ثقافه الارهاب في كتب الوهابيه

اشارة

سرشناسه : ورداني، صالح

عنوان و نام پديدآور : ثقافه الارهاب في كتب الوهابيه/ صالح الورداني.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1390.

مشخصات ظاهري : 224 ص.

شابك : 978-964-540-349-0

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي.

موضوع : تروريسم -- جنبه هاي مذهبي -- اسلام

موضوع : وهابيه -- كتاب هاي نقدشده

موضوع : حنبليه-- كتاب هاي نقدشده

موضوع : وهابيه -- دفاعيه ها و رديه ها

موضوع : حنبليه -- دفاعيه ها و رديه ها

رده بندي كنگره : BP198/6 /ت4 و4 1390

رده بندي ديويي : 297/379

شماره كتابشناسي ملي : 2598003

ص:1

اشاره

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

تقديم

تُعدّ المنشورات الوهّابيّة من أخطر المنشورات المتداولة بين أيدي المسلمين اليوم، فهي منبع العنف والأفكار المتطرِّفة وهي في الوقت نفسه الأساس الذي قامت عليه الجماعات والفِرَق الإرهابية التي شوّهت الإسلام وفرّقت المسلمين بالإضافة إلى كونها أسهمت بطُرُقٍ مختلفة في تشكيل العقل المسلم المعاصر.

وتقف خلف رواج هذه المنشورات جهات عديدة على مستوى الداخل والخارج تسعى جاهدة لحصار العقل المسلم وتطويقه وعزله عن المصادر الأخرى التي تعينه على فهم حقيقة الإسلام.

وفي دائرة هذا البحث سوف نعرض للعديد من هذه المنشورات التي تكشف لنا حجم المؤامرة الوهّابيّة على الإسلام والمسلمين اليوم.

وتكشف لنا أيضاً مدى سطحيّة هذه المنشورات وقشريّتها.

وقبل الخوض في هذه المنشورات، يجب أن نضع بعض الملاحظات؛ حتّى تتكوّن لدى القارئ صورة عنها تعينه على فهم أبعادها.

الملاحظة الأُولى: إنّ غالب هذه المنشورات من صناعة رموز الوهّابيّة في السعودية والبقيّة الأُخرى منها تعود لرموز حنبلية قديمة على رأسها: ابن حنبل، وابن تيمية، وتلاميذه: ابن القيّم، والذهبي، وابن كثير.

ص:6

الثانية: إنّ العديد من هذه المنشورات بدون ناشر وبدون حقوق للطبع وتُهدى ولا تُباع، والهدف من ذلك هو تيسير رواجها بين المسلمين.

الثالثة: إنّ هذه المنشورات تركِزّ على فتاوى رموز الوهّابيّة المعاصرين، مثل: عبدالعزيز بن باز، وابن عثيمين، وابن بابطين، وابن فوزان، وغيرهم.

الرابعة: إنّ هذه المنشورات منها ما يختص بالبناء العقائدي وغسيل المخ ومنها ما يتعلّق بخصوم الوهّابيّة من المذاهب والتيّارات الأُخرى.

الخامسة: إنّ هذه المنشورات تتحدّث بلسان أهل السُنّة وتدّعي تمثيلهم. .

ولمّا كانت الوهابية ذات جذور ضعيفة، وفي حاجة إلى الدعم الشرعي، فقد عملت على التلحّف بالسلف، وادعاء السير على نهجهم والالتزام بعقائدهم.

وحتّى تنطلي هذه الحيلة على المسلمين ولا يكتشفوا لعبة الوهّابيّة وتستّرهم بالسلف، وتصادم عقائدهم وأفكارهم معهم خاصّةً الأحناف والمالكية والشافعية منهم اتّجه الوهّابيّون إلى تزوير التاريخ وتضخيم الحنابلة والتلحّف بفكرة الإجماع.

ومن خلال هذا البحث سوف يتبيّن لنا أنّ منشورات الوهّابييّن إنّما هي تنطق بلسان بعض الحنابلة القدامى، ولا صلة لها بالسلف.

وسوف يرى القارئ أنّ فكرة تحريم التوسّل وزيارة القبور وشدّ الرّحال إليها، التي رفع شعارها الوهّابيّون واعتبروها من صور الشرك والضلال، لم يقل بها أحد من السلف.

والعقل الوهّابي إنّما هو عقل جامد متحجِّر أوغل في الروايات الضعيفة محل التنازع وتعصّب لها، وشغل المسلمين بتوافه الأمور وقشور الدين، وأهمل القضايا الكبرى التي يرتبط بها مصير الإسلام والمسلمين، وهذا وحده دليل كافٍ على مدى ما يشكّله هذا العقل من خطرٍ على الإسلام والمسلمين.

وما ينبغي الإشارة له هنا هو أنّ ثقافة الإرهاب التي سوف نستعرضها هنا من خلال منشورات الوهّابييّن لا تنح-صر فقط في كتب الحنابلة القدامى والوهّابيّين

ص:7

المعاصرين وإنّما تمتد إلى كتب التراث المتطرّفة الأُخرى التي عمل الوهّابيّون على استثمارها لدعم أفكارهم الإرهابية.

وسوف يلحظ القارئ من خلال استعراضنا لمنشورات الوهّابيّين مدى تلاعبهم بالنصوص، ومحاولتهم استغفال المسلمين واللعب بعقولهم، ومحاولة تصوير أنفسهم كمخلّصين للأُمّة من الشرك والضلال.

ولا ندّعي أنّنا قد أحطنا في دائرة هذا الكتاب بجميع منشورات الوهّابيّين ونصوصهم و فتاواهم التي أسهمت في توطين ثقافة الإرهاب بين المسلمين اليوم، وما استعرضناه هنا هو مجرّد نماذج من منشوراتهم تكشف حقيقة مذهبهم و مدى ما يشكّلونه من خطرٍ على الإسلام والمسلمين.

ومن الله التوفيق والسداد.

صالح الورداني

salehalwerdani@yahoo. com

www. weghah. com

ص:8

ص:9

تاريخ الإرهاب الوهّابي دماء وغنائم الدم الدم والهدم الهدم

اشارة

كانت تلك الجملة على لسان محمّد بن عبد الوهاب حين وضع يده في يد ابن سعود هي بداية الإرهاب الوهّابي في جزيرة العرب، ذلك الإرهاب الذي شمل قطاعات كثيرة، ولم يستثن أحداً من الفقهاء المخالفين أو الأشراف من ذرّيّة الرسول (ص) ، أو القوى الأُخرى المعارضة لابن سعود، التي وقفت في طريق طموحاته وبسط نفوذه حتّى شمل هذا الإرهاب العامّة في النهاية.

اتّخذ ابن سعود دعوة محمّد بن عبدالوهاب ستاراً لتحقيق نفوذه وأطماعه والسيطرة على جزيرة العرب.

واتّخذ ابن عبد الوهاب ابن سعود دعامةً ونصيراً لفرض أفكاره ومذهبه المعوج على المسلمين في جزيرة العرب بقوّة السيف.

ولمّا كانت الوهّابيّة محل رفض واستهجان الفقهاء والمسلمين في جزيرة العرب؛ كان السيف هو الحدّ الفاصل ووسيلة الحسم.

من هنا جرت الدماء كالأنهار في كلّ مكان بسيوف آل سعود وبمباركة ابن عبدالوهاب.

ص:10

والدماء هنا هي دماء المسلمين التي عصمها الله في كتابه، وأكّد الرسول (ص) عصمتها بصريح أقواله.

وكون الوهّابيّة اعتمدت على سيوف آل سعود هو دليل قاطع على بطلانها وزيفها.

ولولا آل سعود ما كان للوهّابيّة أن تبقى وأن تستمر.

والدعوة الحقّة إنّما تستمد قوّتها واستمرارها من ذاتها لا من الحكّام.

الدعوة الحقّة تستمر وتبقى دون عون من أحد.

الحكّام لهم مصالحهم ومآربهم التي يجب أن تخضع لها الدعوة.

والدعوة التي تسير في ركاب الحكّام إنّما تخضع لمصالحهم وتدعم نفوذهم وتضفي المشروعيّة على أهدافهم وممارساتهم وسياساتهم.

وهو ما انطبق على محمّد بن عبد الوهاب وعلى دعوته التي لفظها الجميع، حتّى والده الفقيه الحنبلي وأشقّائه؛ ممّا دفع به إلى الفرار من جزيرة العرب خوفاً على نفسه، ثمّ العودة إليها مرّةً أ ُخرى ليلقي بنفسه في أحضان آل سعود الذين وجدوا في دعوته ضالتهم المنشودة.

دماء وغنائم

ومن أجل السيطرة على جزيرة العرب استخدم السعوديّون الوهّابيّين للانتقام من خصومهم ومَن يعترضون سبيلهم، فوقعت الكثير من المجازر الوحشيّة، ودُمّرت العديد من القرى، وأُحرقت العديد من المكتبات، وهُدّمت الأضرحة والمقامات التي كانوا يجدونها في طريقهم.

وفي عام ١٢١٧ه- هاجم الوهّابيون مدينة الطائف، بعد حصارٍ طويل، وقتلوا الكثير من أهلها، ثمّ نهبوها بعد أن هدموا الكثير من بيوتاتها ومحلاّتها ومقابر الصحابة التي كانت فيها بالإضافة إلى إحراق الكتب التي وجدوها في طريقهم ولم يبقوا منها إلاّ القرآن وكتب الحديث.

ص:11

يقول المؤرِّخ الوهّابي عثمان بن بشر: وانهزم الشريف غالب - شريف مكّة - إلى مكّة وترك الطائف فدخله عثمان وهو أحد الفارّين من جيش غالب ومَن معه من الجموع، وفتحه الله لهم بغير قتال، وقُتل من أهله في الأسواق والبيوت نحو مائتين، وأخذوا من الأموال من البلد أثماناً وأمتاعاً وسلاحاً وقماشاً وشيئاً من الجواهر والسلع المثمّنة ما لا يحيط به الحصر ولا يدركه العد، وضبط عثمان البلد وسلّمت له جميع نواحيه وبواديه، وجمعوا الأخماس وبعثوها لعبد العزيز فقرّر ولاية عثمان للطائف واستعمله عليه وعلى الحجاز.(1)

وفي عام ١٢١٨ه- غزا الوهّابيون مكّة المكرّمة وقتلوا الكثير من الفقهاء المخالفين لهم والأشراف والعامّة بعد حصارٍ طويل اضطرّ فيه أهلها إلى أكل القطط والكلاب، وفرّ مَن بقي على قيد الحياة منهم.

وفي عام ١٢٢٠ه- اقتحم الوهّابيون مدينة الرسول (ص) بعد حصارٍ استمرّ أكثرمن عام ونصف واستولوا على محتويات المسجد النبوي من نفائس وفرش وخلافه، وتمّ منع المسلمين من زيارة قبر الرسول (ص) .

وفي عام ١٢44ه- قام الوهّابيون بهدم مقابر أهل البيت: في البقيع والمدينة.

ولم تنحصر جرائم الوهّابيين وإرهابهم في محيط جزيرة العرب، بل تجاوزت تلك الجرائم حدود هذه الجزيرة لتمتد إلى بلاد العراق والشام.

وفي عام ١٢١6ه- قامت مجموعات من البدو الوهّابيين بغزو مدينة كربلاء وخرّبوا مرقد الحسين (ع) ، وأشعلوا النيران بالمدينة، وقتلوا المئات من النساء والشيوخ والأطفال، ونهبوا المساجد والبيوت.

يقول المؤرِّخ الوهّابي مفتخراً بحادثة كربلاء: ثمّ دخلت السنة السادسة عشرة بعد المائتين والألف، وفيها سار سعود بن عبد العزيز بالجيوش المنصورة والخيل العتاق المشهورة من جميع حاضر نجد وباديها والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك وقصد


1- انظر عنوان المجد في أخبار نجد.

ص:12

أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين، وذلك في ذي القعدة، فحشد عليها المسلمون وتسوّروا جدرانها ودخلوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا القبّة الموضوعة - بزعم مَن اعتقد فيها - على قبر الحسين، وأخذوا ما في القبّة وما حولها، وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر، وكانت مرصوفة بالزمرّد والياقوت والجواهر، وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من أنواع الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضّة والمصاحف الثّمينة، وغير ذلك ما يعجز عنه الحصر، ولم يلبثوا فيها إلاّ ضحوة وخرجوا منها قبل الظهر بجميع تلك الأموال، وقُتل من أهلها قريب من ألف، ثمّ إنّ ابن سعود ارتحل منها على الماء المعروف بالأبيض فجمع الغنائم وعزل أخماسها وقسّم باقيها في المسلمين غنيمة للراجل سهم وللفارس سهمان، ثمّ ارتحل قافلاً إلى وطنه. (1)

ويلاحظ من خلال كلام هذا المؤرِّخ أنّه أطلق على الوهّابيين لفظ المسلمين وهو ما يعني الحكم بكفر مَن دونهم، الأمر الذي برّر هذه الغزوة المباركة بالجيوش المنصورة حسب تعبيره.

وما يؤكّد هذا التصوّر أنّ ابن سعود وعناصره استباحوا المدينة فقتلوا وأحرقوا وسلبوا دون أن يردعهم وازع من الدين أو الخلق، معتبراً أنّ ذلك حقّ شرعي له ولأتباعه الموحّدين في مواجهة المشركين من المسلمين المخالفين.

وكون كلّ ذلك عمل يوم واحد فقط أمر يدلّ على همجيّة الوهّابيين وبشاعتهم ووحشيّتهم ممّا يدل على أنّهم لا يحملون شيئاً من خُلُق الإسلام وآدابه.

وقيام ابن سعود بتقسيم الغنائم على أتباعه يعني أنّ حربه كانت جهاداً في سبيل الله، وغزوته تُعدّ امتداداً للغزوات الأُولى التي أطلق عليها المؤرِّخون اسم الفتوحات.

والغزوات الأُولى لم تكن سوى غزوات سياسية لا مبرِّر لها شرعاً، ولا يوجد ما يدعمها من نصوص القرآن سوى بعض الروايات المنسوبة للرسول (ص) والتي تفوح


1- انظر عنوان المجد في أخبار نجد.

ص:13

منها رائحة السياسة.

وكذلك غزوات ابن عبد الوهاب لم تقم على أيّ أساسٍ شرعي، وإنّما قامت على أساس مذهبي معوج وبسيوف آل سعود الطامعين في السيطرة على جزيرة العرب.

وفي عام ١٢٢5ه- زحف الوهّابيون على حوران وقتلوا الكثير من المسلمين، ثمّ سبوا النساء والأطفال، وأحرقوا المحاصيل والبيوت.

وجرائم الوهّابيين هذه تضعهم في صفٍّ واحدٍ مع الخوارج والقرامطة، وما فعلوه بالحرم المكّي حين دخلوه لا يختلف كثيراً عمّا فعله القرامطة حين دخلوه.

والحق أنّ الوهّابيين تنطبق عليهم صفات الخوارج انطباقاً كاملاً من حيث طبيعتهم وتركيبتهم الشخصية.

فهم من البدو والأعراب الذين يتميّزون بغلظة القلوب وقسوتها، ومن حيث قدراتهم العقلية والفكرية الضعيفة، ومن حيث مواقفهم وأفعالهم.

والنبؤات الواردة عن الرسول (ص) المتعلِّقة بالخوارج وصفتهم وصفاً دقيقاً، ومن أهمّ هذه الصفات أنّهم: غلاظ القلوب، ضعاف العقول، يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، محلقوا الرؤوس يتعصّبون للقشور وينتص-رون لتوافه الأمور.(1)

وقد نبّأ الرسول أيضاً بأنّ نجد موطن ابن عبد الوهاب وآل سعود يخرج منها قرن الشيطان، وهو إشارة إلى سوء حالها وفساد أهلها وانعدام الخير فيها.(2)

ونقل الشيخ أحمد زيني دحلان عن مفتي زبيد عبد الرحمن الأهدل قوله: لا حاجة


1- انظر البخاري كتاب الأنبياء، ومسلم كتاب الزكاة، وأحاديث الخوارج مشهورة في كتب السنن، وسوف تأتي الإشارة لبعضها.
2- رواه البخاري، وقد قام الوهّابيون مؤخّراً بنشر كُتيّب صغير يشرح هذا الحديث ويحاول صرفه عن معناه الظاهر.

ص:14

إلى التأليف في الردّ على الوهّابيّة، بل يكفي للردّ عليهم قوله (ص) : سيماهم التحليق، فإنّه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم.(1)

ومثل هذه الجرائم بالإضافة إلى غاراتهم الدائمة على قوافل الحجّاج والمسافرين والتجّار والاستيلاء عليها؛ هو ما دفع بالخليفة العثماني إلى الاستنجاد بالقوّات المصرية التي قامت بغزو جزيرة العرب لتأديب البدو الوهّابيين وطردتهم من مكّة والمدينة ودخلت عاصمتهم الدرعية وشرّدتهم في الصحراء، وقُبض على عبدالعزيز بن سعود وأُرسل إلى الآستانة حيث تمّ تنفيذ حكم الإعدام فيه هناك، كما تمّ إعدام اثنين من أبناء محمّد بن عبد الوهاب والعديد من البدو الوهّابيين في أماكن مختلفة علناً، وأُسقطت دولة آل سعود الأُولى.

إلاّ أنّ الوهّابيين عادوا إلى الظهور من جديد تحت مظلّة آل سعود أيضاً، وبدعم من الإنجليز الذين برزوا في بلاد المسلمين حين ضعفت الدولة العثمانية وبدأت في الانهيار.

شهادات

وسوف نستعرض هنا بعض الشهادات لفقهاء عاصروا ابن عبد الوهاب وشهدوا جرائمه، وكشفوا جهله وأقرّوا بمنكراته، وآخرين عاصروا أتباعه المجرمين.

يقول صديق القنوجي في ترجمته لمحمّد بن إسماعيل الأمير الصنعاني اليمني المحدِّث الأُصولي الشهير صاحب المصنّفات العديدة التي تجاوزت المائة مؤلَّف والمتوفى عام ١١٨٢ه-: خرج في زمانه ابن عبد الوهاب النجدي الذي تُنسب إليه طائفة الوهّابيّة، فنظم قصيدة في ذلك وأرسلها إليه وأثنى على طريقته، ثمّ لمّا سمع أنّه يكفّر أهل الأرض ويسفك الدماء رجع عمّا كان قد قاله عنه.


1- انظر فتنة الوهّابيّة.

ص:15

ونقل أيضاً عن الشيخ محمّد بن ناصر الحازمي قوله عن ابن عبد الوهاب: أشهر ما ينكر عليه خصلتان:

الأُولى: تكفير أهل الأرض بمجرّد تلفيقات لا دليل لها.

الثانية: التجاري على سفك الدم المعصوم بلا حجّة ولا إقامة برهان.

ونقل أيضاً وصف الشيخ عبد الرحمن النجدي، وإنكاره ما عليه من سفك الدماء ونهبه الأموال، وتجاريه على قتل النفس ولو بالاغتيال، وتكفيره الأُمّة المحمّدية في جميع الأقطار.

قال القنوجي: فبقى معنا تردّد فيما نقله الشيخ عبد الرحمن حتّى وصل الشيخ مربد ابن أحمد التميمي، وكان من تلاميذ ابن عبد الوهاب، ووصل بعض رسائله التي جمعها في وجه تكفير أهل الإيمان وقتلهم ونهبهم، وحقّق لنا أحواله وأفعاله وأقواله فرأينا أحواله أحوال رجل عرف من الشريعة شطراً، ولم يمعن النظر ولا قرأ على مَن يهديه نهج الهداية، ويدلّه على العلوم النافعة ويفقّهه فيها، بل طالع بعضاً من مؤلّفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم وقلّدهما من غير إتقان مع أنّهما يحرّمان التقليد.(1)

وقال محمّد بن عمر: كما وقع في زماننا في أتباع محمّد بن عبد الوهاب، الذين خرجوا من نجد وتغلّبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة لكنّ اعتقادهم أنّهم هم المسلمون، وأنّ مَن خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنّة وقتل علمائهم، حتّى كسر الله شوكتهم، وخرّب ديارهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ١٢٣٣ه.(2)

وقال زيني دحلان: وكان ابن عبد الوهاب يقول: إنّي أدعوكم إلى التوحيد وترك الشرك بالله، وجميع ما هو تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق، ومَن قتل مش-ركاً فله الجنّة.(3)


1- انظر أبجد العلوم في أحوال العلوم، ط بيروت، والقنوجي توفّي في عام ١٣٠٧ ه-.
2- انظر رسائل ابن عابدين.
3- انظر الدرر السّنيّة في الردّ على الوهّابيّة، ونقل عن ابن عبد الوهاب قوله: إنّي أتيتكم بدين جديد.

ص:16

وكما هو واضح فإنّ المشرك الذي يقصده ابن عبد الوهاب ويطلب قتله هو المسلم المخالِف له المعارِض لأفكاره، وليس المشرك المعادي للإسلام من أصحاب الملل الأُخرى.

وقال: إنّ الوهّابيّة لمّا دخلوا الطائف قتلوا الناس قتلاً عامّاً، واستوعبوا الكبير والصغير، والمأمور والأمير، والشريف والوضيع، وصاروا يذبحون على صدر الأُمّ الطفل الرضيع، ويقتلون الناس في البيوت والحوانيت، ووجدوا جماعة ً يتدارسون القرآن فقتلوهم عن آخرهم، ثمّ خرجوا إلى المساجد يقتلون الرجل في المسجد وهو راكع أو ساجد، ونهبوا النقود والأموال، وصاروا يدوسون بأقدامهم المصاحف ونسخ البخاري ومسلم، وبقيّة كتب الحديث والفقه والنحو بعد أن نشروها في الأزقّة والبطائح، وأخذوا أموال المسلمين واقتسموها كما تقسم غنائم الكفّار.(1)

ونقل عن الشيخ علوي الحدّاد قوله عن ابن عبد الوهاب: والحاصل أنّ المحقّق عندنا من أقواله وأفعاله ما يوجب خروجه عن القواعد الإسلامية باستحلاله أموراً مجمعاً على تحريمها، معلومة من الدين بالض-رورة، مع تنقيصه الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، وتنقيصهم كفر بإجماع الأئمّة الأربعة(2)

وقال مفتي الحنابلة محمّد بن حميد النجدي المتوفّى عام ١٢٩5ه عن ابن عبدالوهاب: فإنّه كان إذا باينه أحد وردّ عليه ولم يقدر على قتله مجاهرة يُرسل له مَن يغتاله في فراشه، أو في السوق ليلاً؛ لقوله بتكفير مَن خالفه واستحلاله.(3)

وقال الشيخ زيني دحلان: وكانت ولادة محمّد بن عبد الوهاب سنة ١١١١هوعاش عمراً طويلاً حتّى بلغ عمره اثنين وتسعين سنة، ولمّا أراد إظهار ما زيّنه له الشيطان من البدعة والضلالة انتقل من المدينة ورحل إلى المشرق، وصار يدعو الناس


1- انظر خلاصة الكلام في تاريخ أُمراء البلد الحرام.
2- نقل هذا الكلام في الدرر السّنيّة من كتاب جلاء الظلام في الرد على النجدي الذي أضلّ العوام.
3- انظر السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة.

ص:17

إلى التوحيد وترك الشرك، ويزخرف لهم القول ويفهمهم أنّ ما عليه الناس كلّه شرك وضلال، ويُظهر لهم عقيدته شيئاً فشيئاً، فتبعه كثير من غوغاء الناس وعوام البوادي، وكان ابتداء ظهور أمره في المشرق سنة ١١4٣ه-، واشتهر أمره بعد الخمسين وألف ومائة بنجد وقراها، فتبعه وقام بنصرته أمير الدرعية محمّد بن سعود، وجعل ذلك وسيلة إلى اتّساع ملكه ونفاذ أمره، فحمل أهل الدرعية على متابعة محمّد بن عبدالوهاب فيما يقول، فتبعه أهل الدرعية وما حولها، وما زال يطيعه على ذلك كثير من أحياء العرب حي بعد حي، وقبيلة بعد قبيلة حتّى قوي أمره فخافته البادية، فكان يقول لهم: إنّما أدعوكم إلى التوحيد وترك الشرك بالله، ويزيّن لهم القول وهم بوادي في غاية الجهل، لا يعرفون شيئاً من أمور الدين، فاستحسنوا ما جاءهم به.

وكان يقول لهم: إنّي أدعوكم إلى الدين، وجميع ما هو تحت السبع الطباق مش-رك على الإطلاق، ومَن قتل مشركاً فله الجنّة، فتابعوه، وصارت نفوسهم بهذا القول مطمئنّة، فكان محمّد بن عبد الوهاب بينهم كالنبيّ في أُمّته، لا يتركون شيئاً ممّا يقول، ولا يفعلون شيئاً إلاّ بأمره، ويعظّمونه غاية التعظيم، وإذا قتلوا إنساناً أخذوا ماله وأعطوا الأمير محمّد بن سعود الخمس واقتسموا الباقي.

وكان أهل الحرمين قد سمعوا بظهورهم في نجد، وإفسادهم عقائد البوادي، ولم يعرفوا حقيقة ذلك، فلمّا وصل علماؤهم مكّة؛ أمر الش-ريف مسعود أن يناظر علماء الحرمين العلماء الذين بعثوهم، فناظروهم فوجدوهم ضحكة ومسخرة كحمرٍ مستنفرة فرّت من قسورة، ونظروا إلى عقائدهم فإذا هي مشتملة على كثيرٍ من المنكرات، فبعد أن أقاموا عليهم الحجّة والبرهان، أمر الشريف مسعود قاضي الش-رع أن يكتب حجّة بكفرهم الظاهر ليعلم به الأوّل والآخر، وأمر بسجن أُولئك الملاحدة الأنذال، ووضعهم في السلاسل والأغلال، فقبض منهم جماعة وسجنهم وفرّ الباقون.

وأشار دحلان إلى المذابح التي كان يرتكبها الوهّابيون في البلاد التي يستولون

ص:18

عليها حتّى أنّهم كانوا يذبحون الصغير على صدر أمّه، ويسبون النساء، وفعلوا أشياء يطول الكلام بذكرها.

وهذه بليّة ابتلى الله بها عباده، وهي فتنة من أعظم الفتن التي ظهرت في الإسلام، طاشت من بلاياها العقول، وحار فيها أرباب العقول، ولبسوا فيها على الأغبياء ببعض الأشياء التي توهمهم أنّهم قائمون بأمر الدين.

وكانوا إذا أراد أحد أن يتبعهم على دينهم، طوعاً أو كرهاً، يأمرونه بالإتيان بالشهادتين أوّلاً، ثمّ يقولون له اشهد على نفسك أنّك كنت كافراً، واشهد على والديك أنّهما ماتا كافرين، واشهد على فلان وفلان أنّه كان كافراً، ويسمّون له جماعةً من أكابر العلماء الماضين، فإن شهد بذلك قبلوه وإلاّ أمروا بقتله.

وكانوا يصرِّحون بتكفير الأُمّة منذ ستمائة سنة، وأوّل مَن صرّح بذلك محمّد بن عبد الوهاب فتبعوه على ذلك.(1)

الإرهاب المعاصر

ومن الطبيعي لحركة تكفّر المسلمين، وتحتكر الإسلام، ألاّ تتوقّف عن إرهابهم وسفك دمائهم في كلِّ زمانٍ ومكان، وهو واقع الوهّابيّة التي لم يرتبط إرهابها وتنتهي جرائمها بزمان ومكان ظهورها، إنّما استمرّت في جرائمها وإرهابها حتّى اليوم؛ لتطال المسلمين وغير المسلمين في ربوع العالم، وتتسبّب في تشويه الإسلام وفتح الأبواب على مصارعها لخصومه لينالوا منه.

وقد بدأ الإرهاب الوهّابي المعاصر بحادثة الحرم المكّي عام ١4٠٠ه- والتي استعانت فيها قوّات الوهّابييّن بالمشركين من الفرنسيين الصليبيين، وغيرهم، ودنّست بهم أرض الحرم من أجل إخراج عناصر جماعة جهيمان المنشقّة - عن الوهّابييّن - المعتصمين داخله.


1- انظر الدرر السنية في الردّ على الوهّابيّة.

ص:19

واستخدم الوهّابيّون وأعوانهم من المشركين الصليبيين المدافع والقنابل والبنادق، ثمّ أطلقوا المياه في الحرم بعد إطلاق التيّار الكهربائي فيها؛ ممّا أدّى إلى مص-رع العديد من عناصر جهيمان ومعهم الكثير من الحجّاج الآمنين، وهم بفعلتهم هذه قد كرّروا فعل الحَجّاج بن يوسف الثقفي حين حاصر الحرم المكّي لإخراج ابن الزبير وقام بضرب الكعبة بالمنجنيق.

وارتكب الوهّابيّون مجزرةً أُخرى أكثر بشاعةً حين فتحوا نيرانهم على الحُجّاج في موسم حج عام ١4٠٨ه.

وركّزوا نيرانهم على الإيرانيين الذين كانوا يهتفون ضدّ أمريكا والصهيونية؛ ممّا أدّى لمصرع أكثر من ثلاثمائة حاج من الإيرانيين وغيرهم.

والوهّابيّون منذ أن استولوا على الحرمين وهم يسعون بشتّى السبل والوسائل لإفراغ الحج من مضمونه، وإرهاب الحجيج ليؤدّوا الشعائر على طريقتهم الجافّة الفارغة من المحتوى الروحي، وقد حاولوا مراراً منع الحجاج من زيارة قبر الرسول (ص) ، والتضييق عليهم؛ كي يعودوا إلى ديارهم دون أن يقوموا بزيارة الأماكن والمواقع التي ارتبطت بسيرته.

وقد حاولوا من قبل هدم القُبّة التي تعلوا قبر الرسول، وتوقّفوا بعد أن سقط العديد منهم من فوق القُبّة ولقوا حتفهم.

ومن جرائمهم المعاصرة: محاولاتهم الدائمة لإبادة الأقلّيّة الشيعية في جزيرة العرب؛ حيث قتلوا العديد من علمائهم وشبّانهم، وهدموا العديد من مساجدهم.

واستمرّ فقهاؤهم على هذا التحريض بإصدار العديد من الفتاوى التي تنادي بإخراجهم من جزيرة العرب، وعدم جواز أكل ذبائحهم ومناكحتهم.(1)


1- انظر فتاوى ابن جبرين، وانظر خطبة سلمان فهد العودة التي كان موضوعها قدر الله في هذه الجزيرة التي حثّ فيها على طرد الشيعة الرافضة من جزيرة العرب، وانظر فتاوى ابن باز وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث.

ص:20

وللوهّابيين دور كبير وملموس في دعم الفِرَق الإرهابية في أفغانستان، ذلك الدعم الذي أدّى إلى انتشار الإرهاب في ربوع العالم باسم الإسلام، فطالبان، والقاعدة، وجند الصحابة، وعسكر محمّد، وجند الله، وغيرها من الفرق التي تنشر الإرهاب في أفغانستان وباكستان والعراق وإيران وأوربا، وغيرها من البقاع، باسم الجهاد في سبيل الله هي من تفريخ الوهّابيّة وصناعتها.

وقد طالت نيران هذه الفِرَق الوهّابيّة، وانقلب السحرُ على الساحر؛ حيث برزت في جزيرة العرب نماذج من الفِرَق الإرهابية التي جعلت من الوهّابيين أعداء لها بسبب مواقفهم المخزية، وتحالفاتهم المفضوحة مع أعداء الإسلام، وألقت عليهم بأحكام التكفير التي كانوا يلقونها على خصومهم.(1)

والإرهاب الوهّابي على مستوى الماضي والحاضر، إنّما هو موجّه ضدّ المسلمين، ولا صلة له بأعداء الإسلام، وليس في تاريخ الوهّابيّين ما يُشير - من قريب أو بعيد - إلى أيّ دور لهم في مواجهتهم.

ولم نسمع يوماً عن وهّابيٍّ حمل السلاح ليجاهد الصهاينة في فلسطين، وإنّما سمعنا ورأينا المؤسّسات الوهّابيّة ورموز الوهّابيين يعلنون حرباً شعواء على مجاهدي حزب الله في لبنان وعلى زعيمهم مشكّكين في جهادهم ومعتقداتهم.

ويعلنون الحرب أيضاً على إيران القلعة الصامدة في وجه الغرب والصهيونية، بينما يصمتون تماماً عن آل سعود وجرائمهم وممارساتهم وعمالتهم لأعداء الإسلام الواضحة وضوح الشمس. .

بل هم الذين أجازوا - صراحةً - الاستعانة بقوّات المشركين من أجل الحفاظ على نظام آل سعود حين هدّدته حركة جهيمان، وحين هدّده نظام صدّام حسين بعد غزوه الكويت.


1- انظر المنشورات التي ترد على التكفير والمكفّرين التي تصدر عن الوهّابيين ما بين الحين والآخر، وانظر لنا كتاب الحق والحقيقة فصل: المتطرّفون.

ص:21

وهذه الفرق الوهّابيّة التي تنشر الإرهاب في كلّ مكانٍ اليوم إلى مَن توجّه أسلحتها وقنابلها؟

هل توجّهها لأعداء الإسلام والصهاينة في فلسطين، أم توجّهها للمسلمين والآمنين والمسالمين من الناس بعيداً عن فلسطين وبعيداً عن آل سعود أيضاً؟

ص:22

ص:23

رموز الإرهاب الوهّابي

اعتمد الوهّابيّون العديد من الرموز على مستوى الماضي والحاضر، وكفروا بالكثير من رموز المسلمين وعلى رأسهم رموز أهل السنّة؛ لكونهم يتبنّون أُطروحات وأفكار تتناقض مع أفكارهم ومذهبهم، وشأنهم في ذلك شأن الحنابلة الذين تعصّبوا للرواية وأقوال الرجال، ونبذوا المخالفين لهم، بل اتّهموهم في دينهم وعملوا على تشويههم. .

على مستوى الماضي اعتمد الوهّابيّون: ابن حنبل، وابن بطّة، واللالكائي، وابن تيمية، وابن القيّم، والذهبي، وابن كثير؛ وكفروا بمالك، وأبي حنيفة، والشافعي، والليث، والأشعري، والماتريدي، والأوزاعي، وغيرهم من أصحاب المذاهب والتيّارات الأُخرى المخالفة لهم، أو التي لا تخدم أفكارهم وتدعم مذهبهم.

وهم قد يضطرّوا في بعض الأحيان إلى الاستعانة برموز المذاهب الأُخرى إذا وجدوا لديهم بعض الآراء التي تخدمهم في مواجهة خصومهم.

وعلى مستوى الحاضر اعتمدوا فقهاء السعودية، وعلى رأسهم: ابن باز وتلميذه ابن عثيمين، وابن بابطين، وابن جبرين، وابن فوزان، والمدخلي، وغيرهم.

وفي الوقت الذي يعلن فيه الوهّابيّون كفرهم بالمذاهب، ودعوتهم إلى التلقّي من الكتاب والسنّة مباشرةً، يعلنون تعصّبهم وانحيازهم الكامل لابن حنبل وتلاميذه،

ص:24

وابن تيمية وتلاميذه، وابن عبد الوهاب وأولاده؛ ليقدّموا لنا الدليل القاطع والبرهان الساطع على مذهبيّتهم.

وسوف نستعرض من خلال هذا الباب نماذج من الرموز الإرهابية، على مستوى الماضي والحاضر، التي استعان بها الوهّابيّون وتحصّنوا بها من أجل إضفاء المش-روعيّة على أفكارهم، ونشر التطرّف والإرهاب وسط المسلمين بواسطتهم.

ص:25

ابن حنبل التأسيس للإرهاب

اشارة

تتلمذ أحمد بن حنبل على يد كثير من الفقهاء في عص-ره، ودرس الفقه والش-ريعة واللغة والحديث، ثمّ طلّق كلّ هذه العلوم وتفرّغ للحديث والأثر، وجعله موضع اهتمامه، وبنى على أساسه عقيدته وتصوّره ومواقفه؛ طارحاً العقل والاجتهاد جانباً.

من هنا فإنّ الطبري المؤرِّخ والمفسِّر والفقيه لم يعدّه في زمرة الفقهاء، بل عدّه في زمرة المحدِّثين من أهل الرواية حين صنّف كتابه (اختلاف الفقهاء) وأغفل ذكره ممّا أدّى إلى ثورة الحنابلة عليه وقذفوه بالمحابر، وأهاجوا عليه العامّة واتّهموه بالرفض والتشيّع، وجعلوا يرمون بيته بالأحجار؛ ممّا دفع بالعسس (الشرطة) إلى التدخّل لحسم الأمر.(1)

من الاعتدال إلى التطرّف

استمرّ ابن حنبل يدرس الرواية ويحفظها وينقلها ويبثّها بين الناس دون أن يعترض سبيله أحد، ولم يكن يصطدم بأحد.


1- توفّي الطبري عام ٣١٠ه-، وحاصر الحنابلة بيته، ورفضوا إخراج نعشه منه ليدفن في مقابر المسلمين فدُفن بجوار بيته؛ انظر سيرته في كتب التاريخ والتراجم.

ص:26

كانت الرواية هي حياته وشغله الشاغل، وحيثما توجّهه الرواية كان يتوجّه؛ حتّى أنّه اعتبر تبنّي الرواية الضعيفة والأخذ بها خيراً من استخدام العقل واللجوء للرأي.

وتشكّلت شخصيّته وعقيدته على أساس هذه الروايات التي كانت سلاحه الأوّل والأخير في مواجهة المخالفين.

وعندما تبنّى المأمون نهج المعتزلة في نهاية حكمه خرج ابن حنبل رافعاً لواء المعارضة لفكر المعتزلة الذي يرجّح العقل على الرواية، معتبراً أنّ هذا الاتّجاه يشكّل خطورةً على عقيدة السلف وعلى الرواية.

وابن حنبل كان يشعر على الدوام بخطورة المعتزلة والاتّجاهات الأُخرى على طرحه وعلى الروايات، إلاّ أنّه لم يظهر العداء في مواجهة هذه الاتّجاهات لضعفها أمام تيّار الرواية الذي كان سائداً آنذاك، بالإضافة إلى تيّار الفقهاء المدعوم من قِبَل الحكّام.

ولقد شكّل حدث تبنّي المأمون نهج المعتزلة انقلاباً دينياً في نظر ابن حنبل، نقل المعتزلة من طور الاستضعاف إلى طور التمكّن، وفتح الأبواب أمامهم ليسودوا على حساب أهل السنّة، ويهدموا صرح الرواية الذي أسهم فقهاء السلطة في تأسيسه منذ عشرات السنين.

وهكذا أعلن ابن حنبل رفضه لفكرة خلق القرآن، التي يتبنّاها الشيعة والمعتزلة، وشكّل هذا الرفض تحدّياً لسلطة المأمون الذي أمر بالقبض عليه، فأُحض-ر مكبّلاً بالأغلال إليه في طرسوس، لكنّ القدر أنقذه من يد المأمون؛ إذ جاءه الخبر بوفاته وهو في الطريق إليه، فأُعيد إلى بغداد ووُضع في السجن، ثمّ مَثُلَ أمام المعتصم الخليفة الجديد وجرت له محاكمة.

وأصرّ ابن حنبل على موقفه برفض القول بخلق القرآن فضُ-رب بشدّة وأُعيد إلى

ص:27

السجن وأُخلي سبيله بعد حوالي العامين فالتزم العزلة والانقطاع طوال عصر المعتصم وعصر الواثق من بعده. . . . (1)

وعاش ابن حنبل في مطاردات ومضايقات طوال عصر المعتصم والواثق حتّى جاء المتوكّل الذي أعلن تبنّيه لنهج أهل السنّة ورفضه لنهج المعتزلة، وجمع المحدِّثين عام (٢٣4 ه-) للردّ على الجهمية والمعتزلة ونصرة الرواية. (2)

في ظلّ هذا العصر استأنف ابن حنبل نشاطه، واتّخذ المتوكّل من يحيى بن أكثم وزيراً له بدلاً من أحمد بن داود المعتزلي الذي كان وزير المعتصم.

وتقرّب أحمد بن حنبل من المتوكّل الذي دعاه إلى سامراء سنة (٢٣٧ه) لأجل إعطاء ولده المعتز دروساً في الحديث.(3)

نصوص ابن حنبل

عرض الوهّابيّون عقيدة ابن حنبل من خلال منشورين:

الأوّل: الردّ على الجهمية والزنادقة.(4)

الثاني: كتاب السنّة.(5)

وقد طُبع كلاهما في كُتيّب واحد من توزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية تحت عنوان: الردّ على الجهمية والزنادقة، وهو يُهدى ولا يباع.


1- أصدر الوهّابيّون العديد من المنشورات التي تصوّر ابن حنبل كمجاهد كبير وإمام ممتحَن سقط ضحيّة الظلم والطغيان، انظر سيرة المأمون في كتب التاريخ والتراجم، وسوف نعرض لفكرة خلق القرآن من خلال كلام ابن حنبل فيما سيأتي.
2- انظر سيرة المعتصم والواثق والمتوكّل في كتب التاريخ والتراجم.
3- اعتبر الحنابلة المتوكّل ناصر السنّة، ودعوا له على المنابر، وتغاضوا عن جرائمه ومنكراته، وممّا يذكر هنا أنّ المتوكّل قتل على يد ولده، انظر تاريخ الخلفاء للسيوطي وكتب التاريخ الأُخرى.
4- كتب ابن حنبل رسالته هذه وهو في السجن.
5- يُنسب كتاب السنّة لعبد الله بن أحمد بن حنبل أيضاً.

ص:28

وقامت دور النشر الوهّابيّة بطبع كتاب السنّة مستقلاً تحت عنوان: (عقيدة أهل السنّة) .

والوهّابيّون أهل شعارات ومسمّيات يبهرون بها المسلمين، بينما الحقيقة أنّه لا يوجد تحت هذه الشعارات والمسمّيات شيء؛ فهم قد جعلوا هيئةً كبيرةً أسموها: إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد؛ لإيهام المسلمين أنّهم يعبّرون عن الإسلام وينطقون بلسانه.

وهم قد أطلقوا على عقيدة ابن حنبل عقيدة أهل السنّة لإيهام المسلمين أنّهم ينطقون بلسان السلف ويمثّلون إجماع المسلمين.

والحقيقة أنّهم لا يمثّلون سوى قطّاع من الحنابلة وابن تيمية وابن عبد الوهاب، فمن ثمّ هم ينطقون بلسان مذهب من المذاهب لا يمثّل الأُمّة، وليس عليه إجماع المسلمين.

الردّ على الجهمية والزنادقة

اعتمد ابن تيمية، وابن القيّم في كثير من كتبهما على هذا المنشور خاصّةً كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطّلة والجهمية لابن القيّم.

ويحتوي هذا المنشور على الفصول التالية:

- باب في بيان ما ضلّت فيه الزنادقة من متشابه القرآن.

- باب بيان ما فصّل الله بين قوله وخلقه وأمره.

- باب بيان ما أبطل الله أن يكون القرآن إلاّ وحياً وليس بمخلوق.

- باب بيان ما جحدت الجهمية من قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ . (القيامة:٢٣)

باب بيان ما أنكر الجهمي من أن يكون الله قد كلّم موسى.

- باب بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله على العرش.

- باب بيان ما تأوّلت الجهمية من قول الله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ . (المجادلة:٧)

ص:29

- باب بيان ما ذكر الله في القرآن: وَ هُوَ مَعَكُمْ. (الحديد: 4)

- باب ما تأوّلت الجهمية من قول الله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ. (الحديد: ٣)

والجهمية تُنسب للجهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم، وهي محل تركيز الحنابلة وابن تيمية والوهّابيّين من بعدهم.

قال ابن حنبل في شرح السنّة: وقد مضى سلف هذه الأُمّة وعلماء السنّة على أنّ القرآن كلام الله ووحيه ليس بخالق ولا مخلوق، والقول بخلق القرآن ضلالة وبدعة لم يتكلّم بها أحدٌ في عهد الصحابة والتابعين، وخالف الجماعة الجعد بن درهم فقتله خالد بن سعيد القسري بذلك، فخطب بواسط يوم أضحى، وقال: ارجعوا أيّها الناس فضحّوا تقبّل الله منكم، فإنّي مضحٍّ بالجعد بن درهم فإنّه زعم أنّ الله لم يتّخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلّم موسى تكليماً، سبحانه وتعالى عمّا يقول الجعد، ثمّ نزل فذبحه، وكان الجهم بن صفوان صاحب الجهمية أخذ هذا الكلام من الجعد بن درهم.

وقال عنه الأشعري في مقالات الإسلاميين: زعم الجهم أنّ الجنّة والنار تفنيان، وأنكر الرؤيا، وأنكر أن يكون الله على العرش.

وقال ابنُ حزم في الفصل بين الملل والنحل: اختلف الناس في ماهيّة الإيمان؛ فذهب قومٌ إلى أنّ الإيمان إنّما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط، وإن أظهر اليهودية والنصرانية وسائر الكفر بلسانه وعبادته، فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنّة، وهذا قول: أبي محرز الجهم بن صفوان، وأبي الحسن الأشعري البص-ري، وأصحابهما.

واعتبره ابن تيمية إمام الجهمية الجبرية، ومن نفاة الصفات؛ حيث قال عنه في منهاج السنّة: إنّه في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية حدثت بدعة الجهمية منكرة الصفات، وكان أوّل مَن أظهر ذلك الجعد بن درهم، ثمّ ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان، ودخلت فيه بعد ذلك المعتزلة.

ص:30

وقال: ولكن على قول الجمهور مَن قال إنّ الفعل هو المفعول كما يقول الجهم ومَن وافقه كالأشعري، وطائفة من أصحاب مالك والشافعي؟ !(1)

وقال الذهبي في إثبات صفة العلو: وأوّل مَن خالف في ذلك - فيما علمنا - الجهم ابن صفوان؛ فعاب ذلك عليه وعلى أصحابه الأئمة من العلماء، والسادة من الفقهاء، واستعظموا قولهم وبدعتهم.

وقال صاحب الأنساب: وجهم كان من أهل بلخ، وظهرت بدعته بترمذ، وقُتل بمرو في آخر ملك بني أُميّة، والمنكر في عقيدته كثير وأفظعها كان يزعم أنّ الله عزّ وجل لا يوصف بأنّه شيء، ولا بأنّه حيٌّ عالم، وتسميته حيّاً وعالماً وتسمية غيره بذلك توجب التشبيه.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: إنّ الجهمية أرادوا أن ينفوا أنّ الله كلّم موسى، وأن يكون على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلاّ ضُربت أعناقهم.(2)

والآراء التي تُنسب للجهمية - كما اتّضح مما سبق ذكره - ليست خاصّة بهم، وإنّما يقول بها السلف والخلف من أهل السنّة، ويقول بها - أيضاً - المعتزلة وغيرهم من التيّارات المخالفة للوهابيّة. .

والتعلّق بفكرة الجهمية إنّما هو صورة من صور التمويه والتضليل التي مارسها الحنابلة في الماضي، ويمارسها الوهّابيّون في الحاضر، واتّخذوها ذريعةً لإرهاب المخالفين والبطش بهم، كما حدث مع الجعد وتلميذه الجهم.

وحالها أشبه بحال كلمة رافضي، التي كان يطلقها الحنابلة والفقهاء المتعصّبين في الماضي على كلّ مَن كان يرى غير رؤيتهم في مسألة الإمامة وعدالة الصحابة، ولازال يطلقها الوهّابيّون اليوم في مواجهة الشيعة وغيرهم، كما سوف نبيِّن.


1- منهاج السنة، ج ١، ص ٣٠٩ و ج٢، ص ٢٩6.
2- انظر التحفة المدنية في العقائد السلفية.

ص:31

والآراء التي نسبها ابن حنبل للجهمية لا تخرج عن كونها آراء كلامية لا تمس أصل الدين في شيء، لكنّ ابن حنبل ضخّمها واستخدمها كوسيلة تخويف وإرهاب.

تخويف للمسلمين كي لا يخوضوا فيها ويبتعدوا عنها.

وإرهاب للمخالفين الذين يقولوا بمثل هذه المقالة.

وورث ابن تيمية هذا العقل الإرهابي عن ابن حنبل، وورث ابن عبد الوهاب هذا العقل عن ابن تيمية، وورثت الفِرَق والجماعات الوهّابيّة المعاصرة هذا العقل عن ابن عبد الوهّاب.

وأصل الخلاف بين ابن حنبل والآخرين حول هذه المسائل يعود إلى أمرين:

الأوّل: عدم استخدام العقل.

الثاني: الإسراف في استخدام الرواية.

وفيما يتعلّق بالعقل، فقد نبذه ابن حنبل والحنابلة وجرّموا الرأي وأصحابه، على ما سوف نبيِّن.

وفيما يتعلّق بالرواية، فقد غالى فيها ابن حنبل والحنابلة من بعده واعتبروها مصدراً من مصادر الاعتقاد والتشريع، وهو ما ولّد فيما بعد فكرة ربط القرآن بالرواية، أو ما أُطلق عليه: السنّة.

وأزمة ابن حنبل مع المخالفين تكمن في التأويل الذي رفضه، ورفضه الحنابلة من بعده؛ سيراً مع سُنّتهم في تجريم العقل والرأي.

وتجريم العقل والرأي سوف يقود إلى التطرّف حتماً، وسوف يفتح الأبواب على مصارعها لإرهاب المخالفين والبطش بهم، وهو ما ترجمه لنا سلوك الحنابلة في مواجهة خصومهم، الذي رصدته لنا كتب التاريخ.(1)


1- سوف نعرض لصور من فتن الحنابلة فيما سيأتي.

ص:32

وهو ما يترجم لنا السلوك الإرهابي للوهّابيّين بفِرَقهم المختلفة في مواجهة خصومهم على مستوى الحاضر. (1)

والجهمية والتيّارات الأُخرى تبنّت نهج التأويل في مواجهة النصوص الواردة في القرآن والخاصّة بصفات الله تعالى، كذلك الروايات المنسوبة للرسول (ص) ، ورفضوا أن تُؤخذ على ظاهرها أو على وجه الحقيقة.

قال ابن حنبل: إنّ القرآن ليس بمخلوق، وإنّ الله سوف يُرى يوم القيامة، وإنّه فوق العرش في السماء، وإنّ له عيناً ويداً ويضحك ويغار وينزل إلى السماء الدنيا، إلى غير ذلك من الأُمور التي أشارت لها الروايات التي تبنّاها ابن حنبل، وتعصّب لها الحنابلة من بعده، وأخضعوا لها نصوص القرآن، وأرهبوا بها المخالفين.

ورفض الآخرون هذه الروايات، وقالوا بأنّ القرآن مخلوق، وأنّ الله من المستحيل رؤيته، وأنّ جميع الصفات الواردة لله في القرآن والروايات يجب تأويلها وأخذها على وجه المجاز لا الحقيقة، فاليد تعني القدرة، والعين تعني الإحاطة، وكلام الله مع الرُسُل يكون بواسطة، ونزول الله يعني نزول رحمته، وأنّ مشيئة الله منفصلة عن مشيئة العبد، وهو ما ينفي فكرة الجبرية.

واعتبر ابن حنبل والحنابلة من بعده هؤلاء من المبتدعة الضلاّل المنكرين لسنّة رسول الله (ص) ، وحرّضوا المسلمين عليهم، وأفتوا بعدم جواز مناكحتهم والتعامل معهم، بل بوجوب إحراق كتبهم والتنكيل بهم.

قال ابن حنبل: ومَن ادّعى أنّ وجهه - أي: وجه الله تعالى - نفسه فقد ألحد، ومَن غيّر معناه فقد كفر، ويفسد أن تكون يده القوّة والنعمة والتفضّل، ومَن خالف ذلك وجعل العلم لقباً لله عزّ وجلّ ليس تحته معنى محقّق فهذا خروج عن الملّة.(2)


1- انظر لنا كتاب الحق والحقيقة بين الشيعة والسنّة فصل المتطرّفون، وتأمّل الصدامات بين الفِرَق الوهّابيّة في جزيرة العرب وصداماتهم المستمرّة مع المخالفين من أهل السنّة، وتأمّل فِرَق الإرهاب الوهّابي التي ترفع شعار الجهاد، وترتكب الكثير من الحوادث والجرائم البشعة في العراق وأفغانستان وباكستان وإيران، وغيرها من البلدان.
2- انظراعتقاد الإمام المبجّل أحمد بن حنبل.

ص:33

ورسالة الردّ على الجهمية والزنادقة - كما يبدو من عنوانها - رسالة متطرّفة شديدة اللهجة في مواجهة الخصوم أسّست حالة العداء الدائمة للآخر في نفوس الحنابلة، وبرّرت العدوان عليه واستحلاله.

وتلك الحالة توطّنت في نفوس الوهّابيّين أيضاً، الذين ورثوا هذا الفكر المتطرّف عن ابن حنبل، وتبنّوا لغته الإرهابية.

رسالة السنّة

يقول ابن حنبل في مقدّمة هذه الرسالة: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر (أقوال التابعين) ، وأهل السنّة المتمسّكين بعروقها المعروفين بها، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي (ص) إلى يومنا هذا، وأدركت مَن أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمَن خالف شيئاً من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها؛ فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنّة وسبيل الحق.

وكلام ابن حنبل هذا أصبح سُنّةً ثابتة للحنابلة من بعده، التزم بها: ابن تيمية، وابن القيّم، وابن كثير، ومحمّد بن عبد الوهاب، ثمّ الفِرَق التي تولّدت من هذا النهج.

وإضافة مثل هذا الطرح للرسول (ص) ، والصحابة، وأهل العلم فيه نظر، وهو أشبه بالوهم؛ وذلك يعود إلى انغماسهم في الرواية ومغالاتهم فيها، فظنّوا أنّهم يتمسّكون بها كما يتمسّكون بنهج الرسول (ص) .

ومسألة الروايات أو السنّة - كما يسمّونها - كانت ولا زالت محلّ خلافٍ بين المسلمين، فهناك تيّارات نبذتها كليّاً.

وهناك تيّارات تتعامل معها بحذر.

وهناك تيّارات تنادي بإخضاعها للقرآن والعقل.

وليس الحنابلة من بين هؤلاء.

ومن هنا نشأ تطرّفهم وتعصّبهم، والذي يبدو بوضوح من خلال استعراض النصوص التالية من عقيدة ابن حنبل:

ص:34

يقول: والقدر خيره وشرّه، وحلوه ومرّه، وحسنه وسيّئه من الله قضاءً قضاه، وقدراً قدّره عليهم، لا يعدو واحداً منهم مشيئة الله عزّ وجلّ، ولا يجاوز قضاؤه، بل هم كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدّر عليهم لأفعاله، وهو عدل منه عزّ وجلّ.

والزنا والس-رقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والش-رك بالله والمعاصي كلّها بقضاء وقدر من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حجّة، بل لله الحجّة البالغة على خلقه، لا يسأل عمّا يفعل وهم يُسألون.

وهذا الكلام يصطدم بعدل الله سبحانه في خلقه ولطفه بهم، ويناقض فكرة العدل الإلهي التي تبنّتها الاتّجاهات الأُخرى وفي مقدّمتها: الشيعة والمعتزلة، ورفضه لا يعني الاصطدام بالدين وأُصوله، بل الاصطدام بنهج الحنابلة وأفكارهم.

إلاّ أنّ الحنابلة اعتبروا الاصطدام بأفكارهم يعني الاصطدام بالدين، وبرّر لهم هذا الاعتقاد الحكم على مخالفيهم بالزيغ والضلال والزندقة، بل تعدّوا هذا الموقف النظري إلى الموقف الحركي، فقاموا بالاعتداء على خصومهم والتنكيل بهم ما بين الحين والآخر، وقد كثرت حوادثهم في بغداد وغيرها كما سوف نبيّن.

يقول ابنُ حنبل: مَن زعم أنّ السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام وقتل النفس ليس بقضاء وقدر فقد زعم أنّ هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صراح قول المجوسية، وأيّ كفر أوضح من هذا.

والغريب أنّ ابن حنبل ناقض نفسه بقوله: ولا نشهد على أحد من أهل القِبلة أنّه في النار لذنبٍ عمله، ولا لكبيرةٍ أتاها إلاّ أن يكون في ذلك حديث.

وهو بهذا القول قد أدان نفسه، وأصبح لا يجوز له أن يطعن في الآخرين، ويتّهمهم بالمروق من الدين، ما داموا من أهل القِبلة، وما يخالفونه فيه لا يُعدّ من الذنوب أو من الكبائر، وإذا كان من الممكن أن يكون مخالفيه في دائرة الخطأ، فمن الممكن أن يكون

ص:35

هو أيضاً في دائرة هذا الخطأ، إلاّ إذا اعتبر كلامه هو الدين بعينه، وهو مالا يصح قوله، وإن كان يؤكّد ذلك من خلال طرحه.

ويمكن للقارئ أن يتأمّل تقييد ابن حنبل كلامه بقوله: إلاّ أن يكون في ذلك حديث.

ومعنى هذا الكلام أنّه لو وجد رواية صحّت في نظره تقول بكفر أصحاب الذنوب والكبائر لدان بها، وهو بهذا يعلّق أفكاره وعقائده بالروايات، ويميل معها حيث مالت، فلا مجال عنده للاجتهاد، أو استخدام العقل، أو حتّى اللجوء لكتاب الله مادامت هناك رواية.

وتلك هي أزمة الحنابلة.

وأزمة الوهّابيّين وفِرَقهم من بعدهم.

لقد أقاموا ديناً على أساس الروايات، وان خالف هذه الروايات مع القرآن والعقل، لا مجال فيه للحوار والعقل والرحمة والاعتدال والحرية.

أقاموا ديناً معالمه: الانغلاق، والغلظة، والتطرّف، واستحلال الآخر، وتبنّي عقل الماضي.

ثمّ يقول ابن حنبل: والخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، ليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم، ولا نُقرّ لغيرهم بها إلى قيام الساعة. والجهاد ماضٍ قائم مع الأئمّة - الحكّام - برّوا أو فجروا، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والجمعة والعيدان والحج مع السلطان، وإن لم يكونوا بررة عدولاً أتقياء، ودفع العشور والصدقات والخراج والفيء والغنائم إلى الأُمراء، عدلوا فيها أم جاروا، والانقياد إلى مَن ولاه الله أمركم، لا تنزع يداً من طاعته، ولا تخرج عليه بسيفك حتّى يجعل الله لك فَرَجاً ومخرجاً، ولا تخرج على السلطان وتسمع وتطيع ولا تنكث بيعة، فمَن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة.

ص:36

ومعتمد ابن حنبل في هذا الكلام الذي تفوح منه رائحة السياسة، ولا أثر فيه لرائحة الدين، هو الروايات التي أقلّ ما يُقال فيها إنّها من صُنع السياسة.

ومخالفة هذا الكلام أمر محمود، فلا يجوز أن يكون الدين وسيلةً لتبرير الظلم والفساد والإرهاب وإضفاء المشروعية على الحكّام وإن فجروا وفسقوا وأصبحوا بلاءً على البلاد والعباد.

ولا يجوز لابن حنبل أن ينسب مثل هذا الكلام للدين ويجعله من المعتقدات الملزِمة للمسلمين، ويدّعي أنّه محلّ إجماع الأُمّة، والسلف قد باركوه.

من هنا فإنّ الحكم على الرافضين لهذا الكلام بأنّهم مبتدعة مفارقين للجماعة إنّما هو حكم سياسي لا ديني.

وابن حنبل ينطق هنا بلسان الحكّام لا بلسان الدين.

ومرّةً أُخرى يعود ابن حنبل إلى القول: والكف عن أهل القِبلة، ولا نكفّر أحداً منهم بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل إلاّ أن يكون في ذلك حديث.

إلاّ أنّه يضيف هذه المرّة: أو يبتدع بدعة ينسب إلى صاحبها الكفر والخروج من الإسلام، فاتّبع الأثر في ذلك ولا تتجاوزه.

وهذا الكلام إنّما اختُرع لمواجهة حالات التمرّد والرفض والغليان الذي ساد أوساط المسلمين في زمن ابن حنبل تجاه فساد الحكّام ومظالمهم ومنكراتهم.

وابن حنبل استسلم للفساد والانحراف السائد في عص-ره وبرّره ودافع عنه، واحتجّ على موقفه السلبي هذا بالروايات غير المسلَّم بها عند التيّارات الأُخرى، ومن جانبٍ آخر احتجّ بأنّه لا توجد آثار توجب مواجهة مثل هذه الحالات.

وعلى هذا الأساس يُعدّ جميع المخالفين لهذه الرؤية من أهل البِدَع التي يقدّرها ابن حنبل بقدرها، فأقوال الجهمية والشيعة والمعتزلة بدعة ينسب إلى صاحبها الكفر والخروج عن الإسلام.

ص:37

أمّا الذين يرفضون طاعة الحكّام الجائرين فيدخلهم ابن حنبل في دائرة المبتدعين على استحياء، فهم أصحاب بدعة مخفّفة، وهو ما يتّضح من قوله: فمَن فعل ذلك -أي: خرج على الحكّام - فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة.

وقال ابن حنبل عن الجنّة والنار: لا يفنيان ولا يفنى ما فيهما أبداً. فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع، وقد ضلّ سواء السبيل.

ولا تعليق لنا على هذا الكلام سوى القول بأنّ ابن تيمية قد خالف هذا القول وقال بفناء النار.

ويقول ابن حنبل عن مكان الله سبحانه: وهو على العرش فوق السماء السابعة.

وهذا القول هو الذي تأسّست عليه فكرة الفوقيّة التي تبنّاها الحنابلة، ودعموها بالروايات، وحكموا على رافضيها بالزيغ والضلال.

وتبنّاها من بعدهم الوهّابيّون واعتبروها من عقائد الفرقة الناجية من النار مَن خالفها فهو من الضآلين المبتدعين.

ويتابع ابن حنبل: والقرآن كلام الله تكلّم به، ليس بمخلوق، ومَن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومَن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومَن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. وكلّم الله موسى تكليماً من فيه - فمه - وناوله التوراة من يده إلى يده.

وابن حنبل - بهذه الأقوال المتطرّفة - يكون قد كفّر الشيعة والمعتزلة وغيرهم من أهل القِبلَة، ممّن قالوا بخلق القرآن، تلك المسألة الكلامية التي ضخّمها ابن حنبل وجعلها من أُصول الدين التي يكفر مخالفها، وما له حجّة في هذا سوى أنّه لم يجد من بين الروايات والآثار ما يدعم فكرة خلق القرآن.

وموقف ابن حنبل هذا إنّما يعود إلى كونه امتُحن وفُتن وحُبس بسبب مسألة خلق القرآن في عصر المأمون العبّاسي والمعتصم والواثق من بعده، كما أشرنا سابقاً.

ص:38

من هنا كان ردّ فعل ابن حنبل شديداً متطرِّفاً في مواجهة خصومه القائلين بخلق القرآن، وردّ الفعل لا يجوز أن تُبنى عليه المواقف والأحكام الشرعيّة خاصّة ما يتعلّق منها بالكفر والإيمان.

وحالة ابن حنبل هذه تتطابق معها حالة سيّد قطب الذي فُتن وحُبس على يد عبدالناصر في فترة الخمسينيات مع عناصر جماعة الإخوان المسلمين.(1)

ويصر ابن حنبل على أنّ الله سبحانه كلّم موسى مباشرةً دون واسطة، كالشجرة التي ذُكرت في بعض الروايات، كما يُصرّ على أنّ الله ناوله التوراة بيده.

وينتقل ابن حنبل بعد ذلك إلى قضيّةٍ جديدةٍ لا صلة لها بأُصول الدين وثوابته، وهي قضيّة من قضايا الرأي، إلاّ أنّه تحت وطأة الروايات وأقوال الرجال تمّ تضخيمها ألا وهي قضيّة الصحابة.

يقول ابن حنبل: ومن الحجّة الواضحة البيّنة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله (ص) كلّهم أجمعين، والكفّ عن ذكر مساويهم والخلاف الذي شجر بينهم، فمَن سبّ أصحاب رسول الله أو أحداً منهم، أو تنقّصه، أو طعن عليهم، أو عرض بعيبهم، أو عاب أحداً منهم، فهو مبتدع رافضي خبيث، مخالف لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.

وخير الأُمّة بعد رسول الله: أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ علي، ووقف قوم على عثمان، وهم خلفاء راشدون مهديّون، ثمّ أصحاب رسول الله بعد هؤلاء الأربعة خير الناس؛ لايجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحدٍ منهم بعيبٍ ولا


1- انظر لنا الحركة الإسلامية في مصر، والفرق كبير بين ابن حنبل وسيّد قطب؛ فابن حنبل لم يخرج من خلال محنته بأُطروحة فكريّة جديدة أو يتنازل عن فكرة التعبّد بالروايات وأقوال الرجال، بل خرج من محنته أشدّ تطرّفاً لأفكاره ومعتقداته البعيدة كلّ البعد عن السياسة أو التغيير، عكس سيّد قطب الذي طرح أفكاراً جديدة للتغيير والمواجهة مع الواقع والحاكم على حساب أفكار وأُطروحة البنّا مؤسّس الإخوان المسالمة للواقع والحاكم.

ص:39

بنقص، فمَن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن ثبت عاد عليه بالعقوبة وخلّده بالحبس حتّى يموت أو يرجع.

وهذا الكلام هو محلّ إجماع مذاهب وفقهاء أهل السنّة وليس الحنابلة وحدهم، لكنّه غير مسلَّم به عند المذاهب والتيّارات الأُخرى.

وأسانيد ابن حنبل في هذا الاعتقاد هي الروايات التي أضفت القداسة على الصحابة، وألبستهم ثوب المثالية، مخالفةً بذلك نصوص القرآن.

وقام الحنابلة وفقهاء أهل السنّة بشرح هذه الروايات واستنباط القواعد التي تحول دون الخوض في الصحابة أو المساس بهم.

وحتّى تُصان هذه القواعد وتكون بعيدة ًعن الشك والشبهات، ويسلّم بها الجميع تمّ وضعها في كتب العقائد لتتحوّل مع مرور الزمن إلى عقائد ثابتة لا يجوز إعمال العقل فيها ويقاس على أساسها إسلام المسلم وسلامة دينه.

من هنا اشتُقّت فكرة عدالة جميع الصحابة دون استثناء، وهي فكرة تصطدم بنصوص القرآن الواردة فيهم، خاصّةً نصوص سورة التوبة.(1)

وفكرة عدالة الصحابة تعود لأُصول مذهبيّة وسياسيّة نابعة من الصراع الذي دار بين الاتّجاه القَبَلي الذي ساد واقع المسلمين بعد وفاة الرسول (ص) والدول التي قامت على أساسه، واتّجاه أهل البيت: (2)

اعتمد الاتّجاه القبلي على الصحابة كسند شرعي في مواجهة أهل البيت، ولمّا كان الصحابة لا يحملون صفات ومؤهّلات أهل البيت، وقد دبّت بينهم الخلافات،


1- يطلق الفقهاء على سورة التوبة بالفاضحة لكونها تفضح المنافقين حول الرسول والبعض الآخر يسمّيها سورة العذاب لما تحوي من صنوف الوعد والوعيد التي تتعلّق بمَن حول الرسول ص .
2- انظر لنا كتاب السيف والسياسة.

ص:40

ووقعت بينهم الصراعات، وظهرت بينهم الانحرافات، استخدم سلاح الإرهاب لتخويف المسلمين، والحيلولة بينهم وبين الخوض في حقيقة وواقع الصحابة.

من هنا برزت فكرة تحصين الصحابة، وعدم جواز المساس بهم، والخوض في خلافاتهم ومساويهم حتّى لا تتضح الرؤية أمام المسلمين وتتكشّف حقيقة الاتّجاه القبلي والحكّام.

واعتُبر مَن يخوض في أمر الصحابة ويتكلّم فيهم بمثابة ساب لهم يجب ردعه ومعاقبته.

وتبحّر الفقهاء في هذا الأمر وظهرت العديد من الكتب التي تركّز على الصحابة والأحكام الخاصّة بهم.

وتمّ قتل العديد من المسلمين بدعوى سبّ الصحابة. ١

ويظهر لنا من كلام ابن حنبل عن الصحابة أنّه قد جعلهم من أُصول الدين؛ وذلك حين أوجب على مَن أسماهم بالرافضة الاستتابة، وهو بهذا الحكم يساويهم بالمرتدّين، ويفتح الباب على مصارعه للحكّام كي ينالوا من الذين يخوضون في أمر الصحابة، ويبطشوا بهم بدعوى الحفاظ على الدين.

وقد أكّد لنا ابن حنبل مدى ارتباطه بالحكّام وربط عقيدته بهم حين أحال أمر الذين يخوضون في الصحابة إلى الحكّام ليعاقبوهم بالحبس حتّى الموت.

يقول ابن حنبل: والدين إنّما هو كتاب الله عزّ وجلّ وآثار وسنن وروايات، وأصحاب الرأي والقياس في الدين مبتدعة ضلاّل، إلاّ أن يكون في ذلك أثر عمّن سَلَف من الأئمّة الثقات.

ويختتم عقيدته بقوله: وأصحاب الرأي أعداء للسنّة والأثر يبطلون الحديث

١) انظر لنا دماء وأغلال: صور من اضطهاد الشيعة عبر التاريخ، وانظر تاريخ ابن كثير ج ١4، ص٣5٣، قصّة مص-رع قتل الرافضي الخبيث؛ وانظر الصواعق المحرقة على أهل البِدَع والزندقة لابن حجر الهيتمي قصّة إعدام مسلم اتّهم بسبّ الشيخين.

ص:41

ويردّون على الرسول (ص) ، ويتّخذون أبا حنيفة ومَن قال بقوله إماماً، ويدينون بدينهم، وأيّ ضلالٍ أبين ممّن قال بهذا وترك قول الرسول وأصحابه؟ فكفى بهذا غيّاً مُردياً وطغياناً.

ونقل الوهّابيّون عن ابن حنبل قوله: مَن قال إنّ الإيمان مخلوق فقد كفر، ومَن قال إنّه غير مخلوق فقد ابتدع. .

ومَن خالف الإجماع والتواتر فهو ضالٌّ مضل، ويفسق مَن خالف خبر الواحد. .

وأنّ الدار إذا ظهر فيها القول بخلق القرآن والقدر وما يجري مجرى ذلك فهي دار كفر.

وأنّ الداعية إلى البدعة لا توبة له. .

وأنّ مَن ترك الصلاة فقد كفر وحلّ قتله.(1)

وهكذا أفرغ ابن حنبل ما في جُبّته بعد أن أطلق سهامه على جميع المخالفين له من أهل الرأي في دائرة أهل السنّة وخارج دائرتهم، ليسنّ سنّة الإرهاب والتطرّف في واقع المسلمين، تلك السنّة التي لا تزال آثارها ممتدّة حتّى اليوم ومتمثّلة في النهج الوهّابيّ.

وقد حمل تراث ابن حنبل جيل من الحنابلة، يساندهم قطّاع من عوام بغداد، انطلق يرهب الناس والمخالفين ويرفع راية التكفير والزندقة في مواجهتهم.

وإذا كان الأُستاذ الإمام بهذا القدر من التطرّف فكيف يكون حال تلاميذه؟

لا شكّ أنّ حجم مدافعهم سوف تكون أكبر وطلقاتهم سوف تكون أشدّ.

وهذا ما تشهد به وقائع التاريخ، فيما أطلق عليه المؤرِّخون فتن الحنابلة وهي

حوادث وقعت في فترات متفرِّقة ضمن حدود بغداد موطن الحنابلة، كان ضحيّتها المخالفين على الدوام فقهاء وعوام من السنّة والشيعة.

وكان الحنابلة قد قويت شوكتهم بدعم من المتوكّل العبّاسي، ومن بعده من خلفاء بني


1- انظراعتقاد الإمام المبجّل أحمد بن حنبل.

ص:42

العبّاس الذين عملوا على استثمارهم في تقوية نظام حكمهم وتصفية المعارضين لهم.

ومنذ ذلك الحين كثرت اعتداءاتهم على العامّة والنساء في الطرقات والتفريق بينهما في الأسواق، ومهاجمة الأسواق لمنع الاختلاط ومقاومة البدع.

ودخلوا في صدامات دَمَويّة مع الشيعة والأشاعرة والشافعية والأحناف والمعتزلة.

ففي حوادث عام ٣٢٠ ه-: وقعت فتنة بين الحنابلة والأشاعرة.

وفي حوادث عام ٣4٠ ه-: وفي رمضان منها وقعت فتنة عظيمة بسبب المذاهب.

ويروي الذهبي في تاريخه عن أحداث عام (٣٩٨ ه-) أنّ في هذه السنة وقعت فتنة عظيمة بين الشيعة والسنّة في بغداد وكاد أن يقتل الشيخ أبو حامد الاسفرايني، فأنفذ الخليفة القادر الفرسان لمعاونة أهل السنّة وقمع الشيعة.

وغير هذه الحوادث كثير ممّا رصدته كتب التاريخ.(1)

ومثل هذه المدافع التي حملها الحنابلة في مواجهة الناس والمخالفين، والتي هي من صناعة إمامهم ابن حنبل، لم توجّه في يوم من الأيام إلى الحكّام، وهذا الأمر إنْ دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ عقيدة الحنابلة في مضمونها عقيدة حكومية في صالح الحاكم لا في صالح الجماهير.

وهو يدلّ من جانبٍ آخر على أنّ هذه العقيدة قد فُرضت على المسلمين بضغط الحكّام ولو قُدّر لها أن تسلك السبيل المعتاد في الدعوة الذي سلكته الشيعة من بعد الإمام علي (ع) ، والمعتزلة والمذاهب الأُخرى لما قُدّر لها البقاء والانتشار، والبرهان على ذلك أنّ مذهب الحنابلة سقط وتوارى بعد سقوط الدولة العبّاسية، واتّجهت الدول التي ظهرت بعدها نحو الأشاعرة والماتريدية والمذاهب الأُخرى.

ويبدو أنّ الاتّجاهات الأُخرى لم تستسلم لمدافع ابن حنبل، بل استدارت عليه


1- انظر فتن الحنابلة في الكامل في التاريخ لابن الأثير، والبداية والنهاية لابن كثير، وانظر حوادث عام ٣٢٠ و٣46 و٣4٨ و٣4٩ ه-، وانظر سيرة البربهاري الحنبلي المتطرّف في الفصل القادم.

ص:43

وهاجمته وطعنت في عقيدته وتصوّره، ممّا دفع به إلى أن يسلّط عليهم مدافعه في نهاية رسالته بقوله: وقد رأيت لأهل الأهواء والبِدَع والخلاف أسماء شنيعة قبيحة يسمّون بها أهل السنّة يريدون بذلك عيبهم والطعن عليهم والوقيعة فيهم والإزراء بهم عند السفهاء والجهّال.

فأمّا المرجئة فإنّهم يسمون أهل السنّة شكاكاً وكذبت المرجئة.

وأمّا القدرية فيسمّونهم المجبّرة وكذبت القدرية.

وأمّا الجهمية فيسمّونهم المشبّهة وكذبت الجهمية أعداء الله.

وأمّا الرافضة فيسمّونهم الناصبة وكذبت الرافضة.

وأمّا الخوارج فيسمّونهم مرجئة وكذبت الخوارج.

وأمّا أصحاب الرأي فيسمّونهم حشوية، وكذب أصحاب الرأي أعداء الله، بل هم الحشوية تركوا آثار الرسول وحديثه وقالوا بالرأي وقاسوا الدين بالاستحسان، وحكموا بخلاف الكتاب والسنّة، وهم أصحاب بِدْعة جهلة ضلاّل وطلاّب دنيا بالكذب والبهتان.

وختم ابن حنبل رسالته بهذا الدعاء: اللّهمّ ادحض باطل المرجئة، وأوهن كيد القدرية، وأذلّ دولة الرافضة، وامحق شبه أصحاب الرأي، واكفنا مؤنة الخارجية - الخوارج - وعجّل الانتقام من الجهمية.

ونخرج من هذا العرض لرسالة السنّة أنّ قذائفها أشدّ فتكاً من سابقتها، وأنّ ابن حنبل قد أعلن عن وجهته صراحةً من خلالها.

فهو قد أعلن أنّ هذه الرسالة تمثّل عقيدة السلف من الصحابة والتابعين.

وأعلن أنّ الخارج عن حدودها والمخالف لها مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن سبيل الحق.

ونسب الظلم إلى الله سبحانه حين ربط الزنا والسرقة والخمر والقتل بمشيئة الله

ص:44

وإرادته، وربط الحكم بصلاح المسلم ونجاته من النار بالرواية وليس بالقرآن.

وأعلن أنّ الخارج عن السلطان مبتدع مخالف مفارق للجماعة.

وأعلن أنّ الله في السماء فوق العرش يتحرّك ويتكلّم ويضحك ويفرح وينزل إلى الدنيا، وخلق آدم على صورته، ويضع قدمه في النار. . . ، هذه الصفات التي جاءت بها الروايات ولم يأت بها القرآن، والتي تضع ابن حنبل ومَن سار في ركاب هذه الروايات في دائرة التجسيم.

وأعلن تكفير الجهمية لقولهم بخلق القرآن، وأدخل معهم في دائرة التكفير الشيعة والمعتزلة الذين يتبنّون نفس الفكرة.

وتطرّف ابن حنبل في موقفه أكثر فكفّر الذين يقولون بأنّ القرآن كلام الله وكفى، والذين يقولون بأنّ الألفاظ والتلاوة مخلوقة، وإنّ مَن لم يكفِّر هؤلاء فهو مثلهم.

وأخرج من دائرة الإسلام الذين يتبنّون مواقف من الصحابة كالشيعة والمعتزلة والخوارج وغيرهم، الذين لا يعترفون بمعاوية ويهاجمونه، ويتبنّون نفس الموقف من عمروبن العاص، أو المغيرة بن شبعة، أو عثمان، أو أبي هريرة، وغيرهم من الصحابة الذين ارتبطوا بالفتن والخلافات التي وقعت بعد وفاة الرسول (ص) .

وتجاوز هذا الحدّ بأن حرّض الحاكم عليهم، وأفتاه بجواز تأديبهم وحبسهم وقتلهم.

وحدّد الدين في دائرة الكتاب والسنّة والسلف، أي: ربط الرواية والرجال بالقرآن، فكأنّ مَن نبذ الرواية والرجال نبذ القرآن وخرج من الإسلام؛ وهو بهذا قد أضفى القداسة على الرواية والرجال وأرهب المسلمين من المساس بهما.

وفي رسالة أُخرى لابن حنبل تحت عنوان (كتاب الصلاة) أعلن ابن حنبل تكفير تارك الصلاة وعدم جواز الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين.

ويظهر لنا - من خلال أفكار ابن حنبل - أنّها استمدّت جميعها من الروايات وأقوال الرجال، أي: السنّة والأثر، فمن ثمّ فهو رجل تقليدي يتعبّد بنصوص التراث كما هي

ص:45

ولا يعطي لأتباعه فرصة إعمال العقل فيها، كما لا يعطي لخصومه فرصة نقدها.

ولعلّ تمسّك ابن حنبل بالروايات وأقوال السلف هو الذي جعل له شعبية وسط العامّة الذين تجذبهم الروايات بدافع عشقهم للرسول (ص) وجيله، فقول الرسول أو الصحابي يجذب الناس ويستقطبهم، أمّا الرأي فله خواصه من الناس.

وهذا ما جذب إليه البدو الوهّابيّين وفِرَقهم المعاصرة التي يتزعّمها السوقة والعوام وضعاف العقول.

ص:46

ص:47

البربهاري

اشارة

كانت سنّة الوهّابيّين دائماً هي البحث والتنقيب عن التراث الحنبلي الشاذ الذي ضُرب في زمانه واندثر وانتهى أمره، مثل: تراث ابن تيمية وتلميذيه ابن القيّم وابن كثير، وغيرهم من الحنابلة المتطرّفين.

ومن بين كتب الحنابلة التي اكتشفها الوهّابيّون مؤخّراً رسالة صغيرة لواحد من أئمّة الحنابلة المتطرّفين في زمانه، وهو الحسن البربهاري (ت٣٢٩ه) كانت من بين المخطوطات المصوّرة بمكتبة جامعة أُمّ القرى، وهي برواية غلام خليل المشهور بالكذب ووضع الحديث عند الفقهاء (ت٢٧5ه) .

وقد يثير هذا الأمر الشك في صلة غلام بالبربهاري لوفاته قبله بأكثر من نصف قرن، لكنّ هذا الشك سرعان ما يزول إذا ما تبيّن لنا أنّ البربهاري عاش أكثر من تسعين سنة.

إلاّ أنّ محقّق الرسالة الوهّابي وهو مدرّس في قسم العقيدة بجامعة أُمّ القرى ينفي صلة غلام بالبربهاري، ويقول: فإذا كان هذا هو حال الرجل في الكذب على رسول الله (ص) فلماذا لا يكون من باب أولى أن يكذب على الناس وأن يسرق جهود العلماء وينسبها إلى نفسه خاصّة وأنّه كان من المعاصرين للبربهاري؟

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ رسالة البربهاري، التي سوف نعرض لها هنا، مطبوعة

ص:48

ضمن الجزء الثاني من كتاب طبقات الحنابلة.

أمّا البربهاري فقد ارتبط بالعديد من الفتن والحوادث التي وقعت في زمانه، وكان دوره فيها هو تحريض الحنابلة على البطش بالآخرين من خصومهم، والتي كانت تصل إلى حدّ إحراق البيوت وتحطيم الحوانيت وتعطيل الأسواق، بالإضافة إلى إراقة الدماء.

وهو ما أدّى بالخليفة القادر العبّاسي إلى التدخّل والقبض على البربهاري وجماعته، إلاّ أنّه فرّ من بغداد بعد القبض على العديد من أتباعه.

وبعد الإطاحة بالقاهر جاء الراضي فطارد الحنابلة ونودي في الطرقات ببغداد: أن لا يجتمع من أصحاب البربهاري نفسان فاستتروا عن الأنظار، واختفى البربهاري حتّى توفّي.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا يقوم الوهّابيون بنش-ر رسالة البربهاري هذا وتاريخه يشهد بالتطرّف والإرهاب؟

والجواب هو أنّ البربهاري على شاكلتهم ومن طينتهم، وكلّ إناءٍ ينضح بما فيه.

ولو كان الوهّابيّون أصحاب عقل وفكر مستقيم لما التفتوا إلى مثل هذه الرسالة المتطرّفة الفارغة، لكنّ الاعوجاج طبيعتهم، والتطرّف سبيلهم، والسطحية نِحلتهم.

رسالة البربهاري

ويصر الوهّابيّون على ادّعاء أنّهم يمثّلون أهل السنّة، وأنّهم الفرقة الناجية من النار التي تجمع القلوب على معتقد رسول الله (ص) ؛ من هنا اعتبر الوهّابيّون أنّ المخالف لهم يُعدّ من أهل الأهواء والبِدَع والملل والنحل الضالّة.

يقول محقّق الرسالة في مقدّمته: وكان من أوّل علامة الخذلان والضياع للفرق

ص:49

الأُخرى اسمها الذي تتسمّى به كالخوارج والجهمية والمعتزلة والرافضة (الشيعة) والأشاعرة والماتريدية والكلابية وغيرها؛ لأنّ الاسم دليل على مسمّاه.

وهذا الكلام الساذج مردود على صاحبه؛ إذ إنّ من المعروف تاريخياً أنّ هذه التسميات ليست من صنع أصحابها، وإنّما هي من صنع خصومهم من الكتّاب والمؤرِّخين.

وهذه الاتّجاهات والفِرَق - كما يسمّونها - تتبنّى الروايات ولكن بطُرُقٍ مختلفةٍ عن طُرُق أهل السنّة، كما أنّ من هذه الاتّجاهات مَن يتبنّى نفس روايات أهل السنّة ومعتقداتهم كالأشاعرة والماتريدية، إلاّ أنّهما يختلفان مع الحنابلة.(1)

ولا يزال الأزهر يدرّس عقيدة الأشعري والماتريدي على تلاميذه، في الوقت الذي أُهملت فيه عقيدة الحنابلة التي يتسلّح بها الوهّابيون اليوم.

ومثلما أطلق الحنابلة هذه التسميات التي اعتبرها المحقّق علامة الخذلان والضياع على خصومهم، أطلق الخصوم أيضاً تسميات متعدّدة عليهم حدّدها ابن حنبل في عقيدته وقد سبق ذكرها.

وما يمكن قوله حول تسميات الخصوم للحنابلة، وعلى رأسها تسمية الحشوية والمشبّهة، إنّها تسميات صحيحة ودقيقة وهي بمجملها تنطبق على الوهّابيين الحنابلة اليوم.

والخصوم لم يطلقوا هذه التسميات عليهم من فراغ، وإنّما أطلقوها بسبب إغراقهم في الروايات، وتعصّبهم لها.

والأزمة هنا تكمن في أنّ الوهّابيّين الحنابلة اعتبروا أنفسهم الممثِّل الشرعي الوحيد


1- تبنّت العديد من الدول عقيدة الأشعري لتسود العديد من بلاد المسلمين وعلى رأسها الدولة الأيّوبية، وتبنّت العديد من الدول الأُخرى عقيدة الماتريدي وعلى رأسها الدولة العثمانية، بينما لم تتبّن دولة واحدة عقيدة ابن حنبل إلاّ دولة آل سعود في العصر الحديث.

ص:50

للإسلام، واعتبروا سواهم خارج دائرته، وهو ما برّر لهم مخاصمة المخالفين والعدوان عليهم.

والحق أنّ الحنابلة في الماضي أو الوهّابييّن في الحاضر لا يتميّزون بش-يءٍ على مَن سواهم من أهل السنّة أو الاتّجاهات الأُخرى، بل العكس هو الصحيح أنّ الآخرين هم الذين يتميّزون عليهم بتقديمهم كتاب الله على الروايات واحترامهم للعقل.

وفكرة القيمومة على الآخرين والوصاية على الدين التي تبنّوها هي أساس تطرّفهم في مواجهة الآخر، وهي نابعة من السياسة لا من الدين، فقد أعطاهم الحكّام الفرصة للتمكّن والانتشار والسيادة على الآخر في بعض الفترات الزمنية، والتي أدّت إلى تقوقع التيّارات الأُخرى وانعزالها، ممّا جعلهم يتصوّرون أنّهم أصحاب الحق المطلق والوحيد للدين.

ولولا دعم آل سعود للوهّابيّين ما كان يمكن أن يكون لهم صوت أو وجود بين المسلمين.

نص الرسالة

يقول المحقّق: هذا الكتاب يظهر للقارئ من خلال قراءته أهمّيّته وجودته، فقد قرّب مفاهيم العقيدة السلفية للناس بأُسلوب سهل وميس-ّر، وأظهر نص-رة السنّة ومحاربة البِدعة، وشدّد الإنكار على أهل الأهواء المضلّة، وخلّصه من دنس علم الكلام، غير أنّ كلّ عمل بشري لا يخلو من نقص.

وكتاب البربهاري يسوق القضايا العقدية مجرّدة من الدليل في الغالب، ثمّ يثني على كتابه هذا إلى حدّ الإلزام به، وهذا أمر غير مقبول منه، فهدى السلف عدم إطراء أنفسهم.

ونحن نتقدّم بالشكر للمحقّق على هذه الرؤية النقدية المتحفّظة التي كشفت لنا عورة هذه الرسالة قبل الخوض فيها والاطّلاع على نصوصها.

يبدأ البربهاري بقوله: اعلم أنّ الإسلام هو السنّة، والسنّة هي الإسلام، ولا يقوم

ص:51

أحدهما إلاّ بالآخر، فمن السنّة لزوم الجماعة ومَن رغب في غير الجماعة وفارقها فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه، وكان ضالاً مضلاً، والأساس الذي بيّنا عليه الجماعة هم أصحاب محمّد (ص) وهم أهل السنّة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضلّ عنهم وابتدع وكلّ بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار.

فمَن خالف أصحاب رسول الله في شيء من أمر الدين فقد كفر.

وكان الأجدر بالبربهاري أن يقول: إنّ الإسلام هو القرآن، والقرآن هو الإسلام، لا أن يربط الإسلام بمصدر هو محلّ خلافٍ بين المسلمين.

إلاّ أنّ المقصود بهذا الكلام هو ربط الإسلام بالحنابلة وربط الحنابلة بالإسلام.

المقصود هو إسلام الحنابلة الذي يقوم على الروايات والآثار لا على نصوص القرآن.

كذلك الجماعة المقصود بها هنا جماعة الحنابلة التي يريد البربهاري أن يوحى للقارئ أنّها امتداد للصحابة والرسول (ص) .

وربط الدين بالصحابة فكرة سياسية موجّهة إلى قطّاع معيّن من الصحابة من أصحاب التوجّه القبلي الذي استمدّ منهم الحكّام مش-روعيّتهم، وليس إلى الصحابة أصحاب التوجّه النبوي الذين ساروا وفق خطّ الرسول (ص) وناصروا أهل البيت: .

المقصود بهم: أبوبكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، ومَن سار في ركابهم، وليس المقصود بهم: علي، وعمار، وأبو ذر، وسلمان، ومَن سار في ركابهم.

والحنابلة الذين قدّسوا الرواية إنّما يستمدّون رواياتهم من الجانب القبلي الذي رسم لهم سنّة رسول الله (ص) بما يخدم توجّهاتهم ومصالحهم، فمن ثمّ تُعدّ أيّة محاولة للمساس بهذا الجانب ردّة عن الدين في منظور الحنابلة؛ لكونها سوف تؤدّي إلى هدم مذهبهم الذي يقوم على هذه الروايات والذي يتصوّرون أنّه الدين.

وهو ما يبدو لنا بوضوح من خلال قول البربهاري: فمَن خالف أصحاب رسول الله في شيء من أمر الدين فقد كفر.

ولكن ما هو الدليل الشرعي على هذه الفتوى البربهارية الإرهابية؟

ص:52

والجواب بالطبع هو ليس هناك دليل شرعي على هذا الكلام، وهو ما تنبّه له المحقّق؛ فسارع إلى نجدة البربهاري بقوله: كلامه محمول على مَن أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومتابعة الصحابة واجبة، وساق بعض الروايات، منها:

عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ.

اقتدوا بالذَين من بعدي: أبي بكر، وعمر.

والرواية الأُولى طُبّقت على الخلفاء الأربعة، أو بمعنى أصحّ اخترعت لهم لتضفي المشروعية على النهج القبلي، فهي من جانبٍ لم تحدّد لنا مَن هم الخلفاء الراشدين، ومن جانبٍ آخر إذا سلّمنا بأنّ المقصود بها الخلفاء الأربعة فإنّ كلّ خليفة من هؤلاء له سنّته الخاصّة التي تتناقض مع الآخر.

والحقيقة أنّ سنّة الخلفاء يقصد بها النهج القبلي، الذي فرّخ أمثال: معاوية والملك العضوض الذي شوّه الإسلام ووطّن للإرهاب في واقع المسلمين.

إلاّ أنّ ربط كلام البربهاري الذي يقضي بتكفير مَن خالف أصحاب رسول الله بما هو معلوم من الدين بالضرورة - كما ذكر المحقّق - زاد الطين بِلّة، فكلام البربهاري واضح ويقصد به مَن خالف الرواية التي يأتي بها الصحابي، أو رفضها فهو كافر، وهو كلام موجّه للشيعة خاصّةً والاتّجاهات الأُخرى المخالفة عامّةً، الذين لا يعترفون بروايات الحنابلة.

والمعلوم من الدين بالضرورة يقصد به في لغة الفقهاء: الأُصول التي لا يجوز إنكارها في الدين، مثل: الإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر والقرآن والبعث والجنّة والنار، ونكران الأوامر الإلهيّة الصريحة في القرآن وما شابه ذلك.

لكنّ الحنابلة أدخلوا معتقداتهم ومفاهيمهم في دائرة المعلوم من الدين بالض-رورة، ومنها قضيّة الصحابة والروايات وصفات الله سبحانه، واستخدموا هذا السلاح في إرهاب الخصوم.

لقد أراد المحقّق أن ينقذ البربهاري فأغرقه وأغرق نفسه معه بربطه الصحابة بما هو

ص:53

معلوم من الدين بالضرورة، واعتبار اتّباعهم واجب شرعي ممّا يعني مساواتهم بالرسول (ص) .

والبربهاري ومعه المحقّق كلاهما يهدفان إلى إرهاب المسلمين كي لا يحيدوا عن الروايات ويعملوا عقولهم فيما يسمعون ويتلقّون.

يقول البربهاري محذِّراً: انظر كلّ مَن سمعت كلامه من أهل زمانك فلا تعجلن وتدخلن في شيء منه حتّى تسأل وتنظر: هل تكلّم فيه أحد من أصحاب النبي (ص) ، أو أحد من العلماء، فإن أصبت فيه أثراً منهم فتمسّك به ولا تتجاوزه لشيء ولا تختر عليه شيئاً فتسقط في النار.

وهذا الكلام إنّما هو امتداد للكلام السابق المتعلّق بلزوم اتّباع الصحابة والترهيب من الانحراف عنهم، وزاد عليه هنا اتّباع العلماء الذين هم الحنابلة بالطبع.

وهي دعوة صريحة للتمسّك بالأثر وإلغاء العقل والعيش بعقل الماضي، وهي الدعوة التي يتبنّاها الوهّابيّون والجماعات المعاصرة.

ويتحدّث البربهاري بعد ذلك عن وجوب الالتزام بصفات الله سبحانه، كما وردت في القرآن والروايات، وهو تناقض؛ إذ إنّ الروايات التي يتبنّاها الحنابلة حول صفات الله تدور في محيط الحقيقة وهي تصطدم بنصوص القرآن.

والحنابلة يحاولون دائماً إضفاء القداسة على رواياتهم المتعلّقة بالصحابة وصفات الله عن طريق ربطها بالقرآن.

والتيّارات والمذاهب الإسلامية الأُخرى ترفض روايات الحنابلة المتعلّقة بصفات الله؛ خوفاً من الوقوع في التجسيم والتشبيه ونسبة صفة لله سبحانه لا تليق به.

والذين قبلوا هذه الروايات منهم أخذوها على وجه المجاز وقاموا بتأويلها.

وكلا الموقفين لم يعجب الحنابلة على مستوى الماضي، أو الوهّابيّين على مستوى الحاضر، فأنزلوا لعناتهم على المخالفين.

من هنا أصرّ الحنابلة على أنّ القرآن ليس بمخلوق والمراء فيه كفر، كما ذكر

ص:54

البربهاري الذي استمدّ حكمه بتكفير القائلين بخلق القرآن من ابن حنبل، الذي يُعدُّ أوّل مَن أسّس لنهج التكفير في تاريخ المسلمين بعد الخوارج.

ويعرض البربهاري من خلال رسالته لعقيدة ابن حنبل التي تنصّ على رؤية الله سبحانه يوم القيامة بالعين أو بأعين رؤوسهم، وهو يحاسبهم بلا حاجبٍ ولا ترجمان، وأنّ الميزان يوم القيامة له كفّتان وله لسان، وأنّ الله خلق آدم على صورته وينزل إلى الدنيا.

و أنّ خير هذه الأُمّة بعد وفاة نبيّها (ص) : أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ أفضل الناس بعد هؤلاء: علي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وكلّهم يصلح للخلافة، ثمّ أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله.

والسمع والطاعة للأئمّة ومَن ولي الخلافة بإجماع المسلمين عليه ورضاهم به، فهو أمير المؤمنين، ولا يحل لأحد أن يبيت ليلة ولا يرى أنّ عليه إماماً بَرّاً كان أو فاجراً، والحجّ والغزو مع الإمام ماضٍ، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة.

والخلافة في قريش إلى أن ينزل عيسى (ع) ، ومَن خرج على إمام من أئمّة المسلمين فهو خارجي قد شقّ عصا المسلمين، وخالف الآثار وميتته ميتة جاهلية.

ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه وإن جار.

والرجم حقّ، والمسح على الخفّين سنّة.

ومثل هذه العقائد التي تعصّب لها الحنابلة على مستوى الماضي، وأعلنوا الحرب على رافضيها لا تخرج عن كونها مجموعة من الأفكار الوضعية التي تفوح منها رائحة السياسة، وهي تقوم على أساس روايات ليست محلّ تسليم الآخرين.

ولا يحقّ للحنابلة ومَن تبنّى هذه العقائد أن يهدّد الآخرين بها ويرهبهم، ويحاول فرضها عليهم باسم الإسلام؛ فهذه العقائد شيء والإسلام شيء آخر.

ويواصل البربهاري ناسباً الظلم لله تعالى فيقول: ولو عذّب - الله - أهل السموات

ص:55

والأرض برّهم وفاجرهم فهو غير ظالم لهم لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ . (الانبياء:٢٣)

وتتوالى قذائف البربهاري على المسلمين، كلّ قذيفة أشدّ من سابقتها.

يقول ناصحاً: إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها، أو ينكر شيئاً من أخبار رسول الله (ص) فاتّهمه على الإسلام، فإنّه رجل رديء المذهب والقول.

ويقول: والإيمان بأنّ الله هو الذي كلّم موسى بن عمران يوم الطور، وموسى يسمع من الله الكلام بصوت وقع في مسامعه منه لا من غيره، فمَن قال غير هذا فقد كفر بالله العظيم.

ويقول: واعلم أنّها لم تكن زندقة ولا كفر ولا شكوك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين، إلاّ من الكلام وأهل الكلام والجدل والمراء والخصومة.

ولم يفت البربهاري أن يُنزل لعناته على الجهمية، ويحرّض المسلمين عليهم، وهو يردّد أقوال ابن حنبل فيهم: الجهمي كافر ليس من أهل القِبلة، حلال الدم لا يرث ولا يورث.

ولم يفته تحذير المسلمين من أصحاب العقل وأهل الرأي بقوله: وإيّاك والنظر في الكلام، والجلوس إلى أصحاب الكلام، وعليك بالآثار وأهل الآثار، وإيّاهم فاسأل، ومعهم فاجلس، ومنهم فاقتبس.

والهدف من هذه القذائف المتنوّعة هو الحفاظ على آثار الحنابلة بعيداً عن أقوال وآراء الآخرين التي تهدّدهم وتشكّك المسلمين فيهم.

وضرب الآخر وإرهابه وكذلك إرهاب الأتباع يُعدّ مسألةً مصيرية بالنسبة للحنابلة أعداء العقل والاعتدال، وأنصار الجمود والتطرّف الذين بنوا لأنفسهم حصناً وهميّاً بالروايات وأقوال الرجال يخشون أن تذهبه رياح العقل والبصيرة.

ومن طرائف البربهاري أنّه دعا في رسالته إلى تقليل النظر في النجوم؛ لأنّ إطالة النظر فيها يؤدّي إلى الزندقة - حسب قوله -.

ودعا إلى الكفّ عن الخوض في أمر معاوية وأصحاب الجمل.

ص:56

وقال: إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان - الحاكم - فاعلم أنّه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنّه صاحب سنّة، وإذا رأيت الرجل يتعاهد الفرائض في جماعة مع السلطان وغيره فاعلم أنّه صاحب سنّة.

ولم يكتف البربهاري بما طرح في رسالته من نصوص لا تخرج عن كونها مجرّد آراء متطرّفة تفتقر إلى الدليل، بل بالغ في تطرّفه حين أوجب على المسلمين في ختام رسالته أن يقرّوا بمحتوياتها، ويؤمنوا بنصوصها ويتّخذوها إماماً لهم، وإلاّ سقطوا في براثن الهوى والضلال.

يقول البربهاري: فمَن أقرّ بما في هذا الكتاب وآمن به واتّخذه إماماً، ولم يشك في حرف منه، ولم يجحد حرفاً منه، فهو سنّة وجماعة، ومَن جحد حرفاً ممّا في هذا الكتاب، أو شكّ في حرفٍ منه، أو شكّ فيه أو وقف - أي: لم يشك ولم يُقِر - فهو صاحب هوى، ومَن جحد، أو شكّ في حرفٍ من القرآن، أو في شيءٍ جاء عن الرسول (ص) لقي الله مكذّباً.

وقد قدّم لنا البربهاري بكلامه هذا الدليل على غلو الحنابلة وتطرّفهم، وأنّ سنّتهم الدائمة هي الإرهاب.

ص:57

ابن بطّة إلغاء العقل والتعبّد بالنقل

سيراً مع سنّة الوهّابيّين الدائمة في البحث والتنقيب عن التراث الحنبلي، الذي يخدم أفكارهم المتطرّفة، قام واحد من الوهّابيّين بإبراز مخطوطة مغمورة ومهملة بعنوان: (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة) لابن بطّة العكبري الحنبلي، المتوفّي عام ٣٨٧ه.

قال المحقّق الوهّابي في مقدّمته: بعد مُضي عصر الصحابة وجد في أيام التابعين بعض رؤوس أهل الضلالة الذين عنوا ببثّ الأهواء والبِدَع، وكان لهؤلاء فتن كثيرة على الناس، وزاد خطر هؤلاء الزائفين في القرن الثالث عندما تمكّن المعتزلة من إقناع الخليفة المأمون بآرائهم في العقيدة، وطلبوا منه أن يحمل الناس جميعاً على آرائهم بقوّة السلطان؛ فكانت فتنة كبيرة انتشر شررها على المسلمين، وعمّت لوثتها الفكر الإسلامي العظيم.

وكان بعض هؤلاء قد دخلوا في الإسلام لتحقيق غايات سيّئة ومآرب دنيئة، فكان دخولهم يخدم مخطّطاً يهدف إلى زعزعة عقائد الإسلام في نفوس أتباعه، وإثارة الفُرقة والبغضاء فيما بينهم حتّى وقع بعض المسلمين تحت تأثير هؤلاء، واقتنعوا بكثير من آرائهم نتيجة التلبيس والخداع فبزغ نجم الزندقة، وأطلّت الفرقة برؤوسها.

ص:58

ويحدّد المحقّق الأسباب التي دعته إلى نشر هذا الكتاب بقوله: هذا الكتاب يمثّل مذهب إمام أهل السنّة أحمد بن حنبل؛ لأنّ ابن بطّة قريب العهد به، وهو على مذهبه في الأُصول والفروع.

وابن بطّة يعتبر من علماء الحديث الكبار في عص-ره، ومن كبار علماء الحنابلة في زمنه، وكتابه الإبانة قد حوى آلاف الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة والتابعين.

والنسيان الذي طوى هذا الإمام الجليل قد دفعني إلى التأريخ له ونش-ر تراثه والتعريف بجهوده.

ويؤكّد المحقّق في مقدّمته رفضه الشديد للجدل والتأويل سيراً مع مذهب ابن بطّة وسنّة الحنابلة من قديم، فالتأويل في نظره لا يعتمد على نصٍّ دينيٍّ صحيح، ولم يقل به أحد من علماء السلف، وعلم الكلام قد اتّخذ الجدل الكريه مطيّةً في إثبات العقائد، والجدل مذموم في الإسلام.

وأكّد رفضه للعقل والسماح له بالتدخّل في مجالات الغيب، وعدّه خطأً فادحاً وحماقةً كبرى، وأنّ المعتزلة هم الذين ابتدأوا هذه المهزلة حسب تعبيره.

ويبدي المحقّق على المؤلّف ملاحظةً بقوله: ونلحظ في هذا المقام أنّ المؤلّف عندما ردّ على المرجئة في قضايا الإيمان، وعندما تعرّض للجهمية في مسائل الصفات الإلهيّة، أو القدرية في أُمور القضاء والقدر، أو الشيعة وغيرهم، لم يحفل بذكر نصوص أقوالهم واقتباس بعضها من كتبهم تجنّباً لما قد يثيره ذكر أقوالهم وشبهاتهم في نفوس الناس من آثار سيّئة، ولأنّ آراء هذه الفِرَق كانت قد شاعت بين الناس حتّى أصبحت معروفة عنهم بين الجميع؛ ولهذا نراه يكتفي بذكر تلك الآراء الشائعة عنهم دون اهتمام بنقل نصوص أقوالهم في ذلك، وهذا مسلك معروف عند كثير من المؤلّفين في العقيدة السلفية.

وكان السبب الداعي لابن بطّة لتأليف كتابه هذا هو ما آل إليه الحال في عصره من ظهور الزندقة والبعد عن كتاب الله وسنّة رسوله باندثار السنن وقيام البِدَع،

ص:59

ومن جور الحكّام وافتراق الناس شِيَعاً وأحزاباً، إلى غير ذلك من ألوان الفساد على حدّ تعبيره.

وأوّل ما نستعرض من هذا الكتاب باب تحت عنوان: ذكر ما جاءت به السنن من طاعة رسول الله (ص) والتحذير من طوائف يعارضون سنّة النبي بالقرآن.

وقد أفاض المؤلّف في هذا الباب في الحديث عن الذين يعارضون السنّة بالقرآن في عصره، وكال لهم من نعوت الزيغ والضلال، وحضّ إخوانه وأتباعه على ألاّ يسلكوا مسلكهم وأن يتمسّكوا بالسنّة بقوّة.

والذين يعارضون السنّة بالقرآن يقصد بهم الذين يعرضون الروايات على القرآن، ويحاولون ضبطها بنصوصه، ونبذ ما يعارض هذه النصوص ويصطدم بها، أو يضيف عليها أحكاماً جديدة، وهو الأمر الذي يرفضه الحنابلة بشدّة.

قال صارخاً مكفِّراً لهؤلاء: إنّ قائل هذه المقالة يتحلّى بحلية المسلمين، ويضمر على طوية الملحدين، يظهر الإسلام بدعواه، ويجحده بسرّه وهواه.

ولاشكّ أنّ هذا الكلام يعني تكفير هؤلاء، ولا يخفى ما في هذا الكلام من تحريض.

وروى عن مكحول قوله: السنّة سنّتان:

سنّة الأخذ بها فريضة وتركها كفر.

وسنّة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير حرج.

والأُولى يقصد بها الروايات والآثار التي ورثها الحنابلة واعتبروها ديناً.

وهذا الأثر ومثله كثير ممّا يكتظّ به كتاب ابن بطّة هو عماد الحنابلة في مواجهة خصومهم.

والباب الثاني من هذا الكتاب جاء تحت عنوان: ما أمر به من التمسّك بالسنّة والجماعة، والأخذ بها وفضل مَن لزمها.

وقد حشّد في هذا الباب عشرات الروايات والآثار الإرهابية التي تحذّر من ترك السنّة والالتزام بالأثر وعدم الابتداع.

ص:60

وهو إشارة إلى لزوم خط الحنابلة ومن على شاكلتهم، وعدم الحيدة عنهم إلى أصحاب العقل المبتدعين المنحرفين عن الجماعة.

إلاّ أنّ ابن بطّة لم يحدّد لنا ما هو مقصوده بالجماعة؟

والبِدعة في مفهوم الحنابلة والوهّابيّين هي كلّ ما خالف رواياتهم وعقائدهم.

والجماعة هي جماعتهم التي يطلقون عليها دائماً أهل الحديث ويعدّونها الفرقة الناجية من النار.

وقد استخدم ابن بطّة شعار الحنابلة الدائم: شرّ الأُمور محدثاتها، وكلّ محدثة بِدعة، وكلّ بِدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار.

وهو شعارٌ مشتقٌّ من روايةٍ منسوبةٍ للرسول (ص) .

وفي باب حمل عنوان: ترك السؤال عمّا لا يعني، والبحث والتنقير عمّا لا يض-ر جهله، والتحذير من قومٍ يتعمّقون في المسائل ويتعمّدون إدخال الشكوك على المسلمين، قال:

اعلموا أنّي فكّرت في السبب الذي أخرج أقواماً من السنّة والجماعة، واضطرّهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلبلة على أفئدتهم، وحجب نور الحق عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين:

أحدهما: البحث والتنقير وكثرة السؤال عمّا لا يعني، ولا يضر العاقل جهله، ولا ينفع المؤمن فهمه.

والآخر: مجالسة مَن لاتؤمن فتنته وتفسد القلوب صحبته.

ونقل رواية عن عمر تقول: إنّ رجلاً سأله عن سورة الذاريات والنازعات والمرسلات فهدّده وأمر الناس بعدم مجالسته.

وفي روايةٍ أُخرى: أنّه سأله عن تأويل وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً * فَالْحامِلاتِ وِقْراً. (الذاريات: ١ و٢)

فقام إليه وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتّى سقطت عمامته.

ص:61

يقول الراوي عن السائل: فلم يزل وضيعاً في قومه حتّى هلك وكان سيّدهم.

ويبدو من عنوان هذا الباب أنّه يمثّل دعوة صارخة لرفض البحث والحوار والنظر في المسائل، والتعمّق في أُمور الدين، وجملةً هو دعوة صريحة لرفض العقل وإعماله فيما يسمع ويكتب.

ووضع ابن بطّة باباً تحت عنوان: التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب، ويفسدون الإيمان حشد فيه أيضاً عشرات الروايات والنصوص الإرهابية التي تحذّر من التيّارات والمذاهب الأُخرى، وترهب المسلم من الاقتراب منها.

وهو كما واضح تحذير من المخالفين الذين اعتبرهم ابن بطّة يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان، وهو ما يعني شقّ الأُمّة وإشاعة الفرقة بين صفوفها.

وإتماماً للأمر زاد من جرعة الإرهاب والتخويف للمسلمين بحشد العديد من الآثار:

ماأُبالي سألت صاحب بِدعةٍ عن ديني أو زنيت.

مَن جلس إلى صاحب بدعةٍ أورثه الله العمى.

علامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة.

مَن أحبّ صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه.

لا تجلس مع صاحب بِدعة فإنّي أخاف أن تنزل عليك اللعنة.

لا تخالط صاحب بدعة.

لئن أُجاور يهودياً ونصرانياً وقردة وخنازير أحبّ إليّ من أن يجاورني صاحب هوى يمرض قلبي.

أُحبُّ أن يكون بيني وبين المبتدع حصنٌ من حديد.

مَن يجالس أصحاب البِدَع أشدّ علينا من أهل البِدَع.

وفي بابٍ تحت عنوان: ذمّ المراء والخصومات في الدين والتحذير من أهل الجدل والكلام حشد العديد من الآثار الإرهابية، منها:

أسرع الناس ردّة أهل الأهواء.

ص:62

لاتجالسوا أصحاب الخصومات فإنّهم الذين يخوضون في آيات الله.

الخصومات في الدين تحبط الأعمال.

كان سفيان إذا رأى إنساناً يجادل ويماري يقول: أبو حنيفة وربِّ الكعبة.

ما حدّثوك عن أصحاب محمّد فأقبل عليه، وما حدّثوك عن رأيهم فألقه في الحش.

إنّما يخاصم الشاك في دينه.

لا تجادلوا أصحاب الأهواء فإنّهم يمرضون القلوب.

كان محمّد بن سيرين ينهى عن الكلام ومجالسة أهل الأهواء.

قال ابن بطّة: أهل الأهواء في تكفير بعضهم لبعض مصيبون؛ لأنّ اختلافهم في شرائع شرّعتها أهواؤهم، وديانات استحسنتها آراؤهم فتفرّقت بها الأهواء، وشتّت بهم الآراء، وحلّ بهم البلاء، وحرموا البصيرة والتوفيق فزلّت أقدامهم عن محجّة الطريق فالمخطئ منهم زنديق، والمصيب على غير أصلٍ وتحقيق.

ومثل هذا الكلام ينطبق على الحنابلة أيضاً، وينطبق أيضاً على الوهّابيّين حنابلة العصر، فقد اختلفت بهم الأهواء وكفّر بعضهم بعضاً، وحرموا البصيرة والتوفيق بشهادة فقهائهم الذين وقعوا فيهم واعتبروهم من الخوارج.

وليس أدلّ على ذلك ممّا ينشر من منشورات في أوساطهم تدعو للتكفير والغلو، وأُخرى تردّ عليها.

وممّا يبرز في وسطهم من فرق متطرّفة مابين الحين والآخر.

وممّا يحدث في أوساطهم من حوادث إرهابية.

وكلّ ذلك هو من صنع أيديهم، ومن نتاج هذا الفكر الإرهابي الذي ورثوه عن أسلافهم الحنابلة.

ووضع ابن بطّة باباً تحت عنوان: التحذير من استماع كلام قومٍ يريدون نقض الإسلام ومحو شرائعه فيكنّون عن ذلك بالطعن على فقهاء المسلمين وعيبهم بالاختلاف.

ص:63

وكلامه في هذا الباب يؤسّس للإرهاب في مواجهة الآخر، ويقنّن للعداء بين المسلمين، والرفض المطلق للآخر، وهو ما يترجمه لنا الوهّابيّون المعاصرون من خلال ممارساتهم ومواقفهم.

والحنابلة يعتبرون على الدوام أنّهم الممثّل الشرعي للإسلام ولسنّة الرسول (ص) ، وعلى هذا الأساس اعتبروا المخالفين لهم أعداء للإسلام يريدون نقضه ومحو شرائعه.

والمساس بفقهاء الحنابلة أو عيبهم والطعن فيهم يُعدّ طعناً في الإسلام في مفهوم ابن بطّة.

وإجابة على تساؤل حول اختلاف أهل الفرقة الناجية (الحنابلة أهل الحديث) وتباين مذاهبها واختلاف فقهائها، وأنّ المعتزلة والرافضة وأهل الأهواء يعيبونهم بهذا الاختلاف، ويقولون الحق واحد، فكيف يكون في وجهين مختلفين؟

قال ابن بطّة: أمّا ما تحكيه عن أهل البدع ممّا يعيبون به أهل التوحيد والإثبات (الحنابلة) من الاختلاف فإنّي قد تدبّرت كلامهم في هذا المعنى، فإذا هم ليس الاختلاف يعيبون ولا له يقصدون، وإنّما هم قوم علموا أنّ أهل الملّة وأهل الذمّة والملوك والسوقة والخاصّة والعامّة، وأهل الدنيا كافّة إلى الفقهاء يرجعون، ولأمرهم يطيعون، وبحكمهم يقضون، في كلّ ما أشكل عليهم، وفي كلّ ما يتنازعون فيه. وكلّ ذلك فيه غيظ لأهل الأهواء واضمحلال للبدع، فهم يوهون أمر الفقهاء، ويضعفون أُصولهم، ويطعنون عليهم بالاختلاف لتخرج الرعية عن طاعتهم والانقياد لأحكامهم فيفسد الدين.

أمّا أهل البدع فإنّهم يقولون على الله ما لا يعلمون. ويتّهمون أهل العدالة والأمانة في النقل. وهم أكثر الناس اختلافاً، وأشدّهم تنافياً وتبايناً. . فاختلافهم كاختلاف اليهود والنصارى.

وأمّا الرافضة فأشدّ الناس اختلافاً وتبايناً وتطاعناً، وكلّ طائفة تنتحل مذهباً وإماماً وتلعن مَن خالفها عليه وتكفّره.

ص:64

ولولا ما نؤثر من صيانة العلم الذي أعلى الله أمره، وشرّف قدره ونزّهه أن يخلط به نجاسات أهل الزيغ وقبيح أقوالهم ومذاهبهم. لذكرت من ذلك ما فيه عبرة للمعتبرين.

وروى عن طلحة بن مص-رف قال: لولا أنّي على طهارة لأخبرتكم بما تقوله الرافضة.

وهذه اللغة المتطرِّفة ورثها ابن تيمية عن ابن بطّة فيما بعد، واستخدمها في مواجهة خصومه من الشيعة وغيرهم، وتلقّفها منه الوهّابيّون ليشكّلوا بها أزمة في واقع المسلمين اليوم.

وفي الختام نستعرض لبابين تحت عنوان: كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة، وإباحة قتالهم وقتلهم، وذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج عن الملّة.

وقد حشد ابن بطّة كعادته العديد من الروايات التي تقول بكفر تارك الصلاة والزكاة، والتي تكفّر على أساس ذنوب هي من صنع الروايات ولا أساس لها في القرآن.

وفيما يتعلّق بالصلاة والزكاة جاء برواية تقول:

ما بين العبد والشرك أو الكفر ترك الصلاة.

وأُخرى تقول: أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم.

وفيما يتعلّق بالذنوب المكفّرة جاء بالروايات التالية:

سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.

مَن أتى عرّافاً أو كاهناً فصدّقه فقد كفر بما أُنزل على محمّد.

ثلاثٌ هنّ من الكفر بالله: النياحة، وشقّ الجيوب، والطعن في النسب.

المراء في القرآن كفر.

مَن قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما.

ص:65

لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

مَن أتى امرأةً في دبرها فقد كفر.

كفر بالله عزّ وجلّ ادّعاء نسب لا يعرف، وكفر بالله تعالى تبرؤ من نسب وإن دق.

مَن رغب عن أبيه فقد كفر.

وهذه الروايات جميعها منسوبة للرسول، والروايتين الأخيرتين نُسبتا إلى أبي بكر وعمر مع نسبتهما للرسول (ص) .

وجاء ابن بطّة بروايةٍ منسوبةٍ لأبي هريرة، تقول: إتيان أدبار النساء والرجال كفر.

إلاّ أنّ ما يمكن قوله حول الروايات التي تتعلّق بالذنوب المكفّرة أنّها تنطبق بدقّةٍ شديدةٍ على: الحنابلة القدامى، وابن تيمية، وابن عبد الوهاب وأتباعه من حنابلة العصر.

ص:66

ص:67

اللالكائي المُخالِفون لا حُرْمةَ لهم

اشارة

ومن بين المنشورات الوهّابيّة التي قام الوهّابيّون بنش-رها: منشور تحت عنوان: (شرح اعتقاد أهل السنّة والجماعة) من الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة والتابعين من بعدهم.

قال المحقّق الوهّابي في مقدّمته: نشر هذا الكتاب وأمثاله من الكتب التي تعتبر مرجعاً لعقيدة أهل السنّة والجماعة ممّا ينبغي أن يهتم به طلبة العلم، فإنّ العالم الإسلامي قد ابتُلي بكتب علم الكلام التي قامت على مناهج الأُمم الوثنية قبل الإسلام، والتي لا تتفق مع مناهج الإسلام، وللأسف نجد أنّ علماء الكلام تركوا ما جاء من عند الله عزّ وجلّ وولّوا وجوههم جهة العلوم البشرية الجاهلية التي كانت قبل الإسلام.

وكما هو نهج الحنابلة والوهّابيّين، هاجم المحقّق الفلاسفة والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وركّز على الأشاعرة والماتريدية؛ لكون معتقداتهم لا تزال باقية ومنتش-رة بين المسلمين وتدرّس في أكثر البلدان الإسلامية، ممّا يدعو إلى نش-ر الكتب السليمة التي تصحّح الانحراف وتقوّمه، وتُعيد الأُمّة إلى كتاب ربِّها وسنّة نبيّها، ونبذ تلك

ص:68

المناهج الجاهلية التي لا تجتمع مع مناهج النبوّة والتي تشتمل على مفاسد عظيمة تخلخل الدين وتفقد الثقة به حسبما ذكر.

وحدّد المحقّق منهج أهل السنّة فيما يلي:

- اتّباع كتاب الله وسنّة رسوله (ص) في كلّ قضيّةٍ من قضايا العقيدة، وعدم ردّ شيءٍ منها أو تأويله.

- الالتزام بما كان عليه أصحاب رسول الله.

- عدم مجادلة أهل البِدَع، أو مجالستهم، أو سماع كلامهم، أو عرض شبههم.

- عدم الخوض في الأُمور الاعتقادية ممّا لا مجال فيه للعقل البش-ري من الأُمور الغيبيّة.

- الحرص على جماعة المسلمين ووحدة كلمتهم.

وقال معلِّقاً: ولم يحدث الانحراف في الأُمّة إلاّ عندما انحرفت عن هذا المنهج، وأعرضت عن وحي الله إلى مناهج بشرية بعضها من مخلّفات الفلسفة اليونانية الوثنية، وبعضها من نتاج العقول المنحرفة الجاهلة بدين الله، فتفرّقت الأُمّة إلى طوائف ومذاهب لكلٍّ منها منهجه وطريقته وإمامه وأتباعه.

وقال: يتضمّن هذا الكتاب الذي أقوم بتحقيقه بيان عقيدة أهل السنّة والجماعة، والردّ على المخالفين لها الذين أحدثوا في دين الله عقائد مبتدعة تخالف العقيدة التي جاء بها رسول الله (ص) ، وعاش عليها الصدر الأوّل من هذه الأُمّة.

وعدّ المحقّق الأسباب التي أدّت إلى ظهور البِدَع بين المسلمين فيما يلي:

- الغلو ويمثّله في تصوّره الخوارج والشيعة.

- الردّ على البِدعة بمثلها أو أشدّ منها.

- المؤثِّرات الأجنبية، وعدّها فيما يلي:

- ابن سبأ بالنسبة للشيعة.

- النصارى بالنسبة للقدرية.

ص:69

- الفلاسفة، والصابئة، واليهود بالنسبة للجهمية.

- تحكيم العقل في القضايا الشرعية، أي: في أُمور العقيدة والروايات.

- تعريب كتب الفلسفة.

ويقول عن اللالكائي: لم تف كتب التاريخ والتراجم بتاريخ الحافظ اللالكائي، فلم تذكر شيئاً عن نشأته ولا أُسرته، ولا بداية طلبه للعلم، ولا رحلاته العلمية، ولا بداية تدريسه.

نصوص الكتاب

يقول اللالكائي في مقدّمته: هذه الوصايا الموروثة المتبوعة، والآثار المحفوظة المنقولة، وطريق الحقّ المسلوكة، والدلائل اللايحة المشهورة، والحجج الباهرة المنصورة، التي عملت عليها الصحابة والتابعون ومن بعدهم، من خاصّة الناس وعامّتهم من المسلمين، واعتقدوها حجّةً فيما بينهم وبين الله ربّ العالمين، ثمّ اقتدى بهم من الأئمّة المهديين، واقتفى آثارهم من المتبعين، واجتهد في سلوك سبيل المتقين، وكان مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون، فمَن أخذ في مثل هذه الحجّة، وداوم بهذه الحجج على منهاج الشريعة أمن في دينه وتمسّك بالعروة الوثقى، واتّقى بالجنّة التي يتّقى بمثلها ليتحصّن بجملتها ويستعجل بركتها ويحمد عاقبتها.

ومَن أعرض عنها وابتغى الحق في غيرها ممّا يهواه أو يروم سواها ممّا تعدّاه، أخطأ في اختيار بغيته وأغواه وسلكه سبيل الضلالة، وأرداه في مهاوي الهلكة فيما يعترض على كتاب الله وسنّة رسوله (ص) بضرب الأمثال ودفعهما بأنواع المحال، والحيدة عنهما بالقيل والقال ممّا لم يُنزل الله به من سلطان، ولا عرفه أهل التأويل واللسان، ولاخطر على قلب عاقلٍ بما يقتضيه من برهان، ولا انشرح له صدر موحِّدٍ عن فكرٍ أو عيان، فقد استحوذ عليه الشيطان، وأحاط به الخذلان، وأغواه بعصيان الرحمن، حتّى كابر نفسه بالزور والبهتان.

ص:70

ويبدو من خلال هذا الكلام اللغة المتطرّفة التي يستخدمها الحنابلة على الدوام في مواجهة خصومهم، تلك اللغة التي تحوي صوراً من التهديدات والإنذارات التي صيغت بصورة سجعيّة لتحريك مشاعر العامّة وضعاف العقول، وتحريضهم على المخالفين.

ويبدو - أيضاً - الغرور والتعصّب لما هو عليه وكأنّه ملك ناصية الحق واحتكر الدين عن بقيّة الخلق.

ولاشك أنّ النتيجة الطبيعية لهذه اللغة هي تأسيس التطرّف والإرهاب والعدوانية بين الأتباع، وهو ما تطبّع به الحنابلة من قبل، وما تطبّع به الوهّابيّون اليوم.

ومثل هذه اللغة لا صلة لها بالفقه، وهي تدلّ دلالةً واضحةً على افتقاد أدوات العلم والخُلُق لدى هؤلاء الحنابلة المتعصّبين، فمن شيم الفقهاء: التواضع، والاعتدال، والقناعة أنّ ما بين أيديهم ليس هو نهاية المقال، وإنّما هو خاضع للاحتمال والقيل والقال.

وليس هذا هو منطق الحنابلة الذين جرموا العقل وركنوا إلى الروايات والآثار.

وهذا يبدو بوضوح من خلال كلام اللالكائي عن نتائج تحكيم العقل في أُمور الدين والشريعة حيث يقول عن الخصم: فهو دائب الفكر في تدبير مملكة الله بعقله المغلوب وفهمه المقلوب: بتقبيح القبيح من حيث وهمه، أو بتحسين الحسن بظنّه، أو بانتساب الظلم والسفه من غير بصيرةٍ إليه، أو بتعديله تاه كما يخطر بباله، أو بتجويره أُخرى كما يوسوسه شيطانه، أو بتعجيزه عن خلق أفعال عباده، أو بأن يوجب حقوقاً لعبيده عليه قد ألزمه إيّاه بحكمه لجهله بعظيم قدره، وأنّه تعالى لا تلزمه الحقوق، بل له الحقوق اللازمة والفروض الواجبة على عبيده، وأنّه المتفضِّل عليهم بكرمه وإحسانه.

فهو راكضٌ ليله ونهاره في الردّ على كتاب الله وسنّة رسوله (ص) والطعن عليهما، أو مخاصماً بالتأويلات البعيدة فيهما، أو مسلّطاً رأيه على مالا يوافق مذهبه بالشبهات المخترعة الركيكة؛ حتّى يتّفق الكتاب والسنّة على مذهبه وهيهات أن يتّفق.

ص:71

وهذا الكلام كما هو واضح موجّه للمعتزلة الذين كانوا يشكّلون جبهةً قويةً في مواجهة الحنابلة بزمانهم، فمن ثمّ ركّزوا عليهم في كتبهم ومقالاتهم موجِّهين نحوهم شتّى الحراب والسهام، وشتّى صور الشتم والسب واللعن والتشويه، كما فعلوا مع الشيعة والجهمية.

وهذا كلّه يدلّ على افتقادهم أدوات العلم، ولغة الحوار والخُلق في مواجهة الآخر.

وقد واصل المؤلِّف حملته على المعتزلة باتّهامهم بالجهل بالكتاب والسنّة، وأنّهم لم يتديّنوا بمعرفة آيةٍ من كتاب الله في تلاوةٍ أو دراية، ولم يتفكّروا في معنى آيةٍ ففس-ّروها أو تأوّلوها على معنى اتّباع مَن سلف من صالح علماء الأُمّة إلاّ على ما أحدثوا من آرائهم الحديثة، ولا اغبرّت أقدامهم في طلب سُنّة، أوعرفوا من شرائع الإسلام مسألة فيعدّ رأي هؤلاء حكمة وعلماً وحججاً وبراهين، ويعدّ كتاب الله وسنّة رسوله حشواً أو تقليداً، وحملتها جهالاً وبلهاء ذلك ظلماً وعدواناً وتحكّماً وطغياناً.

وكما عادة الحنابلة في الخلط بين الأُمور، فقد خلط اللالكائي بين كتاب الله والسنّة معتبراً أنّ المعتزلة يعدّونها حشواً، بينما هم في الحقيقة يقصدون الروايات التي غرق فيها الحنابلة ولا يقصدون القرآن.

وكلمة حشوية إنّما أطلقها المعتزلة على الحنابلة وأهل الحديث بسبب انغماسهم في الروايات والآثار وإهمال العقل؛ فمذهبهم محشو بالروايات وأقوال الرجال ولا مجال فيه للاجتهاد والرأي.

ويبدو الخلط واضحاً أيضاً في قوله عن المعتزلة: ثمّ ما قذفوا به المسلمين من التقليد والحشو، فهو في مقالته الأُولى ربط رواياته وآثاره بالكتاب، وفي مقالته الثانية ربط مذهبه بالمسلمين، وكأنّه بهذا يريد التأكيد على أنّ الحنابلة يمثّلون المسلمين دون غيرهم.

وهذا الخلط إنّما هو من أوهام الحنابلة، التي عاشوا فيها ويعيش فيها الوهّابيون اليوم، بتصوّرهم أنّهم أهل الحق والفرقة الناجية من النار.

ص:72

ولاشكّ أنّ فرقةً تتبنّى هذا التصوّر لابدّ وأن تكون متعصّبة ومتطرّفة في مواجهة المخالفين لها، لا تعترف بهم ولا تتحاور معهم ولا تنصفهم.

ويبدو لنا أنّ الحنابلة انزعجوا انزعاجاً شديداً بظهور الاتّجاه العقلي بين المسلمين؛ فشنّوا عليه حرباً شعواء وحرّضوا عليه العامّة والحكّام.

والسؤال هنا هو: لماذا ينزعج الحنابلة من الاتّجاه العقلي ويشنّون عليه هذه الحرب؟

والجواب أنّه من الطبيعي على مذهب يتعبّد بالروايات وأقوال الرجال أن يعادي العقل؛ لكونه يشكّل خطراً على رواياتهم وآثارهم التي يربطونها بالكتاب مخافة أن تنهار وتزول.

من هنا رفع الحنابلة في مواجهة التيّار العقلي وأهل الرأي العديد من الشعارات، منها:

شعار الفرقة الناجية.

أهل الحديث أولى الناس بالاتّباع.

التمسّك بالسلف.

ومن خلال الباب الأوّل من الكتاب الذي حمل عنوان: سياق من رسم بالإمامة في السنّة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة بعد رسول الله (ص) وثواب مَن حفظ السنّة وأحياها ودعا إليها، والحث على التمسّك بما روي في الكتاب والسنّة عن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم والخالفين لهم من علماء الأُمّة. يحاول اللالكائي التأكيد على لزوم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ذاكراً أسماءهم بدايةً من أبي بكر.

واستعرض العديد من الروايات والآثار في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم، والمكالمة معهم والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم الخبيثة، مؤكّداً فشل العقائد المبتدعة أمام عقيدة أهل السنّة والجماعة التي هى سبيل الحق حسب تعبيره.

نماذج من الروايات والآثار الواردة في هذا الباب:

ص:73

- مَن سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً كان له أجرها وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، ومَن سَنّ في الإسلام سنّةً سيّئةً كان عليه وِزْرها ووِزْر مَن عمل بها إلى يوم القيامة.

- مَن أحيا سنّتي فقد أحبّني ومَن أحبّني كان معي في الجنّة.

- النظر إلى الرجل من أهل السنّة يدعو إلى السنّة عبادة.

- الاعتصام بالسنّة نجاة.

- إذا كان الرجل صاحب سنّة وجماعة فلا تسأل عن أيّ حالٍ كان فيه.

- إنّ الذين يتمنّون موت أهل السنّة يريدون أن يطفئوا نور الله بأبصارهم.

- امتحن أهل الموصل بمعافى بن عمران فإن أحبّوه فهم من أهل السنّة، وإن أبغضوه فهم أهل بِدعة.

ورواية: من أحيا سنّتي فقد أحبّني، ومَن أحبّني كان معي في الجنّة، قال فيها المحقّق: سنده ضعيف، فيه راويان مجهولان.

ولم يكتف اللالكائي بالاستشهاد بالروايات والآثار، بل اتّجه إلى القرآن ليستنجد ببعض نصوصه التي أوّلها البعض لصالح أهل السنّة.

ومن هذه النصوص:

قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها (الجاثية: ١٨) ، قال: على السنّة.

وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي (آل عمران: ٣١) ، قال: اتّباع سنّة رسول الله.

وقوله تعالى: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (طه: ٨٢) ، قال: لزوم السنّة والجماعة.

وقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ (آل عمران: ١٠6) ، قال: فأمّا الذين ابيضت وجوههم فأهل السنّة، وأمّا الذين اسودّت وجوههم فأهل البِدَع والضلالة.

وفي الوقت الذي يقبل فيه اللالكائي بتأويل نصوص القرآن لصالح مذهبه، يرفض رفضاً قاطعاً تأويلات الآخرين لنصوصه بما يخدم مذهبهم، وهي سنّة الحنابلة

ص:74

الدائمة في مواجهة خصومهم، فكما احتكروا الروايات احتكروا القرآن أيضاً.

حتّى أنّ واحداً من كبار الحنابلة ألّف كتاباً أسماه (إبطال التأويلات) أنكره عليه الفقهاء في زمانه؛ لما تضمّنه من روايات وآثار واهية وموضوعة تقود إلى التجسيم في صفات الله تعالى، وتصدّى له شيخ الحنابلة ورئيسهم في بغداد أبو محمّد رزق الله الحنبلي الذي قال فيه: لقد شان المذهب شيناً قبيحاً لا يُغسل إلى يوم القيامة، وقد أتى في كتابه هذا بكلّ عجيبة، وترتيب أبوابه يدلّ على التجسيم المحض، كما ذكر.(1)

ومن بين الروايات التي جاء بها اللالكائي في هذا الباب رواية تقول: إنّي تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله عزّ وجلّ فيه الهدى والنور، مَن استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومَن تركه وأخطأه كان على الضلالة، وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، ثلاث مرّات.

والاستدلال بهذه الرواية هو حجّة على الحنابلة وأهل السنّة، وهو من جانبٍ آخر يشير إلى أنّ الحنابلة لايستخدمون عقولهم حتّى في الروايات التي تقوم عليها عقائدهم.

والحنابلة وأهل السنّة يقولون بأنّ الرسول (ص) مات ولم يجمع القرآن وتركه متفرّقاً في صدور الناس، وقام بجمعه أبوبكر وعمر، بينما هذه الرواية تؤكّد أنّ الرسول (ص) أوصى بكتاب الله وهي إشارة إلى كونه كان مجموعاً، ووصيّته بأهل بيته إشارة أُخرى إلى كونه كان مبيّناً، وهذا البيان لدى أهل البيت، وهو المقصود من قوله فيه الهدى والنور.

والهدى والنور لابدّ له من مرشد، فلا يعقل أن يكون الكتاب مجموعاً ومتروكاً دون جهة تهدي الناس إلى نوره.


1- هو القاضي أبو يعلى الحنبلي المتوفّى عام 45٨ه؛ انظر الكامل في التاريخ، ج٩، ص46٠، حوادث عام 4٢٩، ج١٠، ص5٢، عام 45٩ه، وسِيَر أعلام النبلاء، ج ١٨، ص٨٩، ترجمة أبي يعلى؛ وانظر التحذيرات من كتاب إبطال التأويلات للأزهري.

ص:75

والطريف أنّ اللالكائي جاء برواية عن أبي هريرة، تقول: إنّي قد خلّفت فيكم ما لن تضلّوا بعدهما، إن ما أخذتم بهما أو عملتم بهما: كتاب الله، وسنّتي؛ لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض.

قال المحقّق معلّقاً على هذه الرواية: سنده ضعيف، فيه صالح بن موسى الطلحي، قال فيه الذهبي: ضعيف، وقال يحيى: ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك.

هذا مع الإشارة إلى أنّ هناك روايات أُخرى في كتب السنن بنفس النص ولكن في أهل البيت، أي: ربطت الكتاب بأهل البيت وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.

وروى اللالكائي عن جابر قال: خطّ لنا رسول الله (ص) خطّاً، فقال: هذا سبيل، ثمّ خطّ خطوطاً، فقال: هذه سُبُل الشيطان فما منها من سبيلٍ إلاّ عليه شيطان يدعو إليه الناس، فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيبه، وأنا تارك فيكم الثقلين: أوّلهما كتاب الله عزّ وجلّ: فيه الهدى والنور، مَن استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومَن تركه وأخطأه كان على الضلالة، وأهل بيتي، أذكّركم الله عزّ وجلّ في أهل بيتي، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا.

قال المحقّق: سنده ضعيف، فيه مجالد بن سعيد: ضعيف، والحديث رواه: أحمد، والمروزي، وابن ماجة، وابن أبي عاصم.

قال الألباني: حديث صحيح، إسناده ضعيف، رجاله ثقات غير مجالد وهو ابن سعيد، لكنّه قد توبع في الطريق الثالثة فالحديث بهما صحيح.

وتجدر الإشارة هنا إلى معظم الروايات التي اعتمد عليها اللالكائي كأسانيد لمعتقدات أهل السنّة وكأسلحة في مواجهة الخصوم، هي روايات ضعيفة، وهو ما شهد به المحقّق.

ومن هذه الروايات:

تفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين ملّة كلّها في النار إلاّ واحدة.

ص:76

- فقالوا: يارسول الله ما هي؟

قال: ما أنا عليه وأصحابي، لا تجتمع أُمّتي على ضلالة، إنّ الله أمرني بالجماعة، وأنّه مَن خرج من الجماعة شبراً فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه.

- ما ضلّ قومٌ من بعد هدى إلاّ أوتوا الجدل.

- مراء في القرآن كفر.

- لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم.

- إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا.

- القدرية مجوس هذه الأُمّة فإذا مرضوا فلا تعودوهم، وإذا ماتوا فلا تشهدوهم.

- صنفان من أُمّتي ليس لهما في الإسلام سهم: المرجئة والقدرية.

- صنفان من أُمّتي لا يردان عليَّ الحوض: القدرية والمرجئة.

- لُعنت القدرية على لسان سبعين نبيّاً منهم نبيّنا.

وإذا كان هذا هو حال الروايات المنسوبة للرسول (ص) فكيف يكون حال الآثار المنسوبة للرجال؟

وجاء اللالكائي بروايةٍ تقول: لا ألفين أحدكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول: ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه.

وعلّق المحقّق على هذه الرواية بقوله: وفي هذا الحديث دليل على أنّه لا حاجة بالحديث إلى أن يعرض على القرآن، وما ورد من الآثار في عرض الأحاديث على القرآن لم تثبت.

ونقل قول الخطابي: وأمّا ما رواه بعضهم: إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه، وإن خالفه فدعوه، فإنّه حديثٌ باطلٌ لا أصل له.

ونقل قول يحيى بن معين: وضعته الزنادقة.

وبالطبع فإنّ قبول مثل هذه الرواية من قِبَل الحنابلة يعني هدم مذهبهم وضياع

ص:77

معتقداتهم وفقدانهم أهمّ الأسلحة التي يشهرونها في وجه خصومهم.

ومثل هذه الرواية تضع قاعدةً هامّةً لضبط ما يُنسب للرسول (ص) من أقوالٍ وأفعالٍ تصطدم بالقرآن والعقل، وهو ما التزم به الشيعة في رواياتهم.

ويظهر لنا اعتماد اللالكائي كثيراً على الآثار التي تُعدّ بمثابة سهام وحراب موجّهة لخصوم الحنابلة من التيّارات والمذاهب الأُخرى.

ومن هذه الآثار:

- إنّ الصغير إذا أخذ بقول رسول الله والصحابة والتابعين فهو كبير، والشيخ الكبير إن أخذ بقول أبي حنيفة وترك السنّة فهو صغير.

- ليس طريق أقصد إلى الجنّة من طريق مَن سلك الآثار.

- اقتصاد في السنّة خير من الاجتهاد في بِدْعة.

- البِدْعة أحبّ إلى إبليس من المعصية.

- مَن طلب الدين بالكلام تزندق.

- ليس لأهل البِدْعة غيبة.

- أهل الأهواء لا حرمة لهم.

فتاوى إرهابيّة

وفي الجزء الثاني من الكتاب حشد المؤلِّف العديد من الروايات التي توجب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل، وما ورد في كتاب الله من الآيات ممّا فسّ-ر أو دلّ على أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وما رُوي من إجماع الصحابة على أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وذكر إجماع التابعين وتابعي التابعين على ذلك.

ثمّ ذكر مجموعةً من الفتاوى فيمن قال: القرآن مخلوق:

قال مالك: بكفره وقتله، وفي رواية يُستتاب فإن تاب وإلاّ ضُربت عنقه.

وقال سفيان بن عيينة: جيئوني بشاهدين حتّى آمر الوالي بضرب عنقه.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما كنت أعرض أحداً من أهل الأهواء على السيف

ص:78

إلاّ الجهمية.

وقال الربالي: هم واللهِ كفّار.

وقال وكيع: يُستتاب فإن تاب وإلاّ ضُربت عنقه.

وقال الخريبي: مَن قال القرآن مخلوق فعلى الإمام - الحاكم - أن يستتبه فإن تاب وإلاّ ضُربت عنقه.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: إنّ هذا كفر فإن رجع وإلاّ ضُربت عنقه.

والبعض قال: مَن شكّ في كفره فهو كافر.

وقام اللالكائي بعد ذلك بحشد العديد من الأسماء ممّن قال: إنّه لا يرث ولا يورث، ومَن قال: إنّ امرأته طالق، ومن قال: لا ينكحون ولا يصلّى خلفهم ولا تعاد مرضاهم ولا تُشهد جنائزهم، وأنّ موالاة الإسلام انقطعت بينهم وبين المسلمين.

ثمّ حشد العديد من الأسماء ممّن قال بتكفير مَن وقف في القرآن شاكّاً فيه: أنّه غير مخلوق، وفي تكفير مَن قال لفظي بالقرآن مخلوق.

والطريف أنّه وضع باباً فيمَن رأى الرسول (ص) في المنام وسأله عن القرآن فأجاب بأنّه غير مخلوق، وما روى من الرؤيا السوء لمَن قال بخلق القرآن في الدنيا، وما أعدّ له في الآخرة أكثر.

وما روى عن النبي والصحابة والتابعين في مجانبة أهل القدر وسائر أهل الأهواء.

وما روى من المأثور عن الصحابة ونقل عن أئمّة المسلمين من إقامة حدود الله في القدرية من القتل والنكال والصلب.

وما روى في منع الصلاة خلف القدرية والتزويج إليهم وأكل ذبائحهم وردّ شبهاتهم.

وما روى في تضليل المرجئة وهجرانهم وترك السلام عليهم والصلاة خلفهم والاجتماع إليهم.

وما روى من رؤية النبي (ص) في النوم وما حفظ من قوله في المرجئة.

ص:79

وما روى عن النبي (ص) في طاعة الأئمّة والأُمراء ومنع الخروج عليهم.

وما روى عن النبي (ص) من الوعيد على مَن لعن الصحابة، أو تنقّصهم، أو نال منهم وتتبّع عوراتهم.

وما روى من دعاء السلف الصالح على اللعّانين، وما أظهر الله من تعجيل العقوبة والنكال لهم في الدنيا، وما أعدّ الله لهم في الآخرة أكثر.

وما روى عن السلف في أجناس العقوبات والحدود التي أوجبوها وأقاموها على مَن سبّ الصحابة.

ومثل هذه الروايات والآثاركانت تُعدّ مبرّرات شرعيّة للبطش بالخصوم والمخالفين في منظور الحنابلة القدامى، وهي تؤدّي نفس الدور اليوم على يد حنابلة العصر من الوهّابيّين.

ص:80

ص:81

ابن تيمية إمام المتطرّفين. . .

اشارة

ورث ابن تيمية نهج الحنابلة ومعتقداتهم، وعمل على بعثها من جديد، بعد أن طواها الزمان لقرون طويلة منذ سقوط الدولة العبّاسية وتحوّل الحنابلة إلى مذهب من أقلّ المذاهب الإسلامية شأناً.

ورث فكر ابن حنبل والبربهاري وابن بطّة ولالكائي واصطدم به مع واقعه وفقهاء عصره.

إلاّ أنّ التوقيت الذي برز فيه ابن تيمية بأفكار ومعتقدات الحنابلة لم يكن مناسباً له وللحنابلة، وكانت النتيجة هي الثورة عليه من قِبَل فقهاء عص-ره ومن بينهم فقهاء الحنابلة.

برز ابن تيمية في عصر سلاطين المماليك العبيد، ذلك العص-ر الذي سادته المظالم وصور الاستبداد والفساد والانتهاكات والتلاعب بالمذاهب والفِرَق من قِبَل الحكّام.

ولم يعلن ابن تيمية الحرب على المماليك، بل أعلن الحرب على المسلمين المخالفين لفكره ومعتقداته، والذين أطلق عليهم اسم أهل البدع وأصحاب العقائد الفاسدة، وهو بهذا السلوك إنّما يتقمّص شخصية الحنابلة ويتبنّى مواقفهم التي تركّزت على

ص:82

المسلمين، وأُشهرت الحراب في وجوههم وتغاضت عن الحكّام ومنكراتهم وجرائمهم.

والحنابلة لم يكن يعنيهم أمر المسلمين ولا مصالحهم، وإنّما كان يعنيهم رواياتهم وآثارهم التي تمثّل الدين في تصوّرهم القاصر والفرقة الناجية من النار، وكلّ مَن يحاول المساس بهذه الروايات والآثار أو يقلّل من شأنها هو من الضآلين الهالكين.

وأبصار الحنابلة كانت متّجهة دائماً نحو الآخرة، ولم يكن يعنيهم من أمر الدنيا شيء، فمن ثمّ تسلّحوا بعقل الماضي وغابوا عن الواقع وعن قضاياه ومستجدّاته التي اعتبروها من عمل الشيطان بمثابة بِدع، وتضل الناس عن سبيل الله.

وقد حمل ابن تيمية هذا العقل وتصدّى به لخصومه من المسلمين ليخلق لنا صوراً جديدة من فتن الحنابلة لم يحتملها الواقع آنذاك.

الفقهاء وابن تيمية

وكان ردّ الفعل من قِبل الفقهاء هو مايلي:

منهم مَن طالب بقطع لسانه.

ومنهم مَن طالب بنفيه.

ومنهم مَن طالب بحبسه.

كان ابن تيمية طويل اللسان وكثير السبّ لمخالفيه، ولم يسلم من لسانه أحد، فقد سبّ: الغزالي، والأشاعرة، وسيبويه، وابن عربي، والرازي الذي كان كثير الحطّ عليه، وكان لسانه مسلّطاً على الشيعة أكثر من غيرهم.

في ربيع الأوّل من عام 6٩٨ه- ثار عليه الفقهاء بسبب فتوى له سمّيت بالفتوى الحموية وعقدت له جلسات، وأعلنت عليه الحرب من قِبَل الجميع.

وطلب إلى مصر أيّام ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وعقد له مجلس في مقالة قال بها، فطال الأمر وحكموا بحبسه بالإسكندرية، ثمّ إنّ الملك الناصر لمّا جاء من الكرك أخرجه.

ص:83

ولم يزل العوام بمصر يعظّمونه إلى أن أخذ في القول على السيّدة نفيسة فأعرضوا عنه، وثار عليه فقهاء مصر وأفتوا بقتله إلاّ أنّ السلطان عارضهم ولم يوافقهم.(1)

وحضر إلى دمشق في أيّام القاضي جلال الدين فتكلّموا معه في مسألة الزيارة، أي: قوله بتحريم زيارة قبر الرسول (ص) وكتبوا في ذلك إلى مصر، فورد مرسوم السلطان باعتقاله في القلعة، فلم يزل بها إلى أن مات سنة ثمّان وعشرين وسبعمائة.(2)

وسوف يأتي تفصيل أقواله ومواقفه.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو:

لماذا اختار الوهّابيّون ابن تيمية، وركّزوا عليه واعتبروه شيخ الإسلام من دون بقيّة فقهاء أهل السنّة؟

والجواب هو مايلي:

أوّلاً: إنّ شخصيّة ابن تيمية هي صورة من شخصيّة ابن حنبل.

ثانياً: إنّ محمّد بن عبد الوهاب لم يكن صاحب فقه أو مؤهّلات دعوية أو مقوّمات قيادية تمنحه القدرة على إبراز دعوته معتمداً على ذاته.

ثالثاً: إنّ الوهّابيّين هم امتداد للحنابلة، ضعاف العقول، المتعصّبين الباحثين لهم عن سند وركنٍ يركنون إليه في وسط واقع يعارضهم وينبذهم.

رابعاً: إنّ الوهّابيّين يتميّزون بغلظة القلوب والعدوانية وأصحاب طبيعة بدوية.

لأجل هذه الأسباب وغيرها مال الوهّابيّون لابن تيمية واعتبروه مرجعهم وسندهم في مواجهة مخالفيهم من المسلمين.

وشكّل ابن تيمية بمواقفه المتطرّفة وفتاواه الشاذّة نموذجاً جاذباً لمحمّد بن عبدالوهاب، صاحب الميول العدوانية الباحث عن دور وسند يركن إليه في دعواه


1- السيّدة نفيسة جدّها الإمام الحسن ع ، وكان الشافعي من مريديها، ولمّا توفّي في عام ٢٠4 ه- صلّت عليه، توفّيت في عام ٢٠٩ ه-.
2- انظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني ترجمة ابن تيمية ج ١، ص ١44.

ص:84

المخالفة لجمهور المسلمين المتصادمة مع الواقع، ووجد فيه ضالّته المنشودة، ووجد فيه أيضاً الوعاء الذي يغرف منه بلا حساب، فليس هو إلاّ مجرّد ناقل ومقلِّد لا بن تيمية، كما هو حال الحنابلة.

من هنا قام ابن عبد الوهاب ببعث تراث ابن تيمية الذي كان قد طواه النسيان وتحصّن به ورفع من قدره وضخّمه، وتناول الوهّابيّون منه هذا التراث وتعصّبوا له وقدّسوه.

ولم يكن لتراث ابن تيمية أن يبعث على يد أصحاب العقول وأهل الفقه، وإنّما قُدّر له أن يبعث على يد أنصار التقليد وأعداء العقل، وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على أنّ هذا التراث شاذٌّ ولا يتّفق مع روح الإسلام.

ضدّ الفقهاء

يُروى أنّ ابن تيمية تكلّم في حقّ مشايخ الصوفية - أي: سبّهم وهاجمهم - وقال: لا يُستغاث بالنبي (ص) فقُبض عليه وحُبس، ثمّ نقل أنّ جماعة يتردّدون عليه في السجن وأنّه يتكلّم في نحو ما تقدّم فأمر بنقله من محبسه.(1)

يقول عنه الذهبي، وهو أحد تلاميذه، واصفاً شخصيّته: تعتريه حدّة في البحث وشظف للخصم تزرع له عداوة في النفوس، أي: أنّه حادٌّ في حواراته، عصبيّ، يظن أنّ الحقّ معه، ويسخر من الخصم ولا يحترمه، والناس في نظره جُهّال.(2)

وأطلق ابن تيمية مدافعه على سيبويه العالم النحوي عندما ذكر أمامه على لسان ابن حبّان صاحبه ممّا أدّى إلى مقاطعة ابن حبّان له وصيّر ذلك ذنباً لا يُغفر وأصبح لا يذكره بخير.(3)


1- انظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني ترجمة ابن تيمية ج ١، ص ١44؛ وانظر دفع شبه من شبّه وتمرّد على الإمام أحمد، للحصني الدمشقي، ت عام ٨٣٩ ه-.
2- انظر تاريخ الإسلام، ترجمة ابن تيمية.
3- الدرر الكامنة.

ص:85

وكان ابن تيمية قد قال في سيبويه: ما كان سيبويه نبي النحو ولا كان معصوماً، بل أخطأ في (الكتاب) في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت، يقصد ابن حبان.(1)

وقد نسب إلى أصحاب ابن تيمية الحنابلة الغلو فيه - أي: الإيمان الشديد المتطرّف به - واقتضى له ذلك العجب بنفسه حتّى زها على أبناء جنسه واستشعر أنّه مجتهد، فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم حتّى انتهى إلى عمر بن الخطاب فخطأه في شيء فبلغ ذلك الشيخ إبراهيم فأنكر عليه.(2)

وكان كثير الوقوع في الأشاعرة حتّى أنّه سبّ أبا حامد الغزالي؛ فقام عليه قوم وكادوا يقتلونه، وكانت له وقائع شهيرة.

وإذا حوقق - نوقش - فأُفحم وقام عليه الدليل وألزم يقول: لم أر هذا، وإنّما أردت كذا، فيذكر احتمالاً بعيداً.

ويُروى أنّه أفتى يوماً في مسألةٍ وأفتى فقيه آخر بخلافه، فردّ عليه ابن تيمية قائلاً: مَن قال هذا فهو كالحمار الذي في داره.(3)

ولم يسلم أحد ممّن هو خارج دائرة ابن تيمية وتلاميذه وأتباعه منه، حتّى فقهاء الحنابلة الآخرين أُوذوا منه وخشوا على المذهب من أفكاره وفتاويه.

ويروى أنّ كثيراً من العلماء والفقهاء والمحدِّثين والصالحين كرهوا له التفرّد ببعض المسائل التي أنكرها السلف على مَن شذّ بها، حتّى أنّ بعض قضاة العدل الحنابلة منعه من الإفتاء.(4)

وعندما قال ابن تيمية بإنكار المجاز نُسب إليه التجسيم حيث اعتبرت جميع صفات


1- الدرر الكامنة؛ «والكتاب» مصنّف ضخم في النحو والصرف.
2- المرجع السابق.
3- المرجع السابق.
4- انظر طبقات الحنابلة ج٢.

ص:86

الله الواردة في القرآن والروايات حقيقة، وأنّ الله سبحانه له يد وعين ورجل ويصعد ويهبط وما شابه ذلك.(1)

وقام الفقهاء على ابن تيمية وعقدوا له مجلس محاكمة ومُنع من الكلام، وحدثت فتنة بين أتباعه وبين الشافعية في دمشق ولحق الأذى بأتباع ابن تيمية ممّا اضطرّه إلى الرجوع عن مقالته، ثمّ ارتدّ مرّةً أُخرى فصدر مرسوم أنّ من يتكلّم في العقائد فُعل به كذا وكذا، ونُودي في دمشق مَن اعتقد عقيدة ابن تيمية حلّ دمه وماله، ثمّ جمع الحنابلة في الصالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنّهم على معتقد الإمام الشافعي. (2)

وأطلق ابن تيمية مدافعه نحو ابن عربي فكفّره ونسب الإلحاد إليه وإلى أصحابه. ونسب الشرك إلى مَن توسّل بالنبي واستغاث به، وأنكر زيارة قبر النبي (ص)(3)

قال مهاجماً الأشاعرة والجويني الذي لُقّب بإمام الحرمين: وهذه الطريقة التي سلكها مَن وافق المعتزلة في ذلك كصاحب الإرشاد - الجويني - وأتباعه هؤلاء يردّون دلالة الكتاب والسنّة، فهذه طرقهم التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم، وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حتّى يقولوا إنّهم لم يحقّقوا أُصول الدين كما حقّقناها.

ولهم من جنس هذا الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع ويخالفون به الكتاب والسنّة والإجماع. وإنّما نبّهنا على أصول دينهم وحقّقنا أقوالهم، وغايتهم أنّهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنّة والمعقول والكلام، وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد، فهم من جنس الرافضة لا عقل صريح، ولا نقل صريح، بل منتهى السفسطة في العقليات والقرمطة في


1- انظر الفتوى الحموية الكبرى، والعقيدة الواسطية، والرسالة المدنية في تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله تعالى، وانظر الدرر ودفع شبه مَن شبّه وتمرّد.
2- انظر الدرر الكامنة ودفع شبه مَن شبّه وتمرّد.
3- الدرر الكامنة.

ص:87

السمعيات، وهذا منتهى كلّ مبتدع خالف شيئاً من الكتاب والسنّة حتّى في المسائل العلمية والقضايا الفقهية.(1)

ونتيجة لهذا كلّه انقسم الفقهاء في مواجهة ابن تيمية أربعة أقسام:

- منهم مَن نسبه إلى الكفر والزندقة.

ومنهم مَن نسبه إلى النفاق.

ومنهم مَن نسبه إلى السعي للإمامة.

وفوق هذا هناك مَن طالب بقتله.

وكان ابن تيمية قد عاش عصر المماليك البحرية، وحاز شهرةً بسبب مشاغباته في الشام ومصر حتّى تمكّن من استمالة محمّد بن قلاوون إلى صفّه، كذلك الأمير سلار نائب السلطنة في عصر بيبرس الجاشنكير الذي أطاح بابن قلاوون من الحكم.

ونظام حكم المماليك كان يعتمد على الفقهاء في استمالة العامّة وتحقيق الأمن والاستقرار للحكم، فلم تكن هناك في هذا العص-ر مؤسّسة دينية محدّدة مرتبطة بالحكم.

ولم يستطع ابن تيمية أن يأخذ مكانه بين كبار الفقهاء القريبين من السلطة إلاّ أنّه تمكّن من كسب عطف بعض أُمراء المماليك الذين كان لهم دورهم البارز في التخفيف عليه في حبسه الذي تكرّر عدة مرّات.(2)

وكان بيبرس الجاشنكير ضدّ ابن تيمية وله ميول صوفية. وحين أمر بحسبه كان (سلار) يهرِّب له الأقلام والقراطيس ويدخل عليه أصحابه، فكان ابن تيمية يكتب ويفتي ويراسل أُمّه ويوجّه أتباعه وهو داخل السجن، وحين حُبس بمص-ر كانوا ينقلونه إلى قلعة الإسكندرية صيفاً وقلعة القاهرة شتاءً.(3)


1- انظر الدرر، وتاريخ الإسلام للذهبي، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد.
2- المرجع السابق.
3- المرجع السابق.

ص:88

ولمّا جاء محمّد بن قلاوون إلى السلطة استقبل ابن تيمية بالأحضان وأطلق يده فانطلق هو وأتباعه في الأسواق يعتدون على العامّة ويكسرون الحانات ويعتدون على زوّار القبور ممّا أقلق ابن قلاوون فقرّر الحدّ من نشاطه، فكتب ابن تيمية له كتاباً يثبت فيه بطلان زيارات القبور وما يجري فيها.(1)

مقالته في الفلاسفة والجهمية والمعتزلة

والمتأمّل في تراث ابن تيمية وأقواله يتبيّن له بوضوح أنّ هذا التراث ينسجم مع طبيعة الوهّابيّين وميولهم العدوانية وضعف عقولهم أيضاً، وأنّ هذه الأقوال هي بمثابة آثار تضم إلى آثار الحنابلة السابقين، وتعفيهم من البحث والتنقيب وإعمال عقولهم، الأمر الذي لا يقدرون عليه ولا يملكونه.

وما يسرّ على الوهّابيّين الأمر وجعلهم يتمسّكون بابن تيمية هو أنّه يتكلّم دائماً بلغة الإجماع، وعقيدة السلف، ونصب نفسه ناطقاً بلسان أهل السنّة والجماعة، فمن ثمّ تبدو الأمور لديه محسومة ومقرّرة، ولا حاجة للاجتهاد أو إعادة النظر فيها، وهو ما يسرّ الوهّابيّون منه ويجعلهم يتعصّبون له؛ لكونه في تصوّرهم ينطق بلسان الفرقة الناجية.

ويمكن لأيّ باحثٍ متأمّلٍ في تراث ابن تيمية أن يكتشف أنّه لا يعبّر عن إجماع الأُمّة ولا ينطق بلسانها، وهو ما كشفه العديد من الفقهاء المعاصرين له، وكذلك العديد من المعاصرين.(2)

يقول ابن تيمية: ومن شأن المصنّفين في العقائد المختصرة على مذهب أهل السنّة


1- هو كتاب الجواب الباهر في زوّار المقابر، وفي مقدّمته أثنى على ابن قلاوون ومدحه.
2- انظرالدرّة المضيئة في الردّ على ابن تيمية، والمواعظ والاعتبار ببقاء الجنّة والنار، للسبكي؛ والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي؛ والردود الأُخرى عليه في الدرر الكامنة ودفع شبه من شبّه وتمرّد؛ وانظر ابن تيمية ليس سلفياً لمنصور عوبس، ط القاهرة، وانظر لنا أكاذيب الوهّابيّة.

ص:89

والجماعة أن يذكروا ما تتميّز به أهل السنّة والجماعة عن الكفّار والمبتدعين، فيذكروا إثبات الصفات، وأنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنّه تعالى يرى في الآخرة خلافاً للجهمية من المعتزلة وغيرهم، ويذكرون أنّ الله خالق أفعال العباد، وأنّه مريد لجميع الكائنات، وأنّه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، خلافاً للقدرية من المعتزلة وغيرهم، ويذكرون مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد، وأنّ المؤمن لا يكفر بمجرّد الذنب ولا يخلد في النار خلافاً للخوارج والمعتزلة، ويحقّقون القول في الإيمان، ويثبتون الوعيد لأهل الكبائر مجملاً خلافاً للمرجئة، ويذكرون إمامة الخلفاء الأربعة وفضائلهم خلافاً للشيعة من الرافضة وغيرهم.(1)

وهذا الكلام يبدو منه: أنّ ابن تيمية ينصح المصنّفين من أهل السنّة أن يكونوا على شاكلته من الحدّة والتطرّف في مواجهة المخالفين؛ فيبرزوا مواقفهم العدائية منهم بوضوح، ويعلنوا كفر الجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة والخوارج وابتداعهم في الدين ما ليس منه.

وهو بكلامه هذا يؤكّد لنا أنّ مصنّفي العقائد من أهل السنّة لا يتبنّون هذه اللغة الإرهابية المتطرّفة التي يتبنّاها في مواجهة خصومهم.

ويقول: إنّ مَن انتسب إلى الملل منهم من المسلمين واليهود والنصارى هم مضطربون في ما جاءت به الأنبياء في المعاد، فالمحقّقون منهم يعلمون أنّ حججهم على قِدَم العالم ونفي معاد الأبدان ضعيفة فيقبلون من الرسل ما جاؤوا به، ومنهم قوم واقفة متحيّرون لتعارض الأدلّة وتكافئها عندهم، ومنهم: قوم أصرّوا على التكذيب، ثمّ زعموا أنّ ما جاءت به الرسل هو أمثال مضروبة لتفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء إذا حقّق عليهم الأمر صرّحوا بأنّ الرسل تكذب لمصلحة العالم، وإذا أحسنوا العبارة قالوا: إنّهم يخيّلون الحقائق في أمثال خيالية، وقالوا: إنّ خاصّة النبوّة تخيّل الحقائق


1- انظر شرح العقيدة الإصفهانية، ط الرياض.

ص:90

للمخاطبين، وإنّه لا يمكن خطاب الجمهور إلاّ بهذا الطريق، كما يزعم ذلك الفارابي وأمثاله، مع أنّ الفارابي له في معاد الأرواح ثلاثة أقوال متناقضة، تارةً يقول: لا تُعاد. وينكر المعاد بالكلية، وتارةً يقول: إنّها تُعاد، وتارةً يفرّق بين الأنفس العالمة والجاهلة فيقرّ بمعاد العالمة دون الجاهلة، ولهم في تفضيل النبي على الفيلسوف أو بالعكس نزاع، فعقلاؤهم كابن سينا وأمثاله يفضّل النبي على الفيلسوف وأمّا غلاتهم فيفضّلون الفيلسوف.

ولا ريب أنّ أوليهم ليس لهم في النبوّات كلام محصّل، وكلامهم في الإلهيّات قليل، وإنّما توسّع القوم في الأُمور الطبيعية والرياضية ومصنّفات معلّمهم الأوّل أرسطو عامّتها من ذلك، والذي فيها من الإلهيّات أمر في غاية القلّة مع اضطرابه وتناقضه، فإذا عرف ذلك فما جاء به السمع من أمر المعاد قرّره عليهم النظّار بطريقين:

أحدهما: ببيان الكلام الصريح في إثبات معاد الأبدان وتفاصيل ذلك.

وثانيهما: إنّ العلم بأنّ الرسل جاءت بذلك علم ضروري، فإنّ كلّ مَن سمع القرآن والأحاديث المتواترة وتفسير الصحابة والتابعين لذلك علم بالاضطرار أنّ الرسول (ص) أخبر بمعاد الأبدان، وأنّ القدح في ذلك كالقدح في أنّه جاء بالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ونحو ذلك.

والقرامطة الباطنية، وهم من الفلاسفة، أنكروا هذا وزعموا أنّ هذه كلّها رموز وإشارات إلى علوم باطنة كما يقولون: إنّ الصلاة معرفة أسرارنا، والصيام كتمان أسرارنا، والحج زيارة شيوخنا المقدّسين، ونحو ذلك ممّا هو مذكور في الكتب المؤلّفة في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، ولهؤلاء القرامطة صُنّفت رسائل أخوان الصفا، وهم الذين يقال لهم الإسماعيلية لانتسابهم إلى محمّد بن إسماعيل بن جعفر.

قال ابن سينا: كان أبي وأخي من أهل دعوتهم؛ ولهذا اشتغلت بالفلسفة، وأمّا الفلاسفة الذين لم يدخلوا في القرامطة المحضة فهم لا ينكرون العبادات والش-رائع العملية، بل قد يوجبون اتّباعها والعمل بها لا سيّما مَن دخل منهم في التصوّف أو الكلام،

ص:91

لكن منهم مَن يوجب اتّباعها على العامّة دون الخاصّة، أو يوجبها من غير الوجه الذي أوجبها الرسول، كما يجوّزون أن يكون بعد محمّد (ص) مَن يأتي بش-ريعة أُخرى، ويقولون: إنّ أحدهم يخاطبه الله سبحانه وتعالى كما خاطب موسى بن عمران، ويعرج به كما عرج بالنبي، وأمثال هذه المقالات التي كثرت لمّا ظهرت الفلسفة التي أفسدت طوائف من أهل التصوّف والكلام، أنّه إذا ثبتت الرسالة ثبت ما أخبر به الرسول ممّا ينكره بعض أهل البِدَع، كعذاب القبر وسؤال منكر ونكير وكالص-راط والشفاعة والحوض، ونحو ذلك ممّا استفاضت به الأحاديث الصحيحة عن النبي، وقد يستدل عليه بدلائل من القرآن أيضاً لكن ليس التصريح به في القرآن، والتصريح بالجنّة والنار، وقيام القيامة، وحشر الخلق؛ ولهذا لم ينكر القيامة ومعاد الأبدان أحد من أهل القِبلة، وأنكر هذه الأُمور التي جاءت بها الأحاديث المستفيضة بل المتواترة عند علماء أهل الحديث طوائف من أهل البِدَع إمّا من المعتزلة وإمّا من الخوارج وإمّا من غيرها.(1)

وسُئل عن رجلٍ مسلمٍ يقول: إنّ معجزات الأنبياء قوى نفسانيّة؟

فأجاب: هذا الكلام - وهو قول القائل: إنّ معجزات الأنبياء قوى نفسانيّة - باطل، بل هو كفر يستتاب قائله ويبيّن له الحق، فإن أصرّ على اعتقاده بعد قيام الحجّة الشرعية عليه كفر، وإذا أصرّ على إظهاره بعد الاستتابة قُتل، وهو من كلام طائفة من المتفلسفة والقرامطة الباطنية الإسماعيلية ونحوهم كابن سينا وأمثاله، وأصحاب رسائل إخوان الصفا والعبيدين الذين كانوا بمصر من الحاكمية وأشباههم، وهؤلاء كانوا يتظاهرون بالتشيّع وهم في الباطن ملاحدة ويسمّون القرمطة والباطنية وغير ذلك.(2)

ويقول: لكن باطل الفلاسفة أكثر وهم أعظم مخالفة للحق المعلوم بالأدلة الشرعية والعقلية في الأُمور الإلهيّة والدينية من أولئك المبتدعين من أهل الكلام. وقد تكلّم أهل البِدَع في مسألة حدوث العالم والمعاد والصفات والنبوّات بما أضافوا إلى دين


1- انظر نقض المنطق أو الردّ على المنطقيين.
2- انظر الصفدية.

ص:92

المسلمين من الأقوال التي ليست في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله (ص) ، ولا قالها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أحد من أئمّة المسلمين، وإنّما هي مأخوذة عن أهل الكلام المبتدع المحدث المذموم عند السلف والأئمّة، الذي أصله مأخوذ من الجهمية والمعتزلة.(1)

وقال: والفلاسفة المتظاهرون بالإسلام يقولون: إنّهم متّبعون للرسول، لكن إذا كشف حقيقة ما يقولونه في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، تبيّن لمَن يعرف ما جاء به الرسول وما يقولونه في نفس الأمر، أنّ قولهم ليس هو قول المؤمنين بالله ورسوله والمسلمين، بل فيه من أقوال الكفّار والمنافقين شيء كثير.(2)

وفي مقدّمة كتابه درء تناقض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لص-ريح المعقول، قال المحقّق الوهّابي مقدّماً ابن تيمية بعظيم المدح والإطراء متباهياً بتطرّفه وتطرّف شيخه: قال شيخ الإسلام عَلَم الأعلام، مفتي الأنام، المجاهد الصادق الصابر سيف السنّة المسلول على المبتدعين، والقاطع البتّار لألسنة المارقين الملحدين: إذا تعارضت الأدلّة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإمّا أن يجمع بينهما وهو محال؛ لأنّه جمع بين النقيضين، وإمّا أن يردّا جميعاً، وإمّا أن يقدّم السمع وهو محال؛ لأنّ العقل أصل النقل فلو قدّمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل ثمّ النقل، إمّا أن يتأوّل، وإمّا أن يفوّض، أمّا إذا تعارضا تعارض الضدّين امتنع الجمع بينهما، ولم يمتنع ارتفاعهما.

هذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانوناً كليّاً فيما يستدلّ به من كتب الله تعالى


1- انظر الصفدية.
2- المرجع السابق.

ص:93

وكلام أنبيائه، وما لا يستدل به؛ ولهذا ردّوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى، وغير ذلك من الأُمور التي أنبأوا بها وظنّ هؤلاء أنّ العقل يعارضها، أمّا هذا القانون الذي وضعوه فقد سبقهم إليه طائفة منهم أبو حامد وجعله قانوناً في جواب المسائل، وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم وردّوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، والنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء من هؤلاء، لكنّ النصارى يشبههم مَن ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص، أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول (ص) كالخوارج الوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة.

وقد شنّ ابن تيمية في هذا الكتاب حرباً شعواء على: الجهمية، والمعتزلة، والفارابي، وإخوان الصفا، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، ومَن سمّاهم بملاحدة الصوفية كابن عربي، وابن سبعين، وابن الطفيل صاحب رسالة حي يقظان، وغيرهم.

وتحت عنوان شرك الفلاسفة أشنع من شرك الجاهلية قال: العرب مع شركهم وكفرهم يقولون: إنّ الملائكة مخلوقون، وكان مَن يقول منهم: إنّ الملائكة بنات، ويقولون أيضاً: إنّهم محدثون، ويقولون: إنّه صاهر إلى الجن فولدت له الملائكة، وقولهم هذا من جنس قول النصارى في أنّ المسيح ابن الله، وقول الفلاسفة شرّ من قول هؤلاء كلّهم.

هؤلاء يقولون ما ذكره ابن سينا وأتباعه، ومَن وافقهم من القرامطة والباطنية من الملاحدة والجهّال الذين دخلوا في الصوفية، وأهل الكلام كأهل وحدة الوجود، وغيرهم.

يقولون إذا توجّه المستشفع إلى مَن يعظّمه، مثل بعض الصالحين، فإنّه يتّصل بذلك المعظم المستشفع به، فإذا فاض على ذلك ما يفيض من جهة الرب فاض على هذا المستشفع من جهة شفيعه.

لهذا يرى هؤلاء دعاء الموتى، عند القبور وغير القبور، ويتوجّهون إليهم

ص:94

ويستعينون بهم. وكثير منهم ومن غيرهم من الجهّال يرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم أفضل من الصلوات الخمس والدعاء في المساجد، وأفضل مَن حجّ البيت العتيق.

ومعلوم أنّ كفر هؤلاء بما يقولونه في الشفعاء أعظم من كفر مشركي العرب.

وهذا الكلام موجّه للشيعة، ولازال يردّده الوهّابيّون اليوم من أنّهم يفضّلون زيارة المراقد على الحج، وأنّ ذلك هو أفضل من الصلوات عندهم.

وقال ابن تيمية عن ابن سينا: وابن سينا تكلّم في أشياء من الإلهيّات والنبوّات والمعاد والشرائع. فإنّه استفادها من المسلمين وإن كان إنّما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية، وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من أتباع الحاكم العبيدي الذي كان هو وأهل بيته وأتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد، أحسن ما يظهرونه دين الرفض، وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض.

وقد صنّف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتباً كباراً وصغاراً، وجاهدوهم باللسان واليد، إذ كانوا أحق بذلك من اليهود والنصارى.

وقال: مَن قال من المتأخّرين أنّ تعلّم المنطق فرض على الكفاية فإنّه يدل على جهله بالشرع وجهله بفائدة المنطق وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وأجهل منه مَن قال: إنّه فرض على الأعيان، مع أنّ كثيراً من هؤلاء ليسوا مقرّين بإيجاب ما أوجبه الله ورسوله وتحريم ما حرّم الله ورسوله.

و قال: ما معهم - أي: الفلاسفة - من الحق أقل ممّا مع اليهود والنصارى والمشركين.

وقال: من ملاحدة المتصوّفة مَن يزعم أنّ أرسطو كان هو الخض-ر، وهؤلاء منهم مَن يفضّل الفلاسفة على الأنبياء في العلم، ومَن يفضّل فرعون على موسى.

أمثال ذلك من المقالات التي تقولها الملاحدة المتفلسفة المنتمون إلى الإسلام في الظاهر، من متشيّعٍ ومتصوّفٍ كابن سبعين وابن عربي وأصحابه، لهم من هذا الجنس

ص:95

ما يطول حكايته، ممّا يدلّ على أنّهم من أجهل الناس بالمعقول والمنقول، ولم يكفهم جهلهم بما جاءت به النبوّات حتّى ضمّوا إلى ذلك الجهل بأخبار العالم وأيّام الناس والجهل بالعقليات.

لهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنّما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية الذين ركّبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وكجهّال المتصوّفة وأهل الكلام.

وصنّف الغزالي كتاباً في مقاصدهم، وصنّف كتاباً في تهافتهم وبيّن كفرهم بسبب مسألة قِدَم العالم وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار المعاد.

وكلّ ما ثبّتته المتفلسفة من العقل باطل عند المسلمين، بل هو أعظم من الكفر.

أمّا شهادة سائر العلماء وطوائف أهل الإيمان بضلالهم وكفرهم فهذا البيان عام لايدفعه إلاّ مكابر.

وإنّ كثيراً من الفلاسفة وغيرهم من الزنادقة يدخلون في دين المسلمين واليهود والنصارى من الشرائع الظاهرة، وإن لم يكونوا في الباطن مقرّين بحقيقة ما جاءت به الأنبياء، كالمنافقين في المسلمين يجري عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار.

هؤلاء ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى، بل كثير من المش-ركين أحسن حالاً منهم، وهؤلاء أئمّة النظار والمتفلسفة، وصوفيتهم وشيعيتهم كان من أسباب تسلّطهم وظهورهم هو بدع أهل البِدَع من الجهمية والمعتزلة والرافضة، ومَن نحا نحوهم في بعض الأُصول الفاسدة، فإنّ هؤلاء اشتركوا هم وأُولئك الملاحدة في أُصولٍ فاسدةٍ يجعلونها قضايا عقلية صادقة وهي باطلة كاذبة مخالفة للشرع والعقل. (1)


1- انظر الردّ على المنطقيين.

ص:96

مقالته في الشيعة

وضع ابن تيمية قاعدةً لأتباعه والسائرين على نهجه تجاه الشيعة تقول: إنّ تبيين السنّة وفضائل الصحابة وتقديمهم الصدِّيق والفاروق من أعظم أُمور الدين عند ظهور بِدَع الرافضة ونحوهم.(1)

وابن تيمية بقوله هذا قد أسّس للصراع المذهبي ووطّن له بين المسلمين، وهو ما نراه واقعاً عند الوهّابيّين، ويبدو بوضوح من خلال كمّ المنشورات التهديدية المتطرّفة التي تحرّم الخوض في أمر الصحابة، وتبالغ في إضفاء القداسة عليهم، وتنذر بالعقاب الشديد لكلّ مَن يخوض في أمرهم، والتي يظهرونها ما بين الحين والآخر لإرهاب المسلمين.

وكان بعض أنصار ابن تيمية قد أحضروا له نسخة من كتاب (منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) للعلاّمة ابن المطهّر الحلّي أحد فقهاء الشيعة المعاصرين لابن تيمية، فاستفزّه الكتاب وقرّر أن يردّ عليه في كتاب عرف باسم (منهاج السنّة النبويّة) اعتبره الوهّابيّون المرجع الأساس والقول الفصل في الشيعة.

قال ابن تيمية في مقدّمة كتابه: قد أحضر إليّ طائفة من أهل السنّة والجماعة كتاباً صنّفه بعض شيوخ الرافضة في عصرنا منفقاً لهذه البضاعة، يدعو إلى مذهب الرافضة الإمامية مَن أمكنه دعوته من ولاة الأُمور وغيرهم من أهل الجاهلية ممّن قلّت معرفتهم بالعلم والدين، ولم يعرفوا أصل دين المسلمين، وأعانه على ذلك من عادتهم إعانة الرافضة من المتظاهرين بالإسلام من أصناف الباطنية الملحدين، الذين هم في الباطن من الصابئة الفلاسفة الخارجين عن حقيقة متابعة المرسلين، الذين لا يوجبون اتّباع دين الإسلام، ولا يحرّمون اتّباع ما سواه من الأديان، بل يجعلون الملل بمنزلة


1- مجموع الفتاوى، ج ٢، ص٣٩6.

ص:٩٧

المذاهب والسياسات التي يسوغ اتّباعها، وأنّ النبوّة نوع من السياسة العادلة التي وضعت لمصلحة العامّة في الدنيا.

إنّ هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوّة والمتابعة لها مَن يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك المحال.

هؤلاء لا يكذبون بالنبوّة تكذيباً مطلقاً، بل هم يؤمنون ببعض أحوالها ويكفرون ببعض الأحوال، وهم متفاوتون فيما يؤمنون به ويكفرون به من تلك الخلال، فلهذا يلتبس أمرهم بسبب تعظيمهم للنبوّات على كثير من أهل الجهالات.

والرافضة الجهمية هم الباب لهؤلاء الملحدين منهم، منه يدخلون إلى سائر أصناف الإلحاد في أسماء الله وآيات كتابه المبين، كما قرّرت ذلك رؤوس الملحدة من القرامطة الباطنية وغيرهم من المنافقين.

هذا المصنِّف سمّى كتابه: منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، وهوخليق بأن يسمّى منهاج الندامة، كما أنّ مَن ادّعى الطهارة وهو من الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم، بل من أهل الخبث والطاغوت والنفاق، وكان وصفه بالنجاسة والتكدير أولى من وصفه بالتطهير.

وقد قام الذهبي تلميذ ابن تيمية بتلخيص كتابه منهاج السنّة وأسماه: (منهاج الاعتدال في نقض أهل البدع والاعتزال) .

ونقل عن ابن حنبل قوله: مَن لم يربّع بعلي في الخلافة فهو أضلّ من حمار أهله، ونهى عن مناكحته، وهو متفق عليه، وإنّما يخالفهم في ذلك بعض أهل الأهواء من أهل الكلام ونحوهم كالرافضة الطاعنين في خلافة الثلاثة.(1)

وتحدّث عن أنواع البِدَع بقوله عن الاحتفال بعيد الغدير وعاشوراء: ما جرى فيه


1- انظر السياسة الشرعية.

ص:98

حادثة كما كان يجري في غيره من غير أن يوجب ذلك جعله موسماً، ولا كان السلف الصالح يعظّمونه كثامن عشرة ذي الحجّة الذي خطب فيه النبي (ص) بغدير خم مرجعه من حجّة الوداع فإنّه خطب فيه خطبة وصّى فيها باتّباع كتاب الله، ووصّى فيها بأهل بيته، كما روى مسلم، فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك حتّى زعموا أنّه عهد إلى علي باطلاً وعملاً، وقد علم بالاضطرار أنّه لم يكن من ذلك، وزعموا أنّ الصحابة تمالؤا على كتمان هذا النص، وغصبوا الوصي حقّه وفسقوا وكفروا إلاّ نفراً قليلاً، وهو عيد محدث لا أصل له.

كذلك مايحدثه بعض الناس إمّا مضاهاةً للنصارى في ميلاد عيسى (ع) ، وإمّا محبّةً للنبي (ص) وتعظيماً له، والله قد يثيبهم على هذه المحبّة والاجتهاد لا على البدع من اتّخاذ مولد النبي عيداً، ومثل ما أحدث بعض أهل الأهواء في يوم عاشوراء، فأحدث بعض أهل البدع في مثل هذا اليوم خلاف ما أمر به الله عند المصائب، وضمّوا إلى ذلك من الكذب والوقيعة في الصحابة، وأحدث بعض الناس فيه من أشياء مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها، والأشبه أنّ هذا وضع لما ظهرت العصبية بين الناصبة والروافض، فإنّ هؤلاء أعدّوا يوم عاشوراء مأتماً فوضع أُولئك فيه آثاراً تقتض-ي التوسّع فيه واتّخاذه عيداً، وكلاهما باطل، وهؤلاء فيهم بِدَع وضلال، وأُولئك فيهم بِدَع وضلال، وإن كانت الشيعة أكثر كذباً وأسوأ حالاً.(1)

وسُئل ابن تيمية: عمّن يزعمون أنّهم يؤمنون بالله عزّ وجلّ وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويعتقدون أنّ الإمام الحق بعد رسول الله (ص) هو علي بن أبي طالب، وأنّ رسول الله نصّ على إمامته، وأنّ الصحابة ظلموه ومنعوه حقّه، وأنّهم كفروا بذلك، فهل يجب قتالهم، ويكفّرون بهذا الاعتقاد أم لا؟


1- اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم، وهو أحد الكتب المتطرّفة لابن تيمية، الذي صبّ فيه غضبه على أهل الكتاب والمسلمين الذين وصفهم بالقبوريين، وهو واحد من أهمّ مصادر الوهّابيّين المعاصرين.

ص:99

فأجاب: أجمع علماء المسلمين على أنّ كلّ طائفة ممتنعة عن شريعةٍ من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنّه يجب قتالها حتّى يكون الدين كلّه لله.

فالرافضة يوالون مَن حارب أهل السنّة والجماعة، ويوالون التتار، ويوالون النصارى، فقد كان بالساحل بين الرافضة والإفرنج مهادنة.

وقد ذكر أهل العلم أنّ مبدأ الرفض إنّما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ، فإنّه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النص-راني الذي كان يهودياً في إفساد دين النصارى، وأيضاً فغالب أئمّتهم زنادقة، إنّما يظهرون الرفض؛ لأنّه طريق إلى هدم الإسلام.

وقد أشبهوا اليهود في أُمور كثيرة، ولا سيّما السامرة من اليهود، فإنّهم أشبه بهم من سائر الأصناف: يشبّهونهم في دعوى الإمامة في شخص أو بطن بعينه، والتكذيب لكلّ مَن جاء بحق غير ما يدّعونه، وفي اتّباع الأهواء وتحريف الكلم عن مواضعه، وتأخير الفطر، وصلاة المغرب، وتحريم ذبائح غيرهم، وغير ذلك.

ويشبّهون النصارى في الغلو في البشر والعبادات المبتدعة، وفي الشرك وغير ذلك، وهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين، وهم لا يرون جهاد الكفّار مع أئمّة المسلمين ولا الصلاة خلفهم ولا طاعتهم في طاعة الله ولا تنفيذ شيء من أحكامهم؛ لاعتقادهم أنّ ذلك لا يسوّغ إلاّ خلف إمام معصوم، ويرون أنّ المعصوم قد دخل في السرداب.

وهم مع هذا يعطّلون المساجد التي أمر الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، فلا يقيمون فيها جمعةً ولا جماعة، ويبنون على القبور المكذوبة وغير المكذوبة مساجد يتّخذونها مشاهد، ويرون أنّ حجّ هذه المشاهد المكذوبة وغير المكذوبة من أعظم العبادات حتّى أنّ من مشائخهم مَن يفضّلها على حج البيت الذي أمر الله به ورسوله، ووصف حالهم يطول.

ص:100

وقد اختتم ابن تيمية جوابه للسائل بقوله: ومَن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أنّ قتال هؤلاء - الرافضة - بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويلٍ سائغ، كقتال أمير المؤمنين لأهل الجمل وصفِّين، فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام وتخصيصه هؤلاء الخارجين عنها.

أمّا قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية والرافضة ونحوهم، فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن أحمد، والصحيح أنّه يجوز قتل الواحد منهم كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممّا فيه فساد، وأمّا تكفيرهم وتخليدهم في النار ففيه أيضاً للعلماء قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد.(1)

ونصوص ابن تيمية العدوانية ضدّ الشيعة كثيرة، ولا يتّسع المجال لذكره هنا.(2)

فتاوى متطرّفة

وفتاوى ابن تيمية أكثر من أن تُحصى، وهي تشكّل تراثه الفكري، فالرجل لم يدوّن كتباً بالمعنى المألوف، وإنّما كتب رسائل وردوداً وأصدر فتاوى، جُمعت فيما بعد من قبل أتباعه وتلاميذه، وقد انتقينا هنا بعض الفتاوى الخاصّة بالخصوم والمعارضين، والتي تعكس مدى تطرّفه وعدوانيّته على الآخرين:

- مَن قامت عليه الحجّة من أهل البِدَع استحقّ العقوبة.

- إنّ الكتب المشتملة على الكذب والبِدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بذلك من آلات اللهو والمعازف، وإتلاف آنية الخمر، فإنّ ضررها أعظم من ضرر هذه.

- جواز قتل معطّلي الشرائع من المسلمين وقتالهم (فتوى الياسق) .

- وحَوْل ابن الفارض، وابن سبعين، وابن حمويه، الذين اتّهمهم بالقول بوحدة


1- مجموع الفتاوى، ج ٢٨، ص4٩٩.
2- انظر لنا الحق والحقيقة بين الشيعة والسنّة، فصل ابن تيمية وقفات ومراجعات.

ص:101

الوجود والحلول أفتى بقوله: مَن يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان - ابن تيمية وأتباعه - فهو شر ممّن ينص-ر النصارى على المسلمين، فإنّ هؤلاء شر من قول النصارى، بل هم شر ممّن ينصر المشركين على المسلمين.

وقال: الراد على أهل البِدَع مجاهد.

وقال: جوّز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنّة، وكذلك كثير من أصحاب مالك، وقالوا: إنّما جوّز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الإفساد في الأرض لا لأجل الردّة.

وقال: والرجل البالغ اذا امتنع عن صلاة واحدة من الصلوات الخمس، أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلاّ قتل، فمن العلماء مَن يقول يكون مرتدّاً كافراً لا يُصلّى عليه ولا يُدفن بين المسلمين، ومنهم مَن يقول يكون كقطّاع الطُرُق وقاتل النفس والزاني المحصن.

وقال: وهذه حقيقة قول مَن قال عن السلف والأئمّة: إنّ الدعاة إلى البِدَع لا تقبل شهادتهم ولا يُصلّى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون.

وقال: ولا أستثني أحداً من أهل البِدَع لا من المشهورين بالبِدَع الكبار من معتزلي ورافضي ونحو ذلك، ولا من المنتسبين إلى السنّة والجماعة من كرامي وأشعري وسالمي ونحو ذلك، وكذلك مَن صنّف على طرقهم من أهل المذاهب الأربعة.

ولابن تيمية فتوى شهيرة في حكم مَن بدّل شرائع الإسلام تُسمّى (فتوى الياسق) واعتمد عليها تيّار الجهاد في الحكم بكفر الحكومات المعاصرة وأعوانها واستباحتهم، وهي الفتوى التي قُتل السادات على أساسها.

وهذه فتاوى مفتوحة من ابن تيمية متحصّنة بالشافعية والمالكية بالإضافة إلى الحنابلة للقضاء على أهل البِدَع المخالفة للكتاب والسنّة من منظور فقهاء أهل السنّة، ويقصد بهم - بالطبع - كلّ مَن تصدّى للدعوى والبيان لأيّ طرحٍ خارج دائرتهم،

ص:102

وعلى رأس هؤلاء الشيعة والمعتزلة.(1)

وكلمة بِدْعة كلمة مطّاطة يمكن أن تُستخدم على وجوه عدّة، وهنا تكمن خطورتها عندما تُطلق على لسان حَمَلة الأسفار والفقهاء الصغار من الوهّابيّين، وعناصر الفِرَق المتطرّفة التي يريقون على أساسها الدماء ويرفعون لأجلها راية الجهاد.

والواقع المعاصر محكوم عليه بالجاهلية مقدّماً من قِبَل هذه الجماعات، فمن ثمّ هو مستنقع للبِدَع وتكفي فتوى كهذه لإشعال النيران فيه.

وكان ابن تيمية قد أفتى في عام ٧٠4 ه-باستباحة دماء الشيعة، وأقنع السلطان محمّد بن قلاوون بتسيير حملة اشترك فيها لمقاتلة الشيعة في جبال كسروان بلبنان.

وكانت نتيجة هذه الحملة أن خربت كسروان وقتل النساء والشيوخ والأطفال.

ولم يقصر ابن تيمية فتاواه على المسلمين، بل تعدّاهم إلى المسيحيين، وأفتى بوجوب هدم الكنائس في: مصر، والقاهرة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، ونحوها من الأمصار، سواء كانت تلك المعابد قديمة قبل الفتح أو محدثة.

ومثل هذه الفتاوى وغيرها يوجد منها الكثير في كتب ابن تيمية.

والسؤال هنا هو:

هل بعد حبس ابن تيمية وموته سكتت مدافعه؟

والإجابة: إنّ بعض تلامذته، مثل: ابن قيّم، وابن كثير، حاولا تسليط هذه المدافع نحو المسلمين إلاّ أنّ مصيرهما كان كمصير إمامهما أن ضربا وضُيّق عليهما، ولحق بهما الأذى، فاتّجها نحو الكتابة والتصنيف.

ومنذ ذلك الحين أُسدل الستار على ابن تيمية وعُطِّلت مدافعه، وحلّ بها الخراب،


1- انظر ردود ابن تيمية على مخالفيه وأحكامه المتطرّفة عليهم من خلال الردّ على المنطقيين والردّ على الأخنائي، ودرء تعارض العقل والنقل، ومنهاج السنّة، والفتاوى الكبرى، وغيرها، وانظر نص فتوى الياسق ضمن ملاحق الكتاب، وسوف تأتي نماذج أُخرى من فتاويه المتطرّفة في الفصول القادمة.

ص:103

حتّى ظهر محمّد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب، فكشف عنها، وقام بتنظيفها وتجهيزها، ثمّ سلّطها مرّةً أُخرى على المسلمين، وبنصرة ابن سعود قامت لأوّل مرّةٍ في التاريخ دولة للحنابلة، وأصبح ابن تيمية شيخ الإسلام بعد أن كان منبوذاً.

وببركات النفط أصبحت له هيئات وجامعات ورموز تنش-ر فكره وتعرضه للمسلمين في كلِّ مكان.

وعن طريق هذه المؤسّسات والجامعات والرموز اخترقت التيّارات والجماعات الإسلامية وتشبّعت بفكره وتقمّصت شخصيته حتّى بدا وكأنّه لا يوجد فقهاء في تاريخ المسلمين سواه.

وأصبحت كتب ابن تيمية التي لم يكن يسمع عنها أحد تُطبع وتُوزّع مجاناً، وتُهدى ولا تُباع، بل تُوزّع فتاواه (٣٧ مجلَّداً) مجاناً على المساجد والمؤسّسات والأفراد.

ومن هنا حملت الفِرَق الإسلامية مدافع ابن تيمية من جديد وأخذت توجّهها نحو المسلمين وأيضاً المسيحيين والآمنين والمسالمين في كلِّ مكان.

ص:104

ص:105

ابن القيّم تلميذ ابن تيمية وحامل مدافعه

اشارة

يُعدّ ابنُ القيّم (ت ٧5١ه) الصاحب الأمين، والتلميذ النجيب، الذي دان بأفكار أُستاذه ابن تيمية، ولازمه وتعصّب له وامتحن بسببها وثبت عليها حتّى حبس معه في حبسه الأخير الذي توفّي فيه.

واستمرّ ابن القيّم على مقالة ابن تيمية بعد وفاته ليُقبض عليه ويُحبس بسبب إنكاره شدّ الرحال لزيارة قبر الخليل (ع) وجرس في الطرقات وهو على حمار، ومعه ابن كثير الدمشقي أحد تلاميذ ابن تيمية.(1)

ويقول الوهّابيّون عنه: لم يخلف ابن تيمية مثله.

من مؤلِّفاته:

الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطّلة.

اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطّلة والجهمية.

حكم تارك الصلاة.

أحكام أهل الذمّة.


1- انظر ترجمته في الدرر الكامنة، ج٣، ص4٠١، ترجمة رقم ١٠6٧.

ص:106

جوابات عابدي الأصنام وأنّ ما هم عليه دين الشيطان.

الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم.

الشافية الكافية في انتصار الفرقة الناجية.

بطلان الكيمياء من أربعين وجهاً.

الطُرُق الحكمية في السياسة الشرعية.

ويبدو من عناوين هذه المؤلِّفات نزعة التطرّف والعدوان على الآخرين المخالفين، وهي النزعة التي ورثها عن أُستاذه ابن تيمية.

صواعق وسهام

وسيراً مع نهج ابن تيمية التزم ابن القيّم بتوجيه الحراب والسهام وإنزال صواعقه على الخصوم والمخالفين.

في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية، الذي يُعدّ صورة موسّعة ومطوّرة من رسالة إمامه أحمد بن حنبل (الردّ على الجهمية والزنادقة) ، سلك فيه مسلك إمامه ابن حنبل وأُستاذه ابن تيمية في مواجهة المخالفين، معتمداً على الروايات وأقوال سلفه من الحنابلة المتطرّفين وشعاراتهم التي رفعوها، وبدا وكأنّه صورة طبق الأصل من ابن حنبل وابن تيمية.

وضع في هذا الكتاب باباً تحت عنوان: منزلة صاحب السنّة وصاحب البِدْعة.

وقال: صاحب السنّة حيّ القلب ومستنيره، وصاحب البِدْعة ميت القلب مظلمه.

وفي بابٍ تحت عنوان: بيان أهل الجهل والظلم وقد قسّمه إلى قسمين:

الأوّل: أهل الجهل.

والثاني: أصحاب الظلمات.

وفي الصواعق المرسلة قال: من المحال أن يكون تلاميذ المعتزلة الصابئين، وأفراخ اليونان، أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأعرف به ممّن شهد الله ورسوله لهم بالعلم

ص:107

والإيمان، وفضّلهم على مَن سبقهم، ومن يجيئ بعدهم إلى يوم القيامة ما خلا النبيين والمرسلين، وهل يقول هذا إلاّ غبيٌّ جاهل لم يقدّر قدر السلف ولا عرف الله ورسوله وما جاء به.

وقال: وأمّا المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلّمين فمرادهم بالتأويل صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره، وهذا هو الشائع في عرف المتأخّرين من أهل الأُصول والفقه، ولهذا يقولون: التأويل على خلاف الأصل، والتأويل يحتاج إلى دليل، هذا التأويل هو الذي صنّف في تسويغه وإبطاله من الجانبين:

فصنّف جماعة في تأويل الصفات وأخبارها كأبي بكر بن فورك، وابن مهدي، والطبري، وغيرهم.

وعارضهم آخرون فصنّفوا في إبطال تلك التأويلات كالقاضي أبي يعلي وابن قدامة.

وقد انحاز ابن القيّم للقسم الثاني، بالطبع، الذي رفع رايته أئمّته من الحنابلة.

وقام واحد من الوهّابييّن بش-رح نونيّة ابن القيّم وسمّاها: توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيّم المسمّاة: الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية.

وقال في مقدّمة شرحه مادحاً: لم يُنسج على منوالها، ولم تسمح الدهور بشكلها وأمثالها، نظم الشيخ الإمام والعمدة القدوة الهمام شيخ الإسلام والمسلمين القائم ببيان الحق ونصر الدين. ليس بخفيٍّ ما تضمّنته من أُصول الفصول، واشتملت عليه من من قواعد العقائد التي هي الحاصل والمحصول، واحتوت عليه من الردّ على أهل البِدَع والضلالة، والأقوال الباطلة المحالة والمحدثات المضلّة المخذولة، والخزعبلات المرذولة كالوجودية والجهمية والمعتزلة والرافضة والحرورية والكلابية والمرجئة والمجبرة، وغيرهم من أهل الضلالات والأقوال المحالات، وقمع أباطيلهم وردع أضاليلهم بالحُجج الظاهرة والبراهين الباهرة، من صحيح المنقول وصريح المعقول، موضوعها المحاكمة بين الطوائف، وإثبات صفات الباري سبحانه رغم كلّ مخالف.

ص:108

ونونية ابن القيّم هذه قصيدة عقدية تنتهي بحرف النون، أكّد فيها على عقيدة التجسيم والتشبيه، كما ورثها عن أُستاذه، وقد ردّ عليها العديد من الفقهاء.(1)

وقد وضع فيها فصلاً تحت عنوان: إنّ أهل الحديث هم أنصار الرسول (ص) وخاصّته، ولا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر.

وفصل آخر تحت عنوان: في تلاعب المكفّرين لأهل السنّة والإيمان بالدين كتلاعب الصبيان.

وفصل تحت عنوان: الردّ عليهم وتكفيرهم أهل العلم والإيمان، وذكر انقسامهم إلى أهل الجهل والتفريط والبدع والكفران.

ومن أبيات هذه القصيدة:

لكن أولوا التعطيل منهم أصبحوا

مرضى بداءِ الجهلِ والخذلانِ فسألت عنهم رفقتي وأحبّتي أصحاب جهمٍ حزب جنكستانٍ مَن هؤلاء ومَن يقال لهم فقد جاؤوا بأمرٍ مالئ الآذانِ واحكم بسفك دمائهم وبحبسهم أو لا فشرّدوهم عن الأوطانِ حذّر صحابك منهُم فهُم أضلّ من اليهودِ وعابدي الصلبانِ واحذر تجادلهم بقال الله أو قال الرسول فتنثني بهوانِ فإذا ابتليت بهم فغالطهم على التأويل للأخبار والقرآنِ ولنا الأئمة كالفلاسفة الأُلى لم يعبأوا أصلاً بذي الديانِ منهم أرسطو ثمّ شيعته إلى هذا الآوان وكلّ آوان وكذا ابن سينا لم يكن منكم ولا أتباعه بل صانعوا بدهانِ وكذا الطوسي لما أن غدا ذا قدرةٍ لم يخش من سلطانِ قتل الخليفة والقضاة وحاملي القرآن والفقهاء في البلدانِ


1- انظر السيف الصقيل في الردّ على ابن زفيل - ابن القيم - تحقيق زاهد الكوثري.

ص:109

إذ هم مشبِّهةٌ مجسِّمةٌ وما

دانوا بدين أكابر اليونان وأتى ابنُ سينا القرمطي مصانعاً للمسلمين بإفك ذي بهتانِ يا مبغضاً أهل الحديث وشاتماً أبشر بعقد ولاية الشيطانِ أو ما علمت بأنّهم أنصار دينِ الله والإيمان والقرآنِ أو ما علمت بأنّ أنصار الرسول هُم بلا شكٍّ ولا نُكرانِ هل ينقص الأنصار عبدٌ مؤمنٌ أو مدركٌ لروائح الإيمانِ قال الشارح: وقد بيّن الناظم في غير هذا الموضع أنّ هؤلاء الفلاسفة أكفر من اليهود والنصارى، وإن تظاهروا بالإسلام فإنّهم يظهرون من مخالفة الإسلام أعظم ممّا كان يظهره المنافقون الذين كانوا على عهد رسول الله (ص) .

أهل الذِّمَّة

وكحال أُستاذه تجاوز ابن القيّم دائرة الهجوم على المخالفين من المسلمين، وأطلق سهامه على أهل الكتاب داعياً إلى نبذهم وحصارهم والتضييق عليهم قدر الإمكان.

وصنّف في هذا كتابه (أحكام أهل الذمّة) الذي حوى العديد من الفصول التي تعلن الحرب عليهم وتحرّض المسلمين على كراهيتهم وإذلالهم.

وقد حشا ابن القيّم كتابه هذا بشتّى الروايات الثقيلة الموجَّهة لأهل الذمّة.

ومن هذه الروايات التي حشدها في كتابه:

رواية تقول: لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة.

وهذه الرواية منسوبة للرسول (ص) .

وثاني هذه الروايات منسوبة لابن عبّاس قال: أيّما مص-ر مص-ّرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه، ولا يضربوا فيه ناقوساً، ولا يش-ربوا فيه خمراً، ولا يتّخذوا فيه خنزيراً، وأيّما مصر مصّرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوا فيه، فإنّ للعجم ما في عهدهم وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلّفوهم فوق طاقتهم.

ص:110

وثالث هذه الروايات منسوبة لعمر بن عبد العزيز أنّ عمر كتب أمراً بهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين.

ورابع هذه الروايات عن الحسن البصري تقول: من السنّة أن تُهدم الكنائس التي بالأمصار القديمة والحديثة.

وخامس هذه الروايات تقول: سُئل ابن حنبل عن البيعة والكنيسة تحدث - أي: تُبنى من جديد - فقال: يرفع أمرها إلى السلطان، أي: ليأمر بهدمها.

وسادس هذه الروايات رواية منسوبة للرسول (ص) تقول: لا تكون قبلتان في بلدٍ واحد.

وأُخرى تقول: لا تُبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدّد ما خرب منها.

وهذه الروايات وغيرها ممّا تكتظّ به كتب السنن فيما يتعلّق بأصحاب الديانات الأُخرى موضع شكّ فقهاء الحديث، ورغم ذلك يسترشد بها الفقهاء، كما أنّ هذه الروايات جميعها رُويت عن طريق أحمد بن حنبل.

ثمّ حشد ابن القيّم بعد هذه الروايات كمّاً من فتاوى الفقهاء التي ترتكز على هذه الروايات وغيرها من الروايات التي تتعلّق بأهل الذمّة.

وجميع هذه الفتاوى تتركّز في دائرة منع بناء الكنائس ومنع ترميمها والعلاقة بين الحاكم والذمّي.

ومثل هذه الروايات التي استند عليها ابن القيّم والفتاوى التي استحض-رها هي التي ارتكز عليها حنابلة العصر، من الفرق الوهّابيّة، واستباحوا دماء وأموال غير المسلمين على أساسها، مرتكزين على أنّ المجتمع المعاصر يُعدّ حسب المفهوم الفقهي الذي وضعه الفقهاء دار حرب، لا يوجد فيها إمام ولا توجد بين المسلمين وغيرهم عقود ذمّة تُحفظ على أساسها أموالهم ودمائهم، فمن ثمّ هم عُرضة للاستحلال من قِبَل هذه الفرق التي جعلت من نفسها قيّماً على الدين ومعبِّراً عنه وناطقةً بلسانه، وقد منحتها هذه الصلاحيات عقيدة أهل السنّة ونصوص الفقهاء، وعجز فقهاء العص-ر وتحالفهم مع الحكّام من جانبٍ آخر.

ص:111

مثل هذا الفقه المتطرّف الذي بُني على روايات ضعيفة، وعلى الأعراف وقرارات الحكّام، يجب أن يُعاد ضبطه مع القرآن، وهو لن ينضبط معه بحال، فالقرآن لم ينص على شيء من هذا تجاه أصحاب الديانات الأُخرى.

هذا الفقه إنّما هو وليد مرحلة سياسية خاصّة هي مرحلة الحروب والغزوات السياسية، وليس وليد النصوص.

ونقل ابنُ القيّم في كتابه (الطُرُق الحكمية) فتوى شيخه ابن تيمية في أهل الذمّة التي تجيز هدم كنائسهم ومعابدهم.

وفي فصل تحت عنوان: منزلة السنّة من الكتاب أنكر ابن القيّم على التيّارات والمذاهب الأُخرى قولها برفض الرواية التي تتناقض مع القرآن وتصطدم بأحكامه، أو تضيف حكماً جديداً فوق أحكام القرآن.

وقال: أنكر أحمد والشافعي على مَن ردّ أحاديث رسول الله (ص) لزعمه أنّها تخالف ظاهر القرآن، وقال: الذي يجب على كلّ مسلمٍ اعتقاده أنّه ليس من سنن رسول الله (ص) الصحيحة سنّة واحدة تخالف كتاب الله، بل السنن مع كتاب الله على ثلاث منازل:

الأُولى: سنّة موافقة شاهدة بنفس ما شهد به الكتاب المنزل.

الثانية: سنّة تفسّر الكتاب وتبيّن مراده منه وتقيّد مطلقه.

الثالثة: سنّة متضمّنة لحكم سكت عنه الكتاب فتبيّنه بياناً مبتدأً.

ولا يجوز ردّ واحدةٍ من هذه الأقسام الثلاثة.

وليس للسنّة مع الكتاب منزلة رابعة.

ونقل قول أحمد: ما من أحدٍ يحتج عليه بسنّةٍ صحيحة تخالف مذهبه ونِحْلته إلاّ ويمكنه أن يتشبّث بعموم آيةٍ أو إطلاقها، ويقول هذه مخالفة لهذا العموم والإطلاق فلا تُقبل.

حتّى الرافضة قبّحهم الله سلكوا هذا المسلك بعينه في ردّ السنن الثابتة المتواترة، فردّوا قوله (ص) : لا نورث ما تركناه صدقة، وقالوا: هذا حديث يخالف كتاب الله /يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ/. (النساء: ١١)

ص:112

وردّت الجهمية ماشاء الله من الأحاديث الصحيحة في إثبات الصفات بظاهر قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. (الشورى: ١١)

وردّ الخوارج من الأحاديث الدالّة على الشفاعة وخروج أهل الكبائر من الموحِّدين من النار بما فهموه من ظاهر القرآن.

وردّت الجهمية أحاديث الرؤية مع كثرتها وصحّتها بما فهموه من ظاهر القرآن في قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ. (الانعام: ١٠٣)

وردّت القدرية أحاديث القدر الثابتة بما فهموه من ظاهر القرآن.

وردّت كلّ طائفة ما ردّته من السنّة بما فهموه من ظاهر القرآن.

وفي فصل الحكم بشهادة الفُسّاق قال وذلك في صور:

أحدهما الفاسق باعتقاده إذا كان متحفّظاً في دينه فإنّ شهادته مقبولة، وإن حكمنا بفسقه كأهل البِدَع والأهواء الذين نكفّرهم كالرافضة والخوارج والمعتزلة ونحوهم، هذا منصوص الأئمّة.

قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء على بعض إلاّ الخطابية.

وقال أحمد: لا تجوز شهادة القدرية والرافضة وكلّ مَن دعا إلى بِدْعة ويخاصم عليها.

وقال في الرافضة: لعنهم الله لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم.

وقال: مَن أخاف عليه الكفر مثل الروافض والجهمية لا نقبل شهادتهم ولا كرامة لهم، وإذا كان القاضي جهمياً لا نشهد عنده.

وقد نصّ مالك على أنّ شهادة أهل البدع كالقدرية والرافضة ونحوهم لا تقبل وإن صلّوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا.

وجميع أهل البدع قد كذبوا على الله ورسوله، والخوارج من أصدق الناس لهجةً، وقد كذبوا على الله ورسوله، كذلك القدرية والمعتزلة وهم يظنون أنّهم صادقون غير كاذبين فهم متديّنون بهذا الكذب ويظنّونه من أصدق الصدق.

ص:113

وتحوّل ابن القيّم نحو الصور والتماثيل والكتب وأصحاب الرأي فقال: والمنكرات من الأعيان والصور يجوز إتلاف محلّها تبعاً لها مثل الأصنام المعبودة من دون الله، لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها، فإذا كان حجراً أو خشباً ونحو ذلك جاز تكسيرها وإحراقها، وكذلك آلات اللهو كالطنبور يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء، كذلك لا ضمان في تحريق الكتب المضلِّلة وإتلافها.

ونُقل عن ابن حنبل قوله عندما سُئل عن الرأي؟

فقال: لا نثبت شيئاً من الرأي، عليكم بالقرآن والحديث والآثار.

وقال عن كتب المخالفين: هذه الكتب بِدْعة، ومن وضع شيئاً من الكتب فهو مبتدع.

وقال ابن القيّم: وكلّ هذه الكتب المتضمّنة لمخالفة السنّة غير مأذون فيها، بل مأذون في محوها وإتلافها، وما على الأُمّة أضرّ منها، وقد أحرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان لما خافوا على الأُمّة من الاختلاف، فكيف لو رأوا هذه الكتب التي أوقعت الخلاف والتفرّق بين الأُمّة؟

ونقل قول الخلاّل: أهلكهم وضع الكتب، تركوا آثار رسول الله (ص) وأقبلوا على الكلام.

ونقل قول المروذي: يضعون البدع في كتبهم، إنّما أحذر منها أشدّ التحذير.

قال ابن القيم معلِّقاً: وكلام أحمد في هذا كثير قد ذكره الخلاّل في كتاب العلم.

وقال: ومسألة وضع الكتب فيها تفصيل ليس هذا موضعه، وإنّما كره أحمد ذلك الوضع منه لما فيه من الاشتغال به والإعراض عن القرآن والسنّة والذبّ عنهما، وأمّا كتب إبطال الآراء والمذاهب المخالفة لهما فلا بأس، وقد تكون واجبة مستحبّة ومباحة بحسب اقتضاء الحال. والمقصود أنّ هذه الكتب المشتملة على الكذب والبِدْعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف وإتلاف آنية الخمر، فإنّ ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها كما لا ضمان في كس-ر أواني الخمر.

ص:114

والسؤال هنا: أليس هذا الكلام ينطبق على كتب الوهّابيّة التي أوقعت الفرقة والخلاف بين المسلمين، ونشرت التطرّف والإرهاب وسطهم؟

ثمّ يقول ابن القيّم: وأمّا أهل البِدَع الموافقون لأهل الإسلام ولكنّهم مخالفون في بعض الأُصول - كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم - فهؤلاء أقسام:

أحدها: الجاهل المقلّد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يُكفّر ولا يُفسّق ولا تُردّ شهادته، إذا لم يكن قادراً على تعلّم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والوِلْدان الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا ً، فأُولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوّاً غفوراً.

القسم الثاني: المتمكّن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورياسته ولذّته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات فإن غلب ما فيه من البِدْعة والهوى على ما فيه من السنّة والهدى رُدّت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنّة والهدى قُبلت شهادته.

القسم الثالث: أن يسأل فيطلب ويتبيّن له الهدى، ويتركه تقليداً أو تعصّباً أو بُغضاً أو معاداةً لأصحابه، فهذا أقلّ درجاته: أن يكون فاسقاً، وتكفيره، محل اجتهاد وتفصيل، فإن كان معلناً داعية رُدّت شهادته وفتاويه وأحكامه مع القدرة على ذلك، ولم تقبل له شهادة ولا فتوى ولا حكم إلاّ عند الض-رورة كحال غلبة هؤلاء واستيلائهم، وكون القضاة والمفتين والشهود منهم، ففي ردّ شهادتهم وأحكامهم إذ ذاك فساد كثير، ولا يمكن ذلك فتقبل للضرورة.

ومن خلال ما سبق يتبيّن لنا أنّ ابن القيّم شكّل الدعامة الثانية لفكر الإرهاب والتطرّف التي ارتكز عليها الوهّابيّون.

ص:115

محمّد بن عبدالوهاب باعث الإرهاب

اشارة

لا ينكر أنّ فترة القرن الثامن عشر كانت تحتاج إلى صحوة إسلامية وتجديد فعلي للفكر الإسلامي، إلاّ أنّ ما فعله محمّد بن عبد الوهاب وما دعا إليه لم يكن صحوةً ولم يكن إصلاحاً لحال المسلمين.

ولم يكن محمّدبن عبدالوهاب ليبرز بدعوته لولا تراث ابن تيمية ودعم آل سعود، وهذا يعني افتقاده المقوّمات الذاتية من الفقه والاجتهاد والزعامة.

من هنا فإنّ الخوض في تراث محمّد بن عبد الوهاب يعني الخوض في تراث ابن حنبل، وابن تيمية، وابن القيّم، وغيرهم من الحنابلة المتطرّفين، فهو لم يأت بجديد وإنّما قام ببعث هذا التراث الذي طواه النسيان وغاب عن الأذهان.

قرن الشيطان

ينتمي محمّد بن عبد الوهاب إلى منطقة نجد، وهي نفس منطقة آل سعود، وقد وُلد عام (١١١5 ه- - ١٧٠٣ م) في بلدة العيينة شمال الرياض.

وكان حادّ المزاج يعشق ابن تيمية ويتقمّص شخصيته.

ص:116

وتروي كتب الأحاديث أنّ رسول الله (ص) ذمّ نجد وأهلها وحذّر المسلمين من شرّهم.

الرواية الأُولى تقول: ألا إنّ الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان، وأشار إلى نجد.

والرواية الثانية تقول: الفتنة من قِبَل المشرق؛ حيث يطلع قرن الشيطان.

والرواية الثالثة تقول: اللّهمّ بارك لنا في شامنا وفي يمننا.

قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله: فكرّروا ثلاثاً ورسول الله يدعو للشام واليمن، ثمّ قال: تلك مواضع الزلازل والفتن. (1)

إلّا أنّ فقهاء الوّهابيّة لم يتركوا هذه الروايات تمرّ مرور الكرام؛ خوفاً من أن يستثمرها خصومهم، فعملوا على تأويلها وصرفها عن معناها.(2)

وكان محمّد بن عبد الوهاب قد درس الفقه والحديث على يد والده إلاّ أنّه لم يفلح، ثمّ تنقّل في البلاد طلباً للعلم وقد طاب له المقام بالبصرة، إلاّ أنّ أهلها أخرجوه منها وطردوه حافياً، بسبب دخوله في صدام مع الفقهاء، وإنكاره عليهم زياراتهم لمقابر الأولياء والتوسّل بهم، فتوجّه بعدها إلى الشام ولم يوفّق فيها، وعاد إلى نجد حيث لازم أباه، وعكف على كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم.

ثمّ بدأ بعد ذلك في الاحتكاك بالناس ودعوتهم إلى أفكاره فكان أن اصطدم به والده وشقيقه سليمان، وحارباه، ولم يتسطع الجهر بدعوته إلاّ بعد وفاة أبيه، إلاّ أنّه أُجبر على الفرار من (حريملا) بعد أن نجا من محاولة لقتله، واتّجه نحو (العيينة) مسقط رأسه، واحتمى بحاكمها ودعاه إلى مذهبه فمال إليه، ثمّ تراجع عن نصرته بعد أن أحسّ بغضب حاكم الأحساء، الذي أرسل يطلب رأس ابن عبد الوهاب، فأمر بإخراجه، وأرسل معه فارساً وكّله بقتله في الطريق.(3)


1- انظرالبخاري ومسلم كتاب الفتن.
2- أصدر الوهّابيون منشوراً يشرحون فيه هذا الحديث بما يدفع الشبهات عن ابن عبد الوهاب وآل سعود.
3- انظرمحمّد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه، لابن باز، ط السعودية، يُهدى ولا يُباع.

ص:117

وتروي الكتب الوهّابيّة أنّ هذا الفارس ارتعدت يداه ولم يتمكّن من قتله، فنزل ابن عبد الوهاب (الدرعية) وهناك تعرّف عليه أميرها محمّد بن سعود.(1)

- الدم. . الدم، والذهب. . الذهب.

ويروى أنّ ابن سعود دخل على ابن عبد الوهاب قائلاً: أبشر بالخير والعِزّ والمنعة.

وكان ردّ ابن عبد الوهاب: وأنت أبشر باليُمن والغلبة على جميع بلاد نجد.

ورجاه أن يكون إماماً يجتمع عليه المسلمون ويكون له الملك والسيادة ومن بعده في ذرّيّته.

قال ابن سعود: أبشر بالنصر لما أمرت به والجهاد لمَن خالف التوحيد ولكنّي أشترط عليك شرطين:

الأوّل: إذا نحن قمنا بنصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلاد لا ترحل عنّا ولا تستبدلنا بغيرنا.

الثاني: أنّ لي على أهل الدرعية خراجاً آخذه منهم في وقت اقتطاف الثمّار فلا تمنعني من استيفائه منهم.

فقال ابن عبد الوهاب: أمّا الأُولى فامدد يدك لأبايعك، فمدّها له وقبض عليها الشيخ قائلاً: الدم بالدم والهدم بالهدم.

وأمّا الثانية فلعلّ الله يفتح لنا الفتوحات فيعوّضك من الغنائم ما هو خير منها.(2)

وتمّ الاتّفاق وبدأ ابن عبد الوهاب يخطّط لدعوته.

وابن سعود يخطّط لملكه.

وهكذا تمّ تقسيم السلطات وتوزيع الاختصاصات.

وهكذا أعمل السيف في رقاب المسلمين في جزيرة العرب، المناهضين لدعوة التوحيد التي يرفع رايتها محمّد بن عبد الوهاب.


1- المرجع السابق، وانظر تاريخ الجزيرة العربية في عصر محمّد بن عبد الوهاب لخزعل.
2- محمّد بن عبد الوهاب لابن باز.

ص:118

وأُحلّت لابن سعود الغنائم بفتوى ابن عبد الوهاب.

وسار كلاهما في طريق جانبه ذهب وجانبه الآخر دماء.

وربح ابن سعود الملك والذهب.

وربح ابن عبد الوهاب منصب شيخ الإسلام في جزيرة العرب.

وكان هذا الاتّفاق بمثابة تأكيد لشرعية فصل الدين عن الدولة.

عقيدة ابن عبدالوهاب

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل جاء محمّد بن عبد الوهاب بش-يءٍ جديد؟

والإجابة: أنّ عقيدة ابن عبد الوهاب هي عقيدة الحنابلة وابن تيمية على وجه الخصوص، تلك العقيدة التي تقوم على ما يلي:

* الروايات.

* السلف من الحنابلة.

* تكفير المخالفين واستحلالهم.

وعلى أساس الروايات وأقوال الحنابلة بنى ابن عبد الوهاب عقيدته التي أسماها عقيدة التوحيد.

وما دامت عقيدته هي عقيدة التوحيد فإنّ مَن يخالفه أو يناهضه فهو من المش-ركين المستباحين.

من هنا فإنّ محمّد بن عبد الوهاب نهض بسيف ابن سعود للقضاء على ما أسماه بالشرك والضلال في جزيرة العرب.

نهض ابن عبد الوهاب ليدعوا إلى توحيد العبودية لله؛ حيث إنّ الناس في زمانه قد أشركوا في عبادة الله الأنبياء والأولياء والأشجار، ونذروا لها، وحلفوا بها، وقدّسوها. . !

ص:119

ويدعو إلى رفض التوسّل بالأموات من الأنبياء والصالحين. .

ويدعو إلى منع شدّ الرحال إلى مساجد الأنبياء والصالحين (الزيارة) ،

ويدعو إلى منع البناء على القبور وكسوتها وإنارتها.

ويدعو إلى توحيد الأسماء والصفات، أي: وصف الله بما ورد في الروايات من أنّ له يداً وعيناً ورجلاً ويضحك ويغار ويفرح ويهبط ويصعد وما شابه ذلك، ورفض تأويل هذه الروايات وصرفها عن معناها الظاهري إلى معنى مجازي.

ويدعو إلى إنكارالاحتفال بمولد الرسول (ص) ، وإحياء المناسبات والصلاة على الرسول بعد الآذان والتلفّظ بالنيّة، وغيرها من الأُمور الشكلية والهامشية التي لا تُقدّم ولا تُؤخّر، بل كانت النتيجة - من وراء إثارتها - أن ازداد واقع المسلمين تصدّعاً وسادته الفرق المتطرّفة المعوجّة التفكير، التي نشرت الإرهاب في كلّ مكان، وشوّهت الإسلام.

ويبدو من خلال هذه الأُمور - التي دعا إليها ابن عبد الوهاب -أنّه لم يأت بجديد، وأنّ مثل هذه الأفكار طرحها من قبل ابن تيمية وتمّ ضربها وانتهت بموته في الحبس.

إلاّ أنّ الفارق بين ابن تيمية وابن عبد الوهاب، أنّ ابن تيمية لم يجد له نصيراً يدعمه بسيفه، بينما تحقّق لابن عبد الوهاب ذلك.

من هنا يمكن القول: إنّ عقيدة ابن عبد الوهاب فُرضت على الناس بالسيف لابالدعوة والحوار.

ولو كانت دعوته تعتمد على الحوار والتبليغ لما كانت هناك حاجة لسيف ابن سعود.

الرسول ومحمّد بن عبدالوهاب

وفتن الوهّابيون بشيخهم كما فتن أنصار وتلامذة ابن تيمية بإمامهم من قبل، ورفعوه عالياً فوق مقام الأئمّة والمصلحين حتّى ساووه بالرسول (ص) .

ص:120

وإليكم التفاصيل:

يحدّد أحد تلامذة الوهّابية وجه المشابهة بين عص-ر الرسول (ص) وعص-ر محمّد بن عبدالوهاب بقوله:

* (عصر الرسول كان عصراً قد بلغ من فساد العقائد والعادات والأخلاق مبلغاً عظيماً، وكان عصر ابن عبد الوهاب شبيهاً بهذا العصر.

* بُعث الرسول (ص) بعد فترةٍ من الرسل، والبشرية متعطّشة إلى بعثته الكريمة.

وجاء محمّد بن عبد الوهاب في وقتٍ كانت جزيرة العرب في أمس الحاجة إلى مصلح يرجع بها إلى تعاليم الرسول (ص) .

* كما وُفّق نبيّنا في الدعوة إلى الله وتوحيده ونبذ الشرك، وُفّق محمّد بن عبدالوهاب في دعوته.

* أُخرج الرسول (ص) من مكّة وأُوذي من قريش وأجمعوا على قتله فهاجر، وكذلك ابن عبد الوهاب أُوذي وحاول البعض قتله فهاجر إلى الدرعية.

* كما جرى للرسول (ص) وهو في طريقه نحو المدينة أن تبعه سراقة وحاول قتله، كذلك جرى ذلك لابن عبد الوهاب حين أُخرج من العيينة.

* وكان ابن عبد الوهاب يعرض نفسه على القبائل كما كان يفعل رسول الله.

* ومثلما اعترض الرسول (ص) الخطر والكوارث والهلاك، اعترضت حياة ابن عبدالوهاب الويلات والكوارث.

* وكما كان الرسول (ص) يغزو بنفسه، كان ابن عبد الوهاب يغزو بنفسه مع ابن سعود.

* وكما كان الرسول (ص) يرسل الرسل إلى الملوك والحكّام يدعوهم إلى دين التوحيد، كان ابن عبد الوهاب يفعل نفس الشيء.

* وكما ابتُلي الرسول (ص) بأعداء أقوياء يتّهمونه بالسحر والكذب، ابتُلي ابن عبدالوهاب أيضاً بأعداء أقوياء اتّهموه بالكذب والسحر، حتّى أخوه سليمان كان عدوّاً لدوداً له.

ص:121

* وكما انتصر الرسول (ص) على أعدائه وخضعوا له، كذلك ابن عبد الوهاب انتصر على أعدائه وخضعوا له.

ويعتبر الوهّابيون أنّ الاتّفاق الذي وقع بين ابن عبد الوهاب ومحمّد بن سعود هو نفس الاتّفاق الذي تمّ بين الرسول (ص) والأنصار في بيعة العقبة الثانية حتّى أنّ ابن عبدالوهاب قال نفس ما قاله الرسول: الدم بالدم والهدم بالهدم.

وكما آخى الرسول (ص) بين المهاجرين والأنصار آخى محمّد بن عبد الوهاب بين المهاجرين إليه من مريديه وأهل الدرعية التي اتّخذها مقرّاً لدعوته.9(1)

رسائل وقذائف

وتدور مؤلّفات ابن عبد الوهاب في أغلبها حول ما اعتبره من الشرك والبدع التي قام لمناهضتها باعتبارها متناقضة مع التوحيد، حسب منظوره، وهي لاتُعدّ مؤلّفات بالمعنى المعروف؛ لكونها لا تخرج عن كونها رسائل صغيرة محشوّة بالروايات المبعثرة، ولا أثر فيها لجهد علمي أو اجتهاد شخصي سوى بعض الكلمات الصارخة المتطرّفة في وجه المخالفين، وهو ما دفع بالوهّابيين إلى الإسراع لسدّ عورات هذه الرسائل بشرحها والإضافة عليها، ودعمها بالروايات وأقوال ابن تيمية وابن القيّم وغيرهما من الحنابلة المتطرّفين.(2)

ومن هذه الرسائل:

التوحيد الذي هو حقّ الله على العبيد.

مسائل الجاهلية.


1- انظر محمّد بن عبد الوهاب.
2- انظر في هذا مقدّمة رسائل لخّصها محمّد بن عبد الوهاب من كتب ابن تيمية حيث قال المحقّق: وقد تبيّن لي من خلال قراءة الكتاب أنّه غير منتظم العبارات، ويوجد به انقطاع في بعض الكلام، وأرجع ذلك إلى تص-رّف بعض الناسخين، ثمّ قال: وقد قمنا بإصلاح ما قدرنا على إصلاحه بمراجعة كتب ابن تيمية.

ص:122

أُصول الإيمان.

الكبائر.

مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد.

كشف الشبهات، وهو الكتاب الذي فرضه آل سعود على أهل مكّة حين سقطت في أيديهم، وأجبروا الناس على قراءته وتدريسه بالحرم المكّي.

وقد قسّم ابن عبد الوهاب التوحيد إلى ثلاث أقسام سيراً مع نهج ابن تيمية:

القسم الأوّل: توحيدالأُلوهية.

القسم الثاني: توحيد الربوبية والملك.

القسم الثالث: توحيد الاسماء والصفات.

يقول: ولا إله إلاّ الله اشتملت على نفي وإثبات فنفت الأُلوهية عن كلّ ما سوى الله تعالى، فكلّ ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم، فليس بإله ولا له من العبادة شيء، وأُثبتت الاُلوهية لله وحده بمعنى: أنّ العبد لا يأله غيره، أي: لايقصده بشيءٍ من التألّه وهو تعلّق القلب الذي لا يوجب قصده بش-يء من أنواع العبادة، كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك، وبالجملة فلا يأله إلاّ الله، أي: لا يعبد إلاّ هو، فمَن قال هذه الكلمة عارفاً لمعناها عاملاً بمقتضاها من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله مع الاعتقاد الجازم لما تتضمّنه من ذلك والعمل به؛ فهذا هو المسلم حقّاً، فإن عمل به ظاهراً من غير اعتقاد فهو المنافق، وإن عمل بخلافها من الشرك فهو كافر ولو قالها، وكذلك مَن يقولها مَن يصرف أنواع العبادة لغير الله كعبادة القبور والأصنام؛ فلا تنفعهم ولا يدخلون في الحديث الذي جاء في فضلها وما أشبهه من الأحاديث.

وعبّاد القبور لمّا رأوا النبي (ص) دعا قومه إلى قول لا إله إلاّ الله ظنّوا إنّما دعاهم إلى النطق بها فقط، وهذا جهلٌ عظيم، إنّما دعاهم إليها ليقولوها ويعملوا بمعناها ويتركوا عبادة غير الله.

وأمّا عبّاد القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة، ولا عرفوا الإلهيّة المنفيّة عن غير الله

ص:123

الثابتة له وحده لا شريك له، بل لم يعرفوا من معناها إلاّ ما أقرّ به المؤمن والكافر واجتمع عليه الخلق كلّهم /وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ/. (يوسف: ١٠6)

وعبّاد القبور نطقوا بها وجهلوا معناها وأبوا عن الإتيان به فصاروا كاليهود الذين يقولونها ولا يعرفون معناها ولا يعملون به، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله، والمدفون في التراب أعظم في قلبه من ربّ الأرباب، وأكثرهم يرى أنّ الاستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غيره أنفع وأنجع من الاستغاثة بالله في المسجد ويص-رّحون بذلك.

وكثير منهم عطّلوا المساجد وعمّروا القبور والمشاهد.

قال رسول الله (ص) : أُمرت أن أُقاتل الناس حتّى يقولوا؛ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله تعالى.

فهذا الحديث كآية براءة بيّن فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداءً، فإذا فعلوه وجب الكفّ عنهم إلاّ بحقّه، فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام وجب القتال، حتّى يكون الدين كلّه لله، بل لو أقرّوا بالأركان الخمسة وفعلوها وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه، أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام كالربا والزنا أو نحو ذلك، وجب قتالهم إجماعاً ولم تعصمهم لا إله إلاّ الله ولا ما فعلوه من الأركان، وهذا من أعظم ما بيّن معنى لا إله إلاّ الله، وأنّه ليس المراد منها مجرّد النطق، فإذا كانت لا تعصم مَن استباح محرّماً، أو أبى عن فعل الوضوء مثلاً، بل يقاتل على ذلك حتّى يفعله، فكيف تعصم مَن دان بالشرك وفعله وأحبّه ومدحه وأثنى على أهله ووالى عليه وعادى عليه، وأبغض التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله، وتبرّأ منه وحارب أهله وكفّرهم وصدّ عن سبيل الله كما هو شأن عبّاد القبور.

وقد أجمع العلماء على أنّ مَن قال: لاإله إلاّ الله وهو مش-رك أنّه يقاتل حتّى يأتي بالتوحيد.

ص:124

واستشهد الشارح بفتوى ابن تيمية (الياسق) التي أشرنا إليها سابقاً.

ونقل قول ابن تيمية: وهؤلاء عند المحقّقين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة، ومثل هذا كثير في كلام أهل العلم.

ثمّ قال: ويكفي للعاقل المنصف ما ذكره العلماء من كلّ مذهب في باب حكم المرتد، فإنّهم ذكروا فيه أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو أتى بجميع الدين، وهو صريح في كفر عبّاد القبور، ووجوب قتالهم إن لم ينتهوا؛ حتّى يكون الدين لله وحده، فإذا كان مَن التزم شرائع الدين كلّها إلاّ تحريم الميسر، أو الربا، أو الزنا، يكون كافراً يجب قتاله، فكيف بمَن أشرك بالله، ودعا إلى إخلاص الدين لله والبراءة والكفر بمَن عبد غير الله فأبى عن ذلك واستكبر وكان من الكافرين؟

ونقل عن ابن تيمية قوله في الرسالة السنية: فإذا كان في عهد النبي (ص) مَن انتسب إلى الإسلام ومرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أنّ المنتسب للإسلام والسنّة في هذا الزمان - أيضاً - قد يمرق من الإسلام؛ وذلك لأسباب، منها: الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح (ع) ، فكلّ مَن غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: يا سيّدي فلان انص-رني أو أغثني أو ارزقني وأجرني، أو أنا حسبك ونحو هذه الأقوال، فكلّ هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلاّ قُتل؛ فإنّ الله إنّما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليُعبد وحده ولا يُدعى معه إله آخر.

ونقل عنه أيضاً قوله: مَن جعل بينه وبين الله وسائط يتوكّل عليهم يدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً.

قلت - أي: الشارح -: وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين.

ونقل عن ابن النحاس الشافعي قوله في كتاب الكبائر: ومنها إيقادهم السرج عند الأحجار والأشجار والعيون والآبار، ويقولون: إنّها تقبل النذور، وهذه كلّها بِدَع شنيعة ومنكرات قبيحة تجب إزالتها ومحو آثارها، فإنّ أكثر الجهّال يعتقدون أنّها تنفع

ص:125

وتضر، وتجلب وتدفع، وتشفي المرض، وتردّ الغائب إذا نذر لها، وهذا شرك ومحادة لله تعالى والرسول.

قال الشارح: فصرّح أنّ الاعتقاد في هذه الأُمور أنّها تضرّ وتنفع، وتجلب وتدفع، وتشفي المريض وتردّ الغائب إذا نذر لها، إنّ ذلك شرك، وإذا ثبت أنّه شرك فلا فرق في ذلك بين اعتقاده في الملائكة والنبيين، ولا بين اعتقاده في الأصنام والأوثان.

ونقل عن ابن القيّم قوله في شرح المنازل عن الشرك: ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجّه إليهم، وهذا أصل شرك العالم. وأمرنا النبي (ص) إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحّم عليهم وندعوا لهم، فعكس المش-ركون هذا وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثاناً تُعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقّص بالأموات، وهم قد تنقّصوا الخالق سبحانه بالشرك وأولياءه الموحّدين بذمّهم ومعاداتهم، وهؤلاء هم أعداء الرسل (ص) في كلّ زمانٍ ومكان.

ونقل قول ابن تيمية: مَن تشبّه من هذه الأُمّة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراطٍ فيه أو تفريط، وضاهاهم في ذلك؛ فقد شابههم كالخوارج المارقين من الإسلام، وكذلك مَن غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة والأشاعرة.(1)

وكان محمّد بن عبد الوهاب قد كتب العديد من الرسائل التي وجّهها إلى خصومه؛ يدافع فيها عن نفسه وعن أفكاره ومعتقداته وما نُسب إليه من الخروج عن الإجماع وتكفير المسلمين، وقد جمع الوهّابيون هذه الرسائل في كتابٍ أسموه: (مؤلِّفات محمّد ابن عبدالوهاب في العقيدة) .

قال في الرسالة الأُولى: أمّا أنّي أقول: لا يتمّ إسلام الإنسان حتّى يعرف معنى لاإله إلاّ الله، وأنّي أعرف مَن يأتيني بمعناها، وأنّي أكفّر الناذر إذا أراد بنذره التقرّب لغير الله


1- انظرتيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد.

ص:126

وأخذ النذر لأجل ذلك، وأنّ الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام، فهذه المسائل حقّ وأنا قائل بها.

وفي الرسالة الثالثة التي تتكوّن من أربعة مسائل، كان عنوان المسألة الأُولى: بيان التوحيد مع أنّه لم يطرق آذان أكثر الناس.

والثانية كان عنوانها: بيان الشرك ولو كان في كلام مَن ينتسب إلى العلم أو عباده.

والثالثة كان عنوانها: تكفير من بان له أنّ التوحيد هو دين الله ورسوله ثمّ أبغضه ونفّر الناس منه وجاهد من صدّق الرسول فيه.

والرابعة كان عنوانها: الأمر بقتال هؤلاء خاصّة حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله.

وفي الرسالة الثانية والعشرين قال: اعلم أنّ المشركين في زماننا قد زادوا على الكفّار في زمن النبي (ص) بأنّهم يدعون الملائكة والأولياء والصالحين ويريدون شفاعتهم والتقرّب إليهم، وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج /فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ/. (غافر: ٨٣)

فإذا عرفت ذلك وعرفت أنّ الطريق إلى الله لابدّ له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، كما قال تعالى: /وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ/ (الاعراف: ٨6) ، فالواجب عليك أن تعلم عن دين الله ما يصير لك سلاحاً تقابل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدّمهم لربّك عزّ وجلّ: /لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثمّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ/ (الاعراف: ١6و١٧) ، ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حجج الله وبيانه فلا تخف ولا تحزن إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً، والعالم من الموحِّدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين كما قال الله تعالى: /وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ/ (الصافات: ١٧٣) ، فجند الله هم الغالبون بالحجّة واللسان، كما أنّهم الغالبون بالسيف والسنان.

ص:127

وأمّا التكفير فأنا أكفّر من عرف دين الرسول ثمّ بعد ما عرفه سبّه ونهى الناس عنه وعادى مَن فعله، فهذا الذي أُكفّر.

وفي الرسالة الثانية والثلاثين قال: إنّ من أعظم نواقض الإسلام عشرة:

الأوّل: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، ومنه الذبح لغير الله كمَن يذبح للجن والقباب /إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ/. (النساء: 4٨)

الثاني: مَن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة؛ كفر إجماعاً.

الثالث: مَن لم يكفّر المشركين أو شكّ في كفرهم أو صحّح مذهبهم كفر إجماعاً.

الرابع: مَن اعتقد أنّ غير هدي النبي أكمل من هديه، أو حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضّلون حكم الطاغوت على حكمه، فهو كافر.

الخامس: مَن أبغض شيئاً ممّا جاء به الرسول ولو عمل به كفر إجماعاً، والدليل قوله تعالى: /ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ/. (محمد: ٩)

السادس: مَن استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ. (التوبة:65و66)

السابع: السحر فمن فعله أو رضى به كفر، والدليل قوله تعالى: /وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ/. (البقرة: ١٠٢)

الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: /وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ/. (المائدة: 5١)

التاسع: مَن اعتقد أنّ بعض الناس لا يجب عليه اتّباعه (ص) ، وأنّه يسعه الخروج من شريعته كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى فهو كافر.

العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلّمه ولا يعمل به والدليل قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثمّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ . (السجدة: ٢٢)

ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلاّ المكره، وكلّها من أعظم ما يكون خطراً، ومن أكثر ما يكون وقوعاً.

ص:128

ومن المعروف أنّ الإنجليز عندما برزوا في المشرق الإسلامي دعموا مجموعة من الفرق التي برزت في واقع المسلمين من أجل هدم الإسلام وتفريق المسلمين وزرع العداوة والبغضاء بينهم، وعلى رأس هذه الفرق كانت القاديانية في الهند، والبهائية في فارس، ثمّ الوهّابية في جزيرة العرب.

وهذا يعني أنّ الوهّابية تعاونت مع المشركين وتحالفت معهم على المسلمين ممّا يُشير إلى أنّ ابن عبد الوهاب نقض إسلامه حسبما ذكر في البند الثامن.

وكذلك أتباعه من الوهّابيّين وعلى رأسهم ابن باز الذين أفتوا بجواز الاستعانة بالمشركين وتظاهروا معهم على المسلمين، بل ومنحوهم الفرصة للتمكّن في جزيرة العرب من أجل ضرب المسلمين.(1)

وفي الرسالة الثالثة والثلاثين قال: ولو ذهبنا لعدد من كفّره العلماء مع ادّعائه الإسلام وأفتوا بردّته وقتله لطال الكلام، لكن من آخر ما جرى قصّة بني عبيد ملوك مصر وطائفتهم وهم يدّعون أنّهم من أهل البيت، ويصلّون الجمعة والجماعة، ونصّبوا القضاة والمفتين، أجمع العلماء على كفرهم وردّتهم وقتالهم، وأنّ بلادهم بلاد حرب يجب قتالهم.

مسائل الجاهلية

قال ابن عبد الوهاب في مقدّمة هذا الكتاب: هذه مسائل طالب فيها رسول الله (ص) ما عليه أهل الجاهلية الكتابيين والأُمّيين ممّا لا غنى لمسلمٍ عن معرفتها، فالضدّ يظهر حسنه الضدُّ، وبأضدادها تتميّز الأشياء، أهمّ ما فيها وأشدّها خطراً عدم إيمان القلب بما جاء به رسول الله، فإنّ انضاف إلى ذلك استحسان دين الجاهلية والإيمان به تمّت الخسارة، والعياذ بالله تعالى، كما قال الله تعالى: /وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا


1- قام ابن باز بشرح هذه النواقض العشر ونشرها.

ص:129

بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ/. (العنكبوت: 5٢)

- إنّهم يتعبّدون بإشراك الصالحين في دعاء الله تعالى.

وهذه المسألة هي الدين كلّه، ولأجلها تفرّق الناس بين مسلمٍ وكافرٍ، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شُرّع الجهاد.

- إنّهم متفرّقون ويرون السمع والطاعة مهانة ورذالة.

- إنّ مخالفة وليّ الأمر وعدم الانقياد له عندهم فضيلة، وبعضهم يجعله ديناً.

وهذه الثلاث هي التي ورد فيها ما في الصحيح عنه (ص) : يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا مَن ولاّه الله أمركم.

- الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل.

- الاقتداء بفلسفة أهل العلم وجهّالهم وعبّادهم.

- الاحتجاج بما كان عليه أهل القرون السالفة من غير تحكيم العقل والأخذ بالدليل الصحيح.

- الاعتماد على الكثرة والاحتجاج بالسواد الأعظم، والاحتجاج على بطلان الشيء بقلّة أهله.

- الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريباً.

- الاستدلال على المطلوب والاحتجاج بقوم أعطوا من القوّة في الفهم والإدراك، وفي القدرة والملك ظنّاً أنّ ذلك يمنعهم من الضلال.

- الاستدلال بعطاء الدنيا على محبّة الله تعالى.

- الاستدلال بالقياس الفاسد وإنكار القياس الصحيح وجهلهم بالجامع والفارق.

- الغلو في الصالحين من العلماء والأولياء.

- لا يقبلون من الحق إلاّ ما تقول به طائفتهم.

- الاعتياض عن كتاب الله بكتب السحر.

ص:130

- تحريف كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، وكم في هذا العصر مَن هو على شاكلتهم.

- معاداة الدين وموالاتهم لمذهب الكفّار، ومثل هؤلاء في الأُمّة كثير هجروا السنّة وعادوها، ونصروا أقوال الفلاسفة وأحكامهم.

- الإلحاد في أسماء الله وصفاته.

- الشركة في الملك، كما تقوله المجوس، وهم فرق شتّى منهم المزدكية، ومنهم الخرمية وهم شرّ طوائفهم، وعلى مذهبهم طوائف القرامطة والإسماعيلية والنصيرية والكيسانية والزرارية والحكمية وسائر العبيديين، الذين يسمّون أنفسهم الفاطميين، فالمجوس شيوخ هؤلاء كلّهم وأئمّتهم وقدوتهم، وإن كان المجوس قد يتقيّدون بأصل دينهم وشرائعهم، وهؤلاء لا يتقيّدون بدين من ديانات العالم ولا شريعة من الشرائع.

- اشتراء كتب الباطل واختيارها عليها، أي: على الآيات.

- التعصّب للمذهب والإقرار بالحق للتوصّل إلى دفعه.

- لبس الحق بالباطل وكتمانه.

- تلقيب أهل الهدى بالصابئة والحشوية.

- إنّ أصحاب البِدَع سمّوا أهل الحديث بالحشوية والنابتة والمتجبرة والجبرية، وسمّوهم الغثاء، وهذه كلّها لم يأت بها خبر عن رسول الله (ص) .

- دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم.

- دعاؤهم الناس إلى الكفر مع العلم.

- الزيادة في العبادة كفعلهم يوم عاشوراء.

- أئمّتهم إمّا عالم فاجر، وإمّا عابد جاهل.

- اتّخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.

- اتّخاذ آثار أنبيائهم مساجد.

- اتّخاذ السرج على القبور.

ص:131

مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد

ويبدأ ابن عبد الوهاب كتابه هذا باستعراض صور من حركة الرسول (ص) بمكّة ومواجهاته مع المشركين فيها، ثمّ يخرج بنتيجةٍ يستشهد بها على صحّة دعوته وكونها امتداداً لدعوة الرسول (ص) .

قال: فتبيّن أنّ زبدة الرسالة الإلهيّة والدعوة النبوية هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وكسر الأوثان، ومعلوم أنّ كس-رها لا يستقيم إلاّ بشدّة العداوة وتجريد السيوف، فتأمّل زبدة الرسالة.

من هنا انطلق محمّد بن عبد الوهاب رافعاً راية التوحيد، معتبراً مَن خالفه من المسلمين خارج دائرة التوحيد وفي دائرة المشركين، فشهر سيفه في وجوههم وهدّم القباب والقبور معتبراً أنّها من الأوثان، وحرّم شدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين.

ومن الواضح من عنوان هذا الكتاب أنّه يحكم بكفر تارك التوحيد الذي يدعو إليه، وهذا يقود إلى تكفير جميع المسلمين المخالفين واعتبارهم أعداء التوحيد، وينبني على هذا الحكم إراقة دماء المسلمين واستحلال أموالهم، وهو ما قام ابن عبدالوهاب بتطبيقه على المسلمين المخالفين لدعوته في جزيرة العرب وخارجها.

يقول في كتابه: على أنّ الذي نعتقده وندين به، ونرجو أن يثبّتنا الله عليه أنّه لو غلط في مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجّة، أو المسلم الذي يفضّل هذا على الموحّدين، أو يزعم أنّه على الحق، أو غير ذلك من الكفر الصريح، الذي بيّنه الله ورسوله، وبيّنه علماء الأُمّة، أما تؤمن بما جاءنا عن الله ورسوله من تكفيره ولو غلط من غلط.

وهذا الكلام شديد التطرّف يفصّل فيه ابن عبد الوهاب الأمر تجاه المخالفين لدعوته، ويعتبرهم كفّاراً ومن أهل الشرك والضلال.

فهو قد صنّف المسلمين المخالفين وبرّر حكمه عليهم كما يلي:

المشرك بالله بعد بلوغ الحجّة.

ص:132

المفضّل للمشركين - أي: المخالفين من المسلمين - على الموحّدين.

الذي يزعم أنّه على حق.

كلّ ذلك عنده من الكفر الصريح.

الذي يدين بالتشيّع أو التصوّف ويعتقد بالتوسّل بالأنبياء والأولياء ويستمر على هذا المعتقد رافضاً حجج الوهّابيّين.

والذي يفضّل المخالفين على الوهّابيّين.

والذي يزعم بأنّه على حق دون الوهّابيّين.

وقد استشهد ابن عبد الوهاب في هذا الكتاب بالكثير من كلام ابن تيمية، الذي ورد ذكره في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم وغيره من كتبه.

قال بعد أن استعرض كلام ابن تيمية حول استحلال دماء وأموال مَن قتلهم أبوبكر:

ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال عمّن قصر عن اتّباع الحق، إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة وإدخالهم في أهل الردّة وسبي ذراريهم وفعلهم فيهم ما صحّ عنهم، وهو أوّل قتال وقع في الإسلام على مَن ادّعى أنّه من المسلمين. ثمّ ختم ابن عبد الوهاب كتابه باطلاق قذيفة شديدة الانفجار على المسلمين المخالفين بوضعه باب تحت عنوان:

باب في وجوب عداوة أعداء الله الكفّار والمرتدين والمنافقين.

وقد دعم هذا الباب بعدد من النصوص القرآنية الموجّهة الى الكفّار والمستهزئين بالدين والذين يتولّونهم.

وتطبيق مثل هذه النصوص على المسلمين إنّما هي سنّة الحنابلة وابن تيمية ومَن سار على دربهم.

ولأبناء محمّد بن عبد الوهاب الكثير من الكتابات التي تدور في نفس الدائرة، منها:

ص:133

الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة (عبد الله بن محمّد بن عبد الوهاب) ، وخمس رسائل في التوحيد وأنواع الشرك وطروّه على المسلمين (عبد الرحمن بن حسن بن محمّد بن عبد الوهاب) ، وثلاثة رسائل في حكم السفر إلى بلاد الش-رك، وأوثق عرى الإيمان، وحكم موالاة أهل الإشراك (سليمان بن عبد الله بن محمّد بن عبد الوهاب) ، وفي رسالة حكم موالاة أهل الإشراك فتوى تنصّ على أنّ الذين يخطّئون أهل التوحيد ويتّبعون المشركين من (أهل القباب) ويشهدون أنّهم على حق وينص-رونهم هم كفّار من أشدّ الناس عدواة لله ورسوله (ص) .

وعلى أساس هذه الفتوى يصبح جميع المسلمين الذين لا يدينون بالوهّابيّة، ولا يتّبعون مذهب محمّد بن عبد الوهاب هم كفّاراً حلال الدم والمال، وهو ما طبّق بالفعل في جزيرة العرب بسيوف البدو الأجلاف جنود ابن عبد الوهاب.

وهو ما يُطبّق اليوم في بلاد المسلمين وغيرها على يد الفرق الوهّابية الإرهابية المنتشرة في كلِّ مكان.

ص:134

ص:135

ابن باز فقيه الفِرَق الوهّابيّة و ممثّل السَّلف

اشارة

تسلّم ابن باز مدافع ابن تيمية من إمامه محمّد بن عبد الوهاب، ومكمن الخطورة في مدافع ابن باز أنّها تضرب في جميع الاتّجاهات متّخذةً الحرم المكّي مقرّاً لها.

والأخطر من ذلك أنّها لاقت قبولاً لدى الفِرَق الوهّابيّة فحملتها نيابةً عنها.

وهكذا يمكن تحديد مسيرة هذه المدافع كما يلي:

من ابن تيمية إلى محمّد بن عبد الوهاب.

ومن محمّد بن عبد الوهاب إلى ابن باز.

ومن ابن باز إلى الفِرَق الوهّابيّة.

من هو ابن باز؟

يقول ابن باز عن نفسه: أنا عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمّد بن عبدالله آل باز، وُلدت بمدينة الرياض في ذي الحجّة عام (١٣٣٠ه- ٩٠٩ م) ، وكنت بصيراً في أوّل الدراسة، ثمّ أصابني المرض في عيني عام (١٣46ه) فضعف بصري بسبب ذلك، ثمّ ذهب بالكلّية في مستهلّ محرّم من عام ١٣5٠ه.(1)


1- انظر مجوع فتاوى ومقالات ابن باز ج١، ص٩.

ص:136

وقد بدأ ابن باز الدراسة صغيراً، وما أن بلغ حتّى تسلّمه فقهاء الوهّابيّة من أبناء الشيخ محمّد بن عبد الوهاب، فتربّى على أيديهم ورضع منهم الفقه الحنبلي حتّى صار علماً من أعلام الوهّابيّة المعاصرة.

وفي عام (١٣5٧ ه-١٩٣6 م) رُشِّح للقضاء من قِبَل أحد أبناء الشيخ محمّد بن عبد الوهاب الذين تتلمّذ على أيديهم، ثمّ تولّى مهمّة التدريس في علوم الفقه والحديث والتوحيد الوهّابي، ثمّ عُيّن نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة، وتولّى رئاستها بعد ذلك في عام (١٣٩٠ ه-) ، ثمّ بعد ذلك بخمس سنوات صدر الأمر الملكي بتعيينه في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برتبة (وزير) واستمرّ يقبض بزمام هذا المنصب حتّى توفّي، وذلك بالإضافة إلى مناصب أُخرى كثيرة كان يشغلها، منها:

عضوية هيئة كبار العلماء.

رئاسة المجلس الأعلى للمساجد.

رئاسة المجمع الفقهي.

رئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.

عضوية الهيئة العليا للدعوة الإسلامية بالمملكة.(1)

ويلاحظ من خلال هذا العرض الموجز لحياة ابن باز أنّه رجل نشأ نشأة تقليدية، وتعلّم بطريقة تقليدية، وأنّ تعليمه لم يخرج عن الدائرة الحنبلية الوهّابيّة، وأنّه لم يخرج عن محيط المملكة فمن ثمّ ليس في حياته أو نشأته ما يُلفت النظر، والشيء الملفت للنظر هو إمساكه بزمام هذه المناصب الدينية التي لا تتلاءم مع قدراته.


1- انظر مجموع فتاوى ومقالات ابن باز، ج١.

ص:137

مؤّلفاته

وإذا ما أردنا أن نتعرّف على مدى ما يتحلّى به الرجل من فقه وعلم فيجب علينا إلقاء الضوء على مؤلَّفاته التي سوف ننتقي منها ما يلي:

* التحذير من البِدَع: حكم الاحتفال بالمولد النبوي وليلة الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان.

* وجوب العمل بسنّة رسول الله وكفر مَن أنكرها.

* حكم السفور والحجاب.

* نقد القومية العربية.

* الجواب المفيد في حكم التصوير.

* حكم الإسلام فيمَن طعن في القرآن أو في رسول الله (ص) .

* محمّد بن عبدالوهاب: دعوته وسيرته.

* وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه.

* الأدلّة الحسّيّة على جريان الشمس وسكون الأرض.

* ما هكذا تعظّم الآثار.

* خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله.

* وجوب لزوم السنّة والحذر من البِدْعة.

* وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفّار.

* إقامة البراهين على حكم مَن استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرّافين.

* نواقض الإسلام.

* العقيدة الصحيحة وما يضادّها.

وجميع هذه المؤلّفات هي عبارة عن فتاوى ومحاضرات جمعها التلاميذ والأتباع وقاموا بنشرها وتوزيعها مجّاناً على المسلمين في كلِّ مكان.

ص:138

وجميعها تكفّلت بنشره وتوزيعه الجامعة الإسلامية في المدينة، وإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد التي كان يهيمن عليها ابن باز.

ويبدو من ظاهرها أنّها تركِّز على قضايا ومفاهيم قشرية وهامشية لا تسهم إلاّ في خلق الخلاف وتأخّر المسلمين.

ويبدو منها - أيضاً - أنّها تحمل نزعة عدائية لكلّ مَن خرج عن دائرة الخطّ الوهّابي الحنبلي.

فتاوى ابن باز

تكتظّ الساحةُ الإسلامية اليوم بفتاوى ابن باز، بعضها مكتوب ومنشور، وبعضها كان يأتي عن طريق الهاتف، وبعضها كان يأتي عن طريق المراسلة.

ومن نماذج هذه الفتاوى:

* فتوى بالحكم بالشرك على مَن استغاث بالنبي (ص) أو الأولياء.

* فتوى بكفر مَن حلف بغير الله.

* فتوى بكفر الذين يأتون العرّافين والمنجمّين والسحرة وما شابههم.

* فتوى بكفر الذين يتعاملون مع أبراج الحظ والطالع.

* فتوى بوجوب إزالة الكنائس من دول الخليج وغيرها من بلاد المسلمين.

* فتوى بتحريم دراسة القوانين الوضعية أو تدريسها.

* فتوى بحرمة حلق اللحية.

* فتوى بحرمة الإحتفالات الدينية كالمواليد والمناسبات الأُخرى.

* فتوى بوجوب التحاكم لشرع الله ونبذ ما خالفه.

* فتوى بحرمة الأسورة النحاسية التي يُعالج بها مرض الروماتيزم.

* فتوى بكفر مَن أنكر سنّة الرسول (ص) .

ص:139

* فتوى بحرمة الاختلاط بأهل الكتاب أو التشبّه بهم.

* فتوى بكفر مَن دعا أو طالب بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية.

* فتوى بحرمة عمل المرأة.

* فتوى بحرمة قيادة المرأة السيّارة.

* فتوى بحرمة تعظيم الآثار (تدمير بيت الرسول (ص) والسيّدة خديجة بمكّة وسدّ غار حراء) .

* فتوى بحرمة الحداد على الملوك والزعماء.

* فتوى بحرمة التمثيل.

* فتوى بحرمة الصور والمجلاّت المصوّرة.

* فتوى بحرمة ارتداء المرأة للساعة في فترة العدّة للمتوفّى عنها زوجها.

* فتوى بحرمة بناء المساجد على القبور أو زيارتها والصلاة فيها.

* فتوى بعدم جواز الصلاة وراء المدخِّن، أو مرتدي الملابس العصرية.

* فتوى بجواز الصلح مع إسرائيل.

* فتوى بجواز الاستعانة بالمشركين (الأمريكان) .

* فتوى بثبوت الأرض وعدم دورانها، وبطلان الادّعاء بصعود القمر والكواكب.

* فتوى بحرمة ذهاب المرأة إلى الكوافير.(1)

ويبدو من هذه الفتاوى أنّ الكثير منها صورة طبق الأصل من فتاوى ابن تيمية ومحمّد بن عبدالوهاب.

ويبدو - أيضاً - أنّها فتاوى موجّهة إلى المسلمين لردعهم عمّاهم فيه من غيّ وضلال وخروج عن نهج التوحيد الذي يرفع رايته ابن باز.


1- انظر مجوع فتاوى ومقالات ابن باز ج١.

ص:140

عقيدة ابن باز

وعقيدة ابن باز هي عقيدة ابن تيمية، ومحمّد بن عبدالوهاب، ولا يوجد فارق بينهما سوى أنّ عقيدة ابن باز ضمّت في دائرتها البِدَع والمنكرات، وصور الش-رك العص-رية التي لم يعايشها ابن تيمية ومحمّد بن عبد الوهاب، وهي بِدَع ومنكرات وشرك من منظور الحنابلة الوهّابيّين بالطبع.

يؤكّد ابن باز أنّ المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله، ويكون بها خارجاً عن الإسلام، ومن أخطر هذه النواقض وأكثرها وقوعاً النواقض العشرة التي ذكرها شيخه ابن عبد الوهاب، والتي قام هو بش-رحها وتبسيطها ليحذّر منها المسلمين رجاء السلامة والعافية.

ويعلّق ابن باز على هذه النواقض بقوله: ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلاّ المكره.

ومن خلال هذا العرض الموجز لعقيدة ابن باز يتبيّن لنا أنّ مدافع ابن باز جميعها مدافع تكفير تصيب المسلمين في عقائدهم، وتخرج بهم عن ملّة الإسلام. ويؤكّد ابن باز، من خلال عقيدته، كفر وضلال الذين يرفضون الروايات التي تؤدّي إلى التجسيم والتشبيه فيما يتعلّق بصفات الله تعالى.

يقول ابن باز: وأمّا المنحرفون عن هذه العقيدة والسائرون ضدّها فهم أصناف كثيرة، فمنهم: عباد الأصنام والأوثان والملائكة والأولياء والجن والأشجار والأحجار.

ومن العقائد الكفرية ما يعتقده الملاحدة في هذا العصر من أتباع ماركس ولينين، وغيرهما من دعاة الإلحاد والكفر، سواء سمّوا ذلك: اشتراكية، أو شيوعية، أو بعثية، أو غير ذلك من الأسماء. . .

ومن العقائد المضادّة للحق ما يعتقده المتصوّفة في الأولياء، وهذا من أقبح الش-رك وهو شر من شرك الجاهلية.(1)


1- انظر مجموع فتاوى ومقالات ابن باز، ج١.

ص:141

ولا يزال ابن باز يطلق مدافعه على الشيعة والجهمية والمعتزلة والأشاعرة.

ومَن سلك سبيلهم وتصدّى للروايات التي تتعلّق بصفات الله سبحانه وحاول أن يعطي للعقل دوراً في مواجهتها.

وهكذا يؤكّد لنا ابن باز أنّه يعيش بعقل الماضي، عقل قدامى الحنابلة، حيث لا زال يتصوّر أنّ الناس تعكف على القبور والأضرحة كما كان مشركو العرب يعكفون حول الأصنام.

ولا زال يتصوّر أنّ خصوم الحنابلة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة لا زالوا يهدّدونهم.

وهو يستخدم في مواجهة جميع هؤلاء وغيرهم من التيّارات الحديثة مصطلح أهل البِدَع.

وينصح ابن باز المسلمين - على الدوام - بضرورة معرفة التوحيد الصحيح، من خلال كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب ومَن سار في ركابهما، فهؤلاء هم أهل الحق والفرقة الناجية مَن تخلّف عنهم ضلّ وهوى وكان من أهل النار!

بركات النفط

ولكن كيف أصبح لابن باز هذا الشيوع والانتشار بين المسلمين في بقاع الأرض؟

والجواب ببساطة: إنّه النفط.

النفط هوالذي أتاح لابن باز أن يفتح الأبواب المغلقة، ويستقطب الرموز الإسلامية، ويموّل حركة النشر، ويغرق سوق الكتاب بآلاف المطبوعات المجّانية التي تمجّد ابن باز والوهّابيّة وخادم الحرمين.

عن طريق دعم دور النشر السلفية، وما أكثرها في مصر وغيرها.

وعن طريق استقطاب الرموز الإسلامية وتيّاراتها.

وعن طريق توزيع الهبات والعطايا على المؤسّسات والمراكز الإسلامية في العالم.

ص:142

من هنا أصبحت الوهّابيّة هي الإسلام.

وأصبح ابن باز هو شيخ الإسلام وكبير الفقهاء في هذا الزمان.

ابن باز أصبح كبير الفقهاء عندما تحوّل أهل الفقه وأرباب العلم إلى طلاّب دنيا.

ولو كان هناك سبب آخر مكّن ابن باز ورفع من مقامه غير هذا؛ لجزعنا وأنبنا وتبنا إلى الله توبةً نصوحاً.

وببركات النفط تمكّن ابن باز من تجنيد الرموز والتيّارات والجماعات الإسلامية للوقوف صفّاً واحداً بجوار إخوانهم المجاهدين الموحّدين في أفغانستان.

وببركات النفط تمكّن من تجنيدهم أيضاً للوقوف صفّاً واحداً ضدّ إيران أثناء حربها مع العراق.

وببركات النفط - أيضاً - تمكّن من تجنيدهم للوقوف صفّاً واحداً ضدّ صدّام بعد غزوه الكويت.

وهو الذي قد ختم حياته الحافلة بالفتاوى والمواقف الرجعيّة بجمع كلمة المسلمين للوقوف صفّاً واحداً مع أمريكا وإسرائيل.

فقاعات النفط

واليوم لا يقف في مواجهة أصحاب العقل والرأي والفكر ابن باز ونفطه وحده، إنّما يقف في مواجهتهم أيضاً الحنابلة الجدد، أو ما يمكن تسميته بفقاعات النفط من حداث الأسنان وسفهاء الأحلام، الذين لا يجاوز القرآن حناجرهم، والذين يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية كما بشّر بهم الرسول (ص) .

هذه الفِرَق التي أدارت ظهرها للواقع، ورفضت التعايش معه، ورفعت في مواجهته لواء التكفير والاستحلال، هي من نتاج مدرسة ابن باز والفقه النفطي الوهّابي.

تأمّلوا هذا الكمّ الهائل من الكتب التي تسهم في تخلّف العقل المسلم، وزرع

ص:143

الشِقاق والخلاف بين المسلمين، وإشاعة الأمراض النفسيّة، وتقوية شوكة الإرهاب، وتهديد الاستقرار الوطني.

فسوف تجدونها جميعها من نتاج ابن باز وتلامذته، مثل: صالح بن عثيمين، وصالح بن فوزان، وابن جبرين، وابن سبيل، وأبو بكر الجزائري، والمدخلي، وغيرهم من فقاعات النفط.

وسوف تجدون عشرات دور النشر التي تعمل في النور وليس لها من همٍّ سوى نشر هذه السموم وتسويقها بين المسلمين.

ص:144

ص:145

ابن عثيمين خليفة ابن باز

اشارة

يُعدُّ صالح بن عثيمين من كبار تلامذة ابن باز، السائرين على نهجه، المستبسلين في الدفاع عن الوهّابيّة، المتربّصين بخصومها وبأصحاب الرأي والاتّجاهات المخالفة من المعاصرين، الذين يتبنّون رؤيةً نقديةً للروايات ولنهج سلفهم من الذين يدينون بعقائد وتصوّرات مخالفة مثل الشيعة والصوفية، أو التيّارات التي تدين بالاشتراكية أو القومية أو العلمانية، وأصحاب المذاهب الإسلامية الأُخرى التي لا تلتزم بمذهب ابن حنبل، وذلك بالإضافة إلى أهل الذِمّة - بالطبع - من المسيحيين الذين يجب أن يعيشوا كمواطنين من الدرجة الثانية، ويعطوا الجِزْية لهم عن يدٍ وهم صاغرون.

وجميع هؤلاء في سلّةٍ واحدةٍ في نظر ابن عثيمين وفقهاء الوهّابيّة المعاصرين، والواجب الشرعي يحتّم تسليط مدافعهم عليهم، وقصفهم بأشدّ أنواع القذائف؛ حتّى تتم إبادتهم أو استسلامهم وتخلّيهم عن بِدَعهم وضلالاتهم.

قذائف متعدِّدة

وابن عثيمين حاله كحال أُستاذه ابن باز، يحمل الكثير من المدافع الموجّهة إلى المسلمين في كلِّ مكان، وسبب كثرة هذه المدافع بين يديه ويدي أُستاذه يعود إلى بركة النفط ودعم آل سعود.

ص:146

أمّا مدافع ابن عثيمين فهي أكثر من أن تُحصى، ويمكن تحديد أشهرها فيما يلي:

مدفع موجّه نحو المدخّنين.

مدفع موجّه نحو الصحف والمجلاّت.

مدفع موجّه نحو المرأة.

مدفع موجّه نحو البنوك.

مدفع موجّه نحو شتّى صور الفنون.

مدفع موجّه نحو الصور والمصوِّرين.

مدفع موجّه نحو غير الملتحين.

مدفع موجّه نحو الملابس والأزياء.

مدفع موجّه نحو الشيعة.

مدفع موجّه نحو الصوفية.

مدفع موجّه نحو العلمانية.

مدفع موجّه نحو الأحزاب.

مدفع موجّه نحو القوميّة.

فابن عثيمين يرى حرمة التدخين وعدم جواز الصلاة وراء المدخِّن، كما يرى حرمة ومرتدي الملابس الإفرنجية؛ لأنّها من أزياء المشركين الذين لا يجوز التشبّه بهم.

ولا يجيز ابن عثيمين قراءة الصحف والمجلاّت؛ لأنّها تحتوي على صور وموضوعات مخالفة للإسلام الحنبلي، ولا يجيز إدخالها البيوت واطّلاع النساء عليها؛ لأنّ هذه الصحف والمجلاّت فتنة.

ولا يجيز عمل المرأة أو خروجها من بيتها بدون محرم، أو كشفها لوجهها أو يديها.

ولا يجيز التعامل مع البنوك، أو تأجير المحلاّت لها.

ولا يجيز التمثيل والرسم والتصوير.

ص:147

ولا يجيز القبور والأضرحة، وإقامة الاحتفالات والموالد والنذور، ويعدّ كلّ ذلك من الشرك والضلال الذي يجب مقاومته وقمع أصحابه.

وكما هو واضح أنّه ليس من بين مدافع ابن عبد الوهاب أو ابن باز أو ابن عثيمين ما هو مسلّط على اليهود أو الأمريكان، أو حتّى آل سعود؛ لأنّ مدافع فقهاء الوهّابيّة إنّما صُنعت لإبادة المسلمين فقط!

لمعة الاعتقاد

ولم يكتف ابن عثيمين بهذه المدافع الخاصّة بأهل العصر، بل اتّجه - كما هو شأن الوهّابيّة اليوم - إلى المدافع القديمة والعمل على بعثها من جديد وتسليطها على المسلمين.

وكان أن اختار لمعة الاعتقاد لابن قدامة الحنبلي (54١: 6٢٠ ه-) وقام بش-رحها وزيادة قذائفها.

ولمعة الاعتقاد تحتوي على نصوص من العقائد الحنبلية فيما يتعلّق بصفات الله تعالى والموقف من الحكّام، وحكم أهل الأهواء والبِدَع.

وهي نصوص تقوم في أساسها على الروايات المنسوبة للرسول (ص) وأقوال الحنابلة، فهي تؤكّد لله سبحانه صفة الوجه واليدين والنزول والضحك والغضب والحب والمجيء، وغير هذه الصفات التي تؤكّدها رواياتهم في صراحة ووضوح.

وهي تؤكّد طاعة الحكّام ووجوب الحجّ والجهاد معهم والصلاة من خلفهم، سواء كانوا أبراراً أو فجّاراً.

وهي من جانبٍ آخر تبيّض وجه معاوية بن أبي سفيان، وتعتبره من كتّاب الوحي وخال المؤمنين، لأنّه أخو أُمّ حبيبة السيّدة رملة بنت أبي سفيان زوجة النبي (ص) .

وهي تنصّ في الختام على وجوب هجران أهل البدع ومباينتهم، وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم، وكلّ محدثة في الدين بِدْعة.

ص:148

وقد تصدّى ابن عثيمين لشرح هذه المسألة وأفاض فيها فقال: المراد بهجران أهل البِدَع، الابتعاد عنهم وترك محبّتهم وموالاتهم، والسلام عليهم، وزيارتهم، ونحو ذلك، ومن هجر أهل البِدَع ترك النظر في كتبهم خوفاً من الفتنة بها، أو ترويجها بين الناس فالابتعاد عن مواطن الضلال واجب.

ولأهل البِدَع في تصوّره علامات، منها:

* إنّهم يتّصفون بغير الإسلام والسنّة بما يحدثونه من البِدَع القولية والفعلية والعقيدية.

* إنّهم يتعصّبون لآرائهم فلا يرجعون إلى الحق وإن تبيّن لهم.

* إنّهم يكرهون أئمّة الإسلام والدين.

والظاهر من هذا الكلام المتطرّف أنّ جميع المسلمين الذين لا يدينون بنهج الحنابلة الوهّابيون هم مبتدعةٌ كفّارٌ خارجون عن الإسلام.

والواجب عليهم حتّى يخرجوا من دائرة الكفر، وينجوا من النار أن يتبنّوا رواياتهم وأقوال سلفهم وعقيدتهم عليهم أن يجعلوا: ابن حنبل، وابن تيمية، وابن القيّم، وابن قدامة، وابن عبد الوهاب، وابن باز، وابن عثيمين أئمّتهم.

وعليهم أن يدينون بالسمع والطاعة والولاء للحكّام بدايةً من معاوية وولده يزيد وحتّى آل سعود.

وهؤلاء جميعاً هم أئمّة الإسلام والدين الواجب علينا حبّهم في عقيدة ابن عثيمين وفقهاء الوهّابيّة.

إنّ تبنّي الرفض لنهج الروايات والفقهاء والحكّام والثبات على ذلك يُعدّ رفضاً للدين في منظور ابن عثيمين.

ويُعدّ من جانبٍ آخر تعصّباً للباطل، وإصراراً عليه، بعد أن أظهرت الروايات الحق على يد فقهاء سلفهم الأبرار.

ص:149

إنّ العيش بعقل الحاضر ونبذ عقل الماضي هو بِدْعةٌ وضلال.

وإنّ تبنّي نهج القرآن والعقل هو زيغ وردّة عن الإسلام.

ولا نجاة للمسلمين من مدافع الوهّابيين وقذائفهم إلاّ باللجوء إلى حصن التوحيد في جزيرة العرب تحت حماية آل سعود.

ص:150

ص:151

المدخلي فقاعة نفطيّة

اشارة

برز ربيع بن هادي المدخلي من خلال الجامعة الإسلامية الوهّابية بالمدينة، وقد حشد المدخلي جميع أنواع القذائف السلفية التي صنعها الفقهاء لإبادة أصحاب الرأي والاتّجاهات الأُخرى المخالفة لأهل السنّة.

وهو ما يبدو واضحاً من عنوان كتابه: (منهج أهل السنّة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف) .

أمّا ما يحتويه هذا الكتاب من قذائف فهي:

* وجوب هجران أهل البِدَع.

* أهل البِدَع مرضى القلوب.

* لا يجوز ذكر محاسن أهل البِدَع.

* الردّ على أهل البِدَع والأهواء من أبواب الجهاد.

وهذه القذائف السلفية إنّما تمّ بعثها لمواجهة أهل العص-ر من أصحاب الرأي والاتّجاهات المخالفة، وهم بالتحديد العلمانيين والاشتراكيين والمسيحيين والسياسيين والحزبيين والأُدباء والمفكّرين، بالإضافة إلى الشيعة والصوفية وأصحاب الاتّجاه الإسلامي التجديدي الذي يتبنّى تصحيح التراث ونقد الروايات.

ص:152

هؤلاء جميعاً من أهل البِدَع الضآلين خصوم الحقّ والتوحيد حسب تعبير فقهاء الوهّابيّة من خلال سطور هذا الكتاب الذي أتى به صاحبنا ليهدّد المسلمين.

إنّ فقهاء الوهّابيّة يعتبرون أنفسهم أهل السنّة والتوحيد، ومن دونهم فهم أهل الش-رك والضلال المطلوب إبادتهم، ويعتبرون آل سعود أئمّة للمسلمين وحماةً للتوحيد، فمن ثمّ وضع الوهّابيّون أنفسهم في خدمتهم، ووضع آل سعود سيوفهم في نصرتهم وذبح خصومهم.

وقد اعتمد صاحبنا في كتابه هذا على مدافع ابن تيمية خاصّةً لكونه الشخصية الوحيدة من بين الفقهاء التي حملت راية الجهاد في مواجهة المخالفين، وعلى أساس أفكارها المتطرّفة قامت الحركة الوهّابيّة التي لا زالت تقذف المسلمين بقذائفها.

يقول المدخلي: يا إخوتاه، إن كنتم حقّاً تحترمون المنهج السلفي وأهله فانش-روا كتبهم ودرّسوها، واشحنوا كتاباتكم ومحاضراتكم ومقالاتكم بأقوالهم في أهل البِدَع وتحذيرهم منهم، ودرّسوا الشباب مواقفهم من أهل البِدَع وحثّوا الشباب على دراستها والاحتفاء والاعتزاز بها، فبهذه الأساليب تحيا عقيدة ومنهج السلف.

والكتب المقصودة هنا - بالطبع -هي كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم، ومحمّد بن عبد الوهاب، فهؤلاء هم سلفه وقدوته، و هذه الكتب هي التي تمّ نش-رها وتوزيعها مجّاناً على المسلمين في كلِّ مكان ببركات آل سعود، والتي أسهمت ولا زالت تسهم في دعم الإرهاب وتقوية شوكته.

وقد أبدى المدخلي في مقدّمة كتابه تخوّفه من الاتّجاهات والدعوات المعتدلة التي أخذت تبرز داخل أهل السنّة داعياً المسلمين إلى رفضها والحذر منها متباهياً بثناء رموز الوهّابيّة ومدحهم لكتابه.

ص:153

المراحل، إضافةً إلى مراكز الدعوة التي انتش-رت في الداخل والخارج لحمل رسالة التوحيد والسنّة، ممّا أقضّ مضاجع كلّ خصوم الحقّ والتوحيد من علمانيين ويهود ونصارى وشيوعيين وأهل البِدَع الضالّين من خرافيين وحزبيين وحركيين، وإذا بأصواتٍ ترتفع باسم السلفية، وباسم العدالة والإنصاف لمَن يصوّرونهم من أهل البِدَع الذين غزوا أهل السنّة والتوحيد في عُقْر دارهم، وأفسدوا عقول وعقائد الكثير من أبنائهم، وشوّهوا صورة المنهج السلفي، فشرعوا يدعون الى منهجٍ جديدٍ في نقد المناهج والدعوات والكتب والأشخاص، وقد أثّر هذا المنهج على كتّابٍ نحسبهم من خيار السلفيين، وأثّر هذا المنهج الذي يدّعي الوسطية والعدل على الشباب.

ومن خلال هذا الكلام يتبيّن لنا أنّ المؤلِّف يؤرّقه مثل هذه الاتّجاهات التي تبرز في دائرة أهل السنّة كما تؤرّق رموز الوهّابيّة.

من هنا عمل بمباركة رموز الوهّابيّة على إرهاب المسلمين بشهر نصوص الحنابلة ومَن سار على دربهم، تلك النصوص التي تحذّر من أهل البِدَع، وتمنع من ذكر محاسنهم وجوانبهم الإيجابية، مؤكِّداً أنّ هذا النهج هو ما يتّفق مع الكتاب والسنّة حسبما سيتّضح من خلال عرض نصوص الكتاب بين أيدينا.

الفصل الأوّل من الكتاب جاء تحت عنوان: منهج الإسلام وأئمّته في نقد الأقوال والأشخاص وتقويمها وبيان أنّ العدل الحقيقي إنّما هو في هذا النهج.

وأوّل نصوصه هي أنّ القرآن يمدح المؤمنين دون ذكر أخطائهم ويذمّ الكفّار دون ذكر محاسنهم.

وهذا الكلام فيه مغالطة؛ إذ إنّ المقصود بالمؤمنين عند المؤلّف هم أهل السنّة من الحنابلة والوهّابيّين، والمقصود بالكفّار والمنافقين المخالفين من المسلمين.

ومن جهةٍ أخرى فإنّ القرآن مدح المؤمنين وذمّهم في آيات كثيرة، من أبرزها: آيات سورة التوبة أو الفاضحة، أو سورة العذاب كما يسمّيها بعض الفقهاء.

يقول المؤلّف: وثاني نصوصه هي أنّ النبي (ص) حذّر أُمّته من أهل الأهواء.

ص:154

والإشكالية هنا هي أنّ الحنابلة والوهّابيّين يعتبرون أنفسهم خارج دائرة أهل الأهواء، وأنّ مقصود الرسول تحذير الأُمّة من سواهم، بينما هم في الحقيقة أهل الهوى والابتداع.

ثمّ تحدّث المؤلّف عن موقف الصحابة والتابعين من أهل البِدَع وخصومهم؛ والصحابة الذين استرشد بأقوالهم هم أولئك الذين ساروا على الخط القبلي، وتابعوا معاوية والحكّام من بعده، كذلك التابعين الذين ساروا في ركابهم.

ويشير المؤلّف إلى أنّ الرسول (ص) ذكر عيوب أشخاص بعينهم دون ذكر محاسنهم من باب النصيحة، ونقل عدد من الروايات التي تبرهن على ذلك، وتغافل عن الروايات الأُخرى التي تذكر محاسن الناس وتثني عليهم.

وختم هذا الفصل بذكر تحذير النبي (ص) من الخوارج.

والحق أنّ الحنابلة والوهّابيين هم امتداد لفرقة الخوارج التي سُلّطت على المسلمين كما سُلّط الحنابلة والوهّابيّين.

إلاّ أنّ المؤلّف اعتبر المخالفين هم امتداد للخوارج، وأنّ المدافعين عنهم من أهل السنّة المعتدلين الذين يذكرون محاسنهم هم أضلّ من الخوارج.

وأطلق المؤلّف عدّة صيحات في هيئة تساؤلات غاضبة، منها:

أين المدافعون عن الروافض والقبوريين والصوفيين والأشاعرة والحزبيين؟

أين المدافعون والمنافحون عن العقلانيين العصريين والجهمية المعطّلين؟

وفي الفصل الثاني من الكتاب، وتحت عنوان: مَن يجوز نقدهم وتجريحهم وتحذير الناس من ضررهم، قال عن أهل البِدَع: ويجوز بل يجب الكلام في أهل البِدَع والتحذير منهم ومن بِدَعهم أفراداً وجماعات، الماضون منهم والحاضرون، من الخوارج والروافض والجهمية والمرجئة والكرامية وأهل الكلام؛ الذين جرّهم علم الكلام إلى عقائد فاسدة، فهؤلاء يجب التحذير منهم ومن كتبهم وطرقهم الضالّة، وما أكثرها.

ص:155

وكذلك مَن سار على نهجهم من الجماعات المعاصرة ممّن باين أهل التوحيد والسنّة ونابذهم وجانب مناهجهم، بل حاربها ونفر عنها وعن أهلها، ويلحق بهم مَن يناصرهم ويدافع عنهم ويذكر محاسنهم ويشيد بهم وبشخصيّاتهم وزعمائهم، وقد يفضّل مناهجهم على مناهج أهل التوحيد والسنّة.

أمّا الفصل الثالث، فقد خصّصه لمناقشة أدلّة المعتدلين من أهل السنّة الذين ينادون بالعدل في الكتب القديمة والحديثة، وعدم رفضها لمجرّد أنّ ما فيها يخالف أفكار أهل السنّة ومعتقداتهم.

واعتبر المؤلّف أنّ المعتدلين لا يهتمون بإبراز خطورة البِدَع والتحذير منها ومن أهلها، وأنّ ضعف المبالاة أصبح متّبعاً عند كثير من الدعاة الجدد، بل تجد عندهم المحاماة عن أهل البِدَع، بل الإشادة بهم والتنويه بذكرهم، بل يعتبرون بعض رؤوس أهل البِدَع مجدّدين وأئمّة تجديد، بل هناك كتب وُضعت للدفاع عن هذه الأنواع، وليس عندهم روح التحرّي للحق، ولا الاستعداد للتمييز بين الحق والباطل، ولسان حالهم يقول: /إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ/ (الزخرف: ٣٣) .

وهذا النص القرآني الذي استند إليه المؤلّف في مواجهة خصومه، هو في الحقيقة ينطبق على الحنابلة والوهّابيّين الذين يسيرون على آثار سلفهم وما وجدوه عليهم، ويعيشون بعقل الماضي، ويرفضون العقل وينبذون الرأي.

ولا ينطبق - بحالٍ - على المخالفين الذين يسعون إلى التحرّر من أغلال الماضي وتقديس الأجداد، ويدعون إلى النهوض بالأُمّة وتجديد عقلها وغربلة تراثها.

قال المؤلّف في نهاية هذا الفصل متوجّعاً متحسّراً: إنّ من المضحكات المبكيات أن تُؤلَّف كتب باسم السلف، وباسم منهج أهل السنّة والجماعة، وباسم العدالة الإسلامية، وتُنشر أشرطة يُشاد فيها بأهل البِدَع وقادتهم، فهم الدعاة، وهم المفكّرون، وهم الخطباء المصقعون، وهم المجاهدون المناضلون، والسلفيون ليسوا من هذه

ص:156

المجالات في قبيل ولا دبير ولا في العير ولا في النفير، وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى الطعن والتحقير والتشهير.

يا قوم مهلاً. مهلاً. أخبروني ماهي الجهود التي بذلتموها في قمع أهل البِدَع وصدّ ظلمهم وعدوانهم على الحق وأهله؟

هل أنتم على طريقة أهل السنّة والجماعة في هجران أهل البِدَع ومقاطعتهم ومنابذتهم والبراءة منهم ومن بِدَعهم وضلالهم؟

هل أنتم على طريقة أحمد بن حنبل وأقرانه ومدرسته، وابن تيمية، وابن القيّم، ومحمّد بن عبدالوهاب، وتلاميذه وأبنائه وأحفاده؟

وكحال الوهّابيّين المعاصرين كلّما ألمّت بهم ملمّة من الخصوم وأوجعتهم سهامهم هرع المؤلّف نحو قدوتهم ومراجعهم من الحنابلة المتطرّفين.

وفي الفصل الرابع من الكتاب أبرز المؤلّف موقف ابن تيمية من البِدَع وأهلها، وعدم التزامه بذكر محاسنهم.

فمن كتاب ابن تيمية - نقض المنطق - نقل المؤلّف: تفضيل الردّ على أهل البِدَع على الجهاد.

ومن كتابه الاحتجاج بالقدر نقل: الردّ على البِدَع جهاد.

ومن كتابه درء تعارض العقل والنقل نقل: نقد الأشاعرة.

ومن كتابه تلبيس الجهمية نقل: الردّ على الرازي.

ومن الفتاوى الكبرى نقل: الاتّفاق على التحذير من أهل البِدَع، وأهل الكلام والفلسفة، ومن بينهم الغزالي.

ومن كتابه الاستقامة نقل: نقد الآراء المحدثة في الأُصول والفروع.

ومن الرسائل نقل: فساد منهج أهل البدع وضلاله.

واستمرّ المؤلّف في التلحّف بكلام ابن تيمية والتحصّن به؛ حتّى إذا فرغ وشبع اتّجه

ص:157

إلى رموز أُخرى من الحنابلة وأهل السنّة الآخرين يستنجد بنصوصهم، فأورد نصّاً لابن الجوزي الحنبلي في أنّ المبتدعة شرٌّ من الملحدين.

وأورد نصّاً لابن عبد البر في جواز هجر المبتدع.

ونصّاً لابن مفلح في المنع عن النظر في كتب المبتدعة.

ونصّاً للشاطبي في الأمر بعداوة أهل البِدَع والتشريد بهم.

ونصّاً لابن القيّم في تحريق كتب أهل البِدَع والضلالات.

ونصّاً للذهبي في التحذير من الصوفية وكتبهم.

ونصّاً في إحراق كتاب إحياء علوم الدين للغزالي.

بالإضافة إلى نصوص أُخرى في ردّ شبهاتهم وجواز قتل الداعي إلى البدعة.

ثمّ ختم المؤلّف كتابه بذكر حكم مَن يتولّى أهل البِدَع وينصرهم على أهل السنّة.

ونقل كلاماً لابن تيمية فيمَن يعاون أهل البِدَع، وكلاماً للقرطبي المالكي في تفسير قوله تعالى:

/يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ/ (آل عمران: ١١٨) .

وقوله: كلّ مَن كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه.

قذائف أخرى

ومن القذائف التي جاء بها المدخلي ليدعم بها موقفه ويوسّع من دائرة الإصابات بين المسلمين ما يلي:

* أنّ الإسلام وأهله أتوا من طوائف:

الأُولى: طائفة ردّت أحاديث الصفات وكذّبوا رواتها، فهؤلاء أشدّ ضرراً على الإسلام وأهله من الكفّار.

الثانية: طائفة قالوا بصحّتها وقبولها ثمّ تأوّلوها، فهؤلاء أعظم ضرراً من الطائفة الأُولى.

ص:158

الثالثة: طائفة جانبت القوانين وادّعت التنزيه وهي كاذبة فأدّاهم ذلك إلى القولين الأوّلين وكانوا أعظم ضرراً من الطائفتين الأُوليين.

وواضح من هذا الكلام أنّ صاحبنا لا يستثني أحداً من المسلمين إلاّ طائفته هو، وهي طائفة الحنابلة بالطبع، فهي الطائفة الوحيدة التي آمنت بالروايات الخاصّة بصفات الله تعالى، وجعلت لله سبحانه يداً ورجلاً وعيناً ومكاناً، وغير ذلك من الصفات التي تؤدّي إلى التشبيه والتجسيم، والتي فرّت منها الاتّجاهات الأُخرى وأنكرتها من باب تنزية الله سبحانه، واتّجه بعضها إلى حمل هذه الروايات على المجاز، أي: تأوّلت معناها، بينما اتّجه آخرون إلى سلوك السبيل الوسط تجاه هذه الروايات، وهم من طوائف أهل السنّة من الأشاعرة وغيرهم.

وهؤلاء جميعاً مارقون في نظر الحنابلة القدامى والمعاصرين من أتباع ابن عبدالوهاب، وأشدّ خطراً على الإسلام من الكفّار في منظورهم.

فهل يُعقل مثل هذا الكلام؟

والجواب بالطبع لا، لكنّ فقهاء الإرهاب هم الذين لا يعقلون.

ويواصل المدخلي إطلاق قذائفه على المسلمين بقوله:

* مبتدعة الإسلام أشدّ من الملحدين.

* أهل الأهواء والبِدَع لا تُقبل لهم شهادة في الإسلام أبداً، ويهجرون ويؤدّبون، فإن تمادوا على بدعتهم استتيبوا منها.

وهذا الكلام حاله كحال السابق من أنّه لا فرق بين المبتدعة وبين الكفّار في نظر الفقهاء، وما دام الأمر قد دخل في دائرة الاستتابة فهذا يعني: أنّ البدعة تُعدّ رِدّةً عن الإسلام.

هل هناك تطرّفٌ أكثر من هذا؟

ثمّ يقول:

* فرقة النجاة - الوهّابيّة - مأمورون بعداوة أهل البِدَع والتش-ريد بهم، والتنكيل بمَن انحاش إلى جهتهم بالقتل فما دونه.

ص:159

نداءات

وكانت آخر قذائف المدخلي هي نداء صارخ للشباب يطالبه بإلغاء العقل والإسراع نحو الماضي والتحصّن بالروايات وعقيدة السلف.

يقول النداء: انتبه أيّها السلفي الصادق، واحذر أن تُقاد إلى نص-رة أهل البِدَع والضلال والإلحاد التي تضمّها التنظيمات الحزبية والسياسية، فإنّ كثيراً من أدعياء السلفية لا همّ لهم اليوم إلاّ نصرة أهل البِدَع، المشكلة من أصناف الشيعة والصوفية القبورية أهل الحلول والاتّحاد، الذين يقول ابن تيمية فيهم: إنّ مَن ينص-رهم شرّ ممّن ينصر النصارى والمشركين.

ولا تنس مناصرة أدعياء السلفية لأهل البِدَع في أزمة الخليج ضدّ أهل التوحيد في الجزيرة، فإن كنت خُدعت بهم وقتاً ما، فأفق ولا يُلدغ مؤمن من حجرٍ مرّتين.

إنّ على الشباب السلفي أن يكون يقظاً لما يُحاك ضدّه وضدّ عقيدته ومنهجه، فلا يليق به أن ينساق وراء الشعارات الطنّانة، ولا وراء العواطف العمياء التي تؤدّي إلى تضييع أعظم نعمة وأعظم أمانة في عنقه، وهي الثبات على منهج أهل الحديث والسنّة، وحمايته من غوائل خصومه ومكايدهم وألاعيبهم التي ظهرت آثارها على كثير من الأساتذة وطلاّب العلم والمثقّفين الذين كان ينتظر منهم تربية الأجيال على منهج السلف وتثبيتهم عليه والاعتزاز برفع لوائه.

إنّ هذا النداء المتطرّف من قِبَل صاحبنا الوهّابي لشباب العصر، لم ينحص-ر فقط في الدعوة لإلغاء العقل والارتباط بالماضي، وإنّما تجاوز هذا الحدّ ليدعوا إلى تسييس الشباب وفق النهج السعودي الأمريكي بدعوته لهم بمنابذة ومعاداة الذين وقفوا ضدّ آل سعود والتدخّل الأمريكي في أزمة الخليج، وهذا يعني أنّه يدعوهم صراحةً إلى تأييد الفتوى النفطية الصادرة عن فقهاء آل سعود والتي تنصّ على جواز الاستعانة بالمشركين، وتبرير وجود القواعد الأمريكية في الخليج، وإذا كان هذا حاله، فلماذا يحرّم

ص:160

على الشباب الانتماءات السياسية والحزبية ويكفّر أصحاب هذه النشاطات ويدعو إلى محاربتهم؟

والجواب: أنّ هذه الأنشطة لا تسير على نهج الروايات، ولا تلتزم بعقيدة سلفهم التي تنصّ على موالاة الحكّام وطاعتهم ولو كانوا فجّاراً يتآمرون على الإسلام ويستعينون بأعداء الله على المسلمين.

ص:161

كتب ونصوص

اشارة

لم تقتصر المنشورات الإرهابية التي يصدرها الوهّابيّون على الرموز المذكورة سابقاً، وإنّما امتدّت لتشمل العديد من شيوخهم المعاصرين.

وامتدّت - أيضاً - لتشمل العديد من منشورات المذاهب الأُخرى، التي يحاولون من خلال نشرها دعم أفكارهم وتثبيت ادّعائهم بتمثيل أهل السنّة.

وسوف نعرض هنا لنماذج من هذه المنشورات وماتحتويه من نصوص أسهمت في تشكيل العقل المسلم المعاصر، وأضفت المش-روعية على مواقف وممارسات الفِرَق الوهّابيّة الإرهابية المعاصرة، وخاصّةً الفرق الجهادية التي استمدّت أفكارها وأسانيدها لتبرير الصِدام مع الواقع من هذه المنشورات.

وقبل الخوض في نصوص هذه المنشورات، يجب علينا إلقاء الضوء على حقيقة هامّة تتعلّق بتراث الحنابلة، وبالتراث المتطرّف عموماً، وهذه الحقيقة تتلخّص في كون هذا التراث وليد ردّ فعلِ المواجهة مع خصوم الحنابلة وأهل السنّة، الذين وجدوا في خصومهم النِّديّة وقوّة الحجّة، وقوّة التأثير في المسلمين فدفعهم هذا إلى التحصّن بالروايات والنصوص والفتاوى المتطرّفة التي ترهب الأتباع، فلا تجعلهم يحيدون عن نهجهم وتدفعهم في نفس الوقت نحو الصدام مع الخصوم.

ص:162

خلق أفعال العباد

وهو كتاب للبخاري يردّ فيه على الجهمية وأصحاب التعطيل حسب تعبيره.

ومن خلال هذا الكتاب يركّز البخاري على تكفير القائلين بخلق القرآن والجهمية خاصّةً.

ووضع باباً تحت عنوان: ما ذكر أهل العلم للمعطّلة الذين يريدون أن يبدّلوا كلام الله.

ونقل الروايات التالية:

روى سفيان الثوري قال لي حماد بن أبي سليمان: أبلغ أبا فلان المشرك أنّي بريء من دينه، وكان يقول: القرآن مخلوق.

ونقل: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط في يوم أضحى وقال: ارجعوا فضحّوا تقبّل الله منكم فإنّي مضحٍّ بالجعد بن درهم، زعم أنّ الله لم يتّخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلّم موسى تكليماً، تعالى الله علوّاً كبيراً عمّا يقول، ثمّ نزل فذبحه.

ونقل قول وهب بن جرير: الجهمية الزنادقة إنّما يريدون أنّه ليس على العرش استوى.

وحلف يزيد بن هارون بالله الذي لا إله إلاّ هو مَن قال: إنّ القرآن مخلوق فهو زنديق ويستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتل.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو رأيت رجلاً على الجسر وبيدي سيف يقول: القرآن مخلوق لضربت عنقه.

وقال: هما ملّتان: الجهمية والرافضة.

وقال أبوعبد الله - ابن حنبل -: ما أُبالي صلّيت خلف الجهمي والرافض أم صلّيت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلّم عليهم، ولا يعادون، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تُؤكل ذبائحهم.

وقال: مَن زعم أنّ الله لم يكلّم موسى فإنّه يُستتاب وإلاّ قُتل.

ص:163

كتاب السنّة

وصاحب هذا الكتاب هو الخلال المتوفّى عام ٣١١ه، وهو كما ذكر ابن العماد في شذرات الذهب أنفق عمره في جمع مذهب ابن حنبل وتصنيفه.

وقد بدأ كتابه بباب تحت عنوان: طاعة الإمام وترك الخروج عليه.

وأثنى في هذا الباب على المتوكّل العبّاسي معتبره ممّن أحيوا السنّة بعد مماتها، كما هو حال الحنابلة الذين يرفعونه مقاماً عليّاً، بسبب نصرته لهم ورفعه لمقامهم على حساب المذاهب الأُخرى، من بعد فترة اضطهاد وإبعاد عاشها الحنابلة على يد مَن سبقوه من الخلفاء.

ووضع الخلال باباً عنوانه: ذكر المقام المحمود استعرض فيه رواية تتعلّق بقوله تعالى: /عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً/. (الاسراء: ٧٩)

تقول الرواية: إنّ المعنى المقصود من الآية هو أنّ الله سبحانه يُجْلِسُ محمّداً (ص) على العرش إلى جواره.

ونقل قول أبي داود: مَن أنكر هذا الحديث فهو عندنا متّهم.

وقال: مازال الناس (الحنابلة) يحدِّثون بهذا يريدون مغايظة الجهمية؛ وذلك أنّ الجهمية ينكرون أنّ على العرش شيء.

وقول أبي بكربن أبي طالب: مَن ردّه فقد ردّ على الله عزّ وجلّ، ومَن كذب بفضيلة النبي (ص) فقد كفر بالله العظيم.

وقول أحمد بن أصرم: مَن ردّ هذا فهو ردّ على الله ورسوله، وهو عندنا كافر، ومَن قال بهذا فهو زنديق يُقتل.

وقول إبراهيم الأصبهاني: هذا الحديث حدّث به العلماء منذ ستّين ومائة سنة، لا يردّه إلاّ أهل البِدَع.

وقول هارون بن معروف: هذا حديث يسخن الله به أعين الزنادقة.

وقول مجاهد: مَن ردّ هذا الحديث فهو مبتدعٌ ضال.

وقول عبد الوهاب الورّاق: سألت أسود بن سالم عن هذه الأحاديث فقال: يحلف عليها بالطلاق إنّها لحق.

ص:164

وقول أبي علي الهاشمي: مَن ردّ حديث مجاهد فقد دفع فضل رسول الله، ومَن ردّ فضيلة الرسول فهو عندنا كافر مرتدّ عن الإسلام.

وحديث جلوس الرسول (ص) إلى جوار الله على العرش كان قد أنكره الطبري فقام الحنابلة بالاعتداء عليه.(1)

وفي باب ذكر الروافض نقل قول ابن حنبل: مَن شتم - أي: الصحابة- أخشى عليه الكفر مثل الروافض، ولا نأمن أن يكون قد مرق من الدين.

ونقل سؤالاً وجّه لابن حنبل عن جارٍ رافضي يسلّم هل يُردّ عليه السلام فقال: لا.

وسؤالاً آخر عن صاحب بِدْعة يسلّم فقال: إذا كان جهمياً أو قدرياً أو رافضياً داعية فلا يُصلّى عليه ولا يسلّم.

ونقل عن محارب بن دثار: لم ير بغيبتهم بأساً، أي: الرافضة.

وفي باب تحت عنوان: جامع أمر الرافضة نقل عن الشعبي مقارنة بين الرافضة واليهود.

قال الشعبي: أحذّركم الأهواء المضلّة وشرّها الرافضة؛ وذلك أنّ منهم يهوداً لم يدخلوا الإسلام رغبةً فيه، ولا رهبةً من الله عزّ وجلّ ولكن مقتاً لأهله وبغياً عليهم.

وقال: إنّ محنة الرافضة محنة اليهود.

قالت اليهود: لا يصلح الأُمّة إلاّ رجل من آل داود.

وقالت الرافضة: لا يصلح الأُمّة إلاّ رجل من ولد علي بن أبي طالب.

وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتّى يخرج المسيح وينزل سبب من السماء.

وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتّى يخرج المهدي وينادي منادٍ من السماء.

واليهود يؤخّرون صلاة المغرب حتّى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة.

واليهود تزول عن القبلة شيئاً وكذلك الرافضة.

واليهود يستحلّون دم كلّ مسلم وكذلك الرافضة.


1- توفّي الطبري عام ٣١٠ ه- انظر سيرته في كتب التراجم والتاريخ.

ص:165

واليهود لا يرون على النساء عدّة وكذلك الرافضة.

واليهود لا يرون الطلاق الثلاث شيئاً وكذلك الرافضة.

واليهود حرّفوا التوراة وكذلك الرافضة حرّفوا القرآن.

واليهود يبغضون جبريل ويقولون: هو عدوّنا من الملائكة، وكذلك صنف من الرافضة يقولون: غلط الوحي إلى محمّد.(1)

ونقل قول أبي عبيد القاسم بن سلام: عاشرت الناس وكلّمت أهل الكلام فما رأيت أوسخ وسخاً، ولا أقذر قذراً، ولا أضعف حجّة ولا أحمق من الرافضة.

ونقل سؤالاً وُجّه لابن حنبل عمّن يكتب الأحاديث التي تطعن وتنتقص الصحابة ويجمعها أيهجر؟

وكان جوابه: نعم، يستأهل صاحب هذه الأحاديث الرديئة الرجم.

ويروي كان ابن عوانة قد وضع كتاباً في معايب أصحاب النبي وفيه بلايا، فجاء إليه سلام بن أبي مطيع فقال: يا أبا عوانة أعطني ذلك الكتاب، فأعطاه فأخذه سلام فأحرقه.

ويروي أنّه سئل إسحاق بن راهويه عن رجل سرق كتاباً من رجلٍ فيه رأي جهم أو رأي القدر هل يقطع؟

قال: لا قطع عليه.

ووضع الخلال باباً عنوانه: الإنكار على مَن قدّم عليّاً على أبي بكر وعلى عثمان.

ونقل الأقوال لابن حنبل وغيره التي تعتبره مبتدعاً.

لمعة الاعتقاد لمولفه ابن قدامة الحنبلى

يقول ابن قدامة: يجب الإيمان بكلّ ما أخبر به النبي (ص) وصحّ به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنّا، نعلم أنّه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه أو جهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه، مثل حديث الإسراء والمعراج وكان يقظةً لا مناماً.


1- انظر مناقشة هذه المسألة في كتابنا الحق والحقيقة بين الشيعة والسنّة وكتابنا أهل السنّة شعب الله المختار، وما ذكره الخلال على لسان الشعبي حول مقارنة الرافضة باليهود التقطه ابن تيمية فيما بعد، والتقطه من ابن تيمية الوهّابيون اليوم ليقذفوا به في وجه الشيعة.

ص:166

ومن ذلك أنّ ملك الموت لمّا جاء إلى موسى (ع) ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه.

ومن ذلك أشراط الساعة، مثل: خروج الدجّال ونزول عيسى (ع) وأشباه ذلك ممّا صحّ به النقل، وعذاب القبر ونعيمه، والشفاعة، و معاوية خال المؤمنين وكاتب وحي الله و أحد الخلفاء المسلمين.

وأمام هذا الكلام هناك وقفات:

أوّلاً: إنّه لايجوز أخذ هذا الكلام على الوجوب، فليس من الواجب الإيمان بكلّ ما جاءت الروايات؛ لانعدام الدليل على الوجوب، والروايات على الأغلب لا تفيد اليقين، ومسألة نسبتها إلى الرسول (ص) مسألة ظنّيّة وليست قطعية. ومسألة صحّة النقل فيها كلام كثير، والمقصود هنا صحّة النقل بطُرق أهل السنّة وبأسانيد رجالهم، وهي طرق وأسانيد تبدو بصمة السياسة فيها واضحة، فمن ثمّ هي ليست محلّ تسليم الاتّجاهات الأُخرى التي نظرت إلى هذه الروايات بعين الشك.

ثانياً: إنّ الهدف من هذا الكلام هو الحجر على العقل وإرهابه؛ كي لا يخوض في مثل هذه الخرافات المنسوبة للرسول (ص) ، مثل خرافة لطم موسى لملك الموت.

ثالثاً: إنّ هذه الروايات وغيرها ممّا يعتمد عليه أهل السنّة في عقائدهم لا تخرج عن كونها أحاديث آحاد، لاتفيد إلاّ الظن.

رابعاً: إنّ عقيدة أهل السنّة عقيدة مسالمة للحكومات وتدين بالطاعة والولاء لها، ولا تجيز الخروج عليها، في الوقت الذي تتبنّى فيه التبرّي من المخالفين وقمعهم وعدم مسالمتهم، وقد نشأ هذا المعتقد مع معاوية وتمّ تقنينه في العص-ر العبّاسي من خلال الروايات، إلاّ أنّه لم تجرؤ عقيدة سُنّية على التصريح بما صرّح به ابن قدامة في عقيدته من أنّ معاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين.

أمّا فكرة خال المؤمنين فقد ابتدعها ابن قدامة من كون معاوية شقيق رملة بنت أبي سفيان (أُم حبيبة) زوج النبي (ص) فما دام معاوية شقيق واحدة من نساء النبي فيجوز أن يكون خال المؤمنين، وهو كلام ساذج يعكس التعصّب لمعاوية ونهجه في مواجهة الخصوم من الشيعة وغيرهم.

ص:167

وحتّى روايات أهل السنّة الصحيحة عندهم لم تسعف معاوية في شيء، فهي لم تثبت له منقبة، ولم تثبت أنّه كان من كتّاب الوحي.(1)

وقصارى ما اعتمد عليه ابن قدامة رواية ضعيفة عند أهل السنّة حال تعصّبه لمعاوية دون أن ينبذها.

وسيراً مع نهج السلف من الحنابلة وأئمّة الإرهاب الذين سبقوه، قال ابن قدامة بما قالوه وسنّوه في مواجهة المخالفين، وما نصّت عليه كتب العقائد الأُخرى وهو:

من السنّة هجر أهل البِدَع ومباينتهم وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم، وكلّ محدثة في الدين بِدْعة وكلّ متسم بغير الإسلام والسنّة مبتدع كالرافضة والجهمية والخوارج والقدرية والمرجئة والمعتزلة والكرامية والسالمية ونظائرهم، فهذه فِرَق الضلالة وطوائف البِدَع أعاذنا الله منها.(2)

الأحكام السلطانية

كان أبو يعلي الحنبلي (ت45٨ه-) مؤلّف كتب الأحكام السلطانية قد تولّى القضاء في عهد القائم بأمر الله العبّاسي، وتصدّى بتوجيه منه لأنصار العقل والتأويل من الاتّجاهات الأُخرى الذين برزوا في مواجهة الحنابلة وكتابهم (إبطال التأويلات) الذي أشاعوه في بغداد عام 4٣٢ه، ذلك الكتاب الذي تسلّمه من الخليفة العباسي ليتأمّله ويعيد النظر فيه.

وتمّ حسم الأمر في النهاية لصالح الحنابلة بدعم الخليفة وصدور مرسوم يقول: القرآن كلام الله وأخبار الصفات الواردة في الروايات تمرّ كما جاءت.

وهذا المرسوم بالطبع يعني نفي الشيعة والمعتزلة وغيرهما من الاتّجاهات التي تقول


1- انظر فتح الباري شرح البخاري لابن حجر العسقلاني، ج٧، كتاب الفضائل باب ذكر معاوية، وفيه أنّ إسحاق بن راهويه أستاذ البخاري قال: لم تصح في معاوية منقبة.
2- انظر شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين.

ص:168

بخلق القرآن، ووجوب تأويل أخبار الصفات الواردة في الروايات، فراراً من الوقوع في التشبيه والتجسيم، أو نفي هذه الروايات ورفضها بالمرّة.

قال أبو يعلى في قتال أهل الردّة: فإنّه واجب إنذارهم ثلاثة أيام، سواء كان المرتد رجلاً أو امرأة.

ولا يجوز إقرار المرتد على ردّته بجزيةٍ أو عهد، ولا تُؤكل لهم ذبيحة، ولا تنكح لهم امرأة، وإذا قُتل لم يُغسّل ولم يُصلّ عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين لخروجه بالردّة عنهم، ولا في مقابر المشركين لما تقدّمت له من حرمة الإسلام ولكن يوارى مقبوراً، ويكون ما له فيئاً في بيت مال المسلمين، مصروفاً في أهل الفيء، ولايرثه عنه وارث مسلم ولا كافر.

وقضيّة الردّة أفردت لها كتب الفقه أبواباً واسعة في جواز قتل المرتد وقتال أهل الردّة.

وفكرة الردّة قد استثمرت من قِبَل الحكّام والفقهاء في آن واحد لضرب الخصوم من الاتّجاهات الأُخرى وتصفيتهم، فلم يكن هناك أبسط من اتّهام أصحاب الرأي بالردّة عن الدين وتبرير قتلهم والخلاص منه، وقد قتل الكثير من الفقهاء والفلاسفة وأهل العقل تحت هذا المسمّى.

ولمّا كان هناك تحالف دائم بين الفقهاء من أهل السنّة والحكّام، فمن ثمّ فتح هذا الباب على مصراعيه لهم كي يبطشوا بالآخرين، تحت شعار مقاومة الردّة والمرتدّين، باعتبارهم الممثّل الشرعي الوحيد للإسلام.

وإذا كانت هناك ردّة حقيقية فهي ردّة عن نهج أهل السنّة وعقائدهم لا عن الإسلام.

وهذه الرؤية هي الأساس الذي قامت عليه فكرة الإرهاب والبطش بالآخر في واقع المسلمين، وهي الرؤية التي تشبّع بها التيار الوهّابي وفرقه في كلّ مكان.

إلاّ أنّ الشرع الإسلامي لا يعطي الحق لأيّ فردٍ أو جهةٍ في قتل أو قتال المرتدّين،

ص:169

وقد أغلق الشرع هذا الباب كي لا يستثمر من قِبَل أهل السياسة والعصبية القبلية، كما حدث على يد أبي بكر الذي رفع شعار قتل المرتدّين في وجه خصومه والخارجين على حكمه.

يقول أبو يعلى: فأمّا مَن ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس فقياس المذهب أن يعترض عليه؛ لأنّها من فرائض الأعيان، فهي كترك الجمعة، وقد قال (ص) : لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطباً وآمر بالصلاة فيؤذن لها وتقام، ثمّ أخالف إلى منازل قوم لا يحضرون الصلاة فأحرقها عليهم.

وهو بهذا يريد القول بوجوب إحراق بيوت المتخلّفين عن الصلاة بروايةٍ منسوبةٍ للرسول (ص) ، وهو ما يعني ضمناً اتّهام الرسول بالعدوانية والإرهاب، الأمر الذي يختلف مع خلقه وسنّته، ويدعونا إلى رفض مثل هذه الروايات.(1)

قال أبو يعلى: وكذلك لو ابتدع بعض المنتسبين إلى العلم قولاً خرق به الإجماع وخالف فيه النص وردّ قول علماء عصره، أنكره عليه وزجره عنه - أي: المحتسب - فإن أقلع وتاب وإلاّ فالسلطان بتهذيب الدين أحق.

وهذا الكلام هو امتداد لكلام الحنابلة السابقين المحرّض على المخالفين لإجماعهم ورواياتهم وتخييرهم ما بين التوبة والرجوع عن المخالفة، أو يتولّى أمرهم السلطان بتحريض من فقهاء أهل السنّة، وليس بعد هذا إرهاب.

ثمّ قال عن أهل الذمّة: ويمنع أهل الذمّة من تعلية أبنيتهم على أبنية المسلمين، فإن ملكوا أبنية عالية احتمل أن يقرّوا عليها ويلزموا أن يستروا سطوحهم، ويأخذ أهل الذمّة بما شرط في ذمّتهم: من لبس الغيار، والمخالفة في الهيئة، وترك المجاهرة بقولهم في عزير ابن الله، والمسيح ابن الله.

ومثل هذا الكلام في حق أهل الذمّة من اليهود والنصارى إنّما هو من صنع


1- انظر لنا كتاب دفاع عن الرسول ضدّ الفقهاء والمحدّثين، والحديث رواه مسلم وكتب السنن الأُخرى عن أبي هريرة

ص:170

السياسة لا من صنع النصوص، فالحكّام هم الذين أوجبوا على أهل الذمّة مثل هذه الأُمور لأسباب أمنيّة، وبارك الفقهاء هذه الأُمور التي تتماشى مع مذهبهم.

الفرقان بين الحق والباطل

وقد صنّف هذا الكتاب ابن تيمية في سجن دمشق.

وقال في مقدّمته:

إنّ الله بيّن في كتابه الفرقان بين الحق والباطل، وكذلك نبيّه، فمَن كان أعظم اتّباعاً لكتابه الذي أنزله ونبيّه الذي أرسله كان أعظم فرقاناً.

ومَن كان أبعد عن اتّباع الكتاب والرسول كان أبعد عن الفرقان واشتبه عليه الحق بالباطل كالذين اشتبه عليهم عبادة الرحمن بعبادة الشيطان، والنبي الصادق بالمتبني الكاذب، وآيات النبيين بشبهات الكذّابين حتّى اشتبه عليهم الخالق بالمخلوق.

وهذا الكلام الذي يدين به فقهاء الحنابلة إنّما اخترع لإرهاب المخالفين لنهج الرواية والرجال؛ وذلك بربط الرواية بالقرآن، وهدى الله بهدى الرسول (ص) . بمعنى أنّ الذين يرفضون الروايات ويشكّكون فيها يكونوا بهذا التصوّر يرفضون القرآن ويشكّكون في نصوصه.

وهو ما تمّ توكيده في الشعار الدائم الذي لا زال يُرفع حتّى اليوم وهو شعار: الكتاب والسنّة حيث أصبح الإسلام هو الكتاب والسنّة، بينما الحقيقة أنّ الإسلام هو الكتاب، فهو المصدر الوحيد المعصوم المنزل من قِبَل الله سبحانه ليكون حجّة على البشر، وهو الذي يجب أن يكون حكماً على الروايات، لا أن تشاركه الروايات وتتساوى به.

ولقد أصبحت الروايات، بمرور الزمن وبتوجيه الحكّام، هي الناطق بلسان الإسلام والمعبِّر عنه، ونتج عن هذا أن هيمنت الروايات على القرآن، ممّا أدّى إلى استفزاز أصحاب العقول وتصدّيهم للروايات والفقهاء الذين يدعمونها.

وابن تيمية هنا، إنّما يردّد تهديدات مَن سبقه من فقهاء السلف من الحنابلة وغيرهم لإرهاب الاتّجاهات الأُخرى وعزل المسلمين عنها.

ص:171

ويؤكّد ابن تيمية أنّ اتّباع رجال السلف، ومعرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خير وأنفع من معرفة أقوال المتأخّرين وأعمالهم: «أقوال السلف وأعمالهم في جميع علوم الدين كالتفسير وأُصول الدين وفروعه والزهد والعبادة والأخلاق والجهاد وغير ذلك، فإنّهم أفضل ممّن بعدهم كما دلّ عليه الكتاب والسنّة؛ فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمَن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم؛ وذلك أنّ إجماعهم لا يكون إلاّ معصوماً، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتّى يعرف دلالة الكتاب والسنّة على خلافه» .

ويواصل ابن تيمية إطلاق مدافعه على المخالفين بقوله: وكلّ مَن خالف ما جاء به الرسول (ص) لم يكن عنده علم بذلك ولا عدل، بل لا يكون عنده إلاّ جهل وظلم وظن وما تهوى الأنفس.

ثمّ يسلّط مدفعه على أصحاب الرأي بقوله: وكلّ الأُصول العقلية التي ابتدعها هؤلاء باطلة في العقل والشرع.

والمقصود بهذا الكلام الاتّجاهات الرافضة للروايات المتعلّقة بصفات الله المأوّلة لهذه الصفات، المتبنيّة لنهج العقل والمنطق والفلسفة، أو ما سُمّي بعلم الكلام أو العقليات.

فجميع ذلك مرفوض عند ابن تيمية وسلفه من الحنابلة، الذين يعتقدون بأنّ الله سبحانه له يد وعين ورجل، ويرى ويهبط ويصعد، ومكانه فوق العرش، وأنّه أراد الشرّ واختاره كما نصّ على ذلك إمامهم ابن حنبل.

وهؤلاء الرافضين هم أهل الهوى والزيغ والضلال، الذين أعلن ابن تيمية الحرب عليهم، ولازال أتباعه من الوهّابيّين مستمرّين في هذه الحرب حتّى اليوم.

حقيقة دعوة محمّد بن عبد الوهاب

وهي رسالة كتبها واحد من أحفاد محمّد بن عبدالوهاب للدفاع عن الوهّابيّة، وقد نسبها إلى عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل مؤسّس الدولة السعودية الثانية.

ص:172

وكان عبد العزيز قد أرسل هذا الحفيد إلى اليمن وما جاورها من القرى للتبشير بالوهّابيّة؛ فنسب هذه الرسالة إليه تبرّكاً بآل سعود حماة التوحيد الوهّابي.

قال مبشّراً منذراً: مَن دعا غير الله من ميت أو غائب أو استغاث به فهو مش-رك كافر، وإن لم يقصد إلاّ مجرّد التقرّب إلى الله وطلب الشفاعة عنده، وقد دخل الكثير من هذه الأُمّة في الشرك بالله والتعلّق بسواه ويسمّون ذلك توسّلاً وتشفّعاً، وتغيير الأسماء لا اعتبار له، ولا تزول حقيقة الشيء، ولا حكمه بزوال اسمه وانتقاله في عرف الناس باسم آخر.

وهذا الكلام الذي دعا إليه عبد العزيز وحفيد ابن عبد الوهاب إنّما يلخّص الدعوة الوهّابيّة ويحدّد أُطرها التي تقوم على أساس تكفير المسلمين واعتبارهم من أهل الشرك، وقد ارتدّوا إلى عبادة الأصنام.

ثمّ يقول في رسالته: ولا نقول بقول الأشاعرة ولا غيرهم من أهل البِدَع.

ونرى أنّ كلّ محدثةٍ في الدين بِدْعة.

ونرى هجر أهل البِدَع ومباينتهم.

أمّا مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنّة في الفروع والأحكام، ولا ندّعي الاجتهاد، وإذا بانت لنا سنّة صحيحة عن رسول الله (ص) عملنا بها ولا نقدّم عليها قول أحدٍ كائناً مَن كان، بل نتلقّاها بالقبول والتسليم.

وسيراً مع سنّة الحنابلة تبنّى الوهّابيّون الروايات، وأصبحوا من عبّادها، نابذين الاجتهاد والعقل، معلنين الحرب على أهل الرأي والفكر المبتدعة في منظورهم.

وهكذا أصبحوا نسخة جديدة من الحنابلة القدامى، والفارق بينهم وبين حنابلة الماضي هو أنّهم حملوا سيوفاً سلّطوها على رقاب المسلمين، وملكوا سلطةً ونفوذاً ونفطاً لم يملك السابقون منه شيء.

وفي رسالة عنوانها: (فتيتان تتعلّقان بتكفير الجهمية) منسوبة إلى اثنين من سلالة محمّد بن عبد الوهاب وهما: إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، وعبد الله بن عبداللطيف آل الشيخ بالإضافة إلى وهّابي ثالث هو سليمان بن سحمان الخثعمي.

ص:173

تقول الرسالة: إنّ رجلين تنازعا في تكفير الجهمية والقبورية والإباضية، هل بلغتهم الدعوة، وقامت عليهم الحجّة؟

وكان الجواب هو: أمّا الجهمية فالمشهور من مذهب أحمد وعامّة أئمّة السنّة تكفيرهم؛ لأنّ قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل (ص) وأُنزلت به الكتب.

والإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنّهم ضلاّل زنادقة مرتدّون، وقد ذكر مَن صنّف في السنّة تكفيرهم من عامّة أهل الأثر كاللالكائي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وابن أبي مليكة، والخلال، وابن خزيمة، وابن القيّم، فكيف إذا انضاف إلى ذلك كونهم من عبّاد القبور وعلى طريقتهم، فلا إشكال والحالة هذه في كفرهم وضلالهم.

أمّا إباضية أهل هذا الزمان، فحقيقة مذهبهم وطريقتهم إذا سبرت أحوالهم فهم جهمية قبوريون، وإنّما ينتسبون إلى القبورية انتساباً، فلا يشك في كفرهم وضلالهم إلاّ مَن غلب عليه الهوى، وأعمى عين بصيرته، فمَن تولاّهم فهو عاصٍ ظالم يجب هجره ومباعدته والتحذير منه حتّى يعلن التوبة، كما أعلن بالظلم والمعصية.

وما ذكر في السؤال عمّن لا يرى كفر الجهمية وإباضية أهل هذا الزمان، ويزعم جهاد أهل الإسلام لهم سابقاً غلواً، وهو لأجل المال كاللصوص، فهذا لم يعرف حقيقة الإسلام ولا شمّ رائحته، وإن انتسب إليه وزعم أنّه من أهله.

وأمّا ما ذكرته من استدلال المخالف بقوله (ص) : مَن صلّى صلاتنا. وأشباه هذه الأحاديث فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنّة، فإنّ هذا فرضه ومحلّه في أهل الأهواء من هذه الأُمّة، ومَن لا تخرجه بدعته من الإسلام، كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون؛ لأنّ أصل الإيمان الثابت لا يحكم بزواله إلاّ بحصول منافٍ لحقيقته مناقض لأصله، لكنّهم يبدعون ويضللون، ويجب هجرهم وتضليلهم والتحذير من مجالستهم ومجامعتهم.

أمّا الجهمية وعبّاد القبور فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم إلاّ

ص:174

مَن لم يعرف حقيقة الإسلام وما بعث الله به الرسل.

أمّا القول بأنّ القول كفر ولا نحكم بكفر القائل، فإطلاق هذا جهل صرف؛ لأنّ هذه العبارة لا تنطبق إلاّ على المعيّن، ومسألة تكفير المعيّن مسألة معروفة إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال مَن قال هذا كافر.

وذكر ابن تيمية في كثير من كتبه تكفير أُناسٍ من أعيان المتكلّمين.

وأمّا قوله هؤلاء فهموا الحجّة فهذا ممّا يدلّ على جهله وأنّه لم يفرّق بين فهم الحجّة وبلوغ الحجّة، فقد تقوم الحجّة على مَن لا يفهمها.

والشيخ محمّد بن عبد الوهاب لم يكفّر الناس ابتداءً إلاّ بعد قيام الحجّة والدعوة، فأمّا إذا قامت الحجّة فلا مانع من تكفيرهم وإن لم يفهموها.

وهذا الكلام معناه أنّ الوهّابيّين جاؤوا بدين جديد مَن لم يمتثل له فهو كافر.

والسؤال هنا: ما هي حجّة الوهّابييّن؟

هل هي الإسلام أم مذهبهم الرديء؟

ولم يقتصر التبشير الوهّابي في حدود المساجد، والدعوة الفردية، والمنشورات، بل تعدّاه إلى المدارس؛ حيث فرض على الطلاّب دراسة التوحيد الوهّابي وتوطين فكرة الإرهاب في نفوسهم.

كتاب التوحيد

وفي كتاب (التوحيد) المقرّر على الصف الثالث الثانوي في دولة الوهّابييّن نجد ما يلي:

الفصل الخامس من الباب الأوّل في بيان حقيقة الجاهلية والفسق والضلال، ثمّ الردّة وأقسامها وأحكامها.

وفي محيط الردّة اعتبر مَن يداوم على الصلاة والنذور في مساجد الأولياء والصالحين ويذبح عند المقامات والأضرحة إنّما هو مرتدّ بفعله هذا.

ص:175

وفي الباب الثاني حدّد الكتاب الأقوال والأفعال التي تتنافى مع التوحيد وتنقضه وهي:

ادّعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان والتنجيم.

السحر والكهانة والعرافة.

تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها.

تعظيم التماثيل والنصب التذكارية.

الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته.

الحكم بغير ما أنزل الله.

ادّعاء حقّ التشريع والتحليل والتحريم.

الانتماء إلى المذاهب الإلحادية والأحزاب الجاهلية.

النظرة المادية للحياة.

التمائم والرقى.

الحلف بغير الله والتوسّل والاستعانة بالمخلوق دون الله.

والباب الثالث كان في بيان ما يجب اعتقاده في الرسول (ص) وأهل بيته وصحابته، والنهي عن سبّ الصحابة وأئمّة الهدى.

أمّا الباب الرابع فقد تركّز في البِدَع ومنهج أهل السنّة والجماعة في الردّ على أهل البِدَع، وقدّم للطالب نماذج من كتب السلف التي تردّ على أهل البِدَع من وضع ابن حنبل والوهّابيّين المعاصرين.

ومن نماذج الكتب التي ذكرت في هذا الباب:

الردّ على الجهمية والزنادقة.

الاعتصام.

اقتضاء الصراط المستقيم.

إنكار الحوادث والبِدَع.

ص:176

الباعث على إنكار البِدَع والحوادث.

ومن الكتب المعاصرة:

الإبداع في مضارّ الابتداع.

السنن والمبتدعات المتعلّقة بالأذكار والصلوات.

التحذير من البدع.

ثمّ ختم الكتاب ببيان نماذج من البِدَع المعاصرة وهي:

الاحتفال بالمولد النبوي.

التبرّك بالأماكن والآثار والأموات ونحو ذلك.

البِدَع في مجال العبادات والتقرّب إلى الله.

وقد حشد الكتاب الكثير من أقوال ابن تيمية، وختم بالقول: إنّ البِدَع بريد الكفر، وهي زيادة دين لم يشرّعه الله ولا رسوله، والبِدْعة شرّ من المعصية الكبيرة، وتحريم زيارة المبتدع ومجالسته إلاّ على وجه النصيحة له والإنكار عليه، ويجب التحذير منهم ومن شرّهم إذا لم يمكن الأخذ على أيديهم ومنعهم من مزاولة البِدَع، ويجب على علماء المسلمين وولاة أُمورهم منع البِدَع والأخذ على أيدي المبتدعة، وردع شرّهم؛ لأنّ خطرهم على الإسلام شديد، ثمّ إنّه يجب أن يعلم أنّ دول الكفر تشجّع المبتدعة على نشر بدعتهم وتساعدهم على ذلك بشتّى الطرق؛ لأنّ في ذلك القضاء على الاسلام وتشويه صورته.

وهذا الكلام الذي يدرّس على طلبة المدارس، الهدف منه تكوين جيل من الإرهابيين متلحّف بالدين، يرفع شعار الردّة والتكفير في وجه المسلمين المخالفين، ويخيّرهم بين الإذعان لمذهبهم (التوحيد الوهّابي) أو السيف والاستباحة.

وقد نشر هذا الجيل الإرهاب في ربوع المسلمين وربوع أوربا التي وفد إليها من أجل الدعوة والدراسة.

ص:177

وهو الجيل الذي برزت منه فِرَق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنتشرة في دولة الوهّابيّين ترهب الناس في كلّ مكان باسم الدين حتّى شكّلت قلقاً أمنياً للحكم السعودي.

وهو الجيل الذي برز منه ابن لادن والأفغان العرب وغيرهم من قادة الإرهاب في العالم اليوم.

وسوف يستمر هذا الجيل في تفريخ الفرق الإرهابية طالما استمرّ الطرح الوهّابي في الشيوع والانتشار.

ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى الاهتمام بالصبيان وتلقينهم التوحيد المزعوم.

تعليم الصبيان التوحيد

هناك منشور وهّابي تحت عنوان: (تعليم الصبيان التوحيد) وهو من وضع محمّد ابن عبدالوهاب.

وهو على طريقة السؤال والجواب، وقد حوى الأسئلة التالية:

من هو المؤلِّف؟ وما مذهبه؟ وما دعوته؟ وما هي مؤلّفاته؟ وهل عرفه الأمير محمّد بن سعود؟ وهل نكث الشيخ عهده مع ابن سعود؟ ومتى توفّي؟ ومَن أولاده؟

الحجاب

ومن المنشورات الوهّابيّة السائدة منشور باسم (الحجاب) ، وهويحوي ثلاث رسائل لثلاثة من رموز الوهّابيّة المعاصرة، وهم: عبد العزيز بن باز وتلميذه ابن عثيمين، والثالث عبد القادر السندي.

وابن باز هو الذي أفتى بعدم جواز قيادة المرأة السيارة، وأنّ الأرض لاتدور، وأنكر صعود أحدٍ إلى القمر.

وسيراً مع الروايات وأقوال الرجال من الحنابلة وغيرهم، مال ابن باز إلى الروايات

ص:178

والأقوال التي لا تجيز كشف وجه المرأة أو يدها، في الوقت الذي شكّك فيه في الروايات التي تجيزكشف الوجه واليدين.

وكما تشدّد ابن باز في زيّ المرأة، الذي يستر جميع أجزاء جسدها، تشدّد أيضاً في خروجها وسفرها وحريتها بشكل عام.

يقول ابن باز: اتّقوا الله أيّها المسلمون وخذوا على أيدي سفهائكم وامنعوا نسائكم ممّا حرّم الله عليهن وألزموهن التحجّب والتستّر، واحذروا غضب الله وعظيم عقوبته.

وما دام ابن باز يحرّم على المرأة قيادة السيارة فمن الطبيعي أن يحرّم عليها الخروج من البيت والسفر وحدها والاختلاط بالرجال بأيّ صورةٍ من الصور، وهو ما صرّح به في كثير من الفتاوى التي صدرت عنه.

وقد سار على نفس الدرب ابن عثيمين، والتزم طرح إمامه ومعلّمه حيث قال في رسالته: اعلم أيّها المسلم أنّ احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب.

أمّا الرسالة الثالثة فقد خُصصت للردّ على سيّد قطب، وأبي الأعلى المودودي، اللذين انحازا إلى جانب مَن يجيز كشف المرأة لوجهها وكفيها.

إلاّ أنّ الطريف في الأمر هو تلك الروايات التي يستندون إليها والمنسوبة إلى رجال السلف، والتي تجيز للمرأة أن تبرز عيناً واحدة، وبعض هذه الروايات حدّدت العين اليسرى!

إلاّ أنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل تلتزم المرأة السعودية بأقوال: ابن باز، وابن عثيمين، وغيرهم من فقهاء الوهّابيّة؟

والسؤال الآخر هو هل يستطيع فقهاء الوهّابيّة أن يلزموا نساء العائلة السعودية بفتاويهم؟

عبادة الاوثان

وأصدر أحد الوهّابيين كتاباً تحت عنوان: (عبادة الأوثان) حدّد فيه الأوثان فيما يلي:

الأصنام ويقصد بها القبور أو الأضرحة والمقامات.

ص:179

التماثيل والصور والسينما والتلفزيون.

وعن الأضرحة قال تحت عنوان: الشرك الأكبر، المحرّمات وأشدّها إفساداً للعقل: إنّ مشركي زماننا - أي: الشيعة، والصوفية، وعوام الناس - أغلظ شركاً من الأوّلين؛ لأنّ الأوّلين يخلصون لله في الشدّة ويشركون في الرخاء، ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدّة.

وعن الفرق بين زيارة الموحّدين - الوهّابيّين - للقبور وزيارة المش-ركين، أي: بقيّة المسلمين قال: وأمّا الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ عن عبادة الأصنام.

وتحت عنوان الأنصاب والأزلام قال: فهدم القباب والبناء في المساجد التي بنيت عليها أولى وأحرى، كذلك يجب إزالة كلّ قنديل أو سراج على قبرٍ وطفيه، فإنّ فاعل ذلك ملعون، وأعظم الفتنة فتنة أنصاب القبور، وهي أصل فتنة عبادة الأصنام، فالمعرض عن التوحيد مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنّة مبتدعٌ ضال شاء أم أبى.

ثمّ ختم باب الأصنام بكلمة لابن تيمية: وهذه الأُمور المبتدعة عند القبور مراتب، أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس وهؤلاء من جنس عبّاد الأصنام.

أمّا عن الصور، فقد حشد عشرات الروايات والأقوال التي تحرّم الصور والتماثيل.

ونقل فتوى من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة تتعلّق بإجابة الدعوة إلى الوليمة، هل تسقط الإجابة إذا علم المدعو أنّها مشتملة على صورة؟

ونقل عن أحد رموز الوهّابيّة وهو الألباني أنّه لايجوز حضور الدعوة إذا اشتملت على معصية.

وختم الباب بقولٍ لآخر من رموز الوهّابيّة: إنّ العقل البشري معرّض للانتكاس في كلّ حين وزمان، ولا يستبعد أبداً أن يؤدّي نصب التماثيل في الشوارع العامّة، وانتشار الصور في المحلاّت والبيوت إلى عبادتها وتعظيمها في المستقبل.

وحول السينما والتلفزيون نقل كلام لصاحب كتاب (إعلان النكير على المفتونين

ص:180

بالتصوير) هذا نصّه: ومن الشبه الباطلة فتيا بعض العصريين بإباحة حضور السينما لرؤية ما يصوّر فيها من ساحات القتال، وحجّته أنّ ذلك ممّا يبعث على الشجاعة والإقدام على القتال، وهذه حجّة داحضة من وجوه:

الأوّل: إنّ السينما من أنواع السحر التخيّلي، بل هي أخبث منه؛ لأنّ كلّ ما يأتي به أصحاب السحر التخيّلي يمكن الإتيان به فيها وزيادة.

والسحر لا يجوز تعاطيه ولا الحضور عند مَن يعمله، وهكذا الأمر في السينما فلا يجوز عملها ولا الحضور عندها؛ لأنّ الحضور عندها بدون تغيير دليل على الرضا بالسحر، والرضا بالذنب كفاعله.

الثاني: إنّ الحضور عند السينما دليل على الرضا بما ركّب فيها من صور الآدميين والحيوانات، والراضي بالصور شريك المصوّرين.

الثالث: إنّ الإفتاء بجواز حضور السينما يتضمّن ردّ الأحاديث الدالة على تحريم الصور والمنع من اتّخاذ الصور ومش-روعية طمسها، ومَن أفتى بخلاف الأحاديث الثابتة عن النبي (ص) فهو إمّا جاهل ضال، وإمّا معاند شاق للرسول، وعلى كلا التقديرين فعليه إثم العاملين بفتياه.

الرابع: إنّ الحضور عند السينما لرؤية ما فيها من الصور، مخالف لهدي رسول الله، وموافق لهدي النصارى والمشركين.

ومن هذا الباب فإنّ حضور السينما حرام على كلّ حال، سواء كان باعثاً على الشجاعة والإقدام أولم يكن؛ لأنّ الحضور عندها دليل على الرضا بما فيها من المضاهاة بخلق الله، ودليل على الرضا بما فيها من السحر، ودليل على الرضا بما يمثّل من أنواع الفسوق والعصيان.

ثمّ نقل في الختام: حرمة النحت، والتحنيط، ونقل الأعضاء، كما أفتى بذلك فقهاء الحنابلة.

ص:181

تطهير الاعتقاد

وجاء في مقدّمة (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد) : وبعد فهذا تطهير الاعتقاد من أدران الشرك والإلحاد وجب عليّ تأليفه، وتعيّن عليّ ترصيفه؛ لما رأيته وعلمته من اتّخاذ العباد الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور وفي الأحياء ممّن يدّعي العلم بالمغيّبات والمكاشفات.

ثمّ قال صاحب المنشور: وكذلك تسمية القبر مشهداً، ومَن يعتقدون فيه وليّاً لايخرجه عن اسم الصنم والوثن، إذ هم عاملون معاملة المشركين للأصنام، ويطوفون بها طواف الحجّاج بيت الله الحرام، ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية، وهو بعينه فعل المشركين في الأصنام.

ويتطرّف أكثر فيطرح التساؤلات التالية ويجيب عليها:

فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخل--فاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟

قلت: نعم، قد حصل منهم ما حصل من أُولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد، فلا فرق بينهم. فإن قلت: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى، ولا نجعل له نِدّاً، والالتجاء إلى الأولياء ليس شركاً؟

قلت: قد خرج الفقهاء في كتب الفقه في باب الردّة أنّ مَن تكلّم بكلمة الكفر يكفّر، وإن لم يقصد معناها، وهذا دالٌّ على أنّهم لايعرفون حقيقة الإسلام ولا ماهيّة التوحيد؛ فصاروا كفّاراً كفراً أصليّاً.

فإن قلت: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم والسلوك فيهم مسلك رسول الله (ص) في المشركين.

قلت: إلى هذا ذهب بعض أهل العلم فقالوا يجب أوّلاً دعاؤهم إلى التوحيد، وهذا

ص:182

واجب العلماء، فإذا أبانت العلماء ذلك الش-رك للأئمّة والملوك، وجب على الأئمّة والملوك بعث دعاة إلى التوحيد، فمَن أقرّ ورجع حُقن عليه دمه وماله وذراريه، ومَن أصرّ فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله من المشركين.

عقيدة أهل السنّة والجماعة

لابن عثيمين وقد أشار فيها إلى معتقدات أهل السنّة مجتمعة، خاصّة ما يتعلّق بصفات الله تعالى، وتكفير مَن لا يق-ر بهذه الص--فات حسب معتقداتهم، وتكفير تارك الصلاة ومعاداة المخالفين من المسلمين.

وقال محدّداً صفات أهل السنّة (الوهّابيّون) :

يعادون أهل الأهواء والجهالات، ويقتدون بالسلف الصالح من أئمّة الدين، ويتمسّكون بما كانوا به متمسّكين من الدين المتين، ويبغضون أهل البِدَع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين، ويرون صمّ آذانهم عن سماع أباطيلهم.

وعلامات البِدَع على أهلها بادية، وأظهرها: شدّة معاملتهم لحملة أخبار النبي (ص) ، واحتقارهم وتسميتهم إيّاهم (حشوية) وظاهرية ومشبّهة.

وهذا الكلام - كما هي - سنّة الوهّابيّين - منقول من كتب السابقين من سلفهم ورموزهم، فليس في كتب الوهّابيّين جهد علمي يذكر، فهم ليسوا سوى مجرّد نَقَلَة ومردِّدين لأفكار شيخهم ابن عبد الوهاب، الذي ردّد بدوره بلا وعي أيضاً كلمات مرجعه الأوحد ابن تيمية.

وأقلّ ما يقال فيهم إنّهم حملة أسفار وهي الصفة التي لازمت الفِرَق التي تولّدت من خلالهم.

وهو كلام يعكس ردّ الفعل الغاضب تجاه الآخر الذي خاصمهم بسبب غلوّهم في الروايات، وتجريمهم لأهل الرأي والعقل، ممّا أدّى إلى وصفهم بالحشوية، وغيرها من الصفات التي استفزّتهم.

ص:183

ومن بين نصوص هذه العقيدة ما يلي:

ونؤمن أنّ الله عليٌّ على خلقه بذاته وصفاته، واستواؤه على العرش علوّه عليه بذاته.

ونؤمن بأنّ الله تعالى مع خلقه وهو على عرشه.

ونؤمن بأنّ لله تعالى عينين اثنتين حقيقيتين.

ونعلم علم اليقين أنّ ما جاء في كتاب الله أو سنّة نبيّه (ص) فهو حق لا يناقض بعضه بعضاً، ولأنّ التناقض في الأخبار يستلزم تكذيب بعضها بعضاً، وهذا محال في خبر الله ورسوله.

ونؤمن بأنّ للنبي (ص) خلفاء راشدين خلفوه في أُمّته علماً ودعوة وولاية على المؤمنين وبأنّ أفضلهم وأحقّهم بالخلافة: أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ علي، وهكذا كانوا في الخلافة قدراً كما كانوا في الفضيلة، وما كان الله تعالى - وله الحكمة البالغة - ليولّي على خير القرون رجلاً وفيهم مَن هو خير منه وأجدر بالخلافة.

ونعتقد أنّ ما جرى بين الصحابة من الفتن فقد صدر عن تأويل اجتهدوا فيه، فمَن كان مصيباً فله أجران، ومَن كان منهم مخطئاً فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له.

وهذه العقائد وغيرها - ممّا تكتظ به كتب العقائد عند أهل السنّة - إنّما هي من صنع الحنابلة الذين أطلقوا عليهم اسم السلف؛ وذلك لكون الباحث في تراث أهل السنّة ومذاهبهم يجد أنّ هناك خلافات واسعة بين الفقهاء حول هذه المفاهيم التي ألبسها الحنابلة ثوب العقائد، ووجّهوها نحو خصومهم حتّى من داخل أهل السنّة على مستوى الماضي.

ويوجّهها حنابلة العصر من الوهّابيّين وفرقهم نحو خصومهم من الشيعة والصوفية وأهل الرأي.

ويرفع الحنابلة على الدوام شعار الكتاب والسنّة، بل هم الذين ابتدعوا هذا الشعار

ص:184

في واقع المسلمين بهدف إضفاء المشروعية على عقائدهم النابعة من الروايات التي لم تكن محل تسليم خصومهم.(1)

وشعار الكتاب والسنّة الهدف منه إرهاب المسلمين، كي لا يتحرّشوا بالروايات ويتشكّكوا فيها، فربط الروايات بالقرآن يضفي القداسة عليها ويحول دون المساس بها، فكأنّ هذه الروايات في حماية القرآن والمساس بها يعني المساس بالقرآن، وهو ما يريده الحنابلة من وراء تحصّنهم بهذا الشعار.

وهذا هو ما قصده صاحب هذه الرسالة حين شدّد على أنّ ما جاء في كتاب الله أو سنّة رسوله (ص) هو حق ولا يوجد تناقض بينهما، أي: أنّ الحق واحد في القرآن والروايات.

وهذه مغالطة حنبلية أشاعوها بين المسلمين ويحاول الوهّابيون تأكيدها وتثبيتها من أجل حماية عقائدهم الباطلة وأفكارهم الهشّة.

إنّ القرآن لا يتيح لأمثال الحنابلة الذين لا يحترمون العقل والرأي فرصة استخدام نصوصه في إرهاب الناس واحتكار الحق، فمن ثمّ اتّجهوا نحو الروايات وغالوا فيها.

الروايات هي التي أتاحت لهم الفرصة لتكفير الآخر واستحلاله.

وهي التي أتاحت لهم تخدير المسلمين وإيهامهم أنّهم أهل الحق والفرقة الوحيدة الناجية من النار.

وفتحت لهم باب الشهادة على المخالفين بدخول النار.

وفتحت لهم باب موالاة الحكّام والتحالف معهم ضدّ خصومهم والتغطية على انحرافاتهم، بل وإضفاء المشروعية على أشخاصهم ومواقفهم.

ومن خلال أربع رسائل وهّابيّة متشابهة- أيضاً - سوف نلقي الضوء على لغة جديدة من لغات الإرهاب والتطرّف،


1- انظر نقد فكرة ربط الكتاب بالسنّة في كتابنا تغيير الخطاب الإسلامي.

ص:185

وهذه الرسائل هي:

إقامة البراهين على حكم مَن استغاث بغير الله، أو قصد الكهنة والعرّافين.

إرشاد الطالب إلى أهمّ المطالب.

الحسام الماحق لكلِّ مشركٍ منافق.

فصل البيان في نواقض الإسلام والإيمان.

والرسالة الأُولى تحوي ثلاثة ردود:

الأوّل على قصيدة في مدح الرسول (ص) نشرتها مجلّة المجتمع الكويتية تحت عنوان: (في ذكرى المولد النبوي الشريف) وقد استفزّت هذه القصيدة صاحب الرسالة وهو ابن باز، الذي اعتبرها تحوي أُمور شركيّة تمثّلت في الاستغاثة بالنبي والاستنصار به لإدراك الأُمّة وتخليصها ممّا وقع بها.

واعتبر ابن باز هذا الكلام إعراضاً عن ربِّ العالمين الذي بيده النصر والضر والنفع، وليس بيد غيره شيء من ذلك، وأنّ هذا ظلم عظيم وشرك وخيم ينافي معنى لا إله إلاّ الله.

والردّ الثاني لابن باز كان حول سؤال ورد إليه عن دعاء غير الله والاستنجاد به في المهمّات، كدعاء الجن، ودعاء الأموات من الأنبياء والصالحين، وحكم مناكحة مَن يفعل ذلك.

وتلخّص ردّه في الحكم على هؤلاء بالش-رك، وعدم جواز أكل طعامهم ومناكحتهم، باعتبارهم في نظره أصحاب دين لا أصل له ولا شبهة فيه، بل هو باطل من أساسه على حدّ تعبيره.

أمّا الردّ الثالث له فكان على أوراد منسوبة للإمام علي (ع) يتمسّك بها بعض المسلمين حيث قال: إنّ هذه الأوراد أو الأدعية كلّها من أنواع الش-رك الأكبر؛ لأنّها عبادة لغير الله، وذلك أقبح من شرك الأوّلين.

وفيما يتعلّق برسالة إرشاد الطالب فقد حوت مجموعة أجوبة على مسائل:

ص:186

الأُولى: عن الكفر المخرج من الملّة وما لا يخرج.

والثانية: عن التحاكم إلى الطاغوت الذي يكفر فاعله.

والثالثة: عن الإعراض الموجب للكفر.

والرابعة: عن الهجر المشروع.

والخامسة: في الردّ على مَن التزم زيّاً مبتدعاً.

والسادسة: في لباس العقال وإباحته.

والسابعة: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وباقي المسائل تركّزت حول فضل العمامة ومقدار عمامة الرسول (ص) .

هذه هي أهمّ المطالب في منظور الوهّابيين وتلامذتهم من عناصر الفِرَق الإرهابية.

وهذه هي القضايا التي شغلتهم واصطدموا بالواقع على أساسها.

وهي - على ما هو ظاهر - تدور في محيط ثلاث قضايا:

الأُولى: تتعلّق بتكفير المجتمع والتحاكم إلى القانون الوضعي أو الطاغوت حسب تعبيرهم.

والثانية: تتعلّق بالمخالفين والخصوم وضرورة هجرهم والردّ عليهم.

والثالثة: حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ورسالة الحسام الماحق - كما هو واضح من عنوانها - موجّهة إلى كلِّ مش-ركٍ منافقٍ من المسلمين المتمرّدين على الحنابلة وعقائدهم البالية المتطرّفة.

وقد جرّد صاحب الرسالة حسامه هذا بسبب تجرّأ واحد من المفتونين المهوسين -حسب تعبيره - على الله تعالى وتسميته السنن الصحيحة الواردة في البخاري منكراً.

هذا ما ذكره في مقدّمة رسالته حيث اعتبر نقد الروايات أو رفضها تجرّأً على الله.

من هنا كان ردّه شديداً متطرّفاً على صاحب رسالة الهجوم على البخاري ومسلم، وهو على مايبدو من كلامه ينتمي إلى الشيعة.

وحمل الفصل الأوّل من الحسام الماحق هذا العنوان: في بيان إشراك صاحب

ص:187

الرسالة لإيمانه بعبادة غير الله.

أمّا الفصل الثاني فكان عنوانه: في تحريم الإفتاء والقضاء بالتقليد وبيان أنّ التمذهب بِدْعة. ودعوى نبذ المذاهب ورفض التقليد دعوى حنبلية قديمة، يرفع شعارها الوهّابيّون اليوم، بهدف دفع المسلمين إلى الانتقال من تقليد الآخرين إلى تقليدهم فإنّ الانتقال من مذهب يجيز التقليد إلى مذهب لا يجيزه إنّما هو في الحقيقة انتقال من تقليد إلى تقليد.

والوهّابيّون في حقيقتهم متمذهبون متعصّبون لابن حنبل وابن تيمية، كما هم متعصّبون للرواية، ويعطّلون العقل، فكيف ينادون بنبذ التقليد؟

وإذا كانت المذاهب قد أدّت إلى التعصّب وتسبّبت في فرقة المسلمين وتناحرهم، فليس معنى هذا أنّ الوهّابيّة هي البديل والمخرج من الأزمة المذهبية التي تسود واقع المسلمين من قديم، فإنّ الوهّابيّة صورة مقيتة لمذهبيةٍ أُخرى أشدّ وأنكى.

وجاء الفصل الثالث تحت عنوان: في بيان أنّ كلّ بِدْعة في الدين ضلالة.

ويقصد بالبِدْعة - كما ذكرنا سابقاً - كلّ ما يخالف نهج الحنابلة ورواياتهم.

ثمّ شنّ صاحب الحسام في الفصل الرابع حرباً شعواء على خصمه المبتدع، في نظره، لقوله بالإسدال في الصلاة، أي: ترك اليدين أثناء الصلاة وعدم وضع اليد اليمنى على اليسرى كما يفعل أهل السنّة. وقوله: إنّ البسملة في أوّل سورة الفاتحة ليست واجبة في كلّ ركعة من ركعات الصلاة.

وقوله بقراءة القرآن وإهداء ثوابه للموتى.

وقوله ببطلان التأمين في الصلاة باعتبارها ليست من القرآن.

وقوله بجواز التوسّل بالأموات.

وقوله بقراءة القرآن جماعة وبصوت واحد.

وقوله بوجوب اتّباع أهل البيت وتقديسهم.

وهذه الأُمور بمجموعها تُعدّ من البِدَع التي تخرج من الدين عند الحنابلة

ص:188

الوهّابيّين، ثمّ يقول: وقد لفّق جماعة من المشركين المبتدعين عبّاد الأضرحة رسائل للرّد على الوهّابيّة، ولا توجد على وجه الأرض فرقة تسمّي نفسها وهّابيّة، ولكن المبتدعة المشركين اخترعوا هذه التسمية ليطلقوها على كلّ مَن يوحّد الله ويتّبع سنّة الرسول (ص) ويتجنّب البِدَع والمحدثات.

والقارئ لرسالة الحسام الماحق يتبيّن له أنّ الراد عليه على علم وليس على جهل، إذ يطرح مسائل مختلفة في الدين ببراهينها وأدلّتها، إلاّ أنّ الوهّابيّين لا يعترفون بوجود العلم خارج دائرتهم.

قال صاحب الحسام: ليس علينا أن نجيب عن المسائل الفرعية التي ذكرها المفتون؛ لأنّه لا يجوز له الإفتاء والانتقاد؛ لأنّه عامي جاهل مقلّد، ولكنّنا نتبرّع بالجواب عن تلك المسائل رغبة بإفادة مَن يقرأ هذا الكتاب.

والرسالة الرابعة نُشرت ضمن سلسلة تصحيح مفاهيم في جوانب من العقيدة: رسالة إلى الشباب.

الفصل الأوّل منها حمل عنوان: ليس كلّ مَن قال لا إله إلاّ الله يدخل الجنّة.

والفصل الثاني منها حمل عنوان: نواقض الشهادتين.

والفصل الثالث لخّص فيه نواقض الشهادتين والتي حدّدها فيما يلي:

الكفر والشرك والنفاق والردّة.

وهذه الأُمور الأربعة تمّ تطبيقها على المسلمين المخالفين تحت مسمّيات مختلفة، وقد اعتمد صاحب الرسالة على أقوال ابن تيمية، وابن القيّم، وابن عبد الوهاب في بيانها وشرحها، فجميع المسلمين الذين لم يلتزموا بالتوحيد على طريقة الوهّابيّة هم كفّار مشركون منافقون مرتدّون.

ويقول صاحبها: إنّ عدم فهم الناس لنواقض الشهادتين وعدم إحاطتهم بنواقض الإسلام والإيمان كان سبباً في نش-ر الش-رك والإلحاد، وظهور الكفر قولاً وفعلاً واعتقاداً وسلوكاً في كلّ مجال فأصبح كثير من الناس، يقولون الكفر بألسنتهم

ص:189

ويعتقدون الشرك بقلوبهم، وتأتي جوارحهم تصدّق هذا وذاك، فلم يبق من المسلم إلاّ اسمه وهو معتقد أنّه طالما أقرّ بالشهادتين بلسانه فهو من أهل الجنّة غير مبالٍ لأقواله وأفعاله ومعتقداته، وهذا الفهم ذهبت إليه بعض الفِرَق، ولقد ضلّ هؤلاء وهؤلاء لمّا حادوا عن مذهب أهل السنّة والجماعة.

ومثل هذا الكلام إنّما يعكس المعتقد السائد لدى الفِرَق الإرهابية تجاه الناس والمجتمع الذي ورثته عن الوهّابيّة.

وهو المعتقَد الذي برزت على أساسه فِرَق الجهاد والتكفير، التي نش-رت الإرهاب في واقع المسلمين قبل أن تنشره في واقع غير المسلمين.

حقيقة الدعوة

وفي مواجهة التيّارات السنّيّة غير الوهّابيّة التي وفدت على جزيرة العرب صدر منشور وهّابي يُهدى ولا يُباع تحت عنوان: (حقيقة الدعوة إلى الله تعالى وما اختصّت به جزيرة العرب وتقويم مناهج الدعوات الإسلامية الوافدة إليها)

وقدّم له ثلاثة من رموز الوهّابيّة.

يقول صاحب المقدّمة الأُولى: فقد حاول أعداء هذه الدعوة - الوهّابيّة- أن يقضوا عليها بالقوّة فلم ينجحوا، وحاولوا أن يقاوموها بالتضليل والتشكيك والشبهات، ووصفها بالأوصاف المنفّرة فما زادها إلاّ تألّقاً ووضوحاً وقبولاً وإقبالاً، ومَن يرى ما نعايشه من وفود أفكار غريبة مشبوهة إلى بلادنا باسم الدعوة وعلى أيدي جماعات تتسمّى بأسماء مختلفة، مثل: جماعة الإخوان، وجماعة التبليغ، وجماعة كذا وكذا، وهدفها واحد وهو أن تزيح دعوة التوحيد وتحلّ محلّها.

ويقول صاحب المقدّمة الثانية: وجميل أن يركّز المؤلّف على جزيرة العرب؛ لأنّها آخر هدف يستهدف تحويلها ميداناً لمصارعة دعوة الرسول (ص) - الوهّابيّة- بدعوات دخيلة أجنبية عنها، وإن كانت تتظاهر بلباسها وتخفي خلافها الذي ستبديه حينما تؤاتي

ص:190

لها الفرصة، كما هو شأن الغزو الفكري من الماسونية والتنصير والاستعمار قديماً وحديثاً، وكذلك أهل البِدَع، فقد قال فيهم الإمام البربهاري في شرح السنّة:

مثل أصحاب البِدَع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأيديهم في التراب ويخرجون أذنابهم فإذا تمكّنوا لدغوا، وكذلك أهل البِدَع هم مختفون بين الناس فإذا تمكّنوا بلغوا ما أرادوا.

ويقول الثالث في مقدّمته: هذه الدعوات المعاصرة التي تنطلق في دعوتها من منطلق حزبي قد بعد بها ذلك كثيراً عن منهج السلف الصالح؛ إذ إنّ هذه الجماعات لم تؤسّس بناء دعوتها على توحيد الباري جلّ وعلا، وعلى العقيدة السلفية الصافية من الشوائب.

وما يستفزّ الوهّابيّين في جماعة الإخوان وجماعة التبليغ هو أنّ هاتين الجماعتين تتعاطفان مع الصوفية، واذا كان الوهّابيّون يعتبرون هذه الجماعات التي تشاركهم معتقد أهل السنّة ضالّة ومشبوهة وفاسدة المعتقد، وأحد أدوات الغزو الفكري، وبعيدة عن التوحيد، وغير ذلك من الصفات التي وصفوها بها، والتي تخرجهم من دائرة الإسلام بالمرّة، فلا شك أنّهم يعتبرون الاتّجاهات المخالفة من خارج دائرة أهل السنّة من المشركين، ولابدّ أن يكون الموقف تجاههم أكثر تطرّفاً وإرهاباً، وهو ما يبدو بوضوح من خلال النصوص الوهّابيّة، ومن خلال مواقف الوهّابيّين من خصومهم.

وبعد أن تحدّث المؤلّف عن تميّز الجزيرة العربية بالدين ومنهاج الدعوة الأصيل -دعوةالوهّابيّة- وتحدّث عن الجماعات الإسلامية فيها، بعد ذلك أعلن حكم الش-رع في وجود هذه الجماعات.

وحكم الشرع يقصد به شرع الحنابلة والوهّابيّين، فهم الذين أصدروا الفتوى الخاصّة بهذه الجماعات، والتي عرضها المؤلّف في كتابه.

يقول المؤلّف: في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من هيئة كبار العلماء في السعودية رقم١6٧4 في ٧/١٠/١٣٩٧ه- حكم صريح بعدم شرعيّة وجود

ص:191

هذه الجماعات ما لم يستند وجودها إلى قرار من ولي الأمر لخير الأُمّة كافّة، أي: قرار من آل سعود.

نص الفتوى: لا يجوز أن يتفرّق المسلمون في دينهم شِيَعاً وأحزاباً، يلعن بعضهم بعضاً، ويضرب بعضهم رقاب بعض، فإنّ هذا التفرّق ممّا نهى الله عنه، ونصّ على مَن أحدثه، أو تابع أهله وتوعّد فاعليه بالعذاب العظيم.

أمّا إذا كان وليّ أمر المسلمين هو الذي نظّمهم، ووزّع أعمال الحياة ومرافقها الدينية والدنيوية ليقوم كلٌّ بواجبه في جانب من جوانب الدين والدنيا، فهذا مش-روع بل واجب على وليّ أمر المسلمين.

إنّ مجرّد قيام جماعة أو حزب أو طائفة أو فرقة، وتميّزها عن جماعة المسلمين باسم غير الاسم الذي سمّى الله به الأُمّة (هو سمّاكم المسلمين) ، أو تميّزها بعقيدة أو عبادة لم يأذن بها الله في كتابه وسنّة نبيّه (ص) وسبيل المؤمنين من أصحابه، أو انعزالها بمركزٍ خاصٍّ أو أمير غير أُولي الأمر، أو بيعة دينية أو سياسية غير البيعة العامّة لوليّ الأمر، كلّ ذلك أو بعضه خروج عن جماعة المسلمين، وتشتيت لشملها، وتقطيع لأمرها زبراً، ينتهي بأهله إلى التعصّب والتنازع والفشل وذهاب الريح والموالاة في الحزب والمعاداة فيه، والحب فيه والبغض فيه بدعوى أنّ ذلك كلّه في الله.

ثمّ استعرض المؤلّف بعد ذلك، منهج جماعة التبليغ وجماعة الإخوان، واختتم كتابه بقوله: وما نشأ الضلال بين المسلمين ومعه التفرّق في الدين إلاّ بسبب الفكر الإسلامي منذ البداية عندما اتّجه بعض علماء المسلمين إلى الفكر اليوناني فكانت النتيجة: الحلاّج، وطيