوله: «و إذا الرسل» أي يقال: لأيّ يوم اخّرت الأمور المتعلّقة بالرسل و ضرب لهم الأجل لجمعهم و إحضارهم، و حاصل المعنى أنّ الرسل بعثت في أوقات مختلفة و أخّرت للفرق بين المطيع و العاصي و يكونون شهداء عليهم فإنّ الرسل يعرفون كلّا بسيماهم و شاهدون لأعمالهم.

[لِيَوْمِ الْفَصْلِ بيان ليوم التأجيل و هو اليوم الّذي يفصل فيه بين الخلائق و يقضي بالحقوق [وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ «ما» مبتدء «أدراك» خبره أي أيّ شي ء جعلك داريا و عالما ما كنهه و لم ير أحد قبلك شدّته حتّى تسمع منه، و وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة تفظيع و تهويل و أيضا «ما» خبر مقدّم و «يوم الفصل» مبتدء لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأنّ محطّ الفائدة بيان كون يوم الفصل أمرا بديعا هائلا.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي الويل و الهلاك ثابت فيه لهم و الويل في الأصل مصدر منصوب سادّ مسدّ فعل لا من لفظه فأصله أهلكه اللّه إهلاكا أو هلك هلاكا. و عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات الهلاك و دوامه للمدعوّ عليه، و وضع الويل موضع الهلاك فجاز وقوعه مبتدء مع كونه نكرة فإنّه لمّا كان مصدرا سادّ مسدّ فعله المتخصّص بصدوره عن فاعل معيّن كانت النكرة المذكورة متخصّصة بذلك الفاعل فساغ الابتداء بها لذلك كما قالوا: سلام عليك، و قيل: الويل واد في جهنّم لو أرسلت فيه الجبال لماعت (1) من حرّه.ى.

ص: 33


1- ماع يميع ميعا: سال و جرى.

[سورة المرسلات (77): الآيات 16 الى 50]

أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)

فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)

أَحْياءً وَ أَمْواتاً (26) وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30)

لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35)

وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ (41) وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)

كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

[أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كقوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم ممّن هلكوا قبل مبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك لتكذيبهم بيوم الفصل [ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ و لم يعطف نتبعهم على نهلك فيجزم بل استأنف، و التقدير ثمّ نحن نتبعهم و نجعلهم تابعين للأوّل في الإهلاك و ليس الكلام معطوفا على ما قبله لأنّ العطف يوجب أن يكون المعنى أهلكنا الأولين ثمّ أتبعناهم الآخرين في الإهلاك و ليس كذلك لأنّ إهلاك الآخرين لم يقع بعد فلذلك رفع نتبع و استأنف به الكلام وجه الإخبار عمّا سيقع في المستقبل بإضمار المبتداء و يؤيّده قول الحسن: إنّ الآخرين هم الّذين تقوم عليهم القيامة.

[كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي نفعل فعلا مثل ذلك الفعل الّذي اخبر به فمحلّ الكاف النصب على أنّه نعت لمصدر محذوف تقديره «فعلا بالمجرمين» أي كلّ من أجرم.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات اللّه و البعث فإنّهم يجازون بأليم العذاب.

ص: 34

[أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي نطفة قذرة مهينة و الميم في مهين أصليّة و المهانة الخسّة و الابتذال أي خلقناكم منه [فَجَعَلْناهُ أي الماء [فِي قَرارٍ مَكِينٍ و هو الرحم و الرحم وعاء الولد و القرار موضع الاستقرار و المكين الحصين أي جعلنا ذلك الماء في مقرّ حصين متمكّنا سالما من التعرّض له [إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ من الوقت الّذي قدّره للتنمية و الحياة و الولادة تسعة أشهر أو أقلّ أو أكثر.

[فَقَدَرْنا] أي قدرنا خلقه و جوارحه، قرئ بالتشديد و بالتخفيف [فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي نحن، بمعنى المقدّرون و يجوز أن يكون «فقدرنا» معناه من القدرة لا من التقدير أي قدرنا على خلقه و تصويره كيف نشاء و يعضد هذا المعنى قوله:

«فنعم القادرون».

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ مضى تفسيره و في برهان القرآن: كرّرها في هذه السورة عشر مرّات لأنّ كلّ واحدة منها ذكرت عقيب آية غير الاولى فيكون تكرارا لازما لأنّ بسط الكلام في الترغيب و الترهيب أدعى إلى إدراك البقيّة و قد يجد كلّ أحد في نفسه من تأثير التكرار ما لا خفاء به.

[أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً] تحوزهم و تضمّهم و تكفتهم كفتا [أَحْياءً] على ظهرها في دورهم و أبنيتهم و مساكنهم [وَ أَمْواتاً] في بطنها أو المعنى على الحال و نصبه على الحاليّة و قيل: أي من الأرض ما ينبت و منها ما لا ينبت و الكفات اسم ما يكفت و يضمّ و يجمع من كفت الشي ء أو جمع اسم الفاعل و هو كافت مثل صيام جمع صائم فمن جعل لفظ الكفات مصدرا أو جمع اسم الفاعل جعله عاملا، و من جعله اسما لما يكفت أو جمعا للكفت بمعنى الوعاء منعه من العمل. قال عليّ عليه السّلام:

الكفات بمعنى الوعاء.

[وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ أي جبالا ثوابت من رسا الشي ء يرسو ثبت و الجبال ثوابت على ظهر الأرض لا تزول. و شامخات صفة بعد صفة و الشامخ العالي المرتفع أي طوالا شواهق و منه «شمخ بأنفه» عبارة عن الكبر و المعنى أنّ الجبال ثوابت الأصول رواسخ العروق مرتفعات الفروع، و وصف جمع المذكّر بجمع المؤنّث

ص: 35

في غير العاقل مطّرد مثل (1) «أشهر معلومات» و التنكير للتفخيم و التكثير.

[وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً] عذبا جدّا و مكّناكم من شربه من السماء و الأرض بالعيون و الأنهار و الأمطار. و الفرات يقال للواحد و الجمع [وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ واد في جهنّم الويل لهم في ذلك اليوم لأنّهم كذّبوا بأنعم اللّه و آياته.

[انْطَلِقُوا] يقال يومئذ للمكذّبين بطريق التوبيخ: اذهبوا، و القائلون خزنة جهنّم [إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا و تقولون ليس عذاب و بعث.

[انْطَلِقُوا] خصوصا [إِلى ظِلٍ دخان نار جهنّم [ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ و ذي ذوائب كما هو شأن الدخان العظيم كناية عن كون ذلك الدخان في غاية الغلظ فالتشعّب من لوازمه أو يخرج لسان من النار فيحيط بالكفّار كسرادق، و يتشعّب من دخان تلك النار ثلاث شعب فتظلّهم حتّى يفرغ من حسابهم و المؤمنون في ظلّ العرش و تقف شعبة الدخان فوق رأس الكافر و شعبة عن يمينه و شعبة عن يساره و ذلك لتضييعهم القوى الثلاث الّتي هي السمع و البصر و الفؤاد كما قال سبحانه (2):

«و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون» فرعايتها مبدء السعادات و تضييعها منشأ الشقاوات، و إنّ الإيمان عبارة عن التصديق و الإقرار و العمل فجعلت كلّ شعبة من الثلاث بمقابلة واحدة من هذه الأركان يتركها و اتّباع القوى الثلاث من الواهمة و الغضبيّة و الشهويّة بأعمالها و فعلها، فإنّ لكل عمل و صفة صورة شخصيّة جسدانيّة يوم القيامة.

[لا ظَلِيلٍ أي لا يظلّ ذلك الظلّ من الحرّ، و تسمية ما يغشاهم من العذاب بالظلّ تهكّم و استهزاء بهم، و لما أو هم لفظ الظلّ من الاسترواح استدرك بقوله: لا ظليل [وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي غير مغن عن لهب النار كما يغني ظلّ الدنيا من الحرّ أي ظلّ غير ظليل و مفعول «يغني» محذوف تقديره شيئا و هذا الظلّ ظلّ النفس الخبيثة المتمرّدة عن الإيمان بظلمة كفرها و منشعبة من الشيطانيّة و السبعيّة و البهميّة

ص: 36


1- سورة البقرة: 197.
2- الم السجدة: 9.

[إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ] ثمّ وصف النار أي يتطاير منها في الجهات شرارات كقصر من القصور في عظمتها و كالبناء العالي، و وصف به الجمع باعتبار كلّ واحد من آحاده. و القصر أيضا الحطب الجزل (1) قال ابن عبّاس: هي الخشب العظام المقطّعة و كنّا نعمد إلى الخشب فنقطعها قطعا كبارا ثلاثة أذرع و فوق ذلك و دونه ندّخرها للشتاء و نسمّيها القصر لكونها مقصورة و مقطوعة من الممدودة الطويلة فإذا كان حال دخانها و شررها هكذا فكيف بحال أهلها؟

[كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ] أي كأنّ الشرر و ردّ الضمير إلى لفظ الشرر و النار دون معناها فشبّه سبحانه لونه بالجمالات الصفر أي كأنّها أينق سود. قال الفرّاء: لا ترى أسود من الإبل إلّا و هو مشرب (2) صفرة و العرب تسمّي سود الإبل صفراء، أو هو على الحقيقة من الصفرة لأنّ النار تكون أصلا صفراء. أي كلّ شررة كجمل أسود أو أصفر.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بنار هذه صفته.

[هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ قيل: في معناه قولان أحدهما أنّهم لا ينطقون بنطق ينفعهم فكأنّهم لم ينطقوا. و الثاني أنّ في القيامة مواقف في بعضها يتكلّمون و يختصمون و في مواقف يختم على أفواههم و قد منعوا عن الاعتذار لأنّه خلاف الواقع إذ لو كان لهم عذر لم يمنعوا و أيّ عذر لمن جحد بربّه و عاند معه بالإنكار له.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذه الأمور.

[هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين الحقّ و الباطل [جَمَعْناكُمْ يا امّة محمّد [وَ الْأَوَّلِينَ من كان قبلكم إذ الفصل بين المحقّ و المبطل، لا بدّ و أن يحضروا.

[فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ] و حيلة تدفعون بها عنكم العذاب، و الخطاب من اللّه للكفّار [فَكِيدُونِ حذف ياء المتكلّم اكتفاء بالكسرة و احتالوا و تخلّصوا عن عذابي ه.

ص: 37


1- بالفتح، الغليظ العظيم.
2- أشرب اللون: أشبعه.

إن قدرتم و هذا أمر تعجيز و تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا و كانوا يدفعون الحقوق عن أنفسهم و يبطلون حقوق الناس بضروب الحيل و المكايد و التلبيسات [وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ .

[إِنَّ الْمُتَّقِينَ من الشرك و التكذيب و الفواحش [فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ من أشجار الجنّة و عيون جارية بين أيديهم في غير أخدود لأنّ ذلك أمتع لهم و ينابيع تجري في ظلال الأشجار [وَ فَواكِهَ جمع فاكهة و هي ثمار الأشجار [مِمَّا يَشْتَهُونَ و يتمنّون فيتناولونها لا عن جوع و امتلاء بل عن شهوة و تلذّذ.

[كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي مقولا لهم كلوا من نعم الجنّة و اشربوا من مائها و شرابها سائغا رافها بلا داء بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة خصوصا الصّيام و هذا أمر إكرام إظهارا للرضى عنهم و تمسّك القائلون بإيجاب العمل للثواب بالباء السببيّة و الجواب أنّ السببيّة إنّما هي بفضل اللّه و وعده لا بالذّات بحيث يمتنع عدمه أو يوجب النقص أو الظلم.

[إِنَّا كَذلِكَ الجزاء العظيم [نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث نال أعداؤهم هذا الثواب الجزيل و هم بقوا في العذاب المخلّد.

[كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا] أيّها المكذّبون و استلذّوا بالملاذّ زمانا قليلا إلى مدّة آجالكم [إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ مستحقّو العذاب و حرمان الثواب لأنّكم آثرتم المتاع الفاني على النعيم الخالد فالأمر أمر توبيخ و تحسّر و تحزين و علّل ذلك بإجرامهم دلالة على أنّ كلّ مجرم مآله هذا و ليس له إلّا الأكل و التمتّع أيّاما قلائل ثمّ البقاء في الهلاك الأبديّ.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم.

[وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ أي للمكذّبين [ارْكَعُوا] و تواضعوا له بقبول وحيه و ارفضوا هذا الاستكبار و النخوة و صلّوا [لا يَرْكَعُونَ أي لا يصلّون و لا يتواضعون. قال مقاتل:

نزلت الآية في ثقيف حين أمرهم الرسول بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنّ ذلك سبّة

ص: 38

(و السبّة الدبر) و عار علينا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع و لا سجود».

و قيل: إنّ المراد بذلك يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. و الركوع في اللغة حقيقة في مطلق الانحناء الحسّي. و في بعض التفاسير: كانوا في الجاهليّة يسجدون للأصنام و لا يركعون لها فصار الركوع من أعلام صلاة المسلمين للّه [وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ .

[فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ و بأيّ خبر حقّ بعد القرآن [يُؤْمِنُونَ إذ لم يؤمنوا بالقرآن و لم ينقادوا لمثل هذا البرهان الباهر. و استدلّ المعتزلة بهذه الآية على أنّ القرآن ليس بقديم بقوله: «حديث» إذ الحديث ضدّ القديم لأنّ القديم و الحديث لا يجتمعان في شي ء واحد.

قال صاحب تفسير روح البيان المولى إسماعيل الحقّيّ بأنّ الحديث هنا بمعنى الخبر لا بمعنى الحادث و لو سلّم فيدلّ على حدوث الألفاظ الدالّة على المعاني و لا خلاف فيه و إنّما الخلاف في قدم المعنى القائم بذاته لكنّ المعتزلة لا يقولون:

إنّ علم اللّه حادث و لكنّهم يقولون: إنّا لا نعني بالقرآن و لا نعرف مسمّى له إلّا هذه الألفاظ المركّبة الواقعة لبيان أحكام المكلّفين المتضمّنة لهذه المعاني الّتي أنزلها اللّه على رسوله و لا شكّ أنّها حادثة و ليست بقديمة. روي أنّ هذه السورة نزلت في غار قرب مسجد الخيف بمنى تسمّى بغار «و المرسلات» تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 39

سورة النبأ

اشارة

* (مكية)* عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ سورة النبأ سقاه اللّه برد الشراب يوم القيامة.

و روي عن الصادق عليه السّلام من أدمن قراءة عمّ يتساءلون سنة يزور بيت اللّه الحرام.

ص: 40

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النبإ (78): الآيات 1 الى 40]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)

ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَ الْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً (15) وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)

وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً (24)

إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)

فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَ أَعْناباً (32) وَ كَواعِبَ أَتْراباً (33) وَ كَأْساً دِهاقاً (34)

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)

إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)

[عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ المعنى: أصله «عن ما» أدغمت النون في الميم لاشتراكهما في الغنّة فصار «عما» ثمّ حذفت الألف كما في «لم و بم و فيم و علام» قصدا

ص: 41

للخفّة و كثرة الاستعمال و كان أهل مكّة يتساءلون عن البعث و يتحدّثون بينهم و يخوضون فيه إنكارا و استهزاء عن النبأ الخبر العظيم الّذي له شأن و خطر أو لمّا كثر تساؤل المشركين عن شأن التوحيد و البعث قال سبحانه: «عن النبأ العظيم» و هو القرآن.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «النبأ العظيم الولاية» و عن الباقر عليه السّلام سئل عن تفسير هذه الآية فقال: «هي في عليّ عليه السّلام» كان أمير المؤمنين يقول:

«ما للّه آية هي أكبر منّى و لا للّه نبأ أعظم منّي».

و القميّ عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عنه فقال: قال أمير المؤمنين: «ما للّه نبأ أعظم منّي، و ما للّه آية أكبر منّي، و لقد عرض فضلي على الأمم الماضية على اختلاف ألسنتها فلم يقرّ لفضلي».

و في العيون عن الباقر عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن عليّ عليهم السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: يا عليّ أنت حجّة اللّه و أنت باب اللّه و أنت الطريق إلى اللّه و أنت النبأ العظيم و أنت الصراط المستقيم و أنت المثل الأعلى» الحديث.

و في الكافي في خطبة الوسيلة لأمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّي أنا النبأ العظيم و عن قليل ستعلمون ما توعدون».

[الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فمصدّق به و مكذّب به و الجملة وصف للنبأ بعد وصفه بالعظيم و «فيه» متعلّق بمختلفون، قدّم عليه اهتماما به و رعاية للفواصل و جعل الصلة جملة اسميّة للدّلالة على الثبات أي هم راسخون في الاختلاف فمن جازم باستحالته بقوله (1): «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا ... وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ...

وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» و من مقرّ يزعم أنّ آلهته يشفع له كما قالوا (2): «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» و من شاكّ يقول (3): «ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».

ص: 42


1- سورة الجاثية: 23.
2- «التوبة: 18.
3- «الجاثية 31.

[كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردع كما يستفاد من كلمة «كلّا» و وعيد كما يستفاد من قوله: «سيعلمون» أي ليس أمر القيامة أو أمر التوحيد و النبوّة أو الولاية ممّا ينكر أو يشكّ فيه بحيث يتساءل عنه سيعلمون ما اختلفوا فيه حقّ مقطوع لا شكّ فيه.

[ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ تكرير للردع و الوعيد و «ثمّ» للدّلالة على أنّ الوعيد الثاني أشدّ و أبلغ و قيل: ليس تكرارا فقال: بالأوّل سيعلمون حقيقة الأمر عند النزع ثمّ في يوم القيامة و ورود جهنّم و ما تلاقونه من فنون الدواهي و العقوبات عمّا قليل.

ثمّ نبّههم على وجه الاستدلال على صحّة ذلك فقال: [أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً] الهمزة للتقرير و المهاد البساط و الفراش أي ألم نجعل الأرض بساطا ممهودا تنقلبون عليها كما ينقلب الرجل على بساطه و مهادا مفعول ثان لجعل إن كان الجعل بمعنى التقدير: و حال إذا كان بمعنى الخلق و قرئ مهدا تشبيها بمهد الصبيّ.

[وَ الْجِبالَ أَوْتاداً] للأرض لئلّا تميد بأهلها و المراد إرساؤها فيها لتسكن إذ كانت تضطرب على الماء فهو من باب التشبيه البليغ، و سادات الأولياء و خواصّ الأصفياء على الحقيقة هم الأوتاد بهم يمسك السماء أن تقع على الأرض و هم الأئمّة المعصومون و إنّهم جبال ثابتة، و بهم ثبتت أرض الوجود و لولاهم لما خلقت.

[وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً] أي جعلنا خلقكم حالكونكم أصنافا ذكرا و أنثى و الزوج يقال لكلّ واحد من القرينين المزدوجين حيوانا أو غيره كالخفّ و النعل و لا يقال: للاثنين زوج بل زوجان و لذا كان الصواب أن يقال: قرضته بالمقراضين و قصصته بالمقصّين لأنّهما اثنان لا بالمقراض و بالمقصّ كذا قال الحريرىّ في درّة الغوّاص و قال الفيروزآبادىّ: يقال للاثنين هما زوجان و هما زوج، و زوجة للمرأة لغة رديئة لقوله تعالى (1): «يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ»* و يقال لكلّ ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادّا زوج و لذا فسّر بعض الآية: خلقناكم حالكونكم

ص: 43


1- سورة البقرة: 35.

معروضين لأوصاف متقابلة كلّ واحد منها مزدوج بما يقابله كالفقر و الغنى و الصحّة و المرض و العلم و الجهل و القوّة و الضعف و الذكورة و الأنوثة و الطول و القصر، فالفاضل يشتغل بالشكر و المفضول بالصبر، و يحصل منكم التناسل، و يتمتّع بعضكم ببعض.

[وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً] و النوم استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه و لذا قلّ في أهل الرياضة لقلّة الرطوبة «سباتا» أي كالموت، و المسبوت الميّت، و هو القطع لأنّه مقطوع عن الحركة و منه سمّي يوم السبت لأنّ اللّه بدأ بخلق السماوات و الأرض يوم الأحد فخلقها في ستّة أيّام فقطع عمله يوم السبت فسمّي بذلك و النوم إحدى التوفيتين كما قال سبحانه: (1) «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» أي و يتوفّى الّتي لم تمت في منامها و ذلك لما بينهما من المشاركة التامّة في انقطاع أحكام الحياة، و التنوين في «سباتا» للنوعيّة أي و جعلنا نومكم نوعا من الموت و هو الموت الّذي ينقطع و لا يدوم إذ لا ينقطع ضوء الروح إلّا عن ظاهر البدن و بهذا الاعتبار قيل: له أخو الموت و قد جعله سبحانه راحة لأبدانكم عن الكلال و الملال.

[وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً] أي غطاء و سترة يستر بظلمته و سواده يقال: لبس الثوب استتر به و استعير اللباس لكلّ ما يغطّي الإنسان عن قبيح فجعل الزوج لزوجها لباسا من حيث يمنعه عن تعاطي قبيح و كذا البعل و أيضا جعل التقوى لباسا على طريق التشبيه و كذا جعل الخوف و الجوع لباسا يقولون: فلان تدرّع الفقر و لبس الجوع، و حاصل المعنى أنّ الليل يستركم بظلامه كما يستركم اللباس. قيل: الليل ستر السالكين و النهار سوق البطّالين.

الليل للعاشقين ستريا ليت أوقاتها تدوم

ص: 44


1- سورة الزمر: 42.

[وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً] أي حياة تبعثون فيه من نومكم و وقت معاشكم و مبتغي عيشكم.

[وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً] أي سبع سماوات محكمة أتقنّا صنعها و أوثقنا بناءها لا يؤثّر فيها مرّ الدهور و كرّ العصور. و التعبير عنها بالبناء مبنيّ على تنزيلها منزلة القباب المضروبة على الخلق.

[وَ جَعَلْنا] أنشأنا [سِراجاً وَهَّاجاً] هو الشمس و التعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السماوات بالبناء وهّاجا و وقّادا متلألئا من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغا في الحرارة من الوهج و هو الحرّ أى جامعا بين النور و الحرارة.

قيل: إنّ الشمس و القمر خلقا في بدء أمرهما من نور العرش و يرجعان في القيامة إلى نور العرش روى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال: ألا أحدّثكم بما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في الشمس و القمر و بدء خلقهما؟ قال قلنا: بلى يرحمك اللّه فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن ذلك فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه تعالى لما أبرز خلقه احكاما و لم يبق غير آدم (أى و ما كان خلقه بعد) خلق شمسين من نور عرشه فأمّا ما كان في سابق علمه أن يدعها شمسا فإنّه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها و مغاربها، و ما كان في سابق علمه أن يطمسها و يحوّلها قمرا فإنّه جعله دون الشمس في العظم و إنّما يرى صغرهما لشدّة ارتفاعهما في السماء و بعدهما من الأرض فلو ترك الشمس و القمر كما كان خلقهما في بدء أمرهما لم يعرف الليل من النهار و لا النهار من الليل و لا يدري الأجير متى يعمل و متى يأخذ أجره و متى يفطر الصائم و لا تدري المرأة متى تعتدّ و لا يدري المسلمون متى وقت صلاتهم و متى وقت حجّهم، فكان الربّ أنظر بعباده و أرحم بهم فأرسل جبرئيل فأمّر جناحه على وجه القمر فطمس منه الضوء و بقي فيه من النور فذلك قوله: (1) «وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» فالسواد الّذي ترونه في القمر شبه الخطوط فيه أثر المحو قال:

فإذا قامت القيامة و قضى اللّه بين الناس و ميّز بين أهل الجنّة و النار و لم يدخلوهما

ص: 45


1- سورة الإسراء: 17.

بعد يدعو الربّ بالشمس و القمر و يجاء بهما أسودين مكوّرين قد وقفا في زلازل و بلابل ترعد فرائصهما من هول ذلك اليوم و مخالفة الرحمن فإذا كانا حيال العرش خرّ اللّه ساجدين فيقولان: إلهنا قد علمت طاعتنا لك و دأبنا في عبادتك و سرعتنا للمضيّ بأمرك أيّام الدنيا فلا تعذّبنا بعبادة المشركين إيّانا، فقد علمت أنّا لم ندعهم إلى عبادتنا و لم تذهل عن عبادتك فيقول الرّب: صدقتما إنّي قد قضيت على نفسي أن أبدأ و أعيد و إنّي معيدكما إلى ما أبدأتكما منه فارجعا إلى ما خلقتكما منه فيقولان: ربّنا ممّ خلقتنا؟ فيقول: خلقتكما من نور عرشي فارجعا إليه فتلمع من كلّ واحد منهما برقة يكاد يخطف الأبصار نورا فيختلطان بنور العرش فذلك قوله (1) «يبدأ و يعيد».

فإن قيل: إنّ نور الشمس و القمر يتّصل بنور النبيّ و إنّ نورهما مخلوقان من نوره فكيف يتّصل نورهما بنور العرش؟

فالجواب أنّ العرش و الكرسيّ خلقا من نوره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لو كان خلق القمرين من نور العرش فهما أيضا مخلوقان من نور النبيّ في الحقيقة و متّصل نورهما بنوره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالكلّ نوره.

[وَ أَنْزَلْنا] النون للعظمة [مِنَ الْمُعْصِراتِ هي السحائب إذا عصرت و شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر و لم تعصرها بعد، و الإنزال من المستعدّ لا من المنزل و الواقع و إلّا يلزم تحصيل الحاصل و همزة فعل «أعصر» للحينونيّة يقال: أحصد الزرع إذا حان له أن يحصد و أعصرت الجارية أي حان لها أن تعصر الطبيعة رحمها فتحيض أو دخلت في عصر شبابها و لو لم تكن همزة أعصر للحينونيّة لكان ينبغي أن يقرء «و المعصرات» بفتح الصاد على المفعول لأنّ الرياح تعصرها و يجوز أن تكون المعصرات الرياح الّتي حان لها أن تعصر السحاب فتمطر [ماءً ثَجَّاجاً] أى منصبّا بكثرة دفاعا من الصبابة، مدرارا متتابعا يتلو بعضه بعضا يقال: ثجّ الماء أى سال بكثرة:

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أفضل الحجّ العجّ و الثجّ» أى رفع الصوت بالتلبية و صبّ دماء الهدي.

ص: 46


1- سورة البروج: 13.

و لا منافاة بين هذا و بين قوله تعالى (1): «فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً» فإنّ ابتداء المطر إن كان من السماء يكون الإنزال منها إلى السحاب و منه إلى الأرض و إلّا فإنزاله منها باعتبار تكون بأسباب سماويّة من جملتها حرارة الشمس باعتبار السببيّة و اللّه خالق الأسباب و مسبّبها.

[لِنُخْرِجَ بِهِ بذلك الماء بسبب وصوله إلى الأرض و اختلاطه بها و هذه اللام لام المصلحة عند الأشاعرة و لام الغرض عند المعتزلة [حَبًّا وَ نَباتاً] و الحبّ اسم جنس يشمل ما يكون قوتا للإنسان و يقوم به بدنه كالحنطة و الشعير و أمثالها و نباتا كثيرا يعتلف به كالتبن و الكلاء. و تقدّم ذكر الحبّ مع تأخّره عن النبات في الإخراج و الوجود لأصالته.

[وَ جَنَّاتٍ ليتفكّه بها الإنسان قال الفرّاء: الجنّة ما فيه النخيل و الفردوس ما فيه الكروم و الجنّة في الأصل هي السترة تطلق على النخل و الأشجار المتكاثفة بأغصانها و تطلق على الأرض ذات الشجر [أَلْفافاً] أي ملتفّة تداخل بعضها في بعض و ألفاف قيل: لا واحد له كالأوزاع و الأخياف (2)، و الأوزاع بمعنى الجماعات و قيل:

واحده لفّ ككنّ و أكنان أو مفردة لفيف أو هو جمع لفّ جمع لفاء كخضر و خضراء فتكون ألفاف جمع الجمع و المراد من هذه الآيات بيان قدرته على البعث من ذكر الدلائل الآفاقيّة و الأنفسيّة و الاستبعاد من إنكارهم و اختلافهم في وقوعه مع هذه الشواهد.

[إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ بين الخلائق [كانَ في تقديره و علمه [مِيقاتاً] و ميعادا للأوّلين و الآخرين و وقت ظهور ما وعد اللّه من البعث و الجزاء.

[يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ] بدل من «يوم الفصل» أو عطف بيان له مفيد لزيادة تفخيمه و تهويله و ذلك الوقت و اليوم زمان ممتدّ يقع في مبدئه النفخة و في بقيّته الفصل. و الصور القرن النورانيّ المعروف و النافخ إسرافيل [فَتَأْتُونَ أَفْواجاً] خطاب ى.

ص: 47


1- سورة الحجر: 22.
2- يقال: اخوة أخياف، إذا كانوا عن أم واحدة و آباء شتى.

عامّ و الفاء فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها أي فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف أفواجا و الفوج الجماعة المارّة المسرعة.

و سأل معاذ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من ذلك اليوم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم» ثمّ أرسل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عينيه و قال: «تحشر عشرة أصناف من أمّتي بعضهم على صورة القردة و بعضهم على صورة الخنازير و بعضهم منكوسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها و بعضهم عمي و بعضهم بكم و بعضهم يمضغون ألسنتهم و هي مدلات (1) على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذّرهم أهل الجمع و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم و بعضهم مصلّبون على جذوع من نار و بعضهم أشدّنتنا من الجيف و بعضهم ملبسون جبابا سابغة من القطران لازقه بجلودهم فأمّا الّذين على صورة القردة فالقتّات أي النّمام من الناس (2) و أمّا الّذين على صورة الخنازير فأهل السحت أي الحرام لأنّه يسحت الدّين و المروّة و يستأصلهما و أمّا المنكوسون على وجوههم فآكلة الربا (و التنكيس تعكيس هيئة القيام على الرجل بأن تجعل الرجل أعلى و الرأس أسفل) و أمّا العمي فالّذين يجورون في الحكم، و أمّا البكم فالمعجبون بأعمالهم، و أمّا الّذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القصّاص الّذين خالف قولهم أعمالهم، و أمّا الّذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القصّاص الّذين خالف قولهم أعمالهم، و أمّا الّذين قطّعت أيديهم و أرجلهم فهم الّذين يؤذون جيرانهم، و أمّا المصلّبون على جذوع النار فالسعادة بين الناس إلى السلاطين، و أمّا الّذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالّذين يتّبعون الشهوات و اللّذّات و يمنعون حقّ اللّه في أموالهم، و أمّا الّذين يلبسون الجباب فأهل الكبر و الخيلاء انتهى.

[وَ فُتِحَتِ السَّماءُ] عطف على ينفخ أي تفتح و تشقّ السماء من هيبة اللّه بعد أن م.

ص: 48


1- ادلاه أرخاه و استرسله.
2- حكى أن رجلا باع عبدا و قال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة فقال: رضيت فاشتراه فمكث الغلام أياما ثم قال لزوجة المولى: إن زوجك لا يحبك و هو يريد أن يتسرى عليك فخذي الموسى و احلقى حين ينام من قفاه شعرات حتى أسحر عليه فيحبك ثم قال للزوج: إن امرأتك أخذت خليلا و تريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف فتناوم الرجل فجاءت المرأة بالموسى فظن أنها تقتله فقام فقتلها فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج فوقع القتال بين القبيلتين و طال الفساد بينهم.

كانت لا فطور فيها و صيغة الماضي للدلالة على التحقّق [فَكانَتْ أَبْواباً] ذات أبواب كثيرة لنزول الملائكة نزولا غير معتاد و قيل: المراد من الفتح الكشف بإزالتها عن مكانها كما قال تعالى: (1) «و إذا السماء كشطت» أي تكشط فيصير مكانها طرقا لا يسدّها شي ء.

[وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ و المسيّر هو اللّه بعد قلعها عن مقرّها و تنبّس (2) ثمّ يفرّقها في الهواء و ذلك قوله [فَكانَتْ سَراباً] السراب ما تراه نصف النهار و هو اللامع في المفازة كالماء و ذلك لانسرابه و جريانه في مرأى العين أي فصارت بتسيّرها مثل السراب أي شيئا كلا شي ء لانبثات جواهرها.

فللجبال حالات فأوّل حالاته الاندكاك كما قال: (3) «وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» و حالتها الثانية أن تصير كالعهن المنفوش (4) و الثالثة أن تصير كالهباء و ذلك بأنّ تتبدّد كما قال: (5) «فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» و الرابعة أن ينسف لأنّها مع الأحوال المتقدّمة كانت قارّة مبثوثة على الأرض فنسفت بالرياح و هو المراد من قوله: (6) «يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» و حالته الخامسة أن تصير سرابا.

[إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً] أي إنّها في حكم اللّه موضع رصد يرصد فيه و خزنة جهنّم يرصدون الكفّار ليعذّبوهم فيها فالمرصاد اسم للمكان الّذي يرصد فيه و يستعمل للمحلّ الّذي اختصّ بالترغيب و الجواز عليه.

[لِلطَّاغِينَ مَآباً] أي كائنا للّذين جاوزوا حدود اللّه مرجعا يرجعون إليه.

[لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً] حالكونهم مستقرّين في جهنّم أزمانا كثيرة لا نهاية لها

ص: 49


1- سورة التكوير: 11.
2- اى تحركت بسرعة.
3- سورة الحاقة: 14.
4- «القارعة: 5.
5- «الواقعة: 6.
6- «طه: 105.

و دهورا متتابعة كلّما مضى حقب تبعه حقب آخر إلى غير نهاية و أصل الحقب من الترادف و التابع يقال: أحقب إذا أردف و قيل: إنّ الأحقاب ثلاثة و أربعون حقبا كلّ حقب سبعون خريفا كلّ خريف سبعمائة سنة كلّ سنة ثلاثمائة و ستّون يوما و اليوم ألف سنة من أيّام الدنيا كما روي عن ابن عبّاس. و قال بعض:

الحقب الواحد سبعون ألف، اليوم منها ألف سنة من أيّام الدنيا كما قال به الحسن البصرىّ. قال الفيروزآباديّ: الحقبة بالكسر من الدهر مدّة لا وقت لها.

و بالجملة فإن قيل: إنّ في معنى الأحقاب ما يدلّ على التناهي و خروجهم منها؟

فدلالته من قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدالّ على خلود الكفّار كقوله تعالى: (1) «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» و أمثالها كثيرة الدالّة على الخلود الأبديّ. و قيل: هذا التوقيت لأنواع العذاب لا لمكثهم في النار. و قيل: إنّه يعني به لأهل التوحيد عن خالد بن معدان و روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه: لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقابا و الحقب بضع و ستّون سنة و السنة ثلاثمائة و ستّون يوما كلّ يوم كألف سنة ممّا تعدّون فلا يتّكلنّ أحد أن يخرج من النار.

[لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً* إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً] و الذوق و إن كان في العرف للقليل لكنّه صالح للكثير لوجود الذوق في الكثير أيضا و المراد بالبرد ما يروّحهم و ينفّس عنهم حرّ النار و إلّا فهم يذوقون في جهنّم برد الزمهرير. و كنّي بالبرد عن الروح و بما يجد الإنسان من اللذّة في الحرّ من البرد أو المراد من البرد النوم قاله أبو عبيدة: و استشهد «فيصدني عنها و عن قبلاتها البرد» أي النوم «وَ لا شَراباً» أي ماء إلّا الحميم و هو الماء الحارّ المغيور «وَ غَسَّاقاً» و هو صديد جهنّم و ما يسيل من جلود أهل النار وقيحهم و الاستثناء منقطع أي لكن يذوقون الحميم و الغسّاق و إن فسّر الغسّاق بالزمهرير فاستثناؤه من البرد و التأخير ليوافق رؤوس الآي.

و عن ابن مسعود: الغسّاق لون من ألوان العذاب و هو البرد الشديد حتّى أنّ أهل

ص: 50


1- سورة النساء: 40.

النار إذا القوا فيه سألوا اللّه أن يعذّبهم في النار ألف سنة لمّا رأوه أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا.

و قال شهر بن حوشب: الغسّاق واد في النار فيه ثلاثمائة و ثلاثون شعبا في كلّ شعب ثلاثمائة و ثلاثون بيتا، و في كلّ بيت أربع زوايا في كلّ زاوية شجاع كأعظم ما خلق اللّه من الخلق في رأس كلّ شجاع سمّ، قال ابن مسعود: لو علم أهل النار أنّهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا و لو علم أهل الجنّة أنّهم يلبثون في الجنّة عدد حصى الدنيا لحزنوا.

أقول: و أمّا ما قاله بعض حكماء الإسلام من أنّ الكفّار بعد مضيّ الأحقاب ينقطع عنهم العذاب فألفوا العذاب و تعوّدوا به و لم يتألّموا منه و يؤول أمرهم إلى أن يتلذّذوا بالنار حتّى لو هبّ عليهم نسيم الجنّة استكرهوه و تعذّبوا به كالجعل يتألّم من الورد و يحصل لهم حالة جسم السمندري أو أنّ النار يحرق الكفّار في عوض شرك يوم من أيّام الدنيا ألف سنة من سني الآخرة ثمّ بعد مرور الأحقاب ينقطع العذاب عنهم.

فذلك بمعزل عن القبول و من قال به كذّب بالقرآن بل كذّب بجميع كتب السماويّة و الأنبياء مثل عبد الكريم الجيلانيّ في كتابه المسمّى «إنسان الكامل» و ابن العربيّ و البسطاميّ و أمثالهم ممّن أظهروا الباطل في صورة الحقّ و قالوا: إنّ الآيات الّتي يدلّ على خلودهم في النار بحيث يتألّمون بالتعذيب إنّما يدلّ على الزمان الطويل لا على التألّم و إنّما يعذّبون مدّة طويلة ثمّ هم خالدون إلّا أنّهم غير معذّبين و تكلّفوا في ظاهر القرآن و النصوص بالتأويلات القبيحة المستحسنة الظاهرة مثل أنّه سبحانه تمدّح بالعفو و المغفرة و لم يتمدّح بالتعذيب و قالوا:

صورة العذاب دائمة و لكنّهم بعد أحقاب من العذاب يتنعّمون من العذاب كما قال ابن العربيّ «يميت فتجري فيهم تلك السموم الشديدة حتّى يتخدّروا بذلك فيحصل لهم أعظم اللذّة و النعيم» و لو كان الأمر كما زعموا فلم يتمنّون الموت

ص: 51

بقولهم (1): «يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» فيجابون «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ».

و بالجملة فالحجّة في الآيات الإحالة على العرف في فهم الآيات و النصوص و أنّهم لا يخاطبون بما لا يعرفون فإنّهم لا يعرفون في قوله: (2) «خالِدِينَ فِيها أَبَداً* ... وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ* ...* لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» إلّا عدم انقطاع العذاب و معلوم بالضرورة أنّه ما ورد من الأنبياء و لا من الأئمّة مثل هذه التأويلات في مثل هذه الآيات أبدا فلا بدّ أن يضرب بالحائط هذه التأويلات الفاسدة انتهى.

[جَزاءً وِفاقاً] أي جوزوا بذلك جزاء وفاقا لأعمالهم و عقائدهم و وافقها وفاقا لأنّهم أتوا بمعصية عظيمة فعوقبوا عقابا عظيما «و جزاء سيّئة سيّئة مثلها» لأنّ الكفّار كان من نيّاتهم الاستمرار على الكفر و لو عمروا عمر الدنيا بل عمر الآخرة.

ثمّ علّل استحقاقهم بقوله: [إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً] ينكرون الآخرة و لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم و يقدمون في كلّ ما اشتهت نفوسهم و يستعمل الرجاء في الخوف قال الهذليّ: «إذا لسعته النحل لم يرج لسعها» [وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً] و قد أنكروا آياتنا و رسلنا كذّابا أي تكذيبا مفرطا.

[وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً] أي و كلّ شي ء من أعمالهم حفظناه حالكونه مكتوبا عليهم و الإحصاء و الكتابة في الضبط معنى متقارب و يجوز أن يكون من باب الاحتباك (3)، حذف الفعل الثاني بقرينة الأوّل و مصدر الأوّل بقرينة الثاني و التقدير أي أحصيناه إحصاء و كتبناه كتابا.

[فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً] و الفاء في فذوقوا جزائيّة دالّة على أنّ الأمر بالذوق مسبّب عن كفرهم بالحساب و تكذيبهم بالآيات و أنّ كلّ عذاب يأتي بعد الوقت الأوّل فهو زائد عليه و يزود العذاب و يتجدّد غير الأوّل إلى ما لا نهاية.ر.

ص: 52


1- سورة الزخرف: 77.
2- « «: 75.
3- الاحتباك احتزام الثوب بالإزار.

قوله [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً] شروع في بيان محاسن أحوال المؤمنين أي إنّ للّذين يتّقون الكفر و الكبائر فوزا و ظفرا بمباغيهم أو موضع فوز، فالمفاز على الأوّل مصدر ميميّ و على الثاني اسم مكان.

[حَدائِقَ وَ أَعْناباً] بدل من «مفاز» بدل الاشتمال إذا كان مصدرا ميميّا لأنّ الفوز يدلّ عليه دلالة التزاميّة، و بدل البعض إذا كان اسم مكان و الحديقة الروضة ذات الأشجار و الماء تكون محوطة سمّيت تشبيها بحدقة العين في الهيئة من التحوّط و حصول الماء فيها.

[وَ كَواعِبَ جمع كاعبة كعبت المرأة ظهر ثديها و بدت للارتفاع و نهدت [أَتْراباً] مستويات في السنّ، لدات في الميلاد، تشبيها في التساوي بالترائب الّتي هي ضلوع الصدر قيل: إنّهنّ في سنّ ستّ عشر لكونها نصف سنّ الرجال لأنّ سنّ أهل الجنّة في ثلاث و ثلاثين و يدلّ على هذا المعنى وصفهنّ بالكعوب و هذه الكيفيّة في الثدي يحصل في هذا السنّ من البنات.

[وَ كَأْساً دِهاقاً] أي مملوءة بالخمر «دهاقا» أي مدهقة مبالغة في امتلائها يقال:

أدهق الحوض و دهقه ملأه.

[لا يَسْمَعُونَ أي المتّقون [فِيها] في الحدائق [لَغْواً وَ لا كِذَّاباً] لا ينطقون بلغو و هو من الكلام ما يطرح لعدم الفائدة فيه و لا يكذب بعضهم بعضا بخلاف مجالس الدنيا من الشرب و لا يكذّب بعضهم كلام الآخر بخلاف المصاحبين في الدنيا.

[جَزاءً مِنْ رَبِّكَ أي فعل بالمتّقين ما فعل جزاء من اللّه على تصديقهم باللّه و برسوله و عملوا بكتابه [عَطاءً] أي أعطاهم اللّه إعطاء [حِساباً] أي كافيا على قدر ما يشتهون أو على مقابلة صحّة حسابهم مع اللّه في الدنيا بما وعد سبحانه لهم من عشرة و سبعمائة و المضاعفة و هو داخل في الحسب و التقدير، و الحسب بمعنى التقدير و القدر، فيكون المعنى عطاء بحساب. و العطاء يستعمل في موضع الفضل لا في موضع الاستحقاق و الفضل موهبة من اللّه يختصّ بها من يشاء.

ص: 53

[رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا] بدل من ربّك أي ربّ كلّ شي ء و خالقه [الرَّحْمنِ مفيض الجود و الرحمة بقدر استعداد المرحوم، و هو بالجرّ صفة للربّ أو المعنى ربّهم المعطي إيّاهم ذلك العطاء الجزيل هو الرحمن [لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً] استيناف مقرّر لبيان غاية العظمة و استقلاله من الجزاء و العطاء من غير أن يكون لأحد قدرة عليه و بيان نفي قدرتهم على أن يخاطبوه بشي ء من نقص العذاب و زيادة في الثواب من غير إذنه مثل قوله (1): «لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ» و مثل قوله: (2) «لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى .

[يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ الظاهر أنّ الروح من جنس الملائكة لكنّه أعظم منهم خلقا و رتبة و شرفا لتسميته بالروح و الروح أعظم من قواه التابعة له في الإنسان فكذلك في الملائكة و فسّر بعض الروح بجبرئيل إذ هو مشهور بروح الأمين و روح القدس، لكن هذا القول ضعيف لأنّ هذه النسبة إلى جبرئيل لأنّه حامل الوحي الّذي هو كالروح في الأحياء و قد اتّفقوا على أنّ إسرافيل أعظم من جبرئيل قيل: إنّ الروح خلق من خلق اللّه على صورة بني آدم و ليسوا بناس و ليسوا بملائكة يقومون صفّا و الملائكة صفّا هؤلاء جند و هؤلاء جند و قيل: إنّ الروح ملك من الملائكة ما خلق اللّه مخلوقا أعظم منه فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفّا و قامت الملائكة كلّهم صفّا فيكون عظم خلقه مثل صفّ الملائكة جميعا عن ابن مسعود و ابن عبّاس و قيل: المراد أنّ أرواح الناس يقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تردّ الأرواح إلى الأجساد [وَ قالَ صَواباً] فإذا اذن لهم قالوا لا إله إلّا اللّه و هذا قول الصواب أو من قال في الدنيا قول الحقّ و كان يقول: لا إله إلّا اللّه، و هم أهل التوحيد.

[ذلِكَ إشارة إلى يوم قيامهم [الْيَوْمُ الْحَقُ الثابت المتحقّق لا محالة لأنّه متحقّق علما و وقوعا و روى معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السّلام قال: سئل عن هذه

ص: 54


1- سورة يونس: 106.
2- «الجن: 27.

الآية فقال: نحن و اللّه المأذون لهم يوم القيامة و القائلون، قال: جعلت فداك ما تقولون؟

قال: نمجّد ربّنا و نصلّي على نبيّنا و نشفع لشيعتنا فلا يردّنا ربّنا [فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً] أي فعلى هذا البيان من عمل عملا صالحا يؤوب به إلى ربه فقد ازيحت العلل و أوضحت السبل.

[إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث و بما بعده و القوارع الواردة في القرآن [عَذاباً قَرِيباً] و هو عذاب يوم القيامة و قربه لتحقّق إثباته حتما (1) «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها».

[يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ تثنية أصلها يدان سقطت النون بالإضافة أي عذابا كائنا يوم ينظر المرء و يشاهد ما قدّمه من خير أو شرّ لأنّ كلّ أحد يرى عمله مثبتا في صحيفة فيرجوا المؤمن ثواب اللّه على صالح عمله و يخاف العقاب على سيّئته.

و أمّا الكافر [وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي و المنادى محذوف أي يا قوم، أو يكون لمحض التحسّر من غير قصد إلى خطاب [كُنْتُ تُراباً] في الدنيا و لم اخلق و لم ابعث قيل: يحشر اللّه الحيوان فيقتصّ للجمّاء من القرناء نطحتها (2) لقصاص المقابلة لا قصاص التكليف ثمّ يردّه ترابا فيتمنّى الكافر حاله. و قيل: الكافر في الآية إبليس يرى آدم و ولده و ثوابهم فيتمنّى أن يكون الشي ء الّذي احتقره حين قال (3): «خلقتني من نار و خلقته من طين» و يقول: «ليتني كنت ترابا» و قيل: هو تراب سجدة المؤمن تنطفئ به عنه النار و تراب قدمه عند قيامه في الصلاة فيتمنّى الكافر أن يكون تراب قدمه.

روى ابيّ بن كعب قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تعلّموا سورة النبأ و سورة ق و سورة و النجم و سورة و السماء ذات البروج و سورة و السماء و الطارق فإنّكم لو تعلمون ما

ص: 55


1- سورة النازعات: 46.
2- الجماء: الكبش لا قرن له خلاف القرناء.
3- سورة الأعراف: 11.

فيهنّ لعطّلتم ما أنتم عليه، و تقرّبوا إلى اللّه بهنّ إنّ اللّه يغفر بهنّ كلّ ذنب إلّا الشرك به» قال صلّى اللّه عليه و آله: لمّا قيل له صلّى اللّه عليه و آله: لقد أسرع الشيب إليك يا رسول اللّه؟

قال: «شيّبتني هود و الواقعة و المرسلات و عمّ و إذا الشمس كوّرت» و استحضار معاني هذه السور يشيب الإنسان من الهمّ و يذيب من الخوف و الغمّ لأنّ الشحم و الهمّ لا ينعقد تمّت السورة بعون اللّه

ص: 56

سورة النازعات

اشارة

* (مكية)* قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: و من قرأ هذه السورة لم يكن حبسه و حسابه يوم القيامة إلّا كقدر صلاة مكتوبة حتّى يدخل الجنّة.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و من قرأها لم يمت إلّا و هو ريّان، و لم يدخل الجنّة إلّا ريّان.

ص: 57

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النازعات (79): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)

فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)

يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

المعنى: النزع جذب الشي ء من مقرّه بشدّة و الغرق مصدر بمعنى الإغراق بحذف الزوائد و هو مفعول للنازعات يعني مفعول مطلق له لأنّه نوع من النزع.

و الإغراق في النزع التوغّل فيه إلى أقصى درجاته يقال: أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدّ حتّى انتهى إلى المنصل، أقسم اللّه بطوائف الملائكة الّتي تنزع الأرواح من الكفّار من أجسادهم إغراقا في النزع كما ينزع السهم الكثير الشعب من الصوف المبلول و كما يسلخ جلد الحيوان و هو حيّ و كما يضرب الإنسان ألف ضربة بالسيف بل أشدّ، و المراد من التأنيث باعتبار الطوائف من أعوان ملك الموت من الملائكة و إلّا لكان أن يقال: و النازعين و الناشطين. و هم يطعنون الكفّار بحربة مسمومة بسمّ جهنّم و الميّت يظنّ أنّ بطنه قد ملئ شوكا و كأنّ نفسه يخرج من ثقب إبرة و كان السماء انطبقت على الأرض و هو بينهما فإذا نزعت نفس الكافر و هي ترعد أشبه شي ء بالزيبق على قدر النحلة و على صورة عمله تأخذها الزبانية و يعذّبونها في القبر و في سجّين و في الآية بيان كيفيّة قبض أرواح الكفّار بالشدّة بشهادة مدلول اللّفظ.

[وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً] قسم آخر بطريق العطف و النشط ضدّ معنى النزع و جذب الشي ء من مقرّه برفق و لين أقسم اللّه بالملائكة الّتي تنشط أرواح المؤمنين و تخرجها من أبدانهم بالرفق يقال: انشططت العقدة حللتها، و يقال: نشطتها عقدتها و

ص: 58

كما تنشط الشعرة من السمن و القطرة من السقاء، و نفس المؤمن و إن كان يجذب من أطراف البنان و رؤوس الأصابع أيضا لكن إحساسه بالألم ليس كما يحسّ الكافر و أيضا حين يجذبونها يدعونها أحيانا حتّى تستريح بخلاق جذب أرواح الكفّار و ربّما يتعرّض الشيطان للمؤمن الضعيف العمل و اليقين إذا بلغ الروح التراقي فيأتيه في صورة أبيه و أمّه و أخيه و يأمره باليهوديّة أو النصرانيّة.

حكي أنّ إبليس تمثّل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما و بيده قارورة ماء فقال: أبيعه بإيمان الناس حالة النزع فبكى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأوحى اللّه إليه: إنّي أحفظ عبادي في تلك الحالة من كيده. فإذا أخذوا روح المؤمن يلفّونها في حرير الجنّة و هي على قدر النخلة و على صورة عمله فيعرجون بها إلى الهواء و يهيّئون له أسباب التنعّم في قبره و في علّيّين.

فقوله «و الناشطات» إشارة إلى كيفيّة قبض أرواح المؤمنين بمدلول اللفظ من نشط العقال من يد البصير إذا حلّ، أو المعنى تنشط أرواح المؤمنين للخروج لأنّه ما من مؤمن يحضره الموت إلّا عرضت عليه الجنّة قبل أن يموت فيرى موضعه فيها و أزواجه من الحور العين فنفسه تنشط أن تخرج عن ابن عبّاس. و قيل: المراد نشط أرواح الكفّار بين الجلد و الظفر حتّى تخرج من أجوافهم بالكرب و الغم عن عليّ عليه السّلام. و قيل: المراد أنّها النجوم تنشط و تذهب من أفق إلى أفق كما قيل هذا المعنى في النازعات بأنّ المراد من النازعات أيضا هذا المعنى تطلع في أفق و تنزع و تغيب عن أفق.

فإن قيل: إذا كان روح المؤمن في النزع تنزع بالسهولة كما شرح و قد ثبت أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ روحه الطيّب ببعض شدّة حتّى قال: «و اكرباه» و قال: «لا إله إلّا اللّه إنّ للموت سكرات اللّهم أعنّي على سكرات الموت» و كان يدخل يده الشريفة في قدح فيه ماء ثمّ يمسح وجهه المنوّر بالماء، و لمّا رأته فاطمة عليها السّلام يغشاه الكرب قالت وا كرب أبتاه! فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» فإذا كان أمر النبيّ حين انتقاله هكذا فما الوجه فيما ذكر من الرفق؟

ص: 59

فالجواب روي بأنّه طلب من اللّه أن يحمل عليه بعض صعوبة الموت تخفيفا عن امّته فإنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم و أيضا يحتمل أن يبتليه اللّه بذلك ليدعو اللّه في أن يجعل الموت لأمّته سهلا يسيرا و فيه تسلية امّته إذا وقع لأحد منهم شي ء من ذلك الكرب عند الموت و أيضا راحة الكمّلين في الشدّة لأنّها من باب الترقّي في الدرجات على أنّ مزاجه الشريف أعدل الأمزجة فاحسّ بالألم أكثر من غيره إذ الخفيف على الأخفّ ثقيل.

[وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً] قسم آخر على العطف و السبح المرّ السريع في الماء أو في الهواء أقسم اللّه بطوائف الملائكة الّتي تسبح و تسرع في مضيّها من السماء إلى الأرض مسرعين مشبهين في سرعة نزولهم بمن يسبح في الماء كما يقال للفرس الجواد سابح. و قيل: إنّها النجوم تسبح في فلكها. و قيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها.

و قيل: هي السفن تسبح في الماء.

[فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً] قيل: إنّها الملائكة لأنّها سبقت ابن آدم بالخير و الإيمان و العمل الصالح. و قيل: إنّها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء و قيل: إنّها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنّة عن عليّ عليه السّلام و قيل: إنّها أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الّذين يقبضونها و قد عاينت السرور شوقا إلى رحمة اللّه. و قيل: النجوم تسبق بعضها بعضا في السير و قيل: إنّها الخيل تسبق بعضها بعضا في العدو.

[فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً] قيل: إنّها الملائكة تدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة عن عليّ عليه السّلام و قيل: المراد جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت يدبّرون أمر الدنيا فأمّا جبرئيل فموكّل بالرياح و أمّا ميكائيل فموكّل بالقطر و النبات و أمّا ملك الموت فموكّل بقبض الأنفس و أمّا إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم. و قيل:

إنّها الأفلاك يقع فيها أمر اللّه فيجري بها القضاء في الدنيا.

و بالجملة أقسم اللّه بهذه الأشياء أو بربّ هذه الأشياء الّتي عدّدها و هذا ترك الظاهر بغير دليل و للّه أن يقسم بما شاء من خلقه و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به و جواب القسم محذوف و التقدير «لتبعثنّ» لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة.

ص: 60

[يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ] منصوب و متعلّق بالجواب المحذوف و هو لتبعثنّ و المراد الراجفة الواقعة الّتي ترجف عندها الأجرام الساكنة كالأرض و الجبال أي تتزلزل زلزلة عظيمة و هي النفخة الاولى و فيه إشعار بأنّ تغيّر السفليّ مقدّم على تغيّر العلويّ و إن لم يكن مقطوعا.

[تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ] أي الواقعة الّتي تردف الاولى و تجي ء بعد الاولى أي لتبعثنّ يوم الرجفة حالكون النفخة الثانية تلو الاولى و البعث يكون عند النفخة الثانية و بين النفختين أربعون سنة و المراد بيان تهويل اليوم في كونه موقعا لداهيتين عظيمتين لا يبقى عند وقوع الاولى حيّ إلّا مات و في الثانية ميّت إلّا بعث و قام.

[قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ] مبتدء و تنكيره يقوم مقام الوصف المخصّص و إن لم يذكر النوع المقابل أو يفيد التكثير كما في شرّ أهرّ ذا ناب أي قلوب كثيرة أو عاصية [واجِفَةٌ] مضطربة من سوء أعمالهم و قلقة من الخوف [أَبْصارُها] أي أبصار أصحابها [خاشِعَةٌ] ذليلة و أسند الخشوع إليها مجازا لأنّ أثره يظهر فيها.

[يَقُولُونَ أي هم كانوا يقولون [أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ هل نحن معاودون بعد موتنا [فِي الْحافِرَةِ] و الحاصل أنّ مشركي قريش و منكري البعث في الدنيا إذا قيل:

لهم إنّكم مبعوثون من بعد الموت يقولون أ نردّ إلى أوّل حالنا و ابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنّا؟ و الحافرة عند العرب اسم لأوّل الشي ء و ابتداؤه و قيل: الحافرة بمعنى المحفورة أي أ نردّ من قبورنا بعد موتنا أحياء؟

[أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً] أي أ إذا صرنا عظاما بالية نردّ و نبعث مع كونها أبعد شي ء من الحياة فهو تأكيد لإنكارهم البعث و ذلك أنّهم ظنّوا أنّ من فساد البدن و تفرّق أجزائه يلزم فساد ما هو الإنسان حقيقة و ليس كذلك و لو سلّم أنّ الإنسان هو هذا الهيكل المخصوص فلا نسلّم امتناع إعادة المعدوم فإنّ اللّه قادر على كلّ ما أراد فيقدر على جمع الأجزاء العنصريّة و إعادة الحياة إليها لأنّها متميّزة في علمه و إن كانت غير متميّزة في علم الخلق و مستهلكة كالماء مع اللّبن فإنّهما و إن امتزجا

ص: 61

لكن أحدهما متميّز عن الآخر في علم اللّه مثل أنّه ما كان فكان كذلك فيكون فليس كون الثاني بأبعد من الأوّل.

[قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ] أي إن كان الأمر على ما يقوله محمّد من أنّا نبعث و نعاقب فذلك البعث و الرجوع بعد الموت لنا «كرّة» ذات خسران أو خاسرة أصحابها و كان ذلك القول منهم في الدنيا على سبيل الاستهزاء لأنّهم كانوا استحالوا وقوعه.

فأجاب اللّه بقوله: [فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ] أي لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة بل هي هيّنة فإنّما هي صيحة حاصلة لا تكرّر يسمعونها و هم في بطون الأرض عبّر سبحانه الكرّة بالزجرة مع أنّ الزجرة سبب لحصول الكرّة تنبيها على كمال اتّصالها بها كأنّها عينها.

[فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ] أي فاجؤوا الحصول بالساهرة و حضروا الموقف عقيب الزجرة. و الساهرة الأرض البيضاء المستوية خالية عن الماء و الكلاء قيل لها «ساهرة» لأنّ سالكها لا ينام فيها خوف الهلكة و قال ابن عبّاس: إنّ الساهرة أرض من فضّة لم يعص اللّه عليها قطّ خلقها حينئذ. و قيل: المراد من الساهرة أرض الشام قرب بيت المقدس اسمها ساهرة و يكون الجمع هناك عند ما يبدّل اللّه الأرض غير الأرض و هي عرصة القيامة.

[سورة النازعات (79): الآيات 15 الى 26]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)

فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَ عَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)

[هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى كلام مستأنف وارد لتسلية الرسول عن تكذيب قومه بأنّه يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم كأنّه سبحانه قال: «هل أتاك حديث موسى» قبل هذا أم أنا أخبرك به؟ أو يكون «هل أتاك» أي أليس قد أتاك حكاية

ص: 62

موسى مع فرعون فيقتضي أن لا تتحزّن على إصرار قومك في إنكارهم للبعث.

[إِذْ ناداهُ رَبُّهُ ظرف للحديث أي حين ناداه اللّه و دعاه مثل قوله: يا فلان و وقع النداء في الوادي المبارك المطهّر و كان الوادي في حدود الأرض المقدّسة المطهّرة عن الشرك [بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اسم الوادي و قيل: طوى بالتقديس مرّتين لأنّه الموضع الّذي كلّم اللّه موسى. قرئ «طوى» منوّنا و غير منوّن.

[اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ قال اللّه لموسى: اذهب إلى فرعون [إِنَّهُ طَغى تعليل للأمر أي طغا على الخالق بكفره و طغا على الخلق بأن استعبدهم و جاوز الحدّ و ساء المعاملة معهما [فَقُلْ بعد ما أتيته: [هَلْ لَكَ رغبة و توجّه [إِلى أَنْ تَزَكَّى بحذف إحدى التاءين أي تتطهّر من دنس الكفر و الطغيان. و لك خبر عن مبتدء محذوف أي هل رغبة لك حاصلة في أن تصلح [وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ و أدلّك إلى معرفة خالقك و أرشدك إلى طريق الحقّ [فَتَخْشى و تخافه فيما نهاك عنه.

[فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى و في الكلام تقدير و حذف أي أتاه و دعاه فأراه الآية و هي العصا أو اليد [فَكَذَّبَ بأنّها من اللّه و جحد نبوّته فسمّى معجزته الكبيرة و هي قلب العصى حيّة سحرا [وَ عَصى اللّه بالتمرّد حيث اجترأ على إنكار ربّ العالمين و عصى موسى فيما أمره به.

[ثُمَّ أَدْبَرَ] اللعين عن الطاعة و كلمة «ثمّ» تفيد التراخي الزمانيّ إذا السعي في إبطال أمر موسى يقتضي مهلة فانصرف اللعين عن المجلس و ولّى دبره [يَسْعى و يجتهد في معارضة الآية عنادا لا اعتقادا بأنّها يمكن معارضتها تعلّلا بالباطل [فَحَشَرَ فَنادى فجمع السحرة و جمع ما يكاد به من آلات السحر و نادى بنفسه في المقام الّذي اجتمع الناس فيه [فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى لا ربّ فوقي و لا أعلى منّي يلي أمركم.

قال أهل التحقيق: ما أشقى الإنسان حيث ادّعى الربوبيّة و قال: «أنا ربّكم الأعلى» و إبليس تبرّأ من هذا الكلام و قال (1): «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ».

[فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى النكال بمعنى التعذيب كالسلام بمعنى

ص: 63


1- سورة الأنفال: 49.

التسليم و مصدر مؤكّد و المعنى نكّل اللّه نكال الآخرة و الاولى و هو الإحراق في الآخرة و الإغراق في الدنيا و لمّا لم يكن صادقا في دعواه افتضح في الدنيا و الآخرة.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً] و فيما ذكر من قصّة فرعون لاعتبارا و عظة [لِمَنْ يَخْشى من ربّه و خالقه فلا يتمرّد على اللّه و لا على أنبيائه و العاقل من اتّعظ بغيره.

[سورة النازعات (79): الآيات 27 الى 46]

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها (29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها (31)

وَ الْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)

فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)

[أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً] خطاب للمنكرين للبعث بناء على صعوبة الأمر بزعمهم بطريق التوبيخ و المراد من الشدّة الصعوبة لا الصلابة [أَمِ السَّماءُ] أم خلق السماء بلا مادّة على عظمها و انطوائها على البدائع الّتي تحار العقول في ملاحظة أدناها و القادر على الأصعب الأعسر كيف لا يقدر على حشركم و هو الأسهل [بَناها] استيناف و تفصيل لكيفيّة خلقها و تمّ الكلام عند قوله: «أم السماء» و ابتدأ بقوله: «بناها» و استعمل البناء في موضع السقف و البناء و إن كان تستعمل في أسافل البناء لكنّه استعمل في السقف و هو من أعالي البناء لكونه بعيدا عن الاختلال و الانحلال كالبناء.

[رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها] أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض و ذهابها إلى سمت العلو رفيعا مسيرة خمسمائة عام و السمك الارتفاع و هو مقابل العمق و منه قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «يا داعم (1) الممسوكات» و التسوية جعل أحد الشيئين على مقدار الآخر فسوّاها بلا تفاوت و فطور أو أحكمها.

ص: 64


1- دعم الشي ء- من باب منع- أسنده لئلا يميل.

[وَ أَغْطَشَ لَيْلَها] أي أظلم ليلها [وَ أَخْرَجَ ضُحاها] أي أبرز نهارها، و أضاف الليل و النهار إلى السماء لأنّ منها منشأ الظلام و الضياء.

[وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها] المعنى انّ الأرض بعد خلق السماء بسطها و إن كانت الأرض خلقت قبل السماء و كانت ربوة مجتمعة فبسطها و قيل: معنى «بعد» مع، أي مع ذلك دحاها مثل قوله: (1) «عتلّ بعد ذلك زنيم» أي مع ذلك و قيل: بعد في الآية بمعنى قبل مثل قوله (2): «بعد الذكرى» أي قبل القرآن و لو أنّ البعد على معناه الأصليّ من التأخّر لكان الكلام صحيحا فإنّ الدحو وقع بعد خلق الأرض و السماوات.

[أَخْرَجَ مِنْها ماءَها] بأن فجّر منها العيون [وَ مَرْعاها] أي رعيها بالكسر بمعنى الكلاء و هو في الأصل موضع الرعي بالفتح و نسب الماء و المرعى إلى الأرض من حيث إنّهما مظهران منها.

[وَ الْجِبالَ أَرْساها] منصوب بفعل مضمر يفسّره «أرساها» أي أثبتها و أثبت بها الأرض أن تميد بها.

[مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ مفعول له بمعنى تمتيعا و الأنعام جمع نعم بفتحتين و هي المال الراعية بمعنى المواشي أي فعل ذلك تمتيعا و منفعة لكم و لمواشيكم بقوله:

«أخرج منها ماءها و مرعاها» من جوامع الكلم حيث ذكر شيئين دالّين على جميع ما أخرج من الأرض قوتا و متاعا من الحبّ و الشجر و العنب و الملح و النار و غيرها لأنّ كلّها من الماء و الأرض.

[فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى كلّ شي ء كثر حتّى علا و غلب فقد طمّ و الكبرى تأنيث الأكبر بمعنى عظم لا من الكبير بمعنى أسنّ و المراد بيان حال معادهم بعد ذكر حال معاشهم و الفاء للدلالة على ترتّب ما بعدها على ما قبلها عمّا قليل و المعنى فإذا جاء وقت طلوع وقوع الداهية العظمى الّتي تطمّ على سائر الدواهي

ص: 65


1- سورة القلم: 13.
2- «الانعام: 68.

و تعلو على الخلائق و هي يوم القيامة قيل: هي النفخة الثانية و قيل: إنّ ذلك حين يساق أهل الجنّة إلى الجنّة و أهل النار إلى النار.

[يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي تجي ء الطامّة في يوم يتذكّر الإنسان ما عمله من خير أو شرّ بأن يشاهده مدوّنا في صحيفة أعماله [وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ و ظهرت ظهورا بيّنا بعد أن كانوا يسمعون بها و المراد جهنّم [لِمَنْ يَرى كائنا من كان على ما يفيد كلمة من، فإنّه من ألفاظ العموم. فرآها الخلق مكشوفا عنها الغطاء يروى أنّها تتلظّى فرآها كلّ ذي بصر مؤمن و كافر و قوله: «و برّزت الجحيم للغاوين» لا ينافي أن يراها المؤمن حين يمرّون عليها مجاوزين الصراط و قيل للكافرين لأنّ المؤمن يقول: أين النار الّتي توعّدنا بها؟ فيقال: مررتموها و هي خامدة.

[فَأَمَّا مَنْ طَغى و جاوز الحدّ في العصيان و تمرّد عن الطاعة [وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا] الفانية و قدّمها و اختارها و لم يستعدّ للآخرة بالإيمان و الطاعة [فَإِنَّ الْجَحِيمَ الموصوفة [هِيَ الْمَأْوى لا غيرها و لا يخرج منها.

[وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقامه بين يدي مالك أمره لعلمه بالمبدإ و المعاد.

و المقام إمّا مصدر ميميّ بمعنى القيام أو اسم مكان بمعنى موضع القيام [وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى عن الميل إليه بحكم الجبلّة البشريّة و لم يعتدّ بمتاع الحياة الدنيا و زهرتها و زخارفها علما منه بوخامة عاقبتها، و في الحديث «إنّ أخوف ما أتخوّف على امّتي الهوى و طول الأمل أمّا الهوى فيصدّ عن الحقّ و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة» قال أصحاب السلوك: الهوى عبارة عن الشهوات الستّ المذكورة في قوله: (1) «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ» و قد أدرجها اللّه في أمر واحد و هو الهوى في الآية و قلّما يخلص إنسان من الهوى [فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أي نهيها عن جميع الهوى على أنّ اللام للاستغراق و إلّا فلا معنى للحصر لأنّ المؤمن الفاسق قد يدخل

ص: 66


1- سورة آل عمران: 14.

النار أوّلا ثمّ يدخل الجنّة فلا يصحّ في حقّه الحصر اللّهمّ إلّا أن يقال: معنى الحصر أنّ الجنّة هي المقام الّذي لا يخرج عنه من دخل فيه.

[يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها] يسألون منك يا محمّد أيّ آن و وقت يقيمها اللّه و يثبتها و المرسى مصدر مبتدء و أيّان خبره بتقدير المضاف و التقدير: متى وقت إقامتها و إرسائها. و كانوا يقولون بطريق الاستهزاء.

[فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها] ردّ و إنكار لسؤالهم و أصل «فيم» فيما و الذكرى بمعنى الذكر أي في أيّ شي ء أنت من ذكرها لهم لأنّ ذلك فرع علمك به و أنّى لك ذلك العلم و هو ممّا استأثره بعلمه علّام الغيوب و «أنت» مبتدء و «فيما» خبره قدّم عليه [إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها] أي انتهاء علمها إليه تعالى ليس لأحد يعلم هذا العلم كائنا من كان فلأيّ شي ء يسألونك عنها.

[إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها] أي وظيفتك الإنذار لمن يخاف قيامها و أنت مأمور ببيان أهوالها لا تعيين وقتها و ما أنت إلّا منذر من يخشاها و هو من قصر الصفة على الموصوف و تخصيص من يخشى مع أنّه مبعوث إلى من يخشى و من لا يخشى لأنّهم المنتفعون به و لا يؤثّر الإنذار إلّا فيهم كقوله (1): «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» و الجمهور على قراءة منذر بغير التنوين من إضافة الصفة إلى معمولها لأنّ الأصل في الأسماء الإضافة و قرئ منوّنا [كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها] أي المنكرين و ذلك لأنّهم ما كانوا من أهل الخشية يوم يرون القيامة [لَمْ يَلْبَثُوا] في الدنيا [إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها] أي صغرت الدنيا في أعينهم حتّى كأنّهم لم يقيموا بها إلّا مقدار عشيّة أو مقدار ضحى تلك العشيّة أو المعنى أنّهم يوم يرون القيامة يحسبون أنّهم ما مكثوا في الدنيا إلّا قدر آخر نهار أو أوّله تمّت السورة بعون اللّه

ص: 67


1- سورة ق: 45.

سورة عبس

اشارة

* (مكية)* و تسمى سورة السفرة. عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من قرء سورة عبس جاء يوم القيامة وجهه ضاحكة مستبشرة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة عبس (80): الآيات 1 الى 23]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَ تَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَ ما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَ هُوَ يَخْشى (9)

فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)

ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)

[عَبَسَ أي بسر و قبض وجهه.

القمّيّ: نزلت: الآية في عثمان و عبد اللّه بن امّ مكتوم الأعمى و كان ابن امّ مكتوم مؤذّنا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جاء إلى رسول اللّه و عنده أصحابه و عثمان عنده فقدّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عثمان فعبس عثمان وجهه و تولّى عنه فأنزل اللّه عبس [وَ تَوَلَّى يعني عثمان [أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى .

و عن الصادق عليه السّلام نزلت في رجل من بني اميّة كان عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجاء ابن امّ مكتوم فلمّا رآه تقذّر منه و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه عنه فحكى اللّه ذلك و أنكره عليه.

ص: 68

قال الطبرسيّ في المجمع: نزلت الآيات في عبد اللّه ابن أمّ مكتوم و هو عبد اللّه ابن شريح بن مالك بن ربيعة الفهريّ من بني عامر بن لؤيّ و ذلك أنّه أتى رسول اللّه و هو يناجي عتبة بن ربيعة و أبا جهل بن هشام و العبّاس بن عبد المطّلب و ابيّا و اميّة ابني خلف يدعوهم إلى اللّه و يرجو إسلامهم فقال عبد اللّه: يا رسول اللّه أقرئني و علّمني ممّا علّمك اللّه فجعل يناديه و يكرّر النداء و لا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتّى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقطعه كلامه و قال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان و العبيد و هذا الأمر يوجب الإعراض للمدعوّين و هو صلّى اللّه عليه و آله يرجو إسلامهم فأعرض صلّى اللّه عليه و آله عنه و أقبل على القوم يكلّمهم فنزلت الآيات فكان رسول اللّه بعد ذلك يكرمه و إذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني ربّي فيه، و يقول له هل لك من حاجة؟ و استخلفه مرّتين في غزوتين على المدينة.

قال المرتضى علم الهدى: ليس في الآية دلالة على توجّه الخطاب إلى النبيّ بل ظاهر الآية خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه و فيها ما يدلّ على أنّ المعنيّ بها غيره لأنّ العبس ليس من صفات النبيّ مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين ثمّ الوصف بانّه يتصدّى للأغنياء و يتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة مع أنّ اللّه وصفه بقوله: (1) «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» فقوله: «عَبَسَ وَ تَوَلَّى» المراد به غيره كما روي عن الصادق عليه السّلام أنّها نزلت في رجل من بني أميّة كما ذكر أوّلا.

قال الفيض قدّس سرّه: و أمّا ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات في النبيّ دون عثمان فيأباه سياق مثل هذه المعاتبات الغير اللائقة بمنصبه و كذا ما ظهر بعدها إلى آخر السورة كما لا يخفى على المتأمّل بأساليب الكلام و يشبه أن يكون مختلقات أهل النفاق و الحشويّة الّذين من عادتهم الافتراء على الأنبياء و نسبة السوء إليهم في بعض الأمور و ذلك لغرض مخصوص و هو أنّ ما نسب إلى بعض ولاة أمورهم و ما صدر من القبائح عنهم و صحّ صدوره لا يكون قادحا في إمارتهم و لذا ينسبون بعض الأمور إلى

ص: 69


1- سورة القلم: 4.

أعاظم الأنبياء خلطا للمبحث.

[وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى لعلّ هذا الأعمى يتزكّى و يتطهّر بالعمل الصالح أي و أيّ شي ء جعلك داريا و يطّلعك على باطن أمره [أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى بتشديدين أصله يتذكّر و قوله: «يزكّى» من باب التخلية عن الآثام و قوله: «أو يذّكّر» من باب التحلية بالطاعات و لذا دخلت كلمة الترديد و عطف على «يزكّى» و داخل معه في حكم الترجّي.

قال الفيض: ثمّ خاطب عثمان فقال: [أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى و تتعرّض بالاهتمام برشده أو بالإقبال عليه و هذا المعنى يصحّ على ما فسّره بعض الحشويّة من أنّ المخاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لكنّ الصحيح ما قاله الفيض. و التصدّي أن يقابل الشي ء مقابلة، الصدى الصوت الراجع من الجبل و قيل: التصدّي التعرّض للشي ء على آخر كتعرّض الصديان للماء أي العطشان و قيل: أصل تصدّى تصدّد من الصدد و هو ما استقبلك فابدل أحد الأمثال حرف علّة، أمّا إذا كان المتصدّي عثمان كما قاله جماعة منهم الفيض فمعنى الآية أنت إذا جاءك غنيّ تتصدّى له و ترفعه [وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا تبال أ زكيّا كان أو غير زكيّ.

[وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يعني عبد اللّه بن امّ مكتوم [وَ هُوَ يَخْشى اللّه [فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تشتغل عنه بغيره و قراءة الصادق عليه السّلام تصدّى و تلهّى بضمّ التاء.

[كَلَّا] ردع عن معاودة مثله [إِنَّها تَذْكِرَةٌ] أي آيات القرآن موعظة للخلق [فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي حفظه و لم ينسه و اتّعظ بالقرآن [فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ] أي كائنة في صحف و كتب منتسخة من اللوح المحفوظ مكرّمة عند اللّه و يجوز أن يكون خبرا لمبتدء محذوف أي و هي في صحف [مَرْفُوعَةٍ] في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار و الذكر بأنّها في المشهور موضوعة في بيت العزّة في السماء الدنيا [مُطَهَّرَةٍ] منزّهة عن مساس الشياطين.

[بِأَيْدِي سَفَرَةٍ] كتبة من الملائكة جمع سافر من السفر و هو الكتب إذ في

ص: 70

الكتابة معنى السفر أي الكشف و التوضيح و الكاتب السافر لأنّه يكشف و يبيّن الشي ء و سمّي السفر بفتحتين سفرا لأنّه يكشف و يكشف عن أخلاق المرء و لعلّ إضافة التطهير إلى الكتب لطهارة من يمسّها من الملائكة قال القرظيّ في قوله (1):

«لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ»: هؤلاء السفرة الكرام [كِرامٍ عند اللّه [بَرَرَةٍ] أتقياء لتقدّسها عن الموادّ و نزاهة جواهرها عن التعلّقات مطيعون للأمر.

[قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه بأشنع الدعوات فإنّ القتل غاية شدائد الدنيا و فسّر بعض القتل باللعن [ما أَكْفَرَهُ أي ما أشدّ كفره باللّه مع كثرة إحسانه إليه. و في الآية تعجيب من اللّه لخلقه و هو منزّه عن العجب أي اعجبوا من كفره.

[مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ خلقه من شي ء مهين حقير [مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ و هيّأه لما يصلح له من الأعضاء و الأشكال و من كان أصله من هذا الشي ء المهين القذر كيف يليق به التجبّر و الكفر و الكبر.

[ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي سهّل مخرجه بعد أن خلقه أطوارا إلى أن أخرجه من بطن أمّه بأن فتح فم الرحم قبل الولادة و جعله ينقلب و يصيّر رجله من فوق و رأسه من تحت و لو لا ذلك لا يمكنها أن تلد و قيل: المراد يسر له سبيل الخير و الشرّ و خيّره و مكّنه من فعل الخير و اجتناب الشرّ.

[ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ فقبض روحه بعد انقضاء أجله فجعله في قبر يوارى فيه تكرمة له و لم يدعه مطروحا على وجه الأرض كسائر الحيوان و الهم كيف يدفن يقال: أقبرته جعلت له مكانا يقبر و يدفن فيه و عدّ الإماتة من النعم بالنسبة إلى المطيع فإنّه بالموت يتخلّص من سجن الدنيا و هو تحفة و وصلة إلى الحياة الأبديّة و النعيم السرمديّة و إنّما كان مفتاح كلّ بلاء بالنسبة إلى العاصي و الكافر من سيّئات أعماله و سوء اعتقاده أو ذكره للتخويف و التذكير و هو أيضا نعمة.

[ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ و أحياه و بعثه و في تعليق النشر بالمشيّة إيذان بأنّ وقته و حصوله تابع لمشيّته غير متعيّن لكم و حاصل المعنى أنّه متى حان حين بعثه و نشره

ص: 71


1- سورة الواقعة: 79.

أنشره من قبره و هذا إذا كان لائقا لقبره مثل أنّ المشرك إذا دفن بمكّة تنقله الملائكة إلى موضع لائق به. و في الحديث «من مات من امّتي يعمل عمل قوم لوط نقله اللّه إليهم ثمّ يحشر معهم» و في حديث آخر «من مات و هو يعمل عمل قوم لوط ساربه قبره حتّى يصير معهم و يحشر يوم القيامة معهم».

[كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ردع للإنسان عمّا هو عليه و قيل: معناه حقّا و «لمّا» بمعنى لم و ليس فيه معنى التوقّع و ما في «لمّا» صلة دخلت للتأكيد كقوله (1): «فبما رحمة من اللّه» و ما في «ما أمره» موصولة و عائده محذوف و التقدير ما أمره به و المعنى لم يقض الإنسان ما أمره اللّه به من الإيمان و الطاعة و لم يؤدّ حقّه كما ينبغي قيل:

هو على العموم في الكافر و المؤمن لم يعبدوه حقّ عبادته أو المراد الجنس لكن لا على الإطلاق بل على أنّ مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده و قد أسند إلى الكلّ بحكم المجانسة أو يكون بطريق رفع إيجاب الكلّي دون السلب الكلّي مع أنّ جمع الأفراد يقتضي أن لا يتخلّف أصلا.

[سورة عبس (80): الآيات 24 الى 42]

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَ عِنَباً وَ قَضْباً (28)

وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً (29) وَ حَدائِقَ غُلْباً (30) وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)

ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

[فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ شروع في تعداد النعم المتعلّقة ببقائه بعد ذكر النعم المتعلّقة بحدوثه أي فلينظر الإنسان إلى طعامه الّذي عليه يدور أمر معاشه كيف دبّرناه. و في الحديث «إنّ مطعم ابن آدم جعله اللّه مثلا للدنيا و إن تابله (2) و أبزاره العطرة إلى ماذا يصير و يؤول».

ص: 72


1- سورة آل عمران: 159.
2- التابل ما يطيب به الأطعمة.

[أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ] أنزلناه من السحاب وافيا و هو الغيث، بدل اشتمال من طعامه لأنّ الماء سبب لحدوث الطعام و العائد محذوف أي صببنا له [صَبًّا] عجيبا [ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات و لمّا كان الشقّ بعد الصبّ أورد كلمة «ثمّ» [شَقًّا] بديعا لائقا بما يشقّها من النبات صغيرا و كبيرا و هيئة.

[فَأَنْبَتْنا فِيها] في الأرض المشقوقة [حَبًّا] و الحبّ كلّ ما حصد من نحو الحنطة و الشعير و غيرهما و هو جنس الحبّة فيشمل القليل و الكثير [وَ عِنَباً] و المراد شجرة العنب المشقوقة من الأرض [وَ قَضْباً] و القضب قيل: من النبات ما يقضب و يقطع مرّة بعد اخرى في السنة و هو رطب و يؤكل رطبا كالنعناع و الكرّاث و البطّيخ و البادنجان و الدبّاء و الخيار و عن ابن عبّاس أنّه الرطب الّتي تقضب من النخل لمناسبته بالعنب و قيل: هي نبات يقال له القصقصة، و بالفارسيّة «اسپست» و في زماننا يقولون «اسپرس» و قيل: هو الفتّ و هو حبّ الغاسول و هو الإشنان و قيل: هو حبّ يابس أسود يدفن فيليّن قشره و يطحن و يخبز بفتاته أعراب طيّ و لعلّه البلّوط و الأقرب ما فسّره ابن عبّاس.

[وَ زَيْتُوناً] و المراد شجرته و يعمّر ثلاثة آلاف سنة خصّه بالذكر لكثرة فوائده خصوصا في بلاد العرب فإنّهم ينتفعون به أكلا و ادّهانا و استضاءة و تطهّرا فإنّه يجعل في الصابون [وَ نَخْلًا] و هو شجر التمر و هو كثير النفع و في العجوة دفع بعض السموم و السحر [وَ حَدائِقَ غُلْباً] و هي الروضة ذات الشجر. و الغلب جمع الأغلب كحمر جمع أحمر مستعار من قولهم: أسد أغلب أي غليظ العنق فالمعنى حدائق عظاما لتكاثفها و كثرة أشجارها و أنّها ذات أشجار غلاظ و قيل: الغلب من الشجر الّتي لا تثمر كالارزّ و العرعر و الورداء و الثمار. (1) [وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا] أي فاكهة كثيرة غير ما ذكر و أبّا أي مرعى من أبّه إذا قصده لأنّه يقصد جزّه للدوابّ أو المعنى من أبّ لكذا إذا تهيّأ له لأنّه متهيّئ للرعي و أبّان ذلك هو الزمان المتهيّأ لذلك الفعل و قيل: الأبّ الفاكهةا.

ص: 73


1- كذا.

اليابسة تؤبّ و تعدّ للشتاء و في الحديث «خلقتم من سبع و رزقتم من سبع فاسجدوا للّه على سبع» أراد بقوله خلقتم من سبع أي التارات: من نطفة ثمّ من علقة إلخ، و بقوله:

رزقتم من سبع قوله: «حبّا و عنبا» إلى قوله: «أبّا» و الحدائق خارجة عن السبع لأنّها منابت المذكورة و بقوله: فاسجدوا على سبع، الأعضاء السبعة و هي الوجه و اليدان و الركبتان و الرجلان.

[مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ «متاعا» مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم و لمواشيكم فإنّ بعض النعم المعدودة طعام لهم و بعضها علف لدوابّهم و نفعه أيضا راجع لهم.

[فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ] شروع في أحوال معادهم أثر ذكر معاشهم و الفاء للترتيب و بيان فناء هذه النعم عن قريب كما يشعر لفظ المتاع بسرعة زوالها و جواب «إذا» محذوف يدلّ عليه «يوم يفرّ» و الصاخّة هي الداهية العظيمة الّتي يصخّ لها الخلائق من صخّ لحديثه إذا استمع لأنّ الناس يصخّون لها في قبورهم و هي الصيحة الّتي تصمّ الآذان لشدّة وقعها أو هي مأخوذة من صخّه بالحجر إذا صكّه فيكون الصاخّة حقيقة في النفخة و الصيحة.

[يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ و الصاحبة الزوجة لعلمهم بأنّهم لا يعنون عنه شيئا و هذه الآية يشمل النساء كما يشمل الرجال و لكنّها خرجت مخرج كلام العرب حيث تدرج النساء في الرجال. و لا ينفع ذلك اليوم مال و لا بنون قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله، قالوا: و لا أنت يا رسول اللّه؟ قال: و لا أنّا إلّا أن يتغمدني اللّه بغفرانه».

[لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ استيناف وارد لبيان سبب الفرار أي الهمّ الّذي حصل لهم بسبب ذلك اليوم قد ملأ صدره بحيث لم يبق فيه متّسعا فصار كالغنيّ الّذي ملك شيئا كثيرا فاشتغل به و الفرار حذرا من مطالباتهم بالتبعات مثل أن يقول الإنسان: ما واسيتني بمالك، و الأبوان يقولان: قصّرت في برّنا، و الصاحبة تقول: أطعمتني الحرام، و البنون: لم ما أرشدتنا و ما علّمتنا. قال ابن عبّاس: مثل

ص: 74

قابيل من أخيه هابيل و نوح من ابنه و لوط من امرأته، أو لأنّ المرء يفرّ من أقربائه لئلّا يروا ما هو عليه من سوء الحال. و بالجملة ففي ذلك اليوم:

[وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ] «وجوه» مبتدء و إن كانت نكرة لكونها في حيّز التنوين و مفيدة و «مسفرة» خبره، مضيئة متهلّلة بنور أعمالهم من أسفر الصبح إذا أضاء و أشرق قال ابن عبّاس: إنّ ذلك من قيام الليل [ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ] بما تشاهد من النعيم و البهجة الّدائمة و الفراغة من الحساب ضاحكة من مسرّة العين مستبشرة من مسرّة القلب.

[وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ] أي كدورة و هي غبرة الذلّ [تَرْهَقُها] و تعلوها و تغشاها [قَتَرَةٌ] سواد و ظلمة كالدخان و وجه الزنجيّ، و هذه الظلمة من الكذب في الدنيا [أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ] أي أولئك الموصوفون هم الجامعون بين الكفر و الفجور، أو الكفرة في حقوق اللّه الفجرة في حقوق العباد.

و استدلّت الخوارج بهذه الآية على أنّ من ليس بمؤمن لا بدّ و أن يكون كافرا فإنّ اللّه قسّم الوجوه بهذين القسمين، قال الطبرسيّ: و لا تعلّق لهم به لأنّه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه و لم يذكر وجوه الفسّاق من أهل الصلاة فيمكن أن يكون لها صفة اخرى بأن يكون عليها غبرة لا تغشاها قترة أو يكون عليها لون آخر تمّت السورة بعون اللّه

ص: 75

سورة التكوير

اشارة

* (مكية)* من قرأها أعاذه اللّه من أن يفضحه حين تنشر صحيفته.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: شيّبتني هود و الواقعة و المرسلات و عمّ و إذا الشمس كوّرت» و المعنى أنّه لو كان أمر يشيب منه لشاب من هذه السورة إذا قرأها و فهم معانيها.

و قد روي أنّ عليّا عليه السّلام لمّا غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجد في لحيته الشريفة شعرات بيض.

ص: 76

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)

وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)

وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)

و رفع الشمس على أنّه فاعل لفعل مقدّر يفسّره المذكور تقديره إذا كوّرت الشمس كوّرت و لا يجوز إظهاره لأنّ ما بعده يفسّره و إنّما احتيج إلى إضمار فعل لأنّ «إذا» فيها معنى الشرط و الشرط مختصّ بالفعل و عند البعض الرفع على الابتداء و الأوّل أولى و جواب «إذا» علمت نفس ما أحضرت.

و التكوير التلفيف على وجه الاستدارة و المراد إمّا رفعها و إزالتها عن مقرّها فإنّ الثوب إذا أريد رفعه عن مكانه و يجعل في مكان يلفّ و يطوى فتكويرها عبارة و كناية عن رفعها و إمّا المراد لفّ ضوئها المنبسط فاللفّ على هذا مجاز عن إعدام ضوئها و في الحديث إنّ الشمس و القمر نوران مكوّران في النار يوم القيامة و لعلّ نورانيّتهما يتّصل بالعرش و حرارتهما يتّصل إلى جهنّم. فإن قيل:

و ما ذنبهما؟ فالسؤال ساقط لأنّهما جمادان فإلقاؤهما في النار لا يكون سببا لمضرّتهما بل سبب لازدياد الحرّ في جهنّم أو ليعذّب بهما عبّاد الأنوار لا ليعذّبهما في النار و سبيلهما سبيل الملائكة الموكّلين بالعذاب كما قيل: إنّ السماء إذا طويت واحدة بعد واحدة يرمى بكواكبها في النار.

[وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تساقطت و تناثرت يقال: انكدر الطائر من الهوى إذا نقضّ فإنّ السماء تمطر يومئذ نجومها فلا يبقى نجم إلّا وقع على

ص: 77

وجه الأرض يوم القيامة على ما روي عن ابن عبّاس أنّ النجوم في قناديل معلّقة بين السماء و الأرض بسلاسل من نور و تلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور فإذا مات من في السماوات و من في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيديهم لأنّه مات من يمسكها و قيل: المعنى تغيّرت من الكدورة و الأوّل أولى لأنّه سبحانه يقول (1): «وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ».

[وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ عن وجه الأرض و أبعدت عن أماكنها بالرجفة و تسيّر الجبال لا بالاختيار كسير الإنسان بل بالقهر و التسخير.

[وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ و العشار جمع عشراء و هي الناقة الّتي أتى على حملها عشرة أشهر و هي أنفس أموال العرب تركت بلا راع و عطّلت و قيل: المراد من العشار السحاب تعطّل فلا تمطر و هذا يمكن على وجه المثل يعني إنّ هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطّلها و تركها مهملة و اشتغل بنفسه أو أنّ المراد مبادي ظهور الساعة فحينئذ يمكن وجود العشراء في المبادي فلا يكون تمثيلا بل حقيقة.

[وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي جمعت من كلّ جانب و اختلطت بعضها ببعض و بالناس مع نفرة بعضها عن بعض و عن الناس و ذلك الجمع من هول ذلك اليوم و قيل: بعثت للقصاص و إظهارا للعدل قال قتادة: يحشر كلّ شي ء حتّى الذباب للقصاص فإذا قضي بينها ردّت ترابا فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم و إعجاب بصورته أو صوته كالطاوس و البلبل و نحو هما.

[وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي أحميت أو المعنى ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتّى تعود بحرا واحدا مختلطا عذبها بملحها فتعمّ الأرض كلّها من سجّر التنوّر إذا ملأه بالحطب ليحميه. و وجه الإحماء أنّ جهنّم في قعور البحار إلّا أنّها الآن مطبقة لا يصل أثر حرارتها إلى ما فوقها من البحار لتعسّر انتفاع أهل الأرض بها فإذا انتهت مدّة الدنيا يرفع الحجاب فيصل تأثير الحرارة إلى البحار

ص: 78


1- سورة الانفطار: 2.

فتسخن فتسير حميما لأهل النار و قيل: المعنى او قدت فصارت نارا تضطرم قاله ابن عبّاس: و قيل: يبست و ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة و قيل: ملئت من القيح و الصديد الّذي يسيل من أبدان أهل النار في النار لكنّ المراد بحار جهنّم لا بحار الدنيا لأنّ بحور الدنيا قد فنيت و الّذين فسّروا التسجير بالامتلاء و تفجير بعضها إلى بعض حتّى صارت كالبحر الواحد قالوا: بسبب أنّ الجبال تندكّ و تتفرّق أجزاؤها و تصير كالتراب الهائل فلا جرم تنصبّ أجزاؤها في أسافلها فتمتلئ المواضع الغائرة من الأرض مستويا مع البحار.

[وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي قرنت الأرواح بالأجساد بأن ردّت إليها أو قرنت كلّ نفس بشكلها و بمن كان في طبقتها في الخير و الشرّ فيضمّ الصالح إلى الصالح و الفاجر إلى الفاجر أو قرنت بكتابها و بعملها فالنفوس المتمرّدة زوّجت بأعمالها السيّئة و المطمئنّة بأعمالها الحسنة أو نفوس المؤمنين بالحور و نفوس الكفرة بالشياطين.

[وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ أي المدفونة حيّا و هي موءودة إذا دفنها في القبر و هي حيّة و كانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوق العار بهم لأجلهنّ و كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات اللّه فألحقوا البنات به فهو أحقّ بهنّ.

قال الزمخشريّ في الكشّاف: كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبّة من صوف أو شعر ترعى له الإبل و الغنم في البادية و إن أراد قتلها تركها حتّى كانت سداسيّة و بلغت ستّ سنين فيقول لأمّها: طيّبها و زيّنها حتّى أذهب بها إلى أحمائها و قد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها ثمّ يدفعها من خلفها و يهيل عليها التراب حتّى يستوي البئر الأرض و قيل: كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخّضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة و إن ولدت ابنا حبسته.

و معنى «سئلت» أي طولب قاتلها بالحجّة في قتلها و سئل عن سبب قتلها كأنّه قيل: إنّ الموؤدة تسأل قاتلها بأيّ ذنب قتلتني؟ و المراد أنّ المقتولة مسؤول عنها.

ص: 79

قال ابن عبّاس: إنّ أطفال المشركين لا يعذّبون و احتجّ بهذه الآية فإنّه ثبت بها أنّ التعذيب لا يستحقّ إلّا بالذنب.

[وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ أي صحف الأعمال فإنّها تطوى عند الموت و تنشر عند الحساب فيقف على ما فيها فيقول (1): «ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلّا أحصاها» و عن مرثد بن وادعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فيقع صحيفة المؤمن في يده في جنّة عالية مكتوب فيها، و يقع صحيفة الكافر في يده مكتوب فيها في سموم و حميم و هي صحف غير صحف الأعمال فعلى هذا هذه الصحف غير صحف مثاقيل الذرّ و الخردل و الأعمال.

[وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قلعت و أزيلت بحيث ظهر ما وراءها و هو الجنّة و العرش كما يكشط الإهاب عن الذبيحة و الغطاء عن الشي ء المستور به و منه انكشط روعه أي زال.

[وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أي أوقدت للكافرين إيقادا شديدا و إسعار النار زيادة لهيبها لا حدوثها ابتداء و به يندفع احتجاج من قال: النار غير مخلوقة الآن لأنّها تدلّ على أنّ تسعّرها معلّق بيوم القيامة لأنّه يحصل فيه الزيادة و الاشتداد [وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ الإزلاف التقريب أي قربت للمتّقين ليدخلوها لقوله (2): «وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» و لعلّ المعنى من تقريب الجنّة تقريب أهل الجنّة إليها لا أنّها تزول عن مواضعها فالمراد حينئذ من التقريب التعكيس للمبالغة مثل قوله تعالى (3): «وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ»* حيث تعرض النار عليهم تحقيرا و إهانة فقلب مبالغة لتحقيرهم شأنا و المتّقين لتجليلهم و تفخيمهم عزّة و رفعة.

قال ابيّ بن كعب: ستّ آيات تظهر قبل القيامة بينما الناس في أسواقهم و الميزان في أيديهم و اللقمة في أفواههم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت

ص: 80


1- سورة الكهف: 50.
2- «ق: 31.
3- «الأحقاف: 21.

النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحرّكت الأرض و اضطربت و فزعت الجنّ إلى الإنس و اختلطت الدوابّ و الطير و الوحوش و ماج بعضهم في بعض فحينئذ تقول الجنّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر فينطلقون إلى البحر فإذا هو نار تتأجّج و تتلهّب قال: فبينما هم كذلك إذ صدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى و إلى السماء السابعة العليا فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم.

[عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أي علمت كلّ نفس من النفوس ما أحضرته مثل قوله: «هنالك تبلو كلّ نفس ما أسلفت» و المراد من الحضور إمّا حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها و إمّا حضور نفس العمل لأنّ الأعمال في هذه النشأة بصور عرضيّة تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهريّة مناسبة لها في الحسن و القبح على كيفيّات و هيآت مخصوصة فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن ممّا كانت تشاهدها عليه في الدنيا و إن كانت سيّئة تشاهدها على ما هي عليه هاهنا.

[سورة التكوير (81): الآيات 15 الى 29]

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)

وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)

ثمّ أكّد سبحانه الأمور المذكورة بالقسم أي فاقسم و «لا» زائدة مؤكّدة أو ردّ لقول سابق من الكفّار أي ليس الأمر كما تزعمون أيّها الكفرة ثمّ أقسم بالخنّس، جمع خانس و «الكنّس» جمع كانس و أصلها الستر و الشيطان خنّاس لأنّ اللعين يخنس إذا ذكر اللّه و يذهب و يستتر و كناس الطير و الظبي هو بيت يختفي فيه و الكواكب تكنس في بروجها تختنس بالنهار و تبدو بالليل، و الخنوس الرجوع إلى الخلف و يقال للشيطان خنّاس لأنّه يضع خرطومه على قلب العبد فإذا ذكر اللّه

ص: 81

استتر و إذا غفل العبد رجع إلى الوسوسة.

و المعنى: أقسم بالكواكب الرواجع، و الجواري صفة لها لأنّها تجري في أفلاكها و تتوارى في بروجها و تكنس في غروبها فهذا خنوسها و كنوسها و قيل: المراد بالكواكب الرواجع ما عدا النيّرين من الدراري الخمسة و هي: المرّيخ و يسمّى بهرام، و زحل و يسمّى كيوان، و عطارد و يسمّى الكاتب، و الزهرة و تسمّى ناهيذ و المشتري و يسمّى روايس و برجيس. و ما من نجم يقطع المجرّة غير الخمسة و قيل هي بقر الوحش أو الظباء عن ابن مسعود.

[وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أدبر ظلامه لأنّ إقبال الصبح يكون بإدبار الليل و عسعس يفسّر بأدبر أو أقبل فإنّه من الأضداد و لكن عليّ عليه السّلام فسّره بأدبر بظلامه و قوله تعالى: «و الليل» عطف على الخنّس.

[وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ عطف عليه أيضا و العامل في «إذا» معنى القسم و إذا و ما بعدها في موضع الحال أقسم اللّه بالليل مدبرا و بالصبح مضيئا و مشرقا و جعل تنفّس الصبح عبارة عن طلوعه و انبساطه بحيث زال معه عسعسة الليل و هي الغبرة الحاصلة في آخر الليل، و التنفّس في الأصل ريح مخصوص يروّح القلب بالتنّفس بهبوبه على القلب مثل نفس الحيوان، شبّه بإقبال الصبح من الروح و النسيم بذلك الريح المسمّى بالنفس و اطلق اسم النفس عليه استعارة فجعل الصبح متنفّسا بذلك لأنّ النفس بالمعنى المذكور لازم له فهو كناية متفرّعة على الاستعارة.

[إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هذا جواب القسم أي إنّ القرآن قول رسول كريم على ربّه و هو جبرئيل و إنّما أضافه إلى جبرئيل لأنّ اللّه أمر جبرئيل أن ائت محمّدا و قل له كذا فقاله من جهة اللّه فأنزله جبرئيل على لسانه فسمعه محمّد فإسناده إليه باعتبار السبيّة الظاهرة في الإنزال، و يدلّ على أنّ المراد بالرسول هو جبرئيل ما بعده من ذكر قوّته، و وصفه بالرسول لأنّه رسول عن اللّه إلى الأنبياء، و وصفه بكريم لأنّه عزيز عظيم عند اللّه و عند الناس لأنّه يجي ء بأفضل العطايا و هو المعرفة و الهداية و هذه الآية نزلت في معرض الردّ و الإنكار لمقالة الكفّار الّذين قالوا: إنّ محمّدا يقوله

ص: 82

و يتقوّله فقال سبحانه: «إنّه لقول رسول كريم».

[ذِي قُوَّةٍ] شديدة كما رفع قرى قوم لوط القرى الأربع من الماء الأسود من سبع طبقات بقوادمه حتّى سمع أهل السماء نياح الكلب و أصوات الديكة ثمّ قلّبها و في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذاري، و صاح صيحة بقوم صالح فأصبحوا جاثمين، و إنّه يهبط من السماء إلى الأرض و يصعد في أسرع من الطرف، و إنّه رأى شيطانا يقال له الأبيض صاحب الأنبياء فدفعه دفعة رفيقة وقع من مكّة إلى أقصى جبل الهند، و كذا رآه يكلّم عيسى عليه السّلام على بعض الأرض المقدّسة فنفخه نفخة واحدة ألقاه إلى أقصى جبل الهند. و قيل: المراد من القوّة في أداء طاعة اللّه و ترك الإخلال بها من الخلق إلى آخر زمان التكليف.

[عند ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي اللّه، أي عنده تعالى ذا مكانة رفيعة من المنزلة و التشريف لا عنديّة مكان.

[مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ فيما بين الملائكة المقرّبين يصدرون عن أمره و يرجعون إلى رأيه لعلمهم بمنزلته عند اللّه، و من طاعتهم أنّهم فتحوا أبواب السماء ليلة المعراج بقوله لرسول اللّه، و طاعة جبرئيل فريضة على أهل السماوات كما أنّ طاعة محمّد فريضة على أهل الأرض أي مطاع هناك أي في السماوات أمين على الوحي و قرئ «ثمّ» بضمّ الثاء فيكون للتراخي تعظيما لوصف الأمانة و تفضيلا لها على سائر الأوصاف فيكون على طريق الترقّي من صفاته الفاضلة إلى ما هو أفضل و أعظم و هو الأمانة.

[وَ ما صاحِبُكُمْ يا أهل مكّة و هو رسول اللّه عطف على جواب القسم [بِمَجْنُونٍ كما تقولون، و نسبة التصاحب لأنّه كان بين أظهرهم في مدّة متطاولة و قد جرّبوا عقله و أمانته فوجدوه أكمل منهم و هم لقّبوه بالأمين الصادق [وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أي و باللّه رأى رسول اللّه جبرئيل و أبصره في ناحية السماء، و المبين من أبان اللازم بمعنى اللازم أي بمطلع الشمس من ناحية المشرق، و المراد بالأفق هنا حيث تطلع الشمس استدلالا بوصفه بالمبين فإنّ نفس الأفق لا مدخل له في تبيين الأشياء و ظهورها و إنّما يكون له مدخل في ذلك من حيث كونه مطلعا لكوكب منير

ص: 83

يبين الأشياء و الكوكب المبين هو الشمس، و إسناد الإبانة إلى مطلعها باعتبار سببيّتها لها.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأل جبرئيل أن يتراءى له في صورته الّتي خلقه اللّه عليها فقال جبرئيل: و ما ذاك إليّ فاذن له فأتاه عليها و ذلك في جبل حراء في أوائل البعثة فرآه رسول اللّه قد ملأ الآفاق بكلكلة رجلاه في الأرض و رأسه في السماء، جناح له بالمشرق و جناح له بالمغرب و له ستّمائة جناح من الزبرجد فغشي عليه صلّى اللّه عليه و آله فتحوّل جبرئيل في صورة بني آدم و ضمّه إلى نفسه و جعل يمسح الغبار عن وجهه فقيل لرسول اللّه: ما رأيناك مذ بعثت أحسن منك اليوم فقال صلّى اللّه عليه و آله: «جاءني جبرئيل في صورته فعلق بي هذا من حسنه» و ما رآه أحد من الأنبياء غيره في صورته فهو من خصائصه.

و اعلم أنّ وقوع الغشيان إنّما هو من كمال العلم و الاطّلاع بقدرة اللّه حين الرؤية كما غشي على جبرئيل ليلة الإسراء حين رأى الرفرف و لم يغش على رسول- اللّه و قال صلّى اللّه عليه و آله: «فعلمت فضل جبرئيل في العلم» فكأنّه صلّى اللّه عليه و آله أشار إلى فضل نفسه أيضا لمّا غشي عليه برؤية جبرئيل على صورته الأصليّة.

[وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي هو صلّى اللّه عليه و آله ليس على وحي اللّه بمتّهم فإنّ أحواله شاهدة بالصدق و الأمانة، و قرئ بالضاد فالمعنى أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس ببخيل فيما يؤدّي عن اللّه أن يعلّمه كما علّمه اللّه فيكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتّى يأخذ عليه حلوانا و اجرة و يسأل تعليمه فلا يعلّمه إلّا بالاجرة.

[وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي قول بعض المسترقة للسمع، دلّ عليه توصيفه بالرجيم لأنّه بمعنى المرميّ بالشهب، أو المراد المرجوم باللعن و هذا ردّ لقولهم كانوا يقولون: إنّ الشيطان يلقي إليه كما يلقي إلى الكهنة.

[فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال فيما يقولون في أمر القرآن و «أين» ظرف مكان مبهم منصوب بتذهبون، أي فأيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة الحقّة و هو طريق القرآن؟

ص: 84

[إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «إن» نافية و الضمير راجع إلى القرآن أي ما هو إلّا عطيّة و تذكير لهم [لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أيّها المكلّفون بالإيمان و هو بدل من «العالمين» بدل البعض [أَنْ يَسْتَقِيمَ مفعول «شاء» أي لمن شاء منكم الاستقامة.

[وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ عن الكاظم عليه السّلام «إنّ اللّه جعل قلوب الأئمّة موردا لإراداته فإذا شاء اللّه شاءوه» أي و ما تشاؤن الاستقامة على الحقّ إلّا أن يشاء اللّه ذلك من حيث خلقكم لها و كلّفكم بها و طلب منكم الإيمان و قيل:

إنّ الآية خطاب للكفّار و المراد لا تشاؤن الإسلام إلّا أن يشاء اللّه أن يجبركم و يلجئكم إليه و لكنّه لا يفعل لأنّه يريد منكم أن تؤمنوا اختيارا لتستحقّوا الثواب و لا يريد أن يحملكم عليه جبرا، عن أبي مسلم. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 85

هذه

سورة الانفطار

اشارة

* (مكية)* قال ابيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و من قرأها أعطاه اللّه من الأجر بعدد كلّ قبر حسنة و بعدد كلّ قطرات ماء حسنة و أصلح اللّه شأنه يوم القيامة و من قرأ هاتين السورتين:

إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقّت و جعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة و النافلة لم يحجبه من اللّه حجاب و لم يزل ينظر إلى اللّه و ينظر اللّه إليه حتّى يفرغ من حساب الناس.

ص: 86

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الانفطار (82): الآيات 1 الى 19]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)

وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)

يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

[إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ و انفطارها و تقطّعها لزوال بنيتها. و إعرابه كإعراب «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» [وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تساقطت من مواضعها سوداء متفرّقة كما تتساقط اللئالئ إذا انقطع السلك. و هذان من أشراط الساعة فإنّ السماء في هذا العالم كالسقف و من أراد تخريب بناء فإنّه يبدأ أوّلا بتخريب السقف.

[وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فتح بعضها إلى بعض بزوال المانع بحصول الزلزلة و استواء الأرض و صارت البحار و هي سبعة: بحر الروم و بحر الصقالبة و بحر جرجان و بحر القلزم و بحر فارس و بحر الصين و بحر الهند بحرا واحدا فيصبّ ذلك البحر في جوف الحوت الّذي عليه الأرضون السبع كما في كشف الأسرار، و قيل:

معناه ذهب ماؤها و دخل في البحار البحر المحيط لأنّه أصل الكلّ إذ منه يتفرّع الباقي.

[وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ قلب ترابها و اخرج موتاها أو بحثت عن الموتى فاخرجوا منها، و بعثرت المتاع و بحثرته أي جعلت أسفله أعلاه، فيجعل أسفل القبور

ص: 87

أعلاها، و بعثر و بحثر مركّبان من البعث و البحث مع راء ضمّت إليهما مثل تركيب الرباعي و الخماسي نحو هلّل و بسمل إذا قال: لا إله إلّا اللّه، و بسم اللّه.

[عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ أي كلّ نفس برّة أو فاجرة «ما قدّمت» في حياتها من عمل خير أو شرّ و «نفس» هنا اسم الجنس و «ما» من ألفاظ العموم «و أخّرت» من سنّة حسنة أو سيّئة يعمل بعده قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و أيّما داع دعا إلى الضلالة فاتّبع فله مثل أوزار من اتّبعه إلّا أنّه لا ينقض من أوزارهم شي ء، و كذلك أيّما داع دعا إلى الهدى فاتّبع فله مثل أجر من اتّبعه إلّا أنّه لا ينقص من أجورهم شي ء» و هذا العلم التفصيلي يحصل عند قراءة الكتب و المحاسبة و أمّا العلم الإجماليّ بالسعادة و الشقاوة فيحصل من أوّل الأمر لأنّ المطيع يرى بتأثير السعادة و العاصي كذلك.

[يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ يعمّ جميع العصاة و لا خصوص له بالكفّار و قيل: يريد اميّة بن خلف و قيل: نزلت في الوليد بن مغيرة أو الأسود بن كلدة الجمحيّ قصد النبيّ في بطحاء مكّة فلم يتمكّن منه، و لكنّ اللفظ عامّ يصلح له و لغيره، و في زهرة الرياض أنّ الأسود ضرب على يافوخ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخذه رسول اللّه و ضربه على الأرض فقال له: يا محمّد الأمان الأمان منّي الجفاء و منك الكرم فإنّي لا أوذيك أبدا فتركه رسول اللّه.

[ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «ما» استفهاميّة في موضع الابتداء و «غرّك» خبره، و المعنى أيّ شي ء خدعك و جرّأك على عصيانه و آمنك من عقابه و قد علمت ما بين يديك من الدواهي؟ و التعرّض بلفظ «الكريم» للإيذان بأنّه ليس ممّا يصلح أن يكون مدار الإغرار حسبما يغويه الشيطان بأن يقول له: افعل ما شئت فإنّ ربّك كريم قد تفضّل عليك في الدنيا و سيفعل مثله في الآخرة فإنّه قياس عقيم و تمنية باطل بل هو ممّا يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان و الطاعة و لهذا لمّا قرأها رسول اللّه قال: «غرّه جهله» فظهر أنّ كرم الكريم لا يقتضي الاغترار به بل الحذر عن مخالفته من حيث إنّ أعمال الظالم ينافي كونه كريما بالنسبة إلى المظلوم و كذا

ص: 88

التسوية بين الموالي و المعادي، فإذا كان محض الكرم لا يقتضي الاغترار به فكيف إذا انضمّ إليه صفة القهر و للّه الأسماء المتقابلة و لذا قال سبحانه (1): «نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم* و أنّ عذابي هو العذاب الأليم».

و قيل: للفضيل بن عياض ما ذا تقول إن أقامك ربّك يوم القيامة و قال لك:

«ما غرّك بربّك الكريم»؟ قال أقول: غرّتني ستورك المرخاة. قال الزمخشريّ:

قول الفضيل ليس باعتذار كما يظنّه الطمّاع و يظنّ به قصّاص الحشويّة و يروونهم من أئمّتهم إنّما قال: «بربّك الكريم» ليلقّن عبده الجواب حتّى يقول: غرّني كرمك الكريم.

[الَّذِي خَلَقَكَ صفة ثانية مقرّرة للربوبيّة مبيّنة للكرم لأنّ الخلق إعطاء الوجود و هو خير من العدم، منبّهة على أنّ من قدر على الخلق و ما يليه بدءا قدر عليه إعادة [فَسَوَّاكَ أي جعل أعضاءك سويّة معدّة لمنافعها كالبطش لليد و المشي للرجل و التكلّم للّسان إلى غير ذلك [فَعَدَلَكَ و عدل بعض تلك الأعضاء ببعض بحيث لم تتفاوت مثل أن تكون إحدى اليدين أو الرجلين أو الأذنين أطول من الاخرى، أو تكون إحدى العينين أدمع من الاخرى. قال أهل التشريح: إنّه تعالى ركّب جانبي هذه الجثّة على التساوي حتّى أنّه لا تفاوت بين نصيبه لا في العظام و لا في أشكالها و لا في الأوردة و الأعصاب، فكلّ ما في أحد الجانبين مساو لما في الجانب الآخر فيكون المعنى: فصرفك عن الخلقة المكروهة كما قال (2):

«في أحسن تقويم» و قرئ «فعدّلك» بالتشديد.

[فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ الجارّ متعلّق بركّبك، و «ما» مزيدة لتعميم النكرة و العائد محذوف و المعنى ركّبك في أيّ صورة شاءها و اقتضتها حكمته من القصر و الطول و الذكورة و الأنوثة كما في الحديث «إنّ النطفة إذا استقرّت في الرحم أحضرها اللّه كلّ نسب بينها و بين آدم و صوّرها في أيّ شبيه شاء».4:

ص: 89


1- سورة الحجر: 49- 50.
2- سورة التين: 4:

[كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي ارتدعوا عن الكفر و العصيان ثمّ قال بعد الردع بطريق الاعتراض: و أنتم لا ترتدعون بل تجرؤن حيث تكذّبون بالجزاء و البعث أو المعنى تكذّبون بدين الإسلام و لا تصدّقون ثوابا و لا عقابا.

[وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ حال من فاعل «تكذّبون» و أتى بلفظ الجمع في «حافظين» باعتبار كثرة المخاطبين أو باعتبار أنّ لكلّ واحد منهم جمعا من الملائكة اثنان باللّيل و اثنان بالنهار حافظين لأعمالكم.

[كِراماً كاتِبِينَ كرام حيث يسارعون إلى كتب الحسنات و يتوقّفون في كتب السيّئات رجاء أن يتوب فيكتبون الذنب و التوبة معا [يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ لحضورهم من الأفعال الصادرة عنكم قليلا و كثيرا لتجازوا بذلك.

[إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ و هو الجنّة و الأبرار أولياء اللّه المطيعون في الدنيا الّذين برّوا و صدقوا في إيمانهم بأداء الفرائض جمع برّ بالفتح و هو بمعنى الصادق و المطيع و المحسن، و أحسن الحسنات لا إله إلّا اللّه ثمّ برّ الوالدين ثمّ البرّ للمؤمنين.

[وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ و الفجور شقّ ستر الديانة، في النار و عذابها، و التنوين للتهويل، و نعيم الطاعة و المعرفة تقابله جحيم الغفلة و المعصية.

[يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ صلا النار قاسى حرّها و باشره و التصق ببدنه، فيصلونها يوم الجزاء [وَ ما هُمْ أي الفجّار [عَنْها] عن الجحيم [بِغائِبِينَ طرفة عين و قيل: المعنى و ما كانوا غائبين قبل ذلك عن النار غائبين بالكلّيّة بل كانوا يجدون سمومها و حرّها في قبورهم كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «القبر روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران».

[وَ ما أَدْراكَ خطاب لكلّ من يتأتّى منه الدراية و «ما» مبتدء و «أدراك» خبر أي أيّ شي ء جعلك داريا و عالما ما يوم الدّين في الهول و الفظاعة فإنّه خارج عن دائرة دراية الخلق لأنّهم على أيّ صورة يصوّرونها فهو فوقها و أضعافها.

[ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ تكرير بثمّ المفيدة للترقّي في الرتبة للتأكيد و زيادة التخويف و أتى بالظاهر عن الضمير تأكيدا لفخامته.

ص: 90

[يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً] و يوم مرفوع المحلّ على أنّه خبر مبتدء محذوف و حركته الفتح لإضافته إلى غير متمكّن و التقدير هو يوم لا تملك نفس من النفوس لنفس من النفوس شيئا من الأشياء أو منصوب بإضمار اذكر.

[وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ] كلّه يوم إذ لا تملك نفس [لِلَّهِ وحده فإنّ الأمر و الحكم من شأن الملك المطاع و الخلق تحت سطوات ربوبيّته و لا يزاحمه أحد. تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 91

هذه

سورة المطففين

اشارة

* (مكية)* و قيل بعضها و هي ثمان آيات منها مدنيّة و هي «إنّ الّذين أجرموا» إلى آخر السورة.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «و من قرأها سقاه اللّه من الرحيق المختوم يوم القيامة».

و عن الصادق عليه السّلام: «من كانت قراءته في الفريضة أعطاه اللّه الأمن من النار يوم القيامة و لا يراه و لا يراها».

ص: 92

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المطففين (83): الآيات 1 الى 17]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)

كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

[وَيْلٌ شدّة الشرّ أو الهلاك و العذاب الأليم قال ابن كيسان: هو كلمة كلّ مكروب واقع في البليّة فقولك «ويل لك» عبارة عن استحقاق المخاطب لنزول البلاء الموجب له و هو مبتدء و إن كان نكرة فقد وقع موقع الدعاء [لِلْمُطَفِّفِينَ الباخسين حقوق الناس في المكيال و الميزان و التطفيف تنقيص الشي ء مقدارا قليلا على وجه الخفية، و طفّف الكيل قلّل نصيب المكيل له في إيفائه و استيفائه.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «خمس بخمس: فما نقض العهد قوم إلّا سلّط اللّه عليهم عدوّهم، و ما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلّا فشا فيهم الفقر، و ما ظهرت الفاحشة فيهم إلّا فشا الموت، و لا طففوا الكيل إلّا منعوا النبات و أخذوا بالسنين، و لا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر» و كان أهل المدينة يطفّفون قبل هجرة النبيّ إليهم فلمّا نزلت الآية أحسنوا الكيل فهم أوفى الناس كيلا إلى اليوم.

و عن مالك بن دينار أنّه دخل على جار له و قد احتضر فقال: يا مالك جبلان من نار بين يديّ اكلّف الصعود عليهما، فسألت أهله فقالوا: كان له مكيالان يكيل

ص: 93

بأحدهما و يكتال بالآخر فدعوت بهما فضربت أحدهما بالآخر حتّى كسرتهما ثمّ سألت الرجل فقال: ما يزداد الأمر عليّ إلّا عظما.

[الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي من الناس و يريدون أن يشتروا منهم و الاكتيال الأخذ بالكيل [يَسْتَوْفُونَ أي يأخذون الوافي و تبديل كلمة «من» بعلى لتضمين الاكتيال معنى الاستيلاء أو للإشارة إلى أنّه اكتيال مضرّ بهم و المراد من الاستيفاء الأخذ الوافر لا أخذ الوافي من غير نقص، بل كانوا يأخذون الزائد بأيّ وجه يتيسّر لهم من وجوه الحيل بكبس الكيل و تحريك المكيال و الاحتيال في ملأته و ألسنة الموازين.

[وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي إذا كالوا للناس بالكيل أو وزنوا بالميزان المبيع لهم [يُخْسِرُونَ و ينقصون حقوقهم. قال بعض السالكين: إنّ من يحسّن العبادة على رؤية الناس و يسي ء إذا خلا فهو داخل في المطفّفين فضلا عن المرائين.

[أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أي ألا يعلمون هؤلاء المطفّفون؟ و «ألا» هذه ليست للتنبيه بل الهمزة الاستفهاميّة الإنكاريّة داخلة على أذلاء النافية، و يجوز أن يكون للتحضيض على الظنّ.

[أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لا يقادر قدر عظم ما فيه من الأهوال، و محاسبون فيه على مقدار الذرّة و الخردلة فإنّ من يظنّ ذلك و إن كان ظنّا ضعيفا في حدّ الشكّ و الوهم لا يتجاسر على أمثال تلك القبائح فذكر الظنّ إذا لم يكن بمعنى العلم في الآية للمبالغة في المنع عن التطفيف و إلّا فالمؤمن لا يكفي له الظن في أمر البعث و المحاسبة بل لا بدّ من الاعتقاد الجازم.

[يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لأمر ربّ العالمين، روي أنّهم يقومون بين يدي اللّه أربعين عاما و في رواية ثلاثمائة سنة، و عرق أحدهم إلى أنصاف أذنيه لا يأتيهم خبر و لا يؤمر فيهم بأمر و هذا في حقّ الكافر و أمّا في حقّ المؤمن فيكون المكث كقدر انصرافهم من صلاة مفروضة. و قال أعرابيّ لعبد الملك بن مروان: إنّك قد سمعت ما قال اللّه في المطفّفين؟ و أراد بذلك أنّ المطفّف قد توجّه عليه الوعيد

ص: 94

العظيم في أخذ القليل فما ظنّك بنفسك و أنت تأخذ أموال الناس بلا كيل و لا وزن.

[كَلَّا] ردع عمّا كانوا عليه من التطفيف و الغفلة عن البعث أو بمعنى حقّا فحينئذ يكون متّصلا بما بعده [إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ الكتاب بمعنى المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس أو على حاله بمعنى الكتابة و اللام للتأكيد و سجّين علم لكتاب جامع هو ديوان الشرّ و فيه ثبت أعمالهم من الفجور و المعاصي و قيل: المعنى إنّه كتب في كتابهم أنّهم يكونون في سجّين و هي في الأرض السابعة السفلى و عن البراء بن عازب قال: قال رسول اللّه: سجّين أسفل سبع أرضين.

قال كعب الأحبار: إنّ روح الفجّار يصعد بها إلى السماء فيأبى السماء أن تقبلها ثمّ تهبط بها إلى الأرض فتدخل سبع أرضين حتّى ينتهي بها إلى سجّين و هو موضع جند إبليس و قيل: إنّ سجّين جبّ في جهنّم مفتوح و الفلق جبّ في جهنّم مغطى و يكون لفظ السجّين من السّجن الّذي هو الشدّة على وزن فعّيل مبالغة المسجون.

[وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ أي بحيث لا يبلغه دراية أحد [كِتابٌ مَرْقُومٌ الرقم الخطّ الغليظ الجليّ أي هو كتاب بيّن الكتابة بحيث كلّ من نظر إليه يطّلع على ما فيه بلا إمعان توجّه، مشتمل على علامة دالّة على شقاوة صاحبه و كونه من أصحاب النار.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ] أي الويل يوم يقوم الناس و اعطي ذلك الكتاب المرقوم لهم حاصل [لِلْمُكَذِّبِينَ و الويل كلمة جامعة لجميع أقسام العذاب و المحن [الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ صفة ذامّة للمكذّبين و مفسّرة تكذيبهم بأنّهم كذّبوا يوم القيامة [وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أي متجاوز عن الحقّ إلى الباطل كثير الإثم و المعاصي، منهمك في الشهوات بحيث حملته على الإنكار بيوم الجزاء.

ثمّ وصف سبحانه المعتدي بقوله: [إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا] الناطقة بتصديق ذلك اليوم و وقوعه لا محالة و هي القرآن [قالَ من فرط إعراضه عن الحقّ و جهله

ص: 95

[أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي حكايات الأوّلين و أباطيلهم و الأساطير جمع اسطورة و هي الحديث الّذي لا نظام له.

[كَلَّا] ردع للمعتدي عن ذلك القول الباطل و تكذيبه [بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ قرأ حفص عن عاصم «بل» بإظهار اللّام مع سكتة عليها خفيفة بدون القطع و يبتدئ «ران» و قرأ الباقون بإدغام اللام في الراء و «ما» موصولة و العائد محذوف و معنى الآية: ليس في آياتنا ما يصحّ أن يقال في شأنها مثل هذه المقالات الباطلة بل ركب قلوبهم و غلب عليها ما كانوا يكسبونه من الكفر و العصيان حتّى صارت كالصدإ (1) من المرأة فحال ذلك بينهم و بين معرفة الحقّ كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ العبد كلّما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتّى يسودّ قلبه» و لذلك قالوا ما قالوا.

و الرين صدأ يعلو الشي ء الجليّ، و ران ذنبه على قلبه غلب، و ران فيه النوم رسخ فيه. و قيل: الرين الحجاب الغليظ الحائل بين القلب و عالم القدس و الغبن بالمعجمة دون الرين و هو الصدأ فإنّ الصدأ حجاب رقيق يزول بالتصفية قال الصادق عليه السّلام: يصدء القلب فإذا ذكرته بآلاء اللّه انجلى عنه» قال أبو مسلم: ترك النظر في العواقب و كثرة المعاصي يقوّي الدواعي في الإعراض عن التوبة.

قال أبو القاسم البلخيّ: و في الآية دلالة على صحّة ما يقوله أهل العدل في تفسير الطبع و الختم على القلوب و الإضلال، لأنّه تعالى أخبر أنّ أعمالهم السيّئة و ما كانوا يكسبونه من القبيح ران على قلوبهم، فحينئذ أضلّهم أعمالهم الّتي اكتسبوها و هم سبّبوا و أوجبوا الختم و الطبع على قلوبهم فلمّا اختاروا هذا الأمر الفاسد أجرى اللّه الطبع و الختم بما اختاروه.

[كَلَّا] ردع و زجر عن الكسب الرائي الموقع في الرين [إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ أي إنّ الموصوفين يوم القيامة عن رحمة ربّهم مدفوعون و ممنوعون غير مقبولين، عن عليّ عليه السّلام.ة.

ص: 96


1- الصدأ محركة ستر تحتجب به المرأة.

[ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أي بعد أن منعوا من الثواب لازموا الجحيم بكونهم فيها لا يغيبون عنها ثُمَّ يُقالُ لهم توبيخا و تفريعا من جهة الزبانية: [هذَا] العذاب و هو مبتدء خبره [الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فذوقوه.

[سورة المطففين (83): الآيات 18 الى 36]

كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)

عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)

عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32)

وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)

[كَلَّا] ردع عن الكسب الرائن أي لا يؤمنون بالعذاب و القيامة و متّصل بما قبله و قيل: معناه حقّا و يتّصل بما بعده [إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ] أي الأعمال المكتوبة لهم [لَفِي عِلِّيِّينَ فعلّيّون علم لديوان الخير الّذي دوّن فيه كلّ ما عملته الملائكة و صلحاء الثقلين. علّيّون منقول من جمع علّيّ على وزن فعّيل من العلوّ للمبالغة، علوّ على علوّ مضاعف، و جمع بالواو و النون تشبيها بمن يعقل لتفخيم شأنه و هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة غير محدود العدد سمّي بذلك لأنّه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنّة و مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكرّوبيّون و قيل: في سدرة المنتهى و هي الّتي ينتهي إليها كلّ شي ء من أمر اللّه و قيل: هو لوح من زبرجدة خضراء معلّق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها.

روي أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فإذا انتهوا إلى ما شاء اللّه من سلطانه اوحي إليهم إنّكم الحفظة على عبدي و أنا الرقيب على ما في قلبه و إنّه أخلص عمله فاجعلوه في علّيّين فقد غفرت له و إنّها لتصعد بعمل العبد فيزكّونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء اللّه أوحى اللّه إليهم أنتم الحفظة على عبدي و أنا الرقيب على

ص: 97

قلبه و إنّه لم يخلص في عمله فاجعلوه في سجّين و في الحديث إشارة إلى أنّ الحفظة لا يطّلعون على الإخلاص و الرياء إلّا باطّلاع اللّه.

[وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ أي هو خارج عن دائرة دراية الخلق [كِتابٌ مَرْقُومٌ مسطور بيّن الكتابة يقرء بلا تكلّف تشهد و تنطق بسعادة صاحبه. و لمّا كان عليّون علما منقولا من الجمع حكم عليه بالمفرد بقوله: «كتاب مرقوم» و لكن أعرب إعراب الجمع [يَشْهَدُهُ الملائكة [الْمُقَرَّبُونَ عند اللّه أي يحفظونه و يحضرونه فيحضر ذلك الكتاب المرقوم الملائكة المقرّبون الّذين هم في علّيّين إذا صعد به إلى علّيّين.

[إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ و ملاذّ من النعمة في الجنّة [عَلَى الْأَرائِكِ على الأسرّة في الحجال و لا تطلق الأريكة على السرير إلّا عند كونه في حجلة و هو بيت العروس يزيّن بالثياب و الأسرّة و الستور [يَنْظُرُونَ إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من رغائب مناظر الجنّة و كذا إلى أعدائهم يعذّبون في النار.

[تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ و هو ثاني الأوصاف و المراد من بهجة النعيم ماؤه و رونقه أي إذا رأيتهم عرفت أنّهم أهل النعمة بسبب ما يرى في وجوههم من القرائن كالضحك و الاستبشار كما في وجوه الأغنياء و أهل الترفّه.

[يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ و هو ثالث الأوصاف أي شرابا كائنا من صافي الخمر خالصا عن كدورة الخمار و تغيير النكهة و إيراث الصداع [مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ أي ما يختم به الطيب المعروف بدلا عن الطين و قيل: ختام الشي ء خاتمته أي أنّ الشارب إذا رفع فاه من آخر شربه وجد رائحة كرائحة المسك و وجد رائحة المسك لكونه ممزوجا به كالأشربة الممسّكة.

[وَ فِي ذلِكَ الرحيق خاصّة دون غيره من النعيم المكدّر السريع الفناء [فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ و ليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة اللّه. و الأمر للتحضيض و أصل التنافس التغالب في الشي ء النفيس الّذي يحرص عليه نفوس الناس و يريده كلّ أحد لنفسه.

ص: 98

قال علماء السلوك: المنافسة مجاهدة النفس في التشبيه بالأفاضل و اللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره و تعلّق القلب باللّه و طيران الضمير إليه و الحركة عند ذكره و التباعد من الناس و الانس عند الوحدة و البكاء على ما سلف و حلاوة سماع الذكر و التدبير في القرآن و التعرّض للمناجاة.

[وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عطف على «ختامه» صفة اخرى لرحيق و ما بينهما اعتراض مقرّر لنفاسته أي يخرج بذلك الرحيق من ماء تسنيم، التسنيم علم لعين تجري من جنّة عدن لأهله تأتيهم من فوق فيكون من علوّ المكان. روي أنّها تجري في الهواء متسنّمه فتنصبّ في أوانيهم فإذا امتلأت أمسك الماء حتّى لا يقع منه قطرة على الأرض فلا يحتاجون إلى الاستسقاء.

[عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ نصب «عينا» على المدح و الاختصاص بتقدير «أعني» يشرب بها المقرّبون قربا معنويّا روحانيّا يشربون ماءها صرفا و لكن تمزج لسائر أهل الجنّة و هم أصحاب اليمين. و الباء مزيدة أو بمعنى «من».

و بالجملة الخالص الغير الممزوج للخواصّ و الممزوج لمن دونهم، و نعم ما قال عمر بن الفارض في ميميّته:

عليك بها صرفا فإن شئت مزجهافعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم

و العدل بمعنى العدول و الظلم بالفتح هو ماء الأسنان و بريقها و بالضمّ هو الجور أي إن لم تقدر على شربها خالصا فامزجها بزلال فم المحبّة و بريقه و لا تعدل فإنّ العدول عن ظلم الحبيب و رشحة زلاله هو الظلم.

[إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا] كانوا ذوي جرم و ذنب و لا ذنب أكبر من الكفر و أذى المؤمنين لإيمانهم مثل رؤساء قريش و أكابر المجرمين كأبي جهل و الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و أمثالهم [كانُوا] في الدنيا [مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا] إيمانا صادقا [يَضْحَكُونَ و يستهزئون بفقراء المؤمنين كعمّار و صهيب و خبّاب و بلال و غيرهم و تقديم الجارّ و المجرور لمراعاة الفواصل.

[وَ إِذا مَرُّوا] أي فقراء المؤمنين [بِهِمْ أي بالمشركين في أنديتهم أو

ص: 99

بالعكس [يَتَغامَزُونَ و يغمز بعضهم بعضا و يشيرون بأعينهم و يعيبونهم و يقولون انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم و يتركون اللّذات لما يرجونه من المثوبات و أمر البعث و الجزاء لا يقين به و إنّه بعيد كلّ البعد.

[وَ إِذَا انْقَلَبُوا] من مجالسهم [إِلى أَهْلِهِمُ و أصحابهم الجهلة الضالّة التابعة لهم، و الانقلاب التحوّل و الرجوع [انْقَلَبُوا] حالكونهم [فَكِهِينَ متلذّذين بذكرهم بالسوء و السخريّة منهم.

[وَ إِذا رَأَوْهُمْ أي المجرمين المؤمنين [قالُوا] مشيرين إلى المؤمنين بالتحقير [إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي نسبوا المسلمين إلى الضلال بطريق التأكيد و قالوا:

تركوا دين آبائهم القديم و دخلوا في الدين الحادث أو المعنى تركوا التنعّم الحاضر بسبب طلب ثواب لا ندري هل له وجود أولا.

[وَ ما أُرْسِلُوا] أي المجرمون [عَلَيْهِمْ أي على المسلمين [حافِظِينَ حال من واو «قالوا» أي قالوا ذلك و الحال أنّهم ما أرسلوا من جهة اللّه موكّلين بهم يحفظون عليهم أمورهم و يهيمنون على أعمالهم و يشهدون برشدهم و ضلالهم و إنّما أمروا بإصلاح أنفسهم و حاصل المعنى أنّه لم يرسل هؤلاء الكفّار على المؤمنين حفظة و لو اشتغلوا بما كلّفوا كان ذلك أولى بهم.

[فَالْيَوْمَ يعني يوم القيامة [الَّذِينَ آمَنُوا] أي المعهودون من الفقراء [يَضْحَكُونَ كما ضحك الكفّار منهم في الدنيا و ذلك أنّه يفتح للكفّار باب إلى الجنّة و يقال لهم: اخرجوا إليها فإذا و صلوا إليها اغلق دونهم يفعل ذلك بهم مرّات فيضحك منهم المؤمنون حتّى يروهم أذلّاء مغلولين [عَلَى الْأَرائِكِ على السرر و الحجال [يَنْظُرُونَ ناظرين إلى سوء حال الكفّار.

[هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ كلام مستأنف من قبل اللّه أو من قبل الملائكة و «ثوّب» عبّر بالماضي لتحقّقه، و الإثابة المجازاة استعمل في المكافاة بالشرّ و أكثر استعمالها في المحبوب نحو (1) «فأثابهم اللّه بما قالوا جنّات» و قد يستعمل

ص: 100


1- سورة المائدة: 88.

في المكروه نحو (1) «فأثابكم غمّا بغمّ» على الاستعارة لكن التثويب التعويض كما قال صاحب القاموس، فحينئذ التعويض يكون بالاستحقاق فيكون مضحوكا منهم. و إهانة الأعداء تعظيم للأولياء. تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 101


1- سورة آل عمران: 153.

سورة الانشقاق

اشارة

* (مكية)* بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 25]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ (4)

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَ يَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)

بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ (17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)

فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

إعرابه كإعراب «إذا السماء انفطرت» أي انصدعت، و انشقاقها من علائم القيامة لنزول الملائكة بالأوامر الإلهيّة أو للسقوط و الانتقاض و لهول القيامة، و عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «تنشقّ من المجرّة» و هي بفتح الميم باب السماء أي البياض المستطيل في وسط السماء سمّيت بذلك لأنّها كأثر المجرّ تنشقّ السماء من ذلك المكان.

[وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها] أي استمعت و انقادت لتأثير قدرته حين تعلّقت قدرته بانشقاقها انقياد المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع فهو استعارة تمثيليّة على المجاز المرسل يعنى إذا اطلق الإذن في حقّ نحو السماء ممّا ليس في شأنه الاستماع و القبول يكون

ص: 102

استعارة تمثيليّة نحو قوله: (1) «أَتَيْنا طائِعِينَ» [وَ حُقَّتْ من قولهم: هو محقوق بكذا و حقيق به أي شأنها ذلك بالنسبة إلى الآمر القاهر أي أهل و حقّ أن لا يتخلّف عن القدرة و «حقّت» جملة معترضة مؤكّدة لما قبلها لا معطوفة عليها.

[وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أي بسطت بإزالة جبالها و آكامها عن مقارّها و تسويتها بحيث صارت كالصحيفة الملساء و قيل: زيدت سعة و بسطة من أحد و عشرين جزء إلى تسعة و تسعين جزء لوقوف الخلائق عليها للحساب و إلّا لم تسعهم. من مدّه إذا كان بمعنى أمدّه أي زاده. و في الحديث «إذا كان يوم القيامة مدّاللّه الأرض مدّ الأديم العكاظيّ» لأنّ الأديم إذا مدّ زال كلّ انثناء فيه و استوى، و عكاظ كغراب سوق بين نخيلة و الطائف بصحراء كانت تقوم هلال ذي القعدة و تستمرّ عشرين يوما تجتمع قبائل العرب فيتعاكظون أي يتفاخرون و يتناشدون.

[وَ أَلْقَتْ ما فِيها] أي رمت الأرض ما في جوفها من الموتى و الكنوز إلى ظاهرها و يكون إخراج الكنوز عند خروج الدجّال لا يوم القيامة و إخراج الموتى عند البعث و يوم القيامة وقت متّسع و هو من أشراط الساعة [وَ تَخَلَّتْ عمّا فيها غاية الخلوّ حتّى لم يبق فيها شي ء منه كأنّها تكلّفت في ذلك أقصى جهدها كما يقال: تكرّم الكريم و ترحّم الرحيم إذا بلغا جهدهما في الكرم و الرحمة.

[وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ أي انقادت الأرض في الإلقاء و التخلّي و هي حاقّة بذلك الانقياد، ذكره مرّتين لأنّ الأوّل بالنسبة إلى السماء و الثاني بالنسبة إلى الأرض فليس بتكرار، و جواب «إذا» محذوف للدلالة و تقديره إذا وقعت هذه الأمور كان من الأهوال ما يقصر العبارة عن بيانه أو التقدير يرى حينئذ الإنسان ثواب عمله و عقاب عمله.

[يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ جنس الإنسان الشامل للمؤمن و الكافر كأنّه قال: يا فلان و يا فلانة [إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً] الكدح جهد النفس في العمل و الكدّ فيه بحيث يؤثّر فيها من كدح جلده إذا خدشه و المعنى أنّك جاهد و مجدّ و ساع

ص: 103


1- سورة حم السجدة: 11.

باجتهاد و مشقّة إلى لقاء ربّك و هو الموت أي ساع إليه في عملك [فَمُلاقِيهِ أي ملاق جزاء عملك و صائر إليه و إلى حكمه حيث لا حكم إلّا حكمه و لا مفرّ لك منه، و حاصل المعنى أنّ جدّك إلى مباشرة الأعمال في الدنيا هو في الحقيقة سعي إلى لقاء جزائها في العقبى فعليك أن تباشر بما ينجيك في العقبى لا ما يرديك فإنّ كلّ عامل سيقدم إلى ما أسلف.

ثمّ قسّم أحوال الخلق فقال: [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ أي من يؤتى و الماضي لتحقّقه، كتابه المكتوب فيه أعماله الّتي كدح في كسبها [بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ يوم القيامة [حِساباً يَسِيراً] سهلا لا مناقشة و اعتراض فيه كما يناقش أصحاب الشمال، و هو المؤمن السعيد، و الحساب اليسير حطّ الأوزار عنه إمّا بالتوبة أو بالعفو و الإثابة على الحسنات و ذلك لإيمانه و من نوقش في المحاسبة عذّب و في الحديث «ثلاث من كنّ فيه حاسبه اللّه حسابا يسيرا و أدخله اللّه الجنّة برحمته قالوا: و ما هي يا رسول اللّه؟

قال: «تعطي من حرمك، و تصل من قطعك، و تعفو عمّن ظلمك» [وَ يَنْقَلِبُ من مقام الحساب اليسير [إِلى أَهْلِهِ و فريق المؤمنين و أهل السعادة [مَسْرُوراً] مبتهجا بكونه من أهل النجاة قائلا: (1) «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ».

[وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ أي يؤتى كتاب عمله [وَراءَ ظَهْرِهِ أي بشماله من وراء ظهره ظرف متعلّق لأوتي قال الكلبيّ: يغلّ يمينه ثمّ تلوي يده اليسرى من ورائه فيعطى كتابه بشماله و لا منافاة بين هذه و ما في «الحاقّة» حيث قال: (2) «بِشِمالِهِ» لأنّه يمكن أن يكون بعضهم يعطى بشماله و بعضهم من وراء ظهره و يحتمل أنّ من اوتى كتابه وراء ظهره هم الّذين أوتوا الكتاب فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فإذا كان يوم القيامة قيل له: خذه من وراء ظهرك من الموضع الّذي نبذته فيه في حياتك الدنيا.

فإن قيل: إنّ ملك اليمين أيّ شي ء يكتب للكافر و لم يكن له حسنة يكتبها؟

ص: 104


1- سورة الحاقة: 19.
2- « «: 25.

فالجواب أنّه يأمر و يأذن صاحب الشمال بكتب سيّئاته و يكون هو شاهدا على ذلك و إن لم يكتب.

[فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً] حكى سبحانه ما يحلّ به أي بعد ما قرء كتابه «يدعو» هلاكا و يقول: وا ثبوراه وا هلاكاه! [وَ يَصْلى سَعِيراً] يدخلها و يقاسي حرّها و عذابها من غير حائل [إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً] بيان للعلّة. كان في الدنيا في أهله و عشيرته مترفا بطرا مستبشرا لا يخطر بباله امور الآخرة و لا كان مصدّقا بها قارغا من همّ الآخرة بخلاف المؤمن فإنّه كان له نائحة في قلبه من الحزن و الخوف من التقصير.

[إِنَّهُ ظَنَ و هو تعليل لسروره في الدنيا أي إنّ هذا الكافر ظنّ في الدنيا [أَنْ لَنْ يَحُورَ] «أن» مخفّفة، لن يرجع إلى حال الحياة في الآخرة للجزاء، و الحور الرجوع، و حر إلى أهلك أي ارجع و منه الحديث «أعوذ باللّه من الحور بعد الكور» أي الرجوع عن الحالة الجميلة، و الحوّار القصّار لرجعة الثوب إلى البياض.

[بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً] إيجاب لما بعد «لن» أي بلى ليحورنّ البتّة و ليس الأمر كما يظنّ فإنّ الّذي خلقه كان به و بأعماله الموجبة للجزاء عالما بحيث لا تخفى عليه خافية فلا بدّ من رجعه و حسابه و جزائه حتما.

[فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ مرّ تفسيره في سورة «لا اقسم بيوم القيامة» الشفق هي الحمرة الّتي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب و بغيبوبتها يخرج وقت المغرب و يدخل وقت العشاء عند أهل السنّة أو المراد من الشفق البياض الّذي يليها لكن مناسبة الشفق بمعنى البياض أكثر و هو من الشفقة الّتي هي عبارة عن رقّه القلب و لا شكّ أنّ ضوء الشمس يأخذ في الرقّة و الضعف من غيبتها إلى أن يستولي سواد اللّيل على الآفاق و عن عكرمة و مجاهد الشفق هو النهار فعلى هذا يقع القسم باللّيل و النهار اللّذين أحدهما معاش و الآخر سكن و بهما قوام امور الخلق و قيل: الشفق اختلاط ضوء النهار بسواد اللّيل عند غروب الشمس.

[وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ الوسق جمع المتفرّق و أقسم سبحانه باللّيل و ما جمعه

ص: 105

و ضمّه و ستره بظلمته و «ما» عبارة عمّا يجتمع باللّيل و يأوي إلى مكانه من الدوابّ و الحشرات و الهوامّ و السباع لأنّه إذا كان اللّيل أقبل كلّ شي ء إلى مأواه أو المراد بما جمعه اللّيل من العبّاد المتهجّدين.

[وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي استوى و كمل نوره و هو ليالي البدر يقال: امور متّسقة أي مجتمعة على الصلاح و منتظمة.

[لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ هذا جواب القسم قرئ «لتركبنّ» بفتح الباء أي لتركبنّ يا محمّد (صلّى اللّه عليك) درجه بعد درجة و رتبة بعد رتبة في رفعة المنزلة و القربة عند اللّه، و بضمّ الباء فالخطاب للناس أي حالا بعد حال منزلا بعد منزل و أمرا بعد أمر في القيامة و الأحوال تتغيّر بكم فتصيرون على غير الحال الّتي كنتم عليها في الدنيا.

و «عن» بمعنى «بعد» كما قال سبحانه (1): «عمّا قليل ليصبحنّ نادمين» أي بعد قليل قال الشاعر التغلبيّ:

قرّبا مربط النعامة منّي لقحت حرب وائل عن حيال

أي بعد حيال و قيل: المراد شدّة بعد شدّة حياة ثمّ موت ثمّ بعث ثمّ جزاء و قيل: المراد اختلاف أحوالكم في الدنيا شدّة بعد رخاء و فقرا بعد غنى و غنى بعد فقر و صحّة بعد السقم و سقما بعد الصحّة و قيل: نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظما ثمّ خلقا آخر جنينا و وليدا و رضيعا و فطيما و يافعا ثمّ ناشئا ثمّ مترعرعا ثمّ خرورا ثمّ مراهقا ثمّ محتلما ثمّ بالغا ثمّ أمرد ثمّ طارا ثمّ باقلا ثمّ مسيطرا ثمّ مترحما ثمّ مختلطا ثمّ صملا ثمّ ملتحبا ثمّ مستويا ثمّ مصعدا ثمّ مجتمعا، و الحاصل أنّكم لتعبرنّ بكم الأحوال حالا بعد حال.

و إذا كان هكذا أمركم و انقلاب أطواركم في الدنيا أو في الآخرة و كلّ هذه الأمور دالّة على خالقكم و مصوّركم [فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فأيّ شي ء لهم حالكونهم غير مؤمنين و ما يمنعهم عن الإيمان بخالقهم مع تعاضد موجباته [وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ

ص: 106


1- سورة المؤمنين: 40.

جملة شرطيّة محلّها النصب على الحاليّة نسقا على ما قبلها أي أيّ مانع لهم حال عدم سجودهم و استكانتهم عند قراءة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو واحد من أصحابه و امّته القرآن لا يخضعون له؟ فإنّهم من أهل اللّسان فيجب عليهم أن يجزموا بإعجازه و صحّته عند سماعه و بكونه كلاما إلهيّا و يعلموا بذلك صدق محمّد في دعوى النبوّة فيطيعوه و يصلّون للّه. و بعض فسّروا بأنّ المراد بالسجود في الآية الصلاة و يجوز أن يراد به نفس السجود عند تلاوة آية السجدة على أن يكون المراد بالقرآن آية السجدة بخصوصها لا مطلق القرآن كما روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قرء ذات يوم (1) «وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ» فسجد هو و من معه من المؤمنين و قريش تصفق فوق رؤوسهم و تصفر استهزاء.

عند أهل السنّة هذه الآية الثالثة عشر من أربع عشرة سجدة تجب عندها السجدة.

[بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ بالقرآن الناطق و لذلك لا يخضعون عند تلاوته [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ بما يضمرونه في قلوبهم من الكفر و الحسد فيجازيهم على ذلك في الدنيا و الآخرة. أوعيت الشي ء أي جعلته في وعاء ثمّ استعير لمعنى الحفظ.

[فَبَشِّرْهُمْ أي الّذين كفروا [بِعَذابٍ أَلِيمٍ مولم غاية الإيلام و هو استهزاء و تهكّم بهم [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا] استثناء منقطع من الضمير المنصوب في [فَبَشِّرْهُمْ و المستثنى المؤمنون أي لكنّ الّذين آمنوا ايمانا صادقا [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الطاعات [لَهُمْ في الآخرة [أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع بل متّصل دائم، من منّه منّا أي قطعه قطعا أو المعنى بغير منّة تكدر.

و في قوله: «لا يؤمنون» و «لا يسجدون» دلالة على الاختيار و بطلان مذهب الجبر و يدلّ على أنّ الكفر و الأيمان فعلهم لأنّ الحكيم لا يقول: مالك لا تؤمن و لا تسجد؟ لمن يعلم أنّه لا يقدر على الإيمان و السجود.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 107


1- سورة اقرأ: 19.

سورة البروج

اشارة

* (مكية)* قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و من قرأها أعطاه اللّه الأجر بعدد كلّ يوم جمعة و كلّ يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البروج (85): الآيات 1 الى 22]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)

النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (9)

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)

ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)

وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

[وَ السَّماءِ] كلّ جرم علويّ فهو سماء فيدخل في هذا التعريف العرش [ذاتِ الْبُرُوجِ و المراد من البروج الاثنا عشر الّتي في الفلك و هي المنازل العالية و المراد هنا من البروج منازل الشمس و القمر و الكواكب و شبّهت منازلها بالقصور الّتي تنزل فيها الأكابر و الأشراف لأنّ البرج معناه القصر و يشتمل على المحاسن يقال: تبرّجت

ص: 108

المرأة أي تشبّهت بالبرج في إظهار المحاسن.

قال السهيليّ: أسماء البروج: الحمل و به يبدأ و في شهر هذا البرج يدخل في أواخره نيسان أي في ثلث آخره و كان مولد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نيسان عند طلوع الغفر بفتح الغين المعجمة منزل للقمر ثلاثة أنجم صغار و الغفر يطلع في ذلك الشهر أوّل الليل لأنّ وقته النطح و هو الشرطان بالمعجمة و الفتحتين و هما نجمان من الحمل قرنا الحمل، و إلى الحمل أيضا يضاف البطين كزبير منزل للقمر ثلاثة كواكب صغار كأنّها أثافي و هو بطن الحمل.

و بالجملة فبعد الحمل من البروج الثور، ثمّ الجوزاء و يقال لها: النسر و الجبّار و التوأمان، و هامة الجوزاء الهقعة و هي ثلاثة كواكب فوق منكبي الجوزاء كالأثافي إذا طلعت مع الفجر اشتدّ حرّ الصيف، ثمّ السرطان، ثمّ الأسد، ثمّ السنبلة، ثمّ الميزان، ثمّ العقرب و كوكبان نيّران في قرني العقرب و بين الزبانين من العقرب و بين وركي الأسد و رجليه و هما السماك يطلع الغفر الّذي به مولد الأنبياء و فيه قالوا: «حرّ المنازل في الأبد بين الزباني و الأسد» لأنّه يليه من الأسد ذنبه و لا ضرر فيه و من العقرب زبانياها و لا ضرر فيهما و إنّما يضرّ بذنبها إذا شالته أي رفعته و هو الشولة في المنازل و كوكبان نيّران ينير لهما القمر يقال لهما: حمة العقرب، ثمّ القوس، ثمّ الجدي، ثمّ الدلو، ثمّ رشاء الدلو و هو الحوت.

و جعل اللّه الشهور على عدد هذه البروج فقال (1): «إنّ عدّة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا» و الفصول الأربع في هذه الشهور من الربيع و الصيف و الخريف و الشتاء. و البروج الاثنا عشر منقسمة إلى هذه المنازل الثمانية و العشرين و الشمس تسير في تمام هذه البروج في كلّ سنة و القمر في كلّ شهر و قد تعلّقت بها منافع و مصالح للعباد فأقسم اللّه تعالى بها إظهارا لقدرها.

من مجمع البحرين عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ذكر اللّه عبادة

ص: 109


1- سورة التوبة: 37.

و ذكري عبادة و ذكر عليّ عبادة و ذكر الأئمّة عبادة، و الّذي بعثني بالنبوّة إنّ وصيّي لأفضل الأوصياء و من ولده الأئمّة الهداة بعدي، بهم يحبس اللّه العذاب عن أهل الأرض و بهم يمسك السماء أن تقع على الأرض و بهم يمسك الجبال أن تميد بهم و بهم يسقي خلقه الغيث و بهم يخرج النبات أولئك أولياء اللّه حقّا و خلفاؤه صدقا عدّتهم عدّة الشهور و عدّة نقباء موسى بن عمران ثمّ تلا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية: و السماء ذات البروج، ثمّ قال: يا ابن عبّاس إنّ اللّه يقسم بالسماء ذات البروج و يعني بها السماء و بروجها» قلت: يا رسول اللّه فما ذا؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أمّا السماء فأنا و أمّا البروج فالأئمّة بعدي أوّلهم عليّ و آخرهم المهديّ» صلّى اللّه عليهم.

[وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ] أي يوم القيامة أقسم اللّه به تنبيها على قدره و عظمه أيضا من حيث كونه يوم الفصل و تفرّد الحكم له تعالى [وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ] فيه أقوال:

أحدها أنّ الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة كما قال ابن عبّاس و جماعة و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و روي ذلك عن النبيّ و سمّي يوم الجمعة «شاهدا» لأنّه يشهد على كلّ عامل بما عمل فيه و في الحديث «ما طلعت الشمس على يوم و لا غربت عن يوم أفضل منه و فيه ساعة لا يوافقها من يدعو فيها اللّه بخير إلّا استجاب له و لا استعاذ من شرّ إلّا أعاذه منه» و يوم عرفة مشهود يشهد الناس فيه موسم الحجّ و تشهده الملائكة.

و ثانيها أنّ الشاهد يوم النحر و المشهود يوم عرفة.

و ثالثها أنّ الشاهد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و المشهود يوم القيامة قال سبحانه (1): «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» و قال (2): «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» و قيل: الشاهد اللّه و المشهود لا إله إلّا اللّه لقوله (3): «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» و قيل أقوال أخر لا حاجة في الإطالة.

ص: 110


1- سورة المزمل: 15.
2- «يونس: 104.
3- «آل عمران: 18.

[قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ] جواب القسم بحذف اللام المؤكّدة أي لقد قتل و أهلك بغضب اللّه و لعنته و لعنوا بتحريقهم الناس في الدنيا أو في الآخرة و المراد بهم الكافرون الّذين حفروا الأخدود و عذّبوا المؤمنين بالنار، و يحتمل أن يكون إخبارا عن المسلمين الّذين عذّبوا بالنار في الأخدود فبكون أنّ المؤمنين قتلوا بالإحراق في النار ذكرهم اللّه بحسن بصيرتهم و صبرهم على دينهم و لا يعطون التقيّة بالرجوع عن الإيمان لتصلّبهم في الدين.

و قيل: إنّ الجملة دعائيّة دالّة على الجواب لا خبريّة و سوق الكلام يفيد معنى و هو أنّ كفّار مكّة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود لأنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين على الصبر من أذى المشركين و ما يلقون منهم و يعلموا أنّ هؤلاء عند اللّه بمنزلة أولئك و يقال فيهم ما قد قيل فيهم. و الأخدود الخدّ في الأرض و هو شقّ مستطيل كالنهر غامض عميق القرار. و أصحاب الأخدود كانوا ثلاثة و هم أنطيانوس الروميّ بالشام (1) و بخت نصّر بفارس (2) و يوسف ذو نواس الحميريّ بنجران موضع باليمن، شقّ كلّ واحد منهم شقّا عظيما في الأرض كان طوله أربعين زراعا و عرضه اثني عشر زراعا و ملئوه نارا و ألقوا فيه من لم يرتدّ عن دينه من المؤمنين، و القرآن إنّما نزل في الّذين بنجران في سلطة ذي نواس الحميريّ اليهوديّ و جنوده و ذو نواس اسمه زرعة بن حسّان و كان اسمه أيضا يوسف و كانت له ذوائب تنوس و تضطرب على عاتقه فسمّي ذا نواس.

و قصّته أنّ عبدا صالحا يقال له «عبد اللّه بن الثامر» كان بنجران و كان على دين عيسى عليه السّلام فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس بجنود من حمير فخيّرهم بين النار».

ص: 111


1- و هو الذي أغار على بنى إسرائيل و قتل ملكهم و شتت جمعهم بعد ما فسدوا في الأرض و أشار إليه في قوله تعالى في سورة الإسراء: «فإذا جاء وعدا و لا هما بعثنا عليكم عبادا لنا اولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار و كان وعدا مفعولا».
2- هو في التوراة الموجود «نبوكد نصر» ملك «بابل» شدد القتل و النهب و الأسر و التبعيد على بنى إسرائيل و قتل جما غفيرا من أنبيائهم و حمل معه «ارميا» و فيه قال تعالى: «فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم و ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة و ...».

و اليهوديّة فأبوا فحفر الخنادق و أضرم فيها النيران فجعل يلقي فيها كلّ من اتّبع ابن الثامر حتّى أحرق نحوا من اثني عشر ألفا أو سبعين ألفا.

و روى مسلم في الصحيح معنعنا عن صهيب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم له ساحر فلمّا مرض الساحر قال: إنّي قد حضر و فاني فادفع إليّ غلاما اعلّمه السحر فدفع إليه غلاما كان يختلف إليه فكان في طريقه إذا سلك نحو الساحر ليتعلّم السحر راهب فقعد الغلام نحو الراهب و سمع كلامه فأعجب الغلام من كلام الراهب فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب و قعد إليه يستمع منه فإذا أتى الساحر ضربه لمكثه و بطئه فشكا الغلام ذلك إلى الراهب فقال الراهب للغلام: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي و منعوني و إذا خشيت أهلك فقل:

حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى دابّة عظيمة أي حيّة عظيمة أو أسد عظيم فقال الغلام: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب فأخذ حجرا و قال: اللّهمّ إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابّة حتّى يستريح الناس فرماها فقتلها و مضى فأتى الراهب و أخبره فقال الراهب: أي بنيّ أنت اليوم أفضل منّي قد بلغ من أمرك ما أدري و إنّك ستبتلي فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ.

و كان الغلام يبرئ الأكمه و الأبرص و يداوي الناس فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيره فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني قال: إنّي لا أشفي أحدا إنّما يشفي اللّه فإن آمنت باللّه دعوت اللّه فشفاك فآمن باللّه فشفاه اللّه فأتى الملك و جلس إليه كما كان يجلس فقال الملك: من ردّ عليك بصرك؟ قال:

ربّي فقال: أو لك ربّ غيري؟ قال: ربّي و ربّك اللّه، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتّى دلّ على الغلام فجي ء بالغلام فقال له الملك: أي بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه و الأبرص؟ فقال الغلام: إنّما يشفي اللّه فأخذه فلم يزل يعذّبه حتّى دلّ على الراهب فجي ء بالراهب فقال له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار في مفرق رأسه فشقّه به حتّى وقع شفاه ثمّ جي ء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك

ص: 112

فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقّه ثمّ جي ء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه و قال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه و إلّا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال الغلام: اللّهمّ اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا و جاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللّه فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى قرقور (1) فتوسّطوا به البحر فإن رجع عن دينه و إلّا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللّهمّ اكفينهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا و سلم و جاء إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللّه.

ثمّ قال للملك: إنّك لست بقاتلي حتّى تفعل ما آمرك به قال: و ما هو؟

قال: تجمع الناس في صعيد و تصلبني على جذع ثمّ تأخذ سهما من كنانتي ثمّ ضع السهم في كبد القوس ثمّ قل: بسم اللّه ربّ الغلام ففعل الملك ما قال: فرماه فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس:

آمنّا بربّ الغلام آمنّا بربّ الغلام.

فأتى الملك آت فقال له: قد نزل بك ما كنت تحذر منه و آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك (2) و قال: من لم يرجع عن هذا الدين فاطرحوه فيها كرها ففعلوا حتّى جاءت امرأة و معها صبيّ رضيع لها فتأخّرت المرأة و تقاعست أن تقع فيها فقال لها الصبيّ: يا امّاه اصبري فإنّك على الحقّ و قيل: كان لها ثلاثة أولاد أحدهم رضيع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك و إلّا ألقيتك و أولادك في النار فأبت فأخذ ابنها الأكبر و ألقاه في النار ثمّ قال: ارجعي فأبت فألقى ابنها الأوسط في النار ثمّ قال لها: ارجعي عن دينك فأبت فأخذوا الصبيّ ليلقوه فيها فهمّت بالرجوع فقال الصبيّ: يا امّاه لا ترجعي عن الإسلام و لا بأس عليك فالقي الصبيّ في النار و امّه على أثره، و كان هو ممّن تكلّم في المهد و هو صبيّ رضيع.س.

ص: 113


1- السفينة العظيمة.
2- اى في السوق بمرأى من الناس.

و عن عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام «إنّ بعض ملوك المجوس وقع على أخته و هو سكران فلمّا صحا ندم و طلب المخرج فأمرته بأن يخطب للناس فيقول: إنّ اللّه قد أحلّ نكاح الأخوات ثمّ يخطبهم بعد ذلك بأنّ اللّه حرّمه فخطب فلم يقبلوا منه هذا الأمر فقالت له: ابسط فيهم السوط ففعل فلم يقبلوا منه فأمرته بالأخاديد و إيقاد النار و طرح من أبى فيها فهم الّذين أرادهم بقوله: «قتل أصحاب الأخدود» انتهى.

[النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ] بدل اشتمال من الأخدود، ذات ارتفاع اللهب [إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ] ظرف لقتل و الضمير لأصحاب الأخدود، و في بعض التفاسير على سرر و كراسيّ قعود عند النار في مكان مشرف و يعرضون المؤمنين على النار فمن يترك دينه تركوه و من لم يترك ألقوه في النار و أحرقوه. و «قعود» جمع قاعد و لفظ «على» مشعر بالاستعلاء.

[وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ] جمع شاهد يعني الملك و أصحابه الّذين خدّوا الأخدود على ما يفعلون «شهود» أي حضور قيل: إنّهم كانوا فرقتين فرقة يعذّب المؤمنين و فرقة يشاهد و لم يتولّوا تعذيبهم لكنّهم قعود رضوا بفعل أولئك و كانت الفرقة القاعدة مؤمنة لكنّهم لم ينكروا على الكفّار صنيعهم فلعنهم اللّه جميعا.

و قيل: المراد من قوله: «و هم على ما يفعلون بالمؤمنين» أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنّ أحدا لم يقصّر فيما امر به من إحراق المؤمنين. و في رواية ارتفعت النار فوقهم أربعين ذراعا فوقعت عليهم فأحرقتهم و نجّى اللّه المؤمنين بأن أخذ أرواحهم قبل أن تمسّهم النار كما فعل بآسية امرأة فرعون لكن نظم الآية يقتضي وصف المؤمنين في تصلّبهم في دينهم و بيان قوّة إيمانهم بأنّ عذّبوا بالنار و لم يشركوا.

[وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ أي و ما عابوا ذكر هذا المؤمنين، يقال: نقم الأمر إذا عابه و أنكره [إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] قال بلفظ المضارع مع أنّ الإيمان وجد منهم في الماضي لإرادة الاستمرار و الدوام عليه فإنّهم ما عذّبوهم لإيمانهم في الماضي بل لبقائهم و دوامهم عليه في الآتي. و عنوان هذا الاستثناء مفصح

ص: 114

عن براءتهم ممّا يعاب و ينكر فهو تمديح لهم بصورة الاستثناء على منهاج قول النابغة حيث يقول:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

و هذا البيان صفة مدح لا صفة ذمّ لأنّ ما جعله النابغة بصورة العيب هو عين المدح.

[الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فوصف سبحانه بهذه الصفات ليعلم أنّه لم يمهل الكفّار لأجل أنّه غير قادر لكنّه أراد أن يبلغ بهؤلاء المؤمنين مبلغا عظيما من الثواب لم يكونوا يبلغونه إلّا بمثل ذلك التحمّل و الصبر و لا اعتراض لأحد عليه في ملكه:

و هيهات هيهات الصفاء لعاشق و جنّة عدن بالمكاره حفّت

[وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] لم يخف عليه فعلهم بالمؤمنين و هو شاهد بأعمالهم و يجازيهم و ينتصف للمؤمنين.

[إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ أي الّذين أحرقوهم و عذّبوهم بالنار [ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا] من فعلهم ذلك و من الشرك الّذي كانوا عليه [فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بكفرهم. قال بعض علماء العامّة: إنّ ذلك يدلّ على أنّ توبة القاتل عمدا مقبولة [وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ بما أحرقوا المؤمنين، و فصّل بين عذاب جهنّم و عذاب الحريق مع أنّهما واحد فالمراد أنّ لهم أنواع العذاب في جهنّم سوى الإحراق مثل الزقّوم و الغسلين و المقامع و قيل: المراد أنّ لهم عذاب جهنّم في الآخرة و لهم عذاب الحريق في الدنيا و ذلك أنّ النار ارتفعت من الأخدود فأحرقتهم كما قال الكلبيّ.

ثمّ ذكر ما أعدّه للمؤمنين فقال: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] و صدّقوا بتوحيد اللّه [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ] بسبب إيمانهم و أعمالهم يجازون جنّات جارية فيها الأنهار بمقابلة ما قاسوا من الشدائد و الصبر على أذى الكفّار «ذلك» أي حصول الجنّة «الفوز الكبير» الّذي تصغر عنده الدنيا.

ص: 115

ثمّ قال سبحانه متوعّدا إلى الكفّار و العصاة: [إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ] البطش تناول الشي ء بصولة و الأخذ بعنف يقال: يد باطشة. أي أخذه تعالى إيّاهم بالعذاب متفاقم و إن كان بعد إمهال فإنّه عن حكمة لاعن عجز [إِنَّهُ هُوَ] وحده [يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ] لينشئ الخلق ثمّ يميتهم و يعيدهم إحياء للمجازاة و فيه مزيد التقرير لشدّة بطشه. و قيل: معناه أنّه يبدئ بالعذاب في الدنيا ثمّ يعيده في الآخرة، أو المعنى يبدئ العذاب في الآخرة ثمّ يعيده فيها لقوله (1): «كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها» قال ابن عبّاس: إنّ أهل جهنّم تأكلهم النار حتّى يصيروا فحما ثمّ يعيدهم خلقا جديدا.

قال حذيفة بن اليمان: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا حذيفة إنّ في جهنّم لسباعا من نار و كلابا من نار و سيوفا من نار و كلاليب من نار و إنّه يبعث ملائكة يعلّقون أهل النار بتلك الكلاليب بإحناكهم و يقطّعونهم بتلك السيوف عضوا عضوا و يلقونها إلى تلك السباع و الكلاب كلّما قطعوا عضوا عاد آخر مكانه غضّا طريّا.

و بالجملة المبدئ المعيد معناه الموجد لكنّ الإيجاد إذا لم يكن مسبوقا بمثله سمّي إبداء و إن كان مسبوقا بمثله يسمّى إعادة، و خاصّيّة الاسم المبدئ أن يقرء على بطن الحامل سحرا تسعا و عشرين مرّة فإنّ ما في بطنها يثبت و نافع، و لتذكار المحفوظ إذا نسي اسم المعيد لا سيّما إذا أضيف إليه اسم المبدئ.

[وَ هُوَ الْغَفُورُ] لمن تاب و لمن لم يتب إذا شاء [الْوَدُودُ] لمن أطاع. و في الأثر «إنّ أودّ الأودّاء إليّ من عبدني لغير نوال» و أصل الودّ من الوتد و هو أثبت من المحبّة و الودود من عباد اللّه من يريد لخلق اللّه ما يريد لنفسه و أعلى فمن ذلك من يؤثرهم على نفسه و لم يمنعه سوء صنيعهم عن إرادة الخير لهم و الإحسان إليهم كما قال صلّى اللّه عليه و آله:

حين كسرت رباعيّته و دمي وجهه و ضرب: «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون».

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إن أردت أن تسبق المقرّبين فصل من قطعك و أعط من حرمك و اعف عمّن ظلمك» و خاصيّة اسم الودود ثبوت الوداد لا سيّما بين

ص: 116


1- سورة النساء: 55.

الزوجين فمن قرأه ألف مرّة على طعام و أكله مع زوجته غلبتها محبّته و تطيعه.

[ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ] ذو الملك و السلطنة القاهرة على المخترعات العلويّة و السفليّة و إن لم يكن على السرير، يقال: ثلّ عرشه إذا ذهب سلطانه، و المجيد هو الشريف ذاته الجميل أفعاله الجزيل نواله فشرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمّي مجيدا و ما جدا و التمجيد ذكر الصفات الحسنة، و مجد العرش علوّه في الجهة و عظمته و حسن صورته، و تركيبه أحسن الأجسام تركيبا، أظهره اللّه و خلقه إظهارا للقدرة لا مكانا و لا احتياجا إليه.

قال بعض المحقّقين: إنّ من العجب أنّ اللّه لو ملأ العرش مع تلك السعة من حبوب الذرّة و خلق طيرا أكل حبّة واحدة منها في ألف سنة لنفدت الحبوب و لا تنقطع مدّة الآخرة و مع هذا لا يخاف بنو آدم من عذاب تلك المدّة و يضيّعون أعمارهم في شي ء سريع الزوال.

[فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ] بحيث لا يتخلّف عن إرادته مراد من الإحياء و الإماته و الإعزاز و الإذلال و الإغناء و الإقتار و الوصل و الفرق إلى غير ذلك من شؤونه.

[هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ] أي هل بلغك أخبار الّذين تجنّدوا على أنبياء اللّه و قيل: «هل» بمعنى «قد» ثمّ بيّن سبحانه الجنود [فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ] بدل من الجنود مع أنّه غير مطابق ظاهرا للمبدل منه في الجمعيّة لأنّ المراد قوم فرعون أي عرفت ما صدر منهم من التكذيب و ما وقع عليهم من التعذيب فذكّر قومك و أنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم لأنّهم قد سمعوا قصّة فرعون من أهل الكتاب و رأوا آثار هلاك قوم صالح لأنّها كانت في ممرّهم.

[بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا] من قومك [فِي تَكْذِيبٍ إضراب عن مماثلتهم لهم و بيان لكونهم أشدّ منهم في الكفر. و تنكير «تكذيب» للتعظيم فإنّهم يكذّبون بالقرآن الناطق و الصامت [وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ] محيط بهم بالقدرة من خلفهم و فيه بيان لعدم نجاتهم من بأس اللّه بحيث لا يجدون مهربا منه و هذه الإحاطة ليست كإحاطة الظرف بالمظروف و لا كإحاطة الكلّ بأجزائه بل كإحاطة الملزوم بلازمه فإنّ التعيّنات اللّاحقة لذاته

ص: 117

إنّما هي لوازم له بواسطة أو بغير واسطة و لا تقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم.

[بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ] أي ليس الأمر كما زعموا من تكذيب القرآن و هذا الّذي كذّبوا به قرآن شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهيّة و متضمّن للمكارم الدنيويّة و الاخرويّة.

[فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ] من التحريف و وصول الشياطين إليه و من النسخ و التحريف و النقصان و هذا المعنى على قراءة من رفع «محفوظ» و جعله صفة للقرآن و على قراءة من جرّه فجعله صفة للوح فالمعنى أنّه محفوظ عند اللّه لا يطّلع عليه غير بعض الملائكة و هو أمّ الكتاب و منه نسخ الكتب و القرآن و هو الّذي يعرف باللوح من درّة بيضاء طوله ما بين السماء و الأرض و عرضه ما بين المشرق و المغرب. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 118

سورة الطارق

اشارة

* (مكية)* من قرأها أعطاه بعدد كلّ نجم في السماء عشر حسنات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الطارق (86): الآيات 1 الى 17]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ (1) وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)

فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ (10) وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

الطارق إذا جاء ليلا، و أصل الطرق الدقّ و منه سمّيت المطرقة لأنّه يطرق بها الحديد و سمّي الطريق طريقا لأنّه يضرب بالرجل و سمّي قاصد الليل طارقا لاحتياجه إلى طرق الباب غالبا حيث إنّ الأبواب مغلقة باللّيل ثمّ اتّسع في كلّ ما ظهر بالليل كائنا ما كان حتّى اطلق على الصور الخياليّة البادية بالليل و المراد في الآية الكوكب البادئ بالليل، أقسم سبحانه بالسماء أو بربّ السماء و أقسم بالطارق.

ثمّ بيّن الطارق فقال: [وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ أي أيّ شي ء أعلمك بالطارق إلّا بالتلقّي من الخلّاق العليم كأنّه قيل: و ما هو؟ فقال: هو [النَّجْمُ الثَّاقِبُ الكوكب المضي ء لأنّه يثقب بإضاءته ما يقع عليه من الظلام.

[إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ] جواب للقسم و ما بينهما اعتراض و «إن» نافية

ص: 119

أي ما كلّ نفس من النفوس الطيّبة و الخبيثة إنسيّة أو وحشيّة إلّا عليها مهيمن و رقيب و هو اللّه كما قال (1): «وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً» أو المراد من الحافظ الملائكة يحفظ عملها و رزقها و أجلها، و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «وكّل بالمؤمن مائة و ستّون ملكا يذبّون عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب و لو و كل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين».

و قرئ «لما» مخفّفة على أنّ «إن» مخفّفة و ما مزيدة و اللام فاصلة بين المخفّفة و النافية أي إنّ الشأن كلّ نفس لعليها حافظ.

[فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ و ليتفكّر الإنسان الجاهل المنكر للنشور و الحشر [مِمَّ خُلِقَ من أيّ شي ء أصله حتّى يتّضح أنّ من قدر على إنشائه من نطفة فهو قادر على إعادته بل أقدر على قياس العقل فيعمل ليوم الإعادة ما ينفعه و يجديه لا ما يضرّه و يرديه.

[خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ استيناف وقع جوابا عن استفهام مقدّر كأنّه قيل: «ممّ خلق» فقيل: خلق من ماء ذي دفق و هو صبّ فيه دفع بسرعة و يجوز أن يكون دافق بمعنى المدفوق.

[يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ الصلب معناه الشديد و بهذا الاعتبار سمّي الظهر صلبا أي من بين ظهر الرجل و ترائب المرأة و هي عظام نحرها و ضلوع صدرها و كلّ عظم من ذلك ترئبة، و عن أمير المؤمنين عليه السّلام «بين الثديين» و أصل المنيّ هو الدم يتصاعد في خرزات الصلب و هناك مسكنه و منتضجه الحرارة فيستحيل أبيض فإذا امتلأت خرزات الظهر و هو الفقار طلب الخروج من مسلكه و هو عرقان متّصلان إلى الفرج و منهما ينزل و بين طريق المنيّ و طريق البول جلد رقيق يكاد لا يتشخّص من رقّته لئلّا يختلط المنيّ بماء البول فيفسد حرارة جوهره.

[إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ الضمير للخالق، على إعادته بعد موته [لَقادِرٌ] خلقه لإظهار قدرته ثمّ رزقه لإظهار كرمه فيميته لإظهار جبروته و يحييه ثانيا للثواب و العقاب.

ص: 120


1- سورة الأحزاب: 52.

[يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ] ظرف لرجعه، و لا يضرّ الفصل بالأجنبيّ للتوسّع في الظروف و إطلاق الإبلاء على الكشف و الوضوح من قبيل اسم السبب على المسبّب لأنّ الاختبار موجب للتعرّف و التميّز و قيل: المراد من السرائر الفرائض كالصوم و الصلاة و الزكاة و الغسل فإنّها سرّ بين العبد و بين ربّه في معيبها و صحيحها و إنّما تظهر صحّتها يوم القيامة فيبدئ اللّه ذلك اليوم كلّ سرّ فيكون زينا في وجوه و شينا في وجوه، فمن أدّى الأمانات و التكاليف كان وجهه مشرقا و من ضيّعها كان وجهه أغبر.

[فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ] أي ليس للإنسان من دافع من نفسه يمتنع بها من العذاب الّذي حلّ به و لا ناصر من خارج ينتصر به.

[وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ذات مؤنّث «ذو» بمعنى الصاحب و الرجع المطر سمّي رجعا لما أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثمّ يرجعه إلى الأرض و قيل: المراد بالرجع شمسها و قمرها و نجومها تغيب و تطلع، أو رجع السماء إعطاؤها الخير الّذي من جهتها حالا بعد حال على مرور الأيّام.

[وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ هو ما تتصدّع عنه الأرض من النبات و تشقّقها بالنبات و العيون، لأنّ النبات صادع للأرض فالسماء ذات الرجع كالأب و الأرض ذات الصدع كالأمّ و ما ينبت كالولد و المراد بيان منافعهما و أقسم بهما.

[إِنَّهُ أي القرآن [لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي كلام فاصل بين الحقّ و الباطل و القول كثيرا ما يكون بمعنى المقول، أتى بالمصدر مبالغة كأنّه نفس الفصل كما قال: (1) «الْفُرْقانَ»* بمعنى الفارق.

[وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ و اللعب، و الجدّ ضدّ الهزل أي كلّه جدّ محض، قال المولى إسماعيل الحقّيّ في روح البيان: إنّه يظهر من الآية أنّ من يؤمّ القرآن بهزل أو بتفكّه و مزاح يكفر، و في هداية المهديّين إذا أنكر رجل آية من القرآن أو سخر بها أو عابها فقد كفر، و من قرأ القرآن على ضرب الدفّ أو القصب أو ما شابهه فقد كفرر.

ص: 121


1- سورة البقرة: 185 و مواضع أخر.

حتّى قيل: لو يقال له: لم لم تقرء القرآن؟ فقال: سئمت منه، فهذا و أمثاله كلّه كفر فليجتنب المسلم عن مثل هذه الكلمات.

[إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً] في إطفاء نوره حسبما في قدرتهم [وَ أَكِيدُ كَيْداً] أي اقابلهم بكيد متين لا يمكن ردّه، و كيد المحدث الضعيف العاجز لا يقاوم جزاء القادر القويّ، و تسمية الجزاء بالكيد من باب المشاكلة و المقابلة في الكلام و إلّا فالكيد هو المكر و الاحتيال و لا يجوز إسناده إليه تعالى مرادا به معناه الحقيقيّ و تسمية جزاء الشي ء باسم ذلك الشي ء على سبيل المشاكلة شائع كثير.

[فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل بهم [أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] بدل من «مهّل» و التمهيل و الإمهال لغتان أي مهّلهم إمهالا قليلا فإنّ اللّه يجزيهم لا محالة إمّا بالقتل و الذلّ في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة قال ابن جنّيّ: قوله «مهّل الكافرين أمهلهم رويدا» غيّر اللفظ و الباب لأنّه آثر التأكيد و لم يعد، و انحرف عن التكرار بعض الانحراف، و انتقل عن لفظ فعّل إلى لفظ أفعل و غيّر الباب إرادة للتأكيد، و لتجشّم التثليث ترك اللفظ و أتى بالمعنى فقال: «رويدا» أي مهلة قليلة. و ما كان بين نزول هذه الآية و بين وقعة بدر إلّا زمان يسير.

حكي أنّ ابن السمّاك دخل على الرشيد فطلب هارون منه العظة فقال:

أيّها الخليفة لقد أمهل سبحانه حتّى كأنّه أهمل و لقد ستر حتّى كأنّه غفر ثمّ قال: هب كان الدنيا كلّها في يديك و الاخرى مثلها ضمّت إليك و كان الشرق و الغرب يجبى إليك فإذا جاء ملك الموت فما ذا في يديك؟ و قيل: إنّ هارون كان جالسا على حصير يستمع منه فقال ابن السمّاك: أيّها الخليفة لتواضعك في شرفك أفضل من شرفك و من اعطي مالا و جمالا و سلطانا و شرفا فتواضع في شرفه و عفّ في جماله و واسى في فضل ماله و عدل في سلطانه كتب في ديوان المخلصين، و اعلم أنّه لم يبق من لدن آدم إلى يومنا هذا أحد إلّا و ذاق الموت. قال هارون: زدني فقال ابن السمّاك: إنّهما موضعان إمّا جنّة و إمّا نار قال هارون: حسبي حسبي.

أقول: و ما كفته هذه المواعظ و ما تطلّب من ابن السمّاك المواعظ حقيقة

ص: 122

بل أراد أن يغرّ الناس بتطلّبه المواعظ، و غرضه اللعين التدليس و التمويه لتستّر نقائصه كما هو عادة أكثر أمراء زماننا حيث وجدوا عالما شرعوا في الاستفادة منه و العالم المغرور يزعم أنّه من أهل التقى فيغترّ بما يرى من ظاهر أحوالهم فيحسن ظنّه به و بأمثاله فيترتّب على صلاح ظاهره امور فيها فساد امّة بل إضلال أهل ملّة و ما حصل ذلك الفساد إلّا بسبب ذلك التدليس من هذا الإبليس و اغترار هذا العالم الجاهل بأحوال الناس فينبغي لمثله أن يكون حاديا للعيس لا متصدّرا للتدريس نسأل العصمة من مضلّات الفتن تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 123

سورة الأعلى

اشارة

* (مكية)* روي عن عليّ عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحبّ هذه السورة و أوّل من قال سبحان ربّي الأعلى: ميكائيل.

قال ابن عبّاس: إذا قرأ النبيّ هذه السورة قال: سبحان ربّي الأعلى و كذلك عليّ عليه السّلام.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن أبي خميصة عن عليّ عليه السّلام قال: صلّيت خلفه عشرين ليلة فليس يقرأ إلّا سبّح اسم ربّك الأعلى، و قال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة، و إنّ من قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى و إبراهيم الّذي وفّى.

ص: 124

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعلى (87): الآيات 1 الى 19]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)

فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى (7) وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)

سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)

وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى (19)

نزّه ربّك عمّا لا يليق به من الصفات المذمومة و الأفعال القبيحة كالعجز و الظلم و أمثاله. قال ابن عبّاس: أي قل: «سبحان ربّي الأعلى» و أراد بالاسم المسمّى و الأعلى معناه القادر الّذي لا قادر أقدر منه، القاهر لكلّ أحد و قيل: «الأعلى» صفة الاسم فيكون المعنى سبّح اللّه بذكر اسمه الأعلى، و أسماؤه الحسنى كلّها أعلى و المراد من العلوّ ليس علوّ الجهة سبحانه عن ذلك بل علوّ استحقاق لنعوت الجلال فمن عرف علوّه تذلّل و تواضع بين يديه و كذلك ينزّهه عن أن يطلق هذه الأسماء على غيره بوجه يشعر بتشاركهما فيها من أن تسمّى الصنم بالإله أو الربّ مثل تسمية العرب مسيلمة الكذّاب برحمن اليمامة بل لا يكثر القسم بذكر اسمه تعالى من غير مبالاة.

و في الحديث لمّا نزلت «فسبّح باسم ربّك العظيم» قال صلّى اللّه عليه و آله: اجعلوها في ركوعكم فلمّا نزل «سبّح اسم ربّك الأعلى» قال: اجعلوها في سجودكم و كانوا يقولون في الركوع: اللّهم لك ركعت، و في السجود: اللّهم لك سجدت.

و قد ذكر ما قبل هذا أنّ أوّل من قال: «سبحان ربّي الأعلى» كان ميكائيل

ص: 125

و ذلك أنّه خطر بباله عظمة الربّ فقال: يا ربّ أعطني قوّة النظر حتّى أنظر إلى عظمتك و سلطانك فأعطاه قوّة أهل السماوات فطار خمسة آلاف سنة حتّى احترق جناحه من نور العرش ثمّ سأل القوّة فأعطاه ضعف ذلك و جعل يرتفع عشرة آلاف سنة حتّى احترق جناحه من نور العرش و صار كالفرخ و رأى الحجاب و العرش على حاله فخرّ ساجدا و قال: «سبحان ربّي الأعلى» ثمّ سأل ربّه أن يعيده إلى مكانه و إلى حالته الأولى فعاد. و في الحديث «سبحان اللّه و الحمد للّه» يملآن ما بين السماوات و الأرض.

[الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى صفة اخرى للربّ خلق كلّ ذي روح فسوّى خلقه بأن جعل له ما به يتأتّى كماله و يتدبّر معاشه بالإحكام و الإتقان و قيل: المراد من الخلق الإنسان فسوّى و عدّل تركيبه و قامته و لم يجعله منكوسا كالبهائم و الدوابّ أو المعنى خلق الأشياء على موجب إرادته فسوّى صنعها لتشهد على وحدانيّته.

[وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى معطوف على الموصول الأوّل أي قدّر أجناس الأشياء و أنواعها و أفرادها و مقاديرها و أفعالها و أجالها بمقدار معلوم في جثّته و وضعه و لونه و طعمه و طبعه و كيفيّة ارتزاقه و يسّر له ما ينفعه و ألهمه ما يضرّه و لو تتّبعت أحوال النباتات و الحيوانات لرأيت في كلّ منها ما يحار فيه العقول.

يحكى أنّ الأفعى إذا بلغت ألف سنة عميت و قد ألهمها اللّه أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغضّ فيردّ إليها بصرها فربّما كانت عند عروض العمى لها في برّيّة بينها و بين الريف مسافة طويلة فتطويها على بعدها و على عماها حتّى تهجم على شجرة الرازيانج لا تخطئها فتحكّ عيناها بورقها فترجع باصرة.

و جعل لكلّ حيوان و نبات خصوصيّات مميّزة بعضها عن بعض و خاصيّة مثل أنّه تعالى خلق التمساح و ربّما بلغ طوله عشرين ذراعا يوجد في بحر مهران في السند و النيل كما في القاموس و هو يبيض في البرّ فما وقع من ذلك في الماء صار تمساحا و ما بقي في البرّ صار سقنقورا و يوجد في مصر شكلها كالوزغة على عظم خلقته و هو أنفس ما يهدى لملوك الهند فإنّهم يذبحونه بسكّين من الذهب و يحشونه بالملح

ص: 126

و يحملونها إليهم فإذا وضعوا مثقالا من ذلك على بيض أو لحم و أكل يقع ذلك نفعا بليغا للتقوية.

و من هداياته تعالى أنّ القطا و هو طائر معروف يترك فراخه ثمّ يطلب الماء من مسيرة عشرة أيّام و أكثر فيرده فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ثمّ يرجع فلا يخطئ لا ذهابا و لا إيابا قال الشاعر:

تميم بورب اللؤم أهدى من القطاو إن سلكت سبل الهداية ضلّت

حكي أنّ العقرب و الفارة إذا اجتمعتا في إناء زجاج و لم يتمكّن الفارة من الهرب لملاسة الزجاج قرضت الفارة إبرة العقرب فتسلم منها.

و حكي أنّ ابن عرس تبع فارة فصعدت الفارة شجرة و لم يزل يتبعها حتّى انتهت إلى رأس الغصن و لم يبق مهرب فنزلت على ورقة و عضّت طرفها و علّقت نفسها فعند ذلك صاح ابن عرس فجاءته زوجته فلمّا انتهت تحت الشجرة قطع ابن عرس الورقة الّتي عضّتها الفارة فسقطت فاصطادها ابن عرس الّذي كان تحت الشجرة.

و قد رئي أنّ الفارة تدخل ذنبها في قارورة الدهن و المايعات ثمّ تلحسه و إذا لم ينل ذنبها إلى الدهن هالت حصى صغارا من فم القارورة فيعلو الدهن فيتصل ذنبها إلى الدهن ثمّ تلحسه، و أمثال هذه العجائب في الحيوان كثيرة.

و الأعجب من هذا أنّه قيل: إنّ شجرة النخل يعرض لها العشق و تميل إلى نخلة اخرى فيخفّ حملها و تهزل، و علاجها أن يشدّ بينها و بين معشوقها الّذي مالت إليه بحبل أو يعلّق عليها سعفة منه أو يجعل فيها من طلعه فتجبر و تثمر و يرتفع هزالها.

قوله: [وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى الرعي بالكسر الكلاء بالفتح المصدر أي إنّه تعالى بقدرته أنبت ما ترعاه الدوابّ غضّا طريّا قال ابن عبّاس: المرعى الكلاء الأخضر.

[فَجَعَلَهُ بعد ذلك و بعد اخضراره [غُثاءً أَحْوى أي هشيما جافّا كالغثاء الّذي تراه فوق السيل من فتات الأرض «أحوى» أي أسود و إيراد الفاء في «فجعله» إشارة

ص: 127

إلى قصر مدّة الخضرة و فيه رمز إلى قصر مدّة العمر و سرعة زوال الدنيا و نعيمها فإنّ رتبة الحياة الدنيا و منافعها سريعة الفناء فإنّهما مرعى النفس الحيوانيّة كالهشيم و الحطام البالي الأسود.

[سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ضمان من اللّه أن يجعله بحيث لا ينسى و يحفظ القرآن للهداية و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل عليه جبرئيل بالوحي يقرؤه مخافة أن ينساه فلمّا نزلت هذه الآية لم ينس بعد ذلك شيئا.

[إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن ينسيكه برفع حكمه و نسخه، و قيل: معنى الاستثناء إمكان وقوعه و إن لم يقع منه مشيّة النسيان فهو كقوله (1): «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» و لا يشاء و كقول القائل: لأعطينّك كلّ ما سألت إلّا أن أشاء أن أمنعك و النيّة أن لا يمنعه، و من المعلوم أنّه فرق بين النسيان و الإنساء و أنّ اللّه قادر على إنسائه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد.

[إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى و هو عالم بما ظهر و ما بطن من القول و العمل و النيّة و رفع الصوت و همس الصوت أي يعلم ما جهرت به في قراءتك لحفظها و ما أخفيتها و تريد أن تنسيه و تحفظه.

[وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى عطف على «نقرئك» و اليسرى فعلى من اليسر و هو السهولة في عمل الخير لما في معنى «نيّسرك» من تضمّن معنى الخير و التوفيق و حاصل المعنى نوفّقك للشريعة اليسرى الحنيفة و نسهّل عليك الوحي و ما يثبتك على أمرك و تبليغك و لنسهّل عليك المستصعب من امور النبوّة و الرسالة.

[فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى فذكّر الناس ما أوحي إليك و اهدهم إن نفع التذكير، و تقييد التذكير بالنفع لأنّه صلّى اللّه عليه و آله يستفرغ جهده فيه حرصا على إيمانهم و كان لا يزيد ذلك بعضهم إلّا كفرا و عنادا فأمره بأن يخصّ التذكير بمن يرجى منه التذكير و لا يتعب نفسه في تذكير من لا يزيده إلّا عتوّا و نفورا و هذا كقوله (2): «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» و حرف الشرط راجع إلى النبيّ لا إلى اللّه. قال بعض أهل العربيّة

ص: 128


1- سورة يونس: 108.
2- سورة ق 45.

إنّ «إن» تجي ء مثبتة فتكون بدل «قد» و قيل: معنى الآية ذكّر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع و لم يذكر الحالة الثانية كقوله (1): «سرابيل تقيكم الحرّ».

[سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي سيتذكّر بتذكيرك من من شأنه أن يخشى اللّه و يتّعظ بالقرآن من يخاف عقابه.

[وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى و يتبعّد من الذكرى و لا يسمعها سماع القبول الزائد في الشقاوة لتوغّله في عداوة النبيّ أو المراد من الأشقى الكافر مطلقا لأنّه أشقى من الفاسق و الناس في أمر المعاد و القرآن على ثلاثة أقسام: منهم من قطع بصحّته و منهم من جوّز وجوده و لكنّه غير قاطع فيه لا بالنفي و لا بالإثبات و منهم من أصرّ على إنكاره و القسمان الأوّلان ينتفعون بالتذكير بخلاف الثالث.

[الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي يدخل الطبقة السفلى من طبقات النار و الكبرى اسم تفضيل تأنيث الأكبر و المفضّل هو ما في أسفل الدركات و المفضّل عليه ما في الدركات الّتي فوقها.

[ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها] حتّى يستريح [وَ لا يَحْيى حياة تنفعه بل تكون حياته و بالا عليه يتمنّى أن يموت لما هو فيها معها من فنون العذاب و يتعذّب مزيدا كلّما احترق و هلك أعيد إلى الحياة و عذّب فلا يكون ميّتا مطلقا و لا حيّا مطلقا.

[قَدْ أَفْلَحَ و نجا من المكروه [مَنْ تَزَكَّى و تطهّر من الكفر و المعاصي باتّعاظه بالذكرى أو تكثر من التقوى، من الزكاء و هو النماء، قال ابن مسعود: أي أعطى زكاة ماله و صلّى، أراد زكاة الفطرة و صلاة العيد.

[وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بقلبه و لسانه [فَصَلَّى و أقام الصلاة الخمس، قال ابن عبّاس أي وحّد اللّه و قيل: ذكر اللّه بقلبه عند صلاته و قيل: المراد ذكر اسم ربّه بلسانه عند دخوله في الصلاة أي قال: اللّه أكبر و قيل: هو أن يفتتح ببسم اللّه الرحمن الرحيم ثمّ يصلّي قال اللّه سبحانه: إنّ لي مع المصلّين ثلاث امور: أحدها تنزل الرحمة من عنان السماء إلى مفرق رأسه مادام في صلاته، و الثاني حفّته الملائكة بأجنحتها، و الثالث

ص: 129


1- سورة النحل: 81.

أناجي معه كلّما قال: يا ربّ! أقول: لبّيك، انتهى.

فلو قيل: إذا كان المراد من الآية زكاة الفطرة و صلاة العيد كيف يكون و السورة مكيّة بالإجماع و لم يكن بمكّة عيد و لا صدقة فطر؟

فالجواب أنّه لمّا كان في علم اللّه أنّ ذلك سيكون أثنى اللّه على من فعل ذلك فإنّه قد يخبر بما سيكون.

[بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا] إضراب عن مقدّر ينساق إليه الكلام كأنّه قيل:

لا يفعلون ذلك بل تختارون اللّذّات العاجلة و تسعون لتحصيلها و ترجّحون جانب الدنيا على الآخرة مع أنّ في حلالها حسابا و في حرامها عذابا.

[وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى حال من فاعل «تؤثرون» مؤكّدة للتوبيخ أي تؤثرونها على الآخرة مع أنّ الآخرة سعادة أبديّة و الدنيا مبغوضة و مبغوض ما فيها إلّا ذكر اللّه.

[إِنَّ هذا] إشارة إلى ما ذكر [لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى جمع صحيفة و هي الكتاب. و الصحيفة المبسوط من كلّ شي ء كصحيفة الوجه و المعنى أنّ تطهير النفس عن رذائل الشرك و تكميل الروح بالمعارف الإلهيّة و الجوارح بالطاعة و الإعراض عن ملهيات الدنيا لا يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع بل هذا التكليف ثابت و لا يختلف باختلاف الأنبياء، فالاصول متّحدة من لدن آدم و إنّما الاختلاف في بعض الفروع الّتي هي الشرائع و الشروط «إنّ الدين عند اللّه الإسلام (1)» فإن كان تغيير و تبديل فبالكيفيّة و الترتيب.

[صُحُفِ جدّك [إِبْراهِيمَ الخليل [وَ مُوسى أخيك الكليم. تمّت السورة.

ص: 130


1- سورة آل عمران: 19.

هذه

سورة الغاشية

اشارة

* (مكية)* من قرأها حاسبه اللّه حسابا يسيرا و من أدمنها في فرائضه و نوافله غشاه اللّه برحمته في الدنيا و الآخرة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الغاشية (88): الآيات 1 الى 26]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)

تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)

فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)

وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)

وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)

إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)

[الْغاشِيَةِ] المجلّلة للجميع، الجملة خطاب للنبيّ يريد امّته قيل: إنّ «هل» في الآية بمعنى قد أي قد جاءك يا محمّد حديث الغاشية. قال المولى أبو السعود في الإرشاد:

و ليس بذاك بل هو استفهام أريد به التعجّب إشعارا بأنّه من الأحاديث العجيبة الّتي حقّها أن يتناقلها الرواة، و الغاشية الشديدة الّتي تغشى الناس و هي القيامة لأنّها تغشى الناس أهوالها تغشية و قيل: الغاشية نار تغشى وجوه الكفّار بالعذاب كقوله: (1)

ص: 131


1- سورة إبراهيم: 51.

«تغشى وجوههم النار».

[وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ] لعلّ وجه الابتداء بالنكرة كون تقدير الكلام: أصحاب وجوه، و لمّا كان الذلّ و الخشوع يظهران في الوجه حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و قيل: المراد بالوجوه الكبراء مثل قولك: جاءني وجوه بني تميم أي سادتهم و كبراؤهم و عنى به وجوه الكفّار لأنّها تكبّرت عن عبادة اللّه بدلالة ما بعده من الأوصاف.

[عامِلَةٌ ناصِبَةٌ] و المعنى أنّ أصحاب تلك الوجوه لمّا لم يعملوا للّه في الدنيا و لم يشتغلوا بعبادته فاعملها و اتبعها في النار بمعالجة السلاسل و الأغلال و قيل:

يكلّفون ارتقاء جبل حديد في النار قال الكلبيّ: يخرّون على وجوههم في النار و قيل: معناه أنّ المراد «عاملة» في الدنيا بالمعاصي «ناصبة» في النار بالعذاب و قيل: المراد «عاملة ناصبة» في الدنيا أي يعملون في الدنيا و يتعبون أنفسهم على خلاف ما أمرهم مثل أرباب البدع و الّذين يخترعون من عند أنفسهم عبادة شاقّة محرّمة برأيهم الباطل من غير أن يكون فيها للّه رضى. قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

المراد كلّ ناصب لنا بالعداوة و إن تعبّد و اجتهد في عبادته يؤول أمره إلى هذا العذاب.

[تَصْلى ناراً حامِيَةً] تذوق ألمها قد حميت فهي تتلظّى على أعداء اللّه و يلتزمون الاحتراق بالنار الّتي في غاية الحرارة [تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ] من عين متناهية بالغة في الآني أي الحرّ لتسخينها بتلك النار منذ خلقت لو وقعت قطرة منها على جبال الدنيا لذابت و إذا أدنيت من وجوههم تناثرت لحومها و إذا شربوا قطّعت أمعاؤهم يقال: أنى الحميم أي انتهى حرّه فهو آن و بلغ هذا إناه أي غايته.

[لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ بعد أن بيّن شرابهم ذكر طعامهم و الضريع يبيس الشبرق كزبرج و هو شوك يرعاه الإبل مادام رطبا و إذا يبس نحا منه و هو سمّ قاتل، و سمّي ذلك الشوك ضريعا لأنّه مضعف و مهزل غاية يقال: ضرع الرجل

ص: 132

ضراعة أي ذلّ و ضعف قال ابن عبّاس: الضريع في جهنّم شي ء تشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّا من النار هذا طعام بعض أهل النار و الزقّوم و الغسلين لآخرين بحسب جزائهم و به يرفع التعارض بين هذه الآية و بين آية «الحاقّة» و هي قوله (1): «و لا طعام إلّا من غسلين».

[لا يُسْمِنُ ذلك الضريع [وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ كما هو عادة طعام الدنيا روي أنّه تعالى يسلّط عليهم الجوع بحيث يضطرّون إلى أكل الضريع فإذا أكلوا يسلّط عليهم العطش فينظرون إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم و يقطع أمعاؤهم و تنكير الجوع للتحقير أي من جوع ما، و كرّر النفي للتأكيد.

[وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ] أي ذات بهجة و حسن و ضياء مثل البدر أو متنعّمة في أنواع اللذائذ [لِسَعْيِها] في الدنيا [راضِيَةٌ] حين أعطيت الجنّة بعملها و راضية في مقابلة سعيها من الطاعات و العبادات في الدنيا فرضوا و حمدوا اللّه.

كائنين [فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ] مرتفعة القصور و الدرجات [لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً] أنت أيّها المخاطب أو التاء تاء التأنيث لا الخطاب أي أصحاب الوجوه فيها أي في الجنّة «لاغية» كلمة ساقطة لا فائدة فيها أو ذات لغو كقولهم: نابل و دارع أي ذو نبل و درع.

[فِيها] أي في تلك الجنّة [عَيْنٌ جارِيَةٌ] اسم جنس و لكل إنسان في قصره عيون كثيرة و التنوين للتكثير تجري مياهها على الدوام و هي أشدّ بياضا من اللبن و أحلى من العسل من شرب منها لا يظمأ بعدها أبدا و يذهب من قلبه جميع المكاره.

[فِيها سُرُرٌ] يجلسون عليها روي أنّه لكلّ واحد سبعمائة سرير على كلّ سرير حوريّة خلقها اللّه له [مَرْفُوعَةٌ] رفيعة السمك أي عالية في الهواء على قوائم طوال فإنّ السمك هو الامتداد الآخذ من أسفل الشي ء إلى أعلاه فيرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربّه من النعيم الكثير في الجنّة و الملك العظيم قال صلّى اللّه عليه و آله: «ارتفاعها كما بين

ص: 133


1- سورة الحاقة: 36.

السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام، فإذا جاء وليّ اللّه ليجلس عليها تطامنت له فإذا استوى عليها ارتفعت».

[وَ أَكْوابٌ الكوب إناء لا عروة له و لا خرطوم مدوّر الرأس ليمسك من أيّ طرف أريد [مَوْضُوعَةٌ] بين أيديهم حاضرة و هو لا ينافي أن يكون بعض الأقداح في أيدي الغلمان لأنّ النعم في الجنّة أطوار و أقسام.

[وَ نَمارِقُ أي وسائد يستندون إليها للاستراحة و التنفّس في الراحة [مَصْفُوفَةٌ] بعضها إلى جنب بعض و على رأسه و صائف كأنّهنّ الياقوت و المرجان.

[وَ زَرابِيُ أي بسط فاخرة جمع زربيّ ضرب من الثياب محبّر منسوب إلى موضع على طريق التشبيه و الاستعارة [مَبْثُوثَةٌ] أي مبسوطة على السرر زينة و تمتّعا، و أصل البثّ إثارة الشي ء و تفريقه.

[أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الهمزة للإنكار و التوبيخ و الفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام أي أ ينكرون من البعث و أحكامه و يستبعدون وقوعه عن قدرة اللّه.

أفلا ينظرون نظر اعتبار إلى الإبل الّتي هي نصب عينهم يستعملونها كلّ حين في عظم جثتها و شدّة قوّتها من الأفاعيل الشاقّة كالنهوض بالأوقار الثقيلة و جرّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة و في صبرها على الجوع و العطش حتّى أنّ ظماءها ليبلغ العشر و اكتفائها باليسير مع هذه الجثّة العظيمة و رعيها لكلّ ما تيسّر من شوك و شجر ممّا لا يرعاه سائر البهائم و في انقيادها للإنسان في الحركة و السكون و النهوض حتّى يقتادها طفل أين ما يشاء يذهب بها.

حكي أنّ فأرة أخذت بزمام ناقة فأخذت تجرّها و هي تتبعها حتّى دخلت حجرها فجرّت الزمام فبركت الناقة فجرّت فقرّبت الناقة فمها من حجر الفارة.

و تتأثّر الإبل من المودّة و الغرام و تسكر منهما إلى حيث تنقطع عن الأكل و الشرب زمانا ممتدّا، و تتأثّر من الأصوات الحسنة و الحداء و تصير من

ص: 134

كمال التأثّر إلى أن يهلك نفسها من سرعة الجري و يجري الدمع في عينها غراما. و فيها من الفائدة من النسل و الحمل و اللبن و الركوب، فبيّن لهم سبحانه هذه الخلقة العجيبة النافعة ليستدلّوا بها على قدرته في ما خلق من النعمة لأهل الجنّة فلا يستبعدونها.

[وَ إِلَى السَّماءِ] الّتي تشاهدونها [كَيْفَ رُفِعَتْ رفعا بغير عماد و لا مساك بحيث لا يناله الفكر و الوهم.

[وَ إِلَى الْجِبالِ الّتي ينزلون في أقطارها و ينتفعون بمياهها و كلائها و أشجارها [كَيْفَ نُصِبَتْ نصبا رصينا فهي راسخة لا يمتدّ أوتادا للأرض قيل: و فيه إشارة إلى عالم المثال لأنّه متوسّط بين سماء الروحانيّات و أرض الجسمانيّات.

[وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ سطحا مبسوطا حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق و لو لا ذلك التسطّح لما صحّ الاستقرار عليها و الانتفاع منها و لو تفكّروا و تدبّروا فيها لعلموا أنّ لهم صانعا صنعهم و موجدا أوجدهم.

و لمّا ذكر سبحانه الأدلّة أمر نبيّه التذكير بها فقال: [فَذَكِّرْ] الفاء لترتيب الأمر بالتذكير فقال: و اقتصر على التذكير و لا يمنعك أنّهم لا يتذكّرون [إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ] أي مبلّغ [لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ] أي لست بمسلّط تجبرهم على ما تريد كقوله (1): «و ما أنت عليهم بجبّار» و قرئ بالصاد على القلب لمناسبة الطاء بعدها أي لست عليهم بحافظ و قائم إنّما الواجب عليك الإنذار، و إن كان هذا الأمر قبل نزول آية الجهاد.

[إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ] أي أعرض عن الذكر و لم يقبل منك و كفر باللّه و بما جئت به فكل أمره إلى اللّه و قيل: معناه «إلّا من تولّى و كفر» فلست له بمذكّر لأنّه لا يقبل منك فكأنّك لست تذكّره و قيل: إنّ الاستثناء منقطع و هو الأظهر أي لكن من تولّى و كفر و «من» موصولة لا شرطيّة.

[فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ] الّذي هو عذاب جهنّم حرّها شديد و قعرها

ص: 135


1- سورة ق: 44.

بعيد و مقامع من حديد و في الآية تنبيه على أنّ كلّ عذاب يعذّب الكافر من القتل و الأسر في الدنيا و في البرزخ صغير في جنب عذاب الآخرة.

[إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أي إلينا رجوعهم بالموت و البعث لا إلى أحد سوانا. و في تقديم الخبر تخصيص و مبالغة في شدّة عذابهم و جمع الضمير باعتبار معنى «من» و إفراده باعتبار لفظها.

[ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ في المحشر فنحن نحاسبهم على النقير و القطمير.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 136

سورة الفجر

اشارة

* (مكية)* روى داود بن فرقد عن الصادق عليه السّلام قال: اقرؤا سورة الفجر في فرائضكم و نوافلكم فإنّها سورة الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من قرأها كان معه يوم القيامة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفجر (89): الآيات 1 الى 30]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)

هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)

وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)

فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)

وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)

فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29)

وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (30)

المعنى: لمّا كان العرب أكثر خلق اللّه قسما في كلامهم جاء القرآن على

ص: 137

عادتهم في القسم، أقسم بالفجر و الفجر فجران: فجر مستطيل كذنب السرحان و هو الكاذب و لا يتعلّق به حكم و فجر مستطير و هو الصادق الّذي يتعلّق به الأحكام كالصوم و الصلاة.

أقسم اللّه بالفجر الّذي هو أوّل وقت ظهور ضوء الشمس في جانب المشرق كما أقسم بالصبح حيث قال: «و الصبح إذا تنفّس» و قيل: المراد فجر يوم عرفة لأنّه يوم شريف يتوجّه فيه الحجّاج إلى جبل عرفات و قيل: صباح يوم النحر لأنّه يوم عظيم و يقع فيه الطواف المفروض و الحلق و الرمي و قيل: المراد فجر ذي الحجّة لأنّ اللّه قرن الأيّام بها فقال: «و ليال عشر» و هي عشر ذي الحجّة و قيل: فجر أوّل المحرّم و قيل: أراد من الفجر النهار كلّه.

[وَ لَيالٍ عَشْرٍ] يعني العشر في ذي الحجّة و قيل: المراد من ليالي العشر العشر الأواخر من شهر رمضان و يمكن أن يكون المراد من الليالي أيّامها و العرب تذكّر الليالي و هي تعنيها بأيّامها تقول: بني هذا البناء ليالي السامانيّة أي أيّامهم و قيل:

العشر الأواسط من شعبان و فيها ليلة البراءة و البرات و الصكّ و قيل: هي ستّ ليال خلق اللّه في أيّامها السماوات و الأرض و ليلة خلق فيها آدم و ليلة كلّم اللّه فيها موسى و ليلة اسري بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ليلة يومها يوم القيامة.

[وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ] و أقسم سبحانه بكلّ عدد يكون زوجا و فردا و العدد لا يكون خارجا منهما قال أبو مسلم: هو تذكير بالحساب لعظم ما فيه من النفع. و قيل:

«الشفع و الوتر» كلّ ما خلقه اللّه لأنّ جميع الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد. و قيل:

الشفع الخلق لأنّه قال: «و خلقناكم أزواجا» و الوتر اللّه تعالى و هي رواية أبي سعيد الخدريّ. و قيل: «الشفع و الوتر» الصلاة منها شفع و منها وتر و هي رواية ابن حصين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة و هي رواية جابر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. و قيل: الشفع صفات المخلوقين و تضادّها مثل الذلّ و العزّ و الوجود و العدم و القدرة و العجز و العلم و الجهل و الحياة و الموت، و الوتر صفة اللّه إذ هو الموجود

ص: 138

لا يجوز عليه العدم و القادر لا يجوز عليه العجز و العالم لا يجوز عليه الجهل و الحيّ لا يجوز عليه الموت. و قيل: الشفع عليّ و فاطمة عليهما السّلام و الوتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام. و قيل: كلّ نبيّ له اسمان مثل محمّد و أحمد و المسيح و عيسى و يونس و ذي النون هو الشفع، و كلّ من له اسم واحد مثل آدم و نوح و إبراهيم و مسجد مكّة و المدينة هو الوتر.

قوله: [وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ] جنس الليل إذا يمضي و يدبر ففي تيسيره على المقادير المرتّبة و مجيئه بالضياء عند تقضّيه دليل على أنّ خالقه و مدبّره يختصّ بالعزّ و الجلال و السري سير الليل و قيل: المراد من الليل ليلة مخصوصة من الليل لا الجنس قيل: إنّها المزدلفة لاختصاصها باجتماع الناس فيها بطاعة اللّه و فيها يسري الحاجّ من عرفة إلى المزدلفة ثمّ يصلّي الغداة فيها و يغدو منها إلى منى.

فإن قيل: القسم بالليل إذا يسر بناء على الجنس يعني عن القسم بليال عشر.

فالجواب إنّ المقسم به في قوله: «و الليل إذا يسر» باعتبارات و في قوله:

«و ليال عشر» باعتبارات و خصوصيّات اخرى فلا يغني أحدهما عن الآخر و يجوز أن يكون المعنى: و الليل إذا يسر يعني يسري فيه الساري و يسير فيه السائر فإسناد السري إلى الليل مجاز مثل قولك: «نهاره صائم و ليله قائم» أي صائم في نهاره و حذفت الياء اكتفاء بالكسر و لسقوطها في خطّ المصحف و لموافقة رؤس الآي و إن كان الأصل إثباتها لأنّها لام الفعل من المضارع و هو مرفوع.

[هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ] أي هل في ما ذكر من الأقسام مقنع لذي لبّ، و في الآية تقرير لفخامة شأن المقسم بها و كونها أمورا جليلة حقيقة بالإعظام.

[أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ] جملة معترضة بين القسم و جوابه و جواب القسم محذوف تقديره ليعذّبنّ الكفّار و إنّما حذف لدلالة هذه الجملة عليه أي ألم تعلم يا محمّد علما يقينيّا جاريا مجرى الرؤية في الوضوح بإعلام اللّه و بالتواتر كيف عذّب ربّك عادا و نظائرهم فسيعذّب كفّار قومك أيضا.

ص: 139

و المراد بعاد أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السّلام قوم سمّوا باسم أبيهم كما سمّي بنو هاشم هاشما و بنو تميم تميما فلفظ «عاد» اسم للقبيلة المنتسبة إلى عاد و قد قيل لأوائلهم عاد الاولى و لأواخرهم عاد الأخيرة قال عماد الدين:

كلّ ما ورد في القرآن خبر عاد الاولى إلّا ما في سورة الأحقاف.

[إِرَمَ عطف بيان لعاد للإيذان بأنّهم عاد الاولى بتقدير مضاف أي أولاد إرم أو أهل إرم بناء على أنّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم و يؤيّده القراءة بالإضافة و أيّا ما كان فامتناع صرفها للتعريف و التأنيث. قال سعيد بن المسيّب و عكرمة: البلد كان دمشق و قال محمّد بن كعب القرظيّ: هو مدينة إسكندريّة. و قيل: مدينة بناها شدّاد ابن عاد فلمّا أتمّها و أراد أن يدخلها أهلكه اللّه بصيحة نزلت من السماء و الأرآم أعلام تبنى من الحجارة «و إرم ذات العماد» إشارة إلى أعلامها المرفوعة المزخرفة على هيئة المنارة أو على هيئة القبور.

[ذاتِ الْعِمادِ] صفة لإرم و اللام للجنس الشامل للقليل و الكثير و العماد كالعمود و الجمع عمد بفتحتين و بضمّتين و أعمدة، أي ذات القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالعمود أو المراد ذات الخيام و الأعمدة حيث كانوا بدويّين و كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم أو المراد ذات البناء الرفيع و كانوا ذات أبنية مرفوعة على العمد و كانوا يعالجون الأعمدة العظيمة فينصبونها و يبنون فوقها القصور و كانت بيوتهم ترى من أرض بعيدة و ذوات الأساطين و هذا على أنّ إرم اسم بلدتهم.

قال السهيليّ: «إرم ذات العماد» هو جيرون بن سعد بن إرم و هو الّذي بنى مدينة دمشق على عمد من رخام أدخل فيها أربعمائة ألف و أربعين ألف عماد من رخام و كانت تسمّى جيرون و به تعرف ثمّ سمّيت دمشق بدمشق بن نمرود.

[الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ] صفة اخرى لإرم و إذا كان اسم القبيلة فالضمير لها أي لم يخلق مثل هذه القبيلة في عظم جثّتهم في القوّة في النواحي و الآفاق حيث كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع و كان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها و يلقيها

ص: 140

على الحيّ فيهلكهم و ليس كلّ الناس كذلك بل كان هذا الاختصاص بقبيلتهم و نظيرهم في الطيور الرخ و هو طير في جزائر الصين يكون جناحه الواحد عشرة آلاف باع يحمل حجر في رجله كالبيت العظيمة و يلقيه على السفينة في البحر و قيل: المراد من قوله: «الّتي لم يخلق مثلها في البلاد» أي لم يخلق مثل مدينتهم في بلاد الدنيا فالضمير راجع إلى البلدة.

و مجمل قصّة إرم قال وهب بن منبّه: خرج عبد اللّه بن قلابة في طلب إبل له شردت فبينا هو في الصحاري إذ هو وقع في مدينة في تلك الفلوات عليها حصن و حول الحصن قصور كثيرة و أعلام طوال فلمّا دنا منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله فنزل عن دابّته و عقلها و سلّ سيفه و دخل من باب الحصن فلمّا دخل الحصن فإذا هو ببابين عظيمين لم ير مثلهما و البابان مرصّعان بالياقوت الأبيض و الأحمر فلمّا رأى ذلك دهش ففتح إحدى البابين و إذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها و إذا هو قصور و كلّ قصر فوقه غرف و فوق الغرف غرف مبنيّة بالذهب و الفضّة و اللؤلؤ و الياقوت ثمّ نظر إلى الأزقّة فإذا هو بشجر في كلّ زقاق منها قد أثمرت و تحت الأشجار أنهار مطّردة تجري ماؤها في مجاري من فضّة فقال الرجل: و الّذي بعث محمّدا بالحق ما خلق اللّه مثل هذه في الدنيا و إنّ هذه هي الجنّة الموعودة فحمل معه شيئا من لؤلؤها و من بنادق المسك و الزعفران و لم يستطع أن يقلع من جواهرها أصلا لرصاصة بنائها و خرج و رجع إلى اليمن فأظهر ما كان معه و علم الناس بأمره فلم يزل ينمو حتّى بلغ خبره إلى معاوية فأرسل في طلبه حتّى قدم عليه فقصّ عليه القصّة.

[وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ] و كيف فعل بثمود الّذين قطعوا الصخر و نقّبوها بالوادي الّذي كانوا نازلين فيه. الجوب القطع، و منه سمّي الحبيب.

و الصخر الحجر الصليب الشديد. و الواد أصله الوادي حذفت ياؤه اكتفاء بالكسرة و رعاية لرأس الآي و المراد بالواد وادي القرى بالقرب من المدينة الشريفة من جهة الشام و أنّهم أوّل من نحت الصخور و الجبال و اتّخذوا فيها لهم بيوتا.

ص: 141

[وَ فِرْعَوْنَ أي كيف فعل بفرعون موسى و هو الوليد بن مصعب بن ريّان ابن ثروان أبو العبّاس القبطيّ و إليه تنسب الأقداح العبّاسيّة [ذِي الْأَوْتادِ] وصف بذلك لكثرة جنوده و خيامه الّتي يضربونها في منازلهم و يربطونها بالأوتاد و الأطناب أو لتعذيبه بالأوتاد.

روي عن ابن عبّاس أنّ فرعون إنّما سمّي ذا الأوتاد لأنّ امرأة خازن حزبيل كانت ماشطة هيجل بنت فرعون و كان حزبيل مؤمنا يكتم إيمانه منذ مائة سنة و كذا امرأته فبينا هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت:

تعس من كفر باللّه تعالى فقالت ابنة فرعون: و هل لك إله غير أبي؟ فقالت: إلهي و إله أبيك و إله السماوات و الأرض واحد لا شريك له، فقامت و دخلت على أبيها و هي تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: إنّ الماشطة امرأة خازنك كذا تقول، فأرسل إليها فسألها عن ذلك فقالت: صدقت فقال لها: ويحك اكفري بإلهك قالت: لا أفعل فمدّها بين أربعة أوتاد ثمّ أرسل عليها الحيّات و العقارب و قال لها: اكفري باللّه و إلّا عذّبتك بهذا العذاب شهرين فقالت: لو عذّبتني سبعين شهرا ما كفرت به و كانت لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها عندها و قال لها: اكفري بإلهك و إلّا ذبحت الصغرى أيضا و كانت رضيعا فقالت: لو ذبحت من في الأرض ما كفرت باللّه تعالى فأتى بابنتها فلمّا أضجعت على صدرها و أرادوا ذبحها جزعت المرأة فأطلق اللّه لسان ابنتها فتكلّمت و هي من الأربعة الّذين تكلّموا أطفالا و قالت: يا امّاه لا تجزعي فإنّ اللّه قد بنى لك بيتا في الجنّة اصبري فإنّك تفضين إلى رحمة اللّه فذبحت فلم تلبث أن ماتت فأسكنها اللّه إلى جوار رحمته.

و كان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت في نفسها: كيف يسعني أن أصبر على ما يفعل فرعون و أنا مسلمة و هو كافر، فبينما هي تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها فقالت: يا فرعون أنت شرّ الخلق و أخبثهم عمدت إلى الماشطة فقتلتها قال فرعون: فلعلّك بك الجنون الّذي كان بها قالت: ما بي من جنون و

ص: 142

إنّما المجنون من يكفر باللّه الّذي له ملك السماوات و الأرض فمدّها بين أربعة أوتاد يعذّبها ففتح اللّه لها بابا إلى الجنّة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت: (1) «ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنّة و نجّني من فرعون و عمله» فقبض اللّه روحها و أسكنها الجنّة.

[الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ] أي عادا و ثمود و فرعون تجبّروا في البلاد على أنبياء اللّه و عملوا فيها بمعصية اللّه [فَأَكْثَرُوا فِيهَا] في البلاد [الْفَسادَ] من القتل و المعصية.

ثمّ بيّن ما فعله بهم عاجلا قال: [فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ السوط الجلد المفتول الّذي يضرب به و هو عبارة عمّا حلّ بهم من فنون العذاب و هي الريح لعاد و الصيحة لثمود و الغرق للقبط و تسميته سوطا للإشارة إلى أنّ ذلك بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في الآخرة بمنزلة السوط.

قال أبو حيّان: استعير السوط للعذاب لأنّه يقتضي التكرار و الترداد ما لا يقتضيه السيف، و السوط عند العرب أشدّ العذاب لأنّ فيه الذلّة و التعبير عن إنزال العذاب بالصبّ للإيذان باستمراره و تتابعه و كثرته و نسبة العذاب إلى السوط و بالصبّ لبيان التتابع المتدارك على المضروب بقطرات المصبوب.

[إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ] المرصاد المكان الّذي يترقّب فيه الراصدون مفعال من رصده كالميقات من وقته، و الباء للظرفيّة، إنّه لفي المكان الّذي تعبر فيه السابلة و ليس مصيرهم إلّا إلى اللّه، شبّه سبحانه ترقّبه على أعمالهم بحال من قصد على طريق القافلة يترصّدهم ليظفر بالجائي لأخذ المكسّ (2) و لا مخلص لهم من العبور إلّا إلى ذلك الطريق و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد و روي عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: إنّ على جسر جهنّم سبع محابس يسأل العبد عندها أوّلها عن شهادة أن لا إله إلّا اللّه فإنّ جاء بها تامّة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاةة.

ص: 143


1- سورة التحريم: 11.
2- اى مال التجارة.

فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابعة فيسأل عن الصوم فإن جاء به تامّا جاز إلى الخامس فيسأل عن الحجّ فإن جاء به تامّا جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم فإن خرج منها و إلّا يقال له: انظروا فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنّة و إلّا تردّى.

ثمّ قسّم سبحانه أحوال البشر فقال:

[فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى و اليسار [فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ و أعطاه النعمة [فَيَقُولُ مفتخرا: [رَبِّي أَكْرَمَنِ فيفرح بذلك و يسرّ و يقول: ربّي أعطاني هذا لكرامتي عنده و منزلتي لديه يحسب أنّه كريم على ربّه حيث وسع الدنيا عليه.

[وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ و امتحنه و جعل رزقه على قدر كفايته أو قوت يومه [فَيَقُولُ متضجّرا: [رَبِّي أَهانَنِ أي أذلّني بالفقر و لا يخطر بباله أنّ ذلك ليبلوه أ يصبر أم يجزع مع أنّه ليس من الإهانة في شي ء بل هو مصلحة راجعة إلى العبد.

فقال سبحانه: [كَلَّا] أي ليس الأمر كما ظنّ فإنّي لا اغني المرء لكرامته عليّ و لا أفقره لمهانته عندي و لكنّي اوسّع على من أشاء بحسب ما يوجبه الحكمة و إنّما الإكرام على الحقيقة يكون بالطاعة و الإهانة بالمعصية.

ثمّ بيّن سبحانه ما يستحقّ به الهوان فقال: [بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ انتقال من سوء أقواله إلى سوء أفعاله أي بل لكم أحوال أشدّ شرّا ممّا ذكر و أدلّ على تهالككم حيث أعطاكم اللّه المال فلا تؤدّون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالنفقة، و اليتيم من بني آدم الّذي فقد أباه و كان غير بالغ و من البهائم ما فقد امّه قال صلّى اللّه عليه و آله: «أحبّ البيوت إلى اللّه بيت فيه يتيم مكرم».

[وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ بحذف إحدى التاءين و الحضّ الحثّ أي لا تحثّون على إطعامه و لا تأمرون بالتصدّق عليه و من لا يحضّ غيره على إطعامه فبأن لا يطعمه بنفسه أولى، فالمعنى أن لا تطعمون مسكينا و لا تأمرون بإطعامه غيركم.

ص: 144

[وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا] قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر اميّة بن خلف فكان يدفعه عن حقّه فنزلت. و التراث أصله «وراث» قلبت واوه تاء مثل تجاه أصله و جاه، أي تأكلون الميراث أكلا مجموعا بين الحلال و الحرام فإنّهم كانوا لا يورّثون النساء و الصبيان و يأكلون أنصباءهم أو المعنى أنّهم يأكلون ما جمعه المورّث من حلال و حرام و مشتبه عالمين بذلك و لا يبالون و قيل: المراد أموال اليتامى و لم يرد الميراث الحلال لأنّه لا يلام عليه، و أكلا لمّا يعنى تلمّون جميعه نصيبكم و نصيب غيركم و تأكلونه.

[وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا] كثيرا مع حرص و شره و منع حقوق يقال:

جمّ الماء في الحوض إذا اجتمع فيه و كثر.

[كَلَّا] ردع و إنكار أن يكون الأمر كذلك في الحرص على الدنيا و عدم المبالات في الحرام و ترك المواساة منها و توهّم أن لا حساب و لا جزاء و إيثار الحياة الفانية على الحياة الدائمة [إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا] تعليل للردع «الدكّ» الدّق و الكسر و حطّ المرتفع بالبسط، و دكّا الثاني ليس تأكيدا للأوّل بل هو دكّ آخر سوى الأوّل و المعنى: إذا دكّت الأرض دكّا متتابعا و ضرب بعضها ببعض حتّى انكسر و ذهب كلّ ما على وجهها و زلزلت زلزلة بعد زلزلة و صارت هباء منثورا و هو عبارة عمّا عرض لها عند النفحة الثانية.

[وَ جاءَ رَبُّكَ أي أمر ربّك و آثار قهره و قضاؤه، على حذف المضاف و قال بعض المحقّقين: المعنى و جاء ظهور ربّك الظهور المعرفة به ضرورة و ظهور المعرفة بالشي ء يقوم مقام ظهوره و رؤيته لأنّ المعارف باللّه صار ذلك اليوم ضروريّة و يرتفع الشكّ كما يرتفع عند مجي ء الشي ء الّذي كان يشكّ فيه، جلّ و تقدّس عن المجي ء و الذهاب لأنّه ليس بجسم تعالى عن ذلك.

[وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا] أي يجي ء الملائكة حالكونهم مصطفّين فإنّه ينزل يومئذ ملائكة كلّ سماء فيصطفّون سبع صفوف عدد السماوات السبع اصطفاف أهل الصلاة في الدنيا.

ص: 145

[وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قال ابن مسعود: تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام معه سبعون ألف ملك يجرّونها حتّى تنصب على يسار العرش لها تغيّظ و زفير فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع و يجثو كلّ نبيّ و وليّ من الهول و الهيبة على ركبته و يقول: نفسي نفسي حتّى يعترض لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقول: أمّتي أمّتي فتقول النار: مالي و مالك يا محمّد؟ لقد حرّم اللّه لحمك عليّ.

و تأوّل بعض المتأوّلين بأنّ المراد من مجي ء جهنّم عبارة عن إظهارها حتّى يراها الخلق مع ثباتها في مكانها و حملوا الجرّ في الحديث في قوله: «يجرّونها حتّى تنصب» مباشرة أسباب ظهورها، أو المراد بمجي ء جهنّم مجي ء صورتها المثاليّة و هذا القول منهم ليس بصحيح و لا حاجة إلى الحمل في الكلام على التجوّز فإنّ اللّه قادر على كلّ شي ء و ليس هذا الأمر ببدع في مقام القدرة، و الأرض يومئذ أوسع شي ء فهي تسع جهنّم و أهل المحشر جميعا فما الداعي إلى حمل معنى المجي ء بصورتها المثاليّة.

[يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ بدل من «إذا دكّت» و العامل فيها قوله: «يتذكّر الإنسان» أي يتذكّر ما فرط فيه بتفاصيله فيبرز كلّ من الحسنات و السيئات ممّا يناسبها، و الأعمال تتجسّم في النشأة الآخرة و يقبل التذكير و يتّعظ الّذي بلغه في الدنيا و ما كان يتّعظ منه و لم يقبله فيقول (1): «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» و لكن لا فائدة هناك من القبول و التذكّر.

[وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى إنكار لفائدة تذكّره لأنّه وقع في وقت لا ينفعه وفات زمانه فحينئذ هذا التذكّر و الندم عار عن الجدوى و «أنّى» خبر مقدّم للذكرى أي و من أين له الذكرى و نفعه.

[يَقُولُ يا لَيْتَنِي أي يا أيّها الحاضرون ليتني [قَدَّمْتُ لِحَياتِي كأنّه قيل:

ماذا يقول عند تذكّره؟ فقيل يقول: يا ليتني عملت لأجل حياتي هذه أعمالا صالحة أنتفع بها اليوم و قدّمت عملا ينجيني من العذاب.

ص: 146


1- سورة الانعام: 27.

[فَيَوْمَئِذٍ] أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال [لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ] الهاء في «عذابه» راجع إلى اللّه و العذاب بمعنى التعذيب و كذا الوثاق بالفتح بمعنى الإيثاق و هو الشدّ بالوثاق و الوثاق ما يشدّ به من الحديد و الحبل و نحوه و المعنى لا يتولّى عذاب اللّه و وثاقه أحد سواه إذا الأمر كلّه له و يجوز أن يكون الهاء للإنسان أي لا يعذّب أحد من الزبانية مثل ما يعذّبونه و قرأهما الكسائي و يعقوب على البناء للمفعول قال الزمخشريّ: هي قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و بالجملة قال بعض أهل التفسير: معنى الآية لا يعذّب عذاب اللّه و لا يوثق إيثاق اللّه أحد من الخلق و أمّا القراءة بفتح العين في «يعذّب و يوثق» فالمعنى لا يعذّب أحد من عصاة المؤمنين تعذيب هذا الكافر و هو الّذي ذكر في قوله: «لا تكرمون اليتيم» الآيات، و على هذا المعنى و إن اطلق لكنّ الأولى أن يكون المراد التقييد لأنّا لا نعلم أنّ إبليس أشدّ عذابا منه و قيل: معنى الآية إنّه لا يعذّب أحد غيره بعذابه لأنّه المستحقّ بعذاب نفسه و لا يؤاخذ اللّه أحدا بكسب غيره.

[يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ] لمّا ذكر سبحانه شقاوة النفس الأمّارة شرع في بيان أحوال النفس المطمئنّة و اطمينان السكون و الوصول إلى اليقين و المعرفة و في قوله (1):

«ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب» تنبيه على أنّ الإكثار من العبادة من موجبات اطمينان النفس و من كان متمكّنا في مقام الترقّي تخلّص من التنزّل إلى مقام النفس الأمّارة و تخلّى عن صفاتها الذميمة و تحلّى بالأخلاق الحميدة.

[ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ و إلى ما وعد لك من الزلفى و الكرامة [راضِيَةً مَرْضِيَّةً] بما أوتيت من النعيم الدائم مرضيّة عند اللّه [فَادْخُلِي فِي عِبادِي في زمرة الصالحين المختصّين بي [وَ ادْخُلِي جَنَّتِي معهم، و الدخول في زمرة الخواصّ هي السعادة الروحانيّة.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 147


1- سورة الرعد: 30.

سورة البلد

اشارة

* (مكية)* قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها أعطاه اللّه الأمن من غضبه يوم القيامة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البلد (90): الآيات 1 الى 20]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)

أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (9)

وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)

يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)

عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

أجمع المفسّرون على أنّ هذا قسم بالبلدة الحرام الّذي هو مكّة و «لا» لتأكيد القسم كقول العرب: لا و اللّه ما فعلت كذا لا و اللّه لأفعلنّ كذا، و أقسم سبحانه بمكّة لفضلها فإنّه جعلها حرمها آمنا و هي مسقط رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حرم أبيه إبراهيم و منشأ أبيه إسماعيل و قبلة لأهل الشرق و الغرب، و حجّ البيت كفّارة لذنوب العمر و جعل البيت المعمور بإزائه.

[وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ] و أنت خطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الحلّ بمعنى الحال من الحلول و هو النزول أي و الحال أنّك يا محمّد نازل بها فبدأ سبحانه قسمه عليه بحلوله صلّى اللّه عليه و آله فيها إظهارا لمزيد فضلها فإنّها بعد أن كانت شريفة بنفسها زاد شرفها بحلول

ص: 148

النبيّ الشريف فيها فما لا شرف فيه يحصل له شرف بشرف المكين و ما فيه شرف ذاتيّ يحصل له بشرف شرف زائد و قد سمّى صلّى اللّه عليه و آله المدينة طابة لأنّها طابت به و بمكانه.

[وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ] و المراد من الوالد إبراهيم و ما ولد إسماعيل أو محمّد صلّى اللّه عليه و آله فحينئذ تتضمّن السورة القسم بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في موضعين أو المراد آدم و ذرّيّته و قيل:

«الوالد» هو النبيّ «و ما ولد» امّته المرحومة لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما أنا لكم مثل الوالد أعلّمكم أمر دينكم و ما يصلح شأنكم» و لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنا و عليّ أبوا هذه الأمّة» و اموميّة الأزواج المطهّرة تقتضي ابوّته صلّى اللّه عليه و آله إذ كلّ من كان سببا لإيجاد شي ء أو ظهوره يسمّى أبا و قد قال صلّى اللّه عليه و آله: «أنا من اللّه و المؤمنون من فيض نوري» و قيل: يعنى بالآية كلّ والد و ولده و قيل: يعني و والد من لو ولد له يعني العاقر فيكون «ما» نافية و التقدير و ما ولد فحذف ماء الأولى الّتي تكون موصولة.

[لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ] أي نصب و شدّة و قوله: «خلقنا الإنسان» جواب للقسم و من هذا المعنى اشتقّت المكابدة بمعنى مقاساة الشدّة و «في كبد» حال من الإنسان بمعنى «مكابدا» و حرف في و اللّام متقاربان تقول: إنّما أنت للعناء و النصب و إنّما أنت في العناء و النصب فابن آدم يكابد من البلايا ما لا يكابده غيره من مصائب الدنيا و شدائد الآخرة، و الكبد في اللّغة شدّة الأمر و منه تكبّد اللبن إذا غلظ و اشتدّ و منه الكبد لأنّه دم يغلظ و يشتدّ و تكبّد الدم إذا صار كالكبد.

و بالجملة فالإنسان يقاسي فنون الشدائد مبدؤها ظلمة الرحم و مضيقة و منتهاه الموت و أوّل ما يتولّد فهو في النصب و العناء من قطع سرّته و التفافه بخرقة يحتوي الأعضاء و ألم الختان و مكابدة المعلّم و صولته و الأستاذ و هيبته ثمّ التزوّج و مكابدته للمعاش و الأولاد و المنزل و النزل و الكبر و الهرم و مصائب كثيرة لا يمكن تعدادها كالصداع و الأوجاع و الأضراس و رقد العين و همّ الدين و شدائد التكاليف كالشكر على السرّاء و الصبر على الضرّاء و أداء العبادات كالصوم و الصلاة و الزكاة و الحجّ و الجهاد ثمّ شدّة الموت و سؤال الملك و ظلمة القبر و البعث و العرض على الملك المحاسب

ص: 149

بل لا يرى في عمره لذّة في الدنيا و ما يحسبه اللذّة فهو دفع ألم فاللذّة من الأكل هي التخلّص من الجوع و هكذا فليس للإنسان إلّا الشدّة أو التخلّص من الشدّة.

و قيل: معنى الآية «خلق الإنسان في كبد» أي قائما مستويا منتصبا و غيره من الحيوان مكبّا يمشي فالكبد المراد منه الاستقامة و الاستواء. و في الآية تسلية لرسول اللّه بما يقاسي من كفّار قريش و تنبيه على أنّ الإنسان ينبغي له أن يعلم أنّ الدنيا دار كبد و مشقّة و الآخرة دار النعمة و الراحة فيسعى لآخرته.

[أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ] أي أ يظنّ هذا الإنسان أن لن يقدر على عقابه إذا عصى اللّه و ركب القبائح، فبئس الظنّ ذلك أو يحسب هذا المغترّ بما له مثل الوليد بن المغيرة و أمثاله أن لن يقدر عليه أحد بأخذ ماله أولا يحاسب عليه من أين اكتسه و فيما ذا أنفقه قيل: المراد الأشدّ بن كلدة و هو رجل من جمح كان قويّا شديد الخلق بحيث يجلس على أديم عكاظيّ فتجرّه العشرة من تحته فينقطع الأديم و لا يبرح من مكانه.

ثمّ أخبر سبحانه عن مقالة هذا الإنسان [يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً] أي كثيرا متلبّدا مجموعا من تلبّد الشي ء إذا اجتمع يريد كثرة ما أنفقه مفاخرة و سمعة و كان أهل الجاهليّة يسمّون مثل ذلك مكارم. و في لفظ الإهلاك إشارة إلى أنّه ضائع في الحقيقة إذ لا ينتفع به صاحبه في الآخرة كما قالت عائشة في حقّ عبد اللّه بن جذعان:

كان في الجاهليّة يصل الرحم و يطعم المسكين فهل ذلك نافعه يا رسول اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

لا ينفعه لأنّه لم يقل يوما: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين. و قيل: المراد في الآية هو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف و ذلك أنّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأمره أن يكفّر فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات و النفقات منذ دخلت في دين محمّد، عن مقاتل.

[أَ يَحْسَبُ ذلك الأحمق [أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ] فيطالبه من أين اكتسبه و فيما أنفقه، و كان بعض المشركين يصرفون أموالا في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أي إنّ اللّه رآه و اطّلع على خبث نيّته و فساد سريرته و مثل هذا الإنفاق رذيلة فكيف يعدّه

ص: 150

فضيلة. في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا تزول قد ما العبد حتّى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه و عن ماله من أين جمعه و فيما ذا أنفقه و عن علمه ما ذا عمل به و عن حبّنا أهل البيت».

[أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما آثار قدرته و حكمته و يفرق بهما بين ما يضرّ و ما ينفع و لعلّ المراد من العينين عين البصر و عين البصيرة، و العين تحرس البدن من الآفات و هي نيّرة كالمرآة إذا قابلها شي ء ارتسمت صورته فيها مع صغر الناظر و جعل لها أجفانا يسترها و أهدابا من الشعر كجناح الطائر تطرد بانضمامها و بانفتاحها الهوامّ و الذباب و الموذيات عن العين و جعل العين في الرأس لأنّ السراج يوضع على مكان مرتفع و جعلها ثنتين كالشمس و القمر و جعل فوقهما حاجبين أسودين لئلّا يتضرّر البصر بالضياء و السواد يقوّي البصر و لذا يقوّي الإثمد البصر و جعل الحدقة محرّكة في مكانها لتتحرّك في الجهات يمنة و يسرة فيبصر بها من غير أن يلوي عنقه و جعل الناظرين على خطّ مستقيم عرضا و لم يقع واحد منهما أعلى و لا أخفض ليتجمّع الناظران على شي ء واحد لئلّا يتراءى له الشخص الواحد شخصين.

[وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ و جعل بحكمته له لسانا يترجم به عن ضمائره و به تنعقد الأمور كالشهادات و المعاملات و به يدرك الطعوم و لو لم يكن اللسان لاحتاج إلى الإشاره أو الكتابة فيتعسّر الأمر «و شفتين» ليستعين بهما على البيان و على الإطباق إذا أراد السكوت و الأكل و الشرب و النفخ و في الدعاء: الحمد للّه الّذي جعلنا ننطق بلحم و نبصر بشحم و نسمع بعظم» و في الحديث: «إنّ اللّه يقول: ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك بطبقتين فأطبق و إن نازعك فرجك إلى بعض ما حرم اللّه فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك بطبقتين فأطبق».

[وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ معطوف على «ألم نجعل» أي و هديناه طريقي الخير و الشرّ كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «هما النجدان نجد الخير و نجد الشرّ فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير» و قيل: المراد من النجدين الثديين لأنّهما ظريفان مرتفعان

ص: 151

لنزول اللبن و هما سببان لحياة المولود و تمكين مولود عاجز من رضاع أمّه عقيب الولادة قدرة جليّة لكنّه قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ ناسا يقولون: في الآية إنّهما الثديان فقال: لا، هما الخير و الشر.

فإن قيل: كيف يكون نجد الشرّ مرتفعا كنجد الخير و لا رفعة للشرّ فالجواب أنّهما باديان و ظاهران على أنّ عادة العرب و أهل اللسان في تثنية الأمرين إذا اشتركا على بعض الوجوه فيجري لفظ أحدهما على الآخر كقولهم «القمران» قال الفرزدق:

أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع

[فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ] الاقتحام الدخول في أمر شديد و مجاوزته بصعوبة و الرمي فيه بنفسه فجاءة بلا رويّة، و العقبة الطريق الوعر في الجبل أي لم يشكر الإنسان تلك النعم الجليلة بالأعمال الصالحة و عبّر عنها بالعقبة لصعوبة سلوكها و هذا أحد الأقوال فحينئذ «لا» بمعنى «لم» و قيل: الآية على وجه الدعاء عليه أي لا نجا و لا سلم من العقبة و لا جاوزها، و القول الثالث أنّ المعنى هلّا اقتحم العقبة و قيل:

هذا مثل ضربه اللّه لمجاهدة النفس و الشيطان فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقّة كأنّه قال: لم لم تحمّل على نفسه المشقّة بإيجاب التكاليف مثل عتق الرقبة و الإطعام.

[وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ] أي أيّ شي ء أعلمك يا محمّد ما اقتحام العقبة ثمّ ذكره فقال: [فَكُّ رَقَبَةٍ] و هو تخليصها من إسار الرقّ و الرقبة اسم العضو المخصوص و يعبّر بها عن الجملة كما يعبّر بالرأس عن المركوب و الفكّ ليس تفسيرا لنفس لعقبة بل لا قتحامها لأنّ العقبة عين و الفكّ حدث و فعل فلا يكون تفسيرا للآخر الخبر حينئذ يكون عين المبتداء و هو لا يجوز ثمّ فكّ الرقبة قد يكون بأن ينفرد لرجل في عتق الرقبة و قد يكون بعين في تخليص نفس من قود أو غرم و كلّه يشمل لفكّ دون الإعتاق، و يجوز أن يكون المراد بفكّ الرقبة أن يفكّ المرء رقبة نفسه من عذاب اللّه و يتخلّص بالأعمال الصالحة من النار و هي الحرّيّة. قال رسول اللّه: «إنّ

ص: 152

أمامكم عقبة كؤودة لا يجوزها المثقلون و أنا أريد أن اخفّف عنكم لتلك العقبة» قال ابن عبّاس: العقبة هي النار.

و قيل: إنّها الصراط يضرب على جهنّم كحدّ السيف مسيرة ثلاثة آلاف سهلا و صعودا و هبوطا و إنّ بجنبيه كلاليب و خطاطيف كأنّها شوك السعدان فمن بين سالم و ناج و مخدوش و مكدوش عليه و منكوس في النار فمن الناس من عبر كالبرق الخاطف و منهم من عبر عليه كالريح العاصف و منهم عبر عليه كالفارس و منهم كالراجل يعدو و منهم من يسير و منهم من يزحف زحفا و منهم من يكردس في النار و منهم كما بين صلاة العصر إلى العشاء.

جاء في الحديث أنّه جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: علّمني عملا يدخلني الجنّة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عتق النسمة و فكّ الرقبة (قال الأعرابيّ: أو ليس عتق النسمة و فكّ الرقبة واحدة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: عتق النسمة أن تنفرد بعتقها و فكّ الرقبة أن تعين بثمنها) و الفي ء على ذي الرحم الظالم، فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع و اسق الظمآن و أمر بالمعروف و انه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكفّ لسانك إلّا من خير».

[أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ] أي ذي مجاعة و مسغبة بتقديم الغين على الباء و مقربة مصدر ميميّ و قيّد الإطعام بيوم المجاعة لأنّ إخراج المال في ذلك الوقت أوجب للأجر و أثقل على النفس و أنفع الناس [يَتِيماً] مفعول إطعام [ذا مَقْرَبَةٍ] من قرابة النسب و يمكن أن يلحق به قرب الجوار [أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ] أي صاحب فقر كأنّه لصق بالتراب من ضرّه و فقره مأواه المقابر و المزابل و قيل: معناه الغريب أي البعيد التربة ليس من أهل أرضك.

[ثُمَّ كانَ هذا المطعم و المعتق [مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا] أي بشرط أن يكون المعتق و المنفق من المؤمنين باللّه و برسوله لا من الّذين يهلك ما له رياء و فخارا و سمعة و لم يؤمن باللّه و إلّا فيكون مثله كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم، بل يكون من الّذين استقاموا على إيمانهم [وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ] على مشقّة أداء فرائض اللّه و الصبر

ص: 153

عن معصية اللّه [وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] و أوصى بعضهم بعضا على أهل الفقر و ذوي الفاقة من المؤمنين.

[أُولئِكَ الموصوفون بالنعوت الجليلة، و في اسم الإشارة دلالة على حضورهم عند اللّه في مقام الكرامة [أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ] و يعطون كتبهم بأيمانهم و الصلحاء ميامين بضاعتهم.

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا] و حججنا و أنبيائنا و كتابنا [هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ] و هم الّذين يعطون كتبهم بشمائلهم و من وراء ظهورهم و يسلك بهم شمالا إلى النار أو أصحاب الشؤم و الشرّ و الشقاوة.

[عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ] أي نار أبوابها مغلقة فلا يفتح لهم باب فلا يخرج منها و لا يدخل فيها روح أبد الآباد، أي موصدة الأبواب من أو صدت الباب إذا أطبقته من المعتلّ الفاء، و من قرأ «مؤصدة» بالهمزة من آصدته بالمدّ من المهموز مثل آمن إذا أطبقته و أحكمته. تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 154

سورة الشمس

اشارة

* (مكية)* قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها كان كمن تصدّق بكلّ شي ء طلعت عليه الشمس و القمر. قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من أكثر قراءة الشمس و سورة و الليل و سورة و الضحى و ألم نشرح في يومه و ليلته لم يبق شي ء بحضرته إلّا شهد له يوم القيامة حتّى شعره و لحمه و دمه و عروقه و عظامه و جميع ما أقلّت الأرض منه، و يقول الربّ: قبلت شهادتكم لعبدي و أجزتها له، انطلقوا به إلى جنّاتي حتّى يتخيّر منها حيثما أحبّ فأعطوه إيّاها رحمة و فضلا منّي عليه فهنيئا هنيئا لعبدي.

ص: 155

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الشمس (91): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَ النَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)

وَ السَّماءِ وَ ما بَناها (5) وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها (6) وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)

وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)

وَ لا يَخافُ عُقْباها (15)

أقسم سبحانه بالشمس و لمّا كان قوام العالم من الحيوان و النبات بطلوع الشمس و غروبها أقسم بها و بضحاها و هو امتداد ضوئها و انبساط نورها و وقت إشراق الضوء، و الضحى و الضحوة مشتقّان من الضحّ و هو نشر النور فيجوز بهذا الاعتبار أن يكون هو النهار كلّه.

[وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها] من التلو أي إذا تبعها بأن طلع بعد غروبها و ذلك في النصف الأول من الشهر.

[وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها] أي جلّى الظلمة و كشفها و جازت الكناية عن الظلمة و إن لم تذكر لأنّ المعنى معروف و غير ملتبس أو الضمير إلى الشمس أي إنّ النهار أظهر الشمس فإنّها تتجلّى عند انبساط النهار فكأنّه جلّاها مع أنّ الشمس تبسطها و لمّا كان الجلاء واقعا في النهار أسند فعل التجلية إليه إسنادا مجازيّا مثل «نهاره صائم».

[وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها] هو ظلّ الأرض الحائلة بين الشمس أي يغشى الشمس حتّى تغيب فتظلم الآفاق و يلبسها سواده و يغطّي الليل ضوء الشمس، و لمّا كان احتجاب

ص: 156

الشمس بحيلولة الأرض بيننا و بينها واقعا في الليل صار الليل كأنّه حجبها و غشاها فأسند التغشية إلى الليل لذلك، و الواو الاولى في قوله: «و الشمس» هي الّتي للقسم و سائر الواوات في ما بعدها عطف عليها إلى قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» و هو جواب القسم و اختيار صيغة المضارع هنا على الماضي للدلالة على أنّه لا تجري عليه تعالى زمان فالمستقبل عنده كالماضي و لمراعاة الفواصل فلا يلزم تعدّد القسم مع وحدة الجواب إذا كانت الواوات عاطفة.

[وَ السَّماءِ وَ ما بَناها] أي و من بناها في غاية العلوّ و العظمة و هو اللّه و إيثار «ما» على «من» لإرادة الوصفيّة تعجيبا كأنّه قيل: و القادر العظيم الّذي بناها و كذا القول في [وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها] و لكنّ الأظهر أنّ «ما» مصدريّة و معناها و السماء و بنائها و الأرض و طحوها أي تسطيحها و بسطها ليتمكّن الخلق التصرّف فيها و الانتفاع منها و الطحو الدحو، و إبدال الطاء من الدال جائز.

[وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها] أي و من أنشأها و أبدعها مستعدّة لكمالاتها أو المعنى و نفس و تسويتها، بناء على أنّ «ما» مصدريّة و التنكير للتكثير أو للتفخيم على أنّ المراد نفس آدم عليه السّلام و لكنّ التكثير أنسب من أن يكون للتعظيم.

[فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها] الفاء للتعقيب و الإلهام إلقاء الشي ء من الروع و الخاطر و التهام الشي ء ابتلاعه، و الفجور شقّ ستر الديانة، قدّم على التقوى لمراعاة الفواصل أو لشدّة الاهتمام بنفيه لأنّه إذا انتفى الفجور وجدت التقوى و المعنى أفهم النفس إيّاهما و عرّفها حالهما من الحسن و القبح و إلهام الفجور لتجنّبه لا لتعمل به و تقوا لها لتعمل به و هذه الآية مثل قوله: «و هديناه النجدين» أي بيّنّا الطريقين و ألهمنا الأمرين فحاصل المعنى أنّه سبحانه عرّفها الفجور و التقوى و زهّدها في الفجور بأحكام المنع و رغّبها في التقوى بأوامر الفعل.

[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها] على هذا وقع القسم أي قد أفلح من زكّى نفسه و أصلحها بطاعة اللّه [وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها] و حرم و خسر و لم ينل ما طلب من دسّاها و أدخلها في المعاصي و أرسلها في المشتهيات الطبيعيّة و من دسّ نفسه في أهل الخير و ليس منهم فهو

ص: 157

خائب و محروم. و أصل دسّى دسّس من التدسيس كتفضّى أصله التفضّض، و اجتماع الأمثال لمّا أوجب الثقل قلبت السين الأخيرة ياء. قال الراغب: الدسّ إدخال الشي ء في الشي ء و المراد بالنفس في الآية الّذات و الحقيقة الجمعيّة الإنسانيّة.

[كَذَّبَتْ ثَمُودُ] المراد القبيلة [بِطَغْواها] الباء للسببيّة و الطغوى بالفتح مصدر بمعنى الطغيان قال الزمخشري في الكشّاف: الطغوى من الطغيان، فصّلوا بين الاسم و الصفة في «فعلى» من بنات الياء بأن قلّبوا الياء واوا في الاسم و تركوا القلب في الصفة و معنى الآية أي فعلت قبيلة ثمود التكذيب بسبب طغيانها.

[إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها] منصوب بكذّبت أو بالطغوى أي حين قام أشقى ثمود و هو قدار بن سالف امتثالا لأمر من بعثه. و انبعث مطاوع لبعث و الانبعاث الإسراع في الطاعة للباعث و صيغة أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد و المتعدّد و المذكّر و المؤنّث.

[فَقالَ لَهُمْ لثمود: [رَسُولُ اللَّهِ لمّا علم ما عزموا عليه و هو صالح بن عبيد بن جابر بن ثمود بن عوص بن إرم، عبّر عنه بعنوان الرسالة إيذانا بوجوب طاعة الرسول و بيانا لتماديهم في الطغيان [ناقَةَ اللَّهِ منصوب على التحذير و إن لم يكن من الصور الّتي يجب فيها حذف العامل. و الإضافة للتشريف مثل بيت اللّه، أي ذروا ناقة اللّه الدالّة على كمال قدرته و على نبوّتي و احذروا عقرها [وَ سُقْياها] أي شربها و نصيبها من الماء و لا تطردوها عن الماء في نوبتها و كان لها شرب يوم معلوم و لهم و لمواشيهم شرب يوم آخر و كانوا يستضرّون بذلك في مواشيهم فهمّوا بعقرها.

[فَكَذَّبُوهُ أي رسول اللّه في وعيده حين قال لهم: (1) «وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ» [فَعَقَرُوها] و الجمع على تقدير وحدته لرضى الكلّ بفعله و العاقر قدار و امّه قديرة و صاحبه الّذي شاركه اسمه مصدح.

و في الحديث قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لعليّ يا عليّ أ تدري من أشقى الأوّلين؟ قال:

اللّه أعلم و رسوله قال: عاقر الناقة و أشقى الآخرين قاتلك يا عليّ الّذي يضربك على

ص: 158


1- سورة هود: 64.

هذه- و أشار إلى يافوخه- حتّى تبلّ منها هذه، و أخذ بلحيته.

[فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ و أطبق عليهم العذاب و هو الصيحة الهائلة، تقول: ناقة مدمومة إذا طليت بالشحم و أحيطت بحيث لم يبق منها شي ء لم يمسّه الشحم و دم الشي ء سدّه بالقبر ثمّ كرّرت الدال للمبالغة في الإحاطة فالدمدمة من الدمّ كالكبكبة من الكبّ [بِذَنْبِهِمْ بسبب ذنبهم المحكيّ [فَسَوَّاها] أي فسوّى الدمدمة الإهلاك بينهم بحيث لم يفكّ منهم أحد من صغير و كبير أو فسوّى ثمود بالأرض روي أنّهم لمّا رأوا علامات العذاب طلبوا صالحا أن يقتلوه فأنجاه اللّه كما قال في سورة هود (1): «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا».

[وَ لا يَخافُ عُقْباها] الواو للاستيناف أو للحال من المنويّ في «فسوّاها» الراجع إلى اللّه أي فسوّاها اللّه غير خائفة عاقبة الدمدمة و الإهلاك و ذلك أنّه تعالى لا يفعل إلّا بحقّ و قيل: و لا يخاف هو أي قدار ما يعقّب عقرها و ما يترتّب عليه من أنواع العذاب و العقوبة مع أنّ صالحا قد أخبرهم بها و قيل: و لا يخاف صالح عقبى العذاب لأنّه كان مأمونا من اللّه.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 159


1- سورة هود: 58.

سورة و الليل

اشارة

* (مكية)* من قرأها أعطاه اللّه حتّى يرضى و عافاه من العسر و يسّر له اليسر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الليل (92): الآيات 1 الى 21]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)

فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)

فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)

لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (16) وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)

إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَ لَسَوْفَ يَرْضى (21)

«إذا» للحال لأنّها بعد القسم أي أقسم بالليل حين يغشى الشمس و يسترها فعدم ذكر المفعول للعلم به و الليل عند أهل النجوم ما بين غروب الشمس و طلوعها و عند أهل الشرع ما بين غروبها و طلوع الفجر الصادق أقسم سبحانه بالليل إذا يغشى بظلمته النهار أو الأفق و جميع ما بين السماء و الأرض و أغشى الأنام بالظلام.

[وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي بان و ظهر من بين الظلمة و هو من أعظم النعم إذ لو كان الدهر كلّه ظلاما لما أمكن الخلق طلب معايشهم كما أنّ الليل من أعظم النعم لأنّه لو كان ذلك كلّه ضياء لما انتفعوا لسكونهم و سباتهم و راحتهم على أنّ الليل وقت عيش الصالحين و فيه يتقرّب المقرّبون حين ينادون ألا قد خلا كلّ حبيب بحبيبه فأين أحبّائي؟

ص: 160

الليل داج و العصاة نيام و العابدون لذي الجلال قيام

[وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى أي و الّذي خلق الذكر و الأنثى و على هذا يكون «ما» بمعنى «من» و قيل: معناه خلق الذكر و الأنثى فتكون «ما» مصدريّة و المراد من الذكر و الأنثى آدم و حوّاء أو جميع ذكر و أنثى و قرأ ابن مسعود الآية «و الذكر و الأنثى» قال: و هكذا سمعت رسول اللّه يقرؤها.

[إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا جواب القسم أي إنّ أعمالكم لمختلفة فعمل للجنّة و عمل للنار و السعي مصدر مضاف و من صيغ العموم، و لذا أخبر عنه بالجميع و شتّى جمع شتيت مثل مرضى و مريض و هو المتفرّق المتشتّت أي مساعيكم مختلفة بعضها حسن نافع صالح و بعضها قبيح ضارّ شرّ فاسد فميل بعضكم إلى جانب الروح و متوجّه إلى الخير و النوريّة و بعضكم إلى جانب النفس الأمّارة و تغلبه الظلمة.

قال بعض أهل التحقيق: إنّ النفس بأقسامها حقيقة واحدة متّحدة و يختلف باختلاف توارد الأفعال و الأحوال فإنّ حقيقة المطلقة من غير اعتبار حكم معها إذا توجّهت إلى الحقّ توجّها كليّا سمّيت مطمئنّة و إذا توجّهت إلى الطبيعة توجّها كليّا سمّيت أمّارة و إذا توجّهت إلى اللّه بالتقوى تارة و تارة إلى الطبيعة و الفجور سمّيت لوّامة بدرجات السعي إمّا إلى الهدى أو إلى الهوى أيضا تختلف فمن النفوس ساعية لطلب الدرجات العالية الكاملة كالأنبياء و الأولياء و بعض دونهم و بعض دونهم و كذلك من النفوس الساعية إلى الغواية فبعض يرتكب من المعاصي ما يمكن معها إدراك السعادة بالرجوع عنها و تداركها و بعض يبالغون فيها بحيث لا يساوي عذارهم بعذار الشيطان:

فكنت فتى من جند إبليس فارتقى بي الحال حتّى صار إبليس من جندي

و بالجملة شرح سبحانه تفصيل تلك المساعي المتشتّتة و تبيّن أحوالها [فَأَمَّا مَنْ أَعْطى حقوق ما له [وَ اتَّقى محارم اللّه الّتي نهى عنها و من جملتها المنّ و الأذى قيل: نزلت في أبي الدحداح لمّا أنفق بستانه في سبيل اللّه [وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى بالخصلة الحسنى و هي الإيمان أو كلمة الحسنى و هي لا إله إلّا اللّه بشروطها أو بالملّة الحسنى

ص: 161

و هي ملّة الإسلام [فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى و اليسرى تأنيث الأيسر أي سنهوّن عليه الطاعة و نهيّئه و نوفّقه للطريق الأسهل حتّى يقوم بوظائف العبادة بجدّ و طيب نفس.

[وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ بما له فلم يبذله في سبيل اللّه و الخير [وَ اسْتَغْنى زهد و لم يرغب فيما عنده كأنّه مستغن عنه و استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة [وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى و قد ذكر معاني الحسنى قبيل هذا [فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي لا يريد شيئا من المال و الشرّ إلّا يسّره اللّه له و ذلك التيسير تسبّب من سوء اختياره و قبوله أو المراد من العسر العذاب و دخول النار، و السين في الآية للدلالة على الجزاء الموعود بمقابلة الطاعة و المعصية و هو أمر متراخ منتظر.

[وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أي أيّ شي ء يغني عنه ماله الّذي يبخل به و الاستفهام للإنكار [إِذا تَرَدَّى هلك و مات و الردى كالعصا و هو الهلاك و تردّى سقط في الحفرة إذا قبر أو تردّى في قعر جهنّم البالغة. و حاصل المعنى أنّه إذا تردّى و تصدّى لمخالفتنا أيّ شي ء له يخلّصه من غضبنا.

[إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي إنّ حكمتنا تقتضي أن نبيّن لهم طريق الهدى حيث خلقناهم للعبادة [وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى أي التصرّف الكلّي فيهما كيف ما نشاء من الأفعال الّتي من جملتها ما وعدنا من اليسر لليسرى و العسرى.

[فَأَنْذَرْتُكُمْ خوّفتكم يا أهل مكّة و المكلّفين بالقرآن [ناراً تَلَظَّى و تتلهّب و التعبير بالمستقبل دوام التلظّي بالفعل الاستمراريّ [لا يَصْلاها] صليا لازما و لا يقاسي حرّها [إِلَّا الْأَشْقَى الزائد في الشقاوة و هو الكافر فإنّه أشقى من الفاسق و قيل:

المراد من الأشقى الشقيّ و العرب تسمّي الفاعل أفعل في كثير من كلامهم منه قوله تعالى (1): «و أنتم الأعلون» و قوله: (2) «و اتّبعك الأرذلون» و الفاسق لا يصلاها صليا لازما أبديّا و قد صرّح به قوله: [الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى و ليس المكذّب إلّا الكافر.

ص: 162


1- سورة آل عمران: 139.
2- سورة الشعراء: 111.

[وَ سَيُجَنَّبُهَا] و يبعّد عنها بحيث لا يسمع حسيسها، و الفاعل المجنّب المبعّده اللّه [الْأَتْقَى المبالغ في الاتّقاء عن المعاصي و الكفر فلا يحوم حولها فضلا عن دخولها أو صليها الأبديّ و أمّا من دونه ممّن يتّقي الكفر دون المعاصي و هو المؤمن الشقيّ الفاسق الغير التائب فلا يبعّد هذا التبعيد بل يصلاها و إن لم يذق شدّ حرّها كما يذوق الكافر ذوق الدائم فلذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور فلا يقدح في الحصر السابق.

[الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ و يعطيه في وجوه البرّ و الحسنات [يَتَزَكَّى إمّا بدل من «يؤتي» أو في حيّز النصب على أنّه حال من ضمير «يؤتي» أي يطلب أن يكون عند اللّه زاكيا ناميا لا يريد به رياء و يقصد به التطهّر من الذنوب و من دنس البخل و وسخ الإمساك.

[وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى استيناف مقرّر لبيان أنّ إيتاءه للتزكّي خالص لوجه اللّه و ليس لأحد عنده منّة و نعمة من شأنها أن تجزى و تكافأ فيقصد المجازاة بها.

[إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى استثناء منقطع من «نعمة» لأنّ ابتغاء وجه ربّه ليس من جنس نعمة تجزى لكن فعل ذلك لابتغاء وجه اللّه و طلب رضاه و ما أتى من المال مكافأة على نعمة سالفة فذلك يجري مجرى أداء الدين فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب.

[وَ لَسَوْفَ يَرْضى جواب قسم مقدّر أي و باللّه سوف يرضى ذلك الأتقى الموصوف.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 163

سورة الضحى

اشارة

* (مكية)* عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قرأها كان ممّن يرضاه اللّه و لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله أن يشفع له، و له عشر حسنات بعدد كلّ يتيم و سائل.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الضحى (93): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الضُّحى (1) وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى (3) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)

وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

النزول: قال ابن عبّاس: احتبس الوحي عنه صلّى اللّه عليه و آله خمسة عشر يوما فقال المشركون: إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد ودّعه ربّه و تركه و قلاه و لو كان أمره من اللّه تعالى لتتابع عليه فنزلت السورة و قال ابن جريح: احتبس الوحي عنه اثني عشر يوما و قيل: أربعين يوما عن مقاتل و قيل: إنّ المسلمين قالوا: أما ينزل عليك الوحي؟

فقال: و كيف ينزل الوحي عليّ و أنتم لا تنقّون براجمكم و لا تقلّمون أظفاركم.

و لمّا نزلت السورة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل: ما جئت حتّى اشتقت إليك فقال جبرئيل: و أنا كنت أشدّ شوقا إليك و لكنّي عبد مأمور و ما ننزّل إلّا بأمر ربّك.

و قيل: سألت اليهود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذي القرنين و عن الروح و أصحاب الكهف فقال صلّى اللّه عليه و آله: سأخبركم غدا و لم يقل: إن شاء اللّه فاحتبس الوحي عنه هذه الأيّام فاغتمّ صلّى اللّه عليه و آله لشماتة الأعداء فنزلت السورة تسلية لقلبه.

و قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رمي بحجر في إصبعه فقال: «هل أنت إلّا إصبع رميت

ص: 164

و في سبيل اللّه ما لقيت» فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يوحى إليه فقالت له امّ جميل بنت حرب امرأة أبي لهب: يا محمّد ما أرى شيطانك إلّا قد تركك لم أره قرّبك منذ ليلتين أو ثلاث فنزلت.

و قيل: إنّ جروا دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث النبيّ أيّاما لا ينزل عليه الوحي فقال لخادمته خولة: ما حدث في بيتي؟ إنّ جبرئيل لا يأتيني قالت خولة: كنست البيت فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميّت فأخذته و ألقيته خلف الحائط فجاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ترتعد لحياة و كان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة فقال: يا خولة دثّريني و أنزل اللّه هذه السورة، فلمّا نزل جبرئيل سأله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن سبب تأخّره فقال جبرئيل: أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا صورة. و قيل غير ذلك.

[وَ الضُّحى أقسم سبحانه بضوء النهار من قولهم: ضحى فلانّ للشمس إذا ظهر لها و هو وقت ارتفاع الشمس و صدر النهار و أريد بالضحى الوقت المذكور لعلّ تخصيصه بالإقسام به لأنّها الساعة الّتي كلّم اللّه فيها موسى و القي فيها السحرة سجّدا و لوقوع صلاة الضحى فيه و قيل: إنّ الضحى أوّل ساعة من النهار و قيل: في هذه الأقسام كلّها المراد ربّها أي و ربّ الضحى و ربّ الليل.

[وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى أي و جنس الليل إذا سجا و ركد ظلامه و تناهى يقال:

سجا البحر سجوا إذا سكنت أمواجه و ليلة ساجية ساكنة الريح و فيه سكون الناس و الأصوات قال الصادق عليه السّلام: إنّ المراد من الضحى هو الضحى الّذي كلّم اللّه فيه موسى و بالليل ليلة المعراج.

[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى هذا جواب القسم، و التوديع مبالغة في الوداع و هو الترك لأنّ من ودّعك مفارقا فقد تركك و قرئ ودعك بالتخفيف و المعنى ما قطعك قطع المودّع و ما تركك بالحطّ عن درجة الوحي و القرب و الكرامة و «ما قلا» أي ما أبغضك، و القلى شدّة البغض و غاية الكراهة و إذا قصّرت القلى كسرت القاف و إذا مددت فتحتها و المفعول في هذه الآية محذوف للدلالة أي و ما قلاك.

ص: 165

[وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي إنّ ثواب الآخرة و ما أعدّه اللّه لك من النعيم الدائم خير لك من الدنيا و الكون فيها و إنّ له صلّى اللّه عليه و آله في الجنّة ممّا أعدّ اللّه له ألف ألف قصر من اللؤلؤ ترابه من المسك و في كلّ قصر ما ينبغي له من الأزواج و الخدم و قيل: المعنى و لآخر عمرك الّذي بقي خير لك من أوّله لما يكون لك من النصرة و الفتوح و تشييد أمرك، و نهايتك خير من بدايتك كما أخبر بقوله (1):

«اليوم أكملت لكم دينكم».

[وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أي و سيأتيك ربّك في الآخرة من الشفاعة و أنواع الكرامة. و اللام للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة و المبتدء محذوف تقديره و لأنت سوف يعطيك، لأنّ لام الابتداء لا يدخل إلّا على الجملة الاسميّة و ليست للقسم لأنّها لا تدخل على المضارع إلّا مع النون المؤكّدة. و في الآية دلالة على أنّ العطاء المتأخّر لحكمة و أنفع لك، و ادّخر لك من الكرامات ما لا يعلمها إلّا اللّه.

و روى حارث بن شريح عن محمّد بن الحنفيّة أنّه قال: يا أهل العراق تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب اللّه قوله: (2) «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية» و إنّا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب اللّه قوله: «و لسوف يعطيك ربّك فترضى» و هي و اللّه الشفاعة ليعطيّنها في أهل لا إله إلّا اللّه حتّى يقول: ربّ رضيت. و قال الصادق عليه السّلام: رضي جدّي أن لا يبقى في النار موحّد.

أقول: ابشروا يا أمّة محمّد بهذه الفضيلة الّتي نحلها اللّه نبيّكم بها فكم بين من يتكلّف ليرضي ربّه و بين من يعطيه ربّه ليرضى.

ثمّ عدّد سبحانه نعمه عليه صلّى اللّه عليه و آله فقال: [أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى تقرير لنعمة اللّه عليه حين مات أبوه، روي أنّ أباه عبد اللّه مات و هو صلّى اللّه عليه و آله جنين قد أتت عليه ستّة أشهر في بطن أمّه و مات جدّه و هو ابن ثمان سنين فكفّله عمّه أبو طالب فأحسن

ص: 166


1- سورة المائدة: 4.
2- سورة الزمر: 53.

تربيته و آواه اللّه بأن سخّر له أوّلا جدّه عبد المطّلب ثمّ ربّاه و آواه أبو طالب و لمّا مات جدّه عبد المطّلب كان عمره الشريف ثمان سنين و سلّمه جدّه إلى أبي طالب لأنّه كان أخا عبد اللّه لأمّه. قال الصادق عليه السّلام: أوتم النبيّ عن أبويه لئلّا يكون لمخلوق أمر عليه فآواه أبو طالب إلى أن بعثه اللّه للنبوّة فقام ينصره مدّة مديدة ثمّ توفّي أبو طالب عليه السّلام فنال المشركون منه صلّى اللّه عليه و آله ما لم ينالوا في زمان أبي طالب و آذوه، و قد جعله اللّه يتيما لئلّا يسبق على قلب بشر أنّ الّذي نال من العزّ و الشرف و الاستيلاء ما كان عن تظاهر نسب أو توارث مال أو نحو ذلك.

[وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى معنى الضلال فقدان الشرائع و الأحكام الّتي لا يهتدي إليها العقول بل طريقها السماع نظير قوله: (1) «ما كنت تدري ما الكتاب» و إليه يؤوب معنى الغيبة فإنّ «ضلّ» بمعنى «غاب» أي غير مهتد إلى النبوّة فمعنى الضلال على هذا هو الذهاب عن العلم مثل قوله: «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (2).

و قيل: المعنى وجدك متحيّرا في وجوه معاشك فهداك إلى وجوه معاشك فإنّ الرجل إذا لم يهتد طريق تكسّبه و وجه معيشته يقال: إنّه ضالّ لا يدري أين يذهب.

و قيل و القائل ابن عبّاس: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ضلّ في شعاب مكّة حال صباه و كان عبد المطّلب يطلبه و هو يقول متعلّقا بأستار الكعبة:

يا ربّ فاردد ولدي محمّداو اردد إليّ و اصطنع عندي يدا

فوجده أبو جهل فردّه إلى عبد المطّلب فمنّ اللّه عليه حيث خلّصه على يدي عدوّه فكان نظير موسى عليه السّلام حين التقط فرعون تابوته ليكون له عدوّا و حزنا، فهداك إلى النبوّة و الحكمة و علّمك ما لم تكن تعلم، و وفّقه للنظر الصحيح بحيث لم يعبد صنما قطّ و لم يكذب و لم يخن بأمانة و لم يأت بفاحشة.

ص: 167


1- سورة الشورى: 52.
2- سورة البقرة: 282.

و قيل: إنّ حليمة السعديّة لمّا أرضعته مدّة رضاعه صلّى اللّه عليه و آله أرادت ردّه على جدّه جاءت به حتّى قربت من مكّة فضلّ في الطريق فطلبته جزعة و كانت تقول:

لئن لم أره لأرمينّ نفسي من شاهق و جعلت تصيح وا محمّداه فدخلت مكّة على تلك الحالة فرأت شيخا موكّئا على عصا قالت: فسألني عن حالي فأخبرته فقال: لا تبكين فأنا أدلّك على من يردّه عليك فأشار إلى هبل صنمهم الأعظم و دخل الشيخ البيت و طاف بهبل و قبّل رأسه و قال: يا سيّداه لم تزل منّتك جسيمة ردّ محمّدا على هذه السعديّة قالت حليمة: فتساقطت الأصنام لمّا تفوّه باسم محمّد و سمع صوت إنّ هلاكنا على يدي محمّد فخرج الشيخ و أسنانه تصطكّ. قالت: و خرجت إلى عبد المطّلب و أخبرته الحال فخرج و طاف بالبيت و دعا اللّه سبحانه فنودي و أشعر بمكانه فأقبل عبد المطّلب و تلقّاه ورقة بن نوفل في الطريق بينما هما يسيران إذا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان و يبعث بالورق فقال عبد المطّلب: فداك نفسي، و حمله و ردّه إلى مكّة عن كعب.

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله خرج مع عمّه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته فعدل به عن الطريق فجاء جبرئيل فنفخ إبليس نفخة دفع بها إلى الحبشة و ردّه إلى القافلة فمنّ اللّه عليه بذلك، عن سعيد بن المسيّب.

و قيل: وجدك مضلولا عنك في قوم لا يعرفون حقّك فأرشدهم إلى فضلك و كنت خامل الذكر فعرّفك اللّه و أعلى ذكرك بحيث أوجب في الصلاة الصلوات عليه و التذكير باسمه الشريف في التشهّد. و عن عاصم بن حمزة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: الصلاة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمحق للخطايا من الماء للنار، و السلام عليه أفضل من عتق رقاب و حبّه أفضل من مهج الأنفس أو قال: من ضرب السيوف.

[وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى أي كنت فقيرا و عديما فأغناك بمال خديجة أو بالغنائم و بما أفاء اللّه عليك حتّى كان صلّى اللّه عليه و آله يهب من الإبل مائة، أو قنعك و أغنى طبعك و قلبك

ص: 168

و الغنى غنى النفس أي أزال عنك فقر النفس و جعل لك الغنى الأكبر و ذلك حقيقا الغنى.

ثمّ أوصاه باليتامى و الفقراء و هي من مكارم الأخلاق فقال: [فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ] أي لا تذلّله أو لا تغلبه على ماله فتذهب بحقّه لضعفه كما كانت العرب تفعل في أمر اليتامى و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يبرّ و يحسن إلى اليتامى و يوصي بهم. و في الآية إشارة بأن كنت يتيما فآويناك فافعل أنت كذلك باليتامى.

و عن ابن أبي أوفى قال: لقد كنّا جلوسا عند رسول اللّه فأتاه غلام فقال:

غلام يتيم و اخت لي يتيمة و امّ لي أرملة أطعمنا ممّا أطعمك اللّه و أعطاك اللّه ممّا عنده حتّى ترضى قال صلّى اللّه عليه و آله: ما أحسن ما قلت يا غلام اذهب يا بلال فأتنا بما عندنا فجاء بواحدة و عشرين تمرة و لم تكن غيرها شي ء لهم فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: سبع لك و سبع لأختك و سبع لأمّك فقام إليه معاذ فمسح رأسه و قال: جبر اللّه يتمك و جعلك خلفا من أبيك و كان اليتيم من أبناء المهاجرين فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: رأيتك يا معاذ و ما صنعت قال: رحمته قال صلّى اللّه عليه و آله: لا يلي أحدكم يتيما فيحسن ولايته و وضع يده على رأسه إلّا كتب اللّه له بكلّ شعرة حسنة و محا عنه بكلّ شعرة سيّئة و رفع له بكلّ شعرة درجة و قال صلّى اللّه عليه و آله: أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتّقى اللّه. و أشار بالسبّابة و الوسطى.

[وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ] النهر الزجر بمغالظة أي فلا تزجره و لا تغلظ له بالقول بل ردّه ردّا جميلا و لسانا ليّنا إذا حرمته و ما أطعمته بسبب عدمك قال رسول اللّه: إذا أتاك سائل على فرس باسط كفّيه فقد وجب له الحقّ و لو بشقّ تمرة يريد أعط السائل كما أعطاك اللّه و أنت كنت عائلا و قيل: المراد بالسائل طالب العلم و هو متّصل بقوله: «و وجدك ضالًّا فهدى» و المعنى علّم من يسألك كما علّمك اللّه الشرائع و كنت بها غير عالم.

و في الآية بيان لجميع المكلّفين لأنّ جميع الخلق كانوا فقراء في الأصل فإذا أنعم اللّه عليهم وجب أن يعرفوا حقّ الفقراء مالا كان أو علما. و قال إبراهيم النخعي:

ص: 169

السائل يريد الآخرة لكم يجي ء إلى باب أحدكم فيقول: أ تبعثون إلى أهليكم شيئا؟ روي أنّه اهدي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنقود عنب فجاء سائل فأعطاه العنقود فاشتراه أحد من الصحابة بدرهم و قدّمه إلى رسول اللّه ثانيا ثمّ عاد السائل فأعطاه العنقود فاشتراه الصحابيّ بدرهم و قدّمه إلى رسول اللّه فجاء السائل ثالثا فقال صلّى اللّه عليه و آله: ملاطفا للسائل غير غضبان عليه أسائل أنت أم تاجر؟ فنزلت الآية.

[وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فإنّ تحديث العبد بنعمة اللّه شكر باللسان و تذكير للغير و أريد بالنعمة من النعم الموجودة و الموعودة و قيل: المراد من النعمة القرآن و هو أعظم نعم اللّه فأمره صلّى اللّه عليه و آله أن يقرءه و قيل: المراد النبوّة أي أبلغ ما أرسلت به و قيل: يعني حدّث بنعم اللّه عليك نفسك و لا تنس فضله عليك قديما و حديثا فيكون نعمه دائما حاضرا ببالك و خاطرك و لا تغفل عن تذكّره قال صلّى اللّه عليه و آله: التحدّث بالنعم شكر و تركه كفر. و أمّا الحديث الآخر: «عليكم بكتمان النعم فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» يعني عن الحسود لا غير.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 170

سورة أ لم نشرح

اشارة

* (مكية)* قال صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها اعطي من الأجر كما لقي محمّدا صلّى اللّه عليه و آله مغتمّا ففرّج عنه.

و روى أصحابنا أنّ و الضحى و ألم نشرح سورة واحدة لتعلّق إحداهما بالأخرى و لم يفصلوا بينهما ببسم اللّه الرحمن الرحيم و جمعوا بينهما في الركعة الواحدة في الفريضة و كذلك القول في سورة ألم تر كيف و لإيلاف قريش و السياق يدلّ على ذلك لأنّه قال: «ألم يجدك يتيما فآوى» إلى آخرها، ثمّ قال:

ص: 171

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الشرح (94): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

الشرح بسط اللحم و نحره يقال: شرحت اللحم، و منه شرح الصدر بنور إلهيّ و روح منه و شرح الكلام بسطه و إظهار ما يخفى من معانيه و في الحديث: «إذا دخل النور في القلب انشرح أي عاين القلب و ظهر له ما أشكل على غيره و احتمل المكاره» و الاستفهام في الآية تقريريّ و المعنى ألم نفتح صدرك و نوسّع قلبك بالنبوّة و العلم حتّى قمت بأداء الرسالة و صبرت على المكاره و اطمأننت إلى الإيمان فلم تضق به ذرعا فشرح اللّه صدره بأن ملأه علما و حكمة و رزقه حفظ القرآن.

و قيل: المعنى ألم نشرح صدرك بإذهاب الشواغل الّتي تصدّ عن إدراك الحقّ، عن ابن عبّاس قال: سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أ ينشرح الصدر؟ قال: نعم، قالوا: و كيف ينشرح الصدر و هل لذلك علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و الإعداد للموت قبل نزول الموت. و هذا الشرح من الصدر في الأمور المعنويّة و أمّا شرح الصدري الصوريّ فقد قيل: وقع مرارا؛ مرّة و هو ابن ستّ سنين لإخراج مغمز الشيطان و هو الدم الأسود الّذي به يميل الطبع و القلب إلى المعاصي و يعرض عن الطاعات و مرّة عند ابتداء الوحي و مرّة ليلة المعراج.

و قد نقل صاحب تفسير روح البيان المولى إسماعيل الحقّيّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ليلة اسري بي إلى السماء ألصقني جبرئيل بصدره، و شقّ صدري إلى سرّتي، و جاء ميكائيل بطست من ماء زمزم، و غسّل صدري و قلبي بعد أن شقّة، و ملؤوا قلبي من

ص: 172

الحكمة و الإيمان و ختموا عليه من خاتم من نور.

[وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ أي حططنا و أسقطنا عنك حملك الثقيل.

[الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ و أثقله حتّى سمع له نقيض و صوت و هذا مثل معناه أنّه لو كان جمل لسمع صوت ظهره، و كما يسمع من الرجل الصوت من شدّة ثقل الحمل و تأثير الثقل المفضي إلى انحراف بعض أجزاء الرجل عن محالّها و حصول الصوت بذلك فيه و هذا معنى الانتقاض مثّل به حاله صلّى اللّه عليه و آله بما كان به من أعباء النّبوّة الّتي تثقل الظهر من القيام بأمرها فسهّل اللّه ذلك عليه حتّى تيسّر له و أزال عنه همومه و تهالكه على إسلام المعاندين من قومه و تلهّفه، و العرب تجعل الهمّ ثقلا.

و قيل: المعنى و عصمناك من الذنوب و طهّرناك من الأدناس و الأوزار.

قال المرتضى قدّس سرّه: إنّما سمّيت الذنوب بالأوزار لأنّها تثقل كاسبها و حاملها فكلّ شي ء أثقل الإنسان و غمّه و كدّه صحّ أن يسمّى وزرا فلا يمتنع أن يكون المراد من الوزر في الآية غمّه ممّا كان عليه من قومه و أنّه و أصحابه كانوا مستضعفين في أيدي المشركين فأعلى اللّه كلمته و بسط يده فخاطبه بهذا الخطاب تذكيرا للنعمة ليقابله بالشكر.

فإن قيل: إنّ السورة مكّيّة و نزلت قبل أن يعلى اللّه كلمة الإسلام و لا وجه لهذا القول.

فالجواب أنّه لمّا بشّره بأن يعلى دينه و ينصره على أعدائه كان بذلك واضعا ثقل غمّه فإنّه صلّى اللّه عليه و آله كان واثقا بأنّ وعد اللّه حقّ و يجوز أيضا أن يكون اللفظ و إن كان ماضيا فالمراد به الاستقبال كقوله (1): «و نادى أصحاب الجنّة أصحاب النار و نادوا يا مالك ليقض علينا ربّك».

[وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بعنوان النبوّة و قرنّا ذكرك بذكرنا و تذكر معي في الأذان و التشهّد و الخطبة، و رفع ذكره في الدنيا و الآخرة و جعل طاعته طاعته تعالى و صلّى عليه هو و ملائكته و أمر المؤمنين بالصلاة عليه و سمّاه رسول اللّه و لقّبه

ص: 173


1- سورة الأعراف: 45. سورة الزخرف: 77.

بألقاب عالية شريفة.

[فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً] كان المشركون يعيّرون رسول اللّه و المؤمنين بالفقر و الضيقة و كان المؤمنون في الشدّة فوعده سبحانه بتيسير كلّ عسير له. و اللّام للاستغراق و في كلمة «مع» إشعار بغاية سرعة مجي ء اليسر كأنّه مقارن للعسر و في تعريف العسر و تنكير اليسر إشارة إلى أنّ اليسر غالب على العسر على أنّه سبقت الرحمة الغضب و العسر قد يكون في الغالب جلاء لقلوب الأكابر و توسعة لاستعدادهم و مقامهم كما قيل: أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ الأولياء ثمّ الأولياء ثمّ الأمثل فالأمثل.

[إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً] تكرير للتأكيد روي عن عطا عن ابن عبّاس قال:

يقول اللّه: خلقت عسرا واحدا و خلقت يسرين فلن يغلب عسر يسرين. قال الفرّاء:

إنّ العرب تقول إذا ذكرت نكرة ثمّ أعدتها مثلها صارتا اثنتين كقولك: «إذا كسبت درهما فأنفق درهما» فالثاني غير الأوّل و إذا أعدتها معرفة فهي كقولك: «إذا اكتسبت درهما فأنفق الدرهم» فالثاني هو الأوّل.

[فَإِذا فَرَغْتَ من التبليغ أو من المصالح اللازمة في أشغالك [فَانْصَبْ إلى ربّك في الدعاء و ارغب إليه في المسألة يعطك، و معنى انصب أي لا تشتغل بالراحة و ألزم نفسك النصب و التعب في العبادة.

و قيل: المعنى فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربّك في الدعاء و المسألة و هذا المعنى عن مجاهد و الضحّاك و قتادة و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام و قال الصادق عليه السّلام: هو الدعاء في دبر الصلاة و أنت جالس.

و قيل: معناه إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل عن ابن عبّاس و ابن مسعود.

و قيل: فإذا فرغت من جهاد أعدائك فانصب بالعبادة للّه.

و قيل: فإذا فرغت من أداء الرسالة فانصب لطلب الشفاعة.

و قيل: إذا صححت فاجعل صحّتك و فراغك نصبا في العبادة.

و قيل: إذا فرغت من تلقّي الوحي فانصب في تبليغه. و ينبغي للمرء أن لا

ص: 174

يكون فارغا مهملا أو يشتغل بما لا ينفعه في دينه و دنياه لأنّه من سخافة العقل و استيلاء الغفلة و أن يكون في عمل نافع له فإذا فرغ من عمل خير أتبعه بآخر حتّى لا يضيع عمره.

[وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي فارفع حوائجك إلى ربّك وحده و لا ترفعها إلى أحد من خلقه. و تقديم الجارّ يفيد الحصر.

و قيل: المعنى تضرّع إليه راغبا في الجنّة و راهبا من النار. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 175

سورة التين

اشارة

* (ثماني آيات مكية)* بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التين (95): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) وَ طُورِ سِينِينَ (2) وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)

أقسم اللّه سبحانه بالتين الّذي يؤكل و الزيتون الّذي يعصر منه الزيت عن ابن عبّاس و الحسن و مجاهد و عكرمة و قتادة و عطاء و هو الظاهر، و هو فاكهة مخلّصة من شائب التنقيص و جعل خلقته على مقدار اللقمة و هيئتها. روى أبو ذرّ أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه: كلوا فلو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنّة لقلت هذا لأنّ فاكهة الجنّة بلا عجم فكلوها فإنّها تقطع البواسير و تنفع النقرس. و عن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قال: التين يزيل نكهة الفم و يطوّل الشعر و هو أمان من الفالج.

و قيل: لمّا عصى آدم عليه السّلام و فارقته ثيابه تستّر بورق التين و لمّا نزل و كان متستّرا بورق التين استوحش فطافت الظباء حوله فاستأنس بها فأطعمها بعض ورق التين فرزقها اللّه الجمال صورة و الملاحة معنى و غيّر دمها مسكا فلمّا تفرّقت الظباء إلى مساكنها رأى غيرها عليها من الجمال ما أعجبه فلمّا كان الغد جاءت ظباء آخر على الأوّل فأطعمها آدم من الورق فغيّر اللّه حالها من الجمال دون المسك و ذلك لأنّ الاولى جاءت إلى آدم لأجله لا لأجل الطمع و الطائفة الاخرى جاءت إليه ظاهرا

ص: 176

و للطمع باطنا فلا جرم غيّر الظاهر دون الباطن.

و في كتاب أمثلة الحكم أنّ سائر الأشجار يخرج ثمرها في كمامها و يخرج كمامها أوّلا ثمّ يخرج ثمارها و شجرة التين أوّل ما يبدو ثمرها بارزا من غير كمام لأنّ آدم لم يستره إلّا شجرة التين فقال اللّه: بعد ما سترت اخرج منك المعنى قبل الدعوى و سائر الأشجار يخرج منها الدعوى قبل المعنى. و في خريدة العجائب: إذا نثر رماد خشب التين في البساتين هلك منه الدود و دخان التين يهرب منه البقّ و البعوض.

و أمّا الزيتون فهو فاكهة و أدام و دواء لبعض الأمراض و لو لم يكن له سوى اختصاصه بدهن كثير المنافع مع حصوله في بقاع لا دهن فيها كالجبال لكفى به فضلا و نفعا، و شجرته هي الشجرة المباركة المشهورة في التنزيل.

قال معاذ بن جبل: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: نعم سواك الزيتون، هو سواكي و سواك الأنبياء من قبلي، و شجرة الزيتون يعمر ثلاثة آلاف سنة و هي تصبر عن الماء طويلا كالنخل و إذا لقط ثمرتها جنب فسدت و ألقت حملها و انتثر ورقها و ينبغي أن تغرس في المدر لكثرة الغبار لأنّ الغبار كلّما علا على زيتونها زاد دسمه و نضجه.

و رماد ورقها تنفع العين كحلا و يقوم مقام التوتيا. و في الحديث عليكم بالزيت فإنّه يكشف المرّة و يذهب البلغم و يشدّ العصب و يمنع الغشي و يحسّن الخلق و يطيّب النفس و يذهب بالهمّ قال الفاضل السهيليّ: إنّ التين في المنام رجل خير غنيّ فمن ناله في المنام نال مالا و سعة و من أكله في المنام رزقه اللّه أولادا و من أخذ ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى.

و بالجملة هذا أحد الأقوال في المقسم به على أنّ المراد من الآية هذا التين المأكول و الزيتون المعصور. و ثاني الأقوال أنّ المراد بالتين الجبل الّتي بني عليه دمشق و الزيتون الجبل الّذي عليه بيت المقدس و قال عكرمة: و إنّما سمّيا بهما لأنّ التين و الزيتون ينبتان فيهما.

و قيل: التين مسجد دمشق و الزيتون بيت المقدس.

ص: 177

و قيل: التين مسجد نوح الّذي بنى على الجوديّ و الزيتون بيت المقدس.

و قيل: التين مسجد الحرام و الزيتون المسجد الأقصى.

[وَ طُورِ سِينِينَ هو الجبل الّذي ناجى عليه موسى عليه السّلام ربّه. قال الماوردي:

ليس كلّ جبل يقال له «طور»: إلّا أن يكون فيه الأشجار و الثمار و إلّا فهو جبل فقط.

و سينين و سيناء علمان للموضع الّذي هو فيه، و معنى سينين بالسريانيّة ذو الشجر أو حسن مبارك بلغة الحبشة.

و في كشف الأسرار: أصل سينين سيناء بفتح السين و كسرها، و إنّما قال هاهنا سينين لأنّ تاج الآيات النون كما قال: (1) «سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ» و هو إلياس فخرج على تاج آيات السورة.

[وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ و هو مكّة شرّفها اللّه، و أمانتها أنّها تحفظ من دخلها جاهليّة و إسلاما من قتل و سبي كما يحفظ الأمين الأمانة. و يجوز أن يكون فعيل بمعنى مفعول لأنّه مأمون الغوائل كما وصف بالأمن في قوله (2): «حَرَماً آمِناً»* و معنى القسم بهذا الأشياء إبانة شرافتها و ما ظهر فيها من الخير و البركة بسكنى الأنبياء و الصالحين و مهاجر إبراهيم و مولد عيسى و محلّ نداء موسى و مولد رسول اللّه و هدى للعالمين.

[لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ هو جواب القسم يقال: قام الأمر اعتدل و استقام و قوّمته عدّلته و التقويم تصيير الشي ء على ما ينبغي أن يكون عليه في التأليف و التعديل و حسن الصورة، قيل: إنّه في زمن يحيى بن أكثم خلا ملك بزوجته في ليلة مقمرة فقال الملك لزوجته: إن لم تكوني أحسن من القمر فأنا كذا، فأفتى الفقهاء بالحنث إلّا يحيى بن أكثم و قال: لا يحنث، فقالوا: خالفت شيوخك فقال:

الفتوى بالعلم و لقد أفتى من هو أعلم منّا و هو اللّه تعالى قال: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» فالإنسان أحسن الأشياء و لا شي ء أحسن منه انتهى. و قد خصّ الإنسان من بين الحيوان من العقل و الفهم و العلم و بحسب الصورة من انتصاب القامة

ص: 178


1- الصافات: 131.
2- سورة العنكبوت: 67.

و حسن الشكل و هو مظهر الجلال و الكمال.

[ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ و أسفل سافلين حال من المفعول أي رددناه حالكونه أسفل سافلين أو صفة لمكان محذوف أي رددناه إلى مكان هو أسفل أمكنة السافلين و جعلناه من أهل النار الّذي هو أقبح من كلّ قبيح لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات الّتي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى علّيّين، و حوّل حاله من أحسن تقويم إلى أقبح تقويم صورة و معنى لأنّ مسخ الظاهر إنّما هو من مسخ الباطن، هذا أحد القولين في تفسير الآية و القول الثاني أنّه يردّ إلى أرذل العمر من الخوف و الهرم و نقصان العقل. و السافلون هم الضعفاء و الزمنى و الأطفال.

ثمّ استثنى فقال: [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و الاستثناء يؤيد معنى الأوّل و من قال بالقول الثاني قال: إنّ المؤمن لا يردّ إلى الخرف و إن عمر عمرا طويلا و إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز معه من العمل كتب له من العمل ما كان حين يعمل في شبابه و قوّته، و المراد من الّذين آمنوا الّذين أخلصوا العبادة للّه و أضافوا إلى ذلك الأعمال الحسنة، و قرءوا القرآن فإنّ هؤلاء لا يردّون إلى النار. و عن ابن عباس من قرء القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر و الاستثناء على المعنى الأوّل استثناء متّصل من ضمير «رددناه» فإنّه في معنى الجمع و على الثاني منقطع.

[فَلَهُمْ أَجْرٌ] في دار الكرامة و لا يغيّر صورهم بل هم على أحسن تقويمهم باقون في الجنّة و دار الكرامة [غَيْرُ مَمْنُونٍ غير منقطع على طاعتهم و أعمالهم الصالحة روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ المؤمن إذا مات صعد الملكان إلى السماء فيقولان إنّ عبدك فلان قد مات فائذن لنا حتّى نعبدك في السماء فيقول اللّه: إنّ سماواتي مملوءة بملائكتي و لكن اذهبا إلى قبره و اكتبا حسناته إلى يوم القيامه.

[فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ بعد مبنيّ على الضمّ لحذف المضاف إليه و نيّته و الاستفهام مشعر بالتعجّب أي أيّ شي ء يكذّبك أيّها الإنسان بعد هذه الحجج و الآيات بالجزاء و البعث و ينسبك إلى التكذيب بالبعث فإنّ من خلق الإنسان السويّ من الماء المهين و جعل ظاهره و باطنه على أحسن تقويم إلى أن

ص: 179

استكمل و استوى ثمّ نكّسه و حوّله من حال إلى حال كمالا و نقصانا بحيث يشاهد كلّ أحد في نفسه هذه التغيّرات فأيّ شي ء يضطرّه إلى إنكار الجزاء.

[أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ هذا تقرير للإنسان على الاعتراف بأنّه أحكم الحاكمين أي أليس الّذي بقدرته فعل و قدّر هذه الأمور صنعا و تدبيرا بأحكم الحاكمين حتّى يجازي الصالح و الطالح؟ فكيف يتصوّر عدم الحكم و الجزاء و البعث للجزاء و جريان العدل في حكمه بين المصدّق و المكذّب، بلى يا ربّ أنت أحكم الحاكمين و أنا على ذلك من الشاهدين. و من قرء هذه الآية فليقل هذه الكلمات.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 180

سورة العلق

اشارة

* (مكية)* عن النبيّ من قرأها كأنّها قرأ المفصّل (1) كلّه. و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأها في نومه أو في ليلته ثمّ مات في يومه أو في ليلته مات شهيدا و بعثه اللّه شهيدا و كان كمن ضرب بسيفه في سبيل اللّه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 181


1- المفصل من سورة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) إلى آخر القرآن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العلق (96): الآيات 1 الى 19]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)

عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9)

عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (13) أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)

كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (19)

أمر من اللّه أمر نبيّه أن يقرء باسم ربّه و أن يدعوه بالأسماء الحسنى و في تعظيم الاسم تعظيم المسمّى، لأنّ الاسم ذكر المسمّى بما يخصّه و الباء زائدة و التقدير:

اقرأ اسم ربّك.

و أكثر المفسّرين على أنّ هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن الكريم و أوّل يوم نزل جبرئيل عليه صلّى اللّه عليه و آله و هو قائم في حراء علّمه خمس آيات من أوّل هذه السورة و قيل: أوّل ما نزل من القرآن قوله (1): «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» و قيل: أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاتحة الكتاب.

و روى الحاكم أبو عبد اللّه الحافظ بإسناده عن عمرو بن شرحيل أنّ رسول اللّه قال لخديجة: إنّي إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقالت: ما يفعل اللّه بك إلّا خيرا فو اللّه إنّك لتؤدّي الأمانة و تصل الرحم و تصدق الحديث قالت خديجة: فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى و هو ابن عمّ خديجة فأخبره رسول اللّه بما رأى فقال له ورقة: إذن أتاك فاثبت له حتّى تسمع ما تقول ثمّ ائتني فأخبرني فلمّا خلا ناداه يا محمّد قل: «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه رب العالمين- حتّى بلغ-

ص: 182


1- سورة المدثر: 1.

و لا الضالّين قل: لا إله إلّا اللّه» فأتى صلّى اللّه عليه و آله ورقة و ذكر له ذلك فقال له ورقة: ابشر ابشر فأنا أشهد أنّك الّذي بشّر به ابن مريم و إنّك على مثل ناموس موسى و إنّك نبيّ مرسل و إنّك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا و لئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك. فلمّا توفّي ورقة قال رسول اللّه: «لقد رأيت القسّ في الجنّة عليه ثياب الحرير لأنّه آمن بي و صدّقني» يعني ورقة.

[اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي ما يوحى إليك يا محمّد و قوله: «علّم الإنسان ما لم يعلم» يؤيّد أنّ هذه السورة أوّل ما نزلت عليه. و أوّل ما ابتدأ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين أراد اللّه به النبوّة الرؤيا الصالحة كان لا يرى رؤيا إلّا جاءت كفلق الصبح فلا يشكّ فيها أحد كما لا يشكّ في وضوح ضياء الصبح، و إنّما ابتدأ صلّى اللّه عليه و آله بالرؤيا لئلّا يفجأه الملك الّذي هو جبرئيل بالرسالة فلا تتحمّلها قوّة البشريّة لأنّها لا تحتمل رؤية الملك و إن لم يكن على صورة الأصليّة و لا على سماع صوته فكانت الرؤيا تأنيسا له و كانت مدّت الرؤيا ستّة أشهر و كان عليه السّلام في تلك المدّة إذا خلا يسمع نداء يا محمّد يا محمّد و يرى نورا يقظة و كان صلّى اللّه عليه و آله يخشى أن يكون الّذي يناديه تابعا من الجنّ كما ينادي الكهنة و كان في جبل حراء غار و هو الجبل الّذي نادى رسول اللّه بقوله:

إليّ يا رسول اللّه لمّا قال له «ثبير» و هو على ظهره: اهبط عنّي يا رسول اللّه فإنّي أخاف أن تقتل على ظهري، و كان صلّى اللّه عليه و آله يتعبّد في ذلك الغار ليالي ثلاثا و سبعا و شهرا و يتزوّد لذلك من الكعك (1) و الزيت و أوّل من تعبّد فيه من قريش جدّه عبد المطّلب ثمّ تبعه سائر المتألّهين و هم أبو اميّة بن المغيرة و ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة و كان ورقة قد قرء الكتب و كتب الكتاب العبريّ و كان شيخا كبيرا قد عمي في أواخر عمره.

ثمّ لمّا بلغ عليه صلّى اللّه عليه و آله رأس الأربعين و دخلت ليلة سبع عشرة من رمضان جاءه الملك و هو في الغار كما قال الصرصريّ:

و أتت عليه أربعون فأشرقت شمس النبوّة منه في رمضان

قالت عائشة: جاءه الملك سحر يوم الاثنين فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارئ ب.

ص: 183


1- الكعك خبز يعمل من الدقيق و الحليب.

قال: فأخذني و ضمّني و عصرني ثمّ أرسلنى فعله ثلاث مرّات ثمّ قال: «اقرأ» إلى قوله: «ما لم يعلم» فخرج صلّى اللّه عليه و آله من الغار حتّى إذا كان في جانب من الجبل سمع صوتا يقول: يا محمّد أنت رسول اللّه و أنا جبرئيل، و رجع إلى خديجة يرجف فؤاده فحدّثها بما جرى فقالت له: ابشر يا ابن عمّي و اثبت فو الّذي نفسي بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمّة، و مكث صلّى اللّه عليه و آله مدّة لا يرى جبرئيل. و كانت وفاة ورقة بن نوفل مدّة الفترة أي فترة الوحي بين «اقرأ» و بين «يا أيّها المدّثّر».

[بِاسْمِ رَبِّكَ أي مبتدئا باسمه أي «قل و اقرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» [الَّذِي خَلَقَ نورك قبل الأشياء أو خلق جميع المخلوقات على مقتضى حكمته و أخرجهم من العدم إلى الوجود.

و في كتاب شمس المعارف: أوّل آية نزلت على وجه الأرض «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» يعني على آدم الصفيّ عليه السّلام فقال آدم: الآن علمت أنّ ذرّيّتي لا تعذّب بالنار مادامت عليها ثمّ أنزلت على إبراهيم في المنجنيق فأنجاه اللّه بها من النار ثمّ على موسى فقهر بها على فرعون و جنوده ثمّ على سليمان فقالت الملائكة: الآن و قد تمّ ملكك فهي آية الرحمة و الأمان لرسله و أممهم، و لمّا نزلت على رسول اللّه و ذكرت في سورة النمل (1) «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» كانت فتحا عظيما، أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكتب على رؤوس السور و أوائل الرسائل و الدفاتر و حلف ربّ العزّة بعزّته أن لا يسمّيه عبد مؤمن على شي ء إلّا بورك له فيه و كانت لقائلها حجابا من النار و هي تسعة عشر حرفا تدفع تسعة عشر زبانية.

و في الحديث النبويّ: لو وضعت السماوات و الأرضون و ما فيهنّ و ما بينهنّ في كفّة و البسملة في كفّة لرجحت عليها. انتهى. و إنّما وصف نفسه بقوله: «الّذي خلق» لأنّه تعالى لمّا ذكر الربّ و كانت العرب في الجاهليّة تسمّي الأصنام أربابا أتى بالصفة الّتي لا شركة للأصنام فيها فقال: «الّذي خلق».

ص: 184


1- آية: 31- 32.

[خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ و التخصيص لخلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات لاستقلاله ببدائع الصنع في خلقته أو تفخيم لشأنه صلّى اللّه عليه و آله إذ هو أشرفهم و عليه نزل القرآن و هو أوّل المأمور بقراءته «من علق» و هو الدم الجامد بعد النطفة إذ المراد جنس بني آدم و المراد بيان أطوار الخلقة الإنسانيّة، إنّه تعالى خلق أصله من التراب أو الدم و هو في غاية من المهانة ثمّ بلغ به مبالغ الكمال مفرّغا في قالب الاعتدال حتّى صار بشرا سويّا مهيّأ للنطق و إدراك المعاني و انتقل من حال إلى حال حتّى استكمل إلى أن بلغ درجة النبوّة و الرسالة و أظهر قدرته بإظهار ما بين حالتي الإنسان بداية و نهاية من التباين و إيراد كلمة العلق بلفظ الجنس و الجمع و لم يقل: «علقة» لأنّ الإنسان في معنى الجمع لأنّ الألف و اللام في الإنسان للاستغراق و لمراعاة الفواصل.

و لمّا كان الإنسان أقوم الدلائل الدالّة على قدرته و علمه تعالى وصف ذاته بذلك، و لمّا كان أراد سبحانه أن يعترف المشركون بوحدانيّته لو قال لهم: «اقرأ باسم ربّك الّذي لا شريك له» لأبوا أن يقبلوا منه ذلك فقدّم مقدّمة تلجئهم إلى الاعتراف فأمر رسوله أن يقول لهم: إنّهم خلقوا من العلقة و لا يمكنهم إنكار ذلك و لا يمكنهم أن (ينسبوا) ذلك الفعل إلى الوثن لأنّهم هم نحتوه فبهذا التدريج إذا تأمّلوا عرفوا أنّه تعالى هو المستحقّ للثناء دون الأوثان لأنّ الإلهيّة موقوفة على الخالقيّة و من لا يخلق شيئا كيف يكون إلها مستحقّا للعبادة؟ على أنّها هي مخلوقة.

[اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ أي افعل ما أمرت به و كرّر الأمر بالقراءة قيل:

لأنّه أمره في الأمر الأوّل بالقراءة لنفسه و في الثاني بالقراءة للتبليغ فحينئذ ليس بتكرار و قيل: التكرار للتأكيد و تمهيدا لما يعقّبه من قوله: «و ربّك الأكرم» فإنّه كلام مستأنف وارد لإزاحة عذره صلّى اللّه عليه و آله: «ما أنا بقارئ» حين أمره جبرئيل بالقراءة يريد صلّى اللّه عليه و آله أنّ القراءة شأن من يكتب و يقرء و أنا امّي فقيل له: و ربّك الّذي أمرك بالقراءة مبتدئا باسمه و هو الأكرم و الزائد الكرم على كلّ كريم.

ص: 185

[الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم ما علّم بواسطة القلم فكما علّم القارئ بواسطة الكتابة و القلم يعلّمك بدونهما فوصف نفسه تعالى بخلق الإنسان من علق و بأنّه الّذي علّمه بالقلم، و المناسبة بين الأمرين أنّ أوّل أحوال الإنسان كونه علقة و شيئا خسيسا و آخر أمره هو صيرورته عالما و هو مقام شريف و ليس هذا الكمال إلّا من قدرته تعالى شأنه و تنبيه على أنّ العلم أشرف الصفات و يبقى العلم بالخطّ و القلم و هو نعمة عظيمة و لو لا القلم ما استقامت امور الدّين و الدنيا.

قال كعب الأحبار: من وضع الكتاب آدم عليه السّلام قبل موته بثلاثمائة سنة كتب بالعربيّ و السريانيّ كتبها في الطين ثمّ طبخه فاستخرج إدريس ما كتب آدم و هذا هو الأصحّ و أمّا أوّل من كتب الرمل فإدريس عليه السّلام و أوّل من كتب بالفارسية طهمورث ثالث ملوك الفرس و أوّل من اتّخذ القرطاس يوسف عليه السّلام.

قال السيوطيّ: أول ما خلق اللّه القلم قال له: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، و أوّل ما كتب القلم: أنا التوّاب أتوب على من تاب.

[عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ بدل اشتمال من «علّم بالقلم» و تعيّن للمفعول أي علّمه به و بدونه من الأمور ما لم يكن يعلمه و لم يخطر بباله.

فإن قلت: فإذا كان القلم و الخطّ من المنن الإلهيّة فما باله صلّى اللّه عليه و آله لم يكتب؟

فالجواب أنّ هذا الأمر مزيد فضل له لا نقيصة لو فرضنا أنّه لم يكتب، و قد ورد في الحديث بخلافه أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يكتب و يعرف سبعين لغة و لو صحّ أنّه لم يكتب و لم يقرء لأنّه لو كتب لقيل: قرء القرآن من صحف الأوّلين و لعلّ المراد من أنّه لم يكتب و لم يقرء أي ما تلمّذ في الدرس و الكتابة عند أستاذ و كيف يحتاج إلى الكتابة و الدراسة من كان القلم الأعلى يخدمه و اللوح المحفوظ مصحفه بل القلم الأعلى الّذي هو أوّل موجود يكون روح النبويّ فإنّ اللّه علّم القلوب بواسطة ما لم يعلم من العلوم التفصيليّة.

[كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ردع و منع لمن كفر بنعمة اللّه و إن لم يذكر، أو معناه حقّا أنّ الإنسان يتجاوز حدّه و يستكبر على ربّه لأن رأى نفسه مستغنيا

ص: 186

بعشيرته و بماله، قيل: نزلت في أبي جهل بن هشام من هنا إلى آخر السورة.

روي أنّ أبا جهل قال لرسول اللّه: أ تزعم أنّ من استغنى طغا؟ فاجعل لنا جبال مكّة فضّة و ذهبا لعلّنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا و نتّبع دينك، فنزل جبرئيل فقال: إن شئت فعلنا ذلك ثمّ إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الدعاء إبقاء عليهم و رحمة، و أوّل هذه السورة يدلّ على مدح العلم و آخرها على مذمّة المال و كفى بذلك مرغّبا في العلم و منفّرا عن المال و الدنيا و كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من غنى يطغى و فقر ينسى.

[إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى الرجعى مصدر بمعنى الرجوع و الألف للتأنيث أي إنّ إلى مالك أمرك أيّها الإنسان رجوع الكلّ بالموت و البعث لا إلى غيره فسترى عاقبة طغيانك.

[أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى الخطاب لكلّ من يتأتّى منه الرؤية و الاستفهام للتعجّب و الرؤية بصريّة و تنكير العبد للتفخيم، روي أنّ أبا جهل قال في ملأ من طغاة قريش: لئن رأيت محمّدا يصلّي لأطأنّ عنقه و همّ أن يلقي على رأسه الشريف حجرا فرآه و هو في صلاة الظهر فجاءه ثمّ نكص على عقبيه فقالوا: مالك؟ فقال:

إنّ بيني و بينه لخندقا من نار و هولا و أجنحة، و المراد أجنحة الملائكة، أبصر اللعين الأجنحة و لم يبصر أصحابها فقال صلّى اللّه عليه و آله: و الّذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا. و كان أبو جهل يكنّى بأبي الحكم لأنّهم كانوا يزعمون أنّه عالم ذو حكمة و ذلك في الجاهليّة ثمّ سمّي أبا جهلا في الإسلام.

و حاصل معنى الآية: أ رأيت من منع من الصلاة ماذا يكون حاله عند اللّه و ما الّذي يستحقّه من العذاب؟ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف و الآية عامّة في كلّ الصلاة و عن الخير.

كرّر سبحانه لفظة التعجيب تأكيدا فقال: [أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يعني العبد المنهيّ عن الصلاة و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله [أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى عن الشرك و أمر

ص: 187

بالإخلاص و التوحيد و مخافة اللّه كيف يكون حال من ينهاه عن هذه الأمور و يزجره عنها.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه خرج في يوم عيد فرأى ناسا يصلّون فقال يا أيّها الناس قد شهدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مثل هذا اليوم فلم يكن أحد يصلّي قبل العيد فقال رجل: يا أمير المؤمنين ألا تنهى أن يصلّوا قبل خروج الإمام؟ فقال:

لا أريد أن أنهى عبدا إذا صلّى و لكنّا نحدّثهم بما شهدنا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: في معنى قوله: «أ رأيت إن كان على الهدى» يرجع ضمير كان إلى الكافر تلهّفا عليه فمعنى الآية أنّه إذا كان و صار على الهدى و اشتغل بما ينفعه و يأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر باللّه و النهي عن عبادة اللّه؟ كأنّه سبحانه تلهّف على ذلك الكافر بأنّه كيف فوّت على نفسه المراتب العالية و قنع بالدنيا و ارتكب الضلالة و اختارها على الهدى.

[أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى عن الإيمان و أعرض عن قبوله و الإصغاء إليه [أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى جواب للشرط الثانية و التقدير أ رأيت الّذي فعل التكذيب و الإعراض ما الّذي يستحقّ بذلك من اللّه تعالى من العقاب، و الآية عظة لجميع الناس و تهديد لمن يمنع عن الخير و الطاعة، و الآية و إن نزلت في أبي جهل لكن كلّ من نهى عن طاعة اللّه فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد.

[كَلَّا] ردع للناهي عن عبادة اللّه [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اللّام موطّئة للقسم أي و اللّه لئن لم ينته عمّا هو عليه و لم ينزجر و لم يتب و لم يسلم قبل الموت [لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ] أصله لنسفعن بالخفيفة للتأكيد و نظيره (1) «و ليكونا من الصاغرين» كتب في المصحف بالألف على حكم الوقف فإنّه يوقف على هذه النون بالألف تشبيها لها بالتنوين.

و السفع الجنب و الجرّ الشديد أي لنأخذنّ في الآخرة بناصيته و لنسحبنّه بها إلى النار بمعنى لنأمرنّ الزبانية ليأخذوا بناصيته و يجرّوه بالتحقير و الإهانة إلى النار و كانت العرب تأنف من جرّ الناصية، و الاكتفاء بلام العهد عن الإضافة لظهور أنّ

ص: 188


1- سورة يوسف: 32.

المراد ناصية الناهي و المعرض، و لعلّ السبب في تخصيص السفع بالناصية لأنّ أبا جهل اللعين كان شديد الاهتمام بترجيل الناصية و ترتيبها و تطييبها و قد وقع السفع للعين يوم بدر في الدنيا قبل الآخرة.

روي أنّه لمّا نزلت سورة الرحمن قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من يقرءها على رؤساء قريش؟ فتثاقلوا فقام ابن مسعود و قال: أنا فأجلسه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: ثانيا من يقرءها عليهم؟ فلم يقم إلّا ابن مسعود و ما كان يومئذ علي حاضرا ثمّ قال: من يقرءها عليهم؟ فقام ابن مسعود إلى أن أذن له و كان صلّى اللّه عليه و آله يبقي عليه و لا يأذنه لما كان يعلم من ضعفه و صغر جثّته، ثمّ إنّه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح عبد اللّه قراءة السورة فقام أبو جهل فلطمه فشقّ أذنه و أدماها فانصرف ابن مسعود و عينه تدمع فلمّا رآه صلّى اللّه عليه و آله رقّ قلبه و أطرق رأسه مغموما فإذا جبرئيل جاء ضاحكا مستبشرا فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل تضحك و يبكى ابن مسعود، فقال جبرئيل:

سيعلم، فلمّا ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظّ في الجهاد فقال صلّى اللّه عليه و آله: لابن مسعود خذ رمحك و التمس في الجرحى من الكافرين فمن كان له رمق فاقتله فإنّك تنال ثواب المجاهدين فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف عبد اللّه أن يكون به رمق فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه ثمّ لمّا عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه و كان نحيفا جدّا فارتقى على صدر اللّعين بحيلة فلمّا رآه أبو جهل قال له: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو و لا يعلى عليه، فقال له أبو جهل: بلّغ صاحبك أنّه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حال مماتي (روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا سمع ذلك قال:

فرعوني أشدّ من فرعون موسى فإنّه قال: آمنت، و هو قد زاد عتوّا) ثمّ قال: يا ابن مسعود هاك سيفي و اقطع به لأنّه أحدّ و أقطع، فلمّا قطع رأسه لم يقدر على حمله فشقّ اذنه و جعل الخيط فيها و جعل يجرّه إلى رسول اللّه و جبرئيل كان حاضرا عند رسول اللّه يضحك و يقول: يا محمّد اذن باذن لكنّ الرأس هاهنا مع الاذن مقطوع.

[ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ] بدل من الناصية و إنّما جاز إبدال النكرة من المعرفة

ص: 189

لأنّها موصوفة، و وصف الناصية بالكذب و الخطاء على الإسناد المجازيّ و المراد صاحبها و في الكلام مبالغة في الكذب و الخطاء كأنّه من شدّة كذبه و كثرة خطائه ظاهر في ناصيته.

[فَلْيَدْعُ نادِيَهُ من الدعوة يعني أهل ناديه و مجلسه ليعينوه. و النادي المجلس الّذي يجتمعون و ينتدون فيه القوم. روي أنّ أبا جهل مرّ برسول اللّه و هو يصلّي فقال: ألم ننهك؟ فأغلظ له رسول اللّه فقال أبو جهل: أ تهدّدني و أنا أكثر أهل الوادي ناديا؟ و دار الندوة بمكّة، فنزلت:

[سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ] أي ملائكة العذاب قال صلّى اللّه عليه و آله: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا. و حذف الواو من غير قاعدة إلّا أنّه اجتمعت المصاحف العثمانيّة في حذف الواو من «سندع» و لعلّ السبب فيه للمشاكلة مع «فليدع» و قال ابن خالويه: إنّ الأصل سندعو بالواو غير أنّ الواو ساكنة فاستثقلتها اللام الساكنة فسقطت الواو في المصحف من سندع و (1) «يَدْعُ الْإِنْسانُ» و (2) «يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ» و كذلك الياء من (3) «وادِ النَّمْلِ» و «إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا» (4) و الزبانية في الأصل في كلام العرب الشرط كصرد جمع شرطة بضمّ الشين و هم أعوان الولاة سمّوا بذلك لأنّهم أعلموا و عرّفوا أنفسهم بعلامات يعرفون بها، و الأشراط العلائم و الواحد زبنية من الزبن كالضرب و هو الدفع لأنّهم يدفعون الكفّار و يزبنونهم في جهنّم بدفع شديد و قيل: الواحد زبنى.

[كَلَّا] ردع بعد ردع للناهي المذكور [لا تُطِعْهُ أي دم على صلاتك و معاصاة ذلك الناهي الكاذب الخاطئ [وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ و واظب سجودك غير مكترث به و تقرّب بذلك السجود إلى ربّك، و في الحديث: أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا سجد فأكثروا من الدعاء في السجود.

روي أنّ إبراهيم الخليل عليه السّلام أضاف يوما مائتي مجوسيّ فلمّا أكلوا قالوا:

ص: 190


1- سورة الإسراء: 11.
2- «الشورى: 24.
3- «النمل: 18.
4- «الحج: 54.

مرنا يا إبراهيم قال: إنّ لي إليكم حاجة فقالوا: ما حاجتك؟ قال: اسجدوا لربّي سجدة واحدة فتشاوروا فيما بينهم فقالوا: إنّ هذا الرجل قد صنع معروفا كثيرا فلو سجدنا لربّه ثمّ رجعنا إلى آلهتنا لا يضرّنا بشي ء، فسجدوا جميعا فلمّا وضعوا رؤوسهم على الأرض ناجى إبراهيم ربّه فقال: إنّي جهدت جهدي حتّى حمّلتهم على هذا و لا طاقة لي على غيره و إنّما التوفيق منك اللّهمّ زيّن صدورهم بالإسلام، فلمّا رفعوا رؤوسهم من السجود أسلموا.

و للسجدة أقسام: سجدة الصلاة و سجدة التلاوة مثل هذه الآية، و سجدة السهو، و سجدة التعظيم لجلال اللّه، و سجدة التضرّع إليه خوفا و طمعا، و سجدة الشكر و سجدة المناجاة. و هذه- ما عدا الثلاثة الاول- مستحبّة صادرة عن الملائكة و الأنبياء و الأولياء و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله قرأ في سجدة اقرأ: «أعوذ بعفوك من عقابك و أعوذ برضاك من سخطك و أعوذ بك منك» تمّت السورة بعون اللّه

ص: 191

سورة القدر

اشارة

* (مكية)* و قيل: مدنيّة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قرأها اعطي من الأجر كمن صام رمضان و أحيا ليلة القدر و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من قرأها في فريضة من الفرائض نادى مناد يا عبد اللّه قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل. و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأها بجهر كان كشاهر سيفه في سبيل اللّه و من قرأها سرّا كان كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه و من قرأها عشر مرّات محا اللّه ألف ذنب من ذنوبه.

ص: 192

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القدر (97): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)

سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

النون نون العظمة أو للدّلالة على الذات و الصفات و الأسماء، و الضمير للقرآن لأنّ شهرته تقوم مقام تصريحه و ذكره، فكأنّه حاضر في الأذهان و أسند إنزاله إلى جنابه مع أنّ نزوله إنّما يكون بواسطة جبرئيل على طريقة القصر بتقديم الفاعل المعنويّ فاكتفى بذكر الأصل عن ذكر التبع. و معنى صيغة الماضي أنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر و قدّرناه في الأزل.

فلو قيل: إنّ الإنزال يستعمل في الدفعيّ و القرآن لم ينزل جملة واحدة بل انزل مفترقا في ثلاث و عشرين سنة.

جوابه أنّ المراد أنّ جبرئيل نزل به جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا و أملاه على السفرة أي الملائكة الكاتبين في تلك السماء ثمّ كان ينزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منجّما على حسب الحاجة و المصالح و كان ابتداء تنزيله أيضا في تلك الليلة.

و فيه إشارة إلى أنّ بيت العزّة أشرف المقامات السماويّة بعد اللّوح المحفوظ لنزول القرآن منه إليه و لذلك قالوا بفضل السماء الدنيا الاولى على أخواتها لأنّها مقرّ الوحي الإلهيّ و لشرف المكان بالمكين فالمكان الشريف يزداد شرفا بالمكين الشريف، و في التدريج تسهيل العمل به و الحفظ و تثبيت للفؤاد. و كلام اللّه المنزل قسمان: القرآن و الخبر القدسيّ لأنّ جبرئيل كان ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن و من هنا جاز رواية السنّة بالمعنى لأنّ جبرئيل أدّاها بالمعنى، و لم يجز القرآن

ص: 193

بالمعنى لأن جبرئيل أدّاه باللفظ، و السرّ في ذلك التعبّد بلفظه و الإعجاز به و بخصوصيّاته فإنّه لا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه من الإعجاز لفظا و من الأسرار معنى فكيف يقوم لفظ الغير و معناه مقام حرف القرآن و معناه.

فإن قيل: ما السبب أنّ الملائكة بأسرهم صعقوا ليلة نزول القرآن من حضرة اللّوح المحفوظ إلى حضرة بيت العزّة؟ السبب أنّ محمّدا و قرآنه عندهم من أشراط القيامة فنزوله دلّ على قيام الساعة فصعقوا هيبة منه و إجلالا لكلامه و حضرة وعده و وعيده.

[فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] و إنّما سمّيت بليلة القدر قيل: لأنّه أنزل فيها كتاب ذو قدر إلى رسول ذي قدر لأجل امّة ذي قدر على يد ملك ذي قدر أو لأنّ اللّه قدّر فيها بما يكون في السنة بأجمعها من الأمور، و قيل: لأنّه من لم يكن ذا قدر إذا أحياها صار ذا قدر أو لأنّ للطاعات فيها قدرا عظيما و ثوابا جزيلا و قيل: سمّيت بذلك لتضييق فيها بالملائكة من قوله (1): «وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ».

و لعلّ الحكمة في إنزال القرآن ليلا لأنّ أكثر الكرامات و نزول النفحات و الإسراء إلى السماوات كان في اللّيل، و اللّيل من الجنّة لأنّها محلّ الاستراحة، و النهار من النار و الحركة و الحرارة و التعب و فيه سعي المعاش و تعب المشاغل، و الليل حظّ الفراش و الوصال، و عبادة الليل أفضل من عبادة النهار و قلب الإنسان أفرغ للعبادة، و قد مرّ بيان ليلة القدر في سورة الدخان و عند الأكثر أنّها واقعة في العشر الأواخر من رمضان في أوتارها.

[وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ] أي و أيّ شي ء أعلمك يا محمّد ما هي و ما كنهها لأنّ قدرها و علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق و هو تعظيم للوقت الّذي انزل فيه فمن بعض فضل ذلك الوقت أنّه يرتفع سؤال القبر عمّن مات فيها.

[لَيْلَةُ الْقَدْرِ] عبادتها و قيامها [خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ] صيامها و قيامها ليس فيها ليلة القدر حتّى لا يلزم تفضيل الشي ء على نفسه و «خير» في الآية للتفضيل أي أفضل

ص: 194


1- سورة الطلاق: 7.

و أعظم قدرا من تلك المدّة و هي ثلاث و ثمانون سنة و أربعة أشهر.

و في الحديث من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر. و معنى إيمانا و احتسابا أي بنيّة و عزيمة طيّبة به نفسه غير كارهة له و لا مستثقل لصيامه و لا مستطيل لأيّامه بل يغتمّ طول أيّامه لعظم الثواب لكن قال بعض المحقّقين: المراد من قوله «غفر اللّه ما تقدّم من ذنبه» الصغائر، و زاد بعضهم: و إذا لم يصادف صغيرة يخفّف عن الكبائر و المراد من قوله: «و ما تأخّر» كناية عن حفظهم من ارتكاب الكبائر بعد ذلك أو أن تقع ذنوبهم مغفورة.

و قال بعض: إنّ ليلة القدر ليلة الآخرة من رمضان و استدلّ بقوله صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ اللّه تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان أعتق ألف ألف عتيق من النار عند الإفطار كلّهم استوجبوا العذاب فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق اللّه في تلك الليلة بعدد من أعتق من أوّل الشهر إلى آخره و الليلة الاولى للصائمين كمن ولد له ذكر فهي ليلة شكر و الليلة الأخيرة ليلة الفراق كمن مات له ولد فهي ليلة صبر و فراق و فرق بين الشكر و الصبر» و كان صلّى اللّه عليه و آله ليلة الأخيرة من رمضان يكثر من قوله: «اللّهمّ إنّك عفوّ تحبّ العفو فاعف عنّي اللّهمّ إنّي أسألك العفو و العافية و المعافاة في الدين و الدّنيا و الآخرة».

قال ابن عبّاس: إنّ اللّه يقدّر في ليلة القدر من تلك السنة من مطر و رزق و إحياء و إماتة إلى غيرها من السنة الآتية فيسلّمه إلى مدبّرات الأمور من الملائكة فيدفع نسخة الأرزاق و النباتات و الأمطار إلى ميكائيل و نسخة الحروب و الرياح و الزلازل و الصواعق و الخسف إلى جبرئيل و نسخة الأعمال إلى إسرافيل و نسخة المصائب إلى ملك الموت.

فكم من فتى يمسي و يصبح آمناو قد نسجت أكفانه و هو لا يدري

و كم من عروس زيّنوها لزوجهاو قد قبضت أرواحهم ليلة القدر

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله ذكر رجلا من بني إسرائيل اسمه شمسون لبس السلاح في

ص: 195

سبيل اللّه ألف شهر فتعجّب المؤمنون منه و تقاصرت إليهم أعمالهم فأعطوا الليلة هي خير من مدّة ذلك الغازي. و قيل: رأى النبيّ أعمار الأمم كافّة فاستقصر أعمار امّته فخاف أن لا يبلعوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه اللّه ليلة القدر و جعل عبادتها خيرا من ألف شهر لم يكن فيها ليلة القدر. و قيل: كان ملك سليمان مدّة خمسمائة شهر و ملك ذي القرنين خمسمائة شهر فجعل العمل في هذه لمن أدركها خيرا من ملكهما.

و روي عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّه قال حين عوتب في تسليمه الأمر لمعاوية: إنّ اللّه أرى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في المنام أنّ بني اميّة ينزون على منبره نزو القردة فاغتمّ لذلك فأعطاه اللّه ليلة القدر و هي خير له و لذرّيّته من ألف شهر و هي مدّة ملك بني اميّة و أعلمه أنّهم يملكون أمر الناس هذا القدر من الزمان.

و قيل- و القول ضعيف-: إنّ فضلها كان لنزول القرآن و انقطعت فكانت مرّة لكن الجمهور على أنّها باقية آتية في كلّ سنة فضلا من اللّه تعالى. قال بعض الأكابر من أهل الليل: من قرأ كلّ ليلة عشر آيات على تلك النيّة لم يحرم ثوابها و أقلّ صلاة ليلة القدر ركعتان و أوسطها مائة ركعة و أكثرها ألف ركعة.

[تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها] استيناف مبيّن و مقرّر لماله فضّلت على ألف شهر. و «تنزّل» بحذف إحدى التاءين، و قد سبق معنى الروح في سورة النبأ و هو ملك عظيم لو التقم السماوات و الأرضين كانت له لقمة واحدة و هو في المحشر يقف صفّا و تمام الخلق من الملائكة و غيرهم صفّا و له ألف رأس كلّ رأس أعظم من الدنيا و في كلّ رأس ألف وجه و في كلّ وجه ألف فم و في كلّ فم ألف لسان يسبّح اللّه بكلّ لسان ألف نوع من التسبيح و التحميد لكلّ لسان لغة لا تشبه الاخرى، فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّ كلّ ملائكة السماوات سجّدا مخافة أن يحرقهم نور أفواهه و هو يسبّح اللّه غدوة و عشيّة فينزل تلك الليلة فيستغفر للصائمين و الصائمات من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بتلك الأفواه كلّها إلى طلوع الفجر.

و قيل: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا ليلة القدر كالزهّاد

ص: 196

الّذين لا تراهم إلّا يوم العيد. و قيل: المراد عيسى عليه السّلام لأنّه اسمه فإنّ اسم عيسى الروح و ينزل في مرافقة الملائكة ليطالع امّة محمّد. و قيل: المراد من الروح جبرئيل و إنّما خصّ بالذكر لشرافته في أمانة الوحي. و قيل: المراد بالروح الوحي كما قال (1): «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» أي تنزّل الملائكة و معهم الوحي بتقدير الخيرات و الأمور في تلك الليلة.

[بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلّق بقوله: «تنزّل» أي بأمره تعالى [مِنْ كُلِّ أَمْرٍ] متعلّق بقوله: «تنزّل» أي من أجل كلّ أمر قدّر في تلك السنة [سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ] سلام خبر قدّم لإفادة الحصر مثل «تميميّ أنا» أي ما هي إلّا سلامة و كلّ ما ينزل في هذه الليلة لا يستطيع الشيطان فيه سوءا و كلّها خير، و الليلة ليست نفس السلامة بل ظرف لها و مع ذلك وصفت بالسلامة للمبالغة في اشتمالها عليها أو المعنى ما هي إلّا سلام لكثرة ما يسلّمون على المؤمنين فيها. و في الحديث «ينزل جبرئيل ليلة القدر في كبكبة من الملائكة متضامّة يصلّون و يسلّمون على كلّ عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه حتّى طلوع الفجر- أي حتّى وقت طلوعه و المضاف مقدّر- ثمّ يصعدون إلى السماء».

قيل: علامة ليلة القدر أنّها ليلة لا حارّة و لا باردة و يطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها لأنّ الملائكة تصعد إلى السماء فيمنع صعودها و كثرتها انتشار شعاع الشمس.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 197


1- سورة الشورى: 52.

سورة البينة

اشارة

* (قيل: مكية و قيل: مدنية)* عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو يعلم الناس ما في «لم يكن» لعطّلوا الأهل و المال و تعلّموها، و قال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول اللّه؟ فقال:

لا يقرءها منافق أبدا و لا يقرءها عبد في قبله شكّ في اللّه و إنّ الملائكة المقرّبين ليقرؤنها منذ خلق السماوات و الأرض لا يفترون من قراءتها، و ما من عبد يفرءها بليل إلّا بعث اللّه ملائكة يحفظونه في دينه و دنياه و يدعون له بالمغفرة فإنّ من قرءها نهارا اعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليها النهار و أظلم عليها الليل فقال رجل من قيس عيلان: زدنا يا رسول اللّه من هذا الحديث فداك أبي فقال صلّى اللّه عليه و آله: تعلّموا «عمّ يتساءلون» و «ق و القرآن» و تعلّموا «و السماء ذات البروج» و تعلّموا «و السماء و الطارق» فإنّكم لو تعلمون ما فيهنّ لعطّلتم ما أنتم فيه و تقرّبتم بهنّ إلى اللّه و أنّ اللّه يغفر بهنّ كلّ ذنب إلّا الشرك باللّه، و اعلموا أنّ «تبارك الّذي بيده الملك» يجادل عن صاحبها يوم القيامة و تستغفر له من الذنوب.

أبو بكر الحضرميّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ سورة «لم يكن» كان بريئا من الشرك و ادخل في دين محمّد و بعثه اللّه مؤمنا و حاسبه اللّه حسابا يسيرا.

ص: 198

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البينة (98): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)

وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

[لَمْ يَكُنِ الكفّار من أهل الكتاب من اليهود و النصارى و «من» للتبيين لا للتبعيض [وَ] من [الْمُشْرِكِينَ الّذين هم عبدة الأوثان و هم الّذين ليس لهم كتاب من العرب و غير العرب [مُنْفَكِّينَ و زائلين و منفصلين عن كفرهم و شركهم [حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ] اللفظ لفظ الاستقبال و معناه المضيّ مثل قوله (1): «ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» أي ما تلت الشياطين، و حاصل المعنى أنّ الكفّار و المشركين لم ينتهوا عن كفرهم و ضلالهم حتّى أتاهم محمّد فبيّن لهم ضلالهم عن الحقّ. و المراد من «البيّنة» النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من البينونيّة فإنّ البيّنة تمييز و يفرق الحقّ من الباطل و يجعل بينهما بونا، و قوله: «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ» بدل من البيّنة أو عطف بيان و تفسير لها و قيل: المعنى لم يكونوا متروكين و منفصلين من حجج اللّه حتّى أتتهم البيّنة الّتي تقوم بها الحجّة عليهم.

[يَتْلُوا] عليهم صفة اخرى للرسول صلّى اللّه عليه و آله [صُحُفاً] الصحف جمع الصحيفة و هي

ص: 199


1- سورة البقرة: 102.

ظرف المكتوب [مُطَهَّرَةً] أي منزّهة من الباطل و لا يمسّها إلّا الملائكة المطهّرون و نسبة التلاوة إلى الصحف عبارة عمّا فيها بعلاقة الحلول و المراد أنّه صلّى اللّه عليه و آله يتلو عليهم القرآن لأنّ القرآن مصدّق لصحف الأوّلين و مطابق لها في اصول الشرائع فإذا كان كذلك فإذا تلي عليهم القرآن تلي صحف الأوّلين فدعاهم صلّى اللّه عليه و آله إلى التوحيد و الإيمان.

[فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ] صفة لصحف أي في تلك الصحف امور مكتوبة مستقيمة ناطقة بالحقّ و الصواب غير ذات عوج و قيل: المعنى: في سور القرآن كتب مستقيمة يشتمل على أنواع من العلوم كلّ نوع كتاب في فرائض اللّه و إنّ في القرآن مجمع ثمرة كتب اللّه المتقدّمة.

[وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي و ما اختلف هؤلاء الكفّار من أهل الكتاب في أمر محمّد [إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ] بعد ما جاءتهم البشارة في كتبهم و على ألسنة رسلهم فكانت الحجّة قائمة عليهم و قيل: المعنى و لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمّد و ينتظرونه حتّى بعثه اللّه فلمّا بعث تفرّقوا في أمره و اختلفوا فآمن به بعض و كفر آخرون و إفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم و بين المشركين للدلالة على شناعة حالهم و أنّهم لمّا تفرّقوا مع علمهم كان غيرهم أولى بذلك فخصّوا بالذكر لأنّ إنكار العالم أقبح من إنكار الجاهل مع أنّ المشركين قد تمّت عليهم الحجّة و بلغهم هذا الأمر ممّن تقدّمهم من أهل العلم منهم.

[وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ جملة حاليّة مفيدة لغاية قبح ما فعلوا أي ما أمروا في كتبهم و لم يأمرهم إلّا لأن يعبدوا اللّه وحده و لا يشركون بعبادته فهذا ممّا لا اختلاف فيه من قبل و لا من بعد و لا تبدّل فيه. و «اللّام» عندنا و عند المعتزلة لام الغرض لكنّ الغرض نفعه راجع إلينا و هو مستغن عن كلّ شي ء و نفع.

[مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حال من فاعل في «ليعبدوا» أي جاعلين عبادتهم خالصة للّه في الدين من غير تشريك و يكون لداعية واحدة و هو وجه اللّه.

[حُنَفاءَ] مائلين عن الشرك و الأديان الباطلة مؤمنين بالرسل و الملّة الحنيفة الشريفة المستقيمة المائلة إلى الحقّ، و أصله الميل و من ذلك الأحنف المائل القدم

ص: 200

إلى جهة القدم الاخرى و قيل: أصله الاستقامة و إنّما قيل «المائل القدم» أحنف تفاؤلا، و بالجملة قوله: «حنفاء» تأكيد لقوله: «مخلصين» فإذا كان بمعنى الميل فمعناه مائلين عن جميع العقائد الفاسدة الزائفة إلى الإسلام و إذا كان بمعنى الاستقامة فالمعنى واضح، قال ابن جبير: لا يسمّى أحد حنيفا حتّى يحجّ و يختن لأنّ اللّه وصف إبراهيم عليه السّلام بكونه حنيفا و أنّه حجّ و ختن نفسه، و قيل: الحنيفة الختان و تحريم البنات و الأخوات و الأمّهات و الخالات و إقامة المناسك و إقامة الصلاة و أداء الزكاة و أداء ما فرض عليه.

[وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ] فذكر سبحانه الصلاة الّتي هي العمدة في باب العبادات البدنيّة و الزكاة الّتي هي أساس العبادات الماليّة و «ذلك» إشارة إلى ما ذكر من عبادة اللّه بالإخلاص و إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة «دين القيّمة» أي دين الملّة المحكمة و أضاف الدين إلى «القيّمة» و هي نعته لاختلاف اللفظين و قد حصل التغاير فإضافة الشي ء إلى نعته في كلام العرب كثير مثل قوله (1): «و الدار الآخرة» و في موضع آخر (2) «و للدار الآخرة» و الدار هي الآخرة و عذاب الحريق و كذلك مسجد الجامع.

و لمّا كان بعض أهل الأديان بالغوا في باب الأعمال من غير إحكام أصولهم كاليهود و النصارى و بعض الرهبانيّة و المجوس و بعضهم حصّلوا الأصول و أهملوا الفروع و هم المرجئة الّذين يقولون: لا تضرّ المعصية مع الإيمان، فاللّه خطّأ الفريقين في هذه الآية و بيّن أنّه لا بدّ من العلم و العمل مع الإخلاص و ذلك المجموع كلّه هو الملّة المستقيمة فكما أنّ مجموع الأعضاء بدن واحد كذلك هذا المجموع دين واحد.

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ بيان لحالهم الاخرويّ و ذكر المشركين لئلّا يتوهّم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص علم أهل الكتاب بشواهد النبوّة في كتابهم [خالِدِينَ فِيها] مؤبّدين لأجل كفرهم

ص: 201


1- سورة الانعام: 168.
2- سورة الأعراف: 32.

و الحكم للفريقين لا ينافي تفاوت عذابهم في الكيفيّة فإنّ جهنّم دركات.

[أُولئِكَ المذكورون [هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ] البريّة جميع الخلق لأنّ اللّه برأهم و أوجدهم بعد العدم أي هم شرّ الخليقة أعمالا و تقديم ضمير الفصل لإفادة الحصر كيف لا و هم شرّ من السرّاق لأنّهم سرقوا من كتاب اللّه نعوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و شرّ من قطّاع الطريق لأنّهم قطعوا الدّين الحقّ على الحقّ و شرّ من الجهّال الفسقة الأجلاف الّذين يرتكبون المعاصي لأنّ الكفر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح من كفر الجهّال.

[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و معلوم أنّ كلّ مكلّف ليس مكلّفا بجميع الأعمال بل لكلّ منهم حظّ فحظّ الغنيّ الإعطاء و الإنفاق و الحجّ و أمثاله و حظّ الفقير القناعة و الصبر و هكذا [أُولئِكَ المنعوتون من الإيمان و الطاعة [هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ] و استدلّ بالآية على أنّ البشر أفضل من الملك لظهور أنّ المراد بقوله «إنّ الّذين آمنوا» هو البشر. و البريّة يشمل الملك و الجنّ.

[جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بمقابلة إيمانهم و طاعاتهم دخول [جَنَّاتُ عَدْنٍ قال ابن مسعود: عدن بطنان الجنّة و وسطها [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] و جريان أنهار الجنّة بغير أخدود، و الألف و اللام في «الأنهار» للتعريف منصرفة إلى الأنهار الأربعة المذكورة في القرآن فكما أنّ طاعة العبد كانت حاصلة و جارية مادام كان حيّا فكذلك الأنهار الأربعة جارية له إلى أبد الآباد و كذلك يقتضي معاملة الكريم [خالِدِينَ فِيها أَبَداً] متنعّمين بفنون النعم.

[رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ استيناف مبيّن لما يتفضّل به عليهم و هو جنّة روح المؤمن لأنّ رضى الربّ ألذّ من كلّ نعمة لروح المؤمن [وَ رَضُوا عَنْهُ حيث بلغوا من النعم الغاية القصوى و اعطوا ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر [ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ إشارة إلى المذكور من الجزاء و الرضوان كما قال (1): «و لمن خاف مقام ربّه جنّتان».

ص: 202


1- سورة الرحمن: 46.

و روي في شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكانيّ قال: أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: سمعت عليّا يقول: قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا مسنده إلى صدري فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ ألم تسمع قول اللّه تعالى: «إنّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة» هم شيعتك و موعدي و موعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب يدعون غرّا محجّلين. و فيه عن مقاتل بن سليمان عن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله «هم خير البريّة» قال:

نزلت في عليّ و أهل بيته عليهم السّلام.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 203

سورة إذا زلزلت

اشارة

* (مدنية)* عن ابن عبّاس و قتادة و عن الضحّاك و عطا أنّها مكيّة. من قرأها كأنّما قرأ البقرة و اعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن. المناسبة بين السورة المتقدّمة و هذه السورة أنّه تعالى لمّا قال: «جزاؤهم عند ربّهم» فكأنّ المكلّف قال: و متى يكون ذلك يا ربّ؟ فقال: «إذا زلزلت الأرض» لأنّه لا سبيل إلى تعيين وقته لعدم المصلحة و لكن ابيّن علاماته.

ص: 204

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الزلزلة (99): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

[إِذا] حرّكت [الْأَرْضُ تحريكا عنيفا شديدا لا غاية و راءه [زِلْزالَها] الموعود به و الزلزال بالكسر مصدر و بالفتح اسم بمعنى المصدر، و فعلال لا يوجد إلّا في المضاعف [وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها] أي الثقلين أي و أخرجت موتاها المدفونة فيها تخرجها أحياء للجزاء، و قيل: إخراجها من الكنوز و معادنها فتلقيها على ظهرها ليراها أهل الموقف و يكون الفائدة أن يتحسّروا العصاة و أهل الدنيا إذا نظروا إليها لأنّهم عصوا اللّه فيها ثمّ تركوها لا تغني عنهم شيئا، و أيضا فإنّه تكوى بها جباههم و ظهورهم فحينئذ المراد من الأثقال الموتى و كنوز الأرض لكنّ الكنوز عند زلزال نفحة الاولى و الأموات عند النفخة الثانية و في الخبر «تفي ء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوانة من الذهب و الفضّة فيجي ء القاتل فيقول: في هذا قتلت و يجي ء القاطع رحمه فيقول: في هذا قطعت رحمي و يجي ء السارق و يقول: في هذا قطعت يدي». قيل:

يمتلئ وجه الأرض ذهبا، كأنّ الذهب يصيح: أما كنت تخرب دينك و دنياك لأجلي؟! [وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها] كلّ فرد من أفراده لما يغشاهم من الأهوال «مالها» أي أيّ شي ء للأرض زلزلت هذه الزلزلة الشديدة؟ استعظاما لما يشاهده من الأمر الهائل لكن المؤمن يقول بعد الإفاقة (1) «هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون» و الكافر يقول: «يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا».

ص: 205


1- سورة يس: 52.

[يَوْمَئِذٍ] بدل من «إذا» [تُحَدِّثُ أَخْبارَها] أي تخبر الأرض ذلك اليوم ما عمل عليها قال النبيّ: أخبارها أن تشهد على كلّ عبد و أمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل كذا و كذا يوم كذا و كذا فيجوز أن يكون اللّه أحدث الكلام فيها فتقدر على النطق و يجوز أن يظهر فيها ما يقوم مقام النطق فعبّر عنه بالكلام كما يقال: عيناك تشهدان بسهرك.

روي أنّ أبا اميّة صلّى في المسجد الحرام المكتوبة ثمّ تقدّم فجعل يصلّي هاهنا و هاهنا فلمّا فرغ قيل له: يا أبا اميّة ما هذا الّذي تصنع؟ قال: قرأت هذه الآية «يومئذ تحدّث أخبارها» فأردت أن تشهد لي يوم القيامة. فطوبى لمن شهد له المكان بالذكر و التلاوة و الصلاة و نحوها، و ويل لمن شهد عليه بالزنى و الشرب و السرقة و المساوي و إنّ للّه على الإنسان سبعة شهود: المكان كما قال: «يومئذ تحدّث أخبارها» و الزمان كما في الخبر «ينادي كلّ يوم: أنا يوم جديد، و أنا على ما تعمل فيّ شهيد» و اللسان كما قال (1): «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» و الأركان كما قال تعالى (2): «و تكلّمنا أيديهم و تشهد أرجلهم» و الملكان كما قال (3): «وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» و الديوان كما قال (4): «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» و الرحمن كما قال (5): «كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً» فكيف يكون حال العاصي بعد ما شهد عليه هؤلاء الشهود و كان عليّ عليه السّلام إذا فرغ بيت المال صلّى فيه ركعتين و يقول: لتشهدي إنّي ملأتك بحقّ و فرغتك بحقّ.

[بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها] أي تحدّث الأرض أخبارها بسبب إيحاء ربّك لها و أمره إيّاها بالتحديث.

[يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أي يوم إذ يقع ما ذكر «يصدر الناس» و هو قيامهم

ص: 206


1- سورة النور: 24.
2- «يس: 65.
3- «الانفطار: 10.
4- «الجاثية: 28.
5- «يونس: 61.

و رجوعهم بعد الورود للبعث [أَشْتاتاً] أي متفرّقين في النظام أي حالكونهم متفرّقين مؤمنين و كافرين و منافقين و مختلفة الزيّ: بيض الوجوه و الثياب آمنين ينادي المنادي بين يديه: هذا وليّ اللّه، و سود الوجوه حفاة عراة مع السلاسل و الأغلال فزعين ينادي المنادي بين يديه: هذا عدوّ اللّه.

و عن ابن عبّاس أنّ جبرئيل جاء إلى النبيّ يوما فقال: يا محمّد إنّ ربّك يقرءك السلام و يقول: مالي أراك مغموما حزينا و هو أعلم به فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل قد طال فكري في أمر امّتي يوم القيامة قال: يا محمّد في أمر أهل الكفر أم في أمر أهل الإيمان؟ قال: يا جبرئيل لا بل في أمر أهل الإيمان و أهل لا إله إلّا اللّه قال: فأخذ بيده و أقامه على مقبرة بني سلمة فضرب بجناحه الأيمن على قبر ميّت فقال: قم بإذن اللّه فقام رجل مبيضّ الوجه و هو يقول: لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه الحمد للّه ربّ العالمين، فقال له جبرئيل: عد فعاد كما كان ثمّ ضرب بجناحه الأيسر على قبر ميّت فقال: قم بإذن اللّه فخرج رجل مسودّ الوجه أزرق العين و هو يقول: و وا حسرتاه وا سوأتاه، فقال له: عد فعاد كما كان ثمّ قال جبرئيل: هكذا يبعثون يوم القيامة على ما ماتوا عليه.

أقول: و كان ذلك في أوائل الأمر حيث لم يتعيّن الوصيّ بعد للناس و لم يتعيّن ولاية أمير المؤمنين ظاهرا و إلّا فالإقرار بالولاية من شروط تحقّق الإيمان و بدونها لا ينفع كما في الحديث القدسيّ: «و لو أن عبدا عبدني و صام عمر الدهر و قام و عبد حتّى صار كالشنّ البالي و أتاني غير موال لعليّ بن أبي طالب أكبّه على منخريه في النار».

[لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي جزاء أعمالهم عن ابن عبّاس و قيل: معنى الرؤية هنا المعرفة بالأعمال عند تلك الأحوال أو يروا صحائف أعمالهم فيقرؤون ما فيها (1) «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» و يجوز أن يكون للأعمال صور نورانيّة و ظلمانيّة فيكون الرؤية حقيقة.

ص: 207


1- سورة الكهف: 18.

[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ و المثقال مقدار الوزن، و الذرّة النملة الصغيرة أو ما يرى في شعاع الشمس من الهباء فمن يعمل مثقال ذرّة من الخير ير ثوابه و جزاءه و من يعمل وزن ذرّة من الشرّ ير ما يستحقّ عليه من العقاب إذا كان ممّا لم يعفه اللّه، فإنّ التائب معفوّ عنه بلا خلاف و قيل: معناه فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا و هو كافر ير ثوابه و أجره في الدنيا في نفسه و ولده و ماله حتّى يخرج من الدنيا و ليس له عند اللّه خير و من يعمل مثقال ذرّة شرّا و هو مؤمن ير عقوبته في الدنيا في نفسه و أهله و ماله حتّى يخرج من الدنيا و ليس له عند اللّه شرّ و عقوبة.

قال مقاتل: فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره يوم القيامة في كتابه يتفرّح به و كذلك من الشرّ يره في كتابه فيسوؤه ذلك، قال: و كان أحدهم يستقلّ أن يعطي اليسير و يقول: إنّما نوجر على ما نعطي و نحن نحبّه و ليس اليسير ممّا نحبّه و كان يقول أحدهم: إنّما وعد اللّه النار على الكبائر و يتهاونون بالصغائر فأنزل اللّه هذه الآية يرغّبهم في القليل من الخير و يحذّرهم من اليسير عن الشرّ قال ابن عبّاس: إنّها أحكم آية في القرآن و سمّيت بالجامعة.

و عن أبي عثمان المازنيّ عن أبي عبيدة قال: قدم صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق على رسول اللّه في وفد من بني تميم فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه أوصني خيرا فقال: أوصيك بامّك و أبيك و دانيك قال: زدني قال صلّى اللّه عليه و آله: احفظ ما بين لحييك و رجليك الحديث.

و في رواية أنّه سمع «فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره» فقال: حسبي ما ابالي لا أسمع من القرآن غير هذا. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 208

سورة العاديات

اشارة

* (قيل مكية، و قيل مدنية)* عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من قرأها اعطي من الأجر بعدد من بات بالمزدلفة.

و عن الصادق عليه السّلام: و من قرأها و أدمن قراءتها بعثه اللّه مع أمير المؤمنين يوم القيامة و كان من رفقائه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العاديات (100): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)

وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

[وَ الْعادِياتِ جمع عادية و هي الجارية بسرعة من العدو و ياؤها مقلوبة عن الواو لكسرة ما قبلها أقسم سبحانه بخيل الغزاة الّتي تعدو نحو العدوّ [ضَبْحاً] مصدر منصوب إمّا بفعله المحذوف أي حالكونها تضبح ضبحا و هو صوت أنفاسها عند عدوها و إمّا بالعاديات فإنّ العدو مستلزم للضبح.

[فَالْمُورِياتِ قَدْحاً] الإيراء إخراج النار و القدح الضرب فإنّ الخيل تضربن بحوافرهنّ و سنابكهنّ الحجارة فيخرجن منها نارا يقال: قدح الزند فأورى و قدح فأصلد أي صوّت و لم يور، و المعنى توري النار من حوافرها إذا سارت في الأرض ذات الحجارة و انتصاب «قدحا» كانتصاب ضبحا أي تقدح قدحا أو القادحات قدحا.

[فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً] عطف على الفعل الّذي دلّ عليه اسم الفاعل إذ المعنى أقسم اللّه باللّاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن و هيّجن في ذلك نقعا

ص: 209

أي غبارا من نقع الصوت إذا ارتفع فالغبار سمّي نقعا لارتفاعه أو هو من النقع في الماء فكأنّ صاحب الغبار خاض في الغبار كما يخوض الرجل في الماء، و تخصيص الإثارة بالصبح لأنّه لا يظهر ثورانه باللّيل كما أن الإيراء لا يظهر بالنهار و الإغارة و الإثارة تقع غالبا في وقت الصباح و «أثرن» أصله أثورن فقلبت حركة الواو إلى الثاء ما قبلها و قلبت الواو ألفا فصار أثارن فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فبقي أثرن.

[فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً] أي توسّطن في ذلك الوقت و الباء للظرفيّة، بذلك المكان أو بسبب العدو وسط الكنيبة و جمع العدوّ، و الفاآت للدلالة على ترتّب ما بعد كلّ منها على ما قبلها فإنّ توسّط الجمع مترتّب على الإثارة المترتّبة على الإغارة المترتّبة على الإيراء المترتّب على عدوهنّ، و المراد عدو خيل الغزاة في سبيل اللّه و الصحيح أنّ المراد كما قال عليّ عليه السّلام: إنّها لإبل الحاجّ تعدو من عرفة إلى المزدلفة و من المزدلفة إلى منى، و قال: من أين لهم الأفراس! و لقد كان يوم بدر معنا فرسان فرس أبلق للمقداد و فرس للزبير.

[إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ] جواب القسم يقال: كند النعمة كنودا كفر بها فالكنود بالضمّ كفران النعمة و بالفتح الكفور، و منه «كندة» بالكسر و هو لقب ثور بن عفر أبو حيّ من اليمن لأنّه كند نعمة أبيه ففارقه و لحق بأخواله و قال الكلبيّ: الكنود بلسان كندة العاصي و بلسان بني مالك البخيل و بلسان مضر و ربيعة الكفور و المعنى إنّ الإنسان- و المراد أكثر أفراده- لنعمة ربّه شديد الكفران فقوله: «لربّه» متعلّق بكنود قدّم عليه لإفادة التخصيص و مراعاة الفواصل.

النزول: قيل: بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سريّة إلى حيّ من كنانة فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاريّ أحد النقباء فتأخّر رجوعهم فقال المنافقون: قتلوا جميعا فأخبر اللّه عنها بقوله: «و العاديات ضبحا» عن مقاتل.

و قيل: نزلت السورة لمّا بعث صلّى اللّه عليه و آله عليّا إلى ذات السلاسل فأوقع بهم و ذلك بعد أن بعث عليهم مرارا غيره من الصحابة فرجع كلّ منهم إلى رسول اللّه و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل.

ص: 210

و سمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه أسر منهم و قتل و سبي و شدّ أسراؤهم في الحبال كأنّهم في السلاسل، و لمّا نزلت السورة خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الناس فصلّى بهم الغداة و قرء فيها «و العاديات» فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه السورة لم نعرفها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم إنّ عليّا عليه السّلام ظفر بأعداء اللّه و بشّرني جبرئيل بذلك في هذه الليلة فقدم عليّ عليه السّلام بعد أيّام و بالغنائم و الأسارى.

[وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ] الهاء تعود إلى اللّه أي إنّه تعالى على كنود العبد لشهيد و قيل: الهاء تعود إلى الإنسان، شاهد على نفسه يوم القيامة بكنوده و قيل في معنى الكنود أيضا: هو الّذي يعدّ المصائب و ينسي النعم و روى أبو ثمامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: أ تدرون من الكنود؟ قالوا: اللّه أعلم و رسوله، قال: «الكنود الّذي يأكل وحده و يمنع رفده و يضرب عبده» و قيل: هو البخيل القليل الخير يقال: كان ثلاثة نفر من العرب في عصر واحد أحدهم آية في السخاء و هو حاتم الطائيّ و الثاني آية في البخل و هو حباحب، و من بخله أنّه كان لا يوقد النار للخبز إلّا إذا نام الناس فإذا انتبهوا أطفأ ناره لئلّا ينتفع الناس بها، و الثالث آية في الطمع و هو أشعب بن جبير مولى مصعب بن الزبير بن العوّام و من طمعه أنّه قرأ صبيّ في المكتب و هو حاضر:

إنّ أبي يدعوك فقام و لبس نعليه فقال الصبيّ: أنا أقرأ درسي، و كان إذا رأى إنسانا يحكّ عنقه يظنّ أنّه ينتزع قميصه ليدفعه إليه، و كان إذا رأى دخانا ارتفع من دار ظنّ أنّ أهلها يأتي بطعام و كان إذا رأى عروسا تزفّ إلى موضع جعل يكنس باب داره لكي تدخل داره قال أشعب: ما رأيت أطمع منّي إلّا كلبا تبعني على مضغ العلك فرسخا.

[وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ] أي إنّ الإنسان لحبّ المال، و سمّي المال خيرا جريا على عادتهم «لشديد» قويّ مجدّ في طلبه و تحصيله متهالك عليه و هو لحبّ عبادة اللّه و الإنفاق في سبيله ضعيف الهمّة متقاعس.

[أَ فَلا يَعْلَمُ هذا الإنسان الّذي وصفناه و يرتكب من القبائح في الدنيا أنّ اللّه يجازيه [إِذا بُعْثِرَ] و بعث و اخرج [ما فِي الْقُبُورِ] من الموتى، و إيراد «ما» لكونهم

ص: 211

إذ ذاك بمعزل عن مرتبة العقلاء لأنّهم في القبور لا علم لهم.

[وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ] و ميّز و بيّن ما فيها من الخير و الشرّ و ظهر ما أخفته الصدور ليجازى على السرّ كما يجازى على العلانية، و أصل التحصيل إخراج المستور من المغمور فيه و أخذه منه كإخراج اللبّ من القشر و مثل البرّ من التبن و الدهن من اللبن، و الإظهار من لوازم معناه فيكون المعنى: ميّز بين خيره و شرّه قال صلّى اللّه عليه و آله: يبعثون على نيّاتهم.

[إِنَّ رَبَّهُمْ أي المبعوثين كنّى عنهم بعد الإحياء الثاني بضمير العقلاء بناء على تفاوت الحالين [بِهِمْ و بذواتهم و صفاتهم و أعمالهم بتفاصيلها [يَوْمَئِذٍ] يوم بعثهم [لَخَبِيرٌ] أي عالم بالتفصيل علما موجبا لجزائهم متّصلا الجزاء بذلك اليوم و إلّا فمطلق علمه يحيط بما كان و ما يكون و قوله: «بهم، و يومئذ» متعلّقان بخبير، قدّ ما عليه لمراعاة الفواصل.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 212

سورة القارعة

اشارة

* (مكية)* من قرأها ثقّل اللّه ميزانه يوم القيامة و آمنه اللّه من فتنة الدجّال أن يؤمن به و من قيح جهنّم يوم القيامة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القارعة (101): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)

وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)

وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)

القرع هو الضرب الشديد بحيث يحصل منه صوت ثمّ سمّيت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر «قارعة» و المراد بها في الآية القيامة الّتي مبدؤها النفخة الاولى و منتهاها فصل القضاء و هي تقرع القلوب بالفزع و تقرع أعداء اللّه بالعذاب و القارعة مبتدء و [مَا الْقارِعَةُ] و ما الاستفهاميّة خبر، أي و أيّ شي ء عجيب و عظيم في الفخامة! و قد وضع الظاهر موضع الضمير تأكيدا للتهويل.

[وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ] ما في حيّز الرفع على الابتداء «و أدراك» هو الخبر أي و أيّ شي ء أعلمك ما شأن القارعة فإنّ عظم شأنها بحيث لا تكاد تناله دراية أحد.

[يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ أي هي يوم يكون الناس و يوم مرفوع المحلّ و خبر مبتداء محذوف مبنيّ على الفتح لإضافته إلى الفعل و إن كان مضارعا على ما هو رأي الكوفيّين أو التقدير اذكر يوم إلخ، و المبعوث المفرّق شبّه الناس عند البعث بهذا الطائر الّذي يتهافت في النار و السراج، و قال أبو عبيدة: هو طير ينفرش ليس بذباب و لا بعوض لأنّهم إذا بعثوا ماج بعضهم إلى بعض و الفراش إذا ثار لم يتّجه إلى جهة

ص: 213

واحدة و المراد أنّهم يفزعون عند البعث فيختلفون في المقاصد على جهات مختلفة و مثل قوله (1): «كأنّهم جراد منتشر».

[وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ العهن الصوف المصنوع ألوانا و النفش نشر الصوف و الشعر و القطن و ذلك لألوان الجبال، شبّه خفّة الجبال و تلاشيها بعد رزانتها بالصوف المندوف في تفرّق أجزائها و تلوّن ألوانها كما قال (2): «و من الجبال جدد بيض و حمر مختلف ألوانها و غرابيب سود».

[فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع الموزون و هو العمل الّذي له خطر عند اللّه لأنّ الحقّ ثقيل و الباطل خفيف يعني يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة و بالأعمال السيّئة على صور سيّئة أي بصور جوهريّة مناسبة لها في الحسن و القبح فتوضع في الميزان فمن ترجّحت مقادير حسناته [فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ] أي معيشة ذات رضى يرضاها صاحبها.

[وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن لم يكن له حسنات يعتدّ بها أو ترجّحت سيّئاته على حسناته، قال ابن مسعود: يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيّئاته بواحدة دخل الجنّة و من كانت سيّئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار [فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ] أي مأواه هاوية، هي من أسماء النار سمّيت بها لغاية عمقها و بعد مهواها روي أنّ أهل النار يهوي منها سبعين خريفا و عبّر عن المأوى بالأمّ لأنّ أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى امّه و أنّها تحيط بهم إحاطة رحم الأمّ بالولد أو لأنّ الأمّ هي الأصل في الكافر و العاصي. و قيل: معنى «فامّه هاوية» لأنّ العاصي يهوي إلى امّ رأسه في النار فامّ رأسه في جهنّم لأنّه يطرح فيها منكوسا و امّ الرأس الدماغ.

[وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ فهي ضمير للهاوية و الهاء للسكت و الاستراحة يريد إنّك لا تعلم تفصيلها و أنواع ما فيها من العذاب و لو كنت تعلمها في الجملة.

ثمّ قال: [نارٌ حامِيَةٌ] حارّة شديدة الحرارة بحيث لا توصف.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 214


1- سورة القمر: 7.
2- سورة فاطر: 25.

سورة ألهاكم

اشارة

مختلف فيها.

و من قرأها لم يحاسبه اللّه بالنعيم الّذي أنعم عليه في الدنيا و اعطي من الأجر كأنّما قرء ألف آية.

شعيب العقرقوفيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ سورة ألهاكم التكاثر في فريضة كتب له ثواب مائة شهيد و من قرأها في نافلته كان له ثواب خمسين شهيدا و صلّى معه في فريضة أربعون صفّا من الملائكة.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه: من قرأها عند النوم و قي فتنة القبر.

ص: 215

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التكاثر (102): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)

كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يفيده و يعنيه أي شغلكم عن طاعة اللّه و عن ذكر الآخرة [التَّكاثُرُ] بالأموال و الأولاد و التفاخر و التباهي بهما، و ألهاكم ممّا يتعلّق بالقلب كالتذكّر و العلم و الفكر و العبرة و ممّا يتعلّق بالجوارح كأنواع الطاعات.

و التكاثر مكاثرة اثنين مالا أو عددا بأن يقول كلّ منهما لصاحبه: أنا أكثر منك مالا و أعزّ نفرا كما أنّه وقع بين بني عبد مناف و بني سهم تفاخروا و تكاثروا فقال كلّ من الفريقين: نحن أكثر منكم سيّدا و أعظم نفرا فكثّرهم بنو عبد مناف فقال بنو سهم:

إنّ البغي أفنانا في الجاهليّة فعادّونا بالأحياء و الأموات و ذهبوا يعدّون قبور موتاهم هذا قبر فلان و هذا قبر فلان، فكثّرهم بنو سهم و زادوا عن بني عبد مناف، و المعنى أنّكم تكاثرتم بالأحياء [حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ] أي حتّى استوعبتم عددهم و صرتم إلى التفاخر و التكاثر بالقبور و الأموات، فعبّر عن انتقالهم إلى عدّ الموتى و ذكرهم بزيارة القبور.

و قيل وجه آخر في تفسير الآية: ألهاكم التكاثر بالأموال و الأولاد و الدنيا إلى أن متّم و قبرتم مضيّعين أعماركم فيكون زيارة القبور عبارة عن الموت.

[كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ردع عمّاهم عليه من الاشتغال بالدنيا أي ليس الأمر كما توهّمتم «سوف تعلمون» الخطاء فيما أنتم عليه إذا عاينتم أهوال القيامة و العلم بمعنى المعرفة، و لا يغرّنك كثرة من ترى حولك فإنّك تموت وحدك و تبعث وحدك و تحاسب وحدك.

ص: 216

[ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تأكيد لتكرير الردع و الإنذار و في «ثمّ» دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل كقولك للمنصوح: أقول لك ثمّ أقول لك: لا تفعل.

أو الردع الأوّل عند الموت و الاحتضار حين ما يبشّر به المحتضر من جنّة أو نار أو في القبر حين يسأل و الثاني عند النشور حين ينادي المنادي: شقي فلان شقاوة لا سعادة بعدها، فعلى هذا لا تكرير في الآية لحصول التغاير بينهما بتغاير زماني العلمين فإنّه يلقى في كلّ واحد من الزمانين نوعا آخر من العذاب. و روى زرّ بن حبيش عن عليّ أمير المؤمنين: ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى نزلت «ألهاكم التكاثر» إلى قوله:

«كلّا سوف تعلمون» يريد في القبر «ثمّ كلّا سوف تعلمون» بعد البعث. و قيل:

إنّ المعنى «كلّا سوف تعلمون» إذا رأيتم دار الأبرار «ثمّ كلّا سوف تعلمون» إذا رأيتم دار الفجّار.

[كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي لو تعلمون الأمر علما يقينا لشغلكم ما تعملون من الاشتغال بالعزّ و التباهي و جواب «لو» محذوف للتهويل فإنّه إذا حذف الجواب يذهب الوهم كلّ مذهب أي لو علمتم علما كاملا يقينيّا لما اشتغلتم و لفعلتم غير هذا و لكنّكم ضلّال جهلة، و علم اليقين هو الّذي لا يعتريه اضطراب الشكّ.

ثمّ استأنف سبحانه وعيدا آخر فقال: [لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ و اللام موطّئة للقسم و معناه لترونّها حين تبرز الجحيم في القيامة قبل دخولكم إليها [ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أي محض اليقين بالمشاهدة إذا دخلتم فيها و عذّبتم بها.

[ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قيل: السؤال عن النعيم شامل للكفّار المتنعّمين في الدنيا غير شاكرين نعمته و من لحق بهم في عدم الشكر من فسقة المؤمنين و قالوا: من كان ناهضا بالشكر من المؤمنين فهو من ذلك بعيد و قيل: شاملة للكفّار فقط إذ لم يشكروا ربّ النعيم و أشركوا به و عبدوا غيره فيسألون ثمّ يعذّبون على ترك الشكر، و قال الأكثرون: إنّ المعنى لتسألنّ يا معاشر المكلّفين عن النعيم و إنّ اللّه سائل كلّ ذي نعمة عمّا أنعم عليه.

و المراد من النعيم المأكل و المشرب و غيرهما من الملاذّ مطلقا عن سعيد بن

ص: 217

جبير. و قيل: المراد من النعيم الصحّة و الفراغ و يعضده ما رواه ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة و الفراغ. و قيل:

المراد الأمن و الصحّة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. و قيل: يسأل عن كلّ نعيم إلّا ما خصّه اللّه و هو قوله: ثلاثة لا يسأل اللّه عنها العبد: خرقة يواري بها عورته و كسرة يسدّ بها جوعته و بيت يكنّه من الحرّ و البرد. روي أنّ بعض الصحابة أضاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع جماعة من أصحابه فوجدوا عنده تمرا و ماء باردا فأكلوا فلمّا خرجوا قال صلّى اللّه عليه و آله: هذا من النعيم الّذي تسألون عنه.

و قيل: المراد من النعيم وجود النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أهل البيت روى العيّاشيّ بإسناده في حديث طويل قال: سأل أبو حنيفة أبا عبد اللّه عليه السّلام عن هذه الآية فقال له: ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال: القوت من الطعام و الماء البارد فقال عليه السّلام: لئن أوقفك اللّه يوم القيامة حتّى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها و شربة شربتها ليطولنّ وقوفك بين يديه قال: فما النعيم جعلت فداك؟ قال: نحن أهل البيت الّذي أنعم اللّه بنا على العباد و بنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين و بنا جعلهم أحبابا بعد أن كانوا أعداء و بنا هداهم اللّه للإسلام و هي النعمة الّتي لا تنقطع و اللّه سائلهم عنها و النعيم النبيّ و عترته. و هذه الرواية مقبولة عند العامّة و الخاصّة، و في حديث: قال الرضا عليه السّلام النعمة في الآية حبّنا أهل البيت أ تضيفون إلى اللّه ما إذا أضيف إليكم تستحونه؟

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 218

سورة العصر

اشارة

* (مكية)* من قرأها ختم اللّه له بالصبر و كان مع أصحاب الحقّ يوم القيامة.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من قرأ السورة في نوافله بعثه اللّه يوم القيامة مشرقا وجهه ضاحكا سنّه قريرة عينه حتّى يدخل الجنّة.

ص: 219

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العصر (103): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

أقسم سبحانه بصلاة العصر و هي الصلاة الوسطى لتوسّطها بين الشفع الّذي هو صلاة الظهر و بين الوتر الّذي هو صلاة المغرب فحصل لها من القدر ما لم يكن لكلّ واحد من الطرفين كما في الحديث الّذي يؤيّد فضلها على سائر الصلوات، قال صلّى اللّه عليه و آله:

من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله أي نقص، و معنى الحديث أي ليكن من فوتها حذرا كما يحذر الإنسان من ذهاب أهله و ماله و قيل: المراد بالعصر في الآية عصر النبوّة و في قراءة ابن مسعود «و العصر إنّ الإنسان لفي خسر، و إنّه فيه إلى آخر الدهر» و روي ذلك عن عليّ عليه السّلام، و قيل: أقسم سبحانه بالدهر لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل و النهار و تقدير الأدوار و هو قول ابن عبّاس و جماعة. و قيل: المراد وقت العشيّ و الطرف الأخير من النهار لما في ذلك من الدلالة على وحدانيّة اللّه بإدبار النهار و إقبال الليل كما أقسم بالفجر و بالضحى و هو الطرف الأوّل من النهار.

[إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ] و الألف و اللام للاستغراق و الجنس بدلالة صحّة الاستثناء و هذا جواب القسم و المعنى إنّه لفي نقصان و خسارة لأنّه ينقص عمره في كلّ يوم و هو رأس ماله فإذا ذهب رأس ماله و لم يكتسب به الطاعة يكون في غاية الخسران إذ لا خسران أعظم من ترك الطاعة و استحقاق العقاب الدائم و التنكير للتفخيم أي في خسران عظيم لا يعلم كنهه.

[إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا] أي المصدّقين بتوحيد اللّه [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ العاملين بطاعة اللّه و المكتسبين من الخيرات الباقية فأولئك ربحوا و لم يخسروا حيث باعوا

ص: 220

الفاني الخسيس و اشتروا الباقي النفيس و استبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرابحات، فيا لها من صفقة رابحة فغير المستثنى خاسر إمّا بالخلود إن كان كافرا و إمّا بالدخول في النار إن مات عاصيا و لم يغفر له و إمّا بفوات الدرجات العالية إن غفر له.

[وَ تَواصَوْا بِالْحَقِ أي وصّى بعضهم بعضا باتّباع الحق و اجتناب الباطل و قيل: المراد بالحقّ القرآن و قيل: هو أن يقولوا عند الموت المخلّفين: «لا تموتنّ إلّا و أنتم مسلمون».

و في الإكمال عن الصادق عليه السّلام قال: «العصر» عصر خروج القائم «إنّ الإنسان لفي خسر» يعني أعداؤنا «إلّا الّذين آمنوا» يعني بآياتنا «و عملوا الصالحات» يعني بمواساة الإخوان «و تواصوا بالحقّ» يعني الإمامة «و تواصوا بالصبر» يعني بالعترة.

القمّيّ عن الصادق عليه السّلام قال: استثنى اللّه أهل صفوته من خلقه حيث قال:

«إنّ الإنسان لفي خسر إلّا الّذين آمنوا» يعني آمنوا بولاية عليّ عليه السّلام «و تواصوا بالحقّ» يعني ذرّيّاتهم و من خلّفوا بالولاية و تواصوا بها و صبروا عليها.

[وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ] أي وصّى بعضهم بعضا بالصبر على تحمّل المشاقّ في طاعة اللّه و بالصبر عن معاصي اللّه.

و قيل: «إنّ الإنسان» في الآية الكافر خاصّة و هو أبو جهل و الوليد بن المغيرة و إذا كان كذلك فالآية أيضا تشمل كلّ كافر. تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 221

سورة الهمزة

اشارة

* (مكية)* قال صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها في فريضة من فرائضه نفت عنه الفقر و جلبت عليه الرزق و تدفع عنه ميتة السوء.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الهمزة (104): الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَ عَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)

وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

[وَيْلٌ مبتدء و ساغ الابتداء به مع كونه نكرة لأنّه دعاء عليهم بالهلكة [لِكُلِ مغتاب عيّاب نمّام مفرّق بين الأحباب بالنميمة، و الهمزة الّذي يطعن في الوجه بالعيب و اللمزة الطعّان في الغيب و قيل: الهمزة المغتاب و اللمزة الطعّان عن سعيد بن جبير و قتادة. و قيل بالعكس و بناء فعلة يدلّ على الاعتياد، و لا يقال ضحكة و لعنة إلّا للمكثر المتعوّد، و في أدب الكاتب لابن قتيبة: فعلة بسكون العين من صفات المفعول و فعلة بفتح العين من صفات الفاعل، يقال: رجل هزأة بسكون الزاي للّذي يهزء به و هزأة بفتح الزاي لمن يهزء بالناس.

و نزولها في الأخنس بن شريق أو في الوليد بن المغيرة فإنّ كلّا منهما كان يغتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأصحّ العموم لقوله تعالى: «لكلّ» و لم يقل: للهمزة و اللمزة، و في الحديث: المؤمن كيّس فطن حذر وقّاف متثبّت لا يعجل عالم ورع، و المنافق همزة لمزة حطمة كحاطب ليل لا يدري من أين يكتسب و فيم أنفق.

ص: 222

[الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ بدل من «كلّ» وصفه بجمع المال لأنّه جرى مجرى السبب للهمزة و اللمزة من حيث إنّه اعجب بنفسه ممّا جمع من المال و ظنّ أنّ أنّ كثرة المال سبب لعزّة المرء فلذا استنقص غيره. و تنكير «مالا» للتفخيم و التكثير الموافق لقوله: «و عدّده» أي أحصاه.

و قيل: معناه جعله عدّة له من نوائب الدهر فيكون من العدّة لا من العدد.

[يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظنّ أنّ ماله الّذي جمعه يخلده في الدنيا و يمنعه من الموت فأخلده بمعنى يخلده و قوله: «يحسب» يدلّ على هذا المعنى المستقبل في أخلده و إنّما ظنّ ذلك مع أنّ الموت معلوم عند جميع الناس لأنّه يعمل عمل من يحسب له الخلود من تشييد البنيان و إيثاقه بالصخر و الشيد و جري الأنهار و غرس الأشجار فالحسبان ليس بحقيقيّ بل محمول على التمثيل أو المعنى يحسب أنّ ماله يوصله إلى مقام الخلد.

[كَلَّا] ردع و منع له عن ذلك الحسبان الباطل أو ردع له عن الهمز و اللمز [لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ] جواب قسم مقدّر أي و اللّه ليطرحنّ ذلك الّذي يظنّ هذا الهمّاز اللمّاز، و يؤيّده قراءة من قرء «لينبذانّ» على التثنية، في النار الّتي من شأنها أن يحطم و يكسر كلّ ما يلقي فيها كما أنّه كان من شأنه كسر أعراض الناس وفاقا لأعمالهم.

[وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ] تهويل لأمرها ببيان أنّها ليست من الأمور الّتي تنالها عقول الخلق [نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ] أي هي نار أوقدتها يد القدرة و إضافة النار إليه تعالى لتفخيمها و الدلالة على أنّها ليست كسائر النيران. في الحديث: أوقد عليها ألف سنة حتّى احمرّت ثمّ ألف حتّى ابيضّت ثمّ ألف سنة حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة. قال عليّ عليه السّلام: عجبا ممّن يعصي اللّه على وجه الأرض و النار تسعر من تحته.

[الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ] أي تعلو أوساط القلوب و تغشاها فإنّ الفؤاد وسط القلب و متّصل بالروح يعني إنّ تلك النار تحطم العظام و تأكل اللحوم فيدخل في أجواف أهل الشهوات و المعاصي و تصل إلى صدورهم و تستولي على أفئدتهم إلّا أنّها

ص: 223

لا تحرقها بالكلّيّة إذ لو احترقت لماتت أصحابها ثمّ إنّ اللّه يعيد لحومهم و عظامهم مرّة اخرى و تخصيص الفؤاد بالذكر لما أنّه ألطف ما في الجسد و أشدّ تألّما بأدنى أذى يمسّه و لأنّه محلّ العقائد الفاسدة و النيّات الخبيثة و هي خزانة الجسد و أستر من كلّ عضو فإذا كانت النار استولت عليه فبأن تستولي على سائر الجسد أولى.

[إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ] من أوصدت الباب و آصدته أي أطبقته أي إنّ تلك النار مطبقة أبوابها عليهم تأكيدا ليأسهم من الخروج و تيقّنهم بحبس الأبد.

[فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ] أي حالكونهم موثوقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر الّتي تقطر فيها اللصوص و أوتاد لشدّهم بها تفتح عليهم باب و لا يدخل لهم روح قال الكلبيّ:

«في عمد» مثل السواري ممدودة مطوّلة مربوطين بها كالشطار خشبة فيها خروق يدخل فيها أرجل المحابيس.

قال الطبرسيّ في المجمع: روى العيّاشي بإسناده عن محمّد بن النعمان الأحول عن حمران عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إن الكفّار و المشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار و يقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا و نحن و أنتم سواء قال:

فيأنف لهم الربّ فيقول للملائكة: اشفعوا فيشفعون لمن شاء اللّه ثمّ يقول للنبيّين:

اشفعوا فيشفعون لمن شاء اللّه، ثمّ يقول للمؤمنين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء اللّه، و يقول اللّه: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي فيخرجون- أي أهل التوحيد- كما يخرج الفراش قال: ثمّ قال أبو جعفر: أطبقت على الكفّار و كان و اللّه الخلود للكفّار. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 224

سورة الفيل

اشارة

* (مكية)* في حديث ابيّ: من قرأها عافاه اللّه أيّام حياته من المسخ و الخسف.

و عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأها في الفريضة شهد له يوم القيامة كلّ سهل و جبل و مدر بأنّه كان من المصلّين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفيل (105): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

الرؤية علميّة لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ولد عام الفيل و لم يرهم و الهمزة للتقرير و المراد بأصحاب الفيل أبرهة و قومه، و بالفيل هو الفيل الأعظم و كنيته أبو العبّاس و نسبوا إليه لأنّه كان مقدّمهم، و المعنى ألم تعلم علما متآخما للمشاهدة و العيان باستماع الأخبار المتواترة بوقوع هذا الأمر العجيب؟

و كان وقوع القصّة عام مولد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نصف المحرّم و ولد صلّى اللّه عليه و آله في شهر ربيع الأوّل فبين الفيل و مولده الشريف خمس و خمسون أو ستّون ليلة و هي سنة ستة آلاف و مائة و ثلاث و ستّين من هبوط آدم عليه السّلام على حكم التواريخ اليونانيّة المعتمدة عند المورّخين، و بين قصّة الفيل و الهجرة الشريفة النبوية إلى المدينة ثلاث و خمسون سنة، و المراد من بيان الآية تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّه سيجزي من ظلمه كما جزى من قصد الكعبة.

و مجمل القصّة أنّ ملك حمير و هو ذو النواس اليهوديّ و كان متصلّبا في دينه

ص: 225

و هو صاحب الأخدود لمّا أحرق المؤمنين بنار الأخدود هرب رجل من المؤمنين إلى ملك الحبشة و هو يومئذ أصحمة بن نجر النجاشيّ و هو الّذي أسلم في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبر الرجل أصحمة ما فعله ذو النواس اليهوديّ فقصد ملك الحبشة و هو أصحمة بن نجر النجاشيّ على قتال ذي نواس و كان النجاشيّ على دين النصرانيّة فبعث أصحمة سبعين ألفا من الحبشة إلى اليمن و أمّر عليهم أرياطا و معه في جنده أبرهة بن الصباح الأثرم (و معنى «أبرهة» بلسان الحبشة الأبيض الوجه) فركبوا البحر حتّى نزلوا ساحلا ممّا يلي أرض اليمن و هزم أرياط ذا نواس و قتل ذو نواس في المعركة أو ألقى نفسه في البحر و هلك و استقرّ أمر أرياط في أرض اليمن زمانا و أقام فيها سنين في سلطانه.

ثمّ نازعه أبرهة في أمر الحبشة و كان من أمراء الجند فتفرّقت الحبشة فرقتين فرقة مع أرياط و فرقة مع أبرهة فكان الأمر على ذلك إلى أن سار أحدهما إلى الآخر فلمّا تقارب الفرقتان للقتال أرسل أبرهة إلى أرياط أنّك لم تعزّي الحبشة بعضها ببعض حتّى تفنيها؟ فابرز إليّ و أبرز لك فأيّنا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فاخرج فخرج إليه أبرهة و كنيته «أبو مكسوم» و كان رجلا قصير الجثمان لحيما ذا دين في النصرانيّة و خرج إليه أرياط و كان رجلا طويلا عظيما و في يده حربة و خلف أبرهة غلام يقال له «عتودة» يمنع ظهره فرفع أرياط الحربة يضرب أبرهة يريد يافوخه (1) فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرحت حاجبه و أنفه و عينه و شفته فبذلك سمّي أبرهة الأثرم و حمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله فاتّصل جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة في اليمن بلا منازع و كان ما صنع أبرهة من غير علم النجاشيّ فلمّا بلغه ذلك غضب غضبا شديدا فقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري ثمّ حلف لا يدع أبرهة حتّى يطأ بلاده و يحزّ ناصيته فلمّا بلغ هذا الخبر أبرهة حلق رأسه و ملأ جرابا ترابا من تراب اليمن ثمّ بعث إلى النجاشيّ مع هدايا جليلة و كتب إليه أيّها الملك إنّمال.

ص: 226


1- الموضع الذي يتحرك من مقدم رأس الطفل.

كان أرياط عبدك و أنا عبدك فاختلفنا في أمرك و كلّ في طاعتك إلّا أنّي كنت أقوى على أمر الحبشة و أضبط و أسوس منه و قد حلقت رأسي حين بلغني قسم الملك و بعثت إليك بجراب من تراب أرضي ليضعه الملك تحت قدميه فيبرّ قسمه فيّ فلمّا وصل كتاب أبرهة إلى النجاشيّ لان و سكنت فورته و رضي عنه و كتب إليه أن اثبت على أرض اليمن حتّى يأتيك أمري فأقام أبرهة باليمن.

ثمّ إنّه رأى أنّ الناس يتجهّزون أيّام الموسم إلى مكّة لحجّ بيت اللّه الحرام فتحرّك منه عرق النصرانيّة و الحسد فبنى بصنعاء كنيسة من رخام ملوّن و رصّعها بالجواهر النفيسة و كان ينقل الحجارة الملوّنة النفيسة من قصر بلقيس صاحبة سليمان و جعل فيها صلبانا من الذهب و الفضّة و منابر من عاج و الآبنوس و سمّاها القلنس كحمير لارتفاع بنائها و علوّها و منها القلانيس لأنّها في أعلى الرأس.

و كتب أبرهة إلى النجاشيّ أيّها الملك إنّي بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك قبلك و لست أرضى حتّى أصرف إليها حاجّ العرب فلمّا تحدّث العرب بكتاب أبرهة و بقصده غضب رجل من بني كنانة حتّى أتى إلى القلنس و كان حينئذ رئيس العرب في مكّة عبد المطّلب و كان ذلك الكنانيّ اسمه زهير بن بدر أتى إلى القلنس و أقام فيه يوهم أنّه يعتكف فيه و يعبد فأقام فيه أيّاما فلمّا خلا فيها ليلة أحدث فيها و انهزم فانتشر هذا الخبر في الآفاق أنّ رجلا من أهل مكّة حدث في كنيسة الملك فتأثّر لذلك الأمر أبرهة و حلف أن يتوجّة إلى مكّة و يخرب البيت حتّى لا يحجّه أحد بعدها أبدا و يهدمها، فخرج بالحبشة و اغتمّ النجاشيّ لفعل الكنانيّ غاية و عزّاه أبرهة و قال: لا تحزن ننسف أبنيتها و نبيح دماءها و أموالها فخرج أبرهة بجند كثير و جمّ غفير و معه فيل أبيض اللون و هو فيل النجاشيّ بعثه إليه بسؤاله و كان فيلا لم ير مثله جسما و عظما و كان ذلك الوقت يقاتلون بالفيل كما أنّه قيل: كان في مربط ملك الصين ألف فيل.

و كان دليل أبرهة في الطريق كبير ثقيف رجل يقال له «أبو رغال» مات في الطريق و رجم العرب قبره و صار قبره في الطريق كالجبل من كثرة رمي الحجر على قبره

ص: 227

و في ذلك يقول جرير في الفرزدق:

إذا مات الفرزدق فارجموه كما ترمون قبر أبي رغال

و كان أبو رغال عشّارا جائرا.

و بالجملة فلمّا وصل أبرهة بجيشه إلى مكّة نزل خارج الحرم و بعث رجلا من الحبشة يقال له: «الأسود» فساق ما كان من أموال أهل تهامة و نهبها و كان من الإبل المنهوبة مائتان لعبد المطّلب و بعث أبرهة حياطة الضميريّ و قال له: سل عن سيّد هذا البلد و شريفهم و ائتوني به فأتاه عبد المطّلب فلمّا أتاه عبد المطّلب و كان أبرهة جالسا على سرير و لم يرد أن يجلس عبد المطّلب معه على سريره كراهة أن تراه الحبشة أنّ أحدا يجلس معه على سريره نزل أبرهة عن سريره و جلس على الأرض و جلس عبد المطّلب معه و قال أبرهة: سل حاجتك إن كان لك حاجة قال عبد المطّلب:

ردّ إبلي فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لم ما سألتني حتّى أعفو عن هدم البيت و إنّه لبيت عزّكم و شرفكم و ما هذه الأباعر و ما خطرها؟ فقال عبد المطّلب: أنا ربّ الإبل و للبيت ربّ يحفظه كما حفظه من تبّع و كسرى فغضب أبرهة و قال: ردّوا عليه بعرانه لينظر من يحفظ البيت منّي و قيل: ما استردّ عبد المطّلب إبله.

و أخذ أهل مكّة أموالهم و أمتعتهم و استنجدوا الجبال و خلت مكّة منهم خوفا من معرّة الجيش.

و بالجملة فجهّز أبرهة جيشه و قدّم الفيل الأعظم فكان كلّما وجّهوه إلى الحرم برك و لم يبرح كما بركت القصواء في الحديبية حتّى قال صلّى اللّه عليه و آله: حبسها حابس الفيل. و معنى بروك الفيل سقوطه على الأرض لمّا جاءه الإلهام من اللّه فلزم موضعه و لم يتحرّك.

و قيل: إنّ نفيل بن حبيب الخثعميّ أخذ باذن ذلك الفيل الأعظم و كان اسمه محمود فقال نفيل: ابرك محمود و ارجع راشدا من حيث جئت فإنّك في بلد اللّه الحرام، و نفيل هذا هو قاتل أبرهة بأرض خثعم و هو جبل و أهله خثعميّون.

و أخذ عبد المطّلب بحلقة البيت و دعا و كلّما وجّهوا الفيل إلى مكّة يربض

ص: 228

فضربوه فلم يتحرّك و إذا وجّهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول فأمر أبرهة أن يساق الفيل فثبت على أمره فبينما عبد المطّلب يدعو التفت فإذا بطير فقال:

إنّها لطير غريبة لا نجديّة و لا تهاميّة و إنّ لها لشأنا، سوداء صفر المناقير خضر الأعناق و عن عائشة كانت تلك الطير الأبابيل أشباه الخطاطيف و الوطاويط و لها خراطيم الطير و أكفّ الكلاب و أنيابها و قيل: هي عنقاء مغرب، و قيل: إنّها طير بين السماء، و قيل: من طير السماء، جاءت عشيّة ثمّ صبّحتهم، مع كلّ طائر حجر في منقاره و حجران في رجليه أكبر من العدسة و أصغر من الحمّصة و عن ابن عبّاس أنّه رأى من تلك الأحجار عند امّ هانئ نحو قفيز مخطّط بحمرة كالجذع. ثمّ أرسلت ريح فزادتها شدّة فكان الحجر تقع على رأس كلّ واحد من الجيش فيخرج من أسفله و ينفذ من الفيل و من بيضهم فيحرق الأرض و على كلّ حجر اسم من يقع عليه، قال عكرمة: كلّ من أصابته الحجارة جدرته ففرّوا و هلكوا في كلّ طريق و منهل و لم تصب منهم أحدا إلّا هلك.

ثمّ لمّا استبطأ عبد المطّلب مجي ء القوم إلى مكّة ركب لينظر ما الخبر فوجدهم هلك منهم و فرّ الباقون و قد بقي أثاثهم و أموالهم فاحتمل ما شاء اللّه من صفراء و بيضاء ثمّ أعلم أهل مكّة بهلاك القوم فخرجوا و انتهبوا.

و بالجملة لم يبق منهم أحد و قيل: أخذ أبرهة داء أسقط أنامله و أعضاءه و وصل إلى صنعاء و هو مثل فرخ و ما مات حتّى انصدع صدره فملك اليمن ابنه مكسوم و انفلت وزير أبرهة و طائر يتخلّف فوقه حتّى بلغ النجاشيّ فقصّ عليه القصّة فلمّا أتمّها وقع عليه الحجر فخرّ ميّتا بين يديه انتهى.

فلو قيل: إنّا شاهدنا و تحقّق عندنا أنّ بعض الناس فعلوا مثل فعل أبرهة و ما وقع عليهم سوء كما وقع لأبرهة مثل الحجّاج و مثل القرامطة.

فالجواب أنّه لم تجر عادة اللّه على من يعاديه أن يأخذه سريعا بل عادته أن يمهله لكن لا يهمله، على أنّ مثل هذه الأمور خوارق العادات كان يقع في أيّام الأمم السالفة، و أيضا إنّ الاستيصال و ما يقرب منه مرفوع عن هذه الامّة و إن كان اشتدّ غضبه

ص: 229

عليهم كما قيل في حقّ الحجّاج: إنّ عليه نصف عذاب العالم.

و قصّة القرامطة مجملها أنّ أبا سعيد كبير القرامطة (و هم طائفة ملاحدة ظهروا بالكوفة سنة سبعين و مائتين يزعمون أن لا غسل من جنابة و حلّ الخمر و أنّه لا صوم في السنة إلّا يومي النيروز و المهرجان و يزيدون في أذانهم و أنّ محمّد بن الحنفيّة رسول اللّه و أنّ الحجّ و العمرة إلى بيت المقدس و افتتن بهم جماعة من الجهّال و أهل البراري و قويت شوكتهم حتّى انقطع الحجّ من بغداد بسببه و سبب ولده أبي طاهر فإنّ ولده أبا طاهر بنى دارا بالكوفة و سمّاها دار الهجرة) كثر فساده و استيلاؤه على المسلمين و قتله إيّاهم و كثرت أتباعه و ذهب إليه جيش الخليفة المقتدر باللّه السادس عشر من خلفاء بني العبّاس غير مرّة و هو يهزمهم.

ثمّ إنّ المقتدر سيّر ركب الحاجّ إلى مكّة فوافاهم أبو طاهر يوم التروية فقتل الحجّاج بالمسجد الحرام و في جوف الكعبة قتلا ذريعا و ألقى القتلى في بئر زمزم و ضرب الحجر بدبّوس (1) فكسره ثمّ اقتلعه و أخذه معه و قلع باب الكعبة و نزع كسوتها و سقفها و قسّمه بين أصحابه و هدم قبّة زمزم و ارتحل عن مكّة بعد أن أقام فيها أحد عشر يوما و معه الحجر الأسود و بقي عند القرامطة أكثر من عشرين سنة و كان الناس يضعون أيديهم محلّه للتبرّك و دفع لهم خمسون ألف دينار فأبوا حتّى أعيد في موضعه في خلافة المطيع لأمر اللّه و هو الرابع و العشرون من خلفاء بني العبّاس بعد اشترائه منهم.

و بعد القرامطة في سنة ثلاث عشرة و أربعمائة قام رجل من الملاحدة و ضرب الحجر ثلاث ضربات بدبّوس فتشقّق وجه الحجر من تلك الضربات و تساقطت منه شظيّات (2) مثل الأظفار و خرج بكسره فتات (3) أسمر يضرب إلى الصفرة محبّبا مثل حبّ الخشخاش فجمع بنو شيبة ذلك الفتات و عجنوه بالمسك و حثوه في تلك ت.

ص: 230


1- عصا من خشب او جديد في رأسه شي ء مثل الكرة.
2- فلقة العود و العظم و نحوهما.
3- الكسارة و السقاطة من الشي ء المفتوت.

الشقوق و طلوه من ذلك و لعنة اللّه على الظالمين.

[أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ الهمزة للتقرير و ضلّ كيده إذا جعله ضائعا و ضلّ الماء في اللبن إذا غاب أي قد جعل سبحانه مكرهم في تخريب الكعبة في إبطال بأن أهلكهم و جزاهم بعد إهلاكهم بمثل ما قصدوا حيث خرب كنيستهم لأنّهم بعد إهلاك صاحب الفيل و قومه عزّت قريش و هابهم الناس كلّهم و مزّقت الحبشة كلّ ممزّق و خرب تلك الكنيسة الّتي بناها أبرهة فلم يعمرها أحد و كثرت حولها السباع و الوحوش و مردة الجنّ و استمرّت كذلك إلى زمن السفّاح العبّاسي أوّل خلفاء بني العبّاس فذكر له أمرها فبعث إليها عامله الّذي باليمن فخربها و أخذ خشبها المرصّع بالذهب و الآلات الّتي تساوي قناطير من الذهب و عفا رسمها.

[وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ و أبابيل أي جماعات متتابعة من الطير لأنّها كانت أفواجا فوجا بعد فوج أو معنى أبابيل من هاهنا و هاهنا جمع إبالة و هي الحزمة الكبيرة من الحطب شبّهت بها الجماعة من الطير في نظامها فأبابيل صفة للطير.

[تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ صفة اخرى لطيرا أي ترمي الطير عليهم و تقذفهم تلك الطير بأحجار صلبة شديدة ليست من جنس الحجارة و قد مرّ تفسير السجّيل في سورة هود، و قيل: معناه طين متحجّر معرّب «سنگ گل» من هذين الجنسين و هما «سنج» الّذي هو الحجر و «جيل» الّذي هو الطين أو اشتقاقه من الإسجال و هو الإرسال فالمعنى من الحجارة المرسلة.

[فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق زرع وقع فيه الأكّال و قد أكله الدود و سمّي ورق الزرع بالعصف لأنّ شأنه أن يقطع فتعصفه الرياح و تذهب به إلى هنا و هنا شبّههم في فنائهم به أو المعنى كورق ذرع قد أكل حبّه و بقي تبنه في بقاء أجسادهم و ذهاب أرواحهم أو كتبن و ورق زرع أكلته الدوابّ و ألقته روثا فيبس و تفرّقت أجزاؤه شبّه تقطّع أوصالهم بتفرّق الروث و فيه تشويها لحالهم و هو أنّه لم يكتف بجعلهم أهون شي ء في الزرع و هو التبن حتّى جعلهم رجيعا و عبّر عن الرجيع بالمأكول

ص: 231

مراعاة لحسن الأدب في الذكر استهجانا لذكر الروث كما كنّى بالأكل في قوله (1):

«كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» عمّا يلزم الأكل من البول و التغوّط، و من كان اعتماده بقوّته و سطوته أهلكه اللّه بأضعف خلقه فإنّهم لمّا كان اعتمادهم على الفيل من حيث إنّهم زعموا أنّه أقوى خلق اللّه أهلكهم بأضعف خلق من خلقه و هو الطير الّذي حجم كلّ واحد منها لا يعادل عشرة مثاقيل شبيهة بالزرزور أو هي الزرزور يقال له بالفارسيّة «سار» و سمّي زرزور لتزرزره.

و ما به قتلوا من الحجارة أصغر من الحمّصة و أكبر من العدسة و كان هذا الأمر من أعظم المعجزات أظهره اللّه إمّا على طريق الإرهاص (2) لنبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله فإنّه صلّى اللّه عليه و آله ولد في ذلك العام.

و قال قوم من المعتزلة: إنّه كان معجزة لنبيّ من الأنبياء و ربّما قالوا: هو خالد بن سنان لكن لا نحتاج إلى هذه التكلّفات بل يكون هذا الأمر تشريفا و تعظيما و حفظا لبيته تعالى على أنّه حجّة لائحة لظهور الحقّ و إبطال لأقوال الملاحدة و و الفلاسفة المنكرين للآيات الخارقة فإنّ هذا الأمر لا يمكن أن يستند إلى الطبع كما نصبوا الصيحة و الريح العقيم و غيرها ممّا أهلك اللّه تعالى به الأمم الماضية إلى ذلك إذ لا يمكنهم أن يروا في أسرار الطبيعة إرسال جماعات من الطير و معها أحجار معدّة لهلاك قوم معيّنين قاصدة إيّاهم دون غيرهم فترميهم بها فتهلكهم و لا يتعدّى ذلك الأمر إلى غيرهم و لو واحدا.

و ليس لأحد أن ينكر هذا الأمر لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا قرء هذه السورة على أهل مكّة مع عنادهم و إنكارهم لم ينكروا هذا الأمر بل أقرّوا و كانوا قريبي العهد بأمر الفيل فلو لم يكن لذلك الأمر حقيقة لأنكروه و جحدوه بل أكثروا في هذا الأمر في أشعارهم و ناديهم فمن ذلك ما قاله ابن أبي الصلت:

إنّ آيات ربّنا بيّنات ما يماري فيهنّ إلّا الكفور ي.

ص: 232


1- سورة المائدة: 78.
2- هو ظهور امر من اعلام النبوة قبل بعث النبي.

حبس الفيل بالمغمّس حتّى ظلّ يحبو كأنّه معقور

و قال عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم:

أنت الجليل ربّنا لم تدنس أنت حبست الفيل بالمغمّس

من بعد ما همّ بشي ء ملبس حبسته في هيئة المكركس

أي المنكّس. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 233

سورة لإيلاف

اشارة

* (مكية)* في حديث ابيّ: من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالبيت و اعتكف.

و روى العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام يقول: لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلّا الضحى و ألم نشرح و ألم تر كيف و لإيلاف.

و عن ابن عبّاس عن أحدهما عليهما السّلام قال: ألم تر كيف فعل و لإيلاف سورة واحدة.

ص: 234

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة قريش (106): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منّا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء و الصيف فكأنّه قال: نعمة إلى نعمة، و اللام متعلّق بقوله: «فليعبدوا» و ذكر الفاء لما في الكلام من معنى الشرط و تقدير الكلام أنّ نعم اللّه عليهم غير محصورة فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لتألّف قريش بمكّة و تمكّنهم المقام بها أو المعنى لتألّف قريش فإنّهم هابوا من أصحاب الفيل لمّا قصدها و هربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكّة و يألفوا و يجتمعوا بها و تولّد محمّد صلّى اللّه عليه و آله فبعث إلى الناس بشيرا و نذيرا.

[إِيلافِهِمْ بدل من الأوّل و الإيلاف الأوّل بمعنى الإلف اللازم لا المتعدّي، لأن يألفوا هاتين الرحلتين و يجمعوا بينهما لتجاراتهم و معاشهم و ذلك لأنّ الناس إذا تسامعوا بذلك الإهلاك ثبت لهم عزّ و شرف و تهيّبوا لهم زيادة فضل على غيرهم فلا يجترئ عليهم أحد و ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم.

و كان لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن و في الصيف إلى الشام فيتمارون و يتّجرون آمنين و ما كان بعد ذلك يتعرّض لهم أحد من العرب و ذئابها و الناس بين متخطّف و منهوب و لو لا هاتان الرحلتان لم يمكنهم المقام بها لأنّها واد غير ذي زرع و لم يكونوا أهل زرع و لا ضرع و كان إذا أصاب واحدا منهم مخمصة خرج و عياله إلى موضع و ضربوا على أنفسهم خباء حتّى يموتوا و كانوا على ذلك إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف عليه السّلام و كان سيّد قومه فقام خطيبا فقال: إنّكم أحدثتم

ص: 235

حدثا تقلّون فيه و تذلّون و أنتم أهل حرم اللّه و أشرف ولد آدم، قالوا: نحن لك تبع فليس عليك منّا خلاف فأمرنا بأمرك، فجمع كلّ بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن و في الصيف إلى الشام للتكسّب فما ربح الغنيّ يكون ليقسّم بينه و بين فقرائهم فاستداموا على هذا الأمر حتّى كان فقيرهم كغنيّهم فجاء الإسلام و هم على ذلك.

و قريش ولد النضر بن كنانة و من لم يلده فليس بقريش و اختلفت في تسميتهم بهذا الاسم قيل: سمّوا قريشا لأنّهم لم يكونوا أهل زرع و ضرع و كانوا يكتسبون. و القرش الكسب، و قال ابن عبّاس: سمّوا «قريش» بالتصغير للتعظيم من القرش و هو دابّة بحريّة عظيمة تعبث بالسفن و تقلبها و تكسرها و لا تطاق إلّا بالنار و لا يقدر أحد عليها فشبّهوا بها لأنّها تأكل و لا تؤكل و تعلو و لا تعلى و وصفوا بالغلبة و عدم المغلوبيّة قال شاعر هم:

و قريش هي الّتي تسكن البحربها سمّيت قريش قريشا

تأكل الغثّ و السمين و لا تترك فيه لذي الجناحين ريشا

هكذا في البلاد حتّى قريش يأكلون البلاد أكلا كميشا (1)

و لهم آخر الزمان نبيّ يكثر القتل فيهم و الخموشا (2)

و قيل: سمّوا قريشا لتجمّعهم من هاهنا و هاهنا و ضمّ بعضهم إلى بعض و تجمّعهم إلى الحرم أو لأنّ النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يوما فقالوا: تقرّش نضر، أو سمّيت بقريش بن يخلد بن غالب بن فهر، و كان ابن يخلد صاحب عيرهم فكانوا يقولون: قدّمت عير قريش و خرجت عير قريش انتهى.

[فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ بسبب تينك الرحلتين اللّتين تمكّنوا منهما أو بسبب دعوة إبراهيم يجبى إليه ثمرات كلّ شي ء [مِنْ جُوعٍ شديد كانوا فيه قبلهما إلى أن جمعهم على الغنى عمرو العلى (3) على الرحلتين كما ذكر سابقام.

ص: 236


1- اكلا سريعا.
2- الخدش و اللطم.
3- لقب هاشم.

[وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ عظيم و هو خوف أصحاب الفيل أو خوف التخطّف في بلدهم من ذئاب العرب حيث هابوهم و فضّل على العرب بأمور.

قالت امّ هانئ بنت أبي طالب: إنّ رسول اللّه ذكر فضل قريش بسبع خصال:

النبوّة فيهم، و الخلافة، و الحجابة، و السقاية، و نصروا على الفيل، و السبقة في عبادة اللّه، و نزلت فيهم سورة لم يذكر فيها أحد غيرهم «لإيلاف» (و تسمية لإيلاف سورة يردّ قول من قال و هم جماعة: بأنّ ألم تر كيف فعل و لإيلاف سورة واحدة) و بالجملة فهذه الفضائل ثابتة لقريش بشرط إطاعة اللّه و رسوله قال شاعرهم:

يا ذا الّذي طلب السماحة و الندى هلّا مررت بآل عبد مناف

لو أن مررت بهم تريد قراهم منعوك من جهد و من إيجاف

الرائشين و ليس يوجد رائش و القائلين: هلمّ للأضياف

و الخالطين غنيّهم بفقيرهم حتّى يصير فقيرهم كالكافي

و القائلين بكلّ وعد صادق و رجال مكّة مستنين عجاف

سفرين سنّهما له و لقومه:سفر الشتاء و رحلة الأصياف

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 237

سورة أ رأيت

اشارة

* (مكية)* و قيل: بعضها مكّية و بعضها مدنيّة، و تسمّى سورة الماعون.

من قرأها غفر اللّه له إن كان للزكاة مؤدّيا.

عمرو بن ثابت عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأها في فرائضه و نوافله قبل اللّه صلاته و صيامه و لم يحاسبه بما كان منه في الدنيا.

ص: 238

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الماعون (107): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)

الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)

قال الكلبيّ: نزلت في العاص بن وائل السهميّ و قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة و قيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب كان ينحر في كلّ اسبوع جزورين فأتاه يتيم و سأله شيئا فقرعه بعصاه و قيل: المراد أبو جهل كان وصيّا ليتيم فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا فآيس الصبيّ فقال له أكابر قريش:

قل لمحمّد: يشفع لك و كان غرضهم الاستهزاء به و هو صلّى اللّه عليه و آله ما كان يردّ محتاجا فذهب معه إلى أبي جهل و قام أبو جهل و بذل المال لليتيم فعيّره قريش و قالوا:

أ صبوت؟ فقال: لا و اللّه ما صبوت و لكن رأيت عن يمينه و عن يساره حربة خفت إن لم اجبه يطعنها فيّ.

قوله تعالى: [أَ رَأَيْتَ أي هل عرفت يا محمّد [الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فالّذي للعهد أو للجنس فيكون عامّا لكلّ من كان مكذّبا بالدين و من شأنه أذيّة الضعيف و دفعه بعنف [وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يحثّ أهله و غيرهم على طعام مسكين و محتاج و يمنع المستحقّ، و في العدول من الإطعام إلى الطعام و إضافته إلى المسكين دلالة على أنّ للمساكين شركة و حقّا في مال الأغنياء.

[فَوَيْلٌ الفاء لربط ما بعدها بشرط محذوف كأنّه قيل: إذا كان عدم المبالاة باليتيم من موجبات الذمّ و التوبيخ، فويل و شدّة العذاب [لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ

ص: 239

عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ السهو خطأ عن غفلة و ذلك ضربان: أحدهما أن لا يكون من الإنسان مولّداته و دواعيه كمجنون سبّ إنسانا مثلا و الثاني أن يكون منه مولّداته كمن شرب خمرا ثمّ ظهر منه منكر لا عن قصد إلى فعله فالأوّل معفوّ عنه و الثاني مأخوذ به، و من القسم الثاني ما ذمّ اللّه في الآية و المعنى في قوله: «عن صلاتهم» سهو ترك لها و قلّة التفات إليها و عدم المبالاة بها و ذلك فعل الفسقة من المؤمنين.

قال أنس بن مالك: الحمد للّه على أن لم يقل «في صلاتهم» و ذلك أنّه لو قال:

«فِي صَلاتِهِمْ» لكان المعنى أنّ السهو يعتريهم و هم فيها إمّا بوسوسة الشيطان أو بحديث نفس و ذلك لا يكاد يخلو منه أحد و التخلّص منه عسير.

قيل: و لمّا نزلت الآية قال صلّى اللّه عليه و آله: هذه خير لكم من أن يعطى كلّ واحد منكم مثل جميع الدنيا.

و قيل في معنى «عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» إنّ المعنى و المراد هم الّذين يؤخّرون الصلاة عن أوقاتها عن ابن عبّاس و جماعة و روي ذلك مرفوعا. و قيل: المراد المنافقون الّذين لا يرجون لها ثوابا إن صلّوا و لا يخافون على تركها عقابا فهم عنها غافلون حتّى يذهب وقتها فإذا كانوا مع من يصلّي صلّوا و إذا لم يكونوا معهم لم يصلّوا فكان صلاتهم رياء لا إخلاصا و هو قوله: [الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ فإن صلّوها صلّوها رياء و إن فاتتهم لم يندموا و قيل: هم الّذين لا يصلّونها لوقتها و لا يتمّون ركوعها و سجودها قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: هو الترك لها و التواني عنها و المضيّعين لها.

[وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ اختلف فيه قيل: هي الزكاة المفروضة عن عليّ عليه السّلام و أبي عبد اللّه، و قيل: المراد من الماعون ما يتعاروه الناس بينهم من الدلو و الفأس و القدر و ما لا يمنع كالملح و الماء و أمثاله. و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام هو القرض تقرضه و متاع البيت تعيره و منه الزكاة، قال: فقلت له: إنّ لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه و أفسدوه فعلينا جناح أن نمنعهم؟ فقال: لا ليس حينئذ جناح أن تمنعهم

ص: 240

إذا كانوا كذلك و قيل: المعروف كلّه. و الماعون من المعن و هو الشي ء القليل و سمّيت الزكاة ماعونا لأنّه يؤخذ من المال ربع العشر و هو قليل من كثير.

و الفرق بين المرائي و المنافق أنّ المنافق يبطن الكفر و يظهر الإيمان و المرائي يظهر زيادة الخشوع و آثار الصلاح ليعتقد من يراه أنّه من أهل الصلاح و حقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بإظهار الدين.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 241

سورة الكوثر

اشارة

* (مكية)* من قرأها سقاه اللّه من أنهار الجنّة و اعطي من الأجر بعدد كلّ قربان قرّبه العباد في يوم العيد و يقرّبون أهل الكتاب و المشركين.

و قال صلّى اللّه عليه و آله: و من قرأها في فرائضه و نوافله سقي يوم القيامة من الكوثر.

ص: 242

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكوثر (108): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

السورة قيل: مكّيّة و قيل: مدنيّة.

نزلت السورة في العاص بن وائل السهميّ و ذلك أنّه رأى رسول اللّه يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم و تحدّثا و أناس من صناديد قريش جلوس في المسجد فلمّا دخل العاص قالوا: من الّذي كنت تتحدّت معه؟ قال ذلك الأبتر و كان قد توفّي قبل ذلك عبد اللّه بن رسول اللّه و هو من خديجة و كانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر فسمّته قريش عند موت ابنه صلّى اللّه عليه و آله أبتر و مبتور عن ابن عبّاس.

[إِنَّا] إنّ جار مجرى القسم في تأكيد الجملة [أَعْطَيْناكَ بصيغة الماضي مع أنّ العطايا الاخرويّة و أكثر ما يكون في الدنيا لم يحصل بعد تحقيقا لوقوعها [الْكَوْثَرَ] أي الخير الكثير من العلم و العمل و فوعل من الكثرة كنوفل من النفل و جوهر من الجهر. قيل لأعرابيّة آب ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر، أي بالعدد الكثير من الخير.

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قرأها فقال: أ تدرون ما الكوثر إنّه نهر في الجنّة وعدنيه ربّي، فيه خير كثير أحلى من العسل و أشدّ بياضا من اللبن و أبرد من الثلج و ألين من الزبد حافتاه الزبرجد و أوانيه الفضّة عدد نجوم السماء لا يظمأ من شرب منه أبدا أوّل وارد به فقراء المهاجرين الدنس الثياب الشعث الرءوس الّذين لا يزوّجون المنعّمات و لا تفتح لهم أبواب السدد، و يموت أحدهم و حاجته تبتلج في صدورهم، لو أقسم على اللّه لأبرّه. و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: الكوثر نهر في الجنّة أعطاه نبيّه عوضا من ابنه. و قيل: الكوثر هو القرآن. و قيل: هو كثرة النسل و الذرّيّة و قد ظهرت الكثرة في ولد فاطمة عليها السّلام و لا تحصى عددهم و اتّصل إلى يوم القيامة. و

ص: 243

قيل: هو الشفاعة عن الصادق عليه السّلام. و اللفظ يحتمل للكلّ فإنّه قد أعطاه اللّه الخير الكثير.

[فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ] أمره سبحانه بالشكر على هذه النعمة العظيمة أي صلّ صلاة العيد لأنّها عقّبها بالنحر أي و انحر هديك و اضحيّتك. و قيل: معناه فصلّ لربّك صلاة الغداة المفروضة بجمع و النحر البدن بمنى، و قيل معناه صلّ لربّك الصلاة المكتوبة و استقبل القبلة بنحرك، و تقول العرب: منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا و يستقبله، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: هو رفع يديك حذاء وجهك و روى عنه عبد اللّه سنان مثله. و عن جميل قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: فصلّ لربّك و انحر؟

فقال بيده هكذا، يعني استقبل ببدنه حذاء وجهه القبلة في افتتاح الصلاة.

و روي عن مقاتل بن حيّان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

لمّا نزلت هذه السورة قال النبيّ لجبرئيل: ما هذه النحيرة الّتي أمرني اللّه بها ربّي؟ قال:

يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت و إذا ركعت و إذا رفعت رأسك من الركوع و إذا سجدت فإنّه صلاتنا و صلاة الملائكة في السماوات السبع فإنّ لكلّ شي ء زينة و إنّ زينة الصلاة أن ترفع يديك عند كلّ تكبيرة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

رفع الأيدي من الاستكانة، قلت: و ما الاستكانة؟ قال: ألا تقرء هذه الآية «فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ».

[إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ] شنأه أي أبغضه أي مبغضك هو الأبتر لبغضه لك و البتر يستعمل في قطع الذنب، ثمّ استعمل في قطع العقب و المعنى أنّ الّذي لا عقب له و لا عاقبة و لا حسن ذكر هو الأبتر و أمّا أنت فتبقى ذرّيّتك و حسن ذكرك و آثار فضلك إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (1) «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» و جعله صلّى اللّه عليه و آله أبا للمؤمنين فهم أعقابه إلى يوم القيامة و جعله خاتم الأنبياء و أعطاه القرآن الّذي عجزوا عن الإتيان بمثله إلى آخر الدهر على وجازة ألفاظه و منافع العمل بمعانيه. تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 244


1- سورة الانشراح: 4.

سورة الكافرين

اشارة

* (مكية و قيل: مدنية)* في حديث ابيّ: و من قرأ «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» فكأنّما قرأ ربع القرآن و تباعدت عنه مردة الشياطين و برى ء من الشرك و تعافى من الفزع الأكبر.

و عن جبير بن مطعم قال: قال لي رسول اللّه: أ تحبّ يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة و أكثرهم زادا؟ قلت: نعم، قال: فاقرأ هذه السور الخمس:

«قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» و «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» و «قُلْ هُوَ اللَّهُ» و «الفلق» و «الناس» و افتتح قراءتك ببسم اللّه الرحمن الرحيم. قال جبير: و كنت غير كثير المال و كنت أخرج مع من شاء اللّه أن أخرج فأكون أكبرهم همّة و أكثرهم إذا زادا حتّى أرجع من سفري ذلك.

و عن فروة بن نوفل الأشجعيّ عن أبيه أنّه أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: جئت يا رسول اللّه لنعلّمني شيئا أقوله عند منامي قال صلّى اللّه عليه و آله: إذا أخذت مضجعك فاقرأ «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ثمّ نم على خاتمتها فإنّها براءة من الشرك.

و عن شعيب الحدّاد عن الصادق عليه السّلام قال كان أبي يقول: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ربع القرآن و كان إذا فرغ منها قال: أعبد اللّه وحده، أعبد اللّه وحده.

و عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السّلام قال: إذا قلت: «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» فقل: و لكنّي أعبد اللّه مخلصا له ديني، فإذا فرغت منها فقل: ديني الإسلام ثلاث مرّات.

ص: 245

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكافرون (109): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)

وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6)

النداء و الخطاب منه صلّى اللّه عليه و آله لهم بهذا الوصف مع أنّهم في محلّ عزّهم و شوكتهم إيذان بأنّه صلّى اللّه عليه و آله محروس منهم و علم من أعلام النبوّة و الألف و اللام للعهد و هم كفرة مخصوصة كالوليد بن المغيرة و أبي جهل و العاص بن وائل السهميّ و اميّة ابن خلف و الأسود بن عبد يغوث و الحارث بن قيس و نحوهم و ذلك أنّهم قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هلمّ فاتّبع ديننا و نتّبع دينك تعبد آلهتنا سنة ثمّ نعبد إلهك سنة فقال:

معاذ اللّه أن أشرك باللّه غيره فقالوا: استلم بعض آلهتنا نصدّقك و نعبد إلهك فنزل «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» فعدل رسول اللّه إلى المسجد الحرام و فيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثمّ قرأ عليهم حتّى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك فشرعوا يؤذونه و أصحابه قال ابن عبّاس: و فيهم نزل قوله (1): «قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ».

[لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي لا أعبد فيما يستقبل و لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه منّي من عبادة آلهتكم، و «لا» لا تدخل غالبا إلّا على مضارع في معنى الاستقبال كما أنّ «ما» لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الحال لكنّ الطبرسيّ فسّر الآية بمعنى الحال أي لا أعبد آلهتكم الّتي تعبدونها اليوم و في هذه الحال.

[وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ] أي و لا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي، قال الطبرسيّ: المراد ما أنتم عابدون في الحال إلهي الّذي أعبده اليوم.

ص: 246


1- سورة الزمر: 64.

[وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ أي و ما كنت عابدا فيما سلف ما عبدتموه من الأصنام في الجاهليّة فكيف يرجى منّي في الإسلام.

[وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ] أي و ما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته و هو اللّه فليس في السورة تكرار.

و قيل: هاتان الجملتان لنفي العبادة حالا كما في الأوّلين لنفيها استقبالا كما فسّره الطبرسيّ لهذا المعنى قال الزجّاج: نفى الرسول بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال و في المستقبل و أعلمه اللّه بحال هؤلاء أنّهم لا يؤمنون و لو قلنا بالتكرار فوجهه أنّ القرآن نزل بلغة العرب و من عادتهم التكرار في الكلام إذا كان الغرض الإفهام و التأكيد كما يقول المجيب: بلى بلى و يقول الممتنع: لا لا و مثله (1) «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» قال الشاعر:

نعق الغراب ببين ليلى غدوةكم كم و كم بفراق ليلى ينعق

[لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ و الياء إسكانها و فتحها سائغان في قوله: «ولي» و ذكر في معنى الآية وجوه:

أحدها بحذف المضاف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني فأقام المضاف إليه مقام المضاف.

و ثانيها أنّ المعنى لكم كفركم ولي دين التوحيد و هذا إن كان ظاهره إباحة لكنّه وعيد و تهديد و مبالغة في الزجر كقوله (2): «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ».

و ثالثها أنّ الدين الجزاء فالمعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي و حاصل المعنى أنّ دينكم الّذي هو الإشراك مقصور لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي كما تطمعون فإنّ ذلك من المحال و إنّ ديني الّذي هو التوحيد مقصور لي لأنّكم علّقتموه بالمحال الّذي هو عبادتي لآلهتكم و استلامي إيّاها.

قيل: هو منسوخ بآية السيف.

تمّت السورة

ص: 247


1- سورة ألهاكم: 3- 4.
2- سورة حم السجدة: 40.

سورة الفتح

اشارة

مدنيّة في حديث أبيّ من قرأها فكأنّما شهد مع رسول اللّه فتح مكّة. و روى كرّام الخثعميّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرء سورة الفتح في نافلة أو فريضة نصره اللّه على أعدائه و جاء يوم القيامة و معه كتاب ينطق قد أخرجه اللّه يوم القيامة من جوف قبره فيه أمان من حرّ جهنّم و من النّار و من زفير جهنم، يسمعه بأذنيه فلا يمرّ على شي ء يوم القيامة إلّا بشّره و أخبره بكلّ خير حتّى يدخل الجنّة.

ص: 248

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النصر (110): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)

إذا جاءك يا محمّد إعانته تعالى و إظهاره إيّاك على أعدائك، و السورة نزلت قبل فتح مكّة كما عليه الأكثر فالإعلام بذلك قبل وقوعه من أعلام النبوّة و المراد من «الفتح» فتح مكّة و سمّي ذلك الفتح فتح الفتوح كما أنّ نفسها سمّيت امّ القرى و قيل: نزلت السورة في أيّام التشريق بمنى في حجّة الوداع و عاش صلّى اللّه عليه و آله بعده ثمانين يوما.

[وَ رَأَيْتَ النَّاسَ أبصرتهم أو علمتهم يعني العرب أو الاستغراق العرفيّ و لعلّ المراد بالأمر بالاستغفار لمن سواه و إدخاله صلّى اللّه عليه و آله في الأمر تغليب [يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أي ملّة الإسلام الّتي لا دين يضاف إليه تعالى غيرها لأنّ الدين عند اللّه الإسلام [أَفْواجاً] حال من فاعل «يدخلون» أي رأيتهم يدخلون فيه جماعات كثيرة كأهل مكّة و الطائف و اليمن و هوازن و سائر قبائل العرب و كانوا قبل ذلك يدخلون فيه واحدا واحدا و اثنين اثنين.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح مكّة أقبلت العرب بعضها على بعض و قالوا: إذا ظفر بأهل الحرم فلن يقاومه أحد فكانوا يدخلون في دين الإسلام أفواجا من غير قتال و كانت تتابع وفود مثل بني زهرة و بني مرّة و بني كلب و بني كنانة و بني هلال من الأكناف.

قال أبو عمرو بن عبد البرّ: لم يمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في العرب رجل كافر و دخل الكلّ في الإسلام و أمّا نصارى بني تغلب فما أسلموا في حياته صلّى اللّه عليه و آله و لكن أعطوا الجزية.

ص: 249

و في عين المعاني المراد من «الناس» في الآية أهل اليمن قال صلّى اللّه عليه و آله: الإيمان يمانيّ و الحكمة يمانيّة.

و عن جابر بن عبد اللّه أنّه بكى ذات يوم فقيل له في ذلك فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: دخل الناس في دين اللّه أفواجا و سيخرجون أفواجا.

[فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ هذا أمر من اللّه بأن ينزّهه عمّا لا يليق به من صفة النقص و أن يستغفره لأنّ النعمة يقتضي الشكر و القيام بحقّها و تعظيم المنعم من لوازم العبوديّة فكأنّه قال: قد حدث أمر عجيب يقتضي الشكر و الاستغفار و إن لم يكن ذنب فإنّ الاستغفار قد يكون عند ذكر المعصية و قد يكون على وجه التسبيح و الانقطاع إلى اللّه و يمكن أن يكون الأمر بالاستغفار من باب «إيّاك أعني و اسمعي» أو المراد استغفره هضما لنفسك و استغفارا لعملك و استعظاما لحقوق اللّه و تعجّبا من هذا الأمر العظيم من الغلبة على الكفّار بأن تقول: سبحان اللّه كما ورد في الأذكار «و لكلّ أعجوبة سبحان اللّه» و قد اقترن الحمد بالتسبيح في القرآن في أغلب الموارد نحو (1) «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» و حاصل المعنى: فاذكره مسبّحا حامدا و زد في عبادته و الثناء في عبادته لزيادة إنعامه أو المراد من التسبيح مجاز عن الصلاة بعلاقة الجزئيّة، روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح باب الكعبة صلّى صلاة الضحى أربعا منها للشكر و أربعا للضحى [إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً] مبالغا في قبول توبتهم.

قيل: لمّا نزلت السورة قرأها على أصحابه ففرحوا و استبشروا و سمعها العبّاس فبكى فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما يبكيك يا عمّ؟ فقال: أظنّ أنّه قد نعيت إليك نفسك يا رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه كما تقول: فعاش بعدها سنتين أو سنة.

و اختلف في أنّهم من أيّ وجه علموا ذلك و ليس في ظاهره نعي فقيل: لأنّ التقدير فسبّح بحمد ربّك فإنّك لاحق باللّه و ذائق الموت لأنّ أمرك قد تمّ و كمل و كلّ ما كمل توقّع زواله، و بعد هذه السورة كان صلّى اللّه عليه و آله كثيرا ما يقول: سبحانك اللهمّ و بحمدك اللهمّ اغفر لي إنّك أنت التوّاب الرحيم.

ص: 250


1- سورة الإسراء: 44.

قالت أمّ سلمة: بعد هذه كان رسول اللّه لا يقوم و لا يقعد و لا يجي ء و لا يذهب إلّا قال: سبحان اللّه و بحمده أستغفر اللّه و أتوب إليه.

و قصّة فتح مكّة طويلة لا يسعها هذا المختصر و المجمل منها أنّه لمّا فتحها و دخل مكّة دخل صناديد قريش الكعبة و هم يظنّون أنّ السيف لا يرفع عنهم فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وقف قائما على باب الكعبة فقال: لا إله إلّا اللّه وحده وحده، أنجز وعده و نصر عبده، و هزم الأحزاب وحده، ألا إنّ كلّ مال و دم يدّعى هو تحت قدميّ هاتين إلّا سدانة الكعبة و سقاية الحاجّ فإنّهما مردودتان إلى أهلهما، ألا إنّ مكّة محرّمة بتحريم اللّه لم تحلّ لأحد كان قبلي و لم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار و هي محرّمة إلى أن تقوم الساعة لا يقطع شجرها و لا ينفر صيدها و لا تحلّ لقطتها إلّا لمنشد ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله ألا لبئس جيران كنتم لقد كذّبتم و طردتم و أخرجتم و آذيتم ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلوني فاذهبوا فأنتم الطلقاء، فخرج القوم فكأنّما انشروا من القبور.

و كان يومئذ حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما.

قيل: فجعل صلّى اللّه عليه و آله يطعنها بعود في يده و يقول: «جاء الحقّ و زهق الباطل إنّ الباطل كان ذهوقا» و قال ابن عبّاس: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبى أن يدخل البيت و فيه الآلهة فأمر بها فأخرجت من البيت و فيها صورة إبراهيم و إسماعيل و في أيديهما الأزلام فقال صلّى اللّه عليه و آله: قاتلهم اللّه أما و اللّه لقد علموا أنّهما لم يستقسما بالأزلام قطّ. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 251

سورة تبت

اشارة

* (مكية)* قال صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها رجوت أن لا يجمع اللّه بينه و بين أبي لهب في دار واحدة قال: و إذا قرأتم «تبّت» فادعوا على أبي لهب، فإنّه كان من المكذّبين بما جاء من عند اللّه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المسد (111): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)

فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

النزول: صعد صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم الصفا فقال: يا صباحاه! و كان هذا النداء عند العرب للاجتماع فاجتمعت إليه قريش فقالوا له: مالك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدّقوني؟ قالوا: بلى قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك لهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل اللّه هذه السورة أوردها البخاريّ في الصحيح.

المعنى: تبّت و خسرت يداه لأنّ أكثر العمل باليد فلذا خصّ اليد بالذكر، و المراد خسرت نفسه بالوقوع في النار، تقول العرب: «و أيدي الرزايا بالذخائر مولع».

و قيل: المعنى صفرت يداه عن كلّ خير، قال الفرّاء: الأوّل دعاء و الثاني خبر فالمعنى أهلكه اللّه و قد أهلك. و في قراءة عبد اللّه بن سلام و ابيّ «و قد تبّ».

ص: 252

و أبو لهب ابن عبد المطّلب عمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و كان شديد المناصبة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مع ذلك لم يقل «قل تبّت يدا إلخ» لئلّا يكون مشافها لعمّه بالشتم و إن سمعه عمّه، لحرمة العمومة، فأجاب اللّه عنه لأنّ للعمّ حرمة كحرمة الأب، قال طارق المحاربيّ: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا بشابّ يقول: يا أيّها النّاس قولوا لا إله إلّا اللّه تفلحوا و إذا برجل خلفه يرميه بحجر قد آذى ساقيه و عرقوبيه يقول: يا أيّها الناس إنّه كذّاب فلا تصدّقوة فقلت: من هذا؟ فقالوا: محمّد يزعم أنّه نبيّ و هذا عمّه أبو لهب يزعم أنّه كذّاب، و كأن اسمه عبد العزّى و كنّى بهذا الكنية لحسنه و إشراق وجهه و كانت و جنتاه كأنّهما تلتهبان و هذه التكنية حيث ذكره اللّه بالكنية لاشتهاره بها لا للتعظيم أو لكراهة ذكر اسمه القبيح؛ إذ فيه إضافة إلى الصنم أو للتعريض بكونه جهنّميا لأنّه [سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ يعني إنّ أبا لهب باعتبار معناه الإضافيّ يصلح أن يكون كناية عن حاله و هي كونه جهنّميا لأنّ معناه باعتبار إضافته ملابس اللهب كما أنّ معنى «أبو الخير» و «أخو الحرب» بذلك الاعتبار ملابس الخير و الحرب.

و قرئ أبو لهب بالواو كما قيل: عليّ بن أبو طالب مع أنّ القياس الياء كيلا يتغيّر اللفظ فيشكل على السامع لأنّ الكنية بمنزلة العلم و الأعلام لا تتغيّر في شي ء من الأحوال و كان لبعض أمراء مكّة ابنان أحدهما عبد اللّه بالجرّ و الآخر عبد اللّه بالفتح.

[ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ أي لم يغن عنه ماله حين حلّ به التباب و لا دفع عنه عذاب اللّه و «ما» في قوله: «و ما كسب» موصولة و الضمير العائد من الصلة محذوف أي الّذي كسبه و «ما» الاولى نافية و قيل: استفهاميّة أي أيّ إغناء أغنى عنه أصل ماله و ما كسبه من الأرباح و النتائج؟

و قد هلك أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال و العدسة بثرة يخرج في البدن تشبه العدسة و هي من جنس الطاعون تقتل غالبا فاجتنبه أهله مخافة العدوى

ص: 253

و كانت قريش تتّقيها كالطاعون فبقي ثلاثا حتّى أنتن ثمّ استأجروا بعض السودان فاحتملوه و دفنوه. و في «إنسان العيون» أنّه لم يحفر واله حفيرة و لكن أسندوه إلى حائط و قذفوا إليه الحجارة خلف الحائط حتّى واروه و قيل: حفر واله حفرة ثمّ دفعوه بعود في حفرته و قذفوه بالحجارة من بعيد حتّى واروه مخافة العدوى و القبر الّذي يرجم خارج الشبيكة الآن ليس بقبر أبي لهب و إنّما هو قبر رجلين من الملاحدة القرامطة لطّخا الكعبة بالعذرة و ذلك في دولة بني العبّاس فإنّ الناس أصبحوا يوما فوجدوا الكعبة ملطّخة فرصدوا للفاعل فأمسكوهما بعد أيّام فصلبا في ذلك الموضع فصارا يرجمان إلى الآن.

[سَيَصْلى في النشأة الآخرة و يدخل لا محالة [ناراً ذاتَ لَهَبٍ عظيمة ذات اشتعال و توقّد.

[وَ امْرَأَتُهُ عطف على الضمير في «سيصلى» يعني إنّ امرأته ستصلى و هي امّ جميل بنت حرب بن اميّة اخت أبي سفيان عمّة معاوية و اسمها العوراء و كانت تحمل حزمة من الشوك و الحسك فتنشرها بالليل في طريق رسول اللّه [حَمَّالَةَ الْحَطَبِ و قيل: إنّها تحمل يوم القيامة حزمة حطب كالزقّوم و الضريع و في جيدها سلاسل النار كما يعذّب كلّ مجرم بما يناسب حاله من سنخ معصيته، قال قتادة: إنّها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها فعيّرت بالبخل و قيل:

كانت تمشي بالنميمة و تفسد بين الناس و المراد من حمّل الحطب أي توقد بينهم نائرة الفتنة و تحمّل الحطب استعارة عن إيقاد نار الفتنة.

[فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ] المسد ما يفتل من الحبال فتلا شديدا من ليف كان أو جلد أو غيرهما و المعنى أنّ في عنقها حبلا بما مسد من الحبال و إنّها تحمل الحزمة من الشوك و تربطها في جيدها كما يفعل الحطّابون تخسيسا لحالها.

قال مرّة الهمدانيّ: كانت امّ جميل تأتي كلّ يوم بإبالة من حسك فتطرحها على طريق النبيّ و المؤمنين فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت فقعدت على

ص: 254

حجر لتستريح فجذبها الملك من خلفها فاختنقت بحبلها حتّى هلكت.

و في ينبوع الحياة أنّها لمّا بلغها سورة تبّت جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته و هي متحرّقة غضبى فقالت له: و يحك يا أحمس (أي يا شجاع) أما تغضب أن هجاني محمّد؟ فقال: سأكفيك إيّاه ثمّ أخذ سيفه و خرج ثمّ عاد سريعا فقالت له: هل قتلته؟ فقال: يا أختي أ يسرّك أنّ رأس أخيك في فم ثعبان؟ قالت: لا قال: و اللّه فقد كاد ذلك يكون الساعة. فإنّه رأى ثعبانا لو قرب من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لالتقم رأسه.

و قيل في معنى الآية أنّه يكون لها حبل في خشونة الليف و حرارة النار و ثقل الحديد يجعل في عنقها زيادة في عذابها في جهنّم بسبب فعلها في الدنيا. و قيل:

في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا تدخل من فيها و تخرج من دبرها و تدار على عنقها في النار عن ابن عبّاس و عروة بن الزبير، و سمّيت السلسلة «مسدا» بمعنى أنّه ممسودة أي مفتولة. و قيل: إنّها كانت قلادة فاخرة ثمينة من جوهر فقالت: لأنفقنّها في عداوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيكون هذا عذابها يوم القيامة في عنقها عن سعيد بن المسيّب.

و يروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت لمّا نزلت هذه السورة أقبلت العوراء و لها ولولة و في يدها فهر و هي تقول: «مذمّما أبينا و دينه قلينا (1)، و أمره عصينا» و النبيّ جالس في المسجد و معه أبو بكر فلمّا رآها أبو بكر قال: يا رسول- اللّه قد أقبلت و أنا أخاف أن تراك، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّها لن تراني و قرأ قرآنا فاعتصم به كما قال سبحانه: «وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً» (2) فوقفت على أبي بكر و لم تر رسول اللّه فقالت: يا أبا بكر إنّ صاحبك هجاني فقال: و ربّ البيت ما هجاك فولّت.

و لو قال قائل: إنّ أبا لهب هل كان يلزمه الإيمان بعد هذه الآية و هل كان

ص: 255


1- قلا الشي ء: أبغضه.
2- سورة الإسراء: 45.

يقدر على الإيمان بعد قوله تعالى: «سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ» و لو آمن لكان فيه تكذيب خبر اللّه.

فالجواب نعم هو كان يلزمه الإيمان و كان مكلّفا به و إنّما توعّده اللّه هذا الوعيد بشرط أن لا يؤمن، ألا ترى في قصّة فرعون (1) «الآن و قد عصيت قبل» و في هذا دلالة على أنّه لو تاب قبل وقت اليأس لكان يقبل منه و لهذا خصّ ردّ التوبة عليه بذلك الوقت. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 256


1- سورة يونس: 91.

سورة الإخلاص

اشارة

* (قيل: مكية و قيل: مدنية)* و تسمّى بسورة النسبة و سمّيت سورة الإخلاص لأنّ من تمسّك بما فيها إقرارا و اعتقادا كان مؤمنا مخلصا.

و من قرءها على سبيل التعظيم أخلصه اللّه من النار.

و في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لسورتي قل يا أيّها الكافرون و قل هو اللّه أحد:

«المقشقشتان» سمّيتا بذلك لأنّهما يعريان من الشرك يقال: قشقش المريض إذا برى ء من علّته و أفاق و منه قشقش الهناء الجرب.

في حديث أبيّ بن كعب من قرأها فكأنّما قرأ ثلث القرآن و أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من آمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر.

و عن أبي الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أ يعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن؟

قلت: يا رسول اللّه و من يطيق ذلك؟ قال: اقرءوا «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ».

و عن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: من قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرّة بورك عليه و من قرأها مرّتين بورك عليه و على أهله فإن قرءها ثلاثا بورك عليه و على أهله و جيرانه فإن قرأها اثنتي عشرة بني له اثنا عشر قصرا في الجنّة فإن قرأها مائة مرّة كفّر عنه ذنوب خمس و عشرين سنة ما خلا الدماء و الأموال فإن قرأها أربعمائة كفّر عنه ذنوب أربعمائة سنة فإن قرأها ألف مرّة لم يمت حتّى يرى مكانه في الجنّة.

و عن سهل بن سعد الساعديّ قال: جاء رجل إلى النبيّ فشكا إليه الفقر و ضيق المعاش فقال صلّى اللّه عليه و آله له: إذا دخلت بيتك فسلّم إن كان فيه أحد أو لم يكن و اقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرّة واحدة ففعل الرجل فأفأض اللّه عليه الرزق حتّى أفاض على جيرانه.

ص: 257

و عن الصادق عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى على سعد بن معاذ فلمّا صلّى عليه قال: لقد رأيت من الملائكة سبعون ألف ملك و فيهم جبرئيل يصلّون عليه فقلت: يا جبرئيل بم استحقّ سعد صلاتكم عليه؟ قال: بقراءة «قُلْ هُوَ اللَّهُ» قاعدا و قائما راكبا و ما شيا ذاهبا و جائيا.

منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من مضى به يوم واحد و صلّى فيه الخمس من الصلوات و لم يقرء فيها بقل هو اللّه قيل له: يا عبد اللّه لست من المصلّين.

إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من مضت عليه جمعة و لم يقرء فيها بقل هو اللّه ثمّ مات مات على دين أبي لهب.

هارون بن خارجة عنه عليه السّلام قال: من أصابه مرض أو شدّة فلم يقرء في مرضه أو شدّته بقل هو اللّه أحد ثمّ مات في مرضه أو في تلك الشدّة الّذي نزلت به فهو من أهل النار.

أبو بكر الحضرمي عنه عليه السّلام قال: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يدع أن يقرء في دبر الفريضة بقل هو اللّه أحد فإنّه من قرأها جمع له خير الدنيا و الآخرة و غفر اللّه له و لوالديه و ما ولدا.

عبد اللّه بن حجر قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: من قرء التوحيد إحدى عشر مرّة في دبر الفجر لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب و أرغم أنف الشيطان.

إبراهيم مهزم عن من سمع أبا الحسن عليه السّلام يقول: من قدّم التوحيد بينه و بين كلّ جبّار منعه اللّه منه فقرأها بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله فإذا فعل ذلك رزقه خيره و منعه شرّه و قال: إذا خفت أمرا فاقرء مائة آية من القرآن حيث شئت ثمّ قل: اللّهم اكشف عنّي البلاء ثلاث مرّات. و بحذف الأسانيد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة التوحيد مائة مرّة حين يأخذ مضجعه غفر اللّه له ذنوب خمسين سنة.

ص: 258

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإخلاص (112): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)

«أَحَدٌ» أصله وحد فقلبت الواو همزة و مثله أناة و أصله وناة. و أحد على ضربين:

أحدهما أن يكون اسما و الآخر أن يكون صفة فالاسم نحو أحد و عشرون يريد به الواحد و الصفة كقول النابغة:

كأنّ رحلي و قد زال النهار بنابذي الجليل على مستأنس وحد

و الأحد اسم لمن لا يشاركه شي ء في ذاته كما أنّ الواحد اسم لمن لا يشاركه شي ء في صفاته يعني إنّ الأحد هو الذات وحدها من غير اعتبار كثرة فيها فأثبت له الأحديّة الّتي هي الغنى و الفرديّة عن كلّ ما عداه و ذلك من حيث عينه و ذاته من غير اعتبار أمر آخر و الواحد هو الذات مع اعتبار كثرة الصفات و هي الحضرة الأسمائيّة و لذا قال (1): «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» و لم يقل: لأحد لأنّ الواحديّة من أسماء التقييد فبين الواحديّة و بين الخلق ارتباط من حيث الإلهيّة و المألوهيّة بخلاف الأحديّة إذ لا يصحّ ارتباطها بشي ء.

و بالجملة في سبب نزول السورة قيل: إنّ المشركين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

انسب لنا ربّك فنزلت.

و قيل: أتى عامر بن الطفيل و أربد بن ربيعة أخو لبيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال عامر:

إلى ما تدعونا يا محمّد فقال: إلى اللّه فقال: صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضّة أم من حديد أم من خشب فنزلت السورة. و هما اللّذان همّا بقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأرسل اللّه صاعقة على أربد فأهلكته و طعن عامر بغدّة و لم تمهله الغدّة أن يصل إلى أهله فأدركه

ص: 259


1- سورة الصافات: 4.

الليل و هلك في بيت امرأة سلوليّة فقيل في الأمثال «غدّة كغدّة البعير و موت في بيت السلولي» و سلول يعيّرون و ينسبون إلى المهانة و الصغار.

و روى محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه قال: إنّ اليهود سألوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا:

انسب لنا ربّك فمكث ثلاثا لا يجيبهم ثمّ نزلت السورة.

و قيل: إنّ هذه السورة صارت سبب إسلام عبد اللّه بن سلام ذكره القاضي عبد الجبّار في تفسيره أنّ عبد اللّه بن سلام انطلق إلى مكّة عند رسول اللّه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنشدك باللّه هل تجد في التوراة رسول اللّه؟ فقال عبد اللّه: انعت لنا ربّك فنزلت السورة فقرأها النبيّ فأسلم و لكن كان يكتم ذلك إلى أن هاجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة فهناك أظهر إسلامه.

[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] الضمير للشأن كقولك: هو زيد منطلق و ارتفاعه بالابتداء و خبره الجملة أي شأن الأمر و القصّة أنّ اللّه أحد أو الضمير لما سئل عنه فالمعنى قل يا محمّد: الّذي سألتم عنه هو اللّه فهو مبتدء و اللّه خبره و «أحد» بدل منه و إبدال النكرة من المعرفة عند العائد يجوز على ما ذهب إليه أبو عليّ و هو المختار عند الأكثر.

«أحد» في الإلهيّة و الذات و القدم، واحد لا يشركه في وجوب صفاته أحد فإنّه يجب أن يكون موجودا عالما قادرا حيّا لذاته لا لغيره و إلّا لزم النقص فاختصّ بالواحديّة من هذا الوجه إذ لا يشركه في هذا الأمر سواه فلا يستحقّ العبادة سواه فهذه الأحديّة و الواحديّة ليس أحد متّصفا به، و الأحد في الواحديّة قطع النظر عن المعاني الّتي فسّرت أبلغ من معنى الواحد ألا ترى أنّك لو قلت: فلان لا يقاومه واحد جاز أن يقاومه اثنان لكن لمّا قلت: لا يقاومه أحد لم يجز أن يقاومه اثنان و لا أكثر فهو أبلغ.

فالأحدية هي الغنى عن كلّ ما عداه من حيث عينه و ذاته من غير اعتبار أمر آخر، و الواحد هو الذات مع اعتبار كثرة الصفات الّتي هي الحضرة الأسمائيّة و لذا قال: «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» و لم يقل: «لأحد» لأنّ الواحديّة من أسماء التقييد، و بينها و بين الخلق ارتباط من حيث الإلهيّة و المألوهيّة، بخلاف

ص: 260

الأحديّة. فمعرفة الذات في الحقيقة كما هو يختصّ به تعالى لا غير، فقوله «هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ثلاثة ألفاظ كلّ واحد منها إشارة إلى مقام السائرين إلى اللّه.

فالمقام الأوّل مقام المقرّبين و هم الّذين نظروا إلى ماهيّات الأشياء و حقائقها من حيث هي هي، فلا جرم ما رأوا شيئا إلّا و رأوا اللّه معه، فالحقّ الثابت الباقي هو الّذي لذاته يجب وجوده و أمّا ما عداه فممكن، إذا نظر إليه من حيث هو هو كان معدوما. و كلمة «هو» و إن كانت للإشارة المطلقة مفتقرة في تعيين المراد بها إلى سبق الذكر إلّا أنّ هؤلاء الطبقة يشيرون بهذه الكلمة به تعالى و لا يفتقرون في تلك الإشارة إلى ما يميّز المراد بها من غيره لأنّ الافتقار إلى المميّز إنّما يحصل حيث وقع الإبهام بأن يتعدّد ما يصلح لأن يشار إليه لأنّهم لا يشاهدون بعين عقولهم إلّا هو. و اعلم أنّه ليس المراد من هذا الكلام أنّهم قائلون بوحدة الوجود، هذا القول فاسد بل المراد أنّ نظرهم و وجهتهم من غيره تعالى مقطوع و أنّهم منقطعون إليه و لا يعرفون غيره أبدا، هو هو إله إلّا هو. فهذه الكلمة كافية لحصول العرفان لهذه الطبقة يعني الأنبياء و الأولياء المنصوصة عليهم بنصّ اللّه.

و المقام الثاني مقام أصحاب اليمين و هو دون المقام الأوّل و ذلك لأنّهم شاهدوا بعين عقولهم الحقّ موجودا و شاهدوا الخلق أيضا موجودا بخصلة الكثرة في الموجودات، فلا جرم لم تكن لفظة «هو» كافية في الإشارة إلى الحقّ بل لا بدّ هناك من مميّز به يتميّز الحقّ من الخلق. فهذه الطبقة مفتقرون إلى أن يقترن لفظة «إليه» بلفظ «هو» فقيل لأجلهم «هو اللّه» لأنّ لفظ «اللّه» اسم للموجود الّذي يفتقر إليه ما عداه فتتميّز به الذات المرادة عمّا عداه.

و المقام الثالث مقام أصحاب الشمال و هم الّذين يجوّزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد فقرن لفظة «الأحد» ردّا عليهم، بل هو اللّه أحد، انتهى.

قال الباقر عليه السّلام: في معنى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» أظهر يا محمّد ما أنبأناك به بتأليف الحروف الّتي قرأناها عليك ليهتدي بها من ألقى السمع و هو شهيد، هو اسم مكنيّ مشار إلى غائب فالهاء تنبيه عن معنى ثابت و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواسّ كما

ص: 261

أنّ «هذا» تنبيه و إشارة إلى الشاهد عند الحواسّ و ذلك أنّ الكفّار نبّهوا على آلهتهم بحرف إشارة إلى المشاهد المدرك فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة بالأبصار فأشر أنت يا محمّد إلى إلهك الّذي تدعوا إليه حتّى نريه و ندركه و لا نأله (1) فيه فأنزل اللّه «قل هو اللّه أحد» إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواسّ تعالى عن ذلك بل هو مدرك الأبصار في شأن الأحديّة و الواحدية الّذي لا يشاركه في ذاته و صفاته أحد.

و قال الباقر: حدّثني أبي عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: رأيت الخضر في المنام قبل بدر بليلة فقلت له: علّمني شيئا أنتصر به على الأعداء فقال: قل يا هو يا من لا هو إلّا هو فلمّا أصبحت قصصت على رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ علّمت الاسم الأعظم فكان على لساني يوم بدر.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: اللّه معناه المعبود الّذي يأله فيه الخلق و يؤول الخلق إليه، المستور عن إدراك الأبصار، المحجوب عن الأوهام و الخطرات.

و قال الباقر عليه السّلام: اللّه معناه المعبود الّذي أله فيه الخلق و الهمزة مقلوبة من الواو أي و له فيه الخلق عن إدراك ماهيّته و الإحاطة بكيفيّته، تقول العرب: أله الرجل إذا تحيّر في الشي ء فلم يحط به علما و قد اثبت «قل» في المصحف و التزم في التلاوة مع أنّه ليس من دأب المأمور بكلمة «قل» أن يتلفّظ في مقام الايتمار إلّا بالمقول لأنّ المأمور ليس المخاطب به فقط بل كلّ واحد ابتلي بما ابتلى به المأمور.

[اللَّهُ الصَّمَدُ] مبتدء و خبر، صمد، إليه إذا قصده أى هو السيّد المصمود إليه في الحوائج المستغني بذاته و غيره محتاج إليه قال الباقر عليه السّلام: حدّثني أبي زين العابدين عن أبيه أنّه قال: «الصّمد» الّذي انتهى سودده و الصمد الدائم الّذي لم يزل و لا يزال، و الصمد الّذي لا جوف له، و الصمد الّذي لا يأكل و لا يشرب، و قال الباقر:

و الصمد السيّد المطاع الّذي ليس فوقه آمر و لا ناه. و قال محمّد بن الحنفيّة: الصمد القائم بنفسه الغنيّ عن غيره و قال غيره: الصمد المتعالي عن الكون و الفساد و الّذي لا يوصف بالنظائر.ر.

ص: 262


1- مضارع أله، اى تحير.

و عن الباقر عن أبيه عليهما السّلام أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام يتساءلونه عن الصمد فكتب: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أمّا بعد فلا تخوضوا في القرآن و لا تجادلوا فيه و لا تكلّموا فيه بغير علم فقد سمعت جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار و إنّ اللّه فسّر الصمد فقال: [لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ] لم يخرج منه شي ء كثيف كالولد و لا سائر الأشياء الكثيفة الّتي تخرج من المخلوقين و لا شي ء لطيف كالنفس و لا ينبعث منه البدوات كالسّنة و الخطرة و الغمّ و النوم و البهجة و الضحك و البكاء و الخوف و الرجاء و الجوع و الشبع فتعالى أن يتولّد منه شي ء لطيف أو كثيف و لم يتولّد من شي ء و لم يخرج من شي ء كما تخرج الأشياء الكثيفة و اللطيفة من عناصرها كالشي ء من الشي ء و الدابّة من الدابّة بل هو اللّه الصمد الّذي لا من شي ء و لا في شي ء و لا على شي ء.

و عن عبد خير قال: سأل رجل عليّا عليه السّلام عن تفسير هذه الآية فقال عليه السّلام:

هو اللّه أحد بلا تأويل عدد، صمد بلا تبعّض بدد، لم يلد فيكون موروثا هالكا و لم يولد فيكون إلها مشاركا و لم يكن له من خلقه كفؤ. و قيل: إنّه سبحانه بيّن التوحيد بقوله: «اللّه أحد» و بيّن العدل بقوله: «اللّه الصمد» و بيّن ما يستحيل عليه من الوالد و الولد بقوله: «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ» و بيّن ما لا يجوز عليه من الصفات كاتّخاذ الصاحبة و أنّه ليس بجسم و لا جوهر و لا عرض و أمثالها بنفي الكفويّة فحصلت الوحدانيّة البحت.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 263

سورة الفلق

اشارة

* (قيل: مكية و قيل: مدنية)* في حديث ابيّ: و من قرأ المعوّذتين فكأنّما قرأ جميع الكتب الّتي أنزلها اللّه تعالى على الأنبياء.

و عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللّه أنزلت عليّ آيات لم تنزل مثلهنّ:

المعوّذتان. أورده مسلم في الصحيح.

و عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يا عقبة ألا اعلّمك سورتين هما أفضل القرآن- أو من أفضل القرآن-؟ قلت: بلى، فعلّمني المعوّذتين ثمّ قرأتهما في صلاة الغداة و قال لي:

اقرأهما كلّما قمت و نمت.

ص: 264

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفلق (113): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)

وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)

يقال في المثل «هو أبين من فلق الصبح» و الفلق بمعنى المفلوق كالصمد بمعنى المصمود و الفلق أيضا الخلق لأنّ الممكنات بأسرها أعيان ثابتة في علم اللّه مستورة تحت ظلمة العدم فاللّه تعالى فلق تلك الظلمات بنور التكوين و الإيجاد فأظهر ما في علمه من المكنونات فصارت مفلوقا عنها. قيل: إذا طلع الصبح تتبدّل الثقلة بالخفّة و الغمّ بالسرور.

روي أنّ يوسف عليه السّلام لمّا ألقي في الجبّ وجعت ركبته وجعا شديدا فبات ليلة ساهرا فلمّا قرب طلوع الصبح نزل جبرئيل بإذن اللّه يأمره بأن يدعو ربّه فقال:

يا جبرئيل ادع أنت و اؤمّن فدعا جبرئيل و أمّن يوسف فكشف اللّه ما كان به من الضرّ فلمّا طاب وقت يوسف قال: يا جبرئيل و أنا أدعو أيضا و تؤمّن أنت فسأل يوسف ربّه أن ينكشف الضرّ عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت فلا جرم ما من مريض إلّا و يجد نوع خفّة في آخر الليل.

و قيل في الفلق: إنّه بيت في جهنّم إذا فتح صاح جميع أهل النار. في المعاني سئل الصادق عليه السّلام عن الفلق قال: صدع في النار فيه سبعون ألف دار في كلّ دار سبعون ألف بيت في كلّ بيت سبعون ألف أسود في جوف كلّ أسود سبعون ألف حبرة سمّ لا بدّ لأهل النار أن يمرّوا عليها، و الحاصل أمر من اللّه لنبيّه و المراد جميع امّته.

[قُلْ يا محمّد: أعتصم و أمتنع [بِرَبِ الصبح و خالقه [مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ من الجنّ و الإنس و سائر الحيوانات، و إنّما سمّي الصبح فلقا لا نفلاق عموده بالضياء عن الظلام كما قيل: «فجر» لانفجاره بذهاب ظلامه و قيل: الفلق المواليد

ص: 265

كالنقرة في الصخرة لأنّهم ينفلقون بالخروج من أصلاب الآباء و أرحام الأمّهات و قوله:

«ما خلق» عامّ في جميع ما خلقه اللّه ممّن يمكن أن يحصل منه الشرّ و إضافة الشرّ إليه لاختصاصه بعالم الخلق المؤسّس على امتزاج الموادّ المتباينة و تفاعل كيفيّاتها المتضادّة المستتبعة للكون و الفساد من شرّ حصول الشرّ ممّا خلق كالاستيمام من السمّ فتأمّل. و أمّا عالم الأمر فهو خير محض منزّه عن شوائب الشرّ بالكلّيّة.

[وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ أي من شرّ اللّيل إذا دخل بظلامه فيكون المراد من شرّ ما يحدث في الليل من الشرّ و المكروه. و إنّما اختصّ الليل بالذكر لأنّ أغلب الفساد يقدم عليه في الليل.

و معنى الغاسق كلّ هاجم عليه بضرره كائنا من كان و الوقب النقرة في الشي ء يجتمع فيها الماء و وقب إذا دخل في وقب الظلام. فالمعنى إذا دخل ظلامه في كلّ شي ء و الحاصل أنّ الشرّ ينبعث في الليل أكثر من النهار و يخرج عفاريت الجنّ فيه و كذلك الهوامّ و الموذيات. و نهى رسول اللّه عن السير في أوّل الليل و أمر بتغطية الأواني و إغلاق الأبواب و إيكاء الأسقية و ضمّ الصبيان و كلّ ذلك للحذر من الشرّ و البلاء.

و قيل: المراد بالغاسق القمر و وقوبه دخوله في الخسوف و اسوداده. و قيل:

وقوبه المحاق في آخر الشهر و المنجّمون يعدّونه نحسا و لذلك لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للتمريض إلّا في المحاق. و روي عن عائشة أنّها قالت: أخذ رسول اللّه بيدي فأشار إلى القمر فقال: تعوّذي باللّه من شرّ هذا فإنّه الغاسق إذا وقب، و شرّه الّذي يتّقى ما يكون في الأبدان و يحدث آفات بسببه.

و قيل: الغاسق الثريّا و وقوبها سقوطها لأنّها إذا سقطت كثرت الأمراض و و الطواعين و إذا طلعت قلّت.

[وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ] النفث شبه النفخ يكون في الرقية و لا ريق معه، و إذا كان معه ريق فهو التفل و العقد ما يعقده الساحر على وتر أو حبل أو شعر يقال لها:

عزيمة كما يقال لها: «عقدة» و المعنى من شرّ النفوس أو النساء السواحر اللّاتي يعقدن

ص: 266

عقدا في خيوط و ينفثن عليها و تعريفها إمّا للعهد أو إمّا للإيذان بشمول شرّهنّ و تمحّضهن فيه.

روي عن ابن عبّاس و عائشة أنّه كان غلام من اليهود يخدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان عنده أسنان من مشطه صلّى اللّه عليه و آله فأعطاها اليهود فسحروه صلّى اللّه عليه و آله فيها و لذا ينبغي أن يقطع الظفر بعد التقليم و كذا الشعر إذا سقط من اللحية و الرأس نصفين لئلّا يسحر به.

و تولّاه لبيد بن أعصم اليهوديّ و بناته و هنّ النفّاثات فدفنها في بئر أريس أو بئر بني زريق تسمّى ذروان فمرض النبيّ عليه السّلام قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله لبث فيه ستّة أشهر فنزل جبرئيل بالمعوّذتين- بكسر الواو- و أخبره بموضع السحر و بمن سحره و بم سحره فأرسل عليّا و عمّارا فنزحوا ماء البئر فكأنّه نقاعة الحنّاء ثمّ رفعوا الصخرة الّتي توضع في أسفل البئر فأخرجوا من تحتها الأسنان و معها وتر قد عقد فيه عشر عقدة مغرزة بالإبر فجاؤا بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجعل يقرء المعوّذتين عليها فكان كلّما قرأ آية انحلّت عقدة و وجد حتّى انحلّت عقدة الأخيرة عند تمام السورتين فقام صلّى اللّه عليه و آله كأنّما انشط من عقال و جعل جبرئيل يقول: بسم اللّه أرقيك و اللّه يشفيك من كلّ شي ء يؤذيك من عين و حاسد، فلذا جوّزوا الاسترقاء بما كان من كلام اللّه و كلام رسوله لا بما كان ممّا لا نفهمه من الهنديّة و العبرانيّة و السريانيّة فإنّه لا يجوز العمل به.

و الحقّ في المسألة عند الإماميّة أنّ السحر لا يؤثّر في النبيّ، و أمره بالاستعاذة من سحرهنّ لا يدلّ على تأثير السحر فيه و إنّما امر بالتعوّذ من السحرة لأنّهم يفعلون أشياء من النفع و الضرّ و عامّة الناس يصدّقونهم فيعظم بذلك الضرر في الدين و يوهمون أنّهم يعلمون الغيب و لأجل هذا الضرر امر صلّى اللّه عليه و آله بالتعوّذ من شرّ أفعالهم.

و أمّا ما نقله المخالفون ليس بصحيح، مجمع البحرين. قالت المعتزلة: و هذا لا يجوز لأنّ من وصف بأنّه مسحور مدخل عقله و قد أبى اللّه ذلك في قوله: (1) «وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» و لكن يمكن أن يكون اليهوديّ أو بناته- على ما روي- اجتهدوا في ذلك و لم يقدروا عليه و أطلع اللّه نبيّه على ما فعلوه حتّى

ص: 267


1- سورة الفرقان: 8.

استخرج و كان ذلك دلالة على صدقه، و كيف يكون المرض من فعلهم و لو قدروا على ذلك لقتلوه و قتلوا كثيرا من المؤمنين مع شدّة عداوتهم لهم.

و قال أبو مسلم: المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقدة بنفث الريق ليستهلّ حلّها، و النفّاثات في الآية هي جنس النساء اللاتي شأنهنّ أن يغلبن على الرجال و يحوّلنهم عن آرائهم بأنواع المكر و الحيلة و لأجل استقرار حبّهنّ في قلوب الرجال يتصرّفن فيهم و يحوّلنهم من رأي إلى رأي فأمر اللّه تعالى بالتعوّذ من شرّهنّ. و السحر عند المعتزلة تخييل لا أصل له و عند بعض قالوا:

تمريض و تأثير بما يتّصل به كما يخرج من فم المتثائب و يؤثّر في المقابل و قال بعض:

سرعة الحركة و لطافة الفعل فيما خفي فهمه.

[وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ] قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب و أوّل ذنب عصي اللّه به في السماء حسد إبليس لآدم فأخرجه من الجنّة فطرد و صار شيطانا رجيما و في الأرض قابيل لأخيه هابيل فقتله فأمر اللّه بالتعوّذ من شرّه، و الحسد الأسف على نعمة عند الغير أو تمنّي زوالها من الغير.

قال الزمخشريّ: عرّف سبحانه بعض المستعاذ منه و نكّر بعضه مثل أن عرّف «النفّاثات» لأنّ كلّ نفّاثة شريرة و نكّر «غاسق» لأنّ كلّ غاسق لا يكون فيه الشرّ إنّما يكون في بعض دون بعض و كذلك كلّ حاسد لا يضرّ و ربّ حسد محمود و هو الحسد في الخيرات.

قيل: المراد أنّه تعالى أراد و أمر بالتعوّذ من شرّ نفث الحاسد و من شرّ عينه فإنّه ربّما أصاب بهما.

و روى أنس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من رأى ما يعجبه فقال: اللّه اللّه ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه لم يضرّه شيئا. و قد جاء في الحديث أنّ العين حقّ.

قال الحسين بن الفضل: ذكر اللّه الشرور في هذه السورة ثمّ ختمها بالحسد ليعلم أنّه أخبث الطبائع.

و نسب بعض إلى عبد اللّه بن مسعود أنّ هاتين السورتين ليستا من القرآن و

ص: 268

تعويذتان للنبيّ و للمؤمنين. قال صاحب عين المعاني: الصحيح أنّهما من القرآن إلّا أنّهما لم تثبتا في مصحف ابن مسعود للأمن من نسيانهما لأنّهما يجريان على لسان كلّ إنسان لا أنّه لم يقبل أنّهما من القرآن. و قد قيل: إنّ مصحف عبد اللّه حذف منه امّ الكتاب و المعوّذتان و مصحف ابيّ بن كعب زيد فيه سورة القنوت و هي قوله:

اللّهمّ إنّا نستعينك إلى قوله: من يعجزك، و لكن مصحف زيد بن ثابت كان سليما من ذلك فكان كلّ من مصحفي ابيّ و ابن مسعود منسوخا و مصحف زيد معمولا به و كان صلّى اللّه عليه و آله يعرض القرآن على جبرئيل في كلّ رمضان مرّة واحدة فلمّا كان العام الّذي قبض صلّى اللّه عليه و آله فيه عرضه مرّتين و كان قراءة زيد- على ما قيل- من آخر الفرض.

قال عبد اللّه بن مسعود جميع سور القرآن مائة و اثنتا عشرة سورة. قال الفقيه في كتاب البستان: إنّما قال: إنّها مائة و اثنتا عشرة سورة لأنّه كان لا يعدّ المعوّذتين من القرآن و كان لا يكتبهما في مصحفه و يقول: إنّهما منزلتان من السماء و هما من كلام ربّ العالمين و لكنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يرقى و يتعوّذ بهما فاشتبه على ابن مسعود أنّهما من القرآن أو ليستا منه فلم يكتبهما في المصحف.

و قال مجاهد: جميع سور القرآن مائة و ثلاث عشرة سورة لأنّه كان يعدّ الأنفال و التوبة سورة واحدة و قال زيد بن ثابت مائة و أربع عشرة سورة و المعوّذتان سورتان من القرآن تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 269

سورة الناس

اشارة

* (مدنية)* الفضل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ رسول اللّه اشتكى و وجع وجعا شديدا فأتاه جبرئيل و ميكائيل عليهما السّلام فقعد جبرئيل عند رأسه و ميكائيل عند رجليه فعوّذه جبرئيل بقل أعوذ برب الفلق و عوّذه ميكائيل بقل أعوذ بربّ الناس.

ص: 270

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الناس (114): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)

أي مالك أمورهم و مربّيهم بإفاضة ما يصلحهم و دفع ما يضرّهم [مَلِكِ النَّاسِ عطف بيان لربّ الناس، أي سيّدهم و القادر عليهم، و لم يجز هنا إلّا ملك و جاز في فاتحة الكتاب ملك و مالك و ذلك لأنّ صيغة «ملك» يدلّ على صفة من يشعر بالتدبّر و ليس كذلك مالك و ذلك لأنّه يجوز أن يقال: مالك الثوب و لا يجوز أن يقال:

ملك الثوب، فجرت اللفظة في فاتحة الكتاب على معنى الملك في يوم الجزاء و في هذه السورة «ملك» على تدبّر من يعقل التدبير فكان لفظ ملك هنا أولى و أحسن و المعنى ملك الناس كلّهم و مدبّرهم.

[إِلهِ النَّاسِ أي ليس ملكه بمجرّد الاستيلاء عليهم و القيام بتدبير أمورهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبوديّة اللّازمة للالوهيّة المقتضية للإحياء و الإماتة و الإيجاد و الإعدام فإنّه يحقّ له الإلهيّة و لكم العبوديّة.

[مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الوسوسة الصوت الخفيّ الّذي لا يحسّ به فيحذر منه و الوسواس اسم بمعنى الوسوسة مثل الزلزال بمعنى الزلزلة و أمّا المصدر فبالكسر و الفرق بين المصدر و اسم المصدر هو أنّ الحدث إن اعتبر صدوره عن الفاعل و وقوعه على المفعول سمّي مصدرا و إذا لم يعتبر بهذه الحيثيّة سمّي اسم المصدر و حقيقة الوسوسة معنى كلام يكرّره الموسوس و يؤكّده عند من يلقيه إليه و المراد بالوسواس الشيطان لأنّه يدعو إلى المعصية بكلام خفيّ يفهمه الوليّ من غير أن يسمع صوته و وسوسة اللعين بالإغرار بسعة رحمة اللّه أو بتخييل أنّ له في عمره سعة و أنّ وقت

ص: 271

التوبة باق بعد و سمّي اللعين بفعله مبالغة كأنّه نفس الوسوسة لدوام وسوسته.

و الإلقاء إمّا صحيح أو فاسد فالصحيح إلهيّ ربّاني متعلّق بالخير و المعارف أو ملكيّ روحانيّ و هو الباعث على الطاعة و ما فيه صلاح و يسمّى إلهاما من القسمين و الفاسد نفسانيّ و هو ما فيه حظّ النفس و يسمّى هاجسا، أو شيطانيّ و يسمّى وسواسا.

و ينحصر ما يدعو الشيطان إليه ابن آدم في ستّ مراتب:

الاولى الشرك و الكفر و معاداة اللّه و رسوله، فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه و استراح من تعبه معه و الثانية البدعة و هي أحبّ إلى إبليس من المعصية لأنّ المعصية يتاب منها فيكون كالعدم و البدعة فالتوبة عنها غير ممكن و صعب و لا يمكن التدارك عنها فإذا عجز اللعين عن هاتين انتقل إلى المرتبة الثالثة و هي الكبائر على اختلاف أنواعها فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الرابعة و هي الصغائر الّتي إذا اجتمعت أهلكت صاحبها كالنار الموقدة من الحطب الصغار فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الخامسة و هي اشتغاله بالمباحات الّتي لا ثواب فيها و لا عقاب بل عقابها فوات الثواب فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة السادسة و هي أن يشغله بالعمل المفضول عمّا هو أفضل منه ليفوته ثواب العمل الفاضل فمن الشياطين شيطان الوضوء و يقال له الولهان بفتحتين و هو شيطان يولع الناس بكثرة استعمال الماء. قال صلّى اللّه عليه و آله:

تعوّذوا باللّه من وسوسة الوضوء. و منهم شيطان يقال له «خزب» و هو الملبّس على المصلّي في صلاته و قراءته.

[الْخَنَّاسِ هو الشيطان و من عادة الشيطان أن يتأخّر و ينقبض إذا ذكر اللّه.

القمّيّ: الخنّاس اسم الشيطان الّذي إذا غفل الإنسان عن ذكر ربّه وسوس إليه.

حكي أنّ بعض الأولياء سأل اللّه أن يريه كيف يأتي الشيطان و يوسوس فرأى صورة الإنسان في صورة إنسان من بلّور و بين كتفيه خال أسود كالعشّ و الوكر فجاء الخنّاس يتحسّس في جميع جوانبه و هو في صورة خنزير له خرطوم كخرطوم الفيل

ص: 272

فجاء بين الكتفين فأدخل خرطومه قبل قلبه فوسوس إليه فذكر اللّه فخنّس وراءه و لذلك سمّي بالخنّاس لأنّه ينكص على عقبيه مهما حصل نور الذكر في القلب.

و لعلّ لهذا السرّ كان صلّى اللّه عليه و آله يحتجم بين كتفيه و يأمر بذلك و وصّاه جبرئيل بذلك لأمّته لتضعيف مادّة الشيطان و تضييق مرصده لأنّه يجري بوسوسته مجرى الدم في بني آدم و كذلك كان خاتم النبوّة بين كتفيه إشارة إلى عصمته من وسوسته لقوله صلّى اللّه عليه و آله «أعانني اللّه عليه، و إنّ شيطاني قد أسلم» المراد أنّه عجز و استسلم قرينه و ما أسلم قرين آدم عليه السّلام فوسوس إليه.

و يجوز أن يدخل الشيطان في الأجسام و إن كان في الأصل من نار لكن ليس بمحرق لأنّه لمّا امتزج النار بالهواء صار تركيبه مزاجا مخصوصا و هو جسم لطيف فيدخل و قال سبحانه: [يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ و الصدر هو ساحة القلب و بيته فمنه تدخل الواردات على القلب فالصدر بمنزلة الدهليز [مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ الجنّة جماعة الجنّ و «من» بيان للّذي يوسوس على أنّه ضربان جنّيّ و إنسيّ كما قال (1): «شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ» و الموسوس إليه نوع واحد و هو الإنس لأنّه لم يرد دليل على أنّ الجنّيّ يوسوس في صدور الجنّي، فكما أنّ شيطان الجنّ يوسوس تارة و يخنّس اخرى كذلك شيطان الإنس يلقي الأباطيل في صورة الناصح فانّ زجره السامع يترك الوسوسة و يخنّس و إن قبل السامع كلامه بالغ فيه.

و حاصل المعنى أنّه سبحانه أمر العبد أن يستعيذ من شرّ وسوسة الجنّ و الإنس أو أن يستعيذ من شرّ الجنّ و الإنس. و في هذا إشارة إلى أنّ الضرر يلحق من جهة هؤلاء و أنّهم قادرون على ذلك و لولاه لما حسن الأمر بالاستعاذة منهم.

روى العيّاشي عن جعفر بن محمّد قال: قال رسول اللّه: ما من مؤمن إلّا و لقلبه في صدره أذنان اذن ينفث فيها الملك و اذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس يؤيّد اللّه

ص: 273


1- سورة الانعام: 112.

المؤمن بالملك و هو قوله سبحانه (1): «وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ».

و في الحديث عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا آوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفّيه و قرأ قل هو اللّه أحد، و سورة الفلق، و سورة الناس فنفث فيهما ثمّ مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما رأسه و وجهه و ما أقبل من جسده يصنع ذلك ثلاث مرّات.

و كان ابن كثير إذا انتهى إلى آخر القرآن إلى قوله: «مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ» قرأ سورة الفاتحة و خمس آيات من أوّل سورة البقرة على عدد الكوفيّ و هو إلى «وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» لأنّ هذا يسمّى حالّ المرتحل و معناه حلّ من قراءة آخر الختمة و ارتحل إلى ختمة اخرى إرغاما للشيطان، و صار العمل على هذا في أمصار المسلمين و كذلك قراءة سورة التوحيد بعد الختمة ثلاثا.

قال البخاريّ: عند كلّ ختمة دعوة مستجابة و إذا ختم الرجل القرآن قبّل الملك بين عينيه و يستحبّ الدعاء عند الختم مستقبل القبلة رافعا يديه خاضعا للّه و يثني على اللّه قبل الدعاء و بعده و يصلّي على النبيّ و يمسح وجهه بيديه بعد فراغه.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه أمر عليّا عليه السّلام أن يدعو عند ختم القرآن بهذا الدعاء و هو «اللّهمّ إنّي أسألك إخبات المخبتين و إخلاص الموقنين و مرافقة الأبرار و استحقاق حقائق الإيمان و الغنيمة من كل برّ و السلامة من كلّ إثم و وجوب رحمتك و عزائم مغفرتك و الفوز بالجنّة و الخلاص من النار».

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: عند ختم القرآن «اللّهمّ ارحمني بالقرآن العظيم و اجعله لي إماما و نورا و هدى و رحمة و ارزقني تلاوته آناء الليل و أطراف النهار و اجعله حجّة لي يا ربّ العالمين».

و قد تمّ بعون اللّه كتاب «مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر» في تفسير كتاب العزيز الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه في الشهر الّذي انزل في مثله القرآن من السنة السابعة بعد الثلاثين بعد الثلاثمائة بعد الألف.

ص: 274


1- سورة المجادلة: 22.

فيقول العبد الفقير الملتقط المحتاج إلى ربّه القدير الغنيّ المغني فيتضرّع مستكينا ذليلا رافعا يديه الخاطئة مستجديا من أياديه الفاضلة و آلائه المتواصلة أن يمنّ على هذا العبد الكالّ على مولاه بالقبول فإذا تقبّلها ربّها بقبول حسن فأهدى ثواب هذه الدرّة الثمينة- الّتي خاض في طلبها البحار الزاخرة حتّى اقتناها كبارها و مرجانها و شطوطها و خلجانها- إلى روح حبيبه محمّد الّذي بعثه من أطيب الأعراق و أعظم الجراثيم، و ابن عمّه عليّ الّذي ضرب الخراطيم حتّى كانت الكلمة مجموعة و الأصنام مرفوعة، فجلّت الهديّة و نعم المهدى له فقد عرض الطيب على عطّاره. و إنّي أستشفع بكتابه العزيز و بالنبيّ و الوصيّ في أن يجاوز عن ذنوبي العظيمة الّتي لا أعظم منها إلّا عفوه فأسألك العفو و منّ عليّ بالقبول و الغفران إنّك أهل التقوى و أهل المغفرة.

نجز الجزء الثاني عشر من الكتاب، و به ختامه و من اللّه التوفيق و له المنّة

ص: 275

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.