فدک

اشارة

سرشناسه : موسوی، جاسم هاتو

Musawi, Jasim Hatu

عنوان قراردادی : الشیعه و اهل البیت .شرح

عنوان و نام پديدآور : فدک: دراسة تحقیقیة ناظرة الی الشبهات التی طرحها احسان الهی ظهیر فی کتابه (الشیعة و اهل البیت) حول مسالة فدک/ جاسم هاتو الموسوی.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1390.

مشخصات ظاهری : 212 ص.

شابک : 978-964-540-338-4

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : این کتاب شرحی بر کتاب "الشیعه و اهل البیت" تالیف احسان الهی ظهیر است.

یادداشت : کتابنامه: ص. 193- 207؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع : ظهیر، احسان الهی . الشیعه و اهل البیت -- نقد و تفسیر

موضوع : ارث (فقه)

موضوع : فدک (عربستان سعودی)

شناسه افزوده : ظهیر، احسان الهی . الشیعه و اهل البیت. شرح

رده بندی کنگره : BP27/25 1390 /ظ9ش90218

رده بندی دیویی : 297/973

شماره کتابشناسی ملی : 2489351

ص:1

المُقدِّمَة

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمّد وآله الطّيبين المعصومين. وبعد. .

إنَّ وجود الخلاف والاختلاف والتباين بين النّاس، حقيقة لا يمكن إنكارها أو التنصّل منها؛ فقد رافقت هذه السِمة المجتمعات البشرية منذ وجودها على وجه الأرض، ولم تأتِ بِعثة الأنبياء والرّسل عليهم السلام، وإنزال الكتب والرّسالات، إلاّ للحدِّ من هذه الخلافات بين الأُمم، وبيان ما اختلفوا فيه؛ ( كَانَ النّاس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاس فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) (البقره: ٢١٣) .

لكن رغم ذلك، فقد اختلف أصحاب الدِّيانات والكتب السّماوية أنفسهم، من بعد ما جاءهم العلم، بَغياً بينهم، فحرَّفوا وبدَّلوا، وتفرَّقوا وكانوا شِيَعَاً ( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (البقره:٢١٣) .

ولم تكن الأُمّة الإسلاميّة خارجة عن هذه السُنَّة التّاريخية (لتتبعنّ سُنَن الذّين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتّى لو دخلوا في جحر ضَبٍّ لاتَّبعتموهم)(1).


1- صحيح مسلم، النيسابوري، ج٨، ص5٧.

ص:6

فكان الخلاف ينشب بين أبنائها بين الفينة والأُخرى، ولم يكن على مستوى واحد، بل تارة في مسائل أساسية ومبدئية، وأُخرى في مسائل فرعية وجزئية. لكن كانت أشدّها فتكاً بوحدة المسلمين، هي الخلافات العقائدية، وقد بدأت مبكِّرة جدّاً في تاريخ أُمّتنا الإسلاميّة؛ نتيجة ما حلَّ بها من تباين في الآراء والأنظار حول مسائل مهمّة وخطيرة، غيَّرت - في كثير من الأحيان - وُجهة المجتمع الإسلامي، وحوَّلته من مجتمع موحَّد في زمن النّبيّ (ص) ، إلى عدَّة جماعات وطوائف، متباينة في الرؤى والتوجّهات؛ لتُشكّل نواة للفرق والمذاهب العقائدية.

وقد اقترنت تلك الخلافات بتبنِّي البعض لأفكار متطرّفة وشاذَّة، لا تعود على المسلمين بشيء سوى تعميق الخلاف أكثر فأكثر، وتأجيج النزاعات المذهبية والطائفية وتشديدها بينهم.

وقد كان من بين روّاد هذا المضمار، الشّيخ المعروف بابن تيمية الحرّاني، إذ كان له قَصَبُ السَبق في ذلك، بما عُرف عنه من آراءٍ خرق فيها إجماع علماء المسلمين، وفتاوى اتَّهم فيها السواد الأعظم من أهل القِبلة بالشرك. ومن هنا، لم تجد هذه الآراء والفتاوى مكاناً لها في الأوساط العلمية بادئ ذي بدء؛ حيث جُوبهت تلك الآراء والأفكار بالرفض الشديد، ووقف بوجهها العلماء بمختلف انتماءاتهم؛ لِما وجدوا فيها من خطورة؛ من حيث المحتوى، والابتعاد عن روح النهج القويم؛ الأمر الّذي يُشكِّل تهديداً جادّاً لوحدة المسلمين وتماسكهم.

فانحسرت هذه الأفكار بعد أنْ ضُيِّق عليه، حتّى انتهى أمر صاحبها في السجن، حيث قضى أجله فيه، وخَبَتْ أفكاره. لكنْ بقيت كتبه وآثاره مُنزوية، يتداولها نفر قليل، إلى أنْ أظهر محمّد بن عبد الوهاب - عام ١١4٣ه - دعوته في «نجد» ؛ حيث غالى كثيراً وأفرط في تبنِّي آراء ابن تيمية، وبثَّ فيها الحياة من جديد، وتهجَّم على الذين لم يكونوا يوافقونه الرأي، وبسط نفوذه على أغلب مناطق الجزيرة العربية بالقهر والغَلَبَة، وتحت شعار «التوحيد وتطهير المنطقة من مظاهر الشرك بالله تعالى في عبادته» حسب زعمهم، وقد عُرفت باسم (الوهابية) .

واتّسمت هذه الحركة بالعنف والإرهاب الفكري، وعدم فهم حجَّة الآخر،

ص:7

بحيث يلجؤون إلى وسائل القوَّة والشدَّة في تحميل وفرض آرائهم على الطرف الآخر، وهذا ما يشاهده بوضوح ملايين الحَجيج عند أدائهم مناسك الحج، الذين لا يستطيعون أداء الكثير من عباداتهم وطقوسهم وِفْق ما يرونه من اجتهادات صحيحة لعلماء مذاهبهم، فيفرض مشايخ الوهابية عليهم اجتهاداتهم، ويجبرونهم عليها، وكأنَّهم أوصياء نبيّ الإسلام (ص) .

وعُرفت أيضاً بتأصيلها للتكفير والتبديع، والتفسيق والشَتْم واللَعن والبذاءة، ولم ينجو أحد من المسلمين إلاّ أتباع طريقتهم.

وقد اشتدَّت هجمتهم على الشّيعة الإمامية؛ لِما يتمتَّعون به من رُقيٍّ في المستوى الفكري والعلمي، وقُدرة على التطوّر، وإيجاد الحلول والإجابات على كلّ متطلّبات العصر الحديث؛ الأمر الّذي ساهم في انتشاره في مختلف البلدان، فتقبَّلته القلوب والعقول بلا إكراه أو إلجاء عليه؛ لاعتماده فكر أئمَّة أهل البيت عليهم السلام من عترة النّبيّ (ص) ، وطريقتهم في بيان الدين الحنيف، الّتي تتماشى مع الفطرة الإنسانية السليمة، مع جلالة شأنهم وسطوع برهانهم، وورعهم وتقواهم المشهور بل المتواتر.

فكان لأتباع أهل البيت عليهم السلام الغلبة الفكرية على الجميع بلا استثناء، فلم تكن وسيلة لإيقاف هذا المدّ الشيعي إلاّ باتِّباع وسائل لا تنسجم مع روح الإسلام، الّذي عُرف بأنَّه دين البرهان والدّليل، والحوار والكلم الطّيب، والجدال بالتي هي أحسن؛ فجنّدوا كل طاقاتهم لزرع الحقد والعداوة والكراهية في قلوب الأجيال، عبر مختلف طرق التّبليغ والإعلام، كالخُطب والمحاضرات، ونشر الكرّاسات والكتب والمجلّات، وتسخير الوسائل المَرئيّة والمسموعة، ومواقع الإنترنيت وغيرها، بل عمدوا إلى إدخال كتب العقائد الخلافيّة في المناهج الدراسية، وإنشاء المعاهد والجامعات لتربية أصحاب الفكر المُتشدِّد والمتطرّف، حتّى تخرَّجت منها جماعة من الكتّاب لم ترقب لأحدٍ ذمَّة ولا تُراع حُرمة؛ كإحسان الهي ظهير.

وهو كاتب باكستاني أنجبته المؤسَّسة الدّينيّة الوهابية، واشتهر بأفكاره المتطرّفة وتعصُّبه الشديد للعقيدة الوهابية.

ص:8

ولد في (سيالكوت) عام ١٣6٣ه. ، وسط أُسرة عُرفت بانتمائها إلى أهل الحديث. وأكمل دراسته الابتدائية في المدارس العادية في باكستان، ثُمَّ سافر إلى السّعودية والتحق بجامعاتها، فحصَل على البكالوريوس في الشريعة من الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنورة عام ١٩6١م، ثُمَّ عاد إلى باكستان وشغل منصب رئيس مَجمَع البحوث الإسلاميّة، ورئيس تحرير مجلّة (ترجمان الحديث) التابعة لجمعية أهل الحديث ب-(لاهور) .

عاد إلى بلده مُشبعاً بالفكر المتشدِّد، وتلبَّس بثوب المتخصّص في الفِرق، فسلَّط الضوء على المسائل الخلافية حتّى تخصَّص فيها، وتفرَّغ للبحث عن الزّوايا الفكرية المُثيرة للفتنة، فتحامل على المسلمين وكالَ التُّهم إليهم، وركَّز على الشّيعة فنَسبهم إلى الكفر والضلال، من خلال محاضراته وندواته وكتاباته، بشكلٍ تجاوز فيه كلَّ قِيم وأخلاقيات البحث الفكري.

وكان لمنهجه دورٌ كبير في تأجيج الأوضاع في هذه المنطقة، المعروفة بتنوّعها السّكاني والمذهبي، والّتي كانت أحوج ممَّا كانت عليه إلى نشر ثقافة التعايش السلمي بين المذاهب والأديان، نتيجة صبّ الزَيت على نارها، ممَّا زاد في لَهيبها. فما كان من هذه الفتنة إلاّ أنْ أتَت على إحسان إلهي ظهير نفسه، كما هو حال الفتن تأكل مثيريها؛ فقد انفجرت قنبلة في إحدى تلك الندوات الّتي كان يعقدها في لاهور، بجمعية أهل الحديث، فأصابته بجروح بالِغة، وقُتل سبعة آخرون في الحال.

وقد بذلت المؤسّسة الدّينيّة الوهابية جهوداً كبيرة لإنقاذه؛ حيث توسّط عبدالعزيز بن باز لدى الملك فهد بن عبد العزيز لنقله إلى السّعودية للعلاج، فأمر الملك بذلك، ونُقل على نفقته إلى الرياض على متن طائرة خاصّة، وأُدخل المستشفى العسكري هناك، لكن بدون جدوى، فقد كانت الجروح مُهلِكة، فلقيَ حتفه ودُفن بمقبرة البقيع وذلك في شهر شعبان من سنة ١4٠٧ه.

صدرت له عدّة مؤلّفات، جلّها في الردِّ على الشيعة، أهمّها: «الشّيعة والسُنّة،

ص:9

الشّيعة وأهل البيت، الشّيعة والتشيُّع، الشّيعة والقرآن، الإسماعيلية، البابيَّة، القاديانية، البهائية، الباطنية، التصوُّف، وغيرها» .

وقد اتَّسمت كتاباته - بشكلٍ عام - باللاموضوعية والشدّة، والتهجُّم السافر على الآخرين، ممّا دفع بعدَّة من مفكِّري السنَّة بتوجيه النقد الشديد له، والتحذير منه والردّ عليه(1)؛ نتيجة لتجنّبه الموضوعية والحيادية وعدم الإنصاف، والابتعاد عن منهج البحث في المسائل الخلافية. إذ إنَّ من أهمِّ العناصر الّتي يجب على الباحث في الفكر العقائدي المقارن الالتزام بها، هي مراعاة الأمانة العلمية في النقل والضبط والبيان، والورع، وأداء الحقّ واتِّباعه. قال تعالى: ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (الزمر:١٨) .

وينبغي النّظر إلى المسائل الاتِّفاقية بعين الاعتبار والأهمِّية، فإنَّ نقاط الاشتراك والالتقاء في الأُصول والفروع أكثر من نقاط الاختلاف والافتراق لدى المسلمين، وهذه الأمور المشتركة هي بمثابة القاعدة الثّابتة الّتي ينطلق المرء منها في المعرفة الدّينيّة الإسلاميّة، وهذا من المبادئ القرآنية. قال تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كلّمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64) .

كما لا بدّ من العدل والإنصاف عند النّظر في المسائل الخلافية الّتي بين أئمّة المذاهب الإسلاميّة، فلا شكَّ في أنَّ هذا المقدار من الخلاف، بل أكثر من ذلك، ممَّا لا بدّ منه، وهو مِيزة البحث الفكري، ولا يخلو منه حتّى أئمَّة المذهب الواحد، سواء في الاعتقادات أم الفقه، كما نجد ذلك لدى أئمَّة السنّة أنفسهم.

فمن الظلم والإجحاف الاعتماد في بيان وردِّ الطّرف الآخر على المصادر الثانوية، والأمور الخلافية غير المسلَّم بها لديه، وإنَّما لا بدّ من الرّجوع إلى أُمَّهات المصادر عنده، والاحتجاج وِفق مُتبنَّياته.


1- كالبهنساوي في كتابه: السُنّة المُفترى عليها ، والدكتور علي عبد الواحد في كتابه: بين الشّيعة وأهل السُنّة ، والّذي ردَّ عليه إحسان بكتاب أسماه: الرّد الكافي على مغالطات الدكتور علي عبد الواحد وافي ، وغيرهما.

ص:10

ويجدر بالباحث الإسلامي أنْ يكون هدفه من وراء طرح كلّ مسألة علمية، هو طلب الحقّ والحقيقة، لا أنْ يَرِد البحث وهو مُحمّل بالقناعات والأحكام المُسبقة المُسلّمة لديه، من دون أن يكون له الاستعداد لرفع اليد عنها. ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (سبأ: ٢4) .

ولا ريب في أنَّ العلماء هم مصدر الخير والسّعادة لكلِّ أُمّة، فيجب على علماء المسلمين - جميعاً - السعي لِما فيه خير الأُمّة وصلاحها. ولا يمكن أن يحصل ذلك إلاّ من خلال البحث العلمي الحرّ والموضوعي، مع سعة الصدر، والانفتاح، والابتعاد عن العصبيَّة في الحوار، والتأدُّب بالآداب الإسلاميّة، والتمسُّك بالقِيم الأخلاقية.

غير أنَّ إحسان إلهي ظهير كان أبعد ما يكون عن سِمات العلماء الواعين لقضايا الأُمّة، والحريصين عليها. والّذي يبدو جَليّاً في كتاباته، سيّما كتابه (الشّيعة وأهل البيت) تجرّده عن سمات أهل التّحقيق، وتجنِّيه على الشّيعة بشكل كبير، وخروجه وعدم التزامه بمنهج البحث في المسائل الخلافية؛ الأمر الّذي لايُبقي أيّ قيمة علمية للكتاب المذكور، إلاّ عند قليلِ البضاعة، ممَّن تنطلي عليه أبسط الأمور، لبساطته وسذاجته.

فوقع الكاتب في العديد من المُخالفات العلمية والمنهجية والأخلاقية، وجانَبَ الإنصاف العلمي بشكل كبير، سيّما في موضوع فدك؛ فقد شوَّه الحقيقة، وأعطى صورة عنه تُخالف الواقع كثيراً.

وقد احتلّت قضية فدك مساحة واسعة في البحث العلمي، فلم يقتصر بحثها على المُؤرِّخ الإسلامي، وإنّما تعدَّاه إلى المُحدّث، الّذي أولاها أهمِّية خاصّة، فروى أحاديثها بإسهاب وفي مناسبات عدَّة، حتّى سرت إلى البحث العقائدي والفقهي، لتشغل منهما حيّزاً متميِّزاً؛ وذلك لما تتمتَّع به من خصائص وسِمات نوعية.

فقد تميَّزت بطرح مسألة إرث الأنبياء، وخروجهم أو دخولهم ضمن دائرة أحكام الإرث، وطرح إرث الرّسول الخاتم (ص) على وجه التّحديد. وكذا ما يُميّزها

ص:11

هو أطراف النّزاع فيها؛ حيث شمل شخصيات مهمَّة، لها ثقلها الكبير في الإسلام، كالزّهراء عليها السلام، ابنة رسول الله (ص) ، وأبي بكر.

وكان لها الدّور الكبير في حسم النزاع في مسألة الخلافة، بعدما تبيَّن لأهل البيت عليهم السلام، من خلال مسألة فدك، ما تحمله الأُمّة تجاههم.

وهكذا ظلَّت فدك مادَّة خلافية بين المسلمين إلى وقتنا الحاضر، فكثر الكلام والجدال، وأخذ النزاع والتخاصم يُلقي بظلاله على الواقع العقائدي.

وقد حاول البعض التّخفيف من وطأتها وفداحة ما ارتُكِبَ فيها من أخطاء، برميها تارة في دائرة التأويل، وأُخرى بتصنيفها ضمن إطار البحث التّاريخي المَحض!

ولكنَّ الإنصاف أنَّ هناك أبحاثاً تناولت هذه المسألة تميَّزت بشيءٍ من الموضوعيّة والدقَّة، وكشفت النقاب عن بعض ملابساتها وتبعاتِها.

لكنْ مع ذلك، بقيت هناك نقاط غامضة ومفاصل مُبهمة، كانت مثاراً للشُبهات والتشكيكات لبعض الكتّاب المُتعصّبين، الذّين أبَوا إلاّ أن يجيِّروها وفق مرتكزاتهم ومسلَّماتهم الفكرية والعقائديّة، ومن هؤلاء إحسان إلهي ظهير، الّذي تناولها بسطحية وضحالة، والتفَّ فيها على كثير من الحقائق. غير أنَّ البعض، ممَّن تروق له كتاباته، طبّل لها وروَّج كثيراً. ومن هنا، رأينا - لِزاماً - أنْ نتناول المسألة بالبحث والتّحقيق، بحسب ما يقتضيه التّسلسل المنطقي لها، مُجيبين بذلك عن ما أورده من شبهات، كلّما اقتضت المناسبة لذلك. وقد رتَّبنا هذه الدراسة على شكل مدخل وثلاثة فصول؛ كالآتي:

المدخل: أموال الدّولة الإسلاميّة.

الفصل الأوَّل: إرث الأنبياء في النصوص الشيعية، وتاريخيَّة فدك.

الفصل الثاني: النِحْلَة والإرْث.

الفصل الثالث: مناقشة استدلال أبي بكر بحديث (لا نورِّث) على عدم الإرث.

ص:12

ص:13

المدخل: أموالُ الدَّولة الإسلاميَّة

اشاره

ص:14

ص:15

تمهيد

اشاره

اهتمَّ المُشرِّع الإسلامي ببيان أحكام ومصارف المنابع الماليّة للحكومة الإسلاميّة اهتماماً بالغاً، فلم يترك الباب مُشرَعاً أمام الحاكم الإسلامي، ليقوم بتأسيس وبناء اقتصاد الدّولة الإسلاميّة، ويتصرَّف كيفما يشاء في مقدَّرات الأُمّة الاقتصاديّة وأموال الدّولة، وإنّما حدَّها من حيث الموضوع والحكم، فعيَّن منابع محدَّدة لبناء اقتصاد الدّولة، وشرَّع لكلّ منبع منها حكماً خاصّاً، فنزلت الآيات الكريمة تترى في هذا الباب بكلّ وضوح، ومن دون أيّ غموض أو إبهام.

ولا نريد هنا الخوض في مفهوم الدّولة الإسلاميّة، والحاكم، وأموال الدّولة، ولكن نريد الإشارة إلى أنَّ المشرِّع حدَّد - وبشكل واضح - منابع أموال الدّولة الإسلاميّة، وصلاحيات الحاكم الإسلامي في هذه الأموال. ومن جملة المنابع الماليّة للدّولة الإسلاميّة في عهدها الأوّل، هي: الأنفال، والفيء، وغنائم الحرب، وصدقات النبيّ (ص) . ولكلٍّ منها حكم خاصّ وواضح عند الشّيعة والسنَّة.

لكنَّ إحسان ظهير تحامل على علماء الشّيعة في مسألة فدك - باعتبار أنَّ فدك من أموال الدّولة ومن الأنفال، وهي تابعة لأمر الحاكم، وهو أحقّ بالتّصرف بها من الشيعة - فقال:

ثُمَّ وهل يظنون النّبيّ (ص) أنَّه كان يجعل أموال الدّولة أمواله وملكه؟ ! وهذا ما لا يرضاه العقل. وحتّى هذا العصر، عصر السّلب والنّهب، وعصر اللامبالاة وعدم التّمسك بالدّين، ففي مثل هذا العصر إنَّ الملوك والحكَّام

ص:16

لو استولوا على بقعة من بقاع الأرض أو فتحوها، لا يجعلونها ملكاً لهم دون غيرهم، بل يجعلونها ملكاً للدولة، يتصرَّفون فيها في مصالح الرعية وشؤون العامّة والخاصّة. فهل كان الرّسول (ص) - فداه أبواي وروحي - في نظر القوم ممَّن يؤثرون أنفسهم على النّاس؟ !(1)

وقال أيضاً:

وقبل أن نأتي إلى آخر الكلام، نريد أن نُثبت ههنا روايتين رواهما الكُليني. . . فأمّا الأُولى، فهي الّتي رواها عن أبي عبد الله جعفر، أنَّه قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخَيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكلّ أرض خربة، وبطون الأودية، فهو لرسول الله (ص) ، وهو للإمام من بعده، يضعه حيث يشاء» . وهذه صريحة في معناها بأنَّ الإمام بعد النّبيّ أحقّ النّاس بالتّصرف فيها(2).

إنَّ هذا التّحامل لا مُبرِّر له؛ فمن الواضح أنَّ أموال الدّولة الإسلاميّة ليست على وتيرة واحدة من حيث الموضوع والحكم؛ فبعضها للإمام، يضعها حيث يشاء، وبعضها للمسلمين، وبعضها ملك خاصّ لرسول الله (ص) ، غير أنَّ إحسان إلهي ظهير تناول المسألة بسذاجة تامّة، وصوّرها على أنَّها على وتيرة واحدة.

وحتّى تتضح حقيقة المسألة، نتناول بعض الموارد الماليّة الّتي ترتبط بدعواه، وهي: الأنفال، والفيء، وغنائم الحرب.

الأنفال

النَّفْلُ - بسكون الفاء وفتحها - في اللغة يعني: الزيادة على المُسْتَحَقِّ (3)، ومنه قوله تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) (الأنبياء: ٧٢) ، أي: زيادة عمَّا سأله.


1- الشّيعة وأهل البيت، إحسان إلهي ظهير، ص٨٧.
2- المصدر نفسه، ص٩٠.
3- الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، ص54٨؛ لسان العرب، ابن منظور، ج١١، صص6٧١ و 6٧٣؛ تاج العروس، الزبيدي، ج١5، ص٧4٧.

ص:17

قال الشّيخ الطّوسي في بيان الآية الكريمة:

«نَافِلَة، أي: زيادة على ما دَعا الله إليه»(1).

وهذا هو مذهب أكثر مفسِّري السنَّة في الآية الكريمة، قال السمرقندي:

« وَيَعْقُوبَ نَافِلَة يعني: زيادة، وذلك أنَّه سأل الله تعالى الوَلد فأعطاه الله تعالى الوُلد، وهو إسحاق (ع) ، وولد الولد فضله على مسألته، وهو يعقوب (ع)»(2).

وقال السمعاني:

قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) ، قال ابن عباس: «النّافلة هو يعقوب» ، وأمّا إسحاق، فليس بنافلة؛ لأنَّ الله تعالى أعطاه إسحاق بدعائه، وإنِّما زاد يعقوب على ما دعا، والنّافلة هي الزّيادة. وقال مجاهد: «كلاهما نافلة» . والأصحّ هو الأوّل(3).

وقال النسفي:

(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) ، قيل: هو مصدرٌ كالعافية من غير لفظ الفعل السابق، أي: وهبنا له هِبة. وقيل: هي ولد الولد، وقد سأل ولداً فأُعطيه، وأُعطِي يعقوب نافلةً، أي: زيادة وفضلاً من غير سؤال، وهي حال من يعقوب(4).

وقال الرّازي: «وقال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) (الأنبياء: ٧٢) ، أي: زيادة على ما سأل»(5). إلى غير ذلك من أقوال مُفسّري السنّة، الذين فسّروا ( نافلة) بمعنى الزيادة.

وسُمّيت الغنيمة نفلاً، وجمعها أنفال (6)؛ لأنَّها زيادة من الله لهذه الأُمّة على الخصوص. قال البغوي:

«سُمّيت الغنائم أنفالاً؛ لأنَّها زيادة من الله لهذه الأُمّة على


1- التبيان، الشّيخ الطّوسي، ج٧، ص٢64.
2- تفسير السمرقندي، ج٢، ص4٣٢.
3- انظر: تفسير السمعاني، ج٣، ص٣٩٢.
4- انظر: تفسير النسفي، ج٣، ص٨6.
5- انظر: تفسير الرّازي، ج١5، ص١١4.
6- الصحاح، الجوهري، ج5، ص١٨٣٣؛ لسان العرب، ابن منظور، ج١١، ص6٧١؛ كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج٨، ص٣٢5.

ص:18

الخصوص»(1)؛ أو لأنَّ المسلمين فُضِّلوا بها على سائر الأُمم، الّذين لم تحلّ لهم الغنائم. قال الرّازي، عن الزّهري:

«النّفل والنّافلة: ما كان زيادة على الأصل، وسمِّيت الغنائم أنفالاً؛ لأنَّ المسلمين فضِّلوا بها على سائر الأُمم الذّين لم تحلّ لهم الغنائم»(2).

وفي اصطلاح فقهاء الشّيعة، يراد من الأنفال: المال الزّائد الّذي يختص به النّبيّ (ص) ، ثُمَّ الإمام من بعده، تفضُّلاً من الله تعالى (3). قال النراقي - بعد ذكره للمعنى اللغوي للأنفال -:

«المراد هنا: المال الزّائد للنبي والإمام بعده على قبيلتهما من بني هاشم. فالمطلوب ما يختصّ بالنبي (ص) ، ثُمَّ الإمام»(4).

ومن الأنفال: الأرض الّتي لم يوجَف(5)عليها بخَيلٍ ولا رِكاب، أو أسلمها أهلها طوعاً بغير قتال، والأرض الخَرِبة الّتي باد أهلها، إذا كانت قد جرى عليها ملك أحد، والأرض الميتة الخربة الّتي لم يجرِ عليها ملك أحد، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، والمعادن الّتي في بطون الأودية، وما يغنمه المقاتلون من غير إذن الإمام (ع) ، وميراث مَن لا وارث له، وغير ذلك. .

وهذا هو الّذي ذكره علماء الشّيعة، ودلّت عليه أحاديث أهل البيت عليهم السلام؛ فقد روى الشّيخ الكلّيني في الكافي، بسَنده عن أبي عبد الله (ع) ، قال:

الأنفال: ما لم يوجَف عليه بخَيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكلّ أرض خربة، وبطون الأودية، فهو لرسول الله (ص) ، وهو للإمام من بعده، يضعه حيث يشاء (6).

وروي في الكافي أيضاً، بسنده عن العبد الصالح، الإمام الكاظم (ع) ، قال:


1- تفسير البغوي، ج٢، ص٢٢٨.
2- تفسير الرّازي، ج١5، ص١١4.
3- انظر: المقنعة، الشّيخ المفيد، ص٢٧٨؛ الاقتصاد، الشّيخ الطّوسي، ص٢٨4؛ الرسائل العشر، ص٢٠٨؛ النهاية، ص١٩٩.
4- مستند الشّيعة، المحقّق النراقي، ج١٠، ص١٣٩؛ غنائم الأيام، الميرزا القمي، ج4، ص٣٧١.
5- الإيجاف: السير السريع.
6- الكافي، الشّيخ الكلّيني، ج١، ص5٣٩.

ص:19

والأنفال: كلّ أرض خربة قد باد أهلها، وكلّ أرض لم يوجَف عليها بخيل ولا ركاب، ولكن صالحوا صلحاً، وأعطوا بأيديهم على غير قتال، وله رؤوس الجبال، وبطون الأودية والآجام، وكلّ أرض ميتة لا ربَّ لها، وله صوافي الملوك، ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب؛ لأنَّ الغصب كلّه مردود. وهو وارث مَن لا وارث له، يعول مَن لا حيلة له (1).

والفَيء عند الشّيعة من الأنفال. قال ابن حمزة الطّوسي:

«الفيء في الشريعة: ما حصل في أيدي المسلمين من غير قتال، وهو من الأنفال»(2).

وذهب بعضهم إلى أنَّ الفيء والأنفال مترادفان. قال الميرزا القمّي:

وقد يُطلَق الفيء أيضاً على الأنفال، ومنه قوله تعالى في سورة الحشر: (وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) (3)،

ويدلّ على هذه المرادفة حَسنة محمّد بن مسلم. . .(4).

وعليه، ففَدك عندهم من الفيء؛ لأنَّها ممَّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، كما روى ذلك الشّيخ الصّدوق وغيره عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، من أنَّ رسول الله (ص) قال:

«فدك، هي ممَّا لم يوجَف عليه بخيل ولا رِكاب، وهي لي خاصّة دون المسلمين»(5).

وقد اتَّفق الشّيعة على أنَّ الأنفال لا يتعلّق بها الخمس، وإنِّما هي خالصة لرسول الله (ص) ، وبعده للإمام. ويقصدون به أمير المؤمنين (ع) ، والأئمَّة المعصومين الأحد عشر: من ولدِه. قال الشّيخ المفيد:

«الأنفال لرسول الله (ص) خاصّة في حياته، وهي للإمام القائم مقامه من بعده خالصة، كما كانت له عليه وآله السّلام في حياته. . .»(6).


1- الكافي، ج ١، ، ص54١.
2- الوسيلة، ابن حمزة الطّوسي، ص٢٠٣.
3- الحشر: 6.
4- غنائم الأيام، الميرزا القمي، ج4، ص٣٧١.
5- الأمالي، الشّيخ الصّدوق، ص6١٩.
6- المقنعة، الشّيخ المفيد، ص٢٧٨.

ص:20

وقال المحقّق الكركي:

«الأنفال لرسول الله (ص) في حياته، وهي بعده للإمام القائم مقامه (ص)»(1).

وقال الشّيخ الطّوسي في «تهذيب الأحكام» :

وكانت الأنفال لرسول الله (ص) في حياته، وهي للإمام القائم مقامه (ع) . والأنفال: كلّ أرض فُتحت من غير أنْ يوجف عليها بخيل ولا ركاب، والأرضون الموات، وتركات مَن لا وارث له من الأهل والقرابات، والآجام، والمفاوز، والمعادن، وقطائع الملوك»(2).

وقد رَووا عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام روايات كثيرة في موضوع الأنفال وحكمها، وحقّقوها بعناية كبيرة وأجادوا في ذلك، لا نرى ضرورة في ذكرها.

ومن الواضح أنَّ الأنفال الّتي تصرَّف بها الرسول (ص) في حياته، تصرُّفاً يخرجها عن هذا العنوان، فلا يلحقها حكمه بعدئذ؛ فلو أعطى شيئاً من الأنفال لأحدٍ وملَّكَه إيّاه، خرَجَ ذلك المُعطى عن عنوان النفليَّة، وصار ملكاً لِمَن ملّكَهُ.

وقد اتَّفق الشّيعة على أنَّ الرّسول (ص) قد نحل فدكاً في حياته لابنته فاطمة عليها السلام، كما روى ذلك علماء الشّيعة عن أئمّتهم عليهم السلام، أنّه لمَّا نزل قوله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) على رسول الله (ص) ، قال:

ادعوا لي فاطمة، فدُعيت له، فقال: يا فاطمة، قالت: لبَّيك يا رسول الله، فقال (ص) : هذه فدك، هي ممَّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهي لي خاصّة دون المسلمين، وقد جعلتها لك؛ لِما أمرني الله به، فخُذيها لك ولولدك(3).

ورواه الشّيخ الكلّيني في الكافي، بسنده عن الإمام الكاظم (ع)(4). وورد ذلك أيضاً في بعض روايات السنَّة، كرواية أبي سعيد الخدري، وابن عباس، وغيرهما، الّتي سيأتي الكلام عنهما لاحقاً.


1- الخراجيات، ص56.
2- تهذيب الأحكام، ج4، ص١٣٢.
3- الأمالي، الشّيخ الصّدوق، ص6١٩؛ عيون أخبار الرضا ع ، ج٢، ص٢١١.
4- الكافي، ج١، ص54٣.

ص:21

وعلى هذا، تكون فدك ملكاً صِرْفاً للزّهراء عليها السلام، فلا تصل إليها يد الإمام وِفق المَبنى الشّيعي.

والغنيمة عند فقهاء الشّيعة تُغاير الأنفال حكماً وموضوعاً؛ فهي تشمل عندهم ما يُغنَم بالقهر والغلبة من أموال المشركين، وما يُغنم بالمعاش والربح، ويتعلّق بهما الخمس (1).

والأنفال في اصطلاح جمهور السنّة يراد منها الغنيمة، ويقصدون بها ما يؤخَذ من الكفّار في دار الحرب، على وجه القهر والغلبة فقط. قال النووي:

«الأنفال: جمع نفل، بالتحريك وبسكونها، الغنيمة. . . والغنيمة: ما أخذ من الكفّار بإيجاف الخيل والركاب»(2).

وهم مُتَّفقون على أنَّ الأنفال كانت خالصة لرسول الله (ص) ، من دون أن يشاركه فيها أحد من المسلمين، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ) (الأنفال: ١) ، ويُطلِق بعض علمائهم على هذه الأنفال اسم:

(الأنفال الأُولى)(3).

لكنَّ ذلك - بحسب دعواهم - نُسخ لاحقاً بقوله تعالى: ( وَاعْلَمُواْ أنّما غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الأنفال: 4١) ، فشاركت هذه الأصناف - المذكورة في الآية الكريمة - من المسلمين رسول الله (ص) في الأنفال. قال الشّافعي:

كانت الأنفال لرسول الله (ص) ، وقال الله عزَّ وجل (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ) ، فردَّها رسول الله (ص) على المسلمين، ثُمَّ نزل عليه منصرفه من بدر: (وَاعْلَمُواْ أنّما غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) ، فجعل الله له ولمَن سمَّى معه الخمس، وجعل رسول الله (ص) لمَن أوجف الأربعة الأخماس بالحضور، للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم(4).


1- منتهى المطلب، العلاّمة الحلي، ج٢، ص٩٢٢.
2- المجموع، محيي الدين النووي، ج١٩، صص٣4٨ - ٣54.
3- تفسير ابن كثير، ج٢، ص٢٩6.
4- كتاب الأمّ، الشافعي، ج٧، ص٣٧٢؛ وانظر: المغني، عبد الله بن قدامة، ج٧، ص٢٩٨.

ص:22

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن ابن عباس، قال:

(الأنفال: المغانم)(1).

وروى البيهقي في سُننه، عن ابن عباس في سورة الأنفال، قوله: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ) ، قال:

الأنفال: المغانم، كانت لرسول الله (ص) خالصة، ليس لأحد منها شيء. . . ثُمَّ أنزل الله عزّوجلّ: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) ، ثُمَّ قسّم ذلك الخمس لرسول الله، ولذي القربى. . . (2).

واتَّفقوا أيضاً على أنَّ فدك ليست من الأنفال (بمعنى الغنيمة) ؛ لأنَّها ممَّا لم يوجَف عليه بخَيل ولا رِكاب، كما يدلّ على ذلك الكثير من رواياتهم؛ حيث رَووا أنَّ أهل خيبر تحصَّنوا، فسألوا رسول الله (ص) أن يحقن دماءهم ويسيرهم، ففعل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك، فكانت لرسول الله (ص) خاصّة؛ لأنَّه لم يُوجَف عليها بخَيل ولا ركاب.

فقد أخرج مسلم في صحيحه، بسنده عن مالك بن أوس عن عمر، قال:

كانت أموال بني النّضير ممَّا أفاء الله على رسوله، ممَّا لم يُوجف عليه المسلمون بخَيل ورِكاب، فكانت للنبي (ص) خاصّة، فكان يُنفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح، عدَّة في سبيل الله(3).

وأخرجه التّرمذي في سُننه، وقال:

«هذا حديث حسن صحيح»(4).

وأخرجه النّسائي في سُننه أيضاً (5)، وآخرون.

وأخرج أبو داود في سُننه، بسنده عن الزَهري وعبد الله بن أبي بكر، عن بعض ولد محمّد بن مسلمة، قالوا:

بقيت بقيَّة من أهل خيبر تحصَّنوا، فسألوا رسول الله (ص) أن يحقن دماءهم


1- صحيح البخاري، ج5، ص١٩٨؛ صحيح مسلم، ج5، ص١46.
2- السنن الكبرى، البيهقي، ج6، ص٢٩٣.
3- صحيح مسلم، ج5، ص١5١.
4- سنن الترمذي، ج٣، ص١٣١.
5- سنن النسائي، ج٧، ص١٣٢.

ص:23

ويسيرهم، ففعل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك، فكانت لرسول الله (ص) خاصّة؛ لأنَّه لم يُوجَف عليها بخَيل ولا رِكاب(1).

الفَيء

وهو لغة من الرّجوع، قال الجوهري:

«فَاءَ يفيء فَيْئاً: رَجَعَ، وأفاءه غيره: رجعه، وفلان سريع الفيء من غضبه، وإنَّه لحسن الفيئة - بالكسر، مثال الفيعة- أي: حسن الرّجوع»(2)، ومنه قيل للظلِّ الّذي يكون بعد الزّوال: (فيء) ؛ لأنَّه يرجع من جانب إلى جانب (3).

وفي اصطلاح السنّة: ما يأخذه المسلمون من الكفّار بغير إيجاف خيل ولاركاب، فكأنّه كان في الأصل لهم فرجع إليهم. قال أبو بكر الكاشاني الحنفي:

«وأمَّا الفيء، فهو اسم لِما لم يُوجِف عليه المسلمون بخَيل ولا رِكاب»(4). وقال ابن عبد البر المالكي:

«الفيء: كلّ ما أُخذ من كافر على الوجوه كلّها، بغير إيجاف خيل ولا ركاب ولاقتال»(5).

وقال محيي الدين النّووي الشّافعي:

«الفيء: هو المال الّذي يؤخَذ من الكفّار من غير قتال»(6).

وقال ابن قدامة:

«الفيء: هو الرّاجع إلى المسلمين من مال الكفّار بغير قتال»(7).

ومذهب جمهورهم في مصرف الفيء هو أنَّه ملك خالص لرسول الله (ص) . قال أبوبكر الكاشاني:

وقد كان الفيء لرسول الله (ص) خاصّة، يتصرَّف فيه كيف شاء، يختصّه


1- سنن أبي داود، ج٢، ص٣٧.
2- الصحاح، الجوهري، ج١، ص6٣؛ لسان العرب، ج١، ص١٢4؛ تاج العروس، ج١، ص٢١٣.
3- النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، ج٣، ص4٨٢؛ لسان العرب، ج١، ص١٢6؛ تاج العروس، ج١، ص٢١4.
4- بدائع الصنائع، أبو بكر الكاشاني، ج٧، ص١١6.
5- الكافي، يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي، ص٢١6.
6- المجموع، ج١٩، ص٣٧5.
7- المغني، عبد الله بن قدامة، ج٧، ص٢٩٧.

ص:24

لنفسه، أو يفرِّقه فيمَن شاء؛ قال الله تعالى عزَّ شأنه: (وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الحشر: 6)(1).

وقال السّمرقندي:

«وأمَّا الفيء: فما حصل من غير مقاتلة، فهو خاص للرسول (عليه الصلاة والسلام) ، فيتصرَّف فيه رسول الله كيف شاء»(2).

ويدلُّ عليه ما أخرجه البخاري عن عمر، قال:

كانت أموال بني النّضير ممَّا أفاء الله على رسوله (ص) ، ممَّا لم يُوجِف المسلمون عليه بخَيل ولا رِكاب، فكانت لرسول الله (ص) خاصّة، وكان ينفق على أهله نفقة سنته، ثُمَّ يجعل ما بقي في السّلاح والكراع(3).

ومع غضّ النّظر عن مذاهبهم في مصرف الفيء، هُمْ متَّفقون على أنَّ فدك ممَّا لم يوجَف عليها بخَيل ولا ركاب، وأنَّها ملك خالص لرسول الله (ص) . قال ابن حجر العسقلاني:

وأمَّا فدك - وهي بفتح الفاء والمهملة بعدها كاف -: بلد بينها وبين المدينة ثلاث مراحل، وكان من شأنها ما ذكر أصحاب المغازي قاطبة، أنَّ أهل فدك كانوا من اليهود، فلمّا فُتحت خيبر، أرسل أهل فدك يطلبون من النّبيّ (ص) الأمان، على أن يتركوا البلد ويرحلوا. . . وكانت لرسول الله (ص) خاصّة. . .(4).

ويدلُّ على أنَّ فدك ملك خالص لرسول الله (ص) أيضاً، ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن عائشة، قالت:

«إنَّ فاطمة عليها السلام بنت النّبيّ (ص) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (ص) ، ممّا أفاء الله عليه بالمدينة، وفَدَك، وما بقي من خمس خيبر. . .»(5).


1- بدائع الصنائع، ج٧، ص١١6.
2- تحفة الفقهاء، السمرقندي، ج٣، ص٢٩٨.
3- صحيح البخاري، ج٣، صص٢٢٧ و ٢٢٨؛ ج6، ص5٨.
4- فتح الباري، ابن حجر، ج6، صص١4٠ و١4١.
5- صحيح البخاري، ج5، ص٨٢؛ ج6، ص 5٨؛ صحيح مسلم، ج5، ص١54.

ص:25

وأخرج أبو داود والبيهقي في سُننيهما، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال:

«كان فيما احتجَّ به عمر أنَّه قال: كانت لرسول الله (ص) ثلاث صفايا: بنو النّضير، وخيبر، وفدك. . .»(1).

وحكى النّووي في شرحه، عن القاضي عياض في تفسير صدقات النّبيّ (ص) وملكه الخاصّ، قال:

«وكذلك نصف أرض فدك، صالَحَ أهلها بعد فتح خيبر على نصف أرضها، وكان خالصاً له. . . فكانت هذه كلّها مُلكاً لرسول الله (ص) خاصّة، لاحقّ فيها لأحد غيره»(2).

والفيء في اصطلاح علماء الشّيعة هو: ما يأخذه المسلمون من الكفّار من دون إيجاف خَيل ولا رِكاب. وهو لرسول الله (ص) خاصّة، ولأئمَّة أهل البيت: بعده. قال الشّيخ الطّوسي:

الفيء مُشتقٌّ من «فاء يَفيءُ إذا رجع» ، والمراد به في الشّرع، فيما قال الله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله) الآية: ما حصل ورجع عليه من غير قتال، ولا إيجافٍ بخَيل، ولا رِكاب، فما هذا حكمه كان لرسوله خاصّة، وهو لمَن قام مقامه من الأئمَّة: ، ليس لغيرهم في ذلك نصيب(3).

وقد مرّ بأنَّ الفيء عند الشّيعة من الأنفال، وأنَّ بعض علمائهم ذهب إلى أنَّهما مترادفان، وأنَّهم متَّفقون على أنَّ رسول الله (ص) قد نَحلَ فدكاً في حياته لابنته فاطمة عليها السلام.

اتِّفاق المسلمين على أنَّ فدك ملك خالص لرسول الله (ص)

يتَّضح من خلال ما تقدَّم، أنَّ المسلمين متَّفقون على أنَّ فدك ممَّا لم يوجَف عليه بخَيل ولا رِكاب، وأنَّها ملك خالص لرسول الله (ص) ، لا يشاركه أحد فيها، مع غضِّ النّظر عن كونها من الأنفال أو الفيء، أو أيّ اسم آخر، فالمهم هنا هو عدم الخلاف في كونها من ممتلكات رسول الله (ص) الخاصّة.


1- سنن أبي داود، ج٢، ص٢٣؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج6، ص٢٩6؛ ج٧، ص5٩.
2- شرح مسلم، النووي، ج١٢، ص٨٢.
3- المبسوط، الشّيخ الطّوسي، ج٢، صص64 - 66.

ص:26

وقد انعقد إجماع الشّيعة على أنَّ الرّسول (ص) قد نحل فدكاً لبضعته فاطمة عليها السلام، وبذلك خرجت من ملكه (ص) ، وأصبحت ملكاً خالصاً لها عليها السلام.

كما روى ذلك علماؤهم - من دون خلاف - عن أئمَّتهم عليهم السلام، أنَّه لمَّا نزل على رسول الله (ص) قوله تعالى: ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ، قال (ص) :

ادعوا لي فاطمة، فدُعيت له، فقال: يا فاطمة، قالت: لبَّيك يا رسول الله، فقال (ص) : هذه فدك، هي ممَّا لم يوجَف عليه بخَيل ولا رِكاب، وهي لي خاصّة دون المسلمين، وقد جعلتها لك؛ لِما أمرني الله به، فخُذيها لك ولولدك(1).

كما انعقد إجماع السنَّة أيضاً على أنَّ رسول الله (ص) لا يوِّرث، وما تركه فهو صدقة، وأنَّ فدك لم تنتقل من ملك الرّسول (ص) ، بل هي من جملة صدقاته (ص) ، كما أخرج ذلك البخاري في صحيحه، عن عائشة، قالت:

إنَّ فاطمة عليها السلام والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما، أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت النّبيّ (ص) يقول: «لانوِّرث، ما تركنا صدقة»(2).

ومن خلال ذلك يتبيَّن وَهْنُ ما ذهب إليه إحسان ظهير، من أنَّ الحاكم أحقّ بالتصرّف في فدك، باعتبار أنَّها من أموال الدّولة ومن الأنفال، وهي تابعة لأمره (3)؛ إذ إنَّ فدك - كما تقدَّم وفق المبنى الشّيعي - خرجت من عنوان الأنفال، ولايلحقها حكمها؛ لاتِّفاقهم على أنَّ الرّسول (ص) قد تصرَّف فيها في حياته، ونحلها لابنته الزّهراء عليها السلام، فأصبحت ملكاً خالصاً لها عليها السلام. وعليه فلا تَصل إليها يد الإمام.

كما أنَّ السنّة متَّفقون على أنَّ فدك ممَّا لم يوجَف عليه بخَيل ولا رِكاب، وهي ملك خالص لرسول الله (ص) ، وقد بقيت على ملكه حتّى وفاته (ص) ، كما أنَّهم


1- الأمالي، الشّيخ الصّدوق، ص6١٩؛ عيون أخبار الرضا ع ، ج٢، ص٢١١.
2- صحيح البخاري، ج5، ص٢5؛ ج٨، ص٣.
3- الشّيعة وأهل البيت، ص٨٧.

ص:27

متَّفقون على أنَّ الرّسول (ص) لا يوِّرث، وما تركه صدقة، فألحقوها بعد رحيل النّبيّ الأكرم (ص) بصدقاته.

وعليه، فمن الواضح أنَّه لا يبقى للقول بأحقيّة الإمام بالتصرُّف في فدك إلاّ التمسّك بكونها من تركة الرّسول (ص) ، وأنَّه لا يوِّرث، وهذا ليس بجديد، وإنّما هو مذهب جمهورهم في هذه المسألة، وقد ذكر علماء الشّيعة سُقمه، ونقلوا الأدلّة العقليّة والنقليّة على عدم خروج الأنبياء والرُسل عليهم السلام من دائرة أحكام الإرث.

ص:28

ص:29

الفصل الأوّل: إرث الأنبياء في النصوص الشّيعيَّة وتاريخيَّة فدك

اشاره

ص:30

ص:31

المبحث الأوّل: السَير التاريخي لفَدك

اشاره

الناظر في المراحل التاريخيّة الّتي تقلَّبت بينها فدك، يقف على حقيقة مفادها أنَّ فدك لم تخضع لقاعدة مُعيَّنة، ولم يُعمل فيها الدّليل الواضح، وإنِّما كان للاجتهاد والسّياسة والهوى والشّهوات الدّور البارز في صياغة حكمها في أغلب أدوارها؛ فقد تباينت أعمال الخلفاء الثلاثة في أمرها، واضطرب حالها في زمن الأمويّين والعباسيّين.

ففي العهد الأوَّل، انتزعها أبو بكر من أهل البيت عليهم السلام، كما مرّ تفصيل ذلك.

وردّها عمر إليهم على سبيل النظارة لا الإرث، كما هو ظاهر رواية البخاري ومُسلم المتقدِّمة، من أنَّ عمر قال للعبّاس وأميرالمؤمنين (ع) - كما في رواية مسلم في صحيحه -:

إنْ شِئتم دفعتها إليكما، على أنَّ عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالَّذي كان يعمل رسول الله (ص) ، فأخذتماها بذلك. قال: أكذلك؟ قالا: نعم. قال: ثُمَّ جئتماني لأقضي بينكما، ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك (1).

قال ابن حجر في شرحه لذيل الرّواية المتقدِّمة - والله لا أقضي بينكما إلاّ


1- صحيح مسلم، ج5، ص١5٣؛ صحيح البخاري، ج4، ص44.

ص:32

بذلك -:

«أي: إلا بما تقدَّم من تسليمها لهما على سبيل الولاية»(1).

وأقطعها عثمان لعدّو الله تعالى وطريد رسوله (ص) مروان بن الحكم، بعد أن آواه وزوَّجه ابنته. قال ابن عبد ربّه الأندلسي:

«وممَّا نقم النّاس على عثمان أنّه آوى طريد رسول الله الحكم بن أبي العاص. . . وأقطع فدك مروان، وهي صدقة لرسول الله»(2).

قال ابن حجر في «فتح الباري» :

فلمّا كان عثمان تصرَّف في فدك بحسب ما رآه، فروى أبو داود من طريق مغيرة بن مقسم، قال: جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان فقال: «إنّ رسول الله (ص) كان ينفق من فدك على بني هاشم، ويزوّج أيمهم. . . وكانت كذلك في حياة النّبيّ (ص) وأبي بكر وعمر، ثُمَّ أقطعها مروان، يعني في أيّام عثمان»(3).

وفي خلافة أمير المؤمنين (ع) الظاهر أنَّه استرجعها من مروان؛ لأنَّه عندما تولَّى معاوية أقطعها مروان بن الحكم مرّة ثانية. قال الطّبري في تاريخه:

وحجّ بالنّاس في هذه السنة مروان بن الحكم في قول عامَّة أهل السِير، وهو يتوقّع العزل؛ لمَوْجِدَة كانت من معاوية عليه، وارتجاعه منه فدك، وقد كان وهبها له(4).

وأورد ابن سعد في طبقاته، عن جعفر بن محمّد الأنصاري، قال:

ولَّى معاوية مروان بن الحكم المدينة، فكتب إلى معاوية يطلب إليه فدك، فأعطاه إيَّاها، فكانت بيد مروان، يبيع ثمرها بعشرة آلاف دينار كلّ سنة، ثُمَّ نزع مروان عن المدينة وغضب عليه معاوية، فقبضها منه، فكانت بيد وكيله بالمدينة، وطلبها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان من معاوية، فأبى معاوية أن يعطيه، وطلبها سعيد بن العاص، فأبى معاوية أن


1- فتح الباري، ج6، ص١45.
2- العقد الفريد، ابن عبد ربه، ج٢، ص٨٧.
3- فتح الباري، ج6، ص١4١.
4- تاريخ الطّبري، ج4، ص١٧٣، أحداث سنة تسع وأربعين.

ص:33

يعطيه، فلمّا ولَّى معاوية مروان المدينة المرّة الآخرة، ردَّها عليه بغير طلب من مروان، وردَّ عليه غلَّتها فيما مضى، فكانت بيد مروان (1).

ثُمَّ توالت عليها أيدي بني أُمية بعد مروان، حتّى خلصت لعمر بن عبدالعزيز بن مروان. قال البلاذري:

إنَّ عمر بن عبد العزيز خطب النّاس فقال: «إنّ فدك كانت ممَّا أفاء الله على رسوله، ولم يُوجِف المسلمون عليه بخَيل ولا رِكاب. . . ثُمَّ وَلِيَ معاوية، فأقطعها مروان بن الحكم، فوهبها مروان لأبي ولعبد الملك، فصارت لي وللوليد وسليمان، فلمَّا وليَ الوليد، سألته حصّته منها فوهبها لي، وسألت سليمان حصّته منها فوهبها لي، فاستجمعتُها، وما كان لي من مال أحبُّ (2)إليَّ منها، فاشهدوا أنِّي قد رددتُها إلى ما كانت عليه»(3).

ثُمَّ إنَّه قام بردِّها إلى ولد الزّهراء عليها السلام. قال ياقوت الحموي في «معجم البلدان» :

«فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، كتب إلى عامله بالمدينة يأمره بردِّ فدك إلى ولد فاطمة رضى الله عنها، فكانت في أيديهم في أيَّام عمر بن عبد العزيز»(4).

ولكن لمّا توفّي عمر بن عبد العزيز، وولي يزيد بن عبد الملك، أخذها من ولد فاطمة عليها السلام. قال ياقوت:

«فلمّا وُلِّي يزيد بن عبد الملك، قبضها، فلم تزل في أيدي بني أُمية»(5).

وفي زمن العبّاسيِّين ردَّها أبو العبّاس السّفاح - عندما تقلَّد الأمر - على عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين (ع) ، وأخذها أبو جعفر المنصور في زمانه منهم، وردَّها المهدي بن المنصور على ولد فاطمة عليها السلام، وأخذها موسى بن المهدي وأخوه من أيديهم، فلم تزل عندهم حتّى زمن المأمون، حيث ردَّها إلى أولاد فاطمة. قال ياقوت الحموي:


1- الطبقات الكبرى، محمّد بن سعد، ج5، ص٣٨٨.
2- هذه العبارة تحكي عن سعة فدك وكثرة وارداتها وخيراتها؛ ولذلك قال: إنّه ليس له مال أحبّ إليه منها.
3- فتوح البلدان، البلاذري، ج١، صص٣6 و ٣٧.
4- معجم البلدان، ياقوت الحموي، ج4، ص٢٣٩.
5- المصدر نفسه.

ص:34

وُليَّ أبو العبّاس السّفاح الخلافة، فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكان هو القيِّم عليها، يفرّقها في بني علي بن أبي طالب، فلمَّا وُليَّ المنصور، وخرج عليه بنو الحسن، قبضها عنهم، فلمَّا وُليَّ المهدي بن المنصور الخلافة، أعادها عليهم، ثُمَّ قبضها موسى الهادي، ومن بعده إلى أيّام المأمون(1).

وقال البلاذري:

ولمّا كانت سنة عشر ومائتين، أمر أمير المؤمنين المأمون عبدالله بن هارون الرشيد، فدفعها إلى ولد فاطمة، وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر، عامله على المدينة: «أمّا بعد. . وقد كان رسول الله (ص) أعطى فاطمة بنت رسول الله (ص) فدك، وتصدَّق بها عليها، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً، لااختلاف فيه بين آل رسول الله (ص) ، ولم تزل تدعى منه ما هو أولى به مَن صدق عليه، فرأى أمير المؤمنين أن يردّها إلى ورثتها، ويسلِّمها إليهم، تقرّباً إلى الله تعالى بإقامة حقِّه وعدله، وإلى رسول الله (ص) بتنفيذ أمره وصدقته» .

فأمر بإثبات ذلك في دواوينه، والكتاب به إلى عمَّاله. فلئن كان ينادى في كلِّ موسم - بعد أن قبض الله نبيّه (ص) -أن يذكر كلّ مَن كانت له صدقة أو هبة أو عِدة ذلك، فيقبل قوله وينفذ عدته، إنّ فاطمة عليها السلام لأولى بأن يُصدَّق قولها فيما جعل رسول الله (ص) لها.

وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطَبري، مولى أمير المؤمنين، يأمره بردِّ فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله (ص) بحدودها، وجميع حقوقها المنسوبة إليها، وما فيها من الرَقيق والغلاّت وغير ذلك، وتسليمها إلى. . .» (2).

ولمّا آل الأمرُ إلى المتوكّل، أخذها منهم، وأمر بردِّها إلى ما كانت عليه قبل المأمون. قال البلاذري:

«فلمّا استخلف المتوكلّ على الله، أمر بردِّها إلى ما كانت


1- معجم البلدان، ج4، ص٢٣٩.
2- فتوح البلدان، ج١، صص٣٧ و ٣٨.

ص:35

عليه قبل المأمون»(1).

ولمَّا تقلَّد المنتصر الأمر، ردَّها إلى ولد الزّهراء عليها السلام. قال ابن الأثير في تاريخه:

كان المنتصر عظيم الحلم. . . وأمر الناس بزيارة قبر علي والحسين عليهما السلام، وآمن العلويّين، وكانوا خائفين أيّام أبيه، وأطلق وقوفهم، وأمر بردِّ فدك إلى ولد الحسين والحسن، ابني علي بن أبي طالب (ع)(2).

فدك في خلافة أمير المؤمنين (ع)

ادَّعى إحسان ظهير أنَّ أمير المؤمنين (ع) تعامل مع فدك في خلافته وفق منهج الشيخين، أبي بكر وعمر، واستشهد على ذلك بعبارة نسبها للسيِّد المرتضى، قال:

. . . كما ذكره السيّد المرتضى، الملقَّب بعلم الهدى، إمام الشّيعة: «إنّ الأمر لمَّا وصل إلى علي بن أبي طالب، كُلِّم في ردِّ فدك، فقال: إنِّي لأستحيي من الله أن أردَّ شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر» (3).

وهذا ما سيأتي توضيحه لاحقاً إن شاء الله، ولكنّه - كعادته - يقوم بالتَدليس والتشويش على القارئ مرّة أُخرى للأسف الشّديد.

وهنا ينبغي التنبيه إلى أنَّ إحسان إلهي ظهير قد نقل تلك العبارة من كتاب «الشافي» للسيّد المرتضى، الّذي هو ردٌّ على كتاب «المغني» للقاضي عبد الجبار المعتزلي، وكان دَيدَن السيّد المرتضى نقل كلام القاضي أوَّلاً، ثُمَّ يذكر الجواب عليه بعد ذلك، ويستشهد على جوابه، حسب مقتضى المقام، بروايات من السنَّة، كما صرَّح بذلك بشكلٍ واضح، ولا يقتطع فقرة من الرّواية الّتي يذكرها، وإن كان بعضها خلاف مذهبه ومَبناه، وإنِّما يذكرها بشكل كامل في أغلب الأحيان، وهذا كلّه يحكي الأمانة العلمية للسيِّد المرتضى.


1- فتوح البلدان، ج١، ص٣٨.
2- الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج٧، ص١١6.
3- الشّيعة وأهل البيت، ص٨٩.

ص:36

غير أنّ إحسان ظهير دلَّس هنا في أكثر من موضع؛ فتارة ينسب عبارة القاضي إلى السيّد المرتضى، كما تقدَّم، وتارة أُخرى يقتطع فقرة من رواية سنيَّة أوردها السيّد المرتضى في مقام الردِّ على القاضي، وينسبها إلى السيّد المرتضى، كما في المورد.

وقد أصرّ إحسان ظهير على ذلك بشكل كبير، ولا نعرف السّبب الحقيقي وراء ذلك؛ هل أنَّه التبس الأمر عليه، أم قَصَد ذلك لأجل التّدليس والإيهام؟ !

ونحن لا نشكّ في قصده التّدليس في المورد؛ لوضوح عبارة السيّد المرتضى.

فقد ادّعى القاضي عبد الجبار في كتابه «المغني» بأنَّ فاطمة عليها السلام لمّا سمعت حجّة أبي بكر، كفَّت عن الطَلب. قال:

«إنّ فاطمة عليها السلام لمَّا سمعت ذلك، كفَّت عن الطلب، فأصابت أوَّلاً وأصابت آخراً»(1).

وأجابه السيّد المرتضى بأنَّ فاطمة عليها السلام إنِّما كفَّت عن الطلب الّذي هو المنازعة والمشاحّة، لكنَّها عليها السلام انصرفت مُغضبة مُتظلّمة مُتألِّمة، واستشهد على ذلك بروايات السنَّة، قال:

فلعمري أنَّها كفَّت عن الطّلب الّذي هو المنازعة والمشاحّة، لكنَّها انصرفت مُغضبة مُتظلِّمة مُتألِّمة، والأمر في غضبها وسخطها أظهر من أن يخفى على مُنصِف؛ فقد روى أكثر الرواة، الذين لا يُتَّهمون بتشيّع ولاعصبيّة فيه، من كلامها عليها السلام في تلك الحال، وبعد انصرافها عن مقام المنازعة والمطالبة؛ ما يدلّ على ما ذكرناه من سخطها وغضبها(2).

ثُمَّ ذكر السيّد المرتضى، خطبة الزّهراء عليها السلام كمثال من تلك الروايات، حيث نقلها من طريق عروة عن عائشة، ومن طريق عبيد الله بن محمّد بن حفص التّيمي (ابن عائشة) . وإليك نصّ كلام السيّد المرتضى في كتابه «الشّافي» ، حيث قال:

فأمَّا قوله: «إنّ فاطمة عليها السلام لمَّا سمعت ذلك كفَّت عن الطّلب، فأصابت أوَّلاً


1- المغني في الإمامة، القاضي عبد الجبار الأسد آبادي، ص٣٢٩.
2- الشافي في الإمامة، السيّد المرتضى، ج4، ص6٩.

ص:37

وأصابت آخراً» ، فلعمري أنَّها كفَّت عن الطّلب الّذي هو المنازعة والمشاحّة، لكنَّها انصرفت مُغضبة متظلِّمة متألِّمة، والأمر في غضبها وسخطها أظهر من أن يخفى على مُنصِف؛ فقد روى أكثر الرّواة، الذين لا يُتَّهمون بتشيّع ولا عصبية فيه، من كلامها عليها السلام في تلك الحال وبعد انصرافها عن مقام المنازعة والمطالبة، ما يدلّ على ما ذكرناه، من سخطها وغضبها.

ونحن نذكر من ذلك ما يُستدَلّ به على صحّة قولنا.

أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عمران المرزباني، قال: [حدَّثني محمّد بن أحمد الكاتب]، حدَّثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النّحوي، قال: حدَّثنا الزّيادي، قال: حدَّثنا الشّرقي بن القطامي عن محمّد بن إسحاق، قال: حدَّثنا صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة.

قال المرزباني: وحدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمّد المكّي، قال: حدَّثنا أبو العيناء محمّد بن القاسم السيمامي، قال: حدَّثنا ابن عائشة(1)، قال: «لمَّا قبض رسول الله (ص) ،

أقبلت فاطمة عليها السلام في لُمَّةٍ من حفدتها إلى أبي بكر» .

وفي الرّواية الأُولى قالت عائشة:

«لمَّا سمعت فاطمة عليها السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك، لاثَت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابِها، وأقبلت في لُمَّةٍ من حفدتها» .

ثُمَّ اجتمعت الروايتان من هاهنا:

ونساء قومها، تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (ص) ، حتّى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطتْ دونها مُلاءة، ثُمَّ أنَّتْ أنَّةً أجهش القوم لها بالبكاء، وارتجَّ المجلس، ثُمَّ أمهلت هُنيئة، حتّى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم،


1- ترجمه ابن حجر في «تقريب التهذيب» ، قال: «عبيد الله بن محمّد بن عائشة، اسم جدّه حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقيل له: ابن عائشة، والعائشي والعيشي نسبة إلى عائشة بنت طلحة؛ لأنَّه من ذرّيتها؛ ثقة، جواد، رمي بالقدر ولم يثبت، من كبار العاشرة، مات سنة ثمان وعشرين» ، ج١، ص6٣٨.

ص:38

افتتحت كلامها بالحمدلله عزّوجلّ والثّناء عليه، والصّلاة على رسوله (ص) ، ثُمَّ قالت: لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتّم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإنْ تعزّوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمِّي دون رجالكم، فبلّغ الرّسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن سُنن المشركين، ضارباً ثبجهم، يدعو إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذاً بأكظام المشركين، يهشم الأصنام ويفلق الهام، حتّى انهزم الجمع، وولُّوا الدبر، وحتّى تَفَرَّى الليل عن صبحه، وأسفَرَ الحقّ عن مَحضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شَقاشِق الشياطين، وتمَّت كلمة الإخلاص، وكنتم على شفا حفرة من النار، نُهْزة الطّامع ومَذقَة الشّارب، وقَبَسَة العجلان ومَوطأ الأقدام، تشربون الطَرق وتقتاتون القِدّ، أذلَّة خاسئين، يتخطَّفكم النّاس من حولكم، حتّى أنقذكم الله عزّوجلّ برسوله (ص) ، بعد اللُتيّا والتي، وبعد أن مُني بسهم الرجال وذؤبان العرب، ومَردة أهل النفاق، (كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله) ، ونجمَ قرن للشيطان، أو فغرَت للمشركين فاغِرة، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتّى يطأ صِماخها بأخمصه، ويطفئ عادية لهبها، أو قالت: ويخمد لَهبتها بحدِّه، مكدوداً في ذات الله، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون.

إلى ها هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة.

وزاد عروة بن الزبير عن عائشة:

حتّى إذا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه، ظهرت حسيكة النّفاق، وسمل جلباب الدّين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الآفكين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخاً بكم، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة ملاحظين، ثُمَّ استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضباً فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير شربكم. هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل. إنّما زعمتم ذلك خوف الفتنة أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ . (التوبه: 4٩)

فهيهات منكم، وأنّى بكم وأنّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، زواجره

ص:39

بيِّنة، وشواهده لائحة، وأوامره واضحة. أرغبة عنه تريدون، أم بغيره تحكمون؟ ! بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (الكهف: 5٠) ، ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: ٨5) . ثمّ لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها، تسرون حسواً في ارتغاء، ونصبر منكم على مثل حزِّ المدى، وأنتم الآن تزعمون ألاّ إرث لنا ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ؟ ! (المائده: 5٠)

يا ابن أبي قحافة، أترث أباك ولا أرث أبي؟ ! لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (مريم: ٢٧) ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحَكَم الله، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند السّاعة يخسر المبطلون لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (الانعام: 6٧) .

ثُمَّ انكفأت إلى قبر أبيها. .

قال: «فحمد الله أبو بكر وصلّى على محمّد وآله، وقال: يا خير النّساء، وابنة خير الأنبياء، والله ما عدوت رأي رسول الله (ص) ، ولا عملت إلاّ بإذنه، وأنَّ الرّائد لا يكذب أهله، وإنِّي أشهد الله وكفى بالله شهيداً، وإنِّي سمعت رسول الله (ص) ، يقول: «إنّا معاشر الأنبياء لا نُورِّث ذهباً ولا فضّة، ولا داراً ولا عقاراً، وإنِّما نورِّث الكتاب والحكمة، والعلم والنّبوة» .

قال: فلمّا وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب (ع) ، كُلِّم في ردِّ فدك، فقال: «إنِّي لأستحيي من الله أن أردَّ شيئاً منع منه أبوبكر وأمضاه عمر»(1).

فالنّاظر في كلام السيّد المرتضى، في المورد الّذي نقله إحسان إلهي ظهير، يجد من الواضح أنَّه بصدَد نقل خطبة الزّهراء عليها السلام من طرق السنَّة، كما يصرّح بذلك في قوله:

«فقد روى أكثر الرواة الذين لا يُتَّهمون بتشيُّع ولا عصبية فيه. من كلامها عليها السلام. . .» (2). والعبارة الّتي نسبها إلهي ظهير - كما يظهر من سياق كلامه المتقدِّم - إلى السيّد المرتضى، ليست له في الواقع، وإنَّما هي فقرة من رواية عروةبن الزبير عن عائشة، لخطبة الزّهراء عليها السلام، وقد أورد المرتضى هذه الخطبة


1- الشافي في الإمامة، ج4، صص6٨ - ٧6.
2- المصدر نفسه، ص6٨.

ص:40

بشكل كامل، كما رواها ابن عائشة وعروة بن الزّبير عن عائشة، من دون زيادة أو نقصان، وذلك في مقام الجواب على كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي الآنف.

وخلاصة جواب السيّد المرتضى هو: أنَّ الرّوايات السُنِّية - كرواية عروة بن الزّبير عن عائشة - صريحة الدّلالة على غضب الزّهراء عليها السلام وسخطها على الشّيخين، وتظلّمها وتألّمها وشكواها منهما. ونقْل السيّد المرتضى لها في ضمن الرّواية الّتي احتجّ بها، لايعني تبنِّيه لها، كما هو واضح.

وممّا يشهد لذلك، هو صدر كلام السيّد المرتضى - وذلك قبل الاحتجاج برواية عروة - حيث قال:

فلعمري أنَّها كفَّت عن الطلب الّذي هو المنازعة والمشاحّة، لكنّها انصرفت مُغضبة مُتظلّمة متألِّمة، والأمر في غضبها وسخطها أظهر من أن يخفى على مُنصِف(1).

فهذا الصّدر لا يتناسب إطلاقاً ولا يجتمع مع كلام عروة في ذيل الخطبة، حيث قال:

«إنّ الأمر لمّا وصل إلى علي بن أبي طالب، كُلِّم في ردِّ فدك، فقال: «إنّي لأستحيي من الله أن أردَّ شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر» . بل ويتنافى معه كما هو واضح؛ إذ إنَّ كلام عروة هذا يدلّ على الكفِّ والرضا، وهو عبارة أخرى عن دعوى القاضي عبد الجبار المتقدِّمة؛ حيث قال:

«إنَّ فاطمة عليها السلام لمّا سمعت ذلك، كفَّت عن الطلب، فأصابت أوّلاً وأصابت آخراً» .

وقد ردَّ ذلك السيّد المرتضى بشدّة، حيث قال:

«إنَّها كفَّت عن الطلب الّذي هو المنازعة والمشاحّة، لكنّها انصرفت مُغضبة مُتظلّمة مُتألِّمة»(2).

وأيضاً ترى بوضوح أنَّ المرتضى إنَّما احتجَّ بكلام الزّهراء عليها السلام برواية عروة بن الزّبير عن عائشة، ولم يحتجّ بمطلق كلام عروة، وتلك الفقرة هي من كلام عروة، ذكرها في ذيل روايته لخطبة الزّهراء عليها السلام، فبعد أن روى الخطبة بشكلٍ كامل، وما تخلَّلها من أخذٍ وردٍّ بين فاطمة عليها السلام وبين أبي بكر، أشار في الذيل لمصير فدك في


1- الشافي في الإمامة، ج4، ص6٨.
2- المصدر نفسه.

ص:41

خلافة أمير المؤمنين (ع) ؛ فرواية عائشة تتعلَّق فقط بخطبة الزّهراء عليها السلام.

وأمّا الذيل الّذي ذكره عروة، فهو حول مصير فدك في خلافة أميرالمؤمنين (ع) ، فليس هو من جملة رواية عائشة، وإنَّما هو من كلامه، ولا نعرف هدفه من وراء ذكره في ذيل الخطبة مع عدم ارتباطه بها.

ولعلّه لترميم التقريع الكبير لكلمات الزّهراء عليها السلام بحقِّ الشّيخين.

وممَّا يدلّ على أنَّ الزّهراء عليها السلام إنَّما كفَّت عن الطلب الّذي هو المنازعة والمشاحّة، لكنَّها انصرفت مُغضبة مُتظلّمة مُتألّمة، هو ما أخرجه البخاري في صحيحه من طريق عائشة، قالت:

إنَّ فاطمة عليها السلام، ابنة رسول الله (ص) ، سألت أبابكر الصدِّيق، بعد وفاة رسول الله (ص) ، أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله (ص) ، ممّا أفاء الله عليه. فقال لها أبو بكر: إنَّ رسول الله (ص) قال: «لا نورِّث، ما تركنا صدقة» . فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص) ، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفِّيت(1).

وأخرج في صحيحه من طريق عائشة أيضاً، قالت:

إنَّ فاطمة عليها السلام، بنت النّبيّ (ص) ، أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (ص) ، ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدَك، وما بقي من خُمس خيبر. . . فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلِّمه حتّى توفّيت. وعاشت بعد النّبيّ (ص) ستّة أشهر. فلمّا توفِّيت، دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يُؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها (2).

وأخرجه مسلم في صحيحه من طريق عائشة أيضاً، قالت:

إنَّ فاطمة بنت رسول الله (ص) أرسلت إلى أبي بكر الصدِّيق تسأله ميراثها من رسول الله (ص) ، ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدَك، وما بقي من خُمس


1- صحيح البخاري، ج4، ص4٢.
2- المصدر نفسه، ج5، ص٨٢.

ص:42

خيبر. . . فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك. قالت: فهجرته فلم تُكلِّمه حتّى توفِّيت. وعاشت بعد رسول الله (ص) ستّة أشهر، فلمّا توفّيت، دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلاً، ولم يُؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها علي(1).

فحديث عائشة صريحة الدلالة على مطالبة الزّهراء عليها السلام بفدك وإرثها من رسول الله (ص) ، وأنَّ أبا بكر منعها ذلك، وأنَّها لم تقبل حجَّته، وغضبت عليه حتّى وفاتها، ومُنِع من الصّلاة عليها، مُبالغةً في غضبها عليه بوصيّة منها عليها السلام، كما صرَّحت بذلك بعض الرّوايات الّتي لا مجال لذكرها هنا.

مضافاً إلى أنَّ ما ادَّعاه عروة وإحسان ظهير محرَّف عن وجهه؛ إذ إنَّ أميرالمؤمنين (ع) لم يقل: (إنّي لأستحيي من الله) ، وإنَّما كان حياؤه (ع) من النّاس؛ لئلّا يتَّهموه بأنَّه ينحازُ لقرابته، ويجرّ النفع لنفسه بإرجاع فدك إلى ورثة الزّهراء عليها السلام. وتُهمة جرّ النفع لنفسه هي الّتي أطلقها الشّيخان، وردَّا بها شهادة أمير المؤمنين (ع) لفاطمة عليها السلام.

وقد وردت الرّواية بوجهها الصّحيح في كتاب «رشح الولاء» ، ففيه:

قال الحسن والحسين عليهما السلام لأبيهما علي (ع) زمان خلافته: رُدَّ علينا يا أميرالمؤمنين فدك؛ فإنَّك تعلم أنَّها حقُّنا. فقال (ع) : لا شبهة في أنَّ الحقّ حقُّكما والإرْثَ إرْثُكُما، إلاّ أنَّ الوُلاةَ الماضين منعوكما ذلك، ومضى عليه الأَوَّلون، واقتدى به الآخرون، وأنا أَستحيي أن أردّها إليكما، مع علمي أنَّها حقُّكُما. نعم، لو استوت قدماي في هذه المداحض، لغيَّرْتُ أشياء(2).

فهذا الحديث صريح الدّلالة على أنَّ أمير المؤمنين (ع) يرى أنَّ الحقّ حقّهما، والإرث إرثهما، ولا شبهة في ذلك، لكنَّ مَن قَبْلَهُ ظلموا وسار النّاس على ظلمهم، ولو استوت قدماه (ع) في تلك المداحض والمزالق لغيَّرها.


1- صحيح مسلم، ج5، صص١5٣ و ١54.
2- رشح الولاء في شرح الدعاء، الحافظ أسعد بن عبد القاهر الإصفهاني، ص١١5.

ص:43

وأين هذا من زعم عروة وإحسان ظهير؟ !

وسيأتي مزيد بيان تحت عنوان (ترسُّخ سنَّة مَن سبقه من الخلفاء) .

موقف أميرالمؤمنين (ع) من فدَك

إنَّ التّاريخ لم يسجّل لنا بصورة واضحة مصير فدك في خلافة أميرالمؤمنين (ع) ، إلاّ أنَّ الثابت أنَّها كانت بيد مروان قبل خلافة الإمام (ع) ، حيث أقطعها له عثمان بعد أن زوَّجه ابنته كما تقدّم.

ومن الواضح أيضاً، وفقاً للثابت من عدالة أمير المؤمنين (ع) وسياسته في خلافته، أنَّه أرجع الأمور إلى نصابها، خصوصاً تلك الأمور الّتي سبَّبت النقمة على عثمان، وأجَّجت الوضع عليه. وبلا شكّ كانت سياسته الاقتصاديّة في مقدّمتها؛ فقد أخرج الطبري بسنده إلى عبد الله بن الزّبير عن أبيه، قال:

كتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ويحتجّون، ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبداً حتّى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من حقّ الله. . . فأرسل إلى عليٍّ فدعاه, فلمّا جاءه، قال: يا أبا الحسن, إنَّه قد كان من النّاس ما قد رأيت، وكان منّي ما قد علمت، ولست آمنهم على قتلي، فاردِدهم عنِّي، فإنَّ لهم الله عزّ وجل أن أعتبهم من كلِّ ما يكرهون، وأن أعطيهم الحقّ من نفسي ومن غيري، وإن كان في ذلك سفك دمي.

فقال له علي: النّاس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك، وإنِّي لأرى قوماً لا يرضون إلاّ بالرضى، وقد كنتُ أعطيتهم في قدمتهم الأُولى عهداً من الله لترجعنَّ عن جميع ما نقموا، فرددتهم عنك، ثُمَّ لم تفِ لهم بشيء من ذلك، فلا تغرّني هذه المرّة من شيء، فإنِّي معطيهم عليك الحقّ.

قال: نعم فأعطهم، فوالله لأفيَنَّ لهم.

فخرج عليٌّ إلى النّاس فقال: أيّها النّاس، إنّكم إنَّما طلبتم الحقّ فقد أعطيتموه، إنّ عثمان قد زعم أنَّه منصفكم من نفسه ومن غيره، وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه ووكدوا عليه.

قال النّاس: قد قبلنا، فاستوثق منه لنا، فإنّا والله لا نرضى بقول دون فعل.

ص:44

فقال لهم عليٌّ: ذلك لكم. ثُمَّ دخل عليه فأخبره الخبر، فقال عثمان:

اضرب بيني وبينهم أجلاً يكون لي فيه مُهلة، فإنِّي لا أقدر على ردِّ ما كرهوا في يوم واحد.

قال له علي: ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك.

قال: نعم، ولكن أجّلني فيما بالمدينة ثلاثة أيّام.

قال علي: نعم. فخرج إلى النّاس فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتاباً أجله فيه ثلاثاً، على أن يردّ كلّ مظلمة ويعزل كلّ عامل كرهوه. ثُمَّ أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق، وأشهد عليه ناساً من وجوه المهاجرين والأنصار، فكفَّ المسلمون عنه، ورجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه. فجعل يتأهَّب للقتال، ويستعد بالسّلاح، وقد كان اتَّخذ جنداً عظيماً من رقيق الخمس. فلمَّا مضت الأيام الثلاثة، وهو على حاله لم يغيِّر شيئاً ممّا كرهوه، ولم يعزل عاملاً، ثار به النّاس(1).

وقال الذّهبي:

«ونقم جماعة على أمير المؤمنين عثمان؛ كونه عطف على عمِّه الحكم وآواه وأقدمه المدينة، ووصله بمائة ألف»(2).

وأخرج البلاذري في أنسابه، بسنده إلى الزّهري، قال:

كان ممَّا عابوا على عثمان، أن عزل سعد بن أبي وقاص، وولّى الوليد بن عقبة، وأقطع آل الحكم دُوراً بناها، واشترى لهم أموالاً، وأعطى مروان بن الحكم خمس إفريقيا، وخصَّ ناساً من أهله ومن بني أُمية. . . وقال عبدالله بن الأرقم، خازن بيت المال، وصاحبه: اقبض عنَّا مفاتيحك، فلم يفعل، وجعل يستسلف ولا يردّ، فجاء عبد الله بالمفاتيح هو وصاحبه يوم الجمعة، فوضعاها على المنبر وقالا: هذه مفاتيح بيت مالكم - أو قالا: مفاتيح خزائنكم - ونحن نبرأ إليكم منها. . (3).


1- تاريخ الطّبري، ج٣، صص4٠٣ و 4٠4؛ وانظر: الكامل في التاريخ، ج٣، صص١6٩ و١٧٠.
2- سير أعلام النبلاء، ج٢، ص١٠٨.
3- أنساب الأشراف، ج6، صص ٢٠٨ و ٢٠٩.

ص:45

وقد كان من أولويَّات حكومة أمير المؤمنين (ع) هي إصلاح الخلل الاقتصادي والفساد المالي الّذي عانت منه الحكومات السّابقة؛ ولذا فقد أخذ الإمام (ع) في الأيام الأُولى لخلافته المباركة كلّ القطائع الّتي أقطعها عثمان، ومنها فدَك، حيث كان عثمان قد أقطعها لمروان كما تقدَّم، فأخذها أمير المؤمنين (ع) وأعادها إلى بيت المال. ففي رواية ابن عباس، قال:

إنَّ علياً (ع) خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: ألا إنَّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإنَّ الحقّ القديم لا يُبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوّج به النّساء، وفرّق في البلدان، لرددتُه إلى حاله؛ فإنَّ في العدل سِعة، ومَن ضاق عنه الحقّ، فالجور عليه أضيق(1).

ومن كلام للإمام (ع) فيما ردَّه على المسلمين من قطائع عثمان:

«والله لو وجدته قد تزوّج به النساء ومُلك به الإماء، لرددته؛ فإنَّ في العدل سِعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» (2).

لماذا لم يُرجِع أمير المؤمنين فدك لأهل البيت عليهم السلام؟

اشاره

لم يثبت أنَّ أمير المؤمنين (ع) قد أرجع فدك إلى أهل البيت عليهم السلام، بل توجد روايات من طرق الشّيعة تؤكِّد أنَّه (ع) لم يرجعها؛ فقد روى الشّيخ الصّدوق في «علل الشّرائع» ، بسنده عن إبراهيم الكرخي، قال:

سألت أبا عبد الله (ع) فقلت له: لأيِّ علّة ترك علي بن أبي طالب (ع) فدك، لمّا ولي الناس؟ ! فقال: للاقتداء برسول الله (ص) لمَّا فتح مكَّة، وقد باع عقيل بن أبي طالب داره، فقيل له: يا رسول الله ألا ترجع إلى دارك؟ فقال (ص) : وهل ترك عقيل لنا داراً؟ ! إنّا أهل بيت لا نسترجع شيئاً يُؤخَذ منّا ظلماً. فلذلك لم يسترجع فدك لمّا ولي (3).


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج١، ص٢6٩.
2- نهج البلاغة، ج١، ص46.
3- علل الشرائع، الشّيخ الصّدوق، ج١، ص١55.

ص:46

وسيأتي الكلام عن رواية الشّيخ الصّدوق هذه في علل الشّرائع لاحقاً.

ومن هنا انبثق هذا الإشكال، وهو أنَّ عدم إرجاع أمير المؤمنين (ع) فدك إلى أهل البيت عليهم السلام في خلافته، يكشف عن رضاه (ع) بتصرّف الشّيخين فيها.

لكنَّ هذا الإشكال واضح البطلان، ويمكن الإجابة عنه من خلال النّقاط التّالية:

١. تصريح الإمام (ع) بأنَّ فدك حقّ فاطمة عليها السلام

إنّ عدم إرجاع أمير المؤمنين (ع) فدك في خلافته لأهل البيت عليهم السلام، لا يكشف عن رضاه (ع) بتصرُّف الشّيخين فيها؛ لتصريحه (ع) سابقاً بكونها حقّ فاطمة عليها السلام، وأنَّ الشّيخين قد أخذاها منها عليها السلام.

وقد سجّل لنا التّاريخ بكلّ وضوح هذه الإدانة من أمير المؤمنين (ع) لموقف الشّيخين إزاء فدك، وأنَّه (ع) كان يراها من جملة حقوقهم الّتي أُخذت منهم، كما في رواية مسلم في الصّحيح الّتي تقدّم ذكرها، من أنَّ عمر قال لأمير المؤمنين (ع) والعبّاس، بعد أن جاءا إليه وطالباه بإرث رسول الله (ص) وفدك:

. . . فلمَّا توفّي رسول الله (ص) ، قال أبو بكر: أنا وليُّ رسول الله (ص) ، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول الله (ص) : "ما نورِّث، ما تركنا صدقة"، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً. . . ثُمَّ توفِّي أبو بكر وأنا وليّ رسول الله (ص) ، ووليّ أبي بكر، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً. . . فولَّيتها، ثُمَّ جئتني أنت وهذا، وأنتما جميع وأمركما واحد، فقُلتما: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما، على أنَّ عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالّذي كان يعمل رسول الله (ص) ، فأخذتماها بذلك. قال: أكذلك؟ قالا: نعم. قال: ثُمّ جئتماني لأقضي بينكما. ولا والله، لا أقضي بينكما بغير ذلك حتّى تقوم السّاعة، فإن عجزتما عنها، فردّاها إليّ(1).

فهذا الحديث صريح الدّلالة على أنَّ أمير المؤمنين (ع) كان يعتقد بأنَّ فدك حقّ


1- صحيح مسلم، ج5، صص١5٢ و ١5٣.

ص:47

الزّهراء عليها السلام، ولذا طالب عمر بإرجاعها إليه (عليٌ) . فقوله:

«ثُمّ جئتماني الآن تختصمان، يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا أريد نصيبي من امرأتي» ، صريح في تخاصمهما - حسب زعمه - في الإرث، لا في ولاية الصدقات، ويشهد له قول عمر - بعد ذلك -:

«والله لا أقضي بينكما إلاّ بذلك» ، أي: إلاّ بما تقدَّم من تسليمها لهما على سبيل الولاية.

وقد صرّح ابن حجر بذلك، قال:

ولفظه في آخره "ثُمَّ جئتماني الآن تختصمان، يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا أريد نصيبي من امرأتي. والله لا أقضي بينكما إلاّ بذلك"، أي: إلاّ بما تقدَّم من تسليمها لهما على سبيل الولاية(1).

وسيأتي تفصيل الكلام عن هذا الحديث ودلالته لاحقاً (2).

وأخرج الطبراني، بسنده عن عمر، قال:

لمّا قُبض رسول الله (ص) ، جئت أنا وأبو بكر إلى علي، فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله (ص) ؟

قال: نحن أحقّ النّاس برسول الله وبما ترك.

قال: فقلت والّذي بخيبر؟

قال: والّذي بخيبر.

قلت: والّذي بفدك؟

فقال: والّذي بفدك.

قلت: أما والله حتّى تحزّوا رقابنا بالمناشير(3).

٢. لم يُرجع أمير المؤمنين (ع) فدك لمُبرّرات موضوعية
اشاره

إنَّ الباحث في خلافة أمير المؤمنين (ع) والظروف الّتي أحاطت بها، يقف على


1- فتح الباري، ج6، ص١45.
2- وذلك عند مناقشة حديث «لا نورّث ماتركنا صدقة» ، تحت عنوان: «ثالثاً: أمير المؤمنين ع والعباس لم يسمعا بحديث «لا نورّث»» .
3- المعجم الأوسط، الطّبراني، ج5، ص٢٨٨.

ص:48

أسباب عدم إرجاعه (ع) فدك لأهل البيت عليهم السلام في خلافته، وهذه لمحة لبعض من تلك الأسباب والمبرّرات:

أ. ترسُّخ سُنَّة مَن سبقه من الخلفاء

إنّ من الواضح تاريخيّاً أنَّ أمير المؤمنين (ع) استلم خلافة الرّسول (ص) بعد مرور ما يقارب خمساً وعشرين سنة من رحيل النّبيّ الخاتم (ص) ، في الوقت الّذي سنَّت فيه الحكومات السابقة كثيراً من القوانين، وأحكمت العديد من السُنن الّتي ترسّخت في صدور كثير من المسلمين، بحيث كان من غير الممكن تغييرها بهذه البساطة والعجالة. ومن تلك الأمور الّتي أقرّوها هي أنَّ فدك من جملة تركة الرّسول (ص) ، وأنَّه لا يورِّث، وما تركه صدقة. فتغيير هذا الأمر ومُخالفته بشكل سريع يولِّد قراءة خاطئة لخلافة الإمام (ع) ؛ بحيث يُفهم منه أنَّه استغلّ الوضع لصالحه، ممَّا سيساهم في تعقيد الأمور أكثر ممَّا هي عليه عقب فتنة عثمان.

وفي بعض الرّوايات الشّيعيّة إشارة لهذا المعنى؛ فقد روى الشّيخ الكليني في الكافي، بسنده عن سليم بن قيس الهلالي، أنَّ أمير المؤمنين (ع) أقبل بوجهه، وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته، فقال:

قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله (ص) ، متعمِّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مُغيِّرين لسُنّته، ولو حملتُ الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها، وإلى ما كانت في عهد رسول الله (ص) ؛ لتفرق عنِّي جندي، حتّى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرضِ إمامتي من كتاب الله عزّوجلّ، وسنّة رسول الله (ص) .

أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم (ع) ، فرددته إلى الموضع الّذي وضعه فيه رسول الله (ص) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام، ورددتُ صاع رسول (ص) كما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله (ص) لأقوام لم تمضِ لهم ولم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد، ورددت قضايا من الجور قُضي بها، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حقّ، فرددتهنّ إلى أزواجهن، واستقبلت بهنَّ الحكم في الفروج والأرحام،

ص:49

وسبيت ذراري بني تغلب، ورددت ما قُسم من أرض خيبر، ومحوت دواوين العطايا، وأعطيت كما كان رسول الله (ص) يُعطي، بالسوية، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء، وألقيت المساحة، وسوَّيت بين المناكح، وأنفذت خمس الرّسول كما أنزل الله عزّوجلّ وفرَضَه، ورددت مسجد رسول الله (ص) إلى ما كان عليه، وسددت ما فتح فيه من الأبواب، وفتحت ما سُدَّ منه، وحرّمت المسح على الخفَّين، وحددت على النبيذ، وأمرت بإحلال المُتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأخرجت مَن أُدخل مع رسول الله (ص) في مسجده، ممَّن كان رسول الله (ص) أخرجه، وأدخلت مَن أُخرج بعد رسول الله (ص) ، ممَّن كان رسول الله (ص) أدخله، وحملت الناس على حكم القرآن، وعلى الطلاق على السُنّة، وأخذت الصّدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصّلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنَّة نبيّه (ص) . . ؛ إذاً لتفرّقوا عنّي.

والله لقد أمرت النّاس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاَّ في فريضة، وأعلمتهم أنَّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري، ممَّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام، غُيِّرت سنَّة عمر، ينهانا عن الصّلاة في شهر رمضان تطوُّعاً. ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري. . .(1)

وفي الرّوايات السّنية أنَّ هذا الأمر بعينه حدث لرسول الله (ص) ؛ حيث أبقى بعض الأمور من دون تغيير؛ لعدم تحمّل نفوس القوم.

فقد أخرج البخاري في صحيحه، بسنده عن عائشة، : أنَّ رسول الله (ص) قال لها:

«ولولا أنَّ قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تُنكر قلوبهم أن أُدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض»(2).

وأخرج عنها - بلفظ آخر - أنَّ رسول الله (ص) قال:

«لولا حداثة قومك بالكفر،


1- الكافي، ج٨، صص5٨ - 6٣.
2- صحيح البخاري، ج٢، ص١56؛ ج٨، ص١٣٢.

ص:50

لنقضتُ البيت ثُمَّ لبنيته على أساس إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام؛ فإنَّ قريشاً استقصرت بناءه، وجعلت له خلفاً»(1).

وأخرج عنها - بلفظ آخر - أنّ رسول الله (ص) قال:

لولا أنَّ قومك حديث عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهُدم، فأدخلت فيه ما أُخرج منه، (وألزقته) بالأرض، وجعلت له بابين، باباً شرقياً وباباً غربياً، فبلغتُ به أساس إبراهيم.

فذلك الّذي حمل ابن الزُبير عليه هدمه(2).

وأخرج مسلم في صحيحه، بسنده عن عائشة أيضاً، قالت:

سمعت رسول الله (ص) يقول: "لولا أنَّ قومك حديثو عهد بجاهلية (أو قال بكفر) ، لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحجر"(3).

وأخرجه النسائي في «السُنن الكبرى» عن عائشة أيضاً، قالت:

«إنَّ رسول الله (ص) قال: " لولا أنَّ قومك حديثو عهد بجاهلية، لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين". فلمَّا ملك ابن الزبير، جعل لها بابين»(4).

وبلفظ آخر، قالت:

إنَّ رسول الله (ص) قال: "ألم تري أنَّ قومك حين بَنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ ! " فقلت: يا رسول الله، ألا تردّها على قواعد إبراهيم؟ قال: "لولا حدثان قومك بالكفر"(5).

فإذا كان هذا شأن رسول الله (ص) مع القوم، فأمير المؤمنين أعذر. خصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار الآيات الكريمة الّتي تأمر بطاعة الرّسول (ص) والاستِنان بسُنَّته، كقوله تعالى: ( قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ


1- صحيح البخاري، ج٢، ص١56.
2- المصدر نفسه.
3- صحيح مسلم، ج4، ص٩٨.
4- السنن الكبرى، ج٣، ص454.
5- المصدر نفسه، صص454 و 455.

ص:51

يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: ٣٢) ، وقوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21) ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النازلة في هذا الشأن.

وقد روي في مصادرنا الكثير من هذه الروايات الّتي تكشف عن كثير من الملابسات، وتزيح الستار عن الغموض الّذي يعتري حوادث تلك الحُقبة من التّاريخ الإسلامي، وخصوصاً المتعلَّق منها بموقف أمير المؤمنين (ع) من الثلاثة المتقدِّمين عليه بشكلٍ عام، وليس في خصوص فدك فقط.

فقد روى الشّيخ الصّدوق في «علل الشّرائع» من طريق ابن مسعود، قال:

احتجّوا في مسجد الكوفة، فقالوا: ما بال أمير المؤمنين (ع) لم يُنازع الثلاثة كما نازع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية؟

فبلغ ذلك عليّاً (ع) ، فأمر أن يُنادى بالصّلاة جامعة، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال: " معاشر النّاس، إنّه بلغني عنكم كذا وكذا. . ".

قالوا: صدق أمير المؤمنين، قد قلنا ذلك.

قال: " فإنَّ لي بسنّة الأنبياء أُسوة فيما فعلت، قال الله عزّ وجلّ في كتابه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ".

قالوا: ومَن هم يا أمير المؤمنين؟

قال: " أوَّلهم إبراهيم (ع) ، إذ قال لقومه: ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (مريم: 4٨) . فإن قلتم إنَّ إبراهيم اعتزل قومه لغير مكروه أصابه منهم، فقد كفرتم، وإن قلتم اعتزلهم لمكروه رآه منهم، فالوصيّ أعذر.

ولِي بابن خالته لوط، أُسوة، إذ قال لقومه: ( قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (هود: ٨٠) . فإن قلتم إنَّ لوطاً كانت له بهم قوّة، فقد كفرتم، وإن قلتم لم يكن له قوّة، فالوصي أعذر.

ولِي بيوسف (ع) أُسوة، إذ قال: ( ربِّ السِجن أحَب إليّ ممَّا يدعونني إليه) (يوسف: ٣٣) . فإن قلتم إنَّ يوسف دعا ربّه وسأله السجن لسخط ربّه، فقد كفرتم، وإن قلتم إنَّه أراد بذلك لئلاّ يسخط ربّه عليه فاختار السجن،

ص:52

فالوصي أعذر.

ولِي بموسى (ع) أُسوة، إذ قال: ( فَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) (الشعراء:٢١) .

فإن قلتم إنَّ موسى فرَّ من قومه بلا خوف كان له منهم، فقد كفرتم، وإن قلتم إنَّ موسى خاف منهم، فالوصيّ أعذر.

ولِي بأخي هارون (ع) أسوة، إذ قال لأخيه: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي (الاعراف:١5٠) .

فإن قلتم لم يستضعفوه ولم يشرفوا على قتله، فقد كفرتم، وإن قلتم استضعفوه وأشرفوا على قتله فلذلك سكت عنهم، فالوصيّ أعذر.

ولِي بمحمّد (ص) أُسوة حين فرَّ من قومه ولحق بالغار من خوفهم، وأنامَني على فراشه. فإن قلتم فرَّ من قومه لغير خوف منهم، فقد كفرتم، وإن قلتم خافهم وأنامَني على فراشه ولحق هو بالغار من خوفهم، فالوصيّ أعذر(1).

ب. تَبعات خلافة عثمان

جاءت خلافة أمير المؤمنين (ع) إثر انقضاء خلافة عثمان، الّتي خلّفت تركة ثقيلة من المشاكل والفتن الّتي سبّبتها سياساته الخاطئة وسوء إدارته، لا سيّما الماديّة الّتي أثارت سخط الأُمّة على دار الخلافة، وأجَّجت الوضع على حكومته، حتّى انتهى الأمر إلى مقتله.

فقد جاء في تاريخ الطّبري عن عبد الرحمن بن يسار، قال:

لمَّا رأى النّاس ما صنع عثمان، كتب مَن بالمدينة من أصحاب النّبيّ (ص) إلى مَن بالآفاق منهم، وكانوا قد تفرَّقوا في الثغور: إنَّكم إنَّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجلّ، تطلبون دين محمّد (ص) . فإنَّ دين محمّد قد أُفسد من خلفكم وتُرك، فهلمُّوا فأقيموا دين محمّد (ص) . فأقبلوا من كلّ أُفق حتّى قتلوه(2).

وذكر ابن الأثير في تاريخه في أحداث سنة (٣4ه) ، قال:


1- علل الشّرائع، ج١، صص١4٨ و ١4٩.
2- تاريخ الطّبري، ج٣، صص4٠٠ و 4٠١.

ص:53

في هذه السنة تكاتب نفرٌ من أصحاب رسول الله (ص) وغيرهم بعضهم إلى بعض: أن أقدموا، فإنَّ الجهاد عندنا. وعظم الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نِيل من أحد، وليس أحد من الصّحابة ينهي ولايذبّ إلاّ نفر، منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسّان بن ثابت(1).

وجاء في «تاريخ الإسلام» للذهبي:

« وكان أصحاب النّبيّ (ص) ، الذين خذلوه، كرهوا الفتنة، وظنُّوا أنَّ الأمر لا يبلغ قتله، فلمّا قُتل، ندموا على ما ضيَّعوه في أمره»(2) .

وقد كانت عائشة ابنة أبي بكر في مقدِّمة المحرِّضين على عثمان؛ فكانت تارة تتَّهمه بالكفر، وتحثّ على قتله. فقد أخرج الطّبري في تاريخه، بسنده إلى أسد بن عبد الله، قال:

عمَّن أدرك من أهل العلم: إنَّ عائشة لمّا انتهت إلى سَرِف، راجعة في طريقها إلى مكة، لقيها عبد ابن أُمّ كلاّب، وهو عبد ابن أبي سلمة، يُنسَب إلى أُمّه، فقالت له: مَهْيَم؟ قال: قتلوا عثمان فمكثوا ثمانياً. قالت: ثُمَّ صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالاجتماع، فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز، اجتمعوا على علي بن أبي طالب. فقالت: والله ليت أنَّ هذه انطبقت على هذه إن تمَّ الأمر لصاحبك. ردّوني. . ردّوني. فانصرفت إلى مكّة وهي تقول: قُتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبنَّ بدمه. فقال لها ابن أُمّ كلاّب: ولمَ؟ ! فوالله إنَّ أوّل مَن أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، قالت: إنَّهم استتابوه ثُمَّ قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل. فقال لها ابن أمّ كلاّب:

منكِ البداء ومنكِ الغير


1- الكامل في التاريخ، ج٣، صص١5٠ و ١5١.
2- تاريخ الإسلام، ج٣، ص 44٨.

ص:54

وقد بايع الناس ذا تُدرأ

فانصرفت إلى مكَّة فنزلت على باب المسجد، فقصدت للحجر فسترت واجتمع إليها النّاس، فقالت: يا أيّها النّاس، إنَّ عثمان قُتل مظلوماً، ووالله لأطلبنّ بدمه(1).

وكان عثمان إذا نِيل منه وعيب، نُعت ب-

(نعثل)(2).

وكانت تارة ثالثة تنعته بالطّاغية، وتنهى عن الدفع عنه؛ فقد جاء في الأنساب:

ومرّ عبد الله بن عباس بعائشة، وقد ولاّه عثمان الموسم، وهي بمنزل من منازل طريقها، فقالت: يا بن عباس، إنَّ الله قد أتاك عقلاً وفهماً وبياناً، فإيّاك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية(3).

وكانت تارة رابعة تُخرج قميص رسول الله (ص) وشَعراً من شَعره وتقول: إنَّ عثمان أبلى سنّة الرّسول (ص) قبل أن يبلى ثوبه وشَعره. فقد أخرج البلاذري في الأنساب، من طريق عباس بن هشام بن محمّد، عن أبي مخنف في إسناده، قال:

وبلغ عائشة ما صنع بعمّار، فغضبت وأخرجت شَعراً من شَعرِ رسول الله (ص) ، وثوباً من ثيابه، ونعلاً من نعاله، ثُمَّ قالت: ما أسرع ما تركتم سنَّة نبيّكم، وهذا شعره وثوبه ونعله ولم يَبْل بعد. فغضب عثمان غضباً شديداً، حتّى ما درى ما يقول، فالتجَّ المسجد وقال النّاس: سبحان الله. . سبحان الله (4).

وفيه من طريق الزّهري، قال:

« وأطلعت عائشة شَعراً من شَعر رسول الله (ص) ، ونعله، وثياباً من ثيابه - فيما يحسب وهب - ثُمّ قالت: ما أسرع ما تركتم سنَّة نبيّكم»(5) .


1- تاريخ الطّبري، ج٣، ص4٧٧؛ الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج٣، ص٢٠6.
2- قال الجوهري: «نعثل: اسم رجل كان طويل اللحية، وكان عثمان إذا نيل منه وعيب شُبِّه بذلك الرجل؛ لطول لحيته» . الصحاح، ج5، ص١٨٣٢؛ وانظر: لسان العرب، ج١١، ص6٧٠.
3- أنساب الأشراف، ج٢، ص٢٨٧.
4- المصدر نفسه، ص٢٧5.
5- المصدر نفسه، ص٢٩٢.

ص:55

وجاء في «الاستيعاب» لابن عبد البر:

وكان الأحنف عاقلاً حليماً، ذا دين وذكاء، وفصاحة ودهاء. لمّا قدمت عائشة البصرة، أرسلت إليه فأتاها، فقالت: ويحك يا أحنف، بمَ تعتذر إلى الله من ترك جهاد قتلة أمير المؤمنين عثمان، أمِن قلّة عدد، أو أنّك لا تُطاع في العشيرة؟ قال: يا أمّ المؤمنين، ما كبرت السنّ ولاطال العهد، وإنَّ عهدي بك عام أوّل تقولين فيه وتنالين منه. قالت: ويحك يا أحنف، إنَّهم ماصُوه مَوص الإناء ثُمَّ قتلوه. قال: يا أمّ المؤمنين، إنِّي آخذ بأمرك وأنت راضية، وأدعه وأنت ساخطة(1).

كذلك طلحة بن عبيد الله كان هو الآخر في مقدِّمة المؤلِّبين على عثمان أيضاً، فقد أخرج البلاذري في أنسابه عن ابن سيرين أنَّه قال:

«لم يكن أحد من أصحاب النّبيّ (ص) أشدّ على عثمان من طلحة»(2).

وجاء في «الأنساب» أيضاً:

ومرَّ مجمع بن جارية الأنصاري بطلحة بن عبيد الله، فقال: يا مجمع، ما فعل صاحبك؟ قال: أظنّكم والله قاتليه. فقال طلحة: فإن قُتل، فلا مَلَك مقرَّب ولا نبي مُرسَل(3).

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنَّفه، بسنده عن حكيم بن جابر، قال:

لمّا حصر عثمان، أتى على طلحة، وهو مستند إلى وسائد في بيته، فقال: أُنشدك الله، ما رددت النّاس عن أمير المؤمنين، فإنَّه مقتول. فقال طلحة: لا والله، حتّى تعطي بنو أُمية الحقّ من أنفسها(4).

بل ورد أنَّ الّذي أمرَ بقطع الماء عن عثمان هو طلحة؛ فقد جاء في (الأنساب) أيضاً، قال أبو مخنف وغيره:

واشتدَّ عليه طلحة بن عبيد الله في الحصار، ومنع من أن يدخل إليه


1- الاستيعاب، ابن عبد البر، ج٢ ص٧١6.
2- أنساب الأشراف، ج6، ص٢٠١.
3- المصدر نفسه، ص١٩٢.
4- المُصنّف، ابن أبي شيبة الكوفي، ج٧، ص٢٧6.

ص:56

الماء، حتّى غضب عليّ بن أبي طالب من ذلك، فأُدخلت عليه رَوايا الماء(1).

وقال ابن حجر:

وأخرج يعقوب بن سفيان، بسندٍ صحيح، عن قيس بن أبي حازم: أنَّ مروان بن الحكم رأى طلحة في الخيل فقال: هذا أعان على عثمان، فرماه بسهم في رُكبته، فما زال الدم يسيح حتّى مات(2).

كذلك كان في مقدِّمة المؤلّبين على عثمان جماعة من كبار الصّحابة، منهم عبد الرّحمن بن عديس البلوي، فقد قال فيه العيني عن ابن وضّاح:

«إمام الفتنة هو عبد الرّحمن بن عديس البلوي، وهو الّذي جلب على عثمان أهل مصر»(3).

وقال ابن عبد البر في «الاستيعاب» ضمن ترجمته:

كان عبد الرّحمن بن عديس البلوي ممَّن بايع تحت الشّجرة رسول الله (ص ) .

قال أبو عمر: " هو كان الأمير على الجيش القادمين من مصر إلى المدينة، الذين حصروا عثمان وقتلوه"(4).

ومنهم محمّد بن أبي حذيفة، فقد قال فيه ابن حجر ضمن ترجمته:

محمّد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة. . . ذكره الواقدي فيمَن كان يكنّى أبا القاسم، واسمه محمّد.

من الصَحابة, واستشهد أبوه أبو حذيفة باليمامة، فضمَّ عثمان محمّداً هذا إليه وربّاه، فلمَّا كبر واستخلف عثمان، استأذنه في التوجّه إلى مصر، فأذن له، فكان من أشدِّ النّاس تأليباً عليه. . .(5).

وقال فيه الذّهبي:

محمّد بن أبي حذيفة: هو الأمير أبو القاسم العبشمي، أحد الأشراف، وُلد


1- أنساب الأشراف، ج6، ص١٨٨.
2- الإصابة، ابن حجر، ج٢، ص4٣٢.
3- انظر: عمدة القاري، العيني، ج5، ص٢٣١.
4- الاستيعاب، ج٢، ص٨4٠.
5- الإصابة، ج6، ص١٠.

ص:57

لأبيه لمّا هاجر الهجرة الأُولى إلى الحبشة، وله رُؤية. . . ثُمّ كان ممَّن قام على عثمان، واستولى على إمرة مصر(1).

وقال فيه ابن عبد البر:

«وكان محمّد بن أبي حذيفة أشدّ النّاس تأليباً على عثمان»(2).

ومنهم عمر بن العاص؛ قال فيه ابن عبد البر:

«وكذلك كان عمرو بن العاص، مُذْ عزله عن مصر، يُعمِل حِيَله في التأليب والطعن على عثمان»(3).

ومنهم حكيم بن جبلة العبدي، فقد قال فيه ابن عبد البر:

«أدرك النبيّ (ص) ، ولاأعلم له رواية ولا خبراً يدلّ على سماعه منه، ولا رُؤية له, وكان رجلاً صالحاً، له دين، مُطاعاً في قومه»(4).

ومنهم محمّد بن أبي بكر، فقال فيه ابن حجر:

«له رُؤية. . . وكان عليّ يُثني عليه»(5).

وقال عنه ابن عبد البر:

«وكان علي بن أبي طالب يُثني على محمّد بن أبي بكر ويفضّله؛ لأنَّه كانت له عبادة واجتهاد, وكان ممَّن حضر قتل عثمان»(6).

وغيرهم من الصّحابة الذين ألَّبوا على عثمان، ممَّا لا يسع المجال لذكرهم.

فتلك الأمور من إحداثات عثمان، وتحريض عائشة وطلحة، وجماعة من كبار الصّحابة؛ قد سبَّبت سخطاً عامّاً على عثمان، وأجَّجت الوضع عليه، وارتفعت الأصوات بإقالته. فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنّفه، بسنده عن أبي سعيد، قال:

إنّ ناساً كانوا عند فسطاط عائشة، فمرَّ بهم عثمان، وأرى ذلك بمكّة. قال أبو سعيد: فما بقي أحد منهم إلاّ بعثه أو سبّه غيري، وكان فيهم رجل من أهل الكوفة، فكان عثمان على الكوفي أجرأ منه على غيره، فقال: يا


1- سير أعلام النبلاء، ج٣، صص4٧٩ و 4٨٠.
2- الاستيعاب، ج٣، ص١٣6٩.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه، ج١، ص٣66؛ أسد الغابة، ابن الأثير، ج٢، ص4٠.
5- تقريب التهذيب، ج٢، ص5٩.
6- الاستيعاب، ج٣، ص١٣6٧.

ص:58

كوفي، أتسبّني؟ أقدم المدينة، كأنّه يتهدّده. قال: فقدم المدينة، فقيل له: عليك بطلحة، فانطلق معه طلحة حتّى أتى عثمان، فقال عثمان: والله لأجلدنّك مائة. قال: فقال طلحة: والله لا تجلده مائة إلاّ أن يكون زانياً. قال: لأحرمنّك عطاءك. قال: فقال طلحة: إنَّ الله سيرزقه(1).

وتُعدّ خلافة عثمان المرحلة الوحيدة من مراحل الخلافة الّتي شهدت قيام وثورة أصحاب رسول الله (ص) من أجل الإطاحة بالخليفة ونظام حكومته. وقد قتل عثمان خلال تلك الانتفاضة على يدي المُنتفضين، فقد جاء في تاريخ الطّبري:

لمّا رأى الناس ما صنع عثمان، كتب مَن بالمدينة من أصحاب النّبيّ (ص) إلى مَن بالآفاق منهم، وكانوا قد تفرَّقوا في الثغور: إنَّكم إنَّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزَّوجلّ، تطلبون دين محمّد (ص) ، فإنَّ دين محمّد قد أُفسد من خلفكم وتُرك. فهلمُّوا فأقيموا دين محمّد (ص) . فأقبلوا من كلِّ أُفق حتّى قتلوه (2).

وذكر ابن الأثير في تاريخه، في أحداث سنة (٣4ه) ، قال:

في هذه السنة تكاتب نفر من أصحاب رسول الله (ص) وغيرهم، بعضهم إلى بعض: أن أقدموا، فإنَّ الجهاد عندنا. وعظم النّاس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وليس أحد من الصّحابة ينهي ولايذبّ إلاّ نفر، منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسّان بن ثابت(3).

وأخرج البلاذري في الأنساب، من طريق ابن شهاب الزّهري، عن سعيد بن المسيّب، قال:

إنَّ المصريّين لمَّا قدموا فشَكوا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، سألوا عثمان أن يُولِّي مكانه محمّد بن أبي بكر، فكتب عهده وولاّه، ووجَّه معهم عدّة من المهاجرين والأنصار، ينظرون فيما بينهم وبين


1- المصنّف، ابن أبي شيبة، ج٧، ص٢64؛ ج٨، ص6٨5.
2- تاريخ الطّبري، ج٣، صص4٠٠ و 4٠١.
3- الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج٣، ص١5٠.

ص:59

ابن أبي سرح، فشخص محمّد بن أبي بكر وشخصوا جميعاً. فلمّا كانوا على مسيرة ثلاث من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير، وهو يخبط البعير خبطاً، كأنَّه رجل يطلب أو يُطلب، فقال له أصحاب محمّد بن أبي بكر: ما قصّتك وما شأنك، هارب أو طالب؟ فقال لهم مرّة: أنا غلام أمير المؤمنين، وقال مرّة أُخرى: أنا غلام مروان، وجَّهني إلى عامل مصر برسالة. قالوا: فمعك كتاب؟ قال: لا، ففتَّشوه فلم يجدوا معه شيئاً، وكانت معه إداوة قد يبست، وفيها شيء يتقلقَل، فحرَّكوه ليخرج، فلم يخرج، فشقُّوا الإداوة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح.

فجمع محمّد مَن كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثُمَّ فكَّ الكتاب بمَحضرٍ منهم، فإذا فيه: " إذا أتاك محمّد بن أبي بكر وفلان وفلان، فاحتَل لقتلهم، وأبطِل كتاب محمّد، وقرّ على عملك حتّى يأتيك رأيي، واحبس مَن يجيء إليّ متظلّماً منك، إن شاء الله"(1).

وأخرج ابن شبّة النميري الحادثة - أيضاً - في «تاريخ المدينة» ، من طريق سعيدبن المسيّب، بزيادةٍ، حيث جاء فيه:

قال: فلمّا قرؤوا الكتاب، فزعوا ورجعوا إلى المدينة، وختم محمّد الكتاب بخواتيم نفر كانوا معه، ودفع الكتاب إلى رجلٍ منهم، فقدم المدينة، فجمعوا طلحة والزبير وعليّاً وسعداً، ومَن كان من أصحاب رسول الله (ص) ، ثُمَّ فكُّوا الكتاب بمَحضرٍ منهم، وأخبروهم بقصّة الغلام، وأقرؤوهم الكتاب، فلم يبقَ أحد من أهل المدينة إلاّ حنقَ على عثمان، وزاد ذلك مَن كان غضب لابن مسعود وأبي ذر وعمّار، حنقاً وغيظاً، وقام أصحاب محمّد فلحقوا بمنازلهم، وحاصر النّاس عثمان، وأجلب عليه محمّد بن أبي بكر ببني تميم وغيرهم، وأعانه على ذلك طلحة بن عبيدالله، وكانت عائشة تقبّحه كثيراً.

فلمّا رأى ذلك عليّ، بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمّار، ونفر من


1- أنساب الأشراف، ج٢، صص٢٨٣ - ٢٨5.

ص:60

أصحاب النبيّ (ص) ، كلّهم بدري، ثُمَّ دخل على عثمان ومعه الكتاب والبعير والغلام، فقال له علي: هذا الغلام غلامك؟

قال: نعم. قال: فالبعير بعيرك؟

قال: نعم. قال: وأنت كتبت هذا الكتاب؟

قال: لا، وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به. قال له علي رضى الله عنه: فالخاتم خاتمك؟ !

قال: نعم. فقال له علي: كيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك لاتعلمه؟ !

فحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به، ولا وجَّهت هذا الغلام إلى مصر.

فأمّا الخط فعرفوا أنَّه خط مروان، وشكّوا في أمر عثمان، وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى - وكان مروان عنده في الدار -، فخرج أصحاب محمّد (ص) من عنده غضاباً، وشكّوا في أمره، وعلموا أنَّه لا يحلف بباطل، إلاّ أنّ قوماً قالوا: لا يبرأ عثمان من قلوبنا إلاّ أن يدفع إلينا مروان حتّى نُثخنَه، ونعرف حال الكتاب؛ فكيف يُؤمَر بقتل رجل من أصحاب محمّد (ص) بغير حقّ؟ !

فإن يكن عثمان كتبه، عزلناه، وإن يكن مروان كتبه على لسان عثمان، نظرنا ما يكون منّا في أمر مروان. ولزموا بيوتهم، وأبى عثمان أن يُخرج إليهم مروان، وخشي عليه القتل، وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء (1).

وجاء في طبقات ابن سعد وأنساب البلاذري - واللفظ لابن سعد -:

كان المصريّون الذين حصروا عثمان ستمائة، رأسهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر بن عتاب الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي.


1- تاريخ المدينة، ابن شبّة النميري، ج4، صص١١5٩ - ١١6١؛ أنساب الأشراف، ج6، صص١٨4 - ١٨5؛ وانظر: الثقات، ابن حبان, ج٢، ص٢56.

ص:61

والذين قدموا من الكوفة مائتين، رأسهم مالك الأشتر النّخعي.

والذين قدموا من البصرة مائة رجل، رأسهم حكيم بن جبلة العبدي(1).

وجاء في «الكامل في التّاريخ» :

وكان بمصر محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن أبي حذيفة يحرّضان على عثمان، فلمّا خرج المصريّون، خرج فيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة، وقيل: في ألف، وفيهم كنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وعليهم جميعاً الغافقي بن حرب العكي.

وخرج أهل الكوفة، وفيهم زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم العامري، وهم في عداد أهل مصر، وعليهم جميعاً عمرو بن الأصم.

وخرج أهل البصرة، فيهم حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد، وبشربن شريح القيسي، وابن المحترش، وهم بعداد أهل مصر. وأميرهم حرقوص بن زهير السعدي. فخرجوا جميعاً في شوال(2).

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنّفه، بسنده عن وثاب، قال:

بعثني أمير المؤمنين عثمان فقال: ادع الأشتر، فجاء. . . فقال: يا أشتر، ما يريد النّاس منّي؟ قال: ثلاث ليس من إحداهن بُد؛ يخيّرونك بين أن تخلع لهم أمرهم، فتقول: هذا أمركم، فاختاروا له مَن شئتم، وبين أن تقصّ من نفسك. فإن أبيت هاتين، فإنَّ القوم قاتلوك. . .(3).

وجاء في الأنساب، في حادثة محاصرة عثمان:

فبعثَ عثمان إلى عليّ، فلمّا أتاه، قال: يا أبا الحسن، ائتِ هؤلاء القوم فادعهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه.

قال: نعم، إن أعطيتني عهد الله وميثاقه على أنّك تفي لهم بكلِّ ما أضمنه عنك.


1- الطبقات الكبرى، ج٣، ص٧١؛ أنساب الأشراف، ج6، ص٢١٩.
2- الكامل في التاريخ، ج٣، صص١5٨ - ١5٩.
3- المصنّف، ج٨، ص5٨٣.

ص:62

قال: نعم. فأخذ عليّ عليه عهد الله وميثاقه، على أوكد ما يكون وأغلظ، وخرج إلى القوم، فقالوا: وراءك. قال: لا، بل أمامي، تعطون كتاب الله وتَعتِبون من كلِّ ما سخطتم. فعرض عليهم ما بذل عثمان. فقالوا: أتضمن ذلك عنه؟

قال: نعم. قالوا: رضينا. وأقبل وجوههم وأشرافهم مع عليّ حتّى دخلوا على عثمان وعاتبوه، فأعتبهم من كلّ شيء، فقالوا: اكتب بهذا كتاباً، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله عثمان أميرالمؤمنين، لمَن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين، أنَّ لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنَّة نبيّه، يُعطى المحروم، ويُؤمن الخائف، ويُردّ المنفي ولا تُجمَر البعوث، ويُوفر الفيء، وعلي بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء بما في هذا الكتاب. شهد: الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن مالك بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب خالد بن زيد.

وكتب في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين.

فأخذ كلّ قوم كتاباً فانصرفوا، وقال عليّ بن أبي طالب لعثمان: اخرج فتكلّم كلاماً يسمعه النّاس ويحملونه عنك، وأشهد الله على ما في قلبك؛ فإنَّ البلاد قد تمخّضت عليك، ولا تأمن أن يأتي ركب آخر من الكوفة أو من البصرة أو من مصر، فتقول: يا عليّ، اركب إليهم. فإن لم أفعل، قلت: "قطع رحمي واستخفّ بحقّي".

فخرج عثمان فخطب النّاس، فأقرّ بما فعل واستغفر الله منه، وقال: "سمعت رسول الله (ص) يقول: (مَن زلَّ فليَنُب) ، فأنا أوَّل مَن اتعظ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم، فوالله لو ردَّني إلى الحقّ عبد لاتَّبعته، وما عن الله مذهب إلاّ إليه".

فسرَّ النّاس بخطبته واجتمعوا إلى بابه مبتهجين بما كان منه، فخرج إليهم مروان فزَبَرهم وقال: " شاهت وجوهكم، ما اجتماعكم؟ أمير المؤمنين مشغول عنكم، فإن احتاج إلى أحد منكم فسيدعوه، فانصرفوا".

ص:63

وبلغ علياً الخبر، فأتى عثمان وهو مغضب، فقال: " أما رضيت من مروان ولارضي منك إلاّ بإفساد دينك وخديعتك عن عقلك، وإنِّي لأراه سيوردك ثُمَّ لا يصدرك، وما أنا بعائدٍ بعد مقامي هذا لمعاتبتك "، وقالت له امرأته نائلة بنت الفرافصة: قد سمعت قول عليّ بن أبي طالب في مروان، وقد أخبرك أنَّه غير عائد إليك، وقد أطعت مروان ولا قدر له عند النّاس ولا هيبة. فبعث إلى عليٍّ فلم يأته(1).

وأخرج الطّبري من طريق عبد الله بن الزّبير عن أبيه، قال:

كتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة، ويحتجّون ويُقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبداً حتّى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من حقِّ الله، فلمّا خاف القتل، شاور نصحاءه وأهل بيته، فقال لهم: " قد صنع القوم ما قد رأيتم، فما المخرج؟ "، فأشاروا عليه أن يُرسل إلى علي بن أبي طالب، فيطلب إليه أن يردّهم عنه ويعطيهم ما يرضيهم؛ ليُطاولهم حتّى يأتيه أمداد. فقال: "إنَّ القوم لن يقبلوا التعليل وهي محملي عهداً وقد كان منِّي في قدمتهم الأُولى ما كان، فمتى أعطهم ذلك يسألوني الوفاء به"، فقال مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين، مقاربتهم حتّى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب. فأعطِهم ما سألوك، وطاولهم ما طاولوك، فإنَّما هم بغوا عليك، فلا عهد لهم.

فأرسل إلى علي فدعاه, فلمّا جاءه، قال: " يا أبا حسن, إنَّه قد كان من النّاس ما قد رأيت، وكان منِّي ما قد علمت، ولست آمنهم على قتلي، فارددهم عنّي، فإنَّ لهم الله عزّوجلّ إن أعتبهم من كلِّ ما يكرهون، وأن أعطيهم الحقّ من نفسي ومن غيري، وإن كان في ذلك سفك دمي".

فقال له علي: " النّاس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك, وإنِّي لأرى قوماً لا يرضون إلاّ بالرضى, وقد كنت أعطيتهم في قدمتهم الأُولى عهداً من الله لترجعنَّ عن جميع ما نقموا، فرددتهم عنك، ثُمَّ لم تفِ لهم بشيء من


1- أنساب الأشراف، ج6، صص١٧٩ - ١٨٠؛ وانظر: تاريخ الطّبري، ج٣، صص٣٩5 - ٣٩٧؛ الكامل في التاريخ، ج٣، صص١64 - ١66؛ البداية والنهاية، ج٧، صص١٩٢ - ١٩4.

ص:64

ذلك. فلا تغرّني هذه المرّة من شيء، فإنِّي مُعطيهم عليك الحقّ".

قال: "نعم، فأعطهم، فوالله لأفينَّ لهم".

فخرج علي إلى الناس فقال: "أيّها النّاس، إنَّكم إنَّما طلبتم الحقّ فقد أعطيتموه. إنَّ عثمان قد زعم أنَّه مُنصفكم من نفسه ومن غيره، وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه ووكِّدوا عليه".

قال النّاس: قد قبلنا، فاستوثق منه لنا؛ فإنَّا والله لا نرضى بقول دون فعل.

فقال لهم علي: «ذلك لكم» . ثُمَّ دخل عليه فأخبره الخبر، فقال عثمان: «اضرب بيني وبينهم أجلاً، يكون لي فيه مُهلة فإنِّي لا أقدر على ردِّ ما كرهوا في يوم واحد» .

قال له علي: «ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه, وما غاب فأجله وصول أمرك» .

قال: «نعم ولكن أجّلني فيما بالمدينة ثلاثة أيّام» .

قال علي: " نعم ". فخرج إلى النّاس فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتاباً أجله فيه ثلاثاً، على أن يردّ كلّ مظلمة ويعزل كلّ عامل كرهوه، ثُمَّ أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق، وأشهد عليه ناساً من وجوه المهاجرين والأنصار، فكفَّ المسلمون عنه، ورجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه.

فجعل يتأهَّب للقتال ويستعدّ بالسلاح، وقد كان اتَّخذ جنداً عظيماً من رقيق الخمس. فلمّا مضت الأيام الثلاثة، وهو على حاله لم يغيِّر شيئاً ممَّا كرهوه، ولم يعزل عاملاً؛ ثار به النّاس, وخرج عمرو بن حزم الأنصاري حتّى أتى المصريين وهم بذي خشب، فأخبرهم الخبر، وسار معهم حتّى قدموا المدينة, فأرسلوا إلى عثمان:

ألم نفارقك على أنَّك زعمت أنّك تائب من أحداثك، وراجع عمّا كرهنا منك، وأعطيتنا على ذلك عهد الله وميثاقه؟ !

قا ل: بلى, أنا على ذلك. قالوا: فما هذا الكتاب الّذي وجدنا مع رسولك، وكتبت به إلى عاملك؟ !(1).


1- تاريخ الطّبري، ج٣، صص4٠٣ و 4٠4؛ الكامل في التاريخ، ج٣، ص١6٩ و١٧٠.

ص:65

وقد تقدَّمت الإشارة إلى هذا الكتاب.

وبهذا يتّضح أنَّ سياسات عثمان الخاطئة اللامُبرَّرة أوجدت هوَّة سحيقة بين الأُمّة، وكادت أن تمحو من أذهان الأُمّة صورة الإمام الّتي رسمها رسول الله (ص) لها، وأثارت الفتن والنعرات، وخلَّفت تركات خطيرة أثقلت كاهل أمير المؤمنين (ع) ، فجعل (صلوات الله عليه وسلامه) نصب عينيه إصلاح الأمور، وإرجاعها إلى ما كانت عليه في زمن نبي الإسلام (ص) ، وإعادة تلك الصور الّتي رسمها الرّسول (ص) للإمام من بعده إلى أذهان الأُمّة، لا سيما تلك المتعلِّقة منها ببيت مال المسلمين.

فوضع الإمام (ع) تلك السياسة المادّية لعثمان ومَن سبقه جانباً، ودعا إلى العدل والمساواة، غير آبهٍ بسخط البعض، ممَّن لم يرتضِ هذه السياسة الجديدة، وقد عمَّم الإمام (ع) هذه السّياسة الربّانية وطبَّقها على نفسه، وأهل بيته وأقربائه وولاته، قبل الآخرين من آحاد الأُمّة؛ ففي رواية ابن عباس، قال:

إنَّ علياً (ع) خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: ألا إنَّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال؛ فإنَّ الحقّ القديم لايبطله شيء، ولو وجدته وقد تُزوّج به النّساء وفُرّق في البلدان، لرددتُه إلى حاله؛ فإنَّ في العدل سِعة، ومَن ضاق عنه الحقّ فالجور عليه أضيق(1).

فأرجع الإمام (ع) إلى بيت مال المسلمين كلّ القطائع الّتي أقطعها عثمان لمَن هَبَّ ودبَّ، وكانت فدك من بين تلك الأمور الّتي شملها العدل العلويّ، إلاّ أنَّ إعطاءَها لأهل البيت عليهم السلام كان سيضرّ بهذه السّياسة، وسيراه البعض خروجاً عنها، وأنَّه (ع) أراد أن يُطبِّق العدل والمساواة على المسلمين، دون أهل بيته عليهم السلام.

وقد لخَّص الإمام (ع) الخطوط العامّة لسياسته في كتاب له (ع) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامله على البصرة، وقد بلغه أنَّه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضي إليها: (أمَّا بعد يا بن حنيف. . فقد بلغني أنَّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدُبة، فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان وتنقل إليك


1- شرح نهج البلاغة، ج١، ص٢6٩.

ص:66

الجفان، وما ظننت أنَّك تُجيب إلى طعام قوم عائلهم مَجفو، وغنيّهم مَدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإنَّ لكلّ مأموم إماماً يقتدى به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفَّة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولاادَّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً.

بلى، كانت في أيدينا فدك، من كلّ ما أظلّته السماء، فشحَّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله.

وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غد جَدَث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زِيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمَدر، وسدَّ فرجها التراب المتراكم؟ !

وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوأبيت مِبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى؟ ! . . .

أأقنع من نفسي بأن يُقال أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أُسوة لهم في جُشُوبة العيش؟ ! فما خُلقت ليشغلني أكل الطيّبات، كالبهيمة المربوطة، همُّها علفها، أو المرسلَة، شغلها تقممها، تكترش من أعلافها، وتلهو عمّا يُراد بها، أو أترك سُدى، أو أهمل عابثاً، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف طريق المتاهة.

وكأنِّي بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان. ألا وإنَّ الشّجرة البرِّية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول الله كالصنوِ من الصنو، والذراع من العضد. والله لو تظاهرت العرب

ص:67

على قتالي لما ولَّيت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس، والجسم المركوس، حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد. . .

طوبى لنفس أدَّت إلى ربِّها فرضها، وعركت بجنبها بُؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسَّدت كفَّها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهَمَت بذكر ربِّهم شفاههم، وتقشَّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (المجادله: ٢٢) . فاتَّقِ الله يا بن حنيف، ولتكفك أقراصك؛ ليكون من النار خلاصك(1).

ج- تجنيب الإمام (ع) أهل بيته الصراع من بعده

إنَّ الباحث عن أسباب عدم إرجاع أمير المؤمنين (ع) فدك لأهل البيت عليهم السلام في خلافته، لابدّ له أن يأخذ بعين الاعتبار أمراً مهمّاً، يساهم إلى حدٍّ بعيد في فهم تلك الأسباب والدواعي، وهذا الأمر هو: أنَّ الإمام (ع) أراد تجنيب أهل بيته المزيد من المآسي؛ وذلك وفق علمه بمستقبل الأُمّة، وما ستشهده من انقسامات وصراعات وأحداث مؤلِمة، سيكون لأهل بيته عليهم السلام منها سهم وافِر، وقد علم ذلك بإخبار النّبيّ (ص) وعِلم الإمامة، ورؤيته الثاقبة وعقله الرّاجح وعلمه الفائض؛ فأراد تجنيب أهل بيته عليهم السلام بعض الهموم من بعده، وأن لا يُثقل كاهلهم فوق ما سيلحقهم من الأذى.

فقد ثبت واشتهر بين المسلمين أنَّ الرّسول (ص) أخبر بما سيصيب الأُمّة من التمزُّق والفِرقة، والتطاول على أهل بيته (ص) ، كما أخرج ذلك أحمد بن حنبل في مسنده(2)، والترمذي وأبو داود في سننهما(3)، وغيرهم في غيرها، عن أبي هريرة،


1- نهج البلاغة، ج٣، صص٧٠ - ٧5.
2- مسند أحمد بن حنبل، ج٢، ص٣٣٢.
3- سُنن الترمذي، ج4، ص١٣4.

ص:68

قال - واللفظ لأبي داود -:

قال رسول الله (ص) : "افترقت اليهود على إحدى (أو اثنتين) وسبعين فرقة، وتفرّقت النّصارى على إحدى (أو اثنتين) وسبعين فرقة، وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة (1).

وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال:

«سمعت الصادق المصدوق يقول: " هلاك أُمّتي على يدي غلمة من قريش "، فقال مروان: غلمة؟ ! قال أبو هريرة: إن شئت أن أُسمِّيهم؛ بني فلان وبني فلان»(2).

وقال القرطبي مُعلّقاً على حديث البخاري الآنف:

وكأنَّهم [ يعني بني فلان وبني فلان في كلام أبي هريرة ]- والله أعلم - يزيد بن معاوية، وعبيد الله بن زياد، ومَن تنزَّل منزلتهم من أحداث ملوك بني أُمية؛ فقد صدر عنهم قتل أهل بيت رسول الله (ص) وسبيهم، وقتل خيار المهاجرين والأنصار بالمدينة وبمكّة وغيرها، وغير خاف ما صدر عن الحجّاج وسليمان بن عبد الملك وولده، من سفك الدماء وإتلاف الأموال، وإهلاك النّاس بالحجاز والعراق، وغير ذلك.

وبالجملة: فبنو أُمية قابلوا وصيّة النّبيّ (ص) في أهل بيته وأُمّته بالمخالفة والعقوق، فسفكوا دماءهم، وسَبوا نساءهم، وأسروا صغارهم، وخرَّبوا ديارهم، وجحدوا فضلهم وشرفهم، واستباحوا لعنهم وشتمهم؛ فخالفوا رسول الله (ص) في وصيته، وقابلوه بنقيض مقصوده وأُمنيته. فواخجلتهم إذا وقفوا بين يديه، وفضيحتهم يوم يعرضون عليه(3).

فبعد هذا الإخبار من الرّسول (ص) بمستقبل الأُمّة وأهل بيته عليهم السلام؛ لم يكن خيار للإمام (ع) إلاّ أن يرسم، وفق مُؤهّلاته، طريقاً لأهل بيته عليهم السلام، يخفِّف به عنهم بعض المصائب الّتي ستصيبهم من بعده، ومن جملة ذلك أنّه (ع) لم يُرجِع إليهم فدك؛ حتّى لاتُستغلّ كمُبرّر لتأليب الوضع عليهم، خاصّة وأنَّه (ع) يعلم بأنَّها


1- سنن أبي داود، ابن الأشعث السجستاني، ج٢، ص٣٩٠.
2- صحيح البخاري، ج4، ص١٧٨.
3- التذكرة، القرطبي، ص64٢.

ص:69

أصبحت مادَّة خلاف بين الأُمّة، وأنَّ خلافته ستكون قصيرة؛ لوقوفه على أنَّ الأُمّة ستغدر به.

فقد نصّت الرّوايات الواردة عن رسول الله (ص) بأنَّ أهل بيته عليهم السلام سيتعرَّضون من بعده للظلم العظيم؛ فقد أخرج الحاكم في مستدركه، بسنده عن حيان الأسدي، قال:

سمعتُ علياً يقول: قال لي رسول الله (ص) : "إنَّ الأُمّة ستغدر بك بعدي، وأنت تعيش على ملّتي، وتُقتَل على سُنَّتي. مَن أحبّك أحبّني، ومَن أبغضك أبغضني، وإنَّ هذه ستخضّب من هذا "، يعني لحيته من رأسه.

وقد صحَّح الحاكم هذا الحديث(1)، وكذا الذّهبي في التّلخيص(2).

وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه، بسَنده عن أبي إدريس الأسدي، عن أميرالمؤمنين (ع) ، قال:

«ممّا عهد إليَّ النّبيّ (ص) : "إنّ الأُمّة ستغدر بك من بعدي"»(3).

وكذا ابن عساكر في تاريخه أيضاً(4)، وابن كثير - ت/ ٧٧4ه - في «البدايةوالنّهاية»(5).

وأخرجه البيهقي في «دلائل النّبوّة» ، بسنده عن ثعلبة الحماني، قال:

«سمعت عليّاً على المنبر وهو يقول: " والله إنَّه لعهد النّبيّ الأُمي إليّ: "إنَّ الأُمّة ستغدر بك بعدي"»(6).

وأخرجه الذّهبي في «تذكرة الحفّاظ» ، بسنده عن علقمة، قال: قال عليٌّ:

«عهد إليّ النّبيّ (ص) : "إنَّ الأُمّة ستغدر بك من بعدي"»(7).

وأخرج الحاكم في مستدركه أيضاً، بسنده عن ابن عباس، قال:

« قال النبيّ (ص) لعليّ: "أما أنَّك ستلقى بعدي جهداً "، قال: "في سلامة من ديني؟ " قال: "في سلامة


1- المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج٣، ص١5٣.
2- تعليقات الذهبي في التلخيص، المطبوع بهامش المستدرك على الصحيحين ، ج٣، ص١5٣.
3- تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، ج١١، ص٢١6.
4- تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج4٢، ص44٨.
5- البداية والنهاية، ابن كثير، ج6، ص٢44.
6- دلائل النّبوّة، البيهقي، ج٧، ص٣١٢.
7- تذكرة الحفاظ، ج٣، ص٩٩5.

ص:70

من دينك"» . وقال الحاكم بذيله:

«هذا حديث صحيح على شرط الشَيخين، ولم يخرجاه»(1).

وأخرج أبو يعلى الموصلي - ت/٣٠٧ه- في مسنده، عن أبي عثمان، عن أميرالمؤمنين (ع) ، قال:

اعتنقني [رسول الله (ص) ]ثُمَّ أجهش باكياً. قال، قلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ ! قال: "ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاّ من بعدي" قال: قلت: يا رسول الله، في سلامة من ديني؟ قال: " في سلامة من دينك"(2).

وكذا أخرجه عنه البغدادي - ت/ 46٣ه - في تاريخه (3)، وابن عساكر -ت/571ه - في تاريخه أيضاً(4)، والذّهبي - ت/ ٧4٨ه - في «ميزان الاعتدال» ، وقال:

«رواه النسائي في مسند علي من طريق حرمي، ورواه البغوي عن القواريري عن حرمي»(5).

وأخرجه أيضاً الهيثمي - ت/ ٨٠٧ه - في «مجمع الزوائد» ، وقال بذيله:

«رواه أبويعلى والبزار، وفيه الفضل بن عميرة. وثَّقه ابن حبان، وضعَّفه غيره، وبقية رجاله ثقات»(6).

وقد أخرج صدر الحديث الحاكم في مستدركه، بسنده عن الفضل بن عميرة(7)، وقال:

«هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»(8).


1- المستدرك على الصحيحين، ج٣، ص١5١.
2- مسند أبي يعلى الموصلي، ج١، ص4٢٧.
3- تاريخ بغداد، ج١٢، ص٣٩4.
4- تاريخ مدينة دمشق، ج4٢، ص٣٢٢.
5- ميزان الاعتدال، الذهبي، ج٣، صص٣55 و ٣56.
6- مجمع الزوائد، الهيثمي، ج٩، ص١١٨.
7- قال الحاكم النيسابوري: «حدّثنا علي بن حمشاذ العدل، ثنا العبّاس بن الفضل الأسفاطي، ثنا علي بن عبدالله المديني وإبراهيم بن محمّد بن عرعرة، قالا: ثنا حرمي بن عمارة، حدّثني الفضل بن عميرة، أخبرني ميمون الكردي، عن أبي عثمان النهدي: أنَّ علياً قال: "بينما رسول الله ص آخذ بيدي، ونحن في سكك المدينة، إذ مررنا بحديقة، فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة! " قال: " لك في الجنّة أحسن منها"» . هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. المستدرك، ج٣، ص١٣٩.
8- المستدرك على الصحيحين، ج٣، ص١٣٩.

ص:71

وأخرجه ابن عدي - ت/ ٣65ه - في «الكامل» ، بسنده عن أنس بن مالك، قال:

خرجت وعليٌّ مع رسول الله (ص) في حيطان المدينة، فمررنا بحديقة، فقال علي: "ما أحسن هذه الحديقة! " قال النّبيّ (ص) : "حديقتك في الجنّة أحسن منها". حتّى مرَّ من تسع حدائق ويقول مثلها، وجعل النّبيّ (ص) يبكي، فقال علي: "ما يبكيك؟ ". قال: "ضغائن في صدور قوم لا يبدونها حتّى يفقدوني"(1).

وكذا ابن عساكر في تاريخه (2)، والذهبي في ميزان الاعتدال (3). وأخرجه عن ابن عباس، الطّبراني - ت/ ٣6٠ه - في المعجم الكبير(4).

وهذا ما حصل فعلاً خلال المقاطع التّاريخيّة المختلفة للحكومات المتعاقبة على تولّي زمام الأمر؛ فقد أخذت فدك فيها بُعداً سياسياً، بل أصبح بُعدها السياسي أعمق بكثير من بُعدها المادّي، وتحوّلت إلى ورقة ذات مدلول خاص، فكلّما أراد الحاكم أن يوحي بأنَّه يُظهر المودَّة لأهل البيت عليهم السلام مثلاً، أرجع فدك للآل عليهم السلام، وإذا أراد كسب التيار المقابل، سلبها منهم، وهكذا دواليك. .

ومن هنا نجد أنَّها أُرجعت إليهم عليهم السلام في زمن بعض الحكومات، الّتي حاولت الإيحاء بقربها لهم عليهم السلام؛ من أجل التأثير على الأُمّة، كما نشاهد ذلك في زمن بعض الحكّام العباسيّين، كالمأمونِ كما تقدَّم.

لكن، بالرغم من حرص الإمام (ع) الشّديد على تجنيب أهل البيت: الصراعات من بعده، إلاّ أنَّ الأُمّة - للأسف الشّديد - لم ترع لهم ذمّة، ولم تحفظ فيهم عهد الرّسول (ص) ؛ فقد جاء في تاريخ الطّبري:

«ومال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه، فإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتّى تغلب عليه فيذهب به منها»(5).


1- الكامل، عبدالله بن عدي، ج٧، صص١٧٣ و ١٧4.
2- تاريخ مدينة دمشق، ج4٢، ص٣٢٣.
3- ميزان الاعتدال، ج4، ص4٨٠.
4- المعجم الكبير، الطّبراني، ج١١، ص6١.
5- تاريخ الطّبري، ج4، ص٣46.

ص:72

وأخرج البخاري في صحيحه، بسنده عن أنس بن مالك، قال:

أتى عُبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي، فجعل في طست، فجعل ينكت، وقال في حُسنه شيئاً. فقال أنس: كان أشبههم برسول الله (ص) ، وكان مخضوباً بالوسمة(1).

وأخرج التّرمذي في سُننه، بسنده عن أنس أيضاً، قال:

كنت عند ابن زياد فجيء برأس الحسين، فجعل يقول بقضيب له في أنفه ويقول: ما رأيت مثل هذا حُسناً. قال: قلت: أما إنَّه كان من أشبههم برسول الله (ص)(2).

د- ترفّع أهل البيت عليهم السلام عن النزاعات المادّية بعد ظلامة الزّهراء عليها السلام

إنَّ أهل البيت عليهم السلام، ترفّعوا عن الدّخول في نزاع مادّي بعد أن أخذ منهم كلّ هذه السنين، فلا يريدون استغلال الظروف السياسية الّتي تسمح بأن يضعوا أيديهم على فدك - خاصّة بعد مقتل عثمان وخلافة أمير المؤمنين (ع) -؛ ليقطعوا الطريق أمام المتصيِّدين للفرص من أجل إثارة الفتنة وتعميق هوّة الخلاف بين الأُمّة؛ لسموِّ نفوسهم وطهارتهم عليهم السلام.

وقد أشارت الرّوايات الشيعيّة لهذا المعنى، فقد روى الشّيخ الصّدوق في علل الشرائع، بسنده عن إبراهيم الكرخي، قال:

سألت أبا عبد الله (ع) فقلت له: لأيِّ علَّة ترك علي بن أبي طالب (ع) فدك لمَّا ولي الناس؟ فقال: "للاقتداء برسول الله (ص) لمّا فتح مكة، وقد باع عقيل بن أبي طالب داره، فقيل له: يا رسول الله، ألا ترجع إلى دارك؟ فقال (ص) : وهل ترك عقيل لنا داراً؟ ! إنّا أهل بيت لا نسترجع شيئاً يؤخَذ منّا ظُلماً. فلذلك لم يسترجع فدك لمّا وُلّي"(3).


1- صحيح البخاري، ج4، ص٢١6.
2- سنن الترمذي، ج5، ص٣٢5.
3- علل الشرائع، ج١، ص١55.

ص:73

وتقدّم ما جاء في كتاب أمير المؤمنين (ع) إلى ابن حنيف، عامله على البصرة:

بلى، كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء، فشحَّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونِعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مظانّها في غد جدث (1)

، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها(2).

ومن هنا، فقد غضَّ أهل البيت عليهم السلام النظر عن الجانب المادِّي لفدك، وأصبحت بالنسبة لهم إحدى الرموز الّتي تُعبِّر عن حقّهم في خلافة الرّسول (ص) ، ومظلوميّتهم، بل إنَّها كانت من أشدِّ الأمور وطأة على قلوبهم؛ لفظاعة خطبها وما حصل فيها من تجاوز على المقام الطاهر للزهراء البتول عليها السلام، حتّى أُثر عنهم عليهم السلام قولهم: إنَّها صدّيقة شهيدة، كما في رواية الشّيخ الكليني في الكافي، بسنده عن الإمام الكاظم (ع) ، قال:

«إنَّ فاطمة عليها السلام صدِّيقة شهيدة»(3).

ومن هنا، عندما كانت تطرح مسألة فدك على أهل البيت عليهم السلام، كنَّوا بها عن غصب الخلافة منهم، وإنَّ إرجاعها الحقيقي هو إرجاع الخلافة إليهم عليهم السلام.

وممَّا يؤيّد ذلك هو ما أخرجه الزمخشري في «ربيع الأبرار» ، من أنَّ هارون الرشيد كان يقول للإمام موسى الكاظم (ع) : يا أبا الحسن، حدّ فدك حتّى أردُّها إليك، فيأبى، حتّى ألحَّ عليه، فقال (ع) :

لا آخذها إلاّ بحدودها. قال: وما حدودها؟ قال: إن حدّدتها لم تردّها؟ قال: بحقِّ جدِّك إلاّ فعلت. قال: أمّا الحدّ الأوّل فعَدَن. فتغيَّر وجه الرّشيد، وقال: إِيْهاً. قال: والحدّ الثّاني سمرقند. فأربد وجهه. والحدّ الثالث إفريقية. فاسوَدَّ وجهه وقال: هِيْهِ. قال: والرابع سيف البحر، ممّا يلي الجزر وأرمينية. قال الرّشيد: فلم يبقَ لنا شيء، فتحوّل إلى مجلسي. قال الإمام (ع) : قد أعلمتك


1- المظانّ: جمع مظنّة. وهو المكان الذي يظنّ فيه وجود الشيء، وموضع النفس الذي يظنّ وجودها فيه في غد هو الجَدَث، بالتحريك، أي: القبر.
2- نهج البلاغة، ج٣، ص٧١.
3- الكافي، ج١، ص45٨.

ص:74

أنَّني إن حدّدتها لم تردّها. فعند ذلك عزم على قتله(1)

وقريب من هذا المعنى أشارت إليه رواية الشّيخ الكليني في الكافي بسنده عن علي بن أسباط، من أنَّ الإمام الكاظم (ع) لمّا رأى المهدي العباسي يردّ المظالم، قال له:

"ما بال مظلمتنا لا تُردّ؟ " فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: " إنَّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّه (ص) فدك وما والاها، لم يوجف عليه بخَيل ولا ركاب، فأنزل الله على نبيّه (ص) وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ . . . فدعاها رسول الله (ص) فقال لها: يا فاطمة، إنَّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلتُ يا رسول الله من الله ومنك، فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله (ص) ، فلمّا ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاءها. . . .

فقال له المهدي: يا أبا الحسن، حدّها لي. فقال: حَدٌّ منها جبل أُحد، وحدٌّ منها عريش مصر، وحدٌّ منها سيف البحر، وحدٌّ منها دومة الجندل. . . (2)

فالإمام (ع) إنّما قصد في هذه الرّواية هو أنَّ فدك ببُعدها المعنوي تمثِّل كلّ حدود الدّولة الإسلاميّة، فإذا كان المهدي العباسي صادقاً في دعواه ردّ المظالم، فليَردّ مظلومية أهل البيت عليهم السلام الكبرى، وهي حقّهم في خلافة الرّسول (ص) ، وقيادة الأمّة طبق موازين الإسلام الواقعية، الّتي لا يعرفها بعد نبي الإسلام (ص) غيرهم عليهم السلام.

وهذا المعنى لا يدركه إحسان إلهي ظهير وأضرابه، ممَّن ابتعدوا عن مَعين أهل البيت عليهم السلام العذب الصافي الطاهر؛ ولذا قابل الرّواية المتقدِّمة للشيخ الكليني بالتهجّم والسخرية، حيث قال:

والرواية الثانية الّتي نذكرها هي طريفة، ومرويّة أيضاً في الأصول من الكافي: أنَّ أبا الحسن موسى. . . ورد على المهدي ورآه يردّ المظالم، فقال: . . . . فقال له المهدي: يا أبا الحسن، حدّها لي. فقال: "حدٌّ منها جبل


1- ربيع الأبرار، الزمخشري، ج١، صص٣١5 و ٣١6.
2- الكافي، ج١، ص54٣.

ص:75

أحد، وحدٌّ منها عريش مصر، وحدٌّ منها سيف البحر، وحدٌّ منها دومة الجندل". يعني نصف العالم كلّه!

انظر إلى القوم وأكاذيبهم، فأين قرية من خيبر من نصف الدنيا؟ ! فيا عجباً للقوم ومبالغتهم، كيف يعظّمون الحقير، وكيف يكبّرون الصغير؟ ! وفي هذه دليل لمبالغات القوم وتُرّهاتهم (1).

ولا نملك جواباً لمثل هذا الأسلوب إلاّ السكوت، وحسبنا الله ونِعم الوكيل، ونِعم ما قال الشّاعر:

وسَكَتُّ عن رَدِّ السَّفيه وربَّما كانَ السّكوتُ عن الجوابِ جواباً

ه - فدك في حوزة أمير المؤمنين (ع)

يمكن أن يُقال: إنَّ فدك بعدما عادت لحيازة أمير المؤمنين، وأصبح هو المتصرّف الحقيقي فيها، بوصفه (ع) خليفة للمسلمين؛ لعلَّه أرجعها إليهم، أو استأذنهم في ضمِّها لبيت مال المسلمين، خصوصاً مع ملاحظة الأوضاع الّتي لازمت خلافة الإمام (ع) ، والجبهات الّتي فتحها الناقمون عليه، ممَّن ضاق عليهم عدله ومساواته؛ فلم يكن من الضروري أن يعيدها (ع) لأهل البيت عليهم السلام بعد أن أعادها لبيت المال، وإنَّما هو (ع) ، كصاحب حقٍّ وخليفة للمسلمين، عمل فيها بما كان يراه مناسباً آنذاك.


1- الشّيعة وأهل البيت، ص٩٠.

ص:76

ص:77

المبحث الثاني: عدم وراثة الأنبياء عليهم السلام في المرويّات الشيعيّة

اشاره

تحامل إحسان ظهير كثيراً على علماء الشّيعة، زاعماً أنَّهم غفلوا عن أنَّ رواية

«لا نورِّث، ما تركناه صدقة» مروية في كتب الشيعة أنفسهم نصّاً ومضموناً، قال:

«فالرّواية الّتي ردّوها هنا، حسداً ونقمة على الصدِّيق، لم يعلموا أنَّ إمامهم الخامس(1)

المعصوم رواها من رسول الله (ص) ، وفي كتابهم أنفسهم. . .»(2).

ثُمَّ ذكر بعد ذلك روايتين، رواهما الشّيخ الكليني في الكافي عن الإمام أبي عبدالله الصادق (ع) ، وادَّعى ظهير أنَّ هناك روايتين رواهما الشّيخ الصّدوق تؤيّدان مضمون رواية الكافي. قال إحسان ظهير:

«وهناك روايتان، غير هذه الرواية، رواهما صدوق القوم، تؤيِّد هذه الرواية وتؤكِّدها. . .» (3). وذكر بعد ذلك هاتين الروايتين.

وحتّى تتبيَّن الحقيقة في المقام، نورد أوّلاً الرّوايات الّتي رواها الشّيخ الكليني والصدوق (رحمهما الله تعالى) في الباب، ثُمَّ نذكر بعد ذلك ما يمكن أن يقال


1- يزعم إحسان إلهي ظهير بأنّه مُلمّ بمذهب الإمامية، وهو لا يفرّق بين الإمام الصادق ع وبين الإمام الباقر ع . فكما هو واضح أنّ رواية الكافي عن الإمام الصادق ع ، وهو الإمام السادس عند الشّيعة الإمامية، وليس الإمام الخامس كما ذكر إحسان إلهي ظهير.
2- الشّيعة وأهل البيت، ص٨5.
3- المصدر نفسه، ص٨6.

ص:78

فيهما؛ ليتَّضح مدى بطلان دعوى ظهير، وضعفه المُفرط، لدرجة أنَّه لم يفرِّق بين مورد هذه الروايات، وبين رواية أبي بكر، مع شدِّة وضوح الفرق بينهما:

١. رواية الشّيخ الكليني لا دلالة فيها على عدم إرث الأنبياء عليهم السلام

روى الشّيخ الكليني في كتابه الكافي، بسنده عن الإمام أبي عبدالله الصادق (ع) ، قال: قال رسول الله (ص) :

مَن سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنّة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، رضاً به، وإنَّه يستغفر لطالب العلم مَن في السماء ومَن في الأرض، حتّى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورَّثوا العلم، فمَن أخذ منه، أخذَ بحظٍّ وافر(1)

وروى قريباً منه الشيخ الكليني عن الإمام الصادق (ع) ، قال:

إنَّ العلماء ورثة الأنبياء؛ وذاك أنَّ الأنبياء لم يورِّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنَّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم. فمَن أخذ بشيءٍ منها، فقد أخذ حظاً وافراً. . . (2)

وهاتان الروايتان لا دلالة فيهما على عدم الإرث المالي للأنبياء عليهم السلام؛ إذ هما واردتان في بيان فضيلة العلم والعلماء، وأنَّ الأنبياء عليهم السلام لم يتركوا درهماً ولا ديناراً ليورِّثوهما؛ إذ ليس همّهم جمع الأموال، الّذي هو ديدن أهل الدّنيا، وإنَّما همّهم وديدنهم وشأنهم هو العلم. وقد تركوا علماً وأحاديث ورَّثوها للعلماء، تورِيث تعلُّم؛ لذلك قال في ذيل الرّواية:

«فمَن أخذ بشيء منها، فقد أخذ حظّاً وافراً» ، وهذا لا يتنافى مع توريثهم عليهم السلام لذويهم ما كان في أيديهم، من الضرورات الّتي يحتاجون إليها في حياتهم ومعاشهم.


1- الكافي، ج١، ص٣4؛ الأمالي، الصّدوق، ص١١6؛ ثواب الأعمال، ص١٣١.
2- الكافي، ج١، ص٣٢.

ص:79

فقوله:

«لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورَّثوا العلم» ، هو جملة خبريَّة تحكي عن أمر تكويني، مفاده انتقال علوم الأنبياء عليهم السلام إلى العلماء، ولا يمكن أن يكون جملة إنشائية، بصدد إنشاء حكم شرعيّ؛ لأنَّ الجعل والتشريع بالجملة الإنشائية، إنَّما يكون في الأمور الّتي يمكن جعلها بالإنشاء اللفظي، كالولاية والقضاء و. . . . وأمّا العلم والحديث والتّحلّي بالفضائل، - والّتي هي من أوضح ما أورثوه عليهم السلام - فلا يحصل إلاّ ببذل الجهد والاكتساب، كما هو واضح.

وحصر ما أورثوه بالعلم والحديث، هو في الواقع حصر إضافي في مقابل الدرهم والدينار، وليس هو حصراً حقيقياً؛ إذ إنَّهم عليهم السلام لم يورِّثوا العلم والحديث فقط، بل أورثوا أموراً غيرهما، من الزّهد والتّقوى و. . . .

ومن هنا، فالظنّ بأنَّ معنى رواية الشّيخ الكليني هو نفس مفاد حديث «لانورِّث» ، هو ظنٌّ باطل، نابع من قلّة التدبّر والإمعان في معنى الروايتين.

هذا مع اختلاف لفظيهما؛ فإنَّ رواية الكليني تقول:

«لم يورّثوا» ، أي: أنَّهم لم يكونوا يملكون شيئاً ليورِّثوه، بينما رواية البخاري تقول:

«لا نورِّث» ، أي: أنَّهم ليس من حقِّهم التّوريث. والفرق بين المعنيين ظاهر.

مع أنَّه قد يُقال: إنَّ رواية البخاري ناظرة للحكم، فهي تريد أن تُبيِّن حكم الإرث بالنسبة للنبي (ص) ، بينما رواية الكليني ناظرة للموضوع، فهي تريد بيان ورثة الأنبياء عليهم السلام، حيث وسَّعت هذا الموضوع، فأضافت العلماء إلى الورثة، مع فقدان الصلة النَّسبية بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام، ولم تحصر توريث الأنبياء عليهم السلام بهذا المصداق، وإنَّما أضافته إلى بقيّة الورثة، مع أنَّهم يرثون من الأنبياء عليهم السلام العلم والحديث فقط.

فلِسانُ هاتين الروايتين، وأمثالهما، هو الإشارة إلى فضيلة العلم ومنزلة العالم، وأنَّ أصحاب الأنبياء عليهم السلام يجب أن يجدُّوا في طلب العلم، والأخلاق والفضيلة والسيرة الحسنة، حتّى يكونوا كالأنبياء عليهم السلام علماً وأخلاقاً وسيرةً، ليقوموا بدورهم من بعدهم في تزكية الأُمّة وتعليمها الكتاب والسنّة، لا أن ينتهزوا فرصة صحبتهم ويستغلّوها للأغراض الدنيوية، من جمع المال، والحرص على تحصيل المقام والجاه.

ص:80

٢. روايتا الشيخ الصدوق غريبتان عن مسألة إرث الأنبياء عليهم السلام

وقريباً من رواية الشّيخ الكليني المتقدِّمة، روى الشّيخ الصّدوق عن بنت ابن أبي رافع، عن أُمّها، قالت: قالت فاطمة عليها السلام:

«يا رسول الله، هذان ابناك فنحِّلهما. فقال رسول الله (ص) : "أمَّا الحسن، فنحلته هيبتي وسُؤدَدي، وأمَّا الحسين، فنحلته سخائي وشجاعتي"»(1).

وروى الشّيخ الصّدوق في كتابه «الخصال» ، بسنده عن بنت أبي رافع أيضاً، قالت:

أتت فاطمة بنت رسول الله (ص) بابنيها الحسن والحسين عليهما السلام إلى رسول الله (ص) ، في شكواه الّذي توفّي فيها، فقالت: يا رسول الله، هذان ابناك فورِّثهما شيئاً. قال: "أمَّا الحسن، فإنَّ له هيبتي وسؤدَدي، وأمَّا الحسين، فإنَّ له جُرأتي وجودي"(2).

وهاتان الروايتان أجنبيّتان عن مسألة الإرث المالي للأنبياء عليهم السلام.

فأمَّا الرّواية الأُولى: فمن الواضح أنَّها لم ترد في مورد الإرث، وإنَّما هي واردة في مورد الهدية؛ بقرينة قولها:

«فنحِّلهما» ، وتدلّ على أنَّ الزّهراء عليها السلام طلبت من والدها الرّسول (ص) أن ينحل الحسن والحسين نِحلة، فنحلَ الحسن هيبته وسؤدَده، ونحل الحسين سخاءه وشجاعته.

وأمَّا الرّواية الثانية: فلا يمكن حملها على مورد الإرث؛ لأنَّ الحسن والحسين ليسا من ورثة النّبيّ (ص) مع وجود الزّهراء عليها السلام، فهي ليست ناظرة إلى الأمور الماديّة، وإنَّما المقصود هو أنَّ الزّهراء عليها السلام طلبت من والدها الرّسول (ص) أن يعطيهما من خصاله الكريمة (ص) ، خاصّة مع ملاحظة الروايات الّتي تبرز شدَّة علاقتها بوالدها النّبيّ الخاتم (ص) ، مضافاً إلى أنَّ الإرث إنَّما يصدق بعد وفاة الشّخص، فلا يُطلَب منه أثناء حياته أن يورِّث.


1- الخصال، الشّيخ الصّدوق، ص٧٧.
2- المصدر نفسه.

ص:81

موقف الزهراء عليها السلام من حكم أبي بكر في إرثها

تقدّم أنَّ حديث عائشة، الّذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما -فضلاً عن غيرهما -، صريح الدلالة على أنَّ الزّهراء عليها السلام لم تكن راضية عن حكم أبي بكر.

وفي بعض الرّوايات السنيّة أنَّه قد تكرّرت مطالبتها عليها السلام مع اختلاف زمانها، كما يدلّ على ذلك الحديث الّذي أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت:

«إنَّ فاطمة عليها السلام والعبّاس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما، أرضه من فدك، وسهمه من خيبر. . .»(1).

فالرواية المتقدِّمة عن عائشة تدلّ على أنَّ الزّهراء عليها السلام قد طالبت لوحدها بإرثها، وهذه الرّواية تدلّ على أنَّها عليها السلام والعبّاس، معاً، قد طالبا بإرثهما. ولا وجه لِما ذكره بعض الشرّاح من أنَّ قوله:

«والعبّاس» من زيادات معمر (2)؛ إذ إنَّه مجرّد دعوى بلا دليل، كما أشرنا.

وقد بقيت الزّهراء عليها السلام على موقفها حتّى أيّامها الأخيرة، كما يكشف عن ذلك غضبها على الشيخين؛ حيث توفِّيت وهي غاضبة عليهما، كما أخرج ذلك البخاري ومسلم في الصّحيح، بسندهما عن عائشة، زوج الرّسول (ص) ، قالت:

«فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص) ، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت»(3).

ويؤيِّد ذلك سعي الشيخين لاسترضائها عليها السلام إلى اللّحظات الأخيرة. إلاّ أنَّها عليها السلام لم ترضَ عنهما، وماتت عليها السلام وهي غاضبة عليهما، كما هو صريح رواية البخاري المتقدِّمة.

دعوى تراجع الزّهراء عليها السلام عن مطالبة أبي بكر ورضاها عنه

من خلال ما تقدّم، يتّضح وَهْن ما نسجه خيال إحسان إلهي ظهير، من أنَّ


1- صحيح البخاري، ج5، ص٢5.
2- قال ابن حجر: «زاد معمر عن الزهري: «والعباس أتيا أبا بكر»» . فتح الباري، ج6، ص١٣6.
3- صحيح البخاري، ج4، ص4٢. وانظر: ج5، ص٨٢.

ص:82

الزّهراء عليها السلام تراجعت عن مطالبة أبي بكر، ورضيت بحكمه، قال:

«ولمّا ذكر هذا الصدِّيق لفاطمة، تراجعت عن ذلك، ولم تتكلَّم فيها بعدُ حتّى ماتت»(1).

فمن أين جاء بهذا الزعم، وحديث البخاري ومسلم عن عائشة يدلّ بكلّ وضوح، على غضبها وسخطها على أبي بكر، حتّى توفّيت وهي غاضبة عليه؟ !

ودلالة هذا الغضب على عدم الرضى أوضح وأبلغ من آلاف الكلمات، بل لم يُؤذَن له بها بعد وفاتها.

وقد اتّفقت كلمة الشّيعة على أنَّ رسول الله (ص) أعطى فاطمة عليها السلام فدك، فلمّا تولّى أبو بكر الخلافة أخذها منها، فأرسلت إليه تطالبه بميراثها من رسول الله (ص) ، فأبى أن يدفع إليها شيئاً، فغضبت عليه، وأقسمت أن لا تكلّمه، ولَتَدْعُوَنَّ الله عليه، ولم تزل كذلك حتّى حضرتها الوفاة، فأوصت أن لا يصلِّي عليها، فصلَّى عليها أمير المؤمنين (ع) ودُفِنت ليلاً.

قال ابن ميثم البحراني:

المشهور بين الشّيعة، والمتَّفق عليه عندهم، أنَّ رسول الله (ص) أعطاها [أي: فدك] فاطمة عليها السلام، ورَووا ذلك من طُرق مختلفة. . . فلمّا تولّى أبو بكر الخلافة، عزم على أخذها منها، فأرسلت إليه تطلبه بميراثها من رسول الله (ص) . . . فأجابها عن الميراث بخبرٍ رواه. . . (2)

ثُمَّ ذكر ابن ميثم البحراني خطبة الزّهراء عليها السلام، وفي ختام الخطبة قال:

«ثُمَّ رجعت إلى بيتها، وأقسمت أن لا تكلّم أبا بكر، و لَتَدْعُوَنّ الله عليه، ولم تزل كذلك حتّى حضرتها الوفاة، فأوصت أن لا يصلّي عليها»(3)

دعوى دلالة النّصوص الشيعيّة على رضا الزهراء عليها السلام بحكم أبي بكر

من الأمور الغريبة الّتي ادّعاها إحسان إلهي ظهير، وكانت وليدة نسج خياله، هي دلالة بعض النّصوص الشيعيّة على رضا الزهراء عليها السلام بحكم أبي بكر،


1- الشّيعة وأهل البيت، ص٨٣.
2- شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، ج5، ص١٠4.
3- المصدر نفسه، ص١٠5.

ص:83

واستشهاده على ذلك بنصٍّ نسبه لابن ميثم البحراني، وزعم أنَّ الدنبلي ذكر مثله في كتابه «الدرّة النجفية» !

قال إحسان ظهير:

وفي بعض الروايات الشيعيّة أنَّها رضيت على ذلك، كما يرويه ابن الميثم الشيعي في نهج البلاغة: " إنَّ أبا بكر قال لها: إنَّ لك ما لأبيك. كان رسول الله (ص) يأخذ من فدك قوتكم، ويقسِّم الباقي، ويحمل منه في سبيل الله، ولكِ على الله أن أصنع بها كما كان يصنع. فرضيت بذلك، وأخذت العهد عليه به".

ومثل ذلك ذكر الدنبلي في شرحه «الدرة النجفية»(1).

وهذه الدعوى خلاف الواقع؛ لأنَّ الشّيعة، ومنهم البحراني وغيره، قد اتّفقت كلمتهم على أنَّ أبا بكر قد ظلم الزهراء عليها السلام وأخذ فدك من يدها، ومنعها إرث والدها الرسول (ص) ، فغضبت عليه، ودَعَتْ عليه، وتوفّيت وهي ساخطة عليه، كما حكى ذلك البحراني نفسه.

وأمّا النصّ المحكي عن ابن ميثم البحراني، فهو مبتور؛ إذ إنَّه كان بصدد نقل الأقوال في المسألة، فنقل أوّلاً قول المشهور وما عليه اتّفاق الشّيعة، كما تقدّم، ثُمَّ نقل قولاً ثانياً ضعيفاً، مقابلاً لقول الشّيعة، حيث قال:

المشهور بين الشيعة، والمتَّفق عليه عندهم، أنَّ رسول الله (ص) أعطاها فاطمة عليها السلام، ورَووا ذلك من طُرق مختلفة. . . فلمّا تولّى أبو بكر الخلافة، عزم على أخذها منها، فأرسلت إليه تطلبه بميراثها من رسول الله (ص) . . . فأجابها عن الميراث بخبرٍ رواه. . . .

ثُمَّ قال ابن ميثم:

ورُوي أنَّ أبا بكر قال لها: إنَّ لك ما لأبيك، كان رسول الله (ص) يأخذ من فدك قوتكم ويقسّم الباقي، ويحمل منه في سبيل الله، ولك على الله أن أصنع بها كما كان يصنع. فرضيت بذلك، وأخذت العهد عليه به. . .


1- الشّيعة وأهل البيت، صص٨٣ و ٨4.

ص:84

ثُمَّ قال ابن ميثم:

«ثُمَّ رجعت إلى بيتها، وأقسمت أن لا تكلِّم أبا بكر، ولتَدعونّ عليه، ولم تزل كذلك حتّى حضرتها الوفاة، فأوصت أن لا يصلِّي عليها»(1).

وممَّا يشهد بوضوح على أنَّ ابن ميثم كان بصدد نقل القول المقابل لقول الشّيعة، هو ذيل عبارته، حيث قال:

«ثُمَّ رجعت إلى بيتها، وأقسمت أن لا تكلّم أبابكر، ولتَدعونّ عليه، ولم تزل كذلك حتّى حضرتها الوفاة، فأوصت أن لا يصلِّي عليها» .

وهذا القول الثاني الضعيف، المقابل لقول الشيعة، الّذي أشار إليه ابن ميثم في عبارته، روى قريباً منه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، عن الجوهري، حيث روى أنَّ أبا بكر قال للزهراء عليها السلام:

إنَّ مالك لأبيك، كان رسول الله (ص) يأخذ من فدك قوتكم ويقسّم الباقي، ويحمل منه في سبيل الله، فما تصنعين بها؟ قالت: أصنع بها كما يصنع بها أبي. قال: فلكِ على الله أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك. قالت: الله لتفعلنّ؟ ! قال: الله لأفعلنّ. قالت: اللّهم اشهد. . . (2).

ووجه الضعف فيه واضح؛ فإنَّه مُخالِف لِما عليه اتّفاق الشّيعة من جهة، ومخالف للروايات الصحيحة الّتي أخرجها في الصّحيح البخاري ومسلم وغيرهما، والتي تدلّ على أنَّ الزّهراء عليها السلام غضبت على أبي بكر، وتوفّيت وهي غاضبة عليه، ولم يُؤْذَنْ له فيها بعد وفاتها كما تقدّم. ومن هنا نقله ابن ميثم البحراني بشكلٍ مُرسَل، وبصيغة

«رُوي» ، والتي تدلّ على التّضعيف والتّمريض كما هو ظاهر.

ولكنَّ إحسان إلهي ظهير، وبعيداً عن روح التّحقيق والأمانة العلمية، حذف كلام ابن ميثم البحراني الدالّ على اتّفاق الشّيعة على ذلك،

«المشهور بين الشيعة والمتّفق عليه عندهم. . .» ، ونقل القول الثاني الضعيف المقابل لقول الشّيعة، بعد أن حذف منه قول البحراني:

«ورُوي» ؛ ليستغفل القرّاء ومَن ليس لهم اطّلاع على كتب الشّيعة، ويُظْهِر لهم أنَّ هذا القول هو القول الوحيد والمعتمَد عند بعض الشيعة، كابن ميثم البحراني. حيث قال إحسان:

«وفي بعض الروايات الشيعية أنَّها


1- شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، ج5، صص١٠4 - ١٠٧.
2- شرح نهج البلاغة، ج١6، ص٢١6.

ص:85

رضيت على ذلك، كما يرويه ابن الميثم الشيعي في نهج البلاغة. . .»(1)

وعين هذا الكلام يأتي على ما حكاه إحسان ظهير عن الدنبلي؛ حيث قال إحسان ظهير:

«ومثل ذلك ذكر الدنبلي في شرحه (الدرَّة النجفية)»(2). فمن الواضح عند المحقِّقين أنَّ شرح الدرَّة النجفية هو تلخيص لشرح ابن ميثم البحراني، وقد ذكر الدنبلي أوَّلاً القول المشهور، وما عليه اتّفاق الشيعة من أنَّ رسول الله (ص) أعطى فدك لفاطمة عليها السلام، وأنَّ أبا بكر أخذها منها، فطالبته بها وبإرثها، فأبى أن يدفع لها شيئاً، فغضبت عليه وأقسمت أن تدعو الله تعالى عليه، وأوصت أن لايصلِّي عليها بعد وفاتها، وماتت وهي غاضبة عليه، ثُمَّ بعد ذلك أشار الدنبلي لقول جماعة من السنّة أنَّها رضيت على أبي بكر، وقبلت بحكمه في نحلتها وإرثها، وقد ضعَّف هذا الكلام ومَرَّضَهُ، بقوله:

«رُوي» ، وردَّه بمقابلته بالقول المشهور وما عليه اتّفاق الشّيعة.

قال الدّنبلي:

المشهور بين الشيعة والمتَّفق عليه عندهم، أنَّ رسول الله (ص) أعطاها [أي: فدك] فاطمة عليها السلام في حياته، ورووا ذلك من طرق مختلفة، منها عن أبي سعيد الخدرى، قال لمَّا أُنزلت: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ، أعطى رسول الله (ص) فاطمة عليها السلام فدك، فلمّا تولّى أبو بكر الخلافة، عزم على أخذها. . . فلمّا بلغها ذلك، لاثَتْ خمارها، وأقبلت في لِمَّة من حفدتها ونساء قومها، تَطَأُ في ذيولها، حتّى دخلت عليه، ومعه جلّ المهاجرين و الأنصار، فضربت بينها وبينهم قطيفة. . .

أفي كتاب الله أن ترث يا بن أبي قحافة أباك، ولا أرِث أبي؟ ! لقد جئت شيئاً فريّاً، فدونكها مخطومة مَرْحولةً، تلقاك يوم حشرك، فنِعم الحكم الله، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكلِّ نبأ مستقرّ وسوف تعلمون، مَن يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم. . .


1- الشّيعة وأهل البيت، ص٨٣.
2- المصدر نفسه، ص٨4.

ص:86

ثُمَّ قال الدّنبلي:

ورُوي أنَّه لمّا سمع كلامها، حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على رسوله، ثُمَّ قال: يا خيرة النّساء، وابنة خير الآباء، والله ما عدوت رأي رسول الله (ص) ، ولا عملت إلاّ بأمره، وإنَّ الرّائد لا يكذب، قد قلت فأبلغت، وأغلظت فأهجرت، فغفر الله لنا ولكِ.

أمّا بعد، فقد دفعت آلة رسول الله (ص) ودابّته وحذاءَه إلى عليّ، وأمّا ما سوى ذلك، فإنِّي سمعت رسول الله (ص) يقول: إنَّا معاشر الأنبياء لا نورِّث ذهباً ولا فضّة، ولا أرضاً ولا عقاراً ولا داراً، ولكنَّا نورِّث الإيمان والحكمة، والعلم والسُنَّة. وقد عملتُ بما أمرني ونصحت.

فقالت: إنَّ رسول الله (ص) قد وهبها لي.

قال: فمَن يشهد بذلك؟ !

فجاء علىّ بن أبي طالب وأمّ أيمن، فشهدا لها بذلك. فجاء عمر بن الخطّاب وعبد الرحمن بن عوف، فشهدا أنَّ رسول اللَّه. . . [فقال أبو بكر]: صدق عليّ، وصدقت أُمّ أيمن، وصدق عمر، وصدق عبد الرحمن، وذلك أنَّ مالك لأبيك، كان رسول الله٩ يأخذ من فدك قوتكم ويقسّم الباقي، ويحمل منه في سبيل الله، ولك على الله أن أصنع بها كما كان.

فرضيت بذلك، وأخذت العهد عليه به، وكان يأخذ غلّتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم، ثُمَّ فعل الخلفاء بعده كذلك، إلى أن ولي معاوية(1)

فعبارة الدّنبلي صريحة الدّلالة على أنَّ هناك مذهبين في فدك:

الأوّل: هو أنَّ رسول الله (ص) أعطى فدك لفاطمة عليها السلام، فانتزعها أبو بكر من يدها بعد رحيل الرسول (ص) ، فطالبته بها وبإرثها، لكنَّه امتنع أن يدفع لها منهما شيئاً، فغضبت عليه، وماتت وهي غاضبة عليه. وهذا هو المشهور، وعليه اتّفاق الشيعة، وقد صرّح الدنبلي بذلك بقوله:

«المشهور بين الشيعة والمتَّفق عليه عندهم. . .» .


1- الدرّة النجفية، إبراهيم بن الحسين الدنبلي الخوئي، صص٣٣١ و ٣٣٢.

ص:87

الثاني: هو أنَّ أبا بكر اعتذر لفاطمة عليها السلام لِما فعله في فدك وإرث رسول الله (ص) ، فقبلت عذره ورضيت عنه. وهذا هو قول جمهور السنّة، وقد أشار الدنبلي لذلك بقوله:

«ورُوي أنَّه لمّا سمع كلامها. . .» .

فهذا هو صريح كلام الدّنبلي في الدرَّة النجفية، وهو يبطل ما زعمه إحسان إلهي ظهير، حيث قال:

«ومثل ذلك ذكر الدنبلي في شرحه (الدرَّة النجفيّة)» (1). أي: ومثل ما رواه ابن ميثم البحراني من أنَّ فاطمة عليها السلام رضيت؛ إذ إنَّ ابن ميثم والدنبلي إنَّما حكيا ذلك عن السنّة كما تقدّم بيانه، لا أنَّهما رويا ذلك عن بعض الشّيعة.

كيف، وقد صرَّحا في بداية كلامهما باتّفاق الشيعة على أنَّ رسول الله (ص) أعطى فدك لفاطمة عليها السلام، فانتزعها أبو بكر من يدها بعد رحيل الرّسول (ص) ، فطالبته بها وبإرثها، لكنَّه امتنع أن يدفع لها منهما شيئاً، فغضبت عليه، وماتت وهي غاضبة عليه؟ !

قال ابن ميثم:

المشهور بين الشيعة، والمتَّفق عليه عندهم، أنَّ رسول الله (ص) أعطاها فاطمة عليها السلام. . . رجعت إلى بيتها، وأقسمت أن لا تكلِّم أبا بكر، ولَتَدْعُوَنَّ عليه، ولم تزل كذلك حتّى حضرتها الوفاة، فأوصت أن لا يصلِّي عليها.

وقال الدنبلي:

المشهور بين الشيعة، والمتّفق عليه عندهم، أنَّ رسول الله (ص) أعطاها فاطمة عليها السلام في حياته. . .

. . . ترث يابن أبي قحافة أباك ولا ارث أبي؟ !

لقد جئت شيئاً فريّاً، فدونكها مخطومة مَرْحولةً، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكلِّ نبأٍ مستقرٍّ وسوف تعلمون، مَن يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم. . .


1- الشّيعة وأهل البيت، ص٨4.

ص:88

دعوى اختلاق الشيعة لعدم رضا الزهراء عليها السلام وغضبها على الشيخَين

ادَّعى إحسان إلهي ظهير اختلاق الشيعة لقضيّة عدم رضا الزهراء عليها السلام وغضبها على أبي بكر، وذلك من أجل الطعن على الصّحابة، من خلال إثبات العداوة بينهم وبين أهل بيت النّبيّ (ص) ؛ حيث قال:

«ولكنَّ الشيعة لم يعجبهم بأن ترضى فاطمة بهذا القضاء بتلك السهولة، فسوَّدوا صفحات وأوراقاً كثيرة، وكتبوا بخصوص ذلك كُتباً عديدة. . .» (1). وقال في موضع آخر:

فالعمارة الّتي أرادوا بناءَها على هذا الأساس الواهي، لإقامة المآتم ومجالس اللعن والطعن على غصب حقوق أهل البيت، وإثبات المُنافرة والعداوة بين خلفاء النّبيّ وأصحابه وبين أهل بيته. . . (2).

والجواب: من الثابت، وبما لا يقبل الشك، أنَّ الزهراء عليها السلام غضبت على الشيخين في خصومتهما معها عليها السلام، وتوفّيت وهي غاضبة عليهما، ومبالغة في ذلك أوصت بأن لا يحضرا جنازتها عليها السلام، ولا يصلّيا عليها، وأن تُدفَن في الليل، ولايُعلَم قبرها. وقد نصّت على ذلك صحاح السنَّة وسُننهم ومسانيدهم.

غضبُ فاطمة عليها السلام على الشيخين في أحاديث السنّة

يعدُّ حديث «فغضبت فاطمة» من الأحاديث الصحيحة المتَّفَق عليه، وقد أخرجه كبار الحفّاظ والمحدِّثين، وهذه إشارة مقتضبة لبعض طُرقه وألفاظه من مصادر القوم المعتمدة عندهم:

طرق الحديث

١ - أخرج البخاري في صحيحه، من طريق عبد العزيز بن عبد الله، حدَّثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير أنَّ عائشة أُمّ المؤمنين أخبرته:

أنَّ فاطمة، ابنة رسول الله (ص) ، سألت أبابكر الصدِّيق، بعد وفاة


1- الشّيعة وأهل البيت، ص٨4.
2- المصدر نفسه، ص٨٩.

ص:89

رسول الله (ص) ، أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله (ص) ، ممّا أفاء الله عليه. فقال لها أبو بكر: إنَّ رسول الله (ص) قال: "لا نورِّث، ما تركنا صدقة". فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص) ، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت(1)

٢ - أخرج البخاري في صحيحه، من طريق يحيى بن بكير، حدَّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، وفيه:

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت. وعاشت بعد النبي (ص) ستة أشهر، فلمّا توفّيت، دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها(2)

٣ - أخرج مسلم في صحيحه، من طريق محمّد بن رافع، أخبرنا حجين، حدّثنا ليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - بلفظ قريب من حديث البخاري الآنف -، وفيه:

فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك. قال: فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت. وعاشت بعد رسول الله (ص) ستة أشهر، فلمّا توفّيت، دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها علي (3)

4 - أخرج البيهقي في السُنن الكبرى، من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: حدَّثني عروة بن الزبير أنَّ عائشة أخبرته، وفيه:

« فوجدت فاطمة على أبي بكر من ذلك»(4)

5 - أخرج البيهقي في «السُنن الكبرى» أيضاً، من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وفيه:

« فغضبت فاطمة وهجرته، فلم تكلّمه حتّى ماتت، فدفنها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر»(5)


1- صحيح البخاري، ج4، ص4٢.
2- المصدر نفسه، ج١٣، ص١٣5.
3- صحيح مسلم، ج5، صص١5٣ و ١54.
4- السُنن الكبرى، البيهقي، ج6، ص٣٠٠.
5- المصدر نفسه.

ص:90

6 - أخرج البيهقي في السُنن الكبرى أيضاً، من طريق محمّد بن إسماعيل السلمي، حدّثنا عبد العزيز الويسي، حدَّثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أنّ عائشة أُمّ المؤمنين، أخبرته، وفيه:

«فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرة له حتّى توفّيت. وعاشت بعد وفاة رسول الله (ص) ستَّة أشهر»(1)

٧ - أخرج أحمد بن حنبل في مُسنده، من طريق يعقوب، قال: حدّثنا أبي، عن صالح، قال ابن شهاب: أخبرني عروة بن الزبير أنَّ عائشة، زوج النبّي (ص) ، أخبرته، وفيه:

«فغضبت فاطمة عليها السلام فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت. قال: وعاشت بعد وفاة رسول الله (ص) ستّة أشهر»(2)

٨ - أخرج أحمد في مسنده أيضاً، من طريق الحجّاج بن محمّد، حدّثنا ليث، حدّثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، زوج النبّي (ص) ، أنَّها أخبرته:

«فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك» (3)

٩ - أخرج ابن حبان في صحيحه، من طريق أحمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي بحمص، قال: حدَّثنا عمرو بن عثمان بن سعيد، قال: حدّثنا أبي، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: حدّثني عروة بن الزبير أنَّ عائشة أخبرته، وفيه:

فوجدت فاطمة على أبي بكر من ذلك، فهجرته فلم تكّلمه حتّى توفّيت. وعاشت بعد رسول الله (ص) ستّة أشهر، فلمّا توفّيت، دفنها علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، فصلّى عليها علي (4)

١٠ - أخرج ابن حبان في صحيحه أيضاً، من طريق محمّد بن الحسن بن قتيبة، حدَّثنا يزيد بن موهب، حدَّثني الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أنّها أخبرته، وفيه:


1- السُنن الكبرى، البيهقي، ج 6، صص٣٠٠ و ٣٠١.
2- مسند أحمد بن حنبل، ج١، صص6 و ٧.
3- المصدر نفسه، صص٩ و ١٠.
4- صحيح ابن حبان، ج١١، صص١5٢ - ١54.

ص:91

فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك وهجرته، فلم تكلّمه حتّى توفّيت بعد رسول الله (ص) بستّة أشهر، فلمّا توفّيت، دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها(1).

١١ - أخرج الترمذي في سُننه، من طريق علي بن عيسى، قال: حدَّثنا عبدالوهاب بن عطاء، حدّثنا محمّد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال:

إنَّ فاطمة جاءت أبا بكر وعمر، تسأل ميراثها من رسول الله (ص) ، فقالا: سمعنا رسول الله (ص) يقول: "إنِّي لا أورِّث". قالت: "والله لا أكلّمكما أبداً"، فماتت ولا تكلّمهما (2).

حاصل الكلام في طرق الحديث

الأوَّل: طريق الزهري، وقد رواه عنه بألفاظ متعدّدة كلٌّ من: صالح، وعقيل، وشعيب بن أبي حمزة، ومعمر، كالآتي:

أ. رواية صالح عن الزهري، وقد رواها كلّ من البخاري بلفظ:

«فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص) ، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت» ، والبيهقي بلفظ قريب منه، وكذا أحمد بن حنبل بلفظ قريب منه أيضاً.

ب. رواية عقيل عن الزهري، وقد رواها كلّ من مسلم بلفظ:

«فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك. قال: فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت. . . فلمّا توفّيت، دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها علي» ، والبخاري بلفظ قريب منه، وابن حبان بنفس لفظ البخاري، وأحمد بن حنبل بلفظ قريب أيضاً، لكن ليس فيه:

«فلمّا توفّيت دفنها. . .» .

ج. رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، وقد رواها كلّ من البيهقي بلفظ:

«فوجدت فاطمة على أبي بكر من ذلك» ، وابن حبان بنفس اللفظ، وفيه:

«فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت. . . فلمّا توفّيت، دفنها علي بن أبي طالب ليلاً، ولم يؤذن بها


1- صحيح ابن حبان، ج١4، صص5٧٣ و 5٧4.
2- سُنن الترمذي، ج6، ص١44؛ علل الترمذي، ج١، ص٢65.

ص:92

أبا بكر، فصلّى عليها علي» .

د. رواية معمر عن الزهري، وقد رواها البيهقي بلفظ:

«فغضبت فاطمة، وهجرته فلم تكلّمه حتّى ماتت، فدفنها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر» .

وحاصل هذه الطرق هو: أنَّ قوله:

« فغضبت فاطمة» وردَ في روايتي صالح ومعمر، وقوله:

«فوجدت فاطمة» وردَ في روايتي شعيب وعقيل.

وأمّا قوله:

« فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت» ، فقد ورد في روايات الأربعة (صالح، وعقيل، ومعمر، وشعيب بلفظ ابن حبان) ، كما أنَّ البيهقي قال عقب رواية شعيب:

«رواه البخاري في الصحيح عن أبي اليمان»(1) ، وقد جاء في هذا الحديث:

« فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت»(2).

وعليه، فهذه الفقرة واردة في كلّ الروايات.

وأمّا قوله:

«فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلاً، ولم يؤذن بها أبابكر، وصلّى عليها علي» ، فقد ورد في رواية عقيل بلفظ البخاري ومسلم، ورواية معمر، وشعيب بلفظ ابن حبان، وقد ذكرنا آنفاً تصريح البيهقي، عقب رواية شعيب، بأنَّ المقصود منها ما رواه البخاري عن أبي اليمان، وقد جاء فيه:

«فلمَّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها»(3).

وعليه، فهذه الفقرة واردة في كلّ الروايات، إلاّ رواية صالح، وعقيل بلفظ ابن حنبل.

الثاني: طريق أبي هريرة بلفظ:

«والله لا أكلّمكما أبداً. فماتت ولا تكلّمهما» .

وقد يتوهّم البعض أنَّ تعدّد ألفاظ الحديث، مع انحصار طريقه بالزهري في الصحيحين، يكشف عن أنَّ النقل كان بالمعنى دون اللفظ، وهذا يزيد من احتمال اجتهاد الزهري في ذلك، ممَّا يقلّل من أهمّية الاحتجاج بالحديث في المورد.

وفساد هذا الوهم واضح؛ إذ إنَّ الراوي لم يكن بصدد رواية حديث نبوي،


1- السُنن الكبرى، البيهقي، ج6، ص٣٠٠.
2- صحيح البخاري، ج١٣، ص١٣5.
3- المصدر نفسه.

ص:93

حتّى يكون النقل باللفظ أو المعنى مؤثِّراً في الاحتجاج به، وإنَّما كان بصدد نقل حادثة وحالة نفسية، وقد استعمل فيها الألفاظ التي تعكس تلك الحالة التي شاهدها، وقد دلَّت كلّ تلك الألفاظ على عدم الرضا والهجر.

دلالة الحديث

إنَّ الغضب ضدّ الرضا. قال ابن منظور في لسان العرب:

«الغضب: نقيض الرضا، وقد غضب عليه غضباً ومغضبة، وأغضبته أنا فتغضب»(1). ويدلّ على شدّة وقوّة، ويقال: إنَّ الغضبةَ الصخرةُ الصلبة، قالوا: ومنه اشتقَّ الغضب؛ لأنَّه اشتداد السخط، يُقال: غضب يغضب غضباً، وهو غضبان وغضوب(2).

وهذا الحديث، بمختلف ألفاظه، صريح الدلالة على عدم الرضا؛ فقوله:

«فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص) ، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت» ، صريح في غضب فاطمة عليها السلام على أبي بكر وهجرانها له، بما لا يقبل التأويل، وقد أقرَّ بذلك ابن حجر بشكل ضمني عند تعقيبه لِما أخرجه أحمد وأبو داود من طريق أبي الطفيل، (أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله (ص) أم أهله؟ ! قال: لا، بل أهله) ؛ حيث قال:

«فلا يعارض ما في الصحيح من صريح الهجران، ولا يدلّ على الرضا بذلك»(3).

وقال أيضاً عن الشاشي، في تعقيب ما نقله الترمذي عن بعض مشايخه، (أنَّ معنى قول فاطمة لأبي بكر وعمر: " لا أكلِّمكما " أي: في هذا الميراث) :

«إنَّ قرينة قوله: "غضبت "، يدلّ على أنَّها امتنعت من الكلام جملة، وهذا صريح الهجر» (4).

فكلام ابن حجر صريح في إذعانه بأنَّ ما في الصحيح صريح في الهجران، كما أنَّ سكوته عن كلام الشاشي يكشف عن موافقته له.


1- لسان العرب، ج١، صص64٨ و 64٩، مادّة غضب .
2- انظر: كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج4، ص٣6٩؛ ترتيب إصلاح المنطق، ابن السكيت الأهوازي، ص٢٧٩؛ الصحاح، الجوهري، ج١، صص١٩4 و ١٩5؛ الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، صص٣٩١ و ٣٩٢؛ معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس زكريا، ج4، ص4٢٨.
3- فتح الباري، ابن حجر، ج6، صص ١٣٩ و ١4٠.
4- المصدر نفسه.

ص:94

وقال المقريزي:

قال علي بن عيسى: معنى "لا أُكلِّمكما" يعني: في هذا الميراث أنتما صادقان. قال مؤلِّفه: تأويل علي بن عيسى بن يزيد البغدادي هذا غير موافَق عليه؛ فقد روى الليث عن عقيل، عن أبي شهاب، عن عروة، عن عائشة: "طلبت فاطمة ميراثها في أبيها من أبي بكر"، وفي الحديث: "فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته، فلم تكلّمه حتّى توفّيت". اتَّفق البخاري ومسلم على إخراج هذا الحديث وهذه اللفظة فيه، وروى إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، هذا الحديث بهذا الإسناد، وفيه: "فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص) ، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت". واتَّفقا أيضاً على هذا الحديث، وانفرد البخاري بهذا اللفظ دون مسلم(1).

فردُّ المقريزي لتأويل علي بن عيسى، ومعارضته بما في الصحيحين، يدلّ على اعتقاده بأنَّ ما في الصحيحين صريح الدلالة على الغضب والهجران وعدم الرضا.

ولا يختلف الحال كثيراً في قوله:

«فوجدت فاطمة» ؛ إذ إنَّ الوجد لُغةً يُستعمَل في الغضب أيضاً. قال ابن السكيت:

«وجدَ ضالَّته وجداناً، ووجدَ عليه في الغضب موجَدة»(2) ، وقال الفراهيدي:

«والموجدة من الغضب»(3) ، وقال ابن منظور:

ووجد عليه في الغضب، يجُد ويجِدُ وجْداً وجِدَةً وموجَدة ووجداناً: غضب. وفي حديث الإيمان: "إنِّي سائلك فلا تجد عليَّ. أي: لا تغضب من سؤالي"(4).

وكما أنَّ ما في الصحيح صريح في الغضب والهجران، كذلك هو صريح في استمرار هذا الغضب والهجران حتّى وفاة فاطمة عليها السلام، وأنَّها ماتت وهي غاضبة على أبي بكر:

«فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت» .


1- إمتاع الأسماع، المقريزي، ج١٣، صص١5٨ و ١5٩.
2- الصحاح، الجوهري، ج٢، ص54٧.
3- كتاب العين، ج 6، ص١6٩.
4- لسان العرب، ج٣، صص445 و 446، مادّة وجد .

ص:95

ومبالغة في إظهار غضبها عليه، لم يُؤذَن له في الصلاة عليها ودفنها:

«فلمّا توفّيت، دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يُؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها» .

فقوله:

«ولم يُؤذن بها أبابكر» ، صريح في عدم الإذن لأبي بكر في المشاركة في مراسم الصلاة والدفن؛ وذلك بوصية منها عليها السلام. قال ابن حجر عقب قوله

«دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر» :

«ومن عدَّة طُرق، أنَّها دُفنت ليلاً، وكان ذلك بوصية منها؛ لإرادة الزيادة في التستّر. ولعلّه لم يعلم أبا بكر بموتها؛ لأنَّه ظنَّ أنَّ ذلك لا يخفى عنه»(1).

وممَّا يؤيّد أنَّ المراسم تمَّت بدون أن يشعر أبو بكر بها، هو ما أخرجه الحاكم في مستدركه، من طريق أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن يحيى، وأبو الحسين بن يعقوب الحافظ، قالا: حدّثنا أبو العباس محمّد بن إسحاق، حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت:

«دُفنت فاطمة بنت رسول الله ليلاً، دفنها عليٌّ، ولم يشعر بها أبو بكر، حتّى دُفنت، وصلّى عليها علي بن أبي طالب»(2).

والوجه الذي ذكره ابن حجر، في الاعتذار لأبي بكر في وصيّة فاطمة عليها السلام، بمنعه من الصّلاة عليها ودفنها، حيث قال:

«لإرادة الزيادة في التستّر» ؛ مجرّد ظنّ لا يُغني عن الحقّ شيئاً، ولو كان الأمر كما ذكر؛ لمُنع أولئك الذين أُذن لهم في الصّلاة عليها ودفنها، غير أمير المؤمنين (ع) .

وأمّا قوله:

«ولعلَّه لم يعلم أبا بكر بموتها. . .» ، فهو من قبيل التمسّك بالطُحلب كما يُقال، ولا ندري كيف احتمل ذلك ابن حجر؟ !

والمصيبة أنَّ العيني تابعه عليه. قال عقب قوله:

«ولم يُؤذن بها أبا بكر» :

«أي: ولم يُعلِم بوفاتها أبا بكر»(3).

وممّا يدلّ على فساد هذا الوجه، هو ما أخرجه البيهقي في السُنن الكبرى، من


1- فتح الباري، ج٧، ص٣٧٨.
2- المستدرك على الصحيحين، ج٣، ص١٧٨.
3- عمدة القاري، ج١٧، ص٢5٩.

ص:96

طريق أبي حازم الحافظ، أنبأ أبو أحمد بن محمّد الحافظ، أنبأ أبو العباس محمّد بن إسحاق الثقفي، حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا محمّد بن موسى، عن عون بن محمّد بن علي بن أبي طالب، عن أُمّه أمّ جعفر بنت محمّد بن جعفر، وعن عمارةبن مهاجر، عن أُمّ جعفر: أنَّ فاطمة بنت رسول الله (ص) قالت:

يا أسماء، إنِّي قد استقبحت ما يُصنَع بالنساء، إنَّه يُطرَح على المرأة الثوب فيصفها.

فقالت أسماء: يا بنت رسول الله (ص) ، ألا أُريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة؟ ! فدعت بجرائد رطبة فحَنَتْها، ثُمَّ طرحت عليها ثوباً.

فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله، يعرف به الرجال من المرأة. فإذا أنا متّ، فاغسليني أنت وعلي، ولا تُدخلي عليّ أحداً.

فلمّا توفّيت [فاطمة]، جاءت عائشة تدخل، فقالت أسماء: لا تدخلي. فشكَت أبا بكر، فقالت: إنَّ هذه الخثعميّة تحول بيني وبين ابنة رسول الله (ص) ، وقد جعلت لها مثل هودج العروس. فجاء أبو بكر، فوقف على الباب وقال: يا أسماء، ما حملك أن منعت أزواج النبي (ص) يدخلنَ على ابنة النّبي (ص) ، وجعلت لها مثل هودج العروس؟

فقالت: أمرتني أن لا تُدخِلي عليَّ أحداً، وأريتها هذا الذي صنعت وهي حيّة، فأمرتني أن أصنع ذلك لها.

فقال أبو بكر: فاصنعي ما أمرَتك، ثُمَّ انصرف.

وغسّلها عليٌّ وأسماء (1).

مضافاً إلى أنَّه مُخالف للُّغة والاستعمال؛ ففي لسان العرب، وتاج العروس:

«أنشد أبو خالد الأسدي: إذاه لم يؤذن له لم ينبس» (2) ، وفي الحديث:

«إن استأذن لم يؤذَن له، وإن شفع لم يشفَّع»(3).


1- السُنن الكبرى، ج4، صص٣4 و ٣5؛ الذرية الطاهرة، الدولابي، ص١54؛ الاستيعاب، ج4، صص١٨٧٩ و١٨٨٠؛ أسدالغابة؛ ابن الأثير، ج5، ص5٢4.
2- لسان العرب، ج١5، ص4٧6؛ تاج العروس، ج٢٠، ص4٢٩.
3- صحيح البخاري، ج٣، ص٢٢٣.

ص:97

وممّا يؤيّد أنَّ عدم الأذن لأبي بكر في المشاركة في الصّلاة على فاطمة عليها السلام، ودفنها بوصية منها، هو للمبالغة في إظهار غضبها عليه؛ هو أنَّ مقتضى العادة في مثل هذه الأمور، عند وفاة شخصية لها لَمْستها في المجتمع، أن يكون هناك ترتيب خاص يُشعِر بالامتنان لخدمات هذه الشخصية، لا أن يُمنَع الخليفة وأعضاء حكومته من الحضور والمشاركة، وتتمّ المراسم خلسة، تحت أستار الظلام!

فمع الأخذ بعين الاعتبار مكانة فاطمة عليها السلام، باعتبارها ابنة نبي الإسلام (ص) ، وسيّدة نساء العالمين، وأنَّ أبا بكر خليفة المسلمين؛ لا يمكن تصوّر دفنها والصّلاة عليها بذلك الشكل.

حاصل الكلام في دلالة الحديث

اتَّضح من خلال ما تقدّم أنَّ غضب فاطمة عليها السلام وسخطها على الشيخين، ليس من اختلاق الشّيعة، وإنَّما هو صريح دلالة الأحاديث المروية في صحيحي البخاري ومسلم، ومعه تتَّضح مصداقيّة إحسان إلهي ظهير في تعامله مع النصوص الإسلامية، فهذا من أقوى الشواهد على أنَّه لا يطلب الحقيقة، وإنَّما يطلب التهريج وتسويق ما يحمله من عقائد وأفكار، بغضّ النظر عن مخالفتها أو موافقتها للدليل.

دوافع إحسان ظهير وراء إنكاره لغضب فاطمة عليها السلام على الشيخين

لا تخفى على النبيه دوافع إحسان ظهير من وراء إنكاره لغضب فاطمة عليها السلام على الشيخين، ومخالفته لما في الصحيح؛ وأهمّ هذه الدوافع هي: التنصُّل من دلالات حديث البضعة، الذي يعدّ من الأحاديث الصحيحة التي يُقطع بصدورها عن النّبي (ص) ؛ حيث جاء في أهمِّ مصادر الحديث، ورواه أكابر محدِّثي وحفّاظ السنّة، فقد أخرج البخاري في صحيحه من طريق أبي الوليد، حدّثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن المِسْوَر بن مَخْرَمَة، أنَّ رسول الله (ص) قال:

«فاطمة بَضْعَة منِّي، فمَن أغضبها أغضبني»(1).


1- صحيح البخاري، ج4، صص٢١٠ و ٢١٩.

ص:98

وأخرج مسلم في صحيحه، من طريق أبي معمر إسماعيل بن إبراهيم الهذلي، بنفس إسناد البخاري المتقدّم، إلى المسور بن مخرمة، وفيه:

«إِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، يُوذِينِي مَا آذَاهَا»(1).

وأخرجه النسائي في السُنن الكبرى من طريق قتيبة بن سعيد، قال: أنا الليث، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، وفيه:

«يُريبُني ما أرابها، ويُؤذيني ما آذاها»(2).

وأخرجه الحاكم في مستدركه، من طريق أبي سهل أحمد بن محمّد بن زياد القطان ببغداد، حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدّثنا إسحاق بن محمّد الفروي، حدّثنا عبد الله بن جعفر الزاهري، عن جعفر بن محمّد، عن عبد الله بن أبي رافع، عن المسور بن مخرمة، وفيه:

«إنَّما فاطمة شجنة منِّي، يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها» .

وقد صحَّح الحاكم هذا الحديث؛ حيث قال:

«هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه»(3). ووافقه الذهبي في التلخيص؛ حيث قال:

«صحيح»(4).

والحاصل أنَّ الحديث ورد بلفظ البضعَة في أكثر ألفاظه كما تقدَّم، والبضْع هو القَطْع(5)، وفلان بضعة منِّى، أي: جارٍ مَجرى بعض جسدي؛ لقربه منِّي(6)، ومنه قوله (ص) :

«فاطمة بضعة منِّي» ، أي: قطعة منِّي.

ووردَ بلفظ الشِجنَة في رواية الحاكم، والشِجنَة: الرحم المشتبكة، وأصلها -بالكسر والضمّ - شُعبة من غصن من غصون الشجرة، ومنه

«فاطمة شِجنة منّي» ، أي: مُشتقّة منّي، يعني قرابة مشتبكة كاشتباك العروق.

وهذا الحديث، بمختلَف ألفاظه، يُثبت فضيلة من الفضائل التي اختصّت بها


1- صحيح مسلم، ج٧، ص١4١.
2- السُنن الكبرى، النسائي، ج5، ص٩٧.
3- المستدرك على الصحيحين، ج٣، ص١6٨.
4- المصدر نفسه.
5- لسان العرب، ج٨، ص١5.
6- مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص5٠.

ص:99

فاطمة عليها السلام دون سائر الناس، وقد استدلَّ به العلماء على أفضليّتها على سائر نساء الأُمّة (1)، وهو صريح الدلالة على أنَّ مَن آذى فاطمة عليها السلام فقد آذى رسول الله (ص) ؛ حيث ساوى بين غضبه وغضبها،

«فمَن أغضبها أغضبني» كما في حديث البخاري، كما ساوى بين أذاه (ص) وأذاها،

«يُؤذِينِي مَا آذَاهَا» كما في حديث مسلم، كذا ساوى بين إرابته (ص) وإرابتها، كما في حديث النسائي، وساوى انقباضه (ص) وانقباضها، وانبساطه وانبساطها، كما في حديث الحاكم؛ ولذا صرّح كثير من علماء السنَّة بحُرمة إغضابها وأذاها.

قال ابن حجر في فتح الباري، بعد نقله لحديث البضعة:

وفي الحديث تحريم أذى مَن يتأذّى النّبي (ص) بتأذّيه؛ لأنَّ أذى النّبي (ص) حرام اتِّفاقاً، قليله وكثيره، وقد جزم بأنَّه يؤذيه ما يُؤذي فاطمة، فكلّ مَن وقع منه في حقّ فاطمة شيء فتأذّت به، فهو يُؤذي النّبي (ص) ، بشهادة هذا الخبر الصحيح. ولا شيء أعظم في إدخال الأذى عليها من قتل ولدها؛ ولهذا عُرف - بالاستقراء - معاجلة مَن تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا، ولَعذاب الآخرة أشدّ(2).

وقال بذلك أيضاً المباركفوري في التحفة (3)، والعظيم آبادي في «عون المعبود»(4)، وآخرون.

وقال ابن حجر - أيضاً - في موضع آخر:

قوله: " فمَن أغضبها أغضبني "، استدلّ به السهيلي على أنَّ مَن سبّها فإنَّه يُكفَّر. وتوجيهه: إنَّها تغضب ممَّن سبَّها، وقد سوّى بين غضبها وغضبه، ومَن أغضبه (ص) يكفر(5).

وقال المناوي:


1- انظر: فتح الباري، ج٧، ص٨٢.
2- المصدر نفسه، ج٩، ص٢٧٠.
3- تحفة الآحوذي، المباركفوري، ج١٠، ص٢5١.
4- عون المعبود، العظيم آبادي، ج6، ص5٧.
5- فتح الباري، ج٧، ص٨٢؛ وهكذا ورد في فيض القدير، ج4، ص554.

ص:100

"مَن آذى شعرة منِّي [ أي: رسول الله (ص) ]". . أي: أحداً من أبعاضي، وإن صغُر، كنَّى به عن ذلك كما قال: " فاطمة بضعة منِّي، فمَن آذاها فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله ". زاد أبو نعيم والديلمي: فعليه لعنة الله، ملء السماء وملء الأرض. وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم وشرّفهم، ليس لأنفسهم، وإنَّما الله الذي اجتباهم وكساهم حلَّة الشرف. فلا ينبغي لمسلم أن يذمّهم بما وقع منهم؛ فإنَّ الله طهّرهم ويعلم الذامّ لهم أنَّ ذلك راجع إليه(1).

وقال العيني في عمدة القاري، بعد نقله لحديث البضعة:

«وفيه: تحريم أدنى أذى مَن يتأذّى النّبي (ص) بتأذِّيه»(2).

وقال في موضع آخر:

«قوله: "بضعة منِّي" بفتح الباء الموحدة وبضمّها على قول، وبكسرها أيضاً. واستدلّ به البيهقي على أنَّ مَن سبَّها فإنَّه يكفر»(3).

ومن هنا، تقف على مستوى خطورة إغضاب فاطمة عليها السلام؛ حيث ساوى رسول الله (ص) بين غضبها وغضبه، بل وقد ساوى الله تعالى بين غضبه وغضبها، ورضاه ورضاها، فقد أخرج الطبراني في معجمه، من طريق حسين بن زيد بن علي، عن علي بن عمر بن علي، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن الحسين بن علي (ع) ، عن أمير المؤمنين (ع) ، قال:

«قال رسول الله (ص) لفاطمة: "إنَّ الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك"»(4).

وأورده عنه الهيثمي في زوائده، وحسَّن سَنَده، قال:

«وعن علي، قال: قال رسول الله (ص) : "إنَّ الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك". رواه الطبراني، وإسناده حسن»(5).

وأخرجه الحاكم في مستدركه من طريق حسين بن زيد بن علي أيضاً،


1- فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي، ج6، ص٢4.
2- عمدة القاري، ج٢٠، ص٢١٢.
3- المصدر نفسه، ج١6، ص٢4٩.
4- المعجم الكبير، الطبراني، ج١، ص١٠٨؛ ما أسند علي بن أبي طالب ع . ج٢٢، ص4٠١.
5- مجمع الزوائد، الهيثمي، ج٩، ص٢٠٣.

ص:101

وصحَّح سَنده، قال

: «قال رسول الله (ص) لفاطمة: "إنَّ الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك"» . ثُمَّ قال الحاكم في عقبه:

«هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»(1).

وتصحيح الحاكم لسند الحديث، وتحسين الهيثمي له، كافيان في وضع الحديث في مرتبة ال- (حسن) على أقلّ تقدير، ولا شبهة في جواز الاحتجاج بالحسن، كالصحيح.

وقد ذكر علماء السنَّة عدّة وجوه لتوجيه غضب فاطمة عليها السلام على الشيخين، استقصيناها في رسالة منفردة، لكن ما ذهب إليه إحسان ظهير من إنكار غضبها عليهما، واتِّهام علماء الشيعة في اختلاقه، غريب جدّاً، ولم يسبقه إليه أحد!

دعوى نقل الشّيعة لسيرة أبي بكر الدالّة على رضا الزهراء عليها السلام بحكمه

ادَّعى إحسان إلهي ظهير أنَّ علماء الشيعة نقلوا من سيرة أبي بكر العملية -فيما يتعلّق بتركة الرّسول (ص) - ما يدلّ على رضا الزهراء عليها السلام بحكم أبي بكر، حيث قال:

«نقل أئمَّة القوم أنفسهم بأنَّ أبا بكر لم يكتفِ على الكلام فقط، بل أعقبه بالعمل»(2).

وهذه دعوى مجرّدة عن الدليل؛ حيث لم نجد - كما لا يجد غيرنا - في جميع أسفار الإماميّة ما يدعم فريته هذه.

نعم، استشهد، إقحاماً وتَمَحُّلاً، على ذلك بعبارة نسبها إلى ابن ميثم والدنبلي، وابن أبي الحديد وفيض الإسلام، حيث قال:

كما يروي ابن الميثم والدنبلي، وابن أبي الحديد، والشيعي المعاصر فيض الإسلام علي نقي: " إنَّ أبا بكر كان يأخذ غلّتها - أي: فدك - فيدفع إليهم - أهل البيت - منها ما يكفيهم، ويقسّم الباقي، فكان عمر كذلك، ثُمَّ كان عثمان كذلك، ثُمَّ كان عليّ كذلك"(3).

وهذا تدليس تقدّم بيانه فيما مرّ، عند الكلام حول تدليس ظهير في كلام


1- المستدرك على الصحيحين، ج٣، ص١54.
2- الشّيعة وأهل البيت، ص٨4.
3- المصدر نفسه.

ص:102

ابن ميثم البحراني والدنبلي؛ فهذا النصّ المذكور هنا، هو بعض ما نقله البحراني هناك بقوله:

« وروي أنَّ أبا بكر قال لها: إنَّ لك ما لأبيك. . . كان يأخذ غلّتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم، ويقسّم الباقي. . .» ، وكذا الدنبلي على ما مرّ بيانه.

فهذا كلّه - كما تقدّم - هو عبارة عن نصّ واحد، ذكره ابن ميثم البحراني والدنبلي تحت قولهما:

«وروي. . .»(1) ، والّذي رواه ابن أبي الحديد عن الجوهري. وهذا القول هو مقابل القول المتَّفق عليه عند الشّيعة، كما حكاه عنهم ابن ميثم البحراني والدنبلي أيضاً، تحت قولهما:

« المشهور بين الشيعة والمتّفق عليه عندهم. . .» (2) ، وقد تقدّم. لكنَّ إحسان إلهي ظهير قطع العبارة أكثر من مرّة، وأخذ يستشهد بقسم منها في مناسبات متعدّدة، مستغلّاً عدم اطِّلاع بعض القرّاء على هذه الشروح لنهج البلاغة.

دعوى دلالة روايات وأقوال الشيعة على عدم غصب حقوق الزّهراء عليها السلام

من الأمور الواضحة البطلان، والّتي لا تخفى على محقِّق، هي ما ادَّعاه إحسان إلهي ظهير من دلالة النّصوص الشيعية على عدم غصب أبي بكر لحقوق الزّهراء عليها السلام، وقد استشهد على ذلك بنصٍّ نسبه للعلّامة المجلسي، وروايتين، نسب إحداهما للإمام الباقر (ع) ، والأُخرى لزيد بن علي (ع) ، حيث قال إحسان ظهير:

وأمَّا غصب حقوقها، فها هو المجلسي، وهو على تَعنّفِه وتَعَنُّتِه، يضطرّ إلى أن يقول: "إنَّ أبا بكر لمّا رأى غضب فاطمة، قال لها: أنا لا أنكر فضلك وقرابتك من رسول الله (ص) ، ولم أمنعك من فدك إلاّ امتثالاً بأمر رسول الله. . . ".

فهل بعد هذا يمكن لأحد أن يقول: إنَّ أبا بكر أغضبها، وغصب حقّها، وأراد إيذاءَها. . ؟ ! (3)


1- شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، ج5، ص١٠5؛ الدرّة النجفية، الدنبلي، صص٣٣١ و ٣٣٢.
2- المصدر نفسه.
3- الشّيعة وأهل البيت، ص٨٨.

ص:103

وقال أيضاً:

ولأجل ذلك، لمّا سُئل أبو جعفر محمّد الباقر عن ذلك، وقد سأله كثير النوال(1)

:

"جعلني الله فداك، أرأيت أبا بكر وعمر، هل ظلماكم من حقّكم شيئاً. . . ؟ فقال: لا، والّذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً، ما ظلمانَا من حقِّنا مثقال حبَّة من خردل. . . ".

وأخو الباقر، زيد بن علي بن الحسين، قال أيضاً في فدك مثل ما قاله جدّه الأوّل علي بن أبي طالب، وأخوه محمّد الباقر، لمّا سأله البحتري بن حسان. وهو يقول: "قلت لزيد بن علي وأنا أريد أن أهجّن أمر أبي بكر: إنَّ أبا بكر انتزع فدك من فاطمة. فقال: إنَّ أبا بكر كان رجلاً رحيماً، وكان يكره أن يغيّر شيئاً فعله رسول الله (ص) . . . ثُمَّ قال زيد: وايم الله، لو رجع الأمر إليّ، لقضيت فيه بقضاء أبي بكر"(2).

وبطلان هذه الدعوى واضح؛ وذلك لأمرين:

الأمر الأوَّل: إنَّ الشّواهد الّتي ذكرها ليست شيعية، فإنَّ الرّوايتين اللّتين نسبهما للإمام الباقر (ع) وزيد بن علي (ع) لم تَرِدا في مصادر الشيعة، وإنَّما أوردهما النميري في «تاريخ المدينة» ، قال:

حدَّثنا محمّد بن الصباح، قال: حدّثنا يحيى بن المتوكلّ، أبو عقيل، عن كثير النوا، قال: قلت لأبي جعفر: جعلني الله فداك، أرأيت أبا بكر وعمر، هل ظلماكم من حقّكم شيئاً، أو ذهبا به؟

قال: لا، والّذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، ما ظلمانا من حقّنا مثقال حبّة من خردل.

قلت: جُعلت فداك، فأتولاّهما؟ قال: نعم، ويحك، تولّهما في الدنيا والآخرة، وما أصابك ففي عُنقي(3).


1- كذا نقل النصّ، والصحيح كثير النواء.
2- الشّيعة وأهل البيت، ص٨٩.
3- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري، ج١، ص٢٠١.

ص:104

وقال في تاريخه أيضاً:

حدَّثنا محمّد بن عبد الله بن الزبير، قال: حدّثنا فضيل بن مرزوق، قال: حدّثني النميري بن حسان، قال: قلت لزيد بن علي رحمة الله عليه، وأنا أريد أن أهجّن أمر أبي بكر: إنَّ أبا بكر انتزع من فاطمة فدك.

فقال: إنَّ أبا بكر كان رجلاً رحيماً، وكان يكره أن يغيِّر شيئاً تركه رسول الله (ص) ، فأتته فاطمة، فقالت: إنَّ رسول الله (ص) أعطاني فدك.

فقال لها: هل لك على هذا بيّنة؟

فجاءت بعلي فشهد لها، ثُمَّ جاءت بأُمِّ أيمن، فقالت: أليس تشهد أنَّي من أهل الجنّة؟

قال: بلى، - قال أبو أحمد: يعني أنَّها قالت ذاك لأبي بكر وعمر -. قالت: فاشهد أنَّ النّبيّ (ص) أعطاها فدك.

فقال أبو بكر: فبرجل وامرأة تستحقّينها، أو تستحقّين بها القضية؟ !

قال زيد بن علي: وايم الله، لو رجع الأمر إليّ، لقضيت فيها بقضاء أبي بكر(1).

ثُمَّ الجوهري في «السّقيفة وفدك»(2)، ونقله عنه ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»(3).

ولم يدَّعِ أحد من السنّة أنَّ النميري والجوهري من الشيعة، كما لم يثبت كون ابن أبي الحديد منهم. نعم، ادَّعى إحسان ظهير ذلك، وقد أجبنا عليه فيما تقدَّم (4).

وأمّا النصّ الّذي نسبه للعلاّمة المجلسي، فهو محض ادّعاء؛ إذ النص ليس للعلّامة المجلسي، وإنَّما هو في حقيقة الأمر فقرة من خطبة الزهراء عليها السلام برواية الجوهري، وهو من علماء السنّة، وقد كان العلامة المجلسي بصدَد تصحيح خطبة


1- تاريخ المدينة، ج١، ص١٩٩.
2- السقيفة وفدك، الجوهري، ص١١٠.
3- شرح نهج البلاغة، ج١6، صص٢١٩ و ٢٢٠.
4- انظر: مدخل الكتاب.

ص:105

الزهراء عليها السلام من طرق السنَّة.

والعجيب من إحسان ظهير أنَّه ادّعى ذلك، مع أنَّ المجلسي صرَّح بشكل واضح، في بداية الخطبة، أنَّه سيقتصر في نقلها على طرق السنّة، ثُمَّ ساق خطبة سيدة نساء العالمين، الّتي نأمل من القارئ الكريم أن يتأمّل فيها. وإليك ترجمة عبارة العلامة المجلسي (1).

قال:

ما ورد من الأخبار والسِير، وسأنقلها من طرق أهل الحديث وكتبهم، لامن كتب الشيعة، وهذه الروايات، وجميع ما أورده هنا في هذا الفصل هو من كتاب (السّقيفة) ، لأبي بكر أحمد بن عبد الرحمن الجوهري، وهو رجل عالم، محدِّث، كثير الآداب، ثقة، صاحب ورع، وقد أثنى عليه المحدِّثون، ورووا عنه تصانيفه وتصانيف غيره، وقد روى هذه الخطبة بثلاثة أسانيد، عن زينب بنت أميرالمؤمنين (ع) ، وعن الإمام محمّد الباقر (ع) ، وعن عبد الله بن الحسن. ورواها صاحب (كشف الغمَّة) عن الجوهري أيضاً، وأشار إليها المسعودي في كتابه (مروج الذهب) ، الّذي هو أكثر كتب التاريخ اعتباراً. . . (2).

ثُمَّ ساق بعد ذلك الخطبة.

وأنت ترى كيف اقتطع إحسان ظهير مقطعاً من الكلام ونسبه للعلامة المجلسي، والحال أنَّ العلامة صرّح بشكل واضح بأنَّه بصدد نقل خطبة الزهراء عليها السلام برواية السنَّة، ومن كُتبهم، لا من كتب الشّيعة.


1- نصّ العبارة تجده في الهامش.
2- حقّ اليقين، العلامة المجلسي، صص٢٠٣ - ٢١٠. ونصّ عبارته هي: «آنچه وارد شده از اخبار و سير، كه از دهان هاى اهل حديث و كتب ايشان نقل مى كنم، نه از كتب شيعه، و راويان ايشان، و جميع آنچه را ايراد مى كنم در اين فصل، از كتاب سقيفه ابو بكر احمد بن عبد الرحمن جوهريست، و اين ابوبكر جوهرى مرد عالم، محدث كثير الاداب، ثقه و صاحب ورعى است، كه ثنا كرده اند بر او محدثان و روايت كرده اند از او تصانيف او و غير تصانيف او را، پس به سه سند اين خطبه را روايت كرده از زينب دختر اميرالمؤمنين ع ، و از امام محمّد باقر، و از عبدالله بن حسن و صاحب كشف الغمه، نيز از كتاب جوهرى روايت كرده است، و مسعودى در كتاب مروج الذهب، كه معتبرترين تواريخ است، اشاره به اين خطبه كرده است. . .» .

ص:106

الأمر الثاني: إنَّ التّراث الروائي الشيعي المرويّ عن النّبيّ الأكرم (ص) وأهل بيته الطّاهرين عليهم السلام؛ تراث كبير، تكفَّل علماء الرجال والدراية الشيعة بتنقيحه، وقد احتوى هذا التراث الضخم على الكثير من النصوص الصحيحة، الّتي تعكس شدّة مظلومية الزهراء عليها السلام، فضلاً عن غصب حقوقها؛ فقد روى الشيخ الطوسي في «الأمالي» ، بسنده عن أمير المؤمنين (ع) ، قال:

إنَّ فاطمة بنت رسول الله (ص) لم تزل مظلومة، من حقِّها ممنوعة، وعن ميراثها مدفوعة، لم تُحفَظ فيها وصيّة رسول الله (ص) ، ولارُعِيَ فيها حقّه، ولا حقّ الله عزّوجلّ، وكفى بالله حاكماً ومن الظالمين مُنتقماً(1).

وروى الشيخ الكليني في الكافي، بسنده عن الإمام أبي الحسن (ع) ، قال:

«إنَّ فاطمة عليها السلام صدِّيقة شهيدة»(2).

وفي نهج البلاغة، أنَّ أمير المؤمنين (ع) قال:

«بلى، كانت في أيدينا فدك، من كلّ ما أظلّته السماء، فشحَّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين» (3).

فهذه النصوص الّتي تصرّح بغصب حقوق الزّهراء عليها السلام، ومظلوميّتها وشهادتها، لايمكن معارضتها بتلك الشواهد الّتي ادّعى إحسان إلهي ظهير أنَّها شيعية، واستظهر منها عدم مظلوميّة الزهراء عليها السلام، وعدم غصب حقوقها.

علل وأسباب رفض إعطاء فدك

من المسائل الّتي طُرحت من قبل إحسان إلهي ظهير، لغرض التشويه على أصل قضية مظلوميّة الزّهراء عليها السلام، ودفعها عن مقامها وأخذ حقِّها، هي مناقشته لما ذُكر من أحد الأسباب والدوافع وراء ذلك؛ فقد نسب لبعض علماء الشيعة أنَّ السبب وراء ذلك كان هو إضعاف الجانب الاقتصادي لأهل البيت عليهم السلام، ثُمَّ ردّ ذلك، حيث قال:

أراد المجلسي وغيره. . . أن يُثبتوا أنَّ أبا بكر ورفاقه لم يعملوا هذا إلاَّ لأن


1- الأمالي، الشّيخ الطّوسي، ص١56.
2- الكافي، ج١، ص45٨.
3- نهج البلاغة، ج٣، ص٧١.

ص:107

يُفلِسوا عليّاً وأهل البيت، كيلا يجلب الناس إليهم بالمال والمنال.

فيا عجباً. . ! هل هم يظنّون عليّاً وأهل بيته أمثال طلّاب الحكم والرئاسة في هذه العصور المتأخّرة، بأنَّهم يطلبونها بالمال والرشا؟ !

وإن كانت القضية هكذا، فالمال كان متوفّراً عندهم؛ لأنَّ الكليني يذكر ويروي عن أبي الحسن. . . أنَّ الحيطان السبعة كانت وقفت على فاطمة. . . ، فهل مَن يملك العقارات السبعة ينقصه من المال شيء؟ ! (1).

ويلاحظ على كلامه:

إنَّ الأسباب الّتي قد تُذكَر وراء أخذ فدك من الزهراء عليها السلام، ومنعها من حقوقها -سواء كانت وجيهة أم غير وجيهة - لا تؤثِّر على أصل وقوع الحادثة، ولا تقلِّل من عظم وشدَّة وطأتها على أهل بيت النبيّ (ص) ؛ إذ إنَّها من الثوابت التاريخية الّتي نصّت عليها أصحّ المصادر والنصوص لدى المسلمين، كما تقدّم ذلك عن صحيح مسلم والبخاري. كما أنَّ تلك الأسباب الّتي ذُكرت وراء ذلك المنع، لاتعدو كونها اجتهادات، قد تُصيب وقد تخطئ.

إنَّ ما حكاه إحسان إلهي ظهير عن العلاّمة المجلسي، من أنَّ السبب وراء منع أبي بكر وأخذه حقوق الزهراء عليها السلام كان إضعاف الجانب الماديّ لأمير المؤمنين (ع) ، وأهل البيت عليهم السلام، - مضافاً إلى أنَّ إلهي ظهير لم يذكر المصدر الّذي استقى منه كلام المجلسي - هو أحد الأسباب الّتي ذُكرت في المقام، وله ما يبرِّره وفق المُعطيات التاريخيّة والجغرافيّة لفدك؛ فإنَّها كانت ذات مساحة واسعة، ولها عائد مادّي كبير، بحيث إنَّ الخلفاء والملوك كانوا يتقاسمونها بين أقاربهم وذويهم، بالرّغم من اتّساع الدّولة الإسلامية وكثرة الفتوحات، كما تقدَّمت الإشارة إليه في السَير التاريخي لفدك.

شواهد على اتّساع مساحة فدك وكثرة عائداتها:

منها أنَّ رسول الله (ص) كان يستعمل بعض عائداتها لشراء السلاح والإبل، ولحمل المعدّات والمُؤن للجيش الإسلامي، على الرّغم من كثرة عدَده آنذاك،


1- الشّيعة وأهل البيت، صص٨6 و ٨٧.

ص:108

وقوّة شوكته. قال الرّازي:

«كان عليه الصلاة والسلام يأخذ من غلّة فدك نفقته ونفقة مَن يعوله، ويجعل الباقي في السلاح والكراع»(1). والكراع: هي الإبل. قال ابن منظور:

«يُستعمل الكراع أيضاً للإبل، كما استعمل في ذوات الحافر»(2).

ومنها رواية البخاري المتقدِّمة، قال:

«فكان رسول الله (ص) يُنفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثُمَّ يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله» (3). ففي هذا دلالة واضحة على أنَّ فدك كانت من الأموال المُعتدّ بها، بل يمكن الادّعاء أنَّ فدك كانت من أهمِّ الموارد المالية في أوائل زمن أبي بكر؛ حيث لم تكن آنذاك موارد كثيرة لدولته، خصوصاً مع قلّة الفتوحات وكثرة المعارضة والخلافات في بداية عهده، حتّى أنَّه قاتلَ مانعي الزكاة. قال الحلبي في سيرته:

وفي كلام سبط ابن الجوزى، أنَّه كتب لها بفدك، ودخل عليه عمر رضى الله عنه

فقال: ما هذا؟

فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها.

فقال: ممَّاذا تُنفق على المسلمين، وقد حاربتك العرب كما ترى؟ !

ثُمَّ أخذ عمر الكتاب فشقَّه (4).

وكون الجانب الماديّ لفدك هو أحد الأسباب وراء مصادرتها من أهل البيت عليهم السلام، لا يتنافى مع المرويّ في الكافي من أنَّ الحيطان السبعة كانت وَقفاً على الزهراء عليها السلام؛ لأنَّ هذه الحيطان كانت محدودة الموارد، وكان النّبيّ (ص) يصرف مواردها على أضيافه، ويستعملها في نوائبه، كما في رواية الكافي، بسنده عن أحمد بن محمّد، أنَّه سأل الإمام الرضا (ع) عن الحيطان السبعة الّتي كانت ميراث رسول الله (ص) لفاطمة عليها السلام، فقال:

«لا، إنَّما كانت وَقفاً، وكان رسول الله (ص) يأخذ إليه منها ما يُنفِق على أضيافه والتابعة يلزمه فيها»(5).


1- تفسير الرازي، ج٢٩، ص٢٨4.
2- لسان العرب، ج٨، ص٣٠6.
3- صحيح البخاري، ج4، ص4٣.
4- السيرة الحلبية، ج٣، ص4٨٨.
5- الكافي، ج٧، ص4٧. الظاهر أنَّ قوله: والتابعة هو تصحيف ل- والنائبة .

ص:109

ورواه الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي مُرسلاً، وفيه:

«ومَن يمرّ به»(1) ، بدل قوله:

«والتابعة تلزمه فيها» .

وظاهر الخبر المذكور أنَّه (ص) وقف هذه الحوائط في حياته على فاطمة عليها السلام، وشرط الإنفاق منها على أضيافه وما ينوبه، وهو المشار إليه ب- «التابعة» ، أي: ما يتبع الإنسان ممّا يهمّه ويعينه.

والحائط هو البستان الصغير، سُمِّي بهذا الاسم؛ لأنَّه كان يُسوَّر بحائط من الطين(2). وقد كانت هذه الحيطان لرسول الله (ص) ، يُنفق من هذه الحيطان على أضيافه، ويستعملها في نوائبه.

فلا يمكن المقارنة بين المال المستعمَل في بثِّ الحركة والحياة في شرايين الدّولة الإسلاميّة، وبين المال المستعمَل في الاحتياجات الشخصيّة والعائليّة.

الخوف من أن تدَّعي فاطمة عليها السلام الخلافة لأميرالمؤمنين (ع)

ذكر بعض علماء السنّة من المعتزلة سبباً ظريفاً وراء أخذ فدك من الزّهراء عليها السلام، ومنعها من حقوقها وعدم تصديقها، وردّ دعواها في نحلتها وإرثها من والدها رسول الله (ص) ؛ حيث أفاد ذلك البعض بأنَّ السرَّ في ذلك هو: خوف أبي بكر وعمر من دعواها الخلافة لأمير المؤمنين (ع) ، وأنَّه الخليفة المنصوص عليه، وبالتالي فإنَّ تصديقها في باب النِحلة والإرث وقبول دعواها فيه، يستلزم تصديقها وقبول دعواها في مقام الخلافة أيضاً.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي:

سألت علي بن الفارقي، مدرّس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟

قال: نعم.

قلت: فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟


1- مَن لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص٢44؛ تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج٩، ص١45.
2- لسان العرب، ج٧، صص٢٧٩ و ٢٨٠، مادة حوط .

ص:110

فتبسَّم، ثُمَّ قال كلاماً لطيفاً مُستحسناً، مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته، قال: " لو أعطاها اليوم فدك بمجرّد دعواها، لجاءت إليه غداً وادَّعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء؛ لأنَّه يكون قد أسجلَ على نفسه أنَّها صادقة فيما تدَّعي، كائناً ما كان، من غير حاجة إلى بيِّنة ولا شهود"(1).

ثُمَّ علَّق ابن أبي الحديد على كلام الفارقي، قائلاً:

«وهذا كلام صحيح، وإن كان أخرجه مخرج الدُعابة والهزل»(2).

وحاصل الكلام: بغضِّ النظر عن الأسباب الّتي جعلت أبا بكر يأبى أن يدفع شيئاً من نِحلة الزهراء عليها السلام وإرثها، فإنَّ كلّ ما قيل أو يقال في الباب، لا يعدو كونه اجتهاداً، لكنَّ الأمر اليقيني الّذي لا يقبل النّقاش، هو أنَّ هذا التصرّف أثَّرَ تأثيراً سلبياً جدّاً على مكانة أهل البيت عليهم السلام الشامخة بين المسلمين وأضعفها، وقلَّل من تأثيرهم في نفوسهم، وولَّد الجُرأة عليهم، ولعلّ فاجعة كربلاء هي نتيجة من نتائج ذلك.


1- شرح نهج البلاغة، ج١6، ص٢٨4.
2- المصدر نفسه.

ص:111

الفصل الثاني: النِّحْلَةُ والإرْث

اشاره

ص:112

ص:113

المبحث الأوّل: فدك نِحلة الرسول (ص) لفاطمة عليها السلام

اشاره

النِّحْلَة في اللغة: العَطيَّة(1)، ومنه قوله تعالى: وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (النساء: 4) ، أي: عطيَّة عن طيب نفس. وأكثر ما يُستعمل في عطيّة الولد، وهي من المستحبَّات الّتي ندب إليها القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى (البقرة: ١٧٧) ، والابتداء بالقرابة في الآية الكريمة، مُشعِر بالأفضلية.

وفي الاصطلاح: هي تمليك عين أو مال من دون عِوض (2)، وهذا المعنى هو المقصود في المقام.

وأوضح الشواهد عليها وأكثرها جدلاً، منذ العهد الأوّل وحتّى وقتنا الحاضر، هي فدك؛ ففي الأيّام الأُولى لحكومة أبي بكر، وقبل أن يستَتبّ له الأمر بشكلٍ كامل، دارت خصومة شديدة بينه وبين الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام حول نحلة رسول الله (ص) إيّاها «فدك» ؛ فقد ادَّعت الصدِّيقة النِّحلة، ولم يقبل دعواها، وطالبها بالشهود، فشهد لها بذلك أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام، وأُمُّ أيمن، فلم يكتفِ بهؤلاء الشهود، وطالبها ببيّنة كاملة، وهي:


1- انظر: القاموس المحيط، الفيروز آبادي، ج4، ص55؛ لسان العرب، ج١١، ص65٠.
2- انظر: تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج٢، ص4١5؛ مسالك الإفهام، زين الدين بن نور الدين العاملي الشهيد الثاني ، ج6، ص٧.

ص:114

رجلان، أو رجل وامرأتان. بعد أن انتزعها من يدها، وأخرج منها وكيلها وعمّالها عليها.

فهنا عدّة أمور لابدّ من النظر فيها، وهي:

الدليل على أنَّ الرّسول (ص) نحل فدك لابنته فاطمة عليها السلام

اشاره

لقد ثبت لدى علماء الشيعة بالدليل النقلي القاطع، وانعقد إجماعهم، على نِحلة الرّسول (ص) فدك لابنته فاطمة. غير أنَّ الّذي يهمّنا هنا، هو إثبات المسألة وِفق طُرق ومباني السنَّة، حيث هناك عدّة طرق وشواهد على أنَّ فدك كانت نِحلة لفاطمة عليها السلام، وهذه إشارة لبعضها:

١. الروايات

أخرج عدّة من أعلام حفّاظ السنّة ومحدّثيهم، أنَّ رسول الله (ص) ، لمّا نزل قوله تعالى: ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) (الإسراء: ٢6) ، دعا فاطمة عليها السلام فأعطاها فدك والعوالي.

فقد أخرج أبو يعلى الموصلي - ت/ ٣٠٧ - في مُسنده، بسَنده عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال:

«لمّا نزلت هذه الآية: ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)

، دعا النبيّ (ص) فاطمة، وأعطاها فدك»(1).

وقد أخرج هذا الحديث عن أبي سعيد عدّة من علماء السنّة ومحدّثيهم. قال السيوطي:

أخرج البزار، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري، قال: "لمّا نزلت هذه الآية: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ، دعا رسول الله (ص) فاطمة، فأعطاها فدك"(2).

وقال أيضاً في كتابه لُباب النقول:

«أخرج الطبراني وغيره، عن أبي سعيد


1- مسند أبي يعلى الموصلي، ج٢، ص٣٣4.
2- الدر المنثور، جلال الدين السّيوطي، ج4، ص١٧٧. وانظر: فتح القدير، الشوكاني، ج٣، ص٢٢4.

ص:115

الخدري، قال: "لمَّا أنزلت: ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)

، دعا رسول الله (ص) فاطمة، فأعطاها فدك"»(1).

وأخرجه أيضاً ابن عدي، قال:

«عن عطية، عن أبي سعيد، قال: لمّا. . . ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)

، دعا رسول الله (ص) فاطمة، فأعطاها فدك"»(2).

وقد وقع للبعض كلام في هذا الحديث من جهة عطية العوفي(3)، إلاّ أنَّ هذا الكلام في عطية مردود؛ لأنَّه قد وثَّقه كبار علماء الرجال. قال ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى:

«وكان ثقة، إن شاء الله، وله أحاديث صالحة»(4). ونقل عمر بن شاهين، عن يحيى بن معين، قال:

«عطية العوفي ليس به بأس»(5)

وصرّح يحيى بن معين، أنَّ مَن قلت فيه: لا بأس به، فهو ثقة. فقد أخرج الخطيب البغدادي، بسنده عن أحمد بن أبي خيثمة، قال:

قلت ليحيى بن معين: "إنَّك تقول: فلان ليس به بأس، وفلان ضعيف؟ ! " قال: "إذا قلت لك ليس به بأس، فهو ثقة، وإذا قلت لك هو ضعيف، فليس هو بثقة، لا يكتب حديثه"(6)

وقال ابن أبي حاتم:

«سُئل أبي عن أبي نضرة وعطية، فقال: "أبو نضرة أحب إليّ"»(7)

وأبو نضرة ثقة، وهذا الكلام لأبي حاتم، ويدلّ على وثاقة عطية؛ لأنَّه عبارة عن مقارنة بين ثِقتَين، والسؤال عن الأوثق منهما. وإلاّ - لو كان عطية ضعيفاً - لقال كلاماً آخر غير ذلك.

ومن هذا القبيل قول يحيى بن سعيد القطان، لمّا سُئل عن جبر بن نوف


1- لباب النقول، جلال الدين السّيوطي، ص١٢٣.
2- الكامل، عبدالله بن عدي، ج5، ص١٩٠.
3- انظر: مجمع الزوائد، ج٧، ص4٩.
4- الطبقات الكبرى، ج6، ص٣٠4.
5- تاريخ أسماء الثقات، ابن شاهين، ص١٧٢.
6- الكفاية، الخطيب البغدادي، ص٣٩.
7- الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم الرّازي، ج٨، ص٢4١.

ص:116

أبي الوداك، فقال:

«هو أحبّ إليَّ من عطية»(1).

وقال أبو بكر البزار:

«روى عنه جلّة النّاس» (2).

وقد حسَّن وصحح الترمذي له عدّة أحاديث في سُننه(3).

وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه حديثاً(4)، وقد سمّى كتابه بالمُسند الصحيح، المتّصل بنقل العدل عن العدل، من غير قطع في السنَد ولا جرح في النَقَلة(5). وقال الحافظ ابن حجر:

«إنَّ حكم الأحاديث الّتي في كتاب ابن خزيمة. . . صلاحية الاحتجاج بها؛ لكونها دائرة بين الصحيح والحسن، ما لم يظهر في بعضها علّة قادحة»(6)

وقال عنه الهيثمي في عدّة مواضع:

«وُثِّق»(7)

وقال ابن حجر:

«صدوق يُخطِئ كثيراً» (8).

وأمّا اعتراض ابن كثير على هذا الحديث، وقوله:

«وهذا الحديث مشكل لو صحَّ إسناده؛ لأنَّ الآية مكّية، وفدك إنَّما فُتحت مع خيبر، سنة سبع من الهجرة، فكيف يلتئم هذا مع هذا؟ !»(9)؛ فهو غير صحيح؛ لأنَّه قد صرّح كثير من المفسّرين بأنَّ الآية مدنية، كالرازي، وأبي السعود، والسيوطي، قالوا: «سورة الإسراء مكّية، إلاّ الآيات: ٢6 و٣٢ و٣٣ و5٧» (10). وآية وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، هي الآية السادسة


1- التاريخ الكبير، البخاري، ج٢، ص٢4٣؛ تهذيب التهذيب، ابن حجر، ج٢، ص5٢.
2- تهذيب التهذيب، ج٧، ص٢٠٢.
3- سُنن الترمذي، ج١، ص٢٩6؛ ج٢، ص٣٩4؛ ج٣، صص٢٢٨، ٣١٧ و ٣١٨؛ ج4، صص٧ و ٨، 4٢، 46، ٨4، ٩6، ٢6٠ و ٢6١؛ ج5، صص٢٣، 5٠، ١٣٧، ٢6٨، ٢٧٨ و ٢٧٩، ٣٠٣، ٣٧٢.
4- صحيح ابن خزيمة، ج٣، ص١5٩.
5- انظر: صحيح ابن خزيمة، ج١، ص٣؛ النُّكَت على كتاب ابن الصلاح، الحافظ ابن حجر العسقلاني، ج١، ص٢٢.
6- النكت على كتاب ابن الصلاح، ج١، ص٢٩١.
7- مجمع الزوائد، ج4، صص5٩، ٧٢، ١٠٢، ٢6٣، ٢٨٢؛ ج5، ص١٣٢؛ ج٨، صص١٨6 و ١٨٧؛ ج١٠، صص٣٨٨، 4٠٧.
8- تقريب التهذيب، ابن حجر، ج١، ص6٧٨.
9- تفسير ابن كثير، ج٣، ص٣٩.
10- تفسير الرازي، ج٢٠، ص١45؛ تفسير أبي السعود، ج5، ص١5٣؛ تفسير الجلالين، السيوطي، ص٣64.

ص:117

والعشرون من سورة الإسراء.

وأخرج الحاكم الحسكاني(1)في شواهد التنزيل الحديث بسَنده بعدَّة طُرق، منها: عن عطاء، عن ابن عباس، قال:

« لمّا أنزل الله ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ، دعا رسول الله (ص) فاطمة وأعطاها فدك؛ وذلك لصلة القرابة» (2).

وأخرجه أيضاً بسَنده عن الإمام الصّادق (ع) ، عن الإمام الباقر (ع) ، عن الإمام السجاد (ع) ، عن الإمام الحسين (ع) ، عن أمير المؤمنين (ع) ، قال:

« لمّا نزلت ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ، دعا رسول الله فاطمة عليهما السلام، فأعطاها فدك»(3).

ونقل السيوطي أنَّ هذا الحديث أخرجه أيضاً ابن مردويه عن ابن عباس، قال السيوطي:

«أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: لمّا نزلت: ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ، أقطع رسول الله (ص) فاطمة فدكاً» (4)

وأخرج الطبراني، بسَنده عن عمر، قال:

لمّا قُبض رسول الله (ص) ، جئت أنا وأبو بكر إلى علي، فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله (ص) ؟ قال: "نحن أحقّ الناس برسول الله وبما ترك". قال: فقلت: والّذي بخيبر؟ قال: "والّذي بخيبر". قلت: والّذي بفدك؟ فقال: "والّذي بفدك". قلت: أما والله حتّى تحزّوا رقابنا بالمناشير، فلا والعذرات(5).

وقوله (ع) في أنَّ فدك حقّهم عليهم السلام، يتناسب مع النحلة والإرث.


1- قال الذهبي في ترجمته: «الحسكاني القاضي المحدّث، أبو القاسم عبيدالله بن عبدالله بن أحمد بن محمّد بن أحمدبن محمّد بن حسكان، القرشي العامري النيسابوري الحنفي الحاكم، ويُعرَف بابن الحذاء [الحافظ]، شيخ مُتقن، ذو عناية تامّة بعلم الحديث. . . ، وكان معمراً عالي الإسناد، صنَّف [في الأبواب]، وجمع وحدّث عن جدّه، وعن أبي الحسن العلوي، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي طاهر بن محمش، و. . . ، وقد توفّي بعد السبعين وأربعمائة» . تذكرة الحفاظ، ج٣، ص١٢٠٠؛ وكذا ترجمه الحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ، ص٩٠ ، بما يقرب من هذا.
2- شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني، ج١، ص5٧١.
3- المصدر نفسه، ص44٢.
4- الدرّ المنثور، ج4، ص١٧٧؛ فتح القدير، الشوكاني، ج٣، ص٢٢4.
5- المعجم الأوسط، الطبراني، ج5، ص٢٨٨.

ص:118

وقال الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد، بعد إخراجه للحديث المتقدِّم:

«رواه الطبراني في الأوسط، وفيه موسى بن جعفر بن إبراهيم، وهو ضعيف»(1)

وتضعيف الهيثمي لموسى بن جعفر من الجرحِ غير المُفسَّر، الّذي لا يقبله الكثير من العلماء، في حين أنَّه لم يجرحه أحد من علماء الرجال، والهيثمي من المتأخّرين، فلا يُعتدّ بقدوحه. فعلى أقلِّ تقدير، هو كون هذا الراوي مستور الحال.

والحاصل: أنَّ هذا الحديث رواه ثلاثة من كبار الصحابة: «أبو سعيد الخدري، وابن عباس، وأمير المؤمنين (ع)» ، وأخرجه عدد من الحُفّاظ والمحدِّثين بطُرق متعدّدة، وقد ثبت في علم الحديث أنَّ الرواية إذا رواها عدّة صحابة، وكثر مُخرّجوها، وتعدَّدت طُرقها؛ فإنَّه يدعم ويقوّي - حينئذ - بعضها البعض الآخر، وإن كان بعض هذه الطُرق ضعيفاً. قال الألباني في كتابه إرواء الغليل:

«من المُقرَّر في علم المُصطَلح أنَّ الطُرق يقوِّي بعضها بعضاً إذا لم يكن فيها مُتَّهم، كما قرّره النووي في تقريبه، ثُمَّ السيوطي في شرحه» (2)

بل ورد ذلك حتّى في المراسيل. قال ابن حجر، بعد روايته لبعض الروايات المُرسلة:

«وهذه مراسيل يشدُّ بعضها بعضاً»(3). وقال عن بعض الروايات المُرسلة أيضاً:

«والأحاديث الأربعة مراسيل، يشدّ بعضها بعضاً»(4)

٢. حيازة فاطمة عليها السلام لفدك

من الأمور المهمّة المتعلِّقة بقضية فدك، والتي لم تبيَّن بوضوح في النصوص السنّية، هي مسألة حيازة الزّهراء عليها السلام لفدك، وانتزاعها منها من قِبل أبي بكر، وإخراجه وكيلها منها؛ فقد خلطت هذه النصوص بين دعوى فدك ودعوى الإرث، تاركةً - في أحيان كثيرة - تساؤلاً عن هذا التردّد في موقف الزهراء، فتارة


1- مجمع الزوائد، ج٩، ص4٠.
2- إرواء الغليل، الألباني، ج١، ص١6٠. والمراد بالمُتّهم: المُتّهم بالوضع.
3- الدراية في تخريج أحاديث الهداية، ابن حجر، ج١، ص٢66.
4- تغليق التعليق، ابن حجر، ج٣، ص٢6٩.

ص:119

تدّعي ملكية فدك، وأُخرى تطالب بها كإرث من رسول الله (ص) .

فقد أغمضت هذه النصوص العينين عن الترتيب التاريخي لخصومة الزهراء عليها السلام مع أبي بكر.

والتّحقيق والتأمّل فيها، مع ملاحظة الشواهد والقرائن، يدلّ على أنَّ القضية ابتدأت أوّلاً بإخراج أبي بكر وكيل الزهراء من فدك، فجاءت إليه معترضة على هذا التصرّف، باعتبار أنَّها ملكها، وأنَّ الرّسول (ص) قد ملَّكها إيّاها، فطالبها بالبيّنة، فشهد لها قرينها أمير المؤمنين (ع) وأم أيمن، فلم يكتفِ بشهادتهما وطالبها بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فأُغلق هذا الباب.

ثُمَّ بعد ذلك، عادت وطالبت بإرثها من رسول الله (ص) ، فردّها أيضاً - كما سيأتي -، فحينئذٍ غضبت عليه، حتّى رحلت وهي غاضبة عليه.

وهذا التسلسل التاريخي لهذا الحدث، وإن لم يكن بذلك الوضوح في النصوص السنّية كما أسلفنا، وإنّما تناثرت فقراته هنا وهناك، وقد تقدَّمت الإشارة لبعضها سابقاً، إلاّ أنَّ هناك ما يدلّ، دلالة قويّة، على حيازة الزهراء عليها السلام لفدك؛ فقد أخرج الحافظ عمر بن شبة، عن النّميري بن حسان، قال:

«قلت لزيد بن علي رحمة الله عليه، وأنا أريد أن أهجّن أمر أبي بكر: إنَّ أبا بكر انتزع من فاطمة فدك. . .»(1) ونقله عنه الحافظ ابن حجر الهيتمي في الصواعق المُحرقة (2)

فقوله:

«انتزع من فاطمة» ، ظاهر في الحيازة كما هو واضح، ومن الثابت البيِّن أنَّ الحيازة دليل على الملكية. ولا نريد الخوض هنا في مفاد هذه القاعدة ومدركها، لكنْ مادامت فدك في حيازة الزهراء عليها السلام، فلا حاجة لها إلى البيِّنة حينئذ.

ثُمَّ إنَّ التّأمّل في الموقع الجغرافي لفدك، والوضع الاجتماعي السّائد فيها، يجعل


1- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري، ج١، ص١٢4. علّق عليه وخرّج أحاديثه: علي محمّد دندل وياسين سعدالدين بيان، وقال محقّقا الكتاب: «إسناده حسن» .
2- الصواعق المحرقة، ابن حجر، ج١، صص١5٧ و ١5٨.

ص:120

مسألة قلّة الشاهد من المسلمين على دعوى النحلة أمراً في غاية البساطة؛ إذ إنَّ فدك كانت أرضاً مترامية الأطراف، وبعيدة عن المدينة، فلم تكن قريبة منها حتّى يطّلع أهلها على شؤونها، أو أنَّها مِلْكٌ صغير حتّى يسهل معرفة حيازة مالكها لها بأدنى ملاحظة. كما أنَّ محيطها لم يكن إسلاميّاً، بل كان يهوديّاً بحتاً؛ إذ هي قرية يهوديّة ذات طابع اجتماعي خالص، ولذا لم تكن حيازة فاطمة لها معروفة بين جماعة المسلمين.

كما أنَّ القضية وقعت إبّان حكومة أبي بكر، حيث كانت الأمور لم تستَتب له بشكلٍ كامل، وكانت تعصف بها أمور شتّى، حاول أن يتجاوزها بكلِّ الوسائل، حتّى غلب العُنف وطغى على الساحة، وأحاطت الفتنة بالمسلمين، وبقاء فدك بيد أهل البيت عليهم السلام، كان سيشكِّل هاجساً آخر؛ باعتبار عائدها المالي الوفير، وكثرة خيراتها، كما يشهد لذلك ما أخرجه البخاري في الصحيح، بسنده عن ابن عمر، قال:

«ما شبعنا حتّى فتحنا خيبر»(1). فكانت هناك مخاوف من وقوع هذه الأموال بيد أهل البيت عليهم السلام.

ومن هنا نقول: إنَّ قضية فدك لو كانت قد اتَّفقت في أواخر حكومة أبي بكر، حيث استتبَّ له الأمر، وهدأت الأوضاع، لكان له فيها حكم آخر.

٣. الشواهد على النِّحْلَة
أ. ادِّعاء الصادقة المصدَّقة فاطمة الزهراء عليها السلام بأنَّ الرسول (ص) نحلها فدكاً

إنَّ ادعاء الطّاهرة الصادقة المصدَّقة فاطمة الزهراء عليها السلام بأنَّ رسول الله (ص) قد نحلها فدكاً، ومطالبة أبي بكر لها بالبيّنة، وإتيانها بأمير المؤمنين (ع) وأم أيمن، من مشهورات الحوادث؛ ولذا درج علماء السنَّة في ذكر التوجيهات لردِّ أبي بكر دعوى بضعة الرّسول (ص) في النّحلة. قال ابن حجر:

«ودعواها أنَّه نحلها فدك،

لم تأتِ عليها ببيِّنة، إلاّ بعليّ وأُمّ أيمن، فلم يكمل نصاب البيِّنة. . .»(2).


1- صحيح البخاري، ج5، ص٨٣.
2- الصواعق المحرقة، ابن حجر الهيتمي، ج١، ص٩٣.

ص:121

وقال البلاذري:

ولمّا كانت سنة عشر ومائتين، أمر أمير المؤمنين، المأمون عبد الله بن هارون الرشيد، فدفعها إلى ولْدِ فاطمة. . .

فلِئن كان ينادي في كلّ موسم - بعد أن قبض الله نبيَّه (ص) -أن يذكر كلّ مَن كانت له صدقة أو هبة أو عِدة ذلك، فيقبل قوله وينفّذ عِدته؛ أنَّ فاطمة لأولى بأن يصدّق قولها، فيما جعل رسول الله (ص) لها. . .(1)

وقد نصّ القرآن الكريم في آية التطهير (2)على عصمة أهل البيت: ، ولاشكّ في أنَّ الزهراء عليها السلام من أهل البيت عليهم السلام بإجماع المسلمين، وهذا النصّ على عصمتها في قوّة النصّ على النِّحلة؛ لأنَّ المعصوم لا يكذب، فإذا ادَّعى شيئاً فدعواه صائبة بلا شكّ، ومطابقة للواقع. وهذا القَدر من العلم كافٍ للحاكم ليعمل بمقتضاه، بل هو أولى من العلم الحاصل من الإمارات الظنيّة.

ثُمَّ إنَّ أبا بكر حتّى لو لم يكن يرى تلك الخصوصية لصدق الزهراء عليها السلام، إلاّ أنَّه يجوز للحاكم أن يحكم وفق علمه، فإذا لم يكن قول الزهراء وأمير المؤمنين يحرز له العلم الّذي يحتاجه في الحكم، فأيّ قول يحرَز له ذلك؟ !

خصوصاً أنَّ ظاهر روايتي جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي سعيد الخدري، الآتيتين(3)هو أنَّ أبا بكر يرى أنَّ العلم بصواب الدعوى يكفي مَدركاً للحكم على وفقها.

ب. تأكيد أمير المؤمنين (ع) على أنَّ فدك نِحلة الزهراء عليها السلام

أكّد أمير المؤمنين (ع) على أنَّ فدك نحلة الزهراء عليها السلام، فقد أخرج البخاري أنَّ

عمر لمّا ولّي الخلافة، ردّ فدك إلى ورثة رسول الله (ص) ، مشترطاً على الورثة العمل وفق حكم أبي بكر فيها - بحسب زعمهم - إلاّ أنَّ أمير المؤمنين (ع) والعباس بن عبد المطلب تنازعا فيها.


1- فتوح البلدان، البلاذري، ج١، صص٣٧ و ٣٨.
2- قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا . الأحزاب: ٣٣.
3- كما سيأتي ذكرهما تحت عنوان اكتفاء أبي بكر بالدعوى المجرّدة عن البيّنة .

ص:122

ففي الصحيح عن مالك بن أوس، في رواية طويلة، أنَّ عمر قال، مخاطباً أميرالمؤمنين (ع) والعباس، بعد أن جاءا عنده - حسب زعمهم - يلتمسان الحكم منه في ما شجر من خصومة بينهما في إرث الرسول (ص) :

فقبضتها سنتين من إمارتي. . . ثُمَّ جئتماني تكلِّماني وكلمتكما واحدة، وأمركما واحد. جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك(1)

، وجاءني هذا - يريد علياً - يريد نصيب امرأته من أبيها(2).

. . فلمّا بدا لي أن أدفعه إليكما، قلت: . . . فقلتما ادفعها إلينا، فبذلك دفعتها إليكما. . .(3)

فهذه الرّواية تدلّ بوضوح على أنَّ أمير المؤمنين (ع) كان يؤكِّد كثيراً على أنَّ الرّسول (ص) قد جعل فدك في حياته لفاطمة عليها السلام.

ولا شك في أنَّ هذا الموقف له دلالته الخاصّة؛ لِما ثبت من الخصوصية لأميرالمؤمنين (ع) ، وأنَّه أقضى الأُمّة وأعلمها، وقد صوَّب عمر في كثير من الأحيان أحكامَ وقضاء أمير المؤمنين (ع) وآراءه، وتراجع عن آرائه وقضائه؛ لمعرفته التامّة بكون الإمام (ع) أعلم الأُمّة بالسنّة، حتّى اشتهر عن عمر قوله:

«لا أبقاني الله لمُعضلة ليس لها أبو حسن»(4).

ج- انحصار تركة الرسول (ص) بسلاحه وبَغلته البيضاء وصَدَقته بالمدينة

ومن الشواهد الأُخرى على أنَّ الرّسول (ص) قد نحل فدك لفاطمة عليها السلام، هي الروايات الدالّة على أنَّ النبيّ (ص) لم يترك إلاّ سلاحه وبغلته البيضاء. كما في رواية عمرو بن الحارث الّتي أوردها ابن شبة النميري في تاريخ المدينة، قال:

«ما ترك النّبيّ (ص) إلاّ سلاحه وبغلته البيضاء»(5)؛ إذ إنَّ مقتضى الجمع بين هذه الروايات،


1- يعني بذلك رسول الله ص .
2- يعني بذلك رسول الله ص ، قال عبد الرزاق الصنعاني، معلّقاً على كلام عمر: «انظروا إلى الأنوك يقول: تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها! ألا يقول رسول الله ص ؟ !» . تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج٣6، ص١٨٨؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج٩، ص5٧٢.
3- صحيح البخاري، ج4، صص4٢ - 44.
4- أنساب الأشراف، ج٢، ص٣5١؛ المناقب، الموفق الخوارزمي، ص٩٧.
5- تاريخ المدينة، ابن شبة النميري، ج١، ص٢٠٠.

ص:123

وبين الروايات الّتي تدلّ على أنَّ فدك كانت خالصة لرسول الله (ص) ، هو خروج فدك من ترِكةِ الرسول (ص) .

وزاد البخاري في صحيحه على تركة النبيّ (ص) ، قوله:

«وأرضاً جعلها صدقة» (1)

وهذه الأرض غير فدك، كما يدلّ عليه ما أخرجه البخاري - أيضاً - في الصحيح، بسنده عن عائشة زوج الرسول (ص) ، قالت:

«كانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممَّا ترك رسول الله (ص) من خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة. . .» (2)

وحكى النميري زيادة البخاري عن أبي أحمد الشهباء، في ذيل الرواية المتقدِّمة، حيث قال:

«قال أبو أحمد الشهباء: وأرضاً جعلها صدقة» (3).

والحاصل: إنَّ الرّوايات والحيازة والشَواهد المتقدِّمة، كلّها تدلّ على أنَّ فدك كانت نحلة للزهراء عليها السلام. ومن هنا يتبيِّن الوَهْن في قول إحسان إلهي ظهير:

إنَّ رسول الله (ص) لمَّا توفّي، وبُويع أبو بكر بخلافة رسول الله وإمارة المؤمنين، أرسلت إليه بنت رسول الله فاطمة، تسأله ميراثها من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ممَّا أفاء الله على نبيِّه من فدك. . . (4)

والوجه في ضعفه، هو أنَّ الزهراء عليها السلام طالبت أبا بكر أوَّلاً بنِحلتها، بعد أن انتزعها من يدها كما تقدَّم، ثُمَّ طالبته، بعد أن ردَّ دعواها في النِحلة بإرثها من رسول الله (ص) ، فأبى أن يدفعه إليها كما سيأتي لاحقاً.

ردُّ أبي بكر بيِّنة الزهراء عليها السلام

لقد تقدَّمت الإشارة إلى أنَّ فدك كانت من الأنفال الخالصة لرسول الله (ص) ، الّتي لا يشاركه فيها أحد من المسلمين، وقد تصرَّف (ص) بها في حياته، وسُقنا الدليل على أنَّ الرسول (ص) قد نَحَلَها لبضعته الزهراء عليها السلام بعد نزول الآية المباركة: ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ، وأنَّها كانت في حيازتها مدَّة حياة الرّسول (ص) ، وبعد

رحيله


1- صحيح البخاري، ج٣، ص١٨6.
2- المصدر نفسه، ج4، ص4٢.
3- تاريخ المدينة، ج١، ص٢٠٠.
4- الشيعة وأهل البيت، ص٨٣.

ص:124

انتزعها من يدها أبو بكر، وأخرج وكيلها منها.

ولمَّا احتجَّت على هذا التصرّف منه - باعتبار أنَّها ملكها وأنَّ الرسول (ص) ملَّكها إيّاها في حياته - طالبها بالبيِّنة، فجاءته عليها السلام بها، إلاّ أنَّ أبا بكر كان له موقف من هذه البيِّنة، حيث قام بردِّها بدعوى أنَّها غير كاملة، وطالب الزهراء عليها السلام ببيِّنة كاملة، وهي عبارة عن شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين.

فقد أخرج الحافظ ابن شبة النميري في «تاريخ المدينة» ، بسنده عن النميري بن حسان، قال:

فقال لها: هل لك على هذا بيِّنة؟ فجاءت بعليٍّ فشهد لها، ثُمَّ جاءت بأُمِّ أيمن، فقالت: أليس تشهد أنِّي من أهل الجنّة؟ قال: بلى. - قال أبوأحمد: يعني أنَّها قالت ذاك لأبي بكر وعمر - قالت: فأشهد أنَّ النبيّ (ص) أعطاها فدك. فقال أبو بكر: فبرجلٍ وامرأة تستحقّينها، أو تستحقّين بها القضية؟ ! (1)

وأخرج البلاذري في فتوح البلدان، بسنده عن مالك بن جعونه، عن أبيه، قال:

قالت فاطمة لأبي بكر: إنَّ رسول الله (ص) جعل لي فدك، فأعطني إيّاها، وشهد لها علي بن أبي طالب.

فسألها شاهداً آخر، فشهدت لها أُمّ أيمن.

فقال: قد علمت يا بنت رسول الله أنَّه لا تجوز إلاّ شهادة رجلين، أو

رجل وامرأتين. فانصرفت(2)

وفيه أيضاً:

إنَّ فاطمة قالت لأبي بكر الصدِّيق: أعطني فدك، فقد جعلها رسول الله (ص) لي. فسألها البيِّنة، فجاءت بأُمِّ أيمن ورباح، مولى النبيّ (ص) ، فشهدا لها بذلك. فقال: إنَّ هذا الأمر لا تجوز فيه إلاّ شهادة رجل وامرأتين(3).


1- تاريخ المدينة، ج١، صص١٩٩ و ٢٠٠، علّق عليه وخرّج أحاديثه: علي محمّد دندل وياسين سعد الدين بيان. وقال محقّقا الكتاب عن هذا الحديث: «إسناده حسن» .
2- فتوح البلدان، ج١، ص٣5.
3- المصدر نفسه.

ص:125

وجاء في معجم البلدان للحموي:

وكان لمَّا قُبض رسول الله (ص) ، قالت فاطمة لأبي بكر: إنَّ رسول الله (ص) جعل لي فدك، فأعطني إيّاها. وشهد لها علي بن أبي طالب رضى الله عنه، فسألها شاهداً آخر، فشهدت لها أُمّ أيمن، مولاة النبيّ (ص) ، فقال: قد علمت يا بنت رسول الله أنَّه لا يجوز إلاّ شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، فانصرفت(1).

وجاء في تفسير الرازي أنَّ رسول الله (ص) لمَّا توفّي:

ادَّعت فاطمة أنَّه كان ينحلها فدك، فقال أبو بكر: أنت أعزّ الناس عليّ فقراً، وأحبّهم إليَّ غنى، لكنّي لا أعرف صحّة قولك، ولا يجوز أن أحكم بذلك. فشهد لها أُمُّ أيمن ومولى للرسول (عليه الصلاة والسلام) ، فطلب منها أبو بكر الشاهد الّذي يجوز قبول شهادته في الشرع، فلم يكن(2).

وقال السمهودي:

ذكرَ المجد في ترجمة فدك: ما يقتضي أنَّ الّذي دفعه (عمر) إلى علي والعباس، ووقعت الخصومة فيه، هو فدك، فإنَّه قال فيه: وهي الّتي قالت فاطمة: إنَّ رسول الله (ص) نَحَلنِيها، فقال أبو بكر عنه: أريد بذلك شهوداً، فشهد لها علي، فطلب شاهداً آخر، فشهدت لها أُمّ أيمن، فقال: قد علمت يا بنت رسول الله (ص) أنَّه لا يجوز إلاّ شهادة رجل وامرأتين،

وانصرفت(3).

فهذه النّصوص صريحة الدلالة على مطالبة أبي بكر الزهراء عليها السلام بالبيِّنة على دعواها النِحلة، وقد صرَّحت جُلُّ هذه المصادر بشهادة


1- معجم البلدان، ج4، ص٢٣٩.
2- تفسير الرازي، ج٢٩، ص٢٨4.
3- وفاء الوفا، نور الدين علي بن أحمد السمهودي، ج٣، ص٩٩٩.

ص:126

أمير المؤمنين (ع) وأُمّ أيمن لها بذلك، وأنَّ أبا بكر ردّ هذه البيِّنة؛ لأنَّها - حسب دعواه - غير كاملة، وأنَّه لابدَّ من شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين.

والّذي يظهر من بعض النّصوص السنّية أنَّ أبا بكر قد ردَّ شهادة أميرالمؤمنين (ع) ؛ لأنَّه زوج الزهراء عليها السلام، فيجرّ النفع إلى نفسه، فجاءت عليها السلام بمولى رسول الله (ص) وأُمّ أيمن، فادَّعى - أبو بكر - عدم تمامية الشهادة.

لا دليل لأبي بكر على ردِّ البيِّنة

وقد أورد على هذا الموقف من أبي بكر تجاه بيِّنة الزّهراء عليها السلام الكثير من الإشكالات، نُشير إلى بعضها بشكلٍ مختصر:

إنَّ فدك كانت بحيازة الزهراء عليها السلام، - كما تقدّم ذلك سابقاً - ومعها لا تحتاج إلى البيِّنة؛ لأنَّها صاحبة يد، ولم يكن مقابل يدها إلاّ دعوى أنَّها فَيْء للمسلمين، فمطالبتها بالبيِّنة في غير محلِّه وبعيد عن الصواب. ودعوى الزهراء عليها السلام انتقال فدك إليها من الرسول (ص) نحلة، لا توجب انقلابها من صاحبة يد إلى مُدّعية؛ لأنَّه لم يُنكر أحد عليها دعواها، بل ادَّعوا أنَّ فدك فيء للمسلمين، ولابدّ من إقامة البيِّنة على الانتقال! بالرغم من كونها ذات يد، ولم يكن في مقابل يدها إلاّ هذه الدعوى.

إنَّ البيِّنة تكمل في المورد باليمين؛ لأنَّ البيِّنة في الأمور المالية يكفي فيها الشاهد واليمين، فيثبت الحكم باليمين مع شهادة أمير المؤمنين (ع) وأُمّ أيمن، فلماذا لم يُطالب أبو بكر الزهراءَ عليها السلام بالقَسَم إلى جنب شهادة أمير المؤمنين (ع) وأُمّ أيمن، خصوصاً أنَّ أبا بكر كان يرى كفاية الشاهد واليمين في الأمور المالية

كما سيأتي؟ !

وهذا الكلام لا يرد على الزّهراء عليها السلام، بأن يُقال: لماذا لم تُبادر هي عليها السلام إلى القَسَم لإكمال بيِّنتها؟ ! لأنَّه يُقال في مقام الجواب: إنَّ الزهراء عليها السلام أيقنت بأنَّ الرجل قد أجمع أمره على حرمانها من هذا الحقّ، وخاصّة بعد ردِّه لقولها وقول أميرالمؤمنين (ع) ، وهما الصادقان المصدَّقان، اللذان نصّ القرآن على صدقهما وطهارتهما من كلِّ رجس في قوله تعالى: ( إنّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: ٣٣) ، وبعد اتِّفاق المسلمين على كونهما من أهل البيت عليهم السلام. مضافاً إلى أنَّ ذلك من وظائف الحاكم؛ لأنَّه هو مَن يذكر

ص:127

للمُدَّعي الأمور الّتي يحتاج إليها في إثبات دعواه، لا العكس.

إنَّ الملاك في الحكم، بالنسبة للحاكم، هو حصول العلم له بصدق الدعوى، ولا يُعقَل عدم حصوله من شهادة أمير المؤمنين (ع) وأُمّ أيمن، بعد أن شهد الله تعالى لأمير المؤمنين (ع) بأنَّه نفس رسول الله (ص) ، وشهد الرسول (ص) بأنَّه مع الحقِّ والحقّ معه، وأنَّه يحبُّه الله ورسوله، ويحبّ الله ورسوله، وأنَّ أُمّ أيمن من أهل الجنَّة!

١. يمكن القول بأنَّ مسألة فدك، في حقيقة الأمر، لم تكن دعوى قضائية بالمعنى الفقهي، كما قد يُصَوِّر البعض ذلك أو يتصوَّرُهُ؛ فهي تفتقد لكثير من أركان الدعاوى القضائية؛ فلم تكن هناك دعوى قضائيّة، أو قاض، أو منكر، وإنَّما -حقيقة الأمر - هي أنَّ السلطة قد صادرت فدك، فجاءت الزهراء عليها السلام معترضة على هذا القرار!

٢. إنَّ أبا بكر قد حكم بعلمه واكتفى بالدعوى المجرَّدة عن البيِّنة في كثير من المواطن، كما سيأتي ذلك في البحث الآتي.

اكتفاء أبي بكر بالدعوى المجرَّدة عن البيِّنة

من الأمور الّتي تُلاحَظ في مسألة فدك، وتترك في النّفس تساؤلاً ولا تجد لها جواباً مُقنعاً له، هي اكتفاء أبي بكر في كثير من المطالبات بالدعوى المجرَّدة عن

البيِّنة، كما في رواية جابر بن عبد الله الأنصاري الّتي أخرجها البخاري في الصحيح، قال:

لمَّا مات النبيّ (ص) ، جاء أبا بكر مالٌ من قِبل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: مَن كان له على النبيّ (ص) دَين، أو كانت له قبله عِدة، فليأتنا. قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله (ص) أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا. . ، فبسط يديه ثلاث مرّات. قال جابر: فعدَّ في يدي خمسمائة، ثُمَّ خمسمائة، ثُمَّ خمسمائة(1).


1- صحيح البخاري، ج٣، ص١6٣.

ص:128

وفي رواية أبي سعيد الخدري، الّتي أخرجها ابن سعد في طبقاته بسنده، قال:

سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة، حين قدم عليه مال البحرين: مَن كانت له عِدة عند رسول الله (ص) فليأتِ، فيأتيه رجال فيُعطيهم، فجاء أبوبشير المازني، فقال: إنَّ رسول الله (ص) قال: "يا أبا بشير، إذا جاءنا شيء فأتنا". فأعطاه أبو بكر حَفنتين أو ثلاثاً، فوجدها ألفاً وأربعمائة درهم(1).

فلم يتَّضح الوجه في قبول أبي بكر دعوى الصحابة في الدَّين والعدة، من دون أن يطالبهم بالبيِّنة، وردّه قول الزهراء في النِحلة، ومطالبته إيّاها بالبيِّنة!

فكيف تُقبَل دعوى صحابي لوعد الرسول (ص) له بمبلغ من المال، وتُرَدّ دعوى بضعته (ص) ؛ لأنَّها لم تجد بيِّنة على ما تدَّعيه، حسب زعمه؟ !

كما لم يتَّضح الفرق الواضح بين دعوى الدَّين وبين دعوى النِحلة!

وإذا كان للإمام إعطاء أيّ شخص المبلغ الّذي يراه، فلماذا اختلف الأمر في مسألة فدك؟ !

وقد عقّب ابن أبي الحديد على قول السيِّد المرتضى «كان الأجمل أن يمنعهم التكرم ممَّا ارتكبوا منها فضلاً عن الدَّين» بكلام جميل، قال فيه:

هذا الكلام لا جواب عنه، ولقد كان التكرم ورعاية حقّ رسول الله (ص)

وحفظ عهده، يقتضي أن تعوّض ابنته بشيء يرضيها، إن لم يستنزل المسلمون عن فدك، وتُسلَّم إليها تطييباً لقلبها. وقد يسوّغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين، إذا رأى المصلحة فيه(2).


1- الطبقات الكبرى، ج٢، صص ٣١٨ و ٣١٩.
2- شرح نهج البلاغة، ج١6، ص٢٨6.

ص:129

المبحث الثاني: مطالبة الزهراء عليها السلام بإرثها

اشاره

بعد أن وضعت السلطة يدها على ما كانت تملكه الزهراء عليها السلام، انبرت تدافع عن حقِّها الطبيعي، إلاّ أنَّ خشونة موقف أبي بكر وتصلُّبه، جعلها عليها السلام ترجع خالية اليدين من هذا الحقّ، مهضومة من ردِّ دعواها في نِحلتها، مع شهادة أميرالمؤمنين (ع) والحسن والحسين عليهما السلام وأُمّ أيمن لها(1)، لكنَّها عليها السلام لمّا رأت إصرار السلطة على منعها لحقِّها، تحوَّلت إلى المطالبة بإرثها من والدها رسول الله (ص) .

وقد اتَّفق المسلمون على ذلك، ونصَّ عليه مؤرِّخو المسلمين، وأصحاب السِير والمُحدِّثين، حيث أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، بسنديهما عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، قال:

إنَّ عائشة أُمّ المؤمنين أخبرته: إنَّ فاطمة عليها السلام، ابنة رسول الله (ص) ، سألت أبابكر الصدِّيق، بعد وفاة رسول الله (ص) ، أن يقسم لها ميراثها ممَّا ترك رسول الله (ص) ، ممَّا أفاء الله عليه(2).

وهذا التحوّل لا يعني، بأيّ شكل من الأشكال، بأنَّها قد تنازلت عن أنَّ الرّسول (ص) قد نحلها لها، وإنَّما أرادت أن تقول لأبي بكر: بأنَّك إذا رددت دعواي


1- صحيح البخاري، ج4، ص4٢؛ صحيح مسلم، ج٣، ص١٣6.
2- هذا بغضِّ النظر عن شهادة الحسنين عليهما السلام وأسماء بنت عميس للزهراء عليها السلام، كما ورد من طريق أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

ص:130

في نِحلة والدي، ولم تقبل بيِّنتي، فهذا يعني بأنَّها لا زالت على ملك والدي رسول الله (ص) ، باعتبار أنَّها ممَّا لم يوجَف عليه بخَيل ولا رِكاب، وحينئذٍ تحوَّلت إلى المطالبة بها بعنوان أنَّها إرث.

ولا يلزم من ذلك اختلاف دعواها؛ لأنَّها كانت تتكلَّم وفق مبنى الطرف المقابل، وهذا أمر جائز في المرافعات والدعاوى القضائيّة.

ولعلّه يمكننا إدراك سرّ هذا التحوّل في المطالبة من النحلة إلى الإرث، باعتبار أنَّ مسألة الإرث تُعدّ من المسائل الواضحة في التشريع الإسلامي، وقد أولاها القرآن الكريم أهمّيّة خاصّة، فذكر جُلَّ تفاصيلها الجزئيّة، في عدَّة آيات من آياته الكريمة، وذلك بخلاف كثير من مقوّمات الإسلام، كالصّلاة مثلاً، فنجد القرآن الحكيم قد اكتفى فيها بذكر كُلِّياتها، وأحال البيان والتفصيل للرسول الكريم (ص) ، بينما نجده فيما يتعلَّق بالإرث لم يكتفِ بذكر كلّياته، وإنَّما ولَجَ في بيان تفاصيله وجزئيّاته.

ومن هنا نجد أنَّ المسلمين لا يختلفون في أحكام الإرث الّتي نصّ عليها القرآن؛ لأنَّهم كانوا في معرض الممارسة العملية بكثافة لأحكام هذا التشريع، بحيث أصبحت من الوضوح إلى درجة كبيرة عند جُلّهم.

خصوصاً وأنَّه يبعد عدم أخذها عليها السلام لرأي قرينها أمير المؤمنين (ع) ، وباب مدينة علم الرسول (ص) ، ولو كان (ع) يعلم حكماً خاصّاً في المسألة، لأخبرها به. وإذا بها تُفاجأ بردِّ هذا الحكم بحديث لم تسمع به أبداً، فحاولت عليها السلام مجاراة الخليفة بإقامة الدليل، لكن من دون جدوى، فقفلت راجعة إلى بيتها، غاضبة غير راضية، منكسرة مُذلَّة، مهضومة من منعها إرث والدها (ص) ، وردِّ دعواها في نحلتها.

ولكن تبقى هنا بعض التساؤلات الّتي طُرحت في هذا المقام، وهي: لماذا طالبت الزهراء عليها السلام وحدها بالإرث، مع أنَّها ليست الوريثة الوحيدة؟

وكيف يمكن توجيه قول الشيعة بمطالبتها عليها السلام بفدك، مع أنَّها عقار، والمرأة لاترث من العقار عندهم؟

وسيتَّضح الجواب عن هذين التساؤلين من خلال ما يأتي:

ص:131

دعوى أنَّ الزّهراء عليها السلام ليست الوريثة الوحيدة

من الإثارات الّتي كرَّرها إحسان ظهير، مع وضوح جوابها، هي: دعوى أنَّ الزّهراء عليها السلام لم تكن الوريثة الوحيدة لرسول الله (ص) ، بعد فرض التسليم بأنَّ فدك ميراث الرسول (ص) ، فلم يحرمها أبو بكر لوحدها، وإنَّما حرم بقيّة الورثة، حتّى ابنته عائشة، وحفصة ابنة عمر، والعباس. قال ظهير:

إن كانت أرض فدك ميراث رسول الله (ص) ، فلم تكن السيَّدة فاطمة وريثة وحيدة لها، بل كانت ابنتا الصدِّيق والفاروق وارثتين أيضاً، فحرم الصدّيق والفاروق ابنتيهما كما حرما فاطمة. ثُمَّ والعبّاس عمّ النبيّ كان حيّاً، وهو من ورثته بلا شكّ(1)

الجواب

إنَّ الزهراء عليها السلام هي الوريثة الوحيدة لفدك وفق المبنى الشيعي؛ لأنَّها تُعتبر الطبقة الأُولى من طبقات الوَرَثة، بينما العبّاس من الطبقة الثالثة، ومع وجود الطبقة الأُولى، لا يصل الدور إلى بقيَّة الطبقات؛ إذ إنَّ الطبقات يحجب بعضها البعض الآخر عندنا، يعني إذا كانت الطبقة الأُولى موجودة، فإنَّها تحجب بقية الطبقات عن الإرث (2)، بل إنَّ المُتقرِّب بالأبوين، يمنع المُتقرّب بالأب وحده، مع تساوي الدرج عند الشيعة. قال العلّامة الحلّي:

الفصل الثالث في الحَجْب: وهو إمّا عن أصل الإرث، بأن يحجب القريب البعيد، فلا يرث ولد ولد مع ولد. . . وعلى هذا، الأقرب يمنع الأبعد، ويمنع الولد وإن نزل كلّ مَن يتقرّب بالأبوين، من الأجداد والأعمام والأخوال، وأولادهم، ولايرث مع الأولاد وأولادهم وإن نزلوا، سوى الأبوين والزوجين. . . والمتقرّب بالأبوين، يمنع المتقرّب بالأب وحده، مع تساوي الدرج. . . (3)


1- الشّيعة وأهل البيت، ص٨٧.
2- للوقوف على طبقات الإرث، انظر: المقنعة، الشيخ المفيد، ص٧٠٣؛ المبسوط، الشيخ الطوسي، ج4، ص٨١؛ إرشاد الأذهان، العلاّمة الحلّي، ج٢، ص١٣١.
3- قواعد الأحكام، العلاّمة الحلّي، ج٣، صص٣55 و ٣56.

ص:132

فالعباس لا يرث شيئاً، إلاّ على القول بالتعصيب الّذي ذهب إليه السنّة(1)، وهو إعطاء الزائد من سِهام الورثة للعصبة، وهم المتقرِّبون بالأب ومن المراتب الأُخرى، كما لو كان الوارث بنتاً واحدة، أو بنتين فقط، فيُعطى الزائد، وهو النصف أو الثلث، لإخوة الميِّت، أو أعمامه، أو بني عمَّه (2)

والتعصيب باطل عندنا بالاتّفاق، بل بطلانه من ضروريّات مذهبنا. قال صاحب الجواهر:

أجمع أصحابنا، وتواترت أخبارنا عن ساداتنا: ، بل هو من ضروريّات مذهبنا، أنَّه لا يثبت الميراث عندنا بالتعصيب، وهو توريث ما فضل عن السهام مَن كان من العصبة، وهم الابن والأب ومن تدلّى بهما، من غير ردّ على ذي السهام (3)

وأزواج النبيّ (ص) لا يرثن شيئاً من فدك؛ لأنَّها عقار كما هو واضح، والزوجة، إذا لم يكن لها من الزوج ولد، لا ترث من العقار بالاتّفاق عند الشيعة أيضاً. قال صاحب الجواهر:

لا خلاف معتدّ به بيننا في أنَّ الزوجة، في الجملة، لا ترث من بعض تركة زوجها، بل في الانتصار ممَّا انفردت به الإماميّة حرمان الزوجة من أرباع الأرض، بل عن الخلاف والسرائر الإجماع على حرمانها من العقار(4)

والبنت عندنا ترث من كلِّ شيء، حتّى العقار. قال الحرّ العاملي:

« باب: أنَّ الزوجة، إذا لم يكن لها منه ولد، لا ترث من العقار والدور والسلاح والدواب شيئاً. . . وأنَّ البنات يرثنَ من كلِّ شيء. .»(5)


1- انظر: المجموع، محيي الدين النووي، ج١6، ص١٠٠؛ فتح المعين، المليباري الهندي، ج4، ص١4٣؛ الشرح الكبير، أبوالبركات، ج4، ص٢٨5؛ المبسوط، السرخسي، ج٣٠، ص١٩؛ بدائع الصنائع، أبو بكر الكاشاني، ج٢، ص٢4١.
2- انظر: بدائع الصنائع، ج٧، ص٣٣5؛ المبسوط، ج٢٩، صص١6٠ و ١6١.
3- جواهر الكلام، الشيخ النجفي، ج٣٩، ص٩٩.
4- المصدر نفسه، ص٢٠٧.
5- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج٢6، ص٢٠5

ص:133

نعم، ورد في الروايات السنّية أنَّ المطالبة بإرث رسول الله (ص) لم تقتصر على ابنة رسول الله (ص) فاطمة الزّهراء عليها السلام فقط، وإنَّما شاركها في ذلك بقيّة الورثة، كالعباس عمّ رسول الله (ص) ، كما هو صريح رواية البخاري المتقدِّمة، بسنده عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة زوج الرسول (ص) ، قالت:

«إنَّ فاطمة عليها السلام والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما، أرضه من فدك وسهمه من خيبر. . .» (1).

فرواية البخاري صريحة الدلالة على أنَّ العبّاس، عمّ الرّسول (ص) ، قد طالب أبابكر بإرثه من رسول الله (ص) أيضاً.

ومن الواضح أنَّ هذه الرواية تدلّ كذلك على أنَّ العبّاس لم يسمع بحديث أبي بكر «نحن معشر الأنبياء لا نورِّث، ما تركناه صدقة» ، كأمير المؤمنين (ع) وفاطمة عليها السلام.

وقد التفتَ بعض الشرَّاح لهذين الأمرين (أي: تصريح الحديث بمطالبة العبّاس بإرثه من الرّسول (ص) ، ودلالته على أنَّ العبّاس لم يسمع بحديث أبي بكر) ؛ ولذا حاول أن يعالجهما بدعوى أنَّ قوله: «والعباس» من إضافات الراوي (معمر)(2).

وهذه دعوى بلا دليل، لا تنسجم مع مكانة صحيحي البخاري ومسلم عند القوم، وفتح لبابِ الاحتمالات في أحاديثهما على مصراعيه، فما من حديث فيهما إلاّ وبجنبه الكثير من الاحتمالات، فهل يكفي في توجيه حديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما أن نقول: إنَّ بعض ألفاظه من زيادات الراوي؟ ! وما المانع بعدئذٍ من أن ندّعي ذلك في كثير من أحاديثهما؟ !

وورد في بعض الروايات السنّية الأُخرى، أنَّ مطالبة العبّاس بإرثه من الرسول (ص) ، استمرَّت إلى زمان عمر، حيث طالبه أكثر من مرّة بإرثه، كما سيأتي في حديث مسلم في الصحيح، من أنَّ عمر قال لأمير المؤمنين (ع) والعباس:


1- صحيح البخاري، ج5، ص٢5.
2- انظر: فتح الباري، ج6، ص١٣6.

ص:134

. . . جئتني أنت وهذا، وأنتما جميع، وأمركما واحد، فقلتما: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما، على أنّ عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالّذي كان يعمل رسول الله (ص) ، فأخذتماها بذلك.

قال: أكذلك؟ ! قالا: نعم. قال: ثُمَّ جئتماني لأقضي بينكما. ولا والله، لاأقضي بينكما بغير ذلك حتّى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها، فردّاها إليّ (1).

وهذا الحديث صريح الدلالة على أنَّهما جاءا في المرَّة الثانية للمطالبة بتركة رسول الله (ص) على نحو الإرث لا الولاية، كما يشهد بذلك ذيل الحديث، أعني قوله:

«ثُمَّ جئتماني لأقضي بينكما. لا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتّى تقوم السّاعة» .

وكذا ورد في بعض الروايات السنّية الأُخرى، مطالبة زوجات النبيّ (ص) بإرثهنَّ؛ فقد أخرج ابن شبة في تاريخ المدينة، بسنده عن عائشة، قالت:

«إنَ ّ أزواج النبيّ (ص) أرسلن عثمان إلى أبي بكر. . .»(2).

وأورد الحموي في معجم البلدان، بسنده عن عروة بن الزبير، قال:

إنَّ أزواج رسول الله (ص) أرسلن عثمان بن عفّان إلى أبي بكر، يسألن مواريثهنّ من سهم رسول الله (ص) ، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله (ص) يقول: " نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث. . . " (3).

وروى الطبراني في المعجم الأوسط، بسنده عن عائشة، قالت:

«أرسلن أزواج النبيّ (ص) عثمان بن عفّان إلى أبي بكر، يسألنه ميراثهنّ من رسول الله (ص) . . .»(4).

ثُمَّ إنَّ أبا بكر وعمر، وإن كانا حرما ابنتيهما عائشة وحفصة من الإرث أيضاً، حسب دعوى إحسان إلهي ظهير(5)، لكنَّهما عوَّضاهما عنه بأمر آخر تحت


1- صحيح مسلم، ج5، صص١5٢ و ١5٣.
2- تاريخ المدينة، ج١، ص٢٠٧.
3- معجم البلدان، ج4، ص٢٣٩.
4- المعجم الأوسط، ج4، ص١٠4.
5- تقدّم قول إحسان ظهير: «فحرمَ الصدّيق والفاروق ابنتيهما كما حرما فاطمة» . الشّيعة وأهل البيت، ص٨٧.

ص:135

مسمَّى النَفَقَة، نَفَقَة الزوجة، وقد فاقت هذه النفقة ما كان سيصل إليهما تحت عنوان الإرث بعدَّة أضعاف، ويمكن أن يُستشهَد على كثرة الأموال الّتي كانت تصل إلى عائشة بالخصوص، بما اشتهر من كثرة إنفاقها، بالرغم من عدم وجود مصادر ماليّة تحت يدها، إلى درجة أنَّ ابن أختها، عبد الله بن الزبير، هدَّدها بأن يحجر عليها. قال النووي:

«رُوي أنَّ عائشة كانت تُنفق نفقة كثيرة، فقال ابن الزبير: لتَنتَهيَنَّ عائشة، أو لأحجرنّ عليها»(1)

وأخرج البخاري في صحيحه أنَّ عائشة، حدَّثت:

«أنَّ عبد الله بن الزبير قال في بيعٍ أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهينّ عائشة أو لأحجرنَّ عليها»(2).

دعوى أنَّ المرأة لا ترث من العقار عند الشيعة

قد اتّضح من خلال ما تقدَّم، بطلان دعوى إحسان ظهير، من وجود التهافت بين قول الشيعة بمطالبة الزهراء عليها السلام بفدك، وبين اتّفاقهم على أنَّ المرأة لا ترث من العقار. قال ظهير:

إنَّ المعترضين من الشيعة لا يعرفون بأنَّ في مذهبهم لا ترث المرأة من العقار والأرض شيئاً. . . وقد ذكروا على عدم الميراث في العقارات والأراضي اتّفاق علمائهم. فما دامت المرأة لا ترث العقار والأرض، فكيف كان لفاطمة أن تسأله فدك - حسب قولهم - وهي عقار لا ريب فيها؟ ! (3)

الجواب

إنَّ المرأة البنت - التي هي في المقام - تختلف عن المرأة الزوجة عند الشيعة، فقد بيَّنا آنفاً أنَّهم متَّفقون على أنَّ البنت ترث من كلّ شيء، حتّى العقار، بل ذلك من ضروريّات مذهبهم (4)، وهذا لا يتنافى مع ما ثبت من اتِّفاقهم - أيضاً -


1- المجموع، ج١٣، ص٣٧٨.
2- صحيح البخاري، ج٧، ص٩٠.
3- الشيعة وأهل البيت، صص٨٧ و ٨٨.
4- انظر: وسائل الشيعة، ج٢6، ص٢٠5.

ص:136

على أنَّ الزّوجة، إذا لم يكن لها ولد، لا ترث من العقار شيئاً (1)، كما هو واضح.

وهذا الأمر إمَّا أنَّه خفي على إحسان ظهير، أو أنَّه - بعيداً عن روح التّحقيق- حاول مرّة أُخرى التدليس على القارئ، واستغلال عدم اطّلاعه على مباني الشيعة في المجال.

وأمّا الروايتان اللتان ساقهما إحسان ظهير من كتاب الكافي للشّيخ الكليني، وكتاب مَن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، واللتان تنصّان على أنَّ النساء لايرثن من العقار؛ فهما أدلّ دليل على قلّة بضاعته، حيث قال:

فانظر إلى الكليني، فإنَّه بوَّب باباً مستقلاً بعنوان " أنّ النساء لا يرثن من العقار شيئاً "، ثُمّ روى تحته روايات عديدة عن أبي جعفر. . . قال: "النساء لا يرثنَ من الأرض ولا من العقار شيئاً ". وروى الصدوق ابن بابويه القمّي في صحيحه مَن لا يحضره الفقيه عن أبي عبدالله جعفر. . . أنَّ ميسراً قال: سألته [أي: الإمام الصادق (ع) ]عن النساء، ما لَهُنَّ من الميراث؟ فقال: " فأمّا الأرض والعقارات، فلا ميراث لهنَّ فيه"(2)

فقد ذكر علماء الشيعة، ومنهم الشيخ الكليني والشيخ الصدوق، بأنَّ المراد من (النساء) فيهما وفي أمثالهما هو الزوجة لا غير، وقد صرّحت جلُّ الروايات الّتي رواها الشيخ الكليني في كتابه الكافي/ باب أنَّ النساء لا يرثنَ من العقار شيئاً بأنَّ المراد من (النساء) الزوجة فقط، وبيَّنت بعضها السبب وراء عدم إرث الزوجة من الأرض والعقار (3)

وكذا وردت هذه القرينة في جلّ الروايات الّتي رواها الشيخ الصدوق في المقام، فقد روى بسنده عن الأحول، أنَّه سمع الإمام أبا عبد الله (ع) ، يقول:

«"لايرثنَ النساء من العقار شيئاً، ولهنَّ قيمة البناء والشجر والنخل ". يعني بالبناء الدُور. وإنَّما عنى من النساء الزوجة»(4)


1- انظر: جواهر الكلام، ج٣٩، ص٢٠٧.
2- الشّيعة وأهل البيت، صص٨٧ و ٨٨.
3- انظر: الكافي، ج٧، صص١٢٧ - ١٣٠.
4- مَن لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص٣4٨.

ص:137

فذيل الرواية، أعني قوله:

«عنى من النساء الزوجة» قرينة متَّصلة على بيان المراد من (النساء) فيها، ويُحتمَل أن يكون هذا البيان للراوي (الأحول) ، كما يُحتمَل أن يكون للمؤلِّف (الصدوق) ، ولا ضير في ذلك؛ إذ كلاهما يثبت به المطلوب.

والحاصل: إنَّ جلّ الروايات الّتي رواها الشيخ الكليني والصدوق في هذا المضمار، توجد فيها قرينة لفظية متّصلة، تبيِّن أنَّ عدم الإرث من العقار مختصّ بالزوجة لا غير، ولكثرة هذه الروايات الشيعية الصحيحة الواردة في المقام، وصريح دلالتها، اتَّفق علماء الشيعة على أنَّ الزوجة لا ترث من العقار، وأنَّ البنت ترث من كلِّ شيء. فهل يبقى شكّ بعد ذلك بعدم وجود التنافي بين المسألتين، كما هو واضح؟ !

ولكنّا نقطع بأنَّ الأمر لن ينتهي عند هذا الحدّ، وسيأتي البعض من بعد ظهير ويكرِّر نفس مقولته، بالرغم من وضوح بطلانها، كما كرَّر ظهير هذه الأمور وغيرها، ونقلها عن أسلافه بلا تفحّص أو تدقيق.

ومن غريب ما أتى به إحسان ظهير في كلامه، هو قوله:

« وروى الصدوق ابن بابويه القمّي في صحيحه» ، فإنَّ من الواضح أنَّ اصطلاح (الصحيح) مختصّ بالسنّة، وقد أطلقوه على بعض كتبهم ومصادرهم، كصحيح البخاري، وصحيح مسلم، ولا يوجد كتاب شيعيّ معروف باسم الصحيح! ! فما ذكره ظهير هنا هو محض افتراء وبهتان.

أدلَّة الزهراء عليها السلام على إرثها

بعد أن منع أبو بكر بضعة الرسول (ص) من إرثها بحديث لم تسمع به، ولم يسمع به الراسخون في العلم، سعَتْ إلى مجاراته وبيان زيف دعواه، من خلال إقامة الأدلّة الّتي تفنِّد ما تمسَّك به، فاستدلَّت ربيبة الوحي بالقرآن الكريم، وقد ساقت نوعين من الآيات الكريمة:

النوع الأوَّل: الآيات الخاصّة الّتي نصَّت على أنَّ الأنبياء عليهم السلام يورِّثون، كقوله تعالى، حكاية عن زكريّا (ع) : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ

ص:138

وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم: 5و6) ، وقوله تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (النمل:١6) .

النوع الثاني: الآيات العامّة الّتي نصّت على أحكام الإرث، ولم تستثنِ من ذلك الأنبياء والرُسل عليهم السلام، فهذه الآيات الكريمة تدلّ بعمُوماتها على ثبوت حقِّها في إرثها من والدها الرسول (ص) ، كقوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء:١١) .

وقد ذكرت ذلك في خطبتها الّتي رواها ثلَّة من أعلام السنَّة، حيث إنَّها عليها السلام لمَّا بلغها إصرار أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها، وأقبلت في لُمّة من حفدتها ونساء قومها، تطأ في ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (ص) ، حتّى دخلت على أبي بكر، وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار، فضُرب بينها وبينهم بسِتْر، فخطبت عليها السلام فيهم خطبة طويلة، كشفت فيها عن الكثير من الحقائق المهمَّة، وقد جاء فيها أنَّها عليها السلام قالت:

أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؛ إذ يقول الله تبارك وتعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)

، وقال الله عزّ وجلّ، فيما قصّ من خبر يحيى بن زكريّا: ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)

، وقال عزّ ذكره: ( وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (الانفال:٧5) ، وقال: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء:11) ، وقال: ( إن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) ؟ ! (البقره: ١٨٠)

وزعمتم أن لا حقّ ولا إرث لي من أبي

، ولا رحم بيننا! أفخصّكم الله بآيةٍ أخرج نبيّه (ص) منها، أم تقولون: أهل ملَّتين لا يتوارثون؟ ! أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ !

لعلّكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبيّ (ص) ؟ !

أفحكم الجاهلية تبغون؟ ! ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائده: 5٠)

، أأُغلب على إرثي جوراً وظلماً؟ ! ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء: ٢٢٧)(1).


1- بلاغات النساء، ابن طيفور، ص١٧.

ص:139

والنّاظر في هذه الخطبة(1)يجد أنَّها تمسّ صميم الحكم القائم، وتكشف النقاب عن كثير من الحقائق، ممَّا تتوفّر الدواعي على عدم نقلها، أو حذف البعض من فقراتها. لكن بالرغم من ذلك، نقلها جمعٌ من المحدِّثين والمؤرّخين، وحتّى علماء اللغة والأدباء، فقد ذكرها ابن أبي طيفور - ت/ ٢٨٠ه - في كتابه «بلاغات النساء»(2)، وأبو سعد منصور بن الحسن الآبي - ت/421ه - في كتابه «نثرالدُر»(3)، والخوارزمي - ت/ 56٨ه - في كتابه «مقتل الحسين»(4)، وابن الأثير - ت/ 6٠6ه - في كتابه «منال الطالب في شرح طوال الغرائب»(5)، وسبط ابن الجوزي - ت/ 654ه - في كتابه «تذكرة الخواص»(6)، وابن أبي الحديد - 656ه - في كتابه «شرح نهج البلاغة» ، عن كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري - ت/ ٣٢٣ه - في «السقيفة وفدك»(7)، وأبو البركات محمّد الباعوني الشافعي - ت/ 871ه - في كتابه «جواهرالمطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب (ع)»(8).

كما أشار للخطبة جماعة من أهل اللغة والأدب، منهم:

الخليل بن أحمد الفراهيدي - ت/١٧٠ه - في كتابه «العين»(9)، والزمخشري -ت/538ه - في كتابه «الفائق في غريب الحديث» (10)، وابن الأثير -ت/6٠6ه- في كتابه «النهاية في غريب الحديث» (11)، وابن منظور


1- تقدّم ذكرها بأكملها تقريباً تحت عنوان: «فدك في خلافة أميرالمؤمنين ع» .
2- بلاغات النساء، ص١٧.
3- نثر الدرّ، أبو سعد منصور بن الحسن الآبي، ج١، صص٢6٢ - ٢64.
4- مقتل الحسين، الموفق بن أحمد المكي أبو المؤيّد الخوارزمي، ج١، ص٧٧.
5- منال الطالب في شرح طوال الغرائب، ابن الأثير، صص5٠١ - 5٣4.
6- تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي، ج٢، ص٣5٢ و ٣5٣.
7- شرح نهج البلاغة، ج١6، ص٢١١.
8- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي ع ، شمس الدين محمّد بن أحمد الدمشقي الباعوني أبو البركات، ج١، ص١5٧.
9- كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج٨، ص٣٢٣، مادة اللّمة .
10- الفائق في غريب الحديث، الزمخشري، ج٣، ص٢١٢، مادّة اللّمة .
11- النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، ج4، ص٢٧٣، مادّة اللّمة .

ص:140

-ت/٧١١ه - في كتابه «لسان العرب»(1).

وذكرها من المعاصرين: الدكتور عمر رضا كحالة، في كتابه «أعلام النساء» (2)، كما أشار إليها الدكتور توفيق أبو علم، في كتابه «أهل البيت» (3).

وممّا يؤكِّد صحَّة صدور هذه الخطبة للزهراء عليها السلام، هو ورود بعض مضمون صدرها في بعض الأحاديث الصحيحة، فقد أخرج الترمذي والبيهقي في سُننهما، بسندهما عن أبي هريرة، قال - واللفظ للتّرمذي -:

«جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: "مَن يرثك؟ قال: أهلي وولدي. قالت: فما لي لا أرث أبي؟ فقال أبوبكر: سمعت رسول الله (ص) يقول: لا نورّث. . . "» .

وقال الترمذي في ذيل الحديث:

«حديث أبي هريرة حديث حسن، غريب من هذا الوجه»(4).

وأورد أحمد بن حنبل في مسنده، بسنده عن أبي سلمة، قال:

إنَّ فاطمة قالت لأبي بكر: مَن يرثك إذا مُتّ؟ قال: ولدي وأهلي. قالت: فما لنا لا نرث النبيّ (ص) ؟ ! قال: سمعت النبيّ (ص) يقول: "إنَّ النبيّ لايورّث". . .(5).

وكلّ روايات أبي سلمة، في مسألة الإرث وقضية الزهراء عليها السلام مع أبي بكر، رواها أبو سلمة عن أبي هريرة، ولعلَّه من هنا قال شعيب الأرنؤوط، في تعليقه على الحديث:

«صحيح لغيره»(6).

وأخرج ابن سعد في «الطبقات الكبرى» أنَّ فاطمة عليها السلام والعباس جاءا إلى أبي بكر يطلبان ميراثهما، وجاء معهما أمير المؤمنين (ع) ، فقال أبو بكر:


1- لسان العرب، ج١5، ص٢5٧، مادّة اللّمة .
2- أعلام النساء، عمر كحالة، ج٣، ص١٢٠٨.
3- أهل البيت، توفيق أبو علم، ص١5٨.
4- سُنن الترمذي، ج٣، صص٨١ و ٨٢؛ السُنن الكبرى، البيهقي، ج6، ص٣٠٢.
5- مسند أحمد بن حنبل، ج١، ص١٠.
6- المصدر نفسه.

ص:141

قال رسول الله: "لا نورِّث، ما تركنا صدقة"، وما كان النبيّ يعول فعلَيّ. فقال علي: وَرثَ سُليمان داود"، وقال زكريّا: (يَرِثُنِي وَيَرِث مِن آلِ يَعقُوب) . قال أبو بكر: هو هكذا، وأنت والله تعلم مثلنا(1)

أعلم. فقال عليّ: "هذا كتاب الله ينطق" فسكتوا وانصرفوا(2)


1- كذا في الطبقات؛ وفي كنز العمال، المتقي الهندي، ج5، ص6٢5: «تعلم مثل ما أعلم» .
2- الطبقات الكبرى، ج٢، ص٣١5؛ كنز العمال، ج5، ص6٢5.

ص:142

ص:143

الفصل الثالث: مناقشة استدلال أبي بكر بحديث (لا نورِّث) على عدم الإرث

اشاره

ص:144

ص:145

تمهيد

اشاره

ردَّ أبو بكر دعوى الزهراء عليها السلام في إرثها من والدها رسول الله (ص) ، فلم يُعطها شيئاً، وادَّعى أنَّ الرّسول (ص) لا يُورِّث، وأنَّ ما تركه فهو صدقة، واحتجَّ على ذلك بروايةٍ ادَّعى أنَّه سمعها من الرسول (ص) وحده، فقد أخرج البخاري، وغيره من محدّثي السنّة، من طريق عروة بن الزبير، أنَّ عائشة أخبرته:

أنَّ فاطمة عليها السلام، ابنة رسول الله (ص) ، سألت أبا بكر الصدِّيق، بعد وفاة رسول الله (ص) ، أن يقسم لها ميراثها، ما ترك رسول الله (ص) ، ممّا أفاء الله عليه، فقال أبو بكر: إنَّ رسول الله (ص) قال: "لا نورِّث ما تركنا صدقة". فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص) ، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت. وعاشت بعد رسول الله (ص) ، ستة أشهر. قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله (ص) ، من خيبر وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبوبكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله (ص) يعمل به إلاّ عملت به، فإنِّي أخشى إن تركت شيئاً من أمره، أن أزيغ. فأمَّا صدقته بالمدينة، فدفعها عمر إلى علي وعباس، وأمَّا خيبر وفدك، فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله (ص) ، كانتا لحقوقه الّتي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى مَن ولي الأمر. قال: فهما على ذلك إلى اليوم(1).


1- صحيح البخاري، ج4، ص4٢. قال إحسان ظهير: «فأجابها أبو بكر أنَّ رسول الله ص قال: "لا نورّث، ما تركنا فهو صدقة"» . الشيعة وأهل البيت، ص٨٣.

ص:146

وأخرج في صحيحه، من طريق عائشة أيضاً، قالت:

إنَّ فاطمة عليها السلام بنت النبيّ (ص) ، أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (ص) ، ممَّا أفاء الله عليه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خُمس خيبر، فقال: أبو بكر: إنَّ رسول الله (ص) قال: "لا نورِّث، ما تركنا صدقة" (1).

ويمكن مناقشة ما استدلّ به أبو بكر من حديث «لا نورِّث» ، وإنْ ورد في صحيح البخاري وغيره؛ وذلك من خلال تسجيل عدّة ملاحظات أساسية عليه، كالآتي:

أوَّلاً: طرح أحاديث الصحيحين الّتي لا تتَّفق مع الثوابت

لا إشكال في طرح الأحاديث الّتي لا تتَّفق مع الثوابت الدينيّة والتاريخيّة، وعدم العمل بمقتضاها. ومن هنا، فورود حديث ما في الصحيحين، لا يعني بالضرورة قبوله والعمل طبق مقتضاه، وإنَّما يُعرَض عنه ولا يُلتفَت إليه في صورة مخالفته لتلك الثوابت. ومن هنا ردَّ علماء السنّة ومحدّثوهم بعض أحاديث الصحيحين، «فضلاً عن غيرهما» ، وإليك بعض الأمثلة من الأحاديث الّتي رُدَّت من قِبل علماء السنّة؛ لمخالفتها بعض الثوابت الدينيّة أو التاريخيّة:

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، بسندهما عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، قال:

«سمعت أنس بن مالك يحدّثنا عن ليلة أُسري بالنبيّ (ص) من مسجد الكعبة، جاء ثلاثة نفر قبل أن يُوحى إليه، وهو نائم في مسجد الحرام. . .»(2).

وقد رُدَّت هذه الرواية؛ لمخالفتها الصريحة لمسلَّمة دينيّة وتاريخيّة، وهي أنَّ الإسراء كان بعد البعثة النبوية المباركة. قال ابن حجر في شرحه لرواية البخاري المتقدِّمة:

قوله: «قبل أنْ يُوحى إليه» ، أنكرها الخطابي وابن حزم، وعبد الحقّ والقاضي عياض والنووي، وعبارة النووي: " وقع في رواية شريك -يعني هذه - أوهام أنكرها العلماء، أحدها: قوله: «قبل أن يُوحى إليه» ،


1- صحيح البخاري، ج4، صص٢٠٨ و ٢٠٩؛ ج5، ص٨٢.
2- المصدر نفسه، ج4، ص١6٨؛ ج٨، صص٢٠٣ و ٢٠4؛ صحيح مسلم، ج١، ص١٠٢.

ص:147

وهو غلط لم يوافَق عليه، وأجمع العلماء على أنَّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل أن يُوحى إليه؟ ! "(1).

وقال النووي في شرحه لرواية مسلم المتقدِّمة:

«قوله: (وذلك قبل أن يُوحى إليه) ، وهو غلط لم يوافَق عليه؛ فإنَّ الإسراء أقلّ ما قيل فيه إنّه كان بعد مبعثه (ص) بخمسة عشر شهراً. . .»(2).

أخرج مسلم في صحيحه، بسنده عن أبي هريرة، قال:

أخذ رسول الله (ص) بيدي، فقال: " خلق الله عزّ وجلّ التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدوابّ يوم الخميس، وخلق آدم (ع) بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل"(3).

وقد رُدَّت هذه الرّواية أيضاً؛ لمخالفتها لصريح القرآن الكريم. قال ابن كثير:

هذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلّم عليه علي بن المديني والبخاري، وغير واحد من الحفّاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأنَّ أبا هريرة إنَّما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنَّما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعاً، وقد حرَّر ذلك البيهقي(4).

وقال أيضاً:

رواه مسلم بن الحجّاج في صحيحه، والنسائي من غير وجه عن حجاج -وهو ابن محمّد الأعور - عن ابن جريج به، وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في «سِتّةِ أيّام» ، ولهذا تكلّم البخاري، وغير واحد من الحفّاظ، في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار، ليس مرفوعاً(5).


1- فتح الباري، ج١٣، ص٣٩٩.
2- شرح مسلم، ج٢، صص٢٠٩ و ٢١٠.
3- صحيح مسلم، ج٨، ص١٢٧.
4- تفسير ابن كثير، ج١، ص٧٢.
5- المصدر نفسه، ج٢، ص٢٣٠. وقد نقل كعب الأحبار ذلك عن التوراة، فدخلت هذه المفردة اليهودية في الصحيح! !

ص:148

وقال الآلوسي:

ولا يخفى أنَّ هذا الخبر مخالف للآية الكريمة، فهو إمّا غير صحيح، وإن رواه مسلم، وإمّا مؤوَّل. وأنا أرى أنَّ أوّل يوم وقع فيه الخلق يقال له: الأحد، وثاني يوم: الاثنين، وهكذا. . ويوم جمع فيه الخلق الجمعة، فافهم(1).

إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي تحتاج إلى تتبّع هو خارج عن محلّ بحثنا.

ومن هنا، فمجرّد وجود الحديث في الصحيحين، أو غيرهما، لا يكتسب الدرجة القطعيّة في الصدور؛ ولذا فورود حديث «لا نورِّث» في الصحاح، لايعني أنَّه فوق مستوى النقد والمناقشة.

وعليه، فمع وجود تلك القرائن والشواهد القويّة الآتية، الّتي تشكّك في أصل صدور حديث «لا نورِّث» ، لا يصلح لصرف آيات الإرث عن عمومها أو إطلاقها، فضلاً عن أن يكون مخصِّصاً لها.

ثانياً: لماذا لم يُخبر الرسول (ص) وَرَثَته بحديث (لا نورِّث) ؟

من التساؤلات الّتي لم يُجَب عنها بوضوح، هي سبب عدم ذكر الرسول (ص) هذا الحديث لذوي الشأن ومحلّ الابتلاء، وهم أقاربه (ص) ، كأمير المؤمنين (ع) ، وفاطمة عليها السلام، والعبّاس، وزوجاته (ص) ؟ !

فلماذا لم يُخبر الرسولُ (ص) أميرَ المؤمنين (ع) ، الّذي كان أطوع الأُمّة وأكثرها اتّباعاً له (ص)(2)، ونجيّه (ص) ، وصاحب سرّه والمؤتمَن على الدِّين


1- تفسير الآلوسي، ج٨، ص ١٣٣.
2- أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، أنّ رسول الله ص قال يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحبّ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسوله» . صحيح البخاري، ج5، ص٧6؛ ج4، صص١٢، ٢٠ و٢٠٧؛ صحيح مسلم، ج5، ص١٩5؛ ج٧، صص١٢٠ - ١٢٢. قال ابن حجر في شرحه للحديث: «في الحديث تلميح بقوله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ آل عمران: ٣١ ، فكأنّه أشار إلى أنَّ علياً تامّ الاتّباع لرسول الله ص حتّى اتّصف بصفة محبّةالله له» . فتح الباري، ج٧، صص5٧ و 5٨.

ص:149

والدنيا؟ !(1)

ولماذا لم يُعلِم (ص) الزهراء عليها السلام بهذا الحديث؛ وذلك من أجل أن يُجنِّبها الخروج وتعريض نفسها للانتهاك، ووضعها في معرض التهمة؟ ! وهو (ص) الحريص كلّ الحرص على عدم إلحاق الأذى بها عليها السلام، حتّى قرن أذيّتها بأذيّته (ص) ، كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه، بسنده عن المسور بن مخرمة، قال:

«قال رسول الله (ص) : "إنَّما فاطمة بضعة منّي، يُؤذيني ما آذاها"»(2).

ولماذا لم يُخبر (ص) أزواجه، أُمّهات المؤمنين - وفيهنَّ أُمّ سلمة - اللاتي لا يليق بشأنهنّ إظهارهنّ أمام الأُمّة بمظهر الجاهل بهذا الحكم، الّذي يخصّهنّ بالدرجة الأُولى قبل غيرهم؟ ! حتّى أرَدنَ إرسال عثمان إلى أبي بكر ليسأله ميراثهنّ، كما أخرج ذلك البخاري في الصحيح، بسنده عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت:

«إنَّ أزواج النبيّ (ص) حين توفّي رسول الله (ص) ، أردنَ أن يبعثنَ عثمان إلى أبي بكر، يسألنه ميراثهنَّ. . .» (3).

وقد صرّح بذلك ابن عبد البرّ في «التمهيد» ، وأنَّ زوجات النبيّ (ص) لم يكنَّ يعلمنَ بحديث «لا نورِّث» . قال:

«وغير نكير أن يَكُنَّ كُلّهنّ [أي: فاطمة عليها السلام وزوجات رسول الله (ص) ]يسألنَ ذلك، ولم يكن عندهنّ علم من قول رسول الله (ص) ذلك»(4).


1- أخرج الترمذي في سُننه، بسنده عن جابر، قال: «دعا رسول الله ص علياً يوم الطائف، فانتجاه، فقال الناس: لقد أطال نجواه مع ابن عمّه. فقال رسول الله ص : «ما انتجيته، ولكنّ الله انتجاه»» . ثُمّ قال الترمذي: «هذا حديث حسن. . ، ومعنى قوله: «ولكنّ الله انتجاه» ، يقول: إنّ الله أمرني أن أنتجي معه» . سنن الترمذي، ج5، ص٣٠٣؛ وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: «رواه أحمد في المسند» . شرح نهج البلاغة، ج٩، ص١٧٣؛ وقال المباركفوري: «قال الطيبي: "كان ذلك أسراراً إلهية وأموراً غيبية، جعله من خزانتها". انتهى» . قال القاري فيه: «إنَّ الظاهر أنّ الأمر المتناجى به من الأسرار الدنيوية المتعلّقة بالأخبار الدينيّة، من أمر الغزو ونحوه» . تحفة الأحوذي، ج١٠، صص١5٨ و ١5٩. وفي رواية الطّبراني في المعجم الكبير، بسنده عن جابر، قال: «فقال له أبو بكر: يا رسول الله، لقد طالت مناجاتك علياً منذ اليوم، فقال رسول الله ص : «ما أنا انتجيته، ولكنّ الله انتجاه»» . المعجم الكبير، ج٢، ص١٨6.
2- صحيح مسلم، ج٧، ص١4١.
3- صحيح البخاري، ج٨، ص5.
4- التمهيد، ابن عبد البر، ج٨، ص١5٣.

ص:150

فقد ذكر ابن عبد البر أوَّلاً رواية عقيل المتقدِّمة عن الزهري، من أنَّ فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (ص) ، ثُمَّ ذكر رواية مالك الآنفة، وأنَّ زوجات النبيّ الأكرم (ص) أرسلنَ يسألنَ ذلك، وكأنَّ الأمر أشكل عليه.

فكيف ينقل عقيل عن الزهري أنَّ فاطمة عليها السلام سألت ميراثها، وينقل مالك عن الزهري أيضاً، أنَّ زوجات النبيّ (ص) سألنَ ميراثهنَّ؟ !

فرجَّح رواية مالك، ووجَّه ذلك بأنَّه أثبت من عقيل في الزهري و. . . .

غير أنَّه لمّا رأى أنَّ سؤال فاطمة عليها السلام ميراثها مشهور معلوم، وقد روي من غير حديث عقيل، تَحَيَّر، فجمع بين الروايتين، «رواية عقيل ومالك» ، بأنَّهُنَّ لم يَكُنَّ يعلمنَ كلّهن بحديث (لا نورِّث) ، فسألنَ ذلك. حيث قال:

ففي رواية عقيل هذه، أنَّ فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها، وفي رواية مالك ويونس، أنَّ أزواج النبيّ (ص) فعلنَ ذلك، والقلب إلى رواية مالك أميل؛ لأنَّه أثبت في الزهري، وقد تابعه يونس، وإن كان عقيل قد جوّد هذا الحديث.

وسؤال فاطمة أبا بكر ذلك، مشهور معلوم من غير هذا الحديث، وغير نكير أن يكنّ كلّهنّ يسألنَ ذلك، ولم يكن عندهنَّ علم من قول رسول الله (ص) ذلك، فلمّا أعلمهنَّ أبو بكر، سكتنَ وسلَّمنَ(1).

ولماذا - أيضاً - لم يُخبر الرسول (ص) عمّه العبّاس بن عبد المطلب، ليُجنّبه ذُلّ المطالبة والوقوف بين يدي الحاكم، على الرغم من كبر سنّه، واشتهاره بحبر الأُمّة، حتّى بقي يطالب بهذا الإرث بعد موت أبي بكر، ووصول الأمر لعُمر؟ ! كما هو مفاد رواية مالك بن أوس، الّتي أخرجها البخاري ومسلم في الصحيح، من أنَّ عمر قال لأمير المؤمنين (ع) والعباس، بعد أن جاءا إليه - بحسب هذه الرواية - وطالباه بإرثهم من الرسول (ص) ، قال:

ثُمَّ جئتماني تكلّماني، وكلمتكما واحدة، وأمركما واحد. جئتني يا عباس


1- التمهيد، ج٨، صص١5٢ و ١5٣.

ص:151

تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا (يعني عليّاً) يريد نصيب امرأته من أبيها(1).

وقد حكى هذه التّساؤلات، الّتي أوردناها، الفخر الرازي عن علماء الشيعة في تفسيره، حيث قال:

إنَّ المحتاج إلى معرفة هذه المسألة، ما كان إلاّ فاطمة وعليّ والعباس، وهؤلاء كانوا من أكابر الزُهّاد والعلماء وأهل الدِّين، وأمّا أبو بكر، فإنَّه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة البتة؛ لأنَّه ما كان ممَّن يخطر بباله أنَّه يرث من الرسول (عليه الصلاة والسلام) . فكيف يليق بالرسول (عليه الصلاة والسلام) أن يبلِّغ هذه المسألة إلى مَن لا حاجة به إليها، ولايبلّغها إلى مَن له إلى معرفتها أشدّ الحاجة؟ ! (2).

وما قد يقال من أنَّ النبيّ (ص) أخبرهم، وكانوا يعلمون بالحديث، كالزهراء عليها السلام، لكنَّها اعتقدت الخصوص في الحديث، واعتقد أبو بكر عمومه، كما صرَّح بذلك ابن حجر، قال:

وأمَّا سبب غضبها، مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور، فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسّك به أبو بكر، وكأنَّها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: (لا نُورِّث) ، ورأت أنَّ منافع ما خلّفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسّك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل(3).

لا يرفع الإشكال؛ لأنَّه خلاف ظاهر الحديث، فإنَّه صريح في مطالبة الزهراء عليها السلام بكلّ ميراثها من الرسول (ص) ، وهو الفيء وفدك، (أرضاً ومنفعةً) ، والخمس، كما هو صريح رواية البخاري المتقدِّمة، قال:

«أرسلت إلى أبي بكر، تسأله ميراثها من رسول الله (ص) ، ممَّا أفاء الله عليه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خُمس خيبر»(4).


1- صحيح البخاري، ج4، ص44؛ ج6، ص١٩١؛ ج٨، صص4، ١4٧؛ صحيح مسلم، ج5، ص١5٢.
2- التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، ج٩، ص٢١٠.
3- فتح الباري، ج6، ص١4٠.
4- صحيح البخاري، ج5، ص٨٢.

ص:152

بل هذا التوجيه لابن حجر غريب جدّاً، مع تصريح حديث الزهري عن عائشة بمطالبتها والعباس بأرضيهما، قال:

«إنَّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (ص) ، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك، وسهمهما من خيبر»(1).

والسبب وراء ابتعاد ابن حجر وأضرابه عن الموضوعية في البحث، ووقوعهم في مثل هذه الهفوات الواضحة، هو المحافظة على موروثاتهم العقائدية، وطرح الدليل والبرهان.

مضافاً إلى أنَّه يقال حينئذ: لِمَ لَمْ يخبرهم الرسول (ص) بذلك، ويقول لهم بأنَّ الحديث عامّ وشامل لكلّ موارد الإرث، ولا يختصّ ببعضها؟ !

ثالثاً: أمير المؤمنين (ع) والعباس لم يسمعا بحديث (لا نورِّث) !

لو كان حديث (لا نورِّث) موجوداً، لما تخاصم أمير المؤمنين (ع) والعباس في زمان عمر، حسب دعواهم. فإذا كانا يعلمان بوجود هذا الحديث، أو كان ثابتاً وموجباً لهما العلم به بإخبار أبي بكر، فلماذا تخاصما؟ !

فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، من طريق مالك بن أنس، أنَّ عمر قال لأمير المؤمنين (ع) والعبّاس، بعد أن جاءا إليه وطالباه بإرث رسول الله (ص) وفدك:

فلمَّا توفّى رسول الله (ص) ، قال أبو بكر: أنا وليّ رسول الله (ص) ، فجئتما، تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول الله (ص) : "ما نورِّث، ما تركنا صدقة ". فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً. . . ؟ !

ثُمَّ توفّى أبو بكر، وأنا وليّ رسول الله (ص) ووليّ أبي بكر، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً. . . فولّيتها، ثُمَّ جئتني أنت وهذا، وأنتما جمع، وأمركما واحد، فقلتما: ادفعها إلينا. فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما، على أنّ عليكما


1- صحيح البخاري، ج٨، ص٣.

ص:153

عهد الله أن تعملا فيها بالّذي كان يعمل رسول الله (ص) ، فأخذتماها بذلك. قال: أكذلك؟ قالا: نعم. قال: ثُمَّ جئتماني لأقضي بينكما. ولا والله، لاأقضي بينكما بغير ذلك حتّى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها، فردّاها إليّ (1).

وقد أشار لهذا الإشكال ابن حجر، حيث قال:

وفي ذلك إشكال شديد، وهو أنَّ أصل القصّة صريح في أنَّ العبّاس وعليّاً قد علما بأنَّه (ص) قال: " لا نورِّث ". فإن كانا سمعاه من النبيّ (ص) ، فكيف يطلبانه من أبي بكر؟ ! وإن كانا إنَّما سمعاه من أبي بكر، أو في زمنه، بحيث أفاد عندهما العلم بذلك، فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟ ! (2).

وقوله:

«ثُمَّ جئتماني الآن تختصمان، يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي» ، صريح في تخاصمهما في الإرث، لا في ولاية الصدقات، ويشهد له قول عمر بعد ذلك:

«والله لا أقضي بينكما إلاّ بذلك» ، أي: إلاّ بما تقدّم من تسليمها لهما على سبيل الولاية، كما صرّح بذلك ابن حجر، حيث قال:

ولفظه في آخره " ثُمَّ جئتماني الآن تختصمان، يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا أريد نصيبي من امرأتي. والله لا أقضي بينكما إلاّ بذلك"، أي: إلاّ بما تقدّم من تسليمها لهما على سبيل الولاية(3).

وذكر البعض وجوهاً في توجيه الحديث، ضعَّفها كلّها ابن حجر، حيث قال:

وفي السُنن لأبي داود، وغيره: " أرادا أنَّ عمر يقسِّمها، لينفرد كلّ منهما بنظر ما يتولاّه، فامتنع عمر من ذلك، وأراد أن لا يقع عليها اسم قِسم،


1- صحيح مسلم، ج5، صص١5٢ و ١5٣؛ انظر: صحيح البخاري، ج4، ص44؛ ج6، ص١٩١؛ ج٨، صص4، ١4٧.
2- فتح الباري، ج6، ص١44.
3- المصدر نفسه، ص١45.

ص:154

ولذلك أقسم على ذلك. وعلى هذا اقتصر أكثر الشرّاح واستحسنوه، وفيه من النظر ما تقدّم"(1)

! وأعجب من ذلك جزم ابن الجوزي، ثُمَّ الشيخ محيي الدِّين، بأنَّ عليّاً وعبّاساً لم يطلبا من عمر إلاّ ذلك! مع أنَّ السياق صريح في أنَّهما جاءاه مرّتين في طلب شيء واحد(2).

وأمَّا الوجه الّذي ذكره ابن حجر، حيث قال:

الّذي يظهر - والله أعلم - حمل الأمر في ذلك على ما تقدّم في الحديث الّذي قبله، في حقّ فاطمة، وأنَّ كلا من علي وفاطمة والعباس اعتقد أنَّ عموم قوله: «لا نورِّث» مخصوص ببعض ما يخلفه دون بعض؛ ولذلك نسب عمر إلى علي وعباس أنّهما كانا يعتقدان ظلم مَن خالفهما في ذلك(3).

فقد تقدّم آنفاً جوابه، من أنَّه خلاف ظاهر الحديث؛ لأنَّه صريح الدلالة على مطالبة الزهراء عليها السلام بكلّ ميراثها من رسول الله (ص) ، وهو الفيء وفدك، «أرضاً ومنفعة» ، والخُمس، وليس ببعضه، كما هو صريح رواية البخاري المتقدِّمة. قال:

«أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (ص) ، ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خُمس خيبر»(4).

كما أنَّه من غير المعقول أن يخفى مثل هذا العموم على شخص


1- إشارة لقوله: «لكن في رواية النسائي وعمر بن شبة، من طريق أبي البختري، ما يدلّ على أنّهما أرادا أن يقسم بينهما على سبيل الميراث. ولفظه في آخره [يعني آخر حديث البخاري]: " ثُمّ جئتماني الآن تختصمان، يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي. والله لا أقضي بينكما إلاّ بذلك "، أي: إلاّ بما تقدّم من تسليمها لهما على سبيل الولاية، وكذا، وقع عند النّسائي من طريق عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس نحوه» . فتح الباري، ج6، ص١45. والّذي ساقه لردّ الوجه الذي ذكره إسماعيل القاضي، من أنَّ الخصومة - حسب دعوى أهل السنّة - بين أميرالمؤمنين ع والعباس، كانت في ولاية الصدقات لا في الإرث، قال ابن حجر: «وأمّا مخاصمة علي وعباس بعد ذلك ثانياً عند عمر، فقال إسماعيل القاضي، فيما رواه الدارقطني من طريقه: "لم يكن في الميراث، إنّما تنازعا في ولاية الصدقة، وفي صرفها، كيف تصرف". كذا قال» . المصدر نفسه.
2- فتح الباري، ج6، ص١45.
3- المصدر نفسه، ص١44.
4- صحيح البخاري، ج5، ص٨٢.

ص:155

كأميرالمؤمنين (ع) ، وهو الّذي كان يفزع إليه الصحابة عند الملمّات وتوارد المشكلات!

ولماذا لم يخبر أبو بكر فاطمة عليها السلام بهذا العموم، كما وجّه ابن حجر نفسه مطالبة الزهراء عليها السلام بفدك في الوجه المتقدّم؟ !

فإذا أعلمها بهذا العموم، فلِمَ لم تُخبر به زوجها أمير المؤمنين (ع) ؟ ! ثُمَّ كيف يبقى أمير المؤمنين (ع) والعباس هذه المدّة كلّها لا يعلمان بهذا العموم، على الرغم من تكرّر المطالبة والخصومة منذ زمن أبي بكر، وحتّى زمن عمر؟ !

وممّا يؤيِّد عدم علم العبّاس بحديث أبي بكر، هو حديث معمر المتقدِّم، الّذي أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، بسندهما عن عائشة، قالت:

«إنّ فاطمة عليها السلام والعبّاس أتيا أبابكر يلتمسان ميراثهما؛ أرضه من فدك، وسهمه من خيبر. . .»(1).

ولا وجه لِما ذكره بعض الشرّاح، من أنَّ قوله:

«والعباس» من زيادات معمر(2)؛ إذ إنَّه - كما بيّنا - مجرّد دعوى بلا دليل.

رابعاً: مخالفة خبر «لا نورِّث» لصريح القرآن

إنَّ مفاد حديث «لا نورِّث، ما تركنا صدقة» ، مخالف لصريح الآيات الكريمة الخاصّة، الّتي نصّت على أنَّ الأنبياء والرُسل عليهم السلام يرث بعضهم بعضاً، وأنَّهم غير خارجين عن دائرة أحكام الإرث. ومن هذه الآيات قوله تعالى: ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (مريم: 6) ، وقوله تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (النمل: ١6) .

وكذا مخالف لعموم الآيات الكريمة الّتي بيَّنت أحكام الإرث، دون أن تستثني منها الأنبياء والرُسل عليهم السلام، كقوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء: ١١) ، وقوله تعالى: ( وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض) (الاحزاب: 6) .

وقد وقع الكلام من علماء المسلمين، قديماً وحديثاً، في هذه الآيات


1- المصدر نفسه، ج5، ص٢5.
2- قال ابن حجر: «زاد معمر عن الزهري والعباس أتيا أبا بكر» ؛ فتح الباري، ج6، ص١٣6.

ص:156

الكريمة، الخاصّة والعامّة، وهذه إشارة لِما قيل، وما ينبغي أن يُقال في المقام، بإذن الله تعالى:

آياتُ الإرث الخاصَّة

وردت في القرآن الكريم بعض الآيات الكريمة الّتي نصّت بشكل صريح على مسألة إرث الأنبياء عليهم السلام، وهي قوله تعالى، حكاية عن زكريّا (ع) : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم: 4 - 6) ، وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الّذي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النّاس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كلّ شَيْءٍ إنّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل: ١5 و ١6) .

فقوله تعالى: ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ. .) ، وقوله تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ. .) يدلاّن على الإرث المالي؛ لأنَّ التوريث لا يتحقَّق على نحو الحقيقة إلاّ في المال، وأمَّا النبوّة، والعلم والحكمة والحُبُورة (1)والدِّين وما شاكل، فلا يُستعمَل الإرث فيها إلا على نحو المجاز، وإرادةُ المجاز تحتاج إلى قرينة واضحة وصريحة، حتّى تُرفَع اليد عن إرادة المعنى الحقيقي، ويُصْرَفَ إلى غيره.

فقد نصَّ علماء اللغة على أنَّ الإرث هو انتقال الشيء من شخص إلى شخص آخر، أو من قوم إلى قوم، وأنَّه يستعمَل على نحو الحقيقة في انتقال المال، وعلى نحو المجاز في غيره.

قال الفراهيدي:

«الإرث: ألْفُه واو، لكنَّها لمَّا كُسِرَتْ هُمِزَتْ. . . وتقول: إنَّما هو مالي من كسبي وإرث آبائي»(2).

وقال الأزهري:


1- أي: مرتبة أن يكون حبْراً.
2- كتاب العين، ج٨، ص٢٣4.

ص:157

ورثَ، أبو العبّاس عن ابن الأعرابي، قال: الوِرْث، والوُرْث، والإرْث، والإراث، والوراث، والتّراث واحد، قال أبو زيد: ورث فلانٌ أباه، فهو يرثه وراثةً وميراثاً، وأوْرث الرجُلُ ولده مالاً إيراثاً حسناً، وورَّث الرجُل بني فلان ماله توْريثاً، وذلك إذا أدْخل على ولده وورثته في ماله مَن ليس منهم، يجْعل له نصيباً. ويُقال: ورَّثت فلاناً من فلان، أي: جعلْت ميراثه له، وأوْرث الميْتُ وارثه ماله، أي: تركه له(1)

وقال الجوهري:

«الميراث أصله موراث، انقلبت الواو ياء لكسرةِ ما قبلها، والتُّراث أصل التاء فيه واو، تقول: ورثت أبي. . . وورَّثه توريثاً، أي: أدخله في ماله على ورثته»(2)

وقال ابن منظور:

قال ابن الأعرابي: الإرث في الحسب، والورث في المال (3)

وقال: [قال] أبوزيد: ورثَ فلان أباه، يرثه وراثة وميراثاً وميراثاً، وأورث الرجل ولده مالاً إيراثاً حسناً، ويُقال: ورَّثت فلاناً مالاً، أرثه ورثاً وورثاً، إذا مات مورثك، فصار ميراثه لك، وقال الله تعالى، إخباراً عن زكريّا، ودعائه إيّاه: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُني وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ، أي: يبقى بعدي فيصير له ميراثي(4).

وقال الراغب الأصفهاني:

الوراثة والإرث: انتقال قِنْيَة إليك عن غيرك من غير عقد، ولا ما يجري مجرى العقد، وسمّي بذلك المنتقل عن الميّت، فيُقال للقِنية الموروثة ميراث وإرث(5)

وقال الفيومي:

وَرِثَ: مال أبيه، ثُمّ قيل: «وَرِثَ» أباه مالاً، «يَرِثُهُ» «وِرَاثَةً» أيضاً،


1- تهذيب اللغة، محمّد بن أحمد أبو منصور الأزهري، ج١5، ص٨5.
2- الصحاح، الجوهري، ج١، صص٢٩5 و ٢٩6.
3- لسان العرب، ج٢، ص١١١.
4- المصدر نفسه، صص١٩٩ و٢٠٠.
5- مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص5١٨.

ص:158

و «التُّرَاثُ» بالضمّ، و «الإِرْثُ» كذلك. والتاء و الهمزة بدل من الواو، فإنْ ورث البعض، قيل: «وَرِثَ» منه، والفاعل «وَارِثٌ» ، والجمع «وُرَّاثٌ» و «وَرَثَةٌ» مثل كافر وكفّار وكفرة، والمال «مَوْرُوثٌ» ، والأب «مَوْرُوثٌ» أيضاً، و «أَوْرَثَهُ» أبوه مالاً: جعله له «مِيرَاثًا» ، و «وَرَّثْتُهُ» «تَوْرِيثًا» ، أشركته في الميراث. قال الفارابي: «وَرَّثَهُ» : أدخله في ماله على «وَرَثَتِهِ» ، وقال أبو زيد أيضاً: «وَرَّثَ» الرجل فلاناً مالاً «تَوْرِيثًا» : إذا أدخل على ورثته مَن ليس منهم، فجعل له نصيباً (1)

وقال السيّد علي خان المدني في «الطراز» ، بعد أن ذكر موارد استعمالات الإرث الحقيقي:

« ومن المجاز: "ورِثتُ من فلانٍ عِلماً: استفدته منه، والقناعةُ تورِثُ العِزَّ، وهم يتوارثون المجد"»(2)

وصرّح بعض مفسّري السنّة باستعمال

«يرثني» و

«ورث» في الآيتين المتقدّمتين بالمعنى المجازي؛ لأنَّهم فسّروا الإرث في غير المال. فقد حكى القرطبي عن ابن عطية قوله:

«الأظهر الأليق بزكريا (ع) أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة»(3). وبمثله قال الثعالبي(4)

وقال الشوكاني في بيان قوله تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)

:

أي: ورثه العلم والنبّوة. قال قتادة والكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً، فورث سليمان من بينهم نبوّته. . . وكذا قال جمهور المفسّرين، فهذه الوراثة هي وراثة مجازية، كما في قوله (ص) : "العلماء ورثة الأنبياء" (5)

وقال ابن عاشور في تفسيره للآية المتقدِّمة:

«فالإرث هنا مستعمَل في معناه المجازي، وهو تشبيه الأحوال الجليلة بالمال، وتشبيه الخلفة بانتقال ملك الأموال» (6).


1- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمّد بن علي المقري الفيومي، ج٢، ص654.
2- الطراز، علي خان المدني، ج٣، ص45٢، مادّة: ورث .
3- تفسير القرطبي، ج١١، ص٧٨.
4- تفسير الثعالبي، ج4، صص6 و ٧.
5- فتح القدير، الشوكاني، ج4، ص١٢٩.
6- التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج١، ص٣٠6١.

ص:159

نعم، هناك من ذهب من علماء السنّة إلى أنَّ الإرث مستعمل في الأعمّ من المال، وأنَّه حقيقة مشتركة بين عدّة معان، منها المال، والحبورة، والعلم، والنّبوّة، والسيرة الحسنة، كما يظهر من كلام الرازي، فبعد أن ذكر الخلاف في المراد من ميراث الأنبياء عليهم السلام، والوجوه المذكورة فيه، قال:

«اعلم أنَّ هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة، وهي: المال، ومنصب الحبورة، والعلم، والنبوّة، والسيرة الحسنة. ولفظ الإرث مستعمَل في كلّها»(1)

وأنت خبير بأنَّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز، ولا خلاف في جواز استعمال الإرث في غير المال مجازاً، لكنَّ الكلام في أصل الوضع، وقد عرفت إطباق اللُغويّين على أنَّ الإرث حقيقة في المال.

نعم، اضطرَّ بعض المتأخّرين، ممَّن لا يُؤبه به في اللغة، إلى ادِّعاء أنَّ الإرث حقيقة مشتركة بين المال وغيره، قال الآلوسي:

«ولا نُسلِّم كونها حقيقة لغويّة في وراثة المال، بل هي حقيقة فيما يعمّ وراثة العلم والمنصب والمال. . .»(2)

فإذن، استعمال الإرث على نحو الحقيقة في المال هو قدر متيقّن؛ إذ لم يخالف أحد في ذلك، ومن هنا، فإرادة وراثة غير المال من الحبورة والعلم، والنبوّة والحكمة والملك، تحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي، أو مُعيِّنة لأحد المعاني الحقيقية المشتركة المُدّعاة، وهذه القرينة مفقودة في المقام.

وممَّا يؤيِّد استعمال الإرث في المال، في الآيتين الكريمتين، هو الحديث المتقدِّم الّذي أخرجه ابن سعد في طبقاته، قال:

فقال علي: "(وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) ، وقال زكريَّا: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ". قال أبو بكر: هو هكذا، وأنت والله تعلم [مثل ما] (3) أعلم

. فقال علي: " هذا كتاب الله ينطق". فسكتوا وانصرفوا (4).

فقد حمل أمير المؤمنين (ع) الإرث في الآيتين الكريمتين على المال، ولم يعترض


1- تفسير الرازي، ج٢١، ص١٨4.
2- روح المعاني، الآلوسي، ج١6، ص64.
3- كنز العمال، ج5، ص6٢5.
4- الطبقات الكبرى، ج٢، ص٣١5.

ص:160

عليه أحد من الصحابة، وإنَّما

«سكتوا وانصرفوا» .

إلاّ أنَّ علماء السنَّة لمّا ابتلوا بحديث أبي بكر، اضطرّوا إلى القول بإرادة غير المال من التوريث في تلك الآيات الكريمة مجازاً، أو على نحو الحقيقة، باعتبار كون الإرث حقيقة في الأعمّ من المال حسب دعواهم، فاختلفوا من وجهين:

الأوَّل: إنَّ عدم وراثة الأنبياء عليهم السلام هل هي شاملة لكلّ الأنبياء عليهم السلام، بما فيهم نبيّنا الكريم (ص) ، أو أنَّها من مختصّات النبيّ الخاتم (ص) ، كسائر الأمور الأُخرى الّتي اختصّ بها؟

فذهب أكثرهم إلى أنَّ الأنبياء والرُسل عليهم السلام كلّهم لا يورِّثون، ومال البقيّةُ إلى القول باختصاص عدم الإرث بالنبيّ الخاتم (ص) . قال القرطبي:

قال أبو عمرو: واختلف العلماء في تأويل قوله (ع) : (لا نورِّث، ما تركنا صدقة) على قولين: أحدهما، وهو الأكثر، وعليه الجمهور: أنَّ النبيّ (ص) لايوِّرث، وما ترك صدقة. والآخر: أنَّ نبيّنا عليه الصّلاة والسّلام لم يورِّث؛ لأنَّ الله تعالى خصّه بأن جعل ماله كلّه صدقة، زيادة في فضيلته، كما خُصّ في النكاح بأشياء أباحها له وحرّمها على غيره (1)

وقال ابن عاشور:

والظّواهر تُؤْذِنُ بأنَّ الأنبياء كانوا يورَثون، قال تعالى: «وورث سليمان داود» . وأمَّا قول النبيّ (ص) : «نحن معشر الأنبياء لا نورِّث، ما تركنا صدقة» ، فإنَّما يريد به رسول الله نفسه، كما حمله عليه عمر في حديثه مع العبّاس وعلي في صحيح البخاري؛ إذ قال عمر: «يريد رسول الله بذلك نفسه» ، فيكون ذلك من خصوصيّات محمّد (ص) ، فإن كان ذلك حكماً سابقاً، كان مراد زكريّا إرث آثار النبوّة، خاصّة من الكتب المقدّسة، وتقاييده(2)

عليها(3)

الثاني: اختلفوا في الشيء الموروث في تلك الآيات الخاصّة، فذكروا عدّة أمور


1- تفسير القرطبي، ج١١، ص٧٨.
2- يعني ما كان يقيّده عليها من توضيحات وملاحظات.
3- التحرير والتنوير، ج١، ص٣٠6١.

ص:161

في المسألة، هي: المال، والحبورة، والعلم، والنبوة، والسيرة الحسنة، والحكمة، والملك، وقد أجمل الفخر الرازي هذا الخلاف في تفسيره، قائلاً:

اختلفوا في المراد بالميراث على وجوه:

أحدها: إنَّ المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال، وهذا قول ابن عباس والحسن والضّحّاك.

وثانيها: إنَّ المراد به في الموضعين وراثة النبوّة، وهو قول أبي صالح.

وثالثها: يرثني المال، ويرث من آل يعقوب النبوّة، وهو قول السدي ومجاهد والشعبي. ورُوي أيضاً عن ابن عباس والحسن والضحّاك.

ورابعها: يرثني العلم، ويرث من آل يعقوب النبوّة، وهو مروي عن مجاهد. واعلم أنَّ هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة، وهي: المال، ومنصب الحبورة، والعلم، والنبوّة، والسيرة الحسنة(1)

وقال القرطبي:

« قال النحّاس: فأمَّا معنى «يرثني ويرث من آل يعقوب» ، فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة، قيل: هي وراثة نبوّة، وقيل: هي وراثة حكمة، وقيل: هي وراثة مال. . .»(2)

وقال ابن كثير:

«قوله تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) ، أي: في الملك والنبوّة»(3)

وقد ذكروا لتصحيح حمل الإرث في الآيتين المتقدِّمتين على هذه الوجوه، عدّة قرائن صارفة أو مُعيّنة؛ لتصحيح الحمل عليها، وسنستعرض أهمّ ما ذُكر من الوجوه والقرائن عليها، في كلّ آية على حدة:

قرائن آية: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ

اشاره

ذكر علماء السنّة عدّة قرائن لإرادة غير المال من الإرث، في قوله تعالى: ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم: 5 و 6) .


1- تفسير الرازي، ج٢١، ص١٨4.
2- تفسير القرطبي، ج١١، ص٧٨.
3- تفسير ابن كثير، ج٣، ص٣٧٠.

ص:162

وأهمّ هذه القرائن، هي:

القرينة الأُولى: سياق الآية الكريمة

إنَّ سياق الآيات الكريمة تدلّ على إرادة وراثة غير المال، وخصوصاً مع ملاحظة قوله تعالى: ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ) ؛ إذ إنَّ نبيّ الله زكريّا (ع) أجلُّ قدراً من أن يخاف على ماله إلى ذلك الحدّ. قال ابن كثير:

«النبيّ أعظم منزلة وأجلّ قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حدّه، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم» (1).

وكذا أيضاً ملاحظة قوله تعالى: ( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ؛ إذ لا توجد رابطة إرثية قريبة تصحِّح هذا الإرث. ومن هنا، ذهب جلُّ مفسّري السنّة إلى أنَّ الموروث هنا هو النبوّة. قال الرازي في تفسيره، بذيل الآية الكريمة الآنفة:

واختلفوا في المراد بالميراث على وجوه، أحدها: إنَّ المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال، وهذا قول ابن عباس والحسن والضحّاك. وثانيها: إنَّ المراد به في الموضعين وراثة النبوّة، وهو قول أبي صالح. وثالثها: يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوّة، وهو قول السدي ومجاهد والشعبي، ورُوي أيضاً عن ابن عباس والحسن والضحّاك. ورابعها: يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوّة، وهو مرويّ عن مجاهد(2).

وكذا أيضاً ملاحظة قوله تعالى: ( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ، الّذي يشير للصفة المعنوية لذلك الوارث، ممّا يتلاءم أكثر مع الإرث غير المالي(3)


1- تفسير ابن كثير، ج٣، ص١١٧.
2- تفسير الرازي، ج٢١، ص١٨4؛ وانظر: جامع البيان، ابن جرير الطبري، ج١6، ص6٠؛ معاني القرآن، النحاس، ج4، ص٣١١؛ أحكام القرآن، الجصاص، ج٣، ص٢٨٢؛ تفسير السمرقندي، ج٢، ص٣6٨؛ تفسير الثعلبي، ج6، ص٢٠6؛ تفسير الواحدي، ج٢، ص6٧6؛ تفسير السمعاني، ج٣، ص٢٧٨؛ تفسير البغوي، ج٣، ص١٨٨؛ زاد المسير، ابن الجوزي، ج5، ص١46؛ تفسير العز بن عبد السلام، ج٢، ص٢6٩؛ تفسير ابن كثير، ج٣، ص١١٧. وغير ذلك من التفاسير.
3- انظر: جامع البيان، ابن جرير الطّبري، ج١6، ص6٢؛ تفسير السلمي، ج١، ص4٢١؛ تفسير الثعلبي، ج6، ص٢٠6؛ تفسير السمرقندي، ج٢، ص٣6٨؛ تفسير البغوي، ج٣، ص١٨٩؛ تفسير النسفي، ج٣، ص٣١؛ تفسير الآلوسي، ج١6، ص64. وغير ذلك من التفاسير.

ص:163

المناقشة

ويُجاب عن هذه القرينة بعدّة أمور، منها:

١ - إنَّ هذه القرينة غير صالحة لصرف الإرث عن حقيقته؛ لأنَّ سياق الآيات الكريمة الّتي حكت قصّة زكريّا (ع) ، ودعاءه في طلب الولد، يدلّ على الإرث المالي؛ فقد بيَّن الله تعالى هذه القصّة ببيان آخر في سورة آل عمران، حيث قال تعالى:

(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زكريّا كلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زكريّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زكريّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (آل عمران:٣٧و٣٨)

فزكريّا (ع) حينما شاهد تلك الحالة من مريم عليها السلام، رفع يديه بالدّعاء لطلب الولد، ( هُنَالِكَ دَعَا زكريّا) ، فلابدّ أن تكون هناك مناسبة بين دعاء زكريّا (ع) ، وبين ما شاهده من حالة مريم عليها السلام، فلم يشاهد أمامه نبيّاً أو عالماً، حتّى يهيج في نفسه ويدعو أن يرزقه الله تعالى ولداً مثله، وإنَّما شاهد أمامه العبادة والصلاح، فدعا ربّه تعالى أن يرزقه ولداً يحمل هذه الصفات؛ ليكون وريثاً له، بدلاً من مواليه وبني عمومته؛ لأنَّه عرف من ظاهر حالهم وخلائقهم وتصرّفاتهم أنَّهم سيعيثون في الأرض فساداً بما سيرثونه.

فمن جهةٍ شاهد زكريّا (ع) مريم العابدة الصالحة، ومن جهة أُخرى شاهد بني عمومته الفَسَقة. فهناك هاجت نفسه ورفع يديه بالدعاء، رجاء أن يرزقه الله تعالى الولد العابد الصالح؛ ليكون وريثاً له، بدلاً من بني عمومته.

والإرث الّذي خاف عليه زكريّا (ع) ، هو شيء قابل للانتقال، يصل بعد موته إلى بني عمومته، فسأل الله تعالى الولد حتّى يرثه، ويمنع من وصول ذلك الشيء لبني عمومته؛ ولذا جاء في دعائه (ع) أن يكون ذلك الولد مرضياً كمريم، لا كبني عمومته؛ لئلاّ ينتفي الغرض من دعائه.

٢- إنَّ ما ذكره علماء السنّة من الموروثات، كالنبوّة والعلم والحبورة والسيرة

ص:164

الحسنة والملك، لا يمكن أن تكون مصدراً لخشية زكريّا (ع) وإشفاقه؛ وذلك:

إمّا لأنَّها غير قابلة للانتقال، كالنبوّة والعلم، فلا يورَّثان؛ لأنَّ النبوّة أمرها بيد الله تعالى بشكل كامل، والعلم من الأمور الاكتسابية الّتي تحتاج إلى الطلب والجدِّ والاجتهاد، فلا معنى لأن يخشى زكريّا (ع) من أن يرث بنو عمومته الفَسَقة النبوّة أو العلم. وقد صرّح بعض علماء السنّة باستحالة كون الموروث هو النبوّة، فقد حكى القرطبي عن النحّاس قوله:

«فأمَّا قولهم: وراثة نبوّة، فمحال؛ لأنَّ النبوّة لاتورّث، ولو كانت تورَّث، لقال قائل: الناس ينتسبون إلى نوح (ع) ، وهو نبيّ مُرسل»(1)

وإمّا لأنَّ حال موالي زكريّا (ع) يمنع من انتقاله ووصوله إليهم، كالحبورة والسيرة الحسنة؛ لأنَّ الحبورة هي عبارة عن منصب ديني رفيع المستوى، يحتاج إلى مقدّمات كثيرة، من طلب العلم والتبتّل والانقطاع إلى الله تعالى، وملازمة المَعبد، ولا يحصل عليه كلّ أحد، لاسيّما إذا كانت سيرته شائنة، واشتهر بين الناس بالسلوك غير السويِّ. وكذا السيرة الحسنة، فلا ينالها المرء بالإرث إطلاقاً، وإنَّما هي ثمرة لإخلاص النية والعمل الصالح، لاسيّما وأنَّ موالي زكريّا (ع) لا يُرتَجى منهم صلاح السريرة وحسن السيرة، كما يظهر من خشية زكريّا (ع) ، وتضرّعه إلى الله تعالى بأن يرزقه الوليّ المرضيّ الصّالح بدلاً منهم. ومن هنا، فلا معنى لأن يخشى زكريّا (ع) من أن يرث هؤلاء هذا المنصب، أو يرثوا سيرته الحسنة.

فبقي أن يكون هذا الموروث متقوّماً بالمال، كالمُلْكِ، فإنَّه لا يمكن أن نتصوَّر ملكاً وسلطاناً ومقاماً دنيويّاً من دون مال وثروة وأملاك، فإذا كان زكريّا (ع) إنَّما خشي من الموالي أن يضعوا أيديهم على هذا الملك، فخشيته مبرَّرَة حينئذٍ.

٣ - إنَّ خوف زكريّا (ع) الناشئ من إرث المال، ووقوعه بيد غير صالحة وغير نزيهة، له مُسوِّغاتُه الّتي تنسجم وتتلاءم مع روح نبي الله زكريّا (ع) ؛ لأنَّه على اطّلاع تامّ بمدى تأثير المال وقدرته العجيبة على التغيير، فهو وسيلة مؤثّرة ومقنعة بشكلٍ كبير، قلّ مَن يَصْمُدُ أمامها، فبه تُشتَرَى الذِمم والنفوس،


1- تفسير القرطبي، ج١١، ص٨١.

ص:165

والأتباع والقوّة والسلطان و. . . بل لعلَّ أثره أعظم من الأثر المعنوي، فكم من صالح قد هجره للناس لقلَّة ذات اليد، وكم من ثريٍّ غنيٍّ يعجّ مجلسه بالأتباع والمريدين؛ ولذا لو وقع المال بأيدٍ منحرفة، فلا يُنتظَر منها إلاّ تسخيره في هدم القيم والمبادئ الصالحة، الّتي عمل الصالحون - كزكريّا (ع) - من أجل ترسيخها في المجتمع. ومن هنا كان خوفه (ع) ، وخشيته من وقوع هذه الوسيلة المؤثّرة بأيدٍ غير صالحة، مُبرَّراً وفي محلّه، ولا يتنافى مع نبوّته ومقاماته المعنويّة.

4- من الأمور الّتي تؤيِّد أنَّ سياق الآية الكريمة يتلاءم مع الإرث المالي دون غيره، هو تصريح بعض أعلام السنّة بأنَّه (ع) أراد إرث المال من قوله:

« يرثني

» .

قال مقاتل بن سليمان في تفسيره:

« يَرِثُنِي : يرث مالي، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ : ابن ماثان، علمهم ورياستهم في الأحبار»(1)

وقال ابن جرير الطبري في تفسيره:

وقوله: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ، يقول: يرثني من بعد وفاتي مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة، وذلك أنَّ زكريّا كان من ولد يعقوب، وبنحوِ الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل(2)

وقال السمرقندي في تفسيره: « ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ، وقال عكرمة: يَرِثُنِي : مالي. ( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) وهكذا قال الضحّاك» (3)

وقال الثعلبي في تفسيره:

«قال الحسن: معناه يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة والحبورة»(4)

وقال ابن الجوزي في تفسيره:

« وفي المراد بهذا الميراث أربعة أقوال: أحدها: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة. رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال أبوصالح. . .»(5)


1- تفسير مقاتل بن سليمان، ج٢، ص٣٠٧.
2- جامع البيان، ابن جرير الطبري، ج١6، ص6٠.
3- تفسير السمرقندي، ج٢، ص٣6٨.
4- تفسير الثعلبي، ج6، ص ٢٠6.
5- زاد المسير، ابن الجوزي، ج5، ص١46.

ص:166

وقال السلمي في تفسيره:

يَرِثُنِي : مالي، (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) النبوّة، أو يرثهما العلم والنبوّة، أو منه النبوّة ومن آل يعقوب الأخلاق، أو يرث منّي العلم ومن آل يعقوب الملك(1)

وقال الآلوسي في تفسيره:

«قد ذكر الجلال السيوطي في الدُر المنثور عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبي صالح، أنَّهم قالوا في الآية: يرثني مالي»(2)

وقال الرازي في تفسيره:

والأولى أن يُحمَل ذلك على كلِّ ما فيه نفع وصلاح في الدِّين، وذلك يتناول النبوّة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدِّين والمال الصالح، فإنَّ كلّ هذه الأمور ممَّا يجوز توفّر الدواعي على بقائها، ليكون ذلك النفع دائماً مستمرّاً (3)

وهؤلاء الأعلام من الطبقة الأُولى من مفسّري السنّة، ولا يخفى عنهم السياق الّذي ذُكر كقرينة على إرادة غير المال.

القرينة الثانية: لزوم اللغوية

إنَّ القول بكون المراد من الإرث هو المالي، يستلزم اللغويّة في القرآن الكريم، وحاشاه عن ذلك؛ إذ لا فائدة من الإخبار عنه حينئذ، فمن الواضح أنَّ الولد يرث والده، فلابدّ أن يُراد به إرث خاصّ غير الإرث المالي، حتّى يصحّ الإخبار عنه. قال الآلوسي:

أيّ فائدة في وصف هذا الوليّ، عند طلبه من الله تعالى بأنَّه يرث أباه، ويرث بعض ذوي قرابته، والابن وارث الأب، ومَن يقرب منه في جميع الشرائع؟ !(4)


1- تفسير العز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الشافعي، ج٢، ص٢6٩.
2- تفسير الآلوسي، ج١6، ص64.
3- تفسير الرازي، ج٢١، ص١٨4.
4- المصدر نفسه، ج4، ص٢١٩.

ص:167

المناقشة

إنَّ قرينة (لزوم اللّغْوِيَّة) من أضعف القرائن الّتي تُذكر في المورد لصرف الإرث عن الإرث المالي؛ لأنَّه يمكن الخروج عن اللغويّة وصيانة كلام الحكيم عنها، بإبراز أقلّ الوجوه، وإلّا لورد الإشكال على كثير من الآيات الكريمة، كقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا (النحل: ٨) ؛ إذ قد يقال: إنَّه لا فائدة من التعليل حينئذ؛ لوضوحه، فمن المعلوم أنَّ هذه الحيوانات تُستعمَل في ذلك، فلابدَّ في رفع الإشكال أن يُقال - مثلاً - بأنَّ المقصود من لِتَرْكَبُوهَا معنى آخر غير المعنى الّذي يفهم منه.

ومن هنا ذكر مفسّرو السنّة أنَّ الوجه وراء هذا التعليل المذكور في آية الخيل والبغال، هو التنبيه على الفرق بين الحيوانات، وأنَّ بعضها يُؤكَل وبعضها يُركَب(1)، فهذا الوجه يكفي في توجيه استعمال ( لِتَرْكَبُوهَا) في الآية الكريمة بمعناها الحقيقي، وإخراج الكلام عن اللغويّة.

ويمكن أن يقال: إنَّ الوجه في مسألة زكريّا (ع) ، هو أنَّه بعد أن ذكر خوفه من الموالي، بيَّن المقصود الأصلي والحاجة الضروريّة لهذا الوليّ الصالح، وهو أن يكون الوارث لِما تحت يده من المال، دون سائر الأمور الأُخرى، من المساعدة والإعانة وما شاكل، فزكريّا (ع) كان بحاجة لهذا الولي لِيرثه، لا ليساعده أو يعينه على أمور دنياه في أواخر عمره الشريف.

وهذا الوجه يكفي لإخراج الإخبار بالإرث عن اللغويّة المزعومة، وهو ليس بأقلّ من الوجه المذكور لإخراج التعليل ب- لِتَرْكَبُوهَا عن ما قد يُدَّعى من اللغويّة في الآية المتقدِّمة.

القرينة الثالثة: النصوص التاريخية

إنَّ زكريّا (ع) لم تكن له أموال حتّى يحتاج إلى وارث يرثها من بعده، فإنَّ كتب التاريخ الّتي تعرّضت لحال زكريّا (ع) ، أشارت إلى أنَّه كان فقيراً يمتهِن النجارة.


1- انظر: جامع البيان، ج١4، صص١١٠ و ١١١؛ معاني القرآن، النحاس، ج4، ص56؛ أحكام القرآن، الجصاص، ج٣، ص٢٣٨؛ تفسير السمرقندي، ج٢، صص٢66 و ٢6٧؛ تفسير الثعلبي، ج6، ص٨؛ تفسير الرازي، ج١٩، ص٢٢٩؛ تفسير القرطبي، ج١٠، ص٧6؛ تفسير ابن كثير، ج٢، ص5٨٣.

ص:168

قال ابن الجوزي في تقرير هذه القرينة:

«إنَّه لم يكن ذا مال، وقد روى أبو هريرة عن رسول الله (ص) أنَّ زكريّا كان نجّاراً»(1) ، وقال ابن كثير:

«لم يُذكَر أنَّه [ زكريّا ] كان ذا مال، بل كان نجّاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً، ولا سيما الأنبياء؛ فإنَّهم كانوا أزهد شيء في الدّنيا»(2).

المناقشة

اشاره

إنَّ دعوى كون زكريّا (ع) لم تكن له أموال رجم بالغيب، وما ذكر من الشواهد لاتعدو كونها أخبار آحاد، لا تكفي لصرف الآية الكريمة عن ظهورها، ويعارضها أمران أساسيّان ثابتان بالنصّ القطعي، يشهدان على أنَّ زكريّا (ع) كانت بيده مصادر ماليّة أساسيّة كبيرة، وهذان الأمران هما:

١- كونه رئيس الأحبار

إنَّ المتَّفق عليه بين المفسِّرين والمؤرِّخين، هو أنَّ زكريّا (ع) كان

«رأس الأحبار»(3). ومن المعلوم أنَّ الحبورة كانت مؤسَّسة دينيّة، وجهازاً يضمّ تحت مظلّته أعداداً كبيرة من رجال الدِّين وخدمة المعابد، وكان لها سلطات واسعة وموارد ماليّة كبيرة لتسيير أمورها، تحصل عليها إمّا من الحكومات القائمة آنذاك، أو من الهدايا والنذورات والقرابين. بل قد يُقال: إنَّ لها مصادر ماليّة مستقلّة وثابتة، من قبيل الأراضي الزراعية والثروة الحيوانيّة. فإذن، كانت تحت يديه (ع) أموال عامّة، خشي أن تقع بيد بني عمومته من بعده.

٢-ارتباطه بأُسرة سليمان بن داود (ع) ، المعروفة بالثراء والملك

إنَّ الّذي عليه أكثر مفسِّري السنّة هو أنَّ زوجة زكريّا (ع) كانت أخت مريم

بنت عمران عليها السلام، وكانت من ولدِ سليمان بن داود وكان نسبها يتّصل بيعقوب بن


1- زاد المسير، ج5، ص١4٧.
2- تفسير ابن كثير، ج٣، ص١١٧.
3- تفسير الثعلبي، ج٣، ص5٧؛ تفسير البغوي، ج٣، ص١٨٩؛ تفسير الرّازي، ج٢١، ص١٨5.

ص:169

إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. قال الرازي:

اتَّفق أكثر المفسّرين على أنَّ يعقوب - ههنا - هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم: ؛ لأنَّ زوجة زكريّا هي أخت مريم، وكانت من ولدِ سليمان بن داود، من ولدِ يهوذا بن يعقوب(1).

فالمراد من آلِ يَعْقُوبَ) في الآية الكريمة ليس شخص يعقوب (ع) ، ولا جميع آل يعقوب، وإنَّما بعضهم، كما هو واضح، وهي زوجة زكريّا (ع) . وعليه، فيكون معنى قوله تعالى: ( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ، هو: يرثني ويرث امرأتي، وهي بعض آل يعقوب.

ومن الواضح أنَّ أُسرة سليمان بن داود أُسرة عريقة، معروفة بالثراء والمُلك، فلا شكّ في عظمة مُلك سليمان وثروته، كما حكاها القرآن الكريم، كما لا شكّ في أنَّ مثل هذه الثروة العظيمة لا تفنى إلى قرون مديدة، بل إنَّها ربَّما تتوسّع بمرور الأيّام، فيما لو وقعت بأيدٍ صالحة كورثة سليمان (ع) .

ولا منافاة في ذلك مع النبوّة؛ إذ إنَّ أصل الثروة والمُلك كان ثابتاً لنبيّ الله سليمان (ع) بنصّ القرآن الكريم، بل إنَّه (ع) دعا الله تعالى ليرزقه ذلك، وقد استجاب عزّوجلّ له دعاءه، كما حُكي ذلك في قوله تعالى:

(قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كلّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (ص: ٣5 - ٣٩)

ولا شكّ في أنَّ ورثة سليمان (ع) قد استعملوا هذه الثروة في أعمال البرِّ والصلاح، كما هو ديدن أولاد الأنبياء عليهم السلام وأحفادهم، وليس هناك دليل على انحرافهم وفسقهم، وكما يُقال: عدم الدليل دليل على العدم. بل هناك احتمال أنَّه من الممكن أنَّهم قاموا بتطويرها وتوسعتها على مرِّ الأيام، حتّى وصل الأمر

إلى أحد أحفادهم الصالحين، وهي زوجة زكريّا (ع) .


1- تفسير الرازي، ج٢١، ص١٨4.

ص:170

والحاصل: إنَّ زكريّا (ع) كان له مصدران أساسيان للمال والثروة والملك، وهما: الحبورة، باعتباره رئيس الأحبار، وزوجته، باعتبارها من أُسرة سليمان بن داود، كما لايبعد أن يقال: إنَّ قوله تعالى: ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ، بحدِّ ذاته قرينة على وجود أموال تحت يد زكريّا (ع) ، بل يمكن القول إنَّها أموال طائلة، كانت ستغيّر كثيراً من الأمور فيما لو وقعت بأيدٍ غير مناسبة.

قرائن آية: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ

اشاره

ذكر علماء السنّة عدّة قرائن لإرادة غير المال من الإرث في قوله تعالى:

(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الّذي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النّاس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كلّ شَيْءٍ إنّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل:١5و١6)

القرينة الأولى: سياق الآية الكريمة

فالآية مسبوقة وملحوقة بقرائن متّصلة، تدلّ على أنَّ المراد بالإرث غير الإرث المالي، وخصوصاً مع ملاحظة تقدُّم قوله تعالى: عِلْماً على قوله تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) ، وتأخّر قوله: ( عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ) عنه، فإنّه يتناسب مع النبوّة والعلم؛ إذ الآية الكريمة تنصّ على أنَّه تعالى قد آتى داود علماً خاصّاً، ثُمَّ أخبر أنَّ سليمان قد ورث داود، ثُمَّ قال عزّ وجلّ، على لسان سليمان: إنَّهم علِّموا منطق الطير. وبضمِّ هذه القرائن المتّصلة بعضها إلى البعض، يُصبح المعنى واضحاً، وهو: أنَّ الله تعالى قد آتى داود علماً خاصّاً، وأنّ سليمان قد ورثه منه. قال الرازي في تفسيره:

إنَّه تعالى لو فصل، فقال: (وورث سليمان داود ماله) ، لم يكن لقوله: ( قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ)

معنى، وإذا قلنا: (وورث مقامه من النبوّة والملك) ، حسن ذلك؛ لأنَّ تعليم منطق الطير يكون داخلاً في جملة

ما ورثه. . . (1)


1- تفسير الرازي، ج٢4، ص١٨6.

ص:171

المناقشة

تقدَّم - مفصَّلاً - أنَّ الإرث لا يتحقّق على سبيل الحقيقة إلاّ في المال، ويستعمل تجوّزاً وتوسّعاً في النبوّة والعلم وغيرهما، ولا يُصار إلى المعنى المجازيّ إلاّ في صورة وجود مانع يمنع من الحمل على الحقيقة، وهو مفقود في المورد؛ إذ لاضير من حمل التوريث في الآية الكريمة على المال، وأنَّه ورث ذلك من داود، مضافاً إلى العلم والملك، خصوصاً مع ملاحظة ذيل الآية الكريمة، أعني قوله تعالى: وَأُوتِينَا مِن كلّ شَيْءٍ ، فإنَّه صريح الدلالة على أنَّ الله تعالى قد آتى سليمان (ع) كلّ شيء، من المال والملك، والسلطان والعلم والنبوّة.

هذا مضافاً إلى أنَّ سليمان (ع) كان نبيّاً عالماً في زمان داود (ع) ، بل كان أكثر علماً منه، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكلّاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) (الانبياء: ٧٨ و ٧٩) . فالآية صريحة الدلالة على أنَّ سليمان (ع) كان نبيّاً في زمان أبيه داود (ع) ، وأنَّ الله تعالى قد فهَّمه علماً لم يُفَهِّمْه لداود (ع) .

بل هذه الآية، والآيات الّتي بعدها، تدلّ دلالةً صريحة على أنَّ الله تعالى قد آتى داود وسليمان العلم والحكم. قال تعالى:

(فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْن وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الّتي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) (الانبياء: ٧٨ - ٨٢)

فقد صرَّحت الآية الكريمة بأنَّ الله تعالى قد وهبهما العلم والحكم، وأنَّ هناك علماً مشتركاً بينهما، وهو منطق الطير، كما دلّ عليه قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النّاس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ) (النمل: ١6) .

كما أنَّ هناك خصوصيّات لكلّ واحد منهما، حيث اختُصّ داود (ع) بتسخير الجبال للتسبيح معه، وتليين الحديد له، فكان يصنع الدروع والسيوف وآلات

ص:172

الحرب، بينما اختُصَّ سليمان (ع) بجري الريح العاصفة بأمره، وتسخير الشياطين له.

والأمر المشترك بين هذه الأمور هو أنَّها أمور خاصّة، يهبها الله تعالى بفضله وكرمه لبعض خلقه من الأنبياء عليهم السلام.

وأيضاً ظاهر قوله تعالى: ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) (الأنبياء: ٧٩) هو أنَّ الله تعالى قد وهب سليمان (ع) علماً خاصّاً لم يهبه لأحد قبله، حتّى داود (ع) ، وأنَّه قد فضَّله الله تعالى بمزية الفَهم. قال القرطبي، حكاية عن جماعة:

«حملوا قوله: ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)

على أنَّه فضيلة له على داود، وفضيلته راجعة إلى داود، والوالد تسرّه زيادة ولده عليه»(1)

هذا كلّه مضافاً إلى أنَّ العلم من الأمور الاكتسابيّة، الّتي لا تحصل إلاّ بالجدِّ والطلب، ولو فرضنا أنَّه يقبل الانتقال بنوع من العناية، فإنَّه إنَّما يصحّ في هذا العلم الفكري الاكتسابي، والحال أنَّ العلم الّذي يختصّ به الأنبياء والرُسل عليهم السلام هو كرامة وهِبة من الله لهم عليهم السلام، وليس ممَّا يُكتسَب بالفكر، فالنبيّ لا يرث علمه من نبيٍّ آخر، ولا من غير نبي.

ولعلّه، لهذه الوجوه، حمل جلُّ مفسِّري السنّة (الموروث) في الآية الكريمة على النبوّة أو الملك، دون العلم؛ إذ لا معنى لوراثته العلم كما مرَّ آنفاً، مع دلالت ظاهر الآية المتقدمة على أنَّه كان أعلم من والده, كما تقدَّم.

قال السمرقندي في تفسيره:

«قال عزَّوجل: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)

، يعني: ورث ملكه»(2)

وقال النسفي في تفسيره:

« ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)

، ورث من النبوّة والملك»(3)

وقال الرازي في تفسيره:

« ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)

، وهذا يحتمل وراثة الملك، ووراثة النبوّة» (4)


1- تفسير القرطبي، ج١١، ص٣٠٨.
2- تفسير السمرقندي، ج٢، ص5٧5.
3- تفسير النسفي، ج٣، ص٢٠6.
4- تفسير الرازي، ج٢١، ص١٨4.

ص:173

وقال القرطبي في تفسيره:

«وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوّة»(1).

وقال ابن كثير في تفسيره:

« ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)

، أي: في النبوّة»(2).

وقال الآلوسي:

« ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)

، أي: قام مقامه في النبوّة والملك»(3).

فَبِما أنَّه لا يمكن أن يكون العلم هو الشيء الموروث - وقد تقدّم الكلام أيضاً في عدم إمكان حمل الموروث على النبوّة، كما حكى ذلك القرطبي عن النحاس (4)، مضافاً إلى أنَّ سليمان (ع) كان نبيّاً في زمان والده داود (ع) - فلا معنى لأن يكون الشيء الموروث هو النبوّة، وتقدَّم الكلام أيضاً في أنَّ قِوام الملك بالمال؛ فتعيَّن أن يكون المراد من الموروث هو المال لا غير، وسياق الآية الكريمة لا يمنع من حمل الإرث على المال.

ويؤيِّد ذلك أنَّ بعض مفسِّري السنّة ذهب إلى أنَّ المراد من قوله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْه بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ، هي عبارة عن خيل ورثها سليمان (ع) من أبيه داود (ع) ، فقد نسب الغرناطي (5)ذلك إلى الجمهور، قال:

واختلف الناس في قصص هذه الآية، فقال الجمهور: إنَّ سليمان (ع) عرضت عليه خيل كان ورثها عن أبيه. . . فتشاغل بالنظر إليها حتّى غربت


1- تفسير القرطبي، ج١٣، ص١64.
2- تفسير ابن كثير، ج٣، ص١١٧؛ ج4، ص٣6.
3- تفسير الآلوسي، ج١٩، ص١٧٠.
4- انظر: تفسير القرطبي، ج١١، ص٨١.
5- ابن جزى الغرناطي، محمّد بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن جزى الكلبي، أبو القاسم الغرناطي الأندلسي المالكي، من شيوخ لسان الدين ابن الخطيب، وُلد سنة 6٩٣ه، وتوفّي في أوائل ربيع الأول من سنة ٧5٨ ثمان وخمسين وسبعمائة. من مصنّفاته أصول القراء الستّة غير نافع، والأنوار السنية في الكلمات السنّية، والتسهيل لعلوم التنزيل في التفسير، وتقريب الوصول إلى علم الأصول، والدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الاختبار، والفوائد العامّة في لحن العامّة، والفهرسة تشتمل على جملة كثيرة من علماء المشرق والمغرب ، والقوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية، والمختصر البارع في قراءة نافع، والنور المبين في قواعد عقائد الدين، ووسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم، وغير ذلك. . وقد أملى ابن بطوطة أخبار رحلته على محمّد بن جزي الكلبي بمدينة فاس سنة ٧56ه.

ص:174

الشمس، وفاتته صلاة العشى العصر(1)فأسف لذلك وقال:

«ردُّوا عليَّ الخيل» ، وطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف حتّى عقرها؛ لمّا كانت سبب فوات الصلاة(2).

وحكى ذلك العيني في «عُمدة القاري»(3)، والثعلبي والبغوي في تفسيريهما(4)عن مقاتل، قال:

«ورث سليمان عن أبيه داود ألف فرس. . .» (5).

القرينة الثانية: تخصيص سليمان (ع) بالذكر

إنَّ تخصيص سليمان بالذكر، يدلّ على أنَّه ورث من داود إرثاً خاصّاً غير المال، وإلاّ فلا وجه لهذا التخصيص؛ إذ إنَّ داود كان له أولاد آخرون غير سليمان. قال ابن كثير في ذيل الآية الكريمة:

«وليس المراد وراثة المال؛ إذ لو كان كذلك، لم يخصّ سليمان وحده من بين سائر أولاد داود، فإنَّه قد كان لدواد مائة امرأة»(6).

المناقشة

إنَّ ما ورد من أخبار وأقوال في أنَّ لداود (ع) أولاداً، لا تعدو كونها أخبار آحاد، لاتكفي لمنع ظهور الآية الكريمة في ميراث المال، خصوصاً وأنَّها من آيات

الأحكام، فقد ذُكرت تلك الأخبار مُرسلة في كتب التاريخ والتفسير(7)، ولم نقف على مصدر مُسنَد لها.

ولم يرد من طرق الشيعة إلاّ رواية واحدة، رواها الشيخ الكليني في كتابه


1- كذا في الأصل.
2- التّسهيل لعلوم التّنزيل، الغرناطي الكلبي، ج٣، ص١٨4.
3- عمدة القاري، ج١6، ص١٣.
4- تفسير الثّعلبي، ج٨، ص١٩٩؛ تفسير البغوي، ج4، ص6٠.
5- عمدة القاري، ج١6، ص١٣؛ تفسير الثّعلبي، ج٨، ص١٩٩؛ تفسير البغوي، ج4، ص6٠.
6- تفسير ابن كثير، ج٣، ص٣٧٠.
7- انظر: تاريخ اليعقوبي، ج١، ص5١؛ الكامل في التاريخ، ج١، ص٢٢٨؛ معاني القرآن، الجصاص، ج5، ص١٢٠؛ تفسير ابن زمنين، ج٣، ص٢٩6؛ تفسير الثعلبي، ج٧، ص١٩٣؛ تفسير السمعاني، ج4، ص٨١؛ تفسير البغوي، ج٣، ص4٠٨. وغيرهم كثير.

ص:175

الكافي، بسنده عن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) ، في رواية طويلة قال:

«وكان لداود (ع) أولاد عدّة» (1) ، وقد وقع في سندها بكر بن صالح، ومعلّى بن محمّد، وعيثم بن أسلم.

فأمّا بكر بن صالح، فقد ضعّفه النجاشي في رجاله، قال:

«ضعيف» ٢ ، وقال عنه ابن الغضائري:

«ضعيف جدّاً»(2).

وأمّا معلّى بن محمّد، فقد قال عنه النجاشي في رجاله:

«مضطرب الحديث والمذهَب» (3) ، وكذا العلاّمة الحلّي في «خلاصة الأقوال»(4)، والتفرشي في «نقد الرجال» (5)، وقال عنه ابن داود:

«يعرف حديثه وينكر، ويروي عن الضعفاء» (6) ، وحكي عن ابن الغضائري أنَّه قال:

«المعلى بن محمّد البصري، أبو محمّد، يعرف حديثه وينكر، يروي عن الضعفاء، ويجوز أن يخرج شاهداً»(7)

وأمّا عيثم بن أسلم، فهو مجهول؛ إذ لم يرد فيه توثيق في كتب الرجال(8).

مضافاً إلى أنَّ الباري تعالى أخبر في قوله عزَّ وجلَّ: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ، أنَّه من جملة نعمه على داود (ع) ، أنَّه وهب له ولداً هو سليمان (ع) ، وظاهر ذلك

أنَّه لم يكن له ولد سواه.

وعلى فرض وجود أولاد لداود (ع) ، فالوجه في تخصيص سليمان (ع) بالذكر، هو وجود الخصوصية الّتي ميَّزت إرثه المالي عن إرث سائر إخوته، وهي أنَّه ورث -مضافاً للمال - ملك داود (ع) وسلطانه دونهم، وتقدَّم أنَّ قوام الملك والسلطان بالمال.


1- الكافي، ج١، ص٢٧٨.
2- رجال ابن الغضائري، ص44.
3- رجال النجاشي، ص4١٨.
4- خلاصة الأقوال، العلامة الحلي، ص4٠٩.
5- نقد الرجال، التفرشي، ج4، ص٣٩٨.
6- رجال ابن داود، ص٢٧٩.
7- خلاصة الأقوال، ص4٠٩.
8- مستدركات علم رجال الحديث، علي النمازي الشاهرودي، ج6، ص١4٩.

ص:176

وأجاب العلاّمة التُستري عن القرينة المذكورة بجواب آخر، حيث قال:

«لو أراد باختصاص سليمان بالإرث الاختصاص الذِّكْرِي، فهو لا ينفي إرث غيره من إخوته، وإن أراد به الاختصاص الحصري، فالآية خالية عنه»(1).

القرينة الثالثة: لزوم اللغوية

وهي عين القرينة المذكورة في الآية السابقة من لزوم اللّغْوِيّة في الكتاب الكريم. قال ابن كثير في بيان قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ

:

أي: في النبوّة؛ إذ لو كان في المال. . . لما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة؛ إذ من المعلوم المستقرّ في جميع الشرائع والمِلل أنَّ الولد يرث أباه، فلولا أنَّها وراثة خاصَّة، لما أخبر بها (2).

وقال الآلوسي:

توصيف سليمان (ع) بتلك الوراثة، ممَّا لا يوجب كمالاً ولا يستدعي امتيازاً؛ لأنَّ البرّ والفاجر يرث أباه، فأيُّ داعٍ لذكر هذه الوراثة العامّة في بيان فضائل هذا النبيّ ومناقبه (ع) ؟ ! (3).

المناقشة

إنَّ الوجوه الّتي ذكرها جمهور علماء السنّة لتفسير الشيء الموروث في الآية الكريمة، هي النبوّة والعلم والملك، وغير ذلك من الوجوه الّتي مرَّ ذكرها

والجواب عنها، وقد اختار ابن كثير من هذه الوجوه النبوّة، حيث قال:

« وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ، أي: في النبوّة»(4) ، واختار الآلوسي منها النبوّة والعلم، حيث قال:

«وما زعموه من دلالة الآيتين اللّتين ذكروهما على كذب الخبر، في غاية الوهن؛ لأنَّ الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوّة» (5).


1- الصوارم المهرقة، نور الله التستري، ص١66.
2- تفسير ابن كثير، ج٣، ص4٧6.
3- تفسير الآلوسي، ج4، صص٢١٨ و ٢١٩.
4- تفسير ابن كثير، ج٣، ص١١٧؛ ج4، ص٣6.
5- تفسير الآلوسي، ج4، ص٢١٨.

ص:177

وقد تقدّم أنَّ أوهن الوجوه هو حمل الموروث على النبوّة أو العلم؛ لأنَّهما غير قابلين للانتقال، فلا يورَّثان؛ بل النبوّة أمرها بيد الله تعالى بشكل كامل. قال تعالى: وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (القصص: 6٨) ، فلا تُنال بالإرث. والعلم من الأمور الاكتسابيّة، الّتي تحتاج إلى الطلب والجدِّ والاجتهاد، فلا معنى لأن يخشى زكريّا (ع) من الموالي أن يرثوهما.

وقد صرّح بعض علماء السنَّة باستحالة كون الموروث هو النبوّة، حيث حكى القرطبي عن النحّاس قوله:

«فأمَّا قولهم وراثة نبوّة، فمحال؛ لأنَّ النبوّة لاتورَّث، ولو كانت تورَّث، لقال قائل: الناس ينتسبون إلى نوح (ع) ، وهو نبيّ مُرسَل»(1).

وبقيّة الوجوه أوهن من ذينك الوجهين كما تقدّم.

وبعد إبطال كلّ ما قيل من الوجوه في الآية الكريمة، بالدليل الواضح، يبقى القول بأنَّ المراد من الموروث هو المال أقرب الوجوه المتصوّرة، ولا يمكن دفعه بإبداء بعض الاستبعادات الضعيفة، من قبيل ما ذكره ابن كثير والآلوسي في المقام؛ إذ مضافاً إلى أنَّ أقلّ الوجوه يكفي في خروج الكلام عن اللّغويّة، يمكن أن يُذكَر في الباب وجهٌ معقولٌ آخر لتوجيه تخصيص سليمان (ع) بالذكر من دون سائر إخوته - على فرض أنَّ له إخوة - وهو أن يقال:

إنَّ خصوصية إرث سليمان (ع) من داود (ع) هو عدم اقتصاره على المال فقط، وإنَّما ورث ملكه وسلطانه دون سائر إخوته، وبيَّنا سابقاً أنَّ الملك والسلطان

متقوِّمان بالمال.

وحاصل الكلام: إنَّه يتَّضح من خلال ما تقدَّم، أنَ ّ أيّاً من تلك القرائن المذكورة في الآيتين الكريمتين المتقدِّمتين، لا يكفي لرفع اليد عن المدلول الحقيقي أو المتيقّن من الإرث، وهو المال، فلم تبقَ قرينة صالحة في المقام لصرف الإرث عن مدلوله الحقيقي، أو تعيين أحد المعاني الأُخرى له، إلاّ حديث أبي بكر، كما صرَّح بذلك جماعة من علماء السنّة، من أنَّ الداعي لتأويل تلك الآيات الكريمة


1- تفسير القرطبي، ج١١، ص٨١.

ص:178

وحملها على غير الإرث المالي، هو دلالة الحديث الصحيح - حسب دعواهم - على أنَّ الأنبياء عليهم السلام لا يورِّثون.

قال القرطبي، بعد أن حكى الأقوال في المراد من الإرث:

وعليه، فلم يَسَلْ مَن يرث ماله؛ لأنَّ الأنبياء لا تورِّث، وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنَّه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوّة، لا وراثة المال؛ لِما ثبت عن النبيّ (ص) أنَّه قال: " إنّا معشر الأنبياء لا نورِّث، ما تركنا صدقة". وفي كتاب أبي داود: «إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، إنَّما ورّثوا العلم"»(1).

وقال أيضاً:

وإنّ سليمان لم يرث من داود مالاً خلفه داود بعده، وإنَّما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب. وهكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن، ما عدا الروافض، وإلاّ ما رُوي عن الحسن. . . وكلّ قول يخالف قول النبيّ (ص) فهو مدفوع مهجور (2).

وقال الغرناطي: « فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ، يعني: وارثاً يرثني. قيل: يعني وراثة المال، وقيل: وراثة العلم والنبوّة، وهو أرجح؛ لقوله (ص) : " نحن معاشر الأنبياء لانورِّث"»(3).

وقال أبو السعود:

قوله تعالى: يرثني

صفة لوليّاً. . . أي: يرثني من حيث العلم والدين والنبوّة؛ فإنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام لا يورِّثون المال، قال (ص) : "نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث، ما تركنا صدقة" (4).

وقال الشوكاني:


1- تفسير القرطبي، ج١١، ص٧٨.
2- المصدر نفسه، ص٧٨.
3- التسهيل لعلوم التنزيل، الغرناطي الكلبي، ج٣، ص٢.
4- تفسير أبي السعود، ج5، صص٢54 و ٢55.

ص:179

فليس المراد هنا وراثة المال، بل المراد وراثة العلم والنبوّة والقيام بأمر الدين، وقد ثبت عن نبيّنا (ص) أنَّه قال: "نحن معاشر الأنبياء لانورِّث، ما تركناه صدقة"(1).

وقال الآلوسي، بعد أن ذكر الأقوال في المسألة:

«ومذهب السنّة أنَّ الأنبياء عليهم السلام لايرثون مالاً ولا يورِّثون؛ لِما صحَّ عندهم من الأخبار» (2).

إذن، فالداعي الّذي جعل علماء السنَّة يميلون إلى تأويل الآية الكريمة، وحمل لفظة الميراث على المعنى المجازي لها، هو حديث أبي بكر لا غير، ولكنَّ هذا الحديث هو أصل كلامنا، مضافاً إلى أنَّه لو كانت هذه القرينة «حديث أبي بكر» ناظرة لتلك الآيات الخاصّة، لكان الأنسب أن تأتي في ذيل تلك الآيات، أو أثناء حياة النبيّ (ص) على أقلّ تقدير، ولم يذكر أحد من علماء التفسير والتاريخ والحديث أنَّ الرسول (ص) قال ذلك الحديث بعد نزول آية من آيات الإرث، الخاصّة أو العامّة، وقد كان المقام يُناسب ذلك. بمعنى أنَّه كان ينبغي للرسول (ص) عند نزول أحد تلك الآيات الكريمة، المتعلّقة بالإرث، أن يبيّنها (ص) بكلّ تفاصيلها -لاسيّما لأهل بيته عليهم السلام وأصحابه - ويشرح لهم المقصود منها، ويوضّح لهم أحكام الإرث بكلِّ فروعه، عملاً بمقتضى قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (النحل: 44) .

لكن بدل ذلك، نجد أبا بكر يفاجئ أهل بيت النبيّ (ص) بذلك الحديث، بعد

رحيل الرسول (ص) ، ويرفض الاستماع إلى أهل البيت عليهم السلام، عدل القرآن الكريم، بالرغم من محاولاتهم الحثيثة لثنيه عن رأيه، وكأنَّ الرسول (ص) قد أوصى به في حديث الثقلين لتجنّب الضلال! وهذا من الأمور الغريبة الّتي تشككّ في أصل صدوره!

أضف إلى ذلك - أيضاً - أنَّ الحديث لم يَروِه زمان أبي بكر أحد غيره، وإنَّما رواه البعض في زمان عمر، وهذا يقوِّي في النفس أنَّ رواية هؤلاء كانت وفق


1- فتح القدير، ج٣، ص٣٢٢.
2- تفسير الآلوسي، ج١6، ص64.

ص:180

قاعدة حسن الظن بالصحابة، وأنَّهم لم يسمعوه من رسول الله (ص) ، بل اعتمدوا في روايتهم على قول أبي بكر من أنَّه سمعه من الرسول (ص) .

تنبيه

يمكن أن يقال - مع ملاحظة القرائن المذكورة سابقاً، وما ذُكر في جوابها من وجوه قوية - إنَّه لا مانع من إرادة الميراث المادّي والمعنوي معاً، وأن يكون المقصود هو أنّ هذا الوارث هو مَن يتبوّأ مكان أبيه، ويحصل على كلّ ما له من حقّ مادّي ومعنوي، فيكون الامتداد له في كلا الأمرين، ومن هنا نعتقد أنَّ الذين حملوها على معنى دون معنى، قد لَحظُوا جنبة خاصّة منها.

وهذا الرأي قد يظهر من بعض كلمات أعلام السنّة، كالفخر الرازي في تفسيره. قال:

الأولى أن يُحمل ذلك على كلّ ما فيه نفع وصلاح في الدين، وذلك يتناول النبوّة والعلم، والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين، والمال الصالح، فإنَّ كلّ هذه الأمور ممَّا يجوز توفّر الدواعي على بقائها، ليكون ذلك النفع دائماً مستمرّاً(1)

آياتُ الإرث العامّة

ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات الكريمة الّتي تناولت مسألة الإرث

وأحكامه، بشكل مطلق وعامّ، دون أن تستثني أحداً، حتّى الأنبياء والرُسل عليهم السلام، كقوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (النساء: ١١) ، وقوله تعالى: أُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إنّ اللَّهَ بِكلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (الأنفال: ٧5) .

ولا يوجد مخصِّص قرآني لهذه الآيات الكريمة باتّفاق المسلمين، وقد توفّي رسول الله (ص) والمسلمون لا يعرفون مخصِّصاً لهذه الآية الكريمة، بما فيهم بيت النبوّة عليهم السلام.


1- تفسير الرازي، ج٢١، ص١٨4.

ص:181

ولكنَّ هذا المخصّص أطلَّ عليهم على لسان أبي بكر، من دون سابق إنذار، بعد مطالبة الزهراء عليها السلام له بإرث والدها الرسول (ص) ، مُدَّعياً أنَّه سمع الحديث من النبيّ (ص) ، ففتح ذلك الباب أمام علماء السنّة لتخصيص تلك الآيات الكريمة بهذا الحديث.

ومن الواضح لدى علماء المسلمين أنَّ المخصّص إنَّما يكون صالحاً للتخصيص، بعد الفراغ من حجّيته على مستوى الصدور والدلالة، والخبر المذكور فاقد لكلا الأمرين، أمَّا الصدور، فنحن بصدد ذكر القرائن والشواهد الّتي تخدش بصدوره، وأمَّا الدلالة، فقد نُوقش في قوله:

«ما تركنا صدقة» (1) ؛ إذ يُحتمل أن تكون «ما» موصولة، بمعنى: «الّذي» ، وقد قرّر هذا الوجه الرازي في تفسيره، قال:

«يُحتمل أنَّ قوله: «ما تركناه صدقة» ، صِلة لقوله: «لا نورِّث» ، والتّقدير: إنَّ الشّيء الّذي تركناه صدقة، فذلك الشيء لا يورَّث»(2).

وقد يُشكَل على هذا المعنى بأنَّه لا تبقى خصوصية للأنبياء عليهم السلام حينئذ؛ لأنَّ جميع الناس إذا تركوا شيئاً صدقة فلا يتعلّق به الإرث.

والجواب عن ذلك: إنَّ الخصوصية هي احتمال افتراق صدقة الأنبياء عليهم السلام عن سائر الناس، وأنَّ الأنبياء عليهم السلام بمجرَّد وقوع العزم منهم على التصدّق بالشيء، فإنَّه يخرج من ملكهم، ويصبح صدقة.

وقد قرَّر هذا الإشكال وجوابه الفخر في تفسيره أيضاً، قال:

فإن قيل: فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصّية في ذلك، قلنا: بل تبقى الخاصّية؛ لاحتمال أنَّ الأنبياء إذا عزموا على التصدّق بشيء، فبمجرّد العزم، يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حقِّ غيرهم (3)

ولم يذكر الرازي جواباً بعد تقريره لذلك الوجه، وهو احتمال كون «ما»


1- صحيح البخاري، ج٨، ص٣.
2- التفسير الكبير، ج٩، صص٢١٠ و ٢١١.
3- المصدر نفسه.

ص:182

موصولة، وغيره من الوجوه، إلاّ قوله:

«إنَّ فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة، وانعقد الإجماع على صحّة ما ذهب إليه أبو بكر، فسقط هذا السؤال، والله أعلم»(1)

وضَعف هذا الجواب واضح؛ إذ تقدَّم صراحة دلالة ما أخرجه البخاري في الصحيح على أنَّ فاطمة عليها السلام توفِّيت وهي غاضبة وساخطة على أبي بكر (2)، فمتى رضيت عنه حتّى يتحقَّق الإجماع المزعوم؟ !

وقد يُناقش في ظهور صدر الحديث أيضاً

«نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث» في نفي توريث الأنبياء عليهم السلام؛ إذ قد يكون المقصود هو: أنَّ ذلك من سيرتهم وفعلهم عليهم السلام، لا أنَّهم لا يورِّثون مطلقاً. كما احتمل ذلك ابن عطيّة، على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره، قال:

ويحتمل قوله (ع) : "إنّا معشر الأنبياء لا نورِّث"، أن يريد أنَّ ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم، وإن كان فيهم من ورَّث ماله، كزكريّا على أشهر الأقوال فيه. وهذا كما تقول: إنَّا معشر المسلمين إنَّما شغلتنا العبادة، والمراد أنَّ ذلك فعل الأكثر. ومنه ما حكى سيبويه: إنَّا معشر العرب أقرى الناس للضيف(3).

ومن هنا، فلا ينهض ما ذُكر من حديث أبي بكر لتخصيص تلك العمومات.

والحاصل: إنَّ هذه الإشكالات والتساؤلات كلّها تضع أكثر من علامة استفهام أمام صحّة حديث

«لا نورِّث، ما تركناه صدقة» ، وتشكّك في أصل وجوده.


1- التفسير الكبير، ج٩، صص٢١٠ و ٢١١.
2- صحيح البخاري، ج4، ص4٢؛ ج5، صص٨٢ و ١54.
3- تفسير القرطبي، ج١٣، ص١64.

ص:183

الخاتمة

يمكن أن نختصر بعض النتائج التي توصّلنا إليها من خلال بحثنا هذا ضمن النقاط التالية:

١ - إنَّ المشرِّع الإسلامي حدَّد وبشكلٍ واضح منابع أموال الدّولة الإسلاميّة، وصلاحيات الحاكم الإسلامي في هذه الأموال، ومن جملة المنابع الماليّة للدّولة الإسلاميّة في عهدها الأوّل، هي الأنفال، والفيء، وغنائم الحرب، ولكلٍّ منها حكم خاصّ وواضح عند الشيعة والسنّة، ومن الواضح أنَّها ليست على وتيرة واحدة من حيث الموضوع والحكم، فبعضها للإمام، يضعها حيث يشاء، وبعضها للمسلمين، وبعضها مُلك خاصّ لرسول الله (ص) . غير أنَّ إحسان إلهي ظهير تناول المسألة بسذاجة تامّة، وصوّرها على أنَّها على وتيرة واحدة.

٢ - إنَّ النَّفْل في اللغة يعني الزيادة على المُسْتَحَقِّ، وفي اصطلاح فقهاء الشيعة يُراد منه المال الزائد الّذي يختص به النبيّ (ص) ، ثُمَّ الإمام من بعده، تفضُّلاً من الله تعالى. ومن الأنفال الأرض الّتي لم يوجَف عليها بخَيل ولا رِكاب، والفيء عند الشيعة من الأنفال. وقد اتَّفقوا على أنَّ الأنفال لا يتعلّق بها الخمس، وإنَّما هي خالصة لرسول الله (ص) ، وبعده للإمام، ويقصدون به أمير المؤمنين (ع) والأئمَّة المعصومين الأحد عشر عليهم السلام من ولده.

ومن الواضح أنَّ الأنفال الّتي تصرّف بها الرسول (ص) في حياته، تصرُّفاً يُخرجها عن هذا العنوان، لا يلحقها حكمه بعدئذ، فلو أعطى شيئاً من الأنفال لأحدٍ

ص:184

وملَّكَه إيّاه، خرَجَ ذلك المُعطى عن عنوان النفليّة، وصار ملكاً لِمَن ملّكَهُ.

وقد اتَّفق الشيعة على أنَّ الرّسول (ص) قد نحل فدك في حياته لابنته فاطمة عليها السلام، ورَووا ذلك من طريق أئمّتهم عليهم السلام، وعلى هذا تكون فدك ملكاً صِرْفاً للزهراء عليها السلام، فلا تصل إليها يد الإمام وفق المبنى الشيعي.

٣ - إنَّ الغنيمة عند فقهاء الشيعة تغاير الأنفال حكماً وموضوعاً، فهي تشمل عندهم ما يُغنَم بالقهر والغَلبة من أموال المشركين، وما يُغنَم بالمعاش والربح، ويتعلّق بهما الخمس، والأنفال في اصطلاح جمهور السنّة يراد منها الغنيمة، ويقصدون بها ما يؤخَذ من الكفّار في دار الحرب، على وجه القهر والغلبة فقط، وهم مُتَّفقون على أنَّ الأنفال كانت خالصة لرسول الله (ص) ، من دون أن يشاركه فيها أحد من المسلمين، كما يدلّ عليه قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ (الانفال: ١) ، لكنَّ ذلك -بحسب دعواهم - نُسخ لاحقاً بقوله تعالى: وَاعْلَمُواْ أنّما غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (الانفال: 4١) ، فشاركت هذه الأصناف المذكورة في الآية الكريمة من المسلمين رسول الله (ص) في الأنفال، لكنَّهم اتَّفقوا أيضاً على أنَّ فدك ليست من الأنفال «بمعنى الغنيمة» ؛ لأنَّها ممَّا لم يوجَف عليه بخَيل ولارِكاب، فكانت لرسول الله (ص) خاصّة.

4 - الفيء لغة: من الرجوع. وفي اصطلاح السنّة: ما يأخذه المسلمون من الكفّار بغير إيجاف خَيل ولا رِكاب، ومذهب جمهورهم في مصرف الفيء هو أنَّه ملك خالص لرسول الله (ص) - ومع غضِّ النظر عن مذاهبهم في مصرف الفيء - فهُمْ متَّفقون على أنَّ فدك ممَّا لم يوجَف عليها بخَيل ولا رِكاب، وأنَّها ملك خالص لرسول الله (ص) .

والفيء في اصطلاح علماء الشيعة هو: ما يأخذه المسلمون من الكفّار من دون إيجاف خَيل ولا رِكاب، وهو لرسول الله (ص) خاصّة، ولأئمّة أهل البيت عليهم السلام بعده، وقد تقدّم أنَّ الفيء عندهم من الأنفال، وقد اتَّفقوا على أنَّ رسول الله (ص) قد نحلَ فدكاً في حياته لابنته فاطمة عليها السلام.

ص:185

5 - اتَّفق المسلمون على أنَّ فدك ممَّا لم يوجَف عليه بخَيل ولا رِكاب، وأنَّها ملك خالص لرسول الله (ص) ، لا يشاركه أحد فيها.

ومع غض النظر عن كونها من الأنفال أو الفيء، أو أيّ اسم آخر، فالمهمّ هو عدم الخلاف في كونها من ممتلكات رسول الله (ص) الخاصة، وقد انعقد إجماع الشيعة على أنَّ الرسول (ص) قد نحل فدكاً لبضعته فاطمة عليها السلام، وبذلك خرجت من ملكه (ص) ، وأصبحت ملكاً خالصاً لها عليها السلام، كما انعقد إجماع السنّة - أيضاً - على أنَّ رسول الله (ص) لا يورِّث، وما تركه فهو صدقة، وأنَّ فدك لم تنتقل من ملك الرسول (ص) ، بل هي من جملة صدقاته (ص) .

ومن خلال ذلك، يتبيَّن وَهْنُ ما ذهب إليه إحسان ظهير من أنَّ الحاكم أحقّ بالتصرّف في فدك، باعتبار أنَّها من أموال الدّولة ومن الأنفال، وهي تابعة لأمره؛ إذ إنَّ فدك وفق المبنى الشيعي خرجت من عنوان الأنفال، ولا يلحقها حكمها؛ لاتِّفاقهم على أنَّ الرّسول (ص) قد تصرّف فيها في حياته، ونحلها لابنته الزهراء عليها السلام، فأصبحت ملكاً خالصاً لها عليها السلام. وعليه، فلا تصل إليها يد الإمام. كما أنَّ السنّة متَّفقون على أنَّ فدك ممَّا لم يوجَف عليه بخَيل ولا رِكاب، وهي ملك خالص لرسول الله (ص) ، وقد بقيت على ملكه حتّى وفاته (ص) ، كما أنَّهم متَّفقون على أنَّ الرسول (ص) لا يورِّث، وما تركه صدقة، فألحقوها بعد رحيل النبيّ الأكرم (ص) بصدقاته.

وعليه، فمن الواضح أنَّه لا يبقى للقول بأحقِّية الإمام بالتصرّف في فدك إلاّ التمسّك بكونها من تركة الرسول (ص) ، وأنَّه لا يورِّث، وهذا ليس بجديد، وإنَّما هو مذهب جمهورهم في هذه المسألة، وقد ذكر علماء الشيعة سقمه، ونقلوا الأدلّة العقليّة والنقليّة على عدم خروج الأنبياء والرُسل عليهم السلام من دائرة أحكام الإرث.

6 - إنَّ المراحل التاريخيّة الّتي تقلّبت بينها فدك، تكشف عن أنَّها لم تخضع لقاعدة معيَّنة، ولم يُعمل فيها الدليل الواضح، وإنَّما كان للاجتهاد والسياسة والهوى والشهوات الدور البارز في صياغة حكمها في أغلب أدوارها،

ص:186

فقد تباينت أعمال الخلفاء الثلاثة في أمرها، واضطرب حالها في زمن الأموييّن والعباسيّين.

ففي العهد الأوَّل انتزعها أبو بكر من أهل البيت عليهم السلام، وردّها عمر إليهم على سبيل النظارة لا الإرث، وأقطعها عثمان لعدوِّ الله تعالى وطريد رسوله (ص) مروان بن الحكم، بعد أن آواه وزوَّجه ابنته، وفي خلافة أمير المؤمنين (ع) - الظاهر - أنَّه استرجعها من مروان؛ لأنَّه عندما تولَّى معاوية أقطعها مروان بن الحكم مرَّة ثانية.

ثُمَّ توالت عليها أيدي بني أُمية بعد مروان، حتّى خلصت لعمر بن عبدالعزيزبن مروان، لكن لمّا توفّي عمر بن عبد العزيز، وولي يزيد بن عبد الملك، أخذها من ولد فاطمة عليها السلام.

وفي زمن العباسيّين ردَّها أبو العباس السفاح على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين (ع) ، وأخذها أبو جعفر المنصور في زمانه منهم، وردَّها المهدي بن المنصور على ولد فاطمة عليها السلام، وأخذها موسى بن المهدي وأخوه من أيديهم، فلم تزل عندهم حتّى زمن المأمون، حيث ردَّها إلى أولاد فاطمة، ولمّا آل الأمرُ إلى المتوكلّ، أخذها منهم، وأمر بردِّها إلى ما كانت عليه قبل المأمون، ولمّا تقلّد المنتصر الأمر، ردَّها إلى ولد الزهراء عليها السلام.

٧ - إنَّ التّاريخ لم يسجِّل لنا، بصورة واضحة، مصير فدك في خلافة أميرالمؤمنين (ع) ، إلاّ أنَّ الثابت أنَّها كانت بيد مروان قبل خلافة الإمام (ع) ، حيث أقطعها له عثمان بعد أن زوَّجه ابنته. ومن الواضح أيضاً - وفقاً للثابت من عدالة أمير المؤمنين (ع) وسياسته في خلافته - أنَّه أرجع الأمور إلى نصابها، خصوصاً تلك الأمور الّتي سبَّبت النقمة على عثمان، وأجَّجت الوضع عليه، وبلا شكَّ كانت سياسته الاقتصاديّة في مقدِّمتها.

وقد كان من أولويّات حكومة أمير المؤمنين (ع) هو إصلاح الخلَل الاقتصادي والفساد المالي الّذي عانت منه الحكومات السابقة؛ ولذا فقد أخذ الإمام (ع) ، في الأيّام الأُولى لخلافته المباركة، كلّ القطائع الّتي أقطعها عثمان، ومنها فدك، لكن

ص:187

لم يثبت أنَّه (ع) أرجعها إلى أهل البيت عليهم السلام، بل توجد روايات من طرق الشيعة تؤكِّد أنَّه (ع) لم يُرجعها.

ومن هنا انبثق هذا الإشكال، وهو أنَّ عدم إرجاع أمير المؤمنين (ع) فدك إلى أهل البيت عليهم السلام في خلافته، يكشف عن رضاه (ع) بتصرّف الشيخين فيها.

لكنَّ هذا الإشكال واضح البطلان؛ لتصريح الإمام (ع) بأنَّ فدك حقّ فاطمة عليها السلام، كما أنَّه (ع) لم يرجعها لمُبرّرات موضوعية، منها ترسّخ سنّة مَن سبقه من الخلفاء، ومنها تَبعات خلافة عثمان، ومنها تجنيب الإمام (ع) أهل بيته الصراع من بعده، ومنها ترفُّع أهل البيت عليهم السلام عن النزاعات المادِّية بعد ظلامة الزهراء عليها السلام، ومنها أنّ فدك أصبحت فعلاً في حوزة أمير المؤمنين (ع) .

٨ - إنَّ النِّحلة في اللغة: هي العطية، وفي الاصطلاح: هي تمليك عين أو مال من دون عوض. وهذا المعنى هو المقصود في المقام، وأوضح الشواهد عليها، وأكثرها جدلاً منذ العهد الأوَّل وحتّى وقتنا الحاضر، هي فدك.

وقد ثبت لدى علماء الشيعة بالدليل النقلي القاطع، وانعقد إجماعهم على نِحلة الرسول (ص) فدك لابنته فاطمة عليها السلام، غير أنَّ الّذي يهمّنا هنا، هو إثبات المسألة وِفق طُرق ومباني السنّة، ومن جملة ذلك: أنَّ الرّوايات المرويّة من طُرقهم، والحيازة والشواهد القوّية، كلّها تدلّ على أنَّ فدك كانت نِحلة للزهراء عليها السلام.

ومن هنا يتبيَّن الوهن في دعوى إحسان إلهي ظهير بأنَّ مطالبة الزهراء عليها السلام أبابكر منحصرة بإرثها لا غير، وحاصل أدلّة النحلة:

أ - الروايات، فقد أخرج عدَّة من أعلام حفّاظ السنّة ومحدِّثيهم، أنَّ رسول الله (ص) لمّا نزل قوله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، دعا فاطمة عليها السلام فأعطاها فدك والعوالي. وقد روى هذا الحديث ثلاثة من كبار الصحابة:

«أبو سعيد الخدري، وابن عباس، وأميرالمؤمنين (ع)» ، وأخرجه عدد من الحفّاظ والمحدِّثين: كالطبراني، والبزار، وأبويعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وغيرهم.

ب - حيازة فاطمة عليها السلام لفدك؛ إذ من الأمور المهمَّة المتعلِّقة بقضية فدك، والتي

ص:188

لم تبيَّن بوضوح في النصوص السّنية، هي مسألة حيازة الزهراء عليها السلام لفدك، وانتزاعها منها من قِبل أبي بكر، وإخراجه وكيلها منها.

فقد خلطت هذه النصوص بين دعوى فدك ودعوى الإرث، تاركةً في أحيان كثيرة تساؤلاً عن هذا التردّد في موقف الزهراء؛ فتارة تدَّعي ملكية فدك، وأُخرى تطالب بها كإرث من رسول الله (ص) ؛ فقد أغمضت هذه النصوص عن الترتيب التاريخي لخصومة الزهراء عليها السلام مع أبي بكر.

والتحقيق والتأمّل فيها، مع ملاحظة الشواهد والقرائن، يدلّ على أنَّ القضية ابتدأت أوّلاً بإخراج أبي بكر وكيل الزهراء من فدك، فجاءت إليه معترضة على هذا التصرف، باعتبار أنَّها ملكها، وأنَّ الرسول (ص) قد ملَّكها إيّاها، فطالبها بالبيِّنة، فشهد لها قرينها أمير المؤمنين (ع) وأُمّ أيمن، فلم يقبل شهادتهما، فأغلق هذا الباب، ثُمَّ بعد ذلك، عادت فاطمة عليها السلام وطالبت بإرثها من رسول الله (ص) ، فردَّها أيضاً، فحينئذ غضبت وماتت وهي غاضبة عليه.

وهذا التسلسل التاريخي لهذا الحدث، وإن لم يكن بذلك الوضوح في النصوص السنّية، وإنّما تناثرت فقراته هنا وهناك، إلاّ أنَّ هناك ما يدلّ دلالة قويّة على حيازة الزهراء عليها السلام لفدك، منها: ما أخرجه الحافظ عمر بن شبة، عن النميري بن حسان، وفيه:

«إنَّ أبا بكر انتزع من فاطمة عليها السلام فدك» . ومن الثابت البيِّن أنَّ الحيازة دليل على الملكية، فمادامت فدك في حيازة الزهراء عليها السلام، فلا حاجة لها إلى البيِّنة حينئذ.

ج - وجود الشواهد الكثيرة على أنَّ رسول الله (ص) قد أنحل فدكاً لبضعته فاطمة عليها السلام، منها: ادِّعاء الصادقة المصدَّقة فاطمة الزهراء عليها السلام بأنَّ الرسول (ص) نحلها فدكاً، ومنها: تأكيد أمير المؤمنين (ع) على أنَّ فدك نحلة الزهراء عليها السلام.

٩ - إنَّ هناك كثيراً من الإشكالات التي ترد على عدم قبول أبي بكر لبيِّنة الزهراء عليها السلام وردِّه لها، من جملتها:

أ - إنَّ فدك كانت بحيازة الزهراء عليها السلام، ومعها لا تحتاج إلى البيِّنة؛ لأنَّها صاحبة يد، ولم يكن مقابل يدها إلاّ دعوى أنَّها فيء للمسلمين، فمطالبتها بالبيّنة في غير

ص:189

محلِّه، وبعيد عن الصواب.

ودعوى الزهراء عليها السلام انتقال فدك إليها من الرسول (ص) نحلة، لا توجب انقلابها من صاحبة يد إلى مدّعية؛ لأنَّه لم يُنكر أحد عليها دعواها، بل ادَّعوا أنَّ فدك فيء للمسلمين، ولابدّ من إقامة البيِّنة على الانتقال! بالرغم من كونها ذات يد، ولم يكن في مقابل يدها إلاّ هذه الدعوى.

ب - إنَّ البيِّنة تكمل في المورد باليمين؛ لأنَّ البيّنة في الأمور الماليّة يكفي فيها الشاهد واليمين، فيثبت الحكم باليمين مع شهادة أمير المؤمنين (ع) وأُمّ أيمن، فلماذا لم يطالب أبو بكر الزهراء عليها السلام بالقَسَم إلى جنب شهادة أمير المؤمنين (ع) وأم أيمن؟ ! خصوصاً أنَّ أبا بكر كان يرى كفاية الشاهد واليمين في الأمور الماليّة.

ج - إنَّ الملاك في الحكم، بالنسبة للحاكم، هو حصول العلم له بصدق الدعوى، ولا يُعقَل عدم حصوله من شهادة أمير المؤمنين (ع) وأُمّ أيمن، بعد أن شهد الله تعالى لأمير المؤمنين (ع) بأنَّه نفس رسول الله (ص) ، وشهد الرسول (ص) بأنَّه مع الحقّ والحقّ معه، وأنَّه يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله، وأنَّ أُمّ أيمن من أهل الجنّة!

د - يمكن القول بأنَّ مسألة فدك في حقيقة الأمر لم تكن دعوى قضائية بالمعنى الفقهي، كما قد يُصَوِّر البعض ذلك أو يتصوَّرهُ، فهي تفتقد لكثير من أركان الدعاوى القضائية، فلم تكن هناك دعوى قضائيّة، أو قاض، أو منكر، وإنَّما حقيقة الأمر هي أنَّ السلطة قد صادرت فدك، فجاءت الزهراء عليها السلام معترضة على هذا القرار!

ه - إنَّ أبا بكر قد حكم بعلمه واكتفى بالدعوى المجرّدة عن البيِّنة في كثير من المواطن، فلم يتّضح الوجه في قبول أبي بكر دعوى الصحابة في الدَّين والعِدة، من دون أن يطالبهم بالبيِّنة، وردّه قول الزهراء عليها السلام في النحلة، ومطالبته إيّاها بالبيِّنة.

١٠ - بعد أن منع أبو بكر بضعة الرسول (ص) من إرثها بحديث لم تسمع به، سعت إلى مجاراته وبيان زيف دعواه، من خلال إقامة الأدلّة الّتي تفنِّد ما تمسّك به،

ص:190

فاستدلّت ربيبة الوحي بالقرآن الكريم، وقد ساقت نوعين من الآيات الكريمة، الأوّل: الآيات الخاصّة الّتي نصَّت على أنَّ الأنبياء عليهم السلام يورِّثون، والثّاني: الآيات العامّة الّتي نصَّت على أحكام الإرث ولم تستثن من ذلك الأنبياء والرُسل عليهم السلام، فهذه الآيات العامّة الكريمة تدلّ بعموماتها على ثبوت حقّها في إرثها من والدها الرسول (ص) ، وقد ذكرت ذلك في خطبتها الّتي رواها ثلّة من أعلام السنّة؛ كابن أبي طيفور، وأبي سعد منصور ابن الحسن الآبي، وابن الأثير، وسبط ابن الجوزي وغيرهم.

والناظر في هذه الخطبة، يجد أنَّها تمسّ صميم الحكم القائم، وتكشف النقاب عن كثير من الحقائق، ممَّا تتوفّر الدواعي على عدم نقلها أو حذف البعض من فقراتها. لكن بالرغم من ذلك، نقلها جمعٌ من المحدِّثين والمؤرِّخين، وحتّى علماء اللغة والأدباء.

وممَّا يؤكِّد صحّة صدور هذه الخطبة؛ هو ورود بعض مضمون صدرها في بعض الأحاديث الصحيحة.

١١ - إنَّ ما استدلّ به أبو بكر من حديث «لا نورِّث» ، وإن ورد في صحيح البخاري وغيره؛ لكن هناك مجالاً واسعاً أمام مناقشته، وذلك من خلال تسجيل عدّة ملاحظات أساسية عليه، أهمها:

أ - طرح علماء السنّة لأحاديث الصحيحين الّتي لا تتَّفق مع الثوابت. فلا إشكال عندهم في طرح أحاديثهما الّتي لا تتَّفق مع الثوابت الدينيّة والتاريخيّة، وعدم العمل بمقتضاها. ومن هنا، فورود حديث ما في الصحيحين، لا يعني بالضرورة قبوله والعمل طِبق مقتضاه.

ب - من التساؤلات الّتي لم يُجب عنها بوضوح هي: سبب عدم ذكر الرسول (ص) هذا الحديث لذوي الشأن ومحلّ الابتلاء، وهم أقاربه، كأميرالمؤمنين (ع) ، وفاطمة عليها السلام، والعباس، وزوجاته؟ !

ج - إنَّ أمير المؤمنين (ع) والعباس لم يسمعا بحديث «لا نورِّث» ، فلو كان حديث «لا نورِّث» موجوداً، لما تخاصم أمير المؤمنين (ع) والعباس في زمان عمر،

ص:191

حسب دعواهم، فإذا كانا يعلمان بوجود هذا الحديث، أو كان ثابتاً وموجِباً لهما العلم به بإخبار أبي بكر، فلماذا تخاصما؟ !

د - مخالفة خبر «لا نورِّث» لصريح القرآن؛ فإنَّ مفاد هذا الخبر مخالف لصريح الآيات الكريمة الخاصّة، الّتي نصّت على أنَّ الأنبياء والرُسل عليهم السلام يرث بعضهم بعضاً، وأنَّهم غير خارجين عن دائرة أحكام الإرث، والإرث يُستعمَل على نحو الحقيقة في المال، وعلى نحو المجاز في غيره عند الجمهور، وإرادة المعنى المجازي يحتاج إلى قرينة، والقرائن التي سيقت لصرف الإرث في هذه الآيات الكريمة عن معناه الحقيقي غير صالحة لذلك، ولا تُنافي الإرث المالي، فلا يمكن أن يُرفع اليد بها عن المعنى الحقيقي.

وكذا مُخالف لعموم الآيات الكريمة الّتي بيَّنت أحكام الإرث، دون أن تستثني منها الأنبياء والرُسل عليهم السلام. وحديث «لا نورِّث» لا يصلح لتخصيص هذه الآيات الكريمة؛ إذ مع غضِّ النظر عن الكلام في أصل صدوره، لكنَّ أمير المؤمنين (ع) وقرينته فاطمة الزهراء عليهما السلام يعتقدان أنَّ الحديث لا يدلّ على عدم الإرث المالي للأنبياء والرُسل عليهم السلام عموماً، ولرسول الله (ص) خصوصاً، وقد ثبتت الخصوصية العلمية وغيرها للإمام وقرينته عليهما السلام بالنصِّ القاطع، ومع غضِّ النظر عن ذلك أيضاً، لكن على أقلِّ تقدير، يحصل في المورد تعارض بين فهم الصحابة؛ فمن جهة الإمام وقرينته عليهم السلام يعتقدان بأنَّ الحديث لا يدلّ على عدم الإرث المالي للأنبياء والرُسل عليهم السلام، على أقلّ تقدير، ومن جهة أُخرى يعتقد الشيخان بدلالته عليه، وبذلك يحصل تعارض بين فهم الصحابة في دلالة الحديث، فلا يُحتجّ بكليهما، وحينئذ فلا يخصّص به آيات الإرث العامّة.

ص:192

ص:193

فهرس المصادر

* القرآن الكريم

١. أحكام القرآن، أبو بكر أحمد بن علي الجصّاص، الرازي، تحقيق: عبد السلام محمّد علي شاهين، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١5ه.

٢. إرشاد الأذهان، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي، تحقيق: الشيخ فارس حسون، الطبعة الأُولى، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ١4١٠ه.

٣. إرواء الغليل، محمّد ناصر الدين الألباني، إشراف: زهير الشاويش، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، ١4٠5ه.

4. الاستيعاب، ابن عبد البرّ، تحقيق: علي محمّد البجاوي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الجيل، ١4١٢ه.

5. أصل الشيعة وأصولها، محمّد الحسين آل كاشف الغطاء، تحقيق: عَلاء آل جَعفر، مؤسّسة الإمام علي (ع) .

6. الأعلام، خير الدين الزركلي، الطبعة الخامسة، بيروت، دار العلم للملايين، ١٩٨٠م.

٧. أعلام النساء، عمر رضا كحالة، الطبعة الخامسة، مؤسّسة الرسالة، ١4٠4ه.

٨. الاقتصاد، الطوسي، طهران، منشورات مكتبة جامع چهلستون، ١4٠٠ه.

ص:194

٩. اقتضاء الصراط لمخالفة أصحاب الجحيم، ابن تيمية، الطبعة السابعة، دار عالم الكتب، ١4١٩ه.

١٠. الأمالي، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين الصدوق، مؤسّسة البعثة، قم المشرّفة، الطبعة الأُولى، ١4١٧ه.

١١. الأمالي، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة / مؤسّسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، قم، الطبعة الأولى، ١4١4ه.

١٢. أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، تحقيق: د. سهيل زكار و د. رياض زركلي، دار الفكر، بيروت.

١٣. أهل البيت عليهم السلام، توفيق أبو علم، مطبعة السعادة، القاهرة / مصر، ١٣٩٠ه.

١4. البداية والنهاية، ابن كثير، تحقيق: علي شيري، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، ١4٠٨ه.

١5. بدائع الصنائع، أبو بكر الكاشاني، المكتبة الحبيبية، باكستان، الطبعة الأولى، ١4٠٩ه.

١6. بلاغات النساء، ابن طيفور، مكتبة بصيرتي، قم.

١٧. تاج العروس، محبّ الدين أبي فيض السيّد محمّد مرتضى الزبيدي، تحقيق: علي شيري، نشر دار الفكر، بيروت، ١4١4ه.

١٨. تاريخ ابن خلدون، ابن خلدون، دار إحياء التراث العربي، بيروت / لبنان، الطبعة الرابعة.

١٩. تاريخ أسماء الثُقات، ابن شاهين، تحقيق: صبحي السامرائي، دار السلفية، تونس، الطبعة الأولى، ١4٠4ه.

٢٠. تاريخ الإسلام، الذهبي، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمرى، دار الكتاب

العربي، بيروت، الطبعة الأولى، ١4٠٧ه.

٢١. تاريخ الطبري، الطبري، مراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاّء، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الرابعة، ١4٠٣ه.

ص:195

٢٢. التاريخ الكبير، البخاري، المكتبة الإسلاميّة، ديار بكر / تركيا.

٢٣. تاريخ المدينة، أبو زيد عمر بن شبة البصري النميري، تحقيق: فهيم محمّد شلتوت، نشر دار الفكر، بيروت، ١4١٠ه. و - أيضاً - طبعة أُخرى علَّق عليها وخرّج أحاديثها علي محمّد دندل وياسين سعد الدين بيان.

٢4. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي، نشر دار صادر، بيروت.

٢5. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دارالكتب العلمية، بيروت / لبنان، الطبعة الأولى، ١4١٧ه.

٢6. تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، دار الفكر، بيروت، ١4١5ه.

٢٧. التبيان، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، ١4٠٩ه.

٢٨. التحرير والتنوير، محمّد الطاهر بن محمّد بن محمّد الطاهر بن عاشور التونسي، مؤسّسة التاريخ العربي، بيروت / لبنان، الطبعة الأولى، ١4٢٠ه.

٢٩. تحفة الأحوذي، المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت / لبنان، الطبعة الأولى، ١4١٠ه.

٣٠. تحفة الفقهاء، السمرقندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، ١4١4ه.

٣١. تذكرة الحفّاظ، أبو عبد الله شمس الدين الذهبي، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.

٣٢. تذكرة الخواص، ابن الجوزي، منشورات الشريف الرضي، قم المقدّسة، ١4١٨ه.

٣٣. تذكرة الفقهاء، الحلّي، تحقيق: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الأولى، قم، نشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ١4١4ه.

٣4. التذكرة، محمّد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، بيروت، دار الكتب العلمية.

ص:196

٣5. التسهيل لعلوم التنزيل، الغرناطي الكلبي، الطبعة الرابعة، بيروت، دار الكتاب العربي، ١4٠٣ه.

٣6. تغليق التعليق، ابن حجر، تحقيق: سعيد عبد الرحمن موسى القزقي، الطبعة الأولى، عمان، المكتب الإسلامي / دار عمار، ١4٠5ه.

٣٧. تفسير ابن زمنين، ابن أبي زمنين أبو عبد الله محمّد بن عبد الله، تحقيق: أبو عبد الله حسين بن عكاشة / محمّد بن مصطفى الكنز، الطبعة الأولى، القاهرة، الفاروق الحديثة، ١4٢٣ه.

٣٨. تفسير ابن كثير، ابن كثير، تقديم: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، ١4١٢ه.

٣٩. تفسير أبي السعود، أبو السعود محمّد بن محمّد العمادي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

4٠. تفسير البغوي، البغوي، تحقيق: خالد عبد الرحمن العك، بيروت، دار المعرفة.

4١. تفسير الثعلبي، الثعلبي، تحقيق: الإمام أبو محمّد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نظير الساعدي، الطبعة الأولى، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١4٢٢ه.

4٢. تفسير الجلالين، جلال الدين السيوطي، تقديم ومراجعة: مروان سوار، بيروت، دار المعرفة.

4٣. تفسير السلمي، السلمي، تحقيق: سيد عمران، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية،١4٢١ه.

44. تفسير السمرقندي، أبو الليث السمرقندي، تحقيق: د. محمود مطرجي، بيروت، دار الفكر.

45. تفسير السمعاني، السمعاني، تحقيق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن

غنيم، الطبعة الأولى، الرياض، دار الوطن، ١4١٨ه.

46. تفسير العزّ بن عبد السلام السلمي، السلمي الدمشقي الشافعي، تحقيق: الدكتور عبد الله بن إبراهيم الوهبي، الطبعة الأُولى، بيروت، دار ابن حزم، ١4١6ه.

ص:197

4٧. تفسير القرطبي، القرطبي، تصحيح: أحمد عبد العليم البردوني، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

4٨. التفسير الكبير، أبو عبد الله محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي، الطبعة الثالثة، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

4٩. تفسير النسفي، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، المطبوع بهامش لُباب التأويل في القاهرة، ١٣٧4ه.

5٠. تفسير الواحدي، الواحدي، تحقيق: صفوان عدنان داودي، الطبعة الأولى، دمشق وبيروت، دار القلم والدار الشامية، ١4١5ه.

5١. تفسير مقاتل بن سليمان، مقاتل، تحقيق: أحمد فريد، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4٢4ه.

5٢. تقريب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، بيروت، نشر دار الكتب العلمية، ١4١5ه.

5٣. تلخيص الشافي، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، تقديم وتعليق: السيّد حسين بحر العلوم، طهران، مكتبة الصادق، ١٣٨٣ه.

54. التمهيد، ابن عبد البرّ، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمّد عبدالكبير البكري، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة، ١٣٨٧ه.

55. تهذيب التهذيب، ابن حجر، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر، ١4٠4ه.

56. تهذيب الكمال، الحافظ جمال الدين أبو الحجاج بن يوسف المزي، تحقيق وضبط وتعليق: الدكتور بشار عواد معروف، الطبعة الرابعة، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ١4٠6ه.

5٧. تهذيب اللغة، أبو منصور محمّد بن أحمد الأزهري، تحقيق: محمّد عوض

مرعب، الطبعة الأولى، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ٢٠٠١م.

5٨. ثواب الأعمال، الصدوق، تقديم: السيّد محمّد مهدي السيد حسن الخرسان، الطبعة الثانية، قم، منشورات الشريف الرضي، ١٣6٨ش.

ص:198

5٩. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، تقديم: الشيخ خليل الميس، بيروت، دار الفكر، ١4١5ه.

6٠. جواهر الكلام، محمد حسن النجفي، تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوچاني، الطبعة الثانية، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، ١٣65 ش.

6١. الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة، عبد القادر بن أبي الوفاء القرشي، تحقيق: عبدالفتاح محمّد الحلو، الطبعة الثانية، نشر هجر للطباعة والنشر و التوزيع.

6٢. جواهر المطالب في مناقب الإمام علي (ع) ، ابن الدمشقي، تحقيق: الشيخ محمّد باقر المحمودي، الطبعة الأولى، قم، مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة، ١4١5ه.

6٣. حقّ اليقين، محمّد باقر المجلسي، سازمان انتشارات جاويدان.

64. الخراجيات، المحقّق الكركي، تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، ١4١٣ه.

65. خلاصة الأقوال، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي، تحقيق: جواد القيومي، الطبعة الأولى، قم، مؤسّسة نشر الفقاهة، ١4١٧ه.

66. الدرّ المنثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، بيروت، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر.

6٧. الدراية في تخريج أحاديث الهداية، ابن حجر، صحّحه وعلّق عليه: السيّد عبد الله هاشم اليماني المدني، بيروت، دار المعرفة.

6٨. الدرّة المضيّة، تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، دمشق، مطبعة الترقّي، ١٣4٧ه.

6٩. الدرَّة النجفيّة، الدنبلي، ميرزا إبراهيم بن الحسين الخوئي، تبريز، ١٢٩٣ه.

٧٠. دفع الشبه عن الرسول (ص) ، أبو بكر بن محمّد بن عبد المؤمن تقي الدين الحصني الدمشقي، تحقيق: جماعة من العلماء، محقَّقة ومفهرسة بإشراف السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي، الطبعة الثانية، ١4١٨ه.

ص:199

٧١. دلائل النبوّة، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4٠5ه.

٧٢. ربيع الأبرار، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق: سليم النعيمي، الطبعة الأولى، قم، منشورات الرضي، ١4١٠ه.

٧٣. رجال ابن الغضائري، أحمد بن الحسين الغضائري الواسطي البغدادي، تحقيق: السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي، الطبعة الأولى، قم، دار الحديث، ١4٢٢ه.

٧4. رجال ابن داود، ابن داود الحلي، تحقيق وتقديم: السيّد محمّد صادق آل بحرالعلوم، النجف الأشرف، منشورات مطبعة الحيدرية، ١٣٩٢ه.

٧5. رجال النجاشي، أبو العبّاس أحمد بن علي بن أحمد بن العبّاس النجاشي الأسدي الكوفي، تحقيق: موسى الشبيري الزنجاني، الطبعة الخامسة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، ١4١6ه.

٧6. الرسائل العشر، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

٧٧. روح المعاني، محمود الآلوسي البغدادي، بيروت، دار الفكر، ١4١٧ه.

٧٨. زاد المسير، ابن الجوزي، تحقيق: محمّد بن عبد الرحمن عبد الله، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر، ١4٠٧ه.

٧٩. السقيفة وفدك، أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري البصري، تقديم وجمع وتحقيق: الدكتور الشيخ محمّد هادي الأميني، الطبعة الثانية، بيروت، شركة الكتبي للطباعة والنشر، ١4١٣ه.

٨٠. سُنن ابن ماجة، محمّد بن يزيد القزويني، تحقيق وترقيم وتعليق: محمّد فؤاد

عبد الباقي، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

٨١. سُنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق وتعليق: سعيد محمّد اللحام، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر، ١4١٠ه.

ص:200

٨٢. سُنن الترمذي، محمّد بن عيسى الترمذي، تحقيق: عبد الرحمن محمّد عثمان، الطبعة الثانية، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ١4٠٣ه.

٨٣. السُنن الكبرى، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، دار الفكر، بيروت.

٨4. سُنن النسائي، النسائي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر، ١٣4٨ه.

٨5. سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي، إشراف وتخريج: شعيب الأرنؤوط، تحقيق: حسين الأسد، الطبعة التاسعة، بيروت، مؤسسة الرسالة، ١4١٣ه.

٨6. الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى، الطبعة الثانية، قم، مؤسسة إسماعيليان، ١4١٠ه.

٨٧. الشرح الكبير، الدردير أبو البركات سيدي أحمد، إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاءه.

٨٨. شرح مسلم، النووي، بيروت، دار الكتاب العربي، ١4٠٧ه.

٨٩. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، الطبعة الأولى، دار إحياء الكتب العربية، ١٣٧٨ه.

٩٠. شرح نهج البلاغة، ميثم بن علي بن ميثم البحراني، الطبعة الثانية، دفتر نشر الكتاب، ١4٠4ه.

٩١. شواهد التنزيل، الحسكاني، تحقيق: محمّد باقر المحمودي، الطبعة الأولى، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي / مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة، ١4١١ه.

٩٢. الشيعة في الميزان، محمّد جواد مغنية، بيروت، دار التعارف.

٩٣. الصحاح، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار،

الطبعة السابعة، بيروت، دار العلم للملايين، ١4٠٧ه.

٩4. صحيح ابن خزيمة، ابن خزيمة، محمّد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق: د. محمّد مصطفى الأعظمي، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، ١4١٢ه.

ص:201

٩5. صحيح البخاري، محمّد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، الطبعة الثالثة، بيروت، دار ابن كثير، بيروت، ١4٠٧ه.

٩6. صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، بيروت، دار الفكر.

٩٧. صريح السنّة، محمّد بن جرير الطبري، تحقيق: بدر يوسف المعتوق، الطبعة الأولى، الكويت، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، ١4٠5ه.

٩٨. الصوارم المهرقة، نور الله التستري، تحقيق: السيّد جلال الدين المحدّث، ١٣6٧.

٩٩. الصواعق المحرقة، ابن حجر الهيتمي، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الله التركي وكامل محمّد الخراط، الطبعة الأولى، بيروت، مؤسسة الرسالة، ١٩٩٧م.

١٠٠. ضعفاء العقيلي، أبو جعفر محمّد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي المكّي، تحقيق: الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الثانية، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١٨ه.

١٠١. طبقات الحفّاظ، جلال الدين عبد الرحمان السيوطي، تحقيق: على محمّد عمر، الطبعة الأولى، الرياض، مكتبة الثقافة الدّينيّة، ١4١٧ه.

١٠٢. الجواهر المضية في طبقات الحنفية، أبو محمّد عبد القادر بن أبي الوفاء محمّد بن أبي الوفاء القرشي، الناشر: مير محمّد كتب خانه، كراتشي.

١٠٣. طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي، تحقيق: د. محمود محمّد الطناحي و د. عبد الفتاح محمّد الحلو، الطبعة الثانية، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ١4١٣ه.

١٠4. الطبقات الكبرى، محمّد بن سعد، بيروت، دار صادر، بدون تاريخ.

١٠5. العقد الفريد، أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسي، بيروت، دار الكتاب العربي، ١٣٨4ه.

ص:202

١٠6. علل الشرائع، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين الصدوق، تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم، النجف الأشرف، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، ١٣٨5ه.

١٠٧. عُمدة القاري، أبو محمّد محمود بن أحمد، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

١٠٨. عيون أخبار الرضا (ع) ، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، ١4٠4ه.

١٠٩. غنائم الأيّام، الميرزا القمي، تحقيق: عباس تبريزيان، بمساعدة: عبد الحليم الحلّي والسيّد جواد الحسيني، الطبعة الأولى، مكتب الإعلام الإسلامي، فرع خراسان، ١4١٧ه.

١١٠. الفائق في غريب الحديث، محمود بن عمر، تحقيق: علي محمّد البجاوي ومحمّد أبوالفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، بيروت، دار المعرفة.

١١١. فتح الباري، شهاب الدين بن حجر، الطبعة الثانية، بيروت، دار المعرفة.

١١٢. فتح القدير، الشوكاني، نشر عالم الكتب.

١١٣. فتح المعين، المليباري الهندي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ١4١٨ه.

١١4. فتوح البلدان، البلاذري، نشر وإلحاق وفهرسة: د. صلاح الدين المنجد، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، مطبعة لجنة البيان العربي، ١٩56م.

١١5. الفَرق بين الفِرق، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمّد البغدادي، الطبعة الثانية، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ١٩٧٧م.

١١6. الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، الطبعة الأولى، قم، تحقيق ونشر:

مؤسّسة النشر الإسلامي، ١4١٢ه.

١١٧. الفصل في الملل، أبو محمّد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الطاهري، القاهرة، مكتبة الخانجي.

ص:203

١١٨. الفهرست، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، تحقيق: الشّيخ جواد القيومي، الطبعة الأولى، مؤسّسة نشر الفقاهة، طباعة مؤسّسة النشر الإسلامي، ١4١٧ه.

١١٩. القاموس المحيط، الشيخ نصر الهوريني الفيروز آبادي.

١٢٠. قواعد الأحكام، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ١4١٣ه.

١٢١. الكافي، يوسف بن عبد الله القرطبي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4٠٧ه.

١٢٢. الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني، تحقيق: علي أكبر الغفاري، الطبعة الرابعة، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، ١٣65ش.

١٢٣. الكامل في التاريخ، عزّ الدين أبي الحسن علي بن أبي كرم بن الأثير، بيروت، دار صادر، ١٣٨6ه.

١٢4. الكامل، أبو أحمد عبد الله، تحقيق: الدكتور سهيل وكار، قراءة وتدقيق: يحيى مختار غزاوي، الطبعة الثالثة، بيروت، دار الفكر، ١4٠٩ه.

١٢5. كتاب الأُمّ، الشافعي، الطبعة الثانية، دار الفكر، ١4٠٣ه.

١٢6. كتاب العين، الخليل الفراهيدي، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، الطبعة الثانية، ١4٠٩ه.

١٢٧. كتاب سليم بن قيس، سليم بن قيس الهلالي، تحقيق: محمّد باقر الأنصاري الزنجاني.

١٢٨. كنز العمال، علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي، ضبط وتفسير: الشيخ بكري حياني، تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقا، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، ١4٠٩ه.

١٢٩. لباب النقول، جلال الدين السيوطي، بيروت، دار إحياء العلوم.

١٣٠. لسان العرب، ابن منظور، أدب الحوزة، الطبعة الاولى، مطبعة دار إحياء التراث العربي، ١4٠5ه.

ص:204

١٣١. المبسوط، السرخسي، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، ١4٠6ه.

١٣٢. المبسوط، محمد بن حسن الطوسي، تصحيح وتعليق: السيّد محمّد تقي الكشفي، المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية، ١٣٨٧ه.

١٣٣. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين علي بن أبي بكر، نشر دار الكتب العلمية، ١4٠٨ه.

١٣4. المجموع شرح المهذّب، أبو زكريّا محيى الدين بن شرف الدمشقي النوري، بيروت، دار الفكر.

١٣5. مسالك الأفهام، زين الدين بن نور الدين العاملي (الشهيد الثاني) ، تحقيق: مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، الطبعة الأولى، قم، مؤسسة المعارف الإسلاميّة، ١4١٣ه.

١٣6. المستدرك على الصحيحين وبهامشه التلخيص للذهبي، الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، ١٩٩٠م.

١٣٧. مستدركات علم رجال الحديث، علي النمازي الشاهرودي، الطبعة الأولى، طهران، المطبعة شفق، ١4١٢ه.

١٣٨. مستند الشيعة، أحمد بن محمّد مهدي النراقي، تحقيق: مؤسّسة آل البيت، لإحياء التراث، الطبعة الأُولى، مشهد المقدّسة، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ١4١5ه.

١٣٩. مسند ابن الجعد، علي بن الجعد بن عبيد، رواية وجمع: أبي القاسم عبدالله بن محمّد البغوي، مراجعة وتعليق وفهرسة: الشيخ عامر أحمد حيدر، الطبعة الثانية، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١٧ه.

١4٠. مسند ابن راهويه، إسحاق بن راهويه، تحقيق: الدكتور عبد الغفور عبدالحقّ حسين برد البلوسي، الطبعة الأولى، المدينة المنورة، مكتبة الإيمان، ١4١٢ه.

ص:205

١4١. مسند أبي يعلى الموصلي، أبو يعلى الموصلي، تحقيق: حسين سليم أسد، الطبعة الأولى، دمشق، دار المأمون للتراث، ١4٠4ه.

١4٢. مسند أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل، بيروت، دار صادر.

١4٣. مسند أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل، المحقّق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، الطبعة الثانية، مؤسّسة الرسالة، ١4٢٠ه.

١44. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمّد بن علي المقري الفيومي، بيروت، المكتبة العلمية.

١45. معالم العلماء فهرست كتب الشيعة وأسماء المصنّفين قديماً وحديثاً، محمّدبن علي بن شهر آشوب المازندراني، الطبعة الثانية، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، ١٣٨٠ه.

١46. معاني القرآن، الجصّاص، تحقيق: الشيخ محمّد علي الصابوني، الطبعة الأولى، المملكة العربية السّعودية، جامعة أمّ القرى، ١4٠٩ه.

١4٧. المعجم الأوسط، أبو القاسم سليمان بن أحمد، تحقيق: قسم التحقيق بدار الحرمين، دار الحرمين، ١4١5ه.

١4٨. معجم البلدان، شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي البغدادي الحموي، بيروت، دار إحياء التراث، ١٣٣٩ه.

١4٩. المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق وتخريج: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية (مزيدة ومنقّحة) ، دار إحياء التراث العربي.

١5٠. المغني في أبواب التوحيد والعدل (القسم الأوَّل، في الإمامة) ، أبو الحسن عبدالجبار الأسد آبادي، تحقيق: د. محمود محمّد قاسم، مراجعة: د. إبراهيم مدكور، إشراف: د. طه حسين.

١5١. المغني في الفقه، أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، الطبعة الجديدة بالأوفست، بيروت، دار الكتاب العربي وأيضاً طبعة أُخرى: الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر، ١4٠5ه.

ص:206

١5٢. مفردات غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمّد، الطبعة الثانية، دفتر نشر الكتاب، ١4٠4ه.

١5٣. مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين، أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، تحقيق: هلموت ريتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة.

١54. مقتل الحسين، أبو المؤيّد موفق بن أحمد بن محمّد المكّي الخوارزمي، تحقيق: محمّد السماوي، الطبعة الأولى، أنوار الهدى، ١4١٨ه.

١55. المقنعة، محمّد بن محمّد (الشيخ المفيد) ، تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، ١4١٠ه.

١56. المِلل والنِحل، محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق: محمّد سيد كيلاني، بيروت، دار المعرفة.

١5٧. مَن لا يحضره الفقيه، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين الصدوق، تحقيق: علي أكبر الغفاري، الطبعة الثانية، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

١5٨. المناقب، الموفق الخوارزمي، الطبعة الأولى، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، ١4١4ه.

١5٩. منال الطالب في شرح طوال الغرائب، أبو السعادات المبارك بن محمّد ابن الأثير الجزري الشيباني، تحقيق: الدكتور محمود محمّد الطناحي، الطبعة الثانية، القاهرة، مكتبة الخانجي، ١4١٧ه.

١6٠. منتهى المطلب في تحقيق المذهب، جمال الدين الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي، تحقيق: قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلاميّة، الطبعة الأولى، مشهد، نشر مجمع البحوث الإسلاميّة، ١4١٢ه.

١6١. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي، شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان، تحقيق: علي محمّد البجاوي، الطبعة الأولى، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، ١٣٨٢ه.

ص:207

١6٢. نثر الدرّ، أبو سعيد منصور بن حسين الآبي، تحقيق: محمّد علي قرنة، الطبعة الأولى، مصر، مركز تحقيق التراث، ١٩٨١م.

١6٣. نقد الرجال، التفرشي، الطبعة الأولى، قم، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ١4١٨ه.

١64. النكت على كتاب ابن الصلاح، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمّد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: ربيع بن هادي عمير المدخلي، الطبعة الأولى، المدينة المنورة، نشر عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلاميّة، ١4٠4ه.

١65. النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، الطبعة الرابعة، قم، مؤسسة إسماعيليان.

١66. النهاية، محمّد بن الحسن (الشيخ الطوسي) ، قم، انتشارات قدس محمّدي.

١6٧. نهج البلاغة (خطب أمير المؤمنين (ع)) ، شرح وتعليق: الشيخ محمّد عبده، الطبعة الأولى، قم، دار الذخائر، ١4١٢ه.

١6٨. هدي الساري، الحافظ أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمّد بن محمّد بن حجر العسقلاني الشافعي، (مقدمة شرح صحيح الإمام أبى عبد الله محمّد بن إسماعيل البخاري) ، الطبعة الأولى، مصر، المطبعة الكبرى الميربة ببولاق، ١٣٠١ه. ، و الطبعة الرابعة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١4٠٨ه.

١6٩. وسائل الشيعة إلى مسائل الشريعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، الطبعة الثانية، قم، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت، لإحياء التراث، ١4١4ه.

١٧٠. الوسيلة، ابن حمزة الطوسي، تحقيق: الشيخ محمّد الحسون، إشراف: السيد محمود المرعشي، الطبعة الأولى، قم، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، ١4٠٨ه.

١٧١. وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، نور الدين علي بن أحمد السمهودي، حقّقه وفصّله وعلّق على حواشيه: محمّد محي الدين عبد الحميد، بيروت، دار الكتب العلمية.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.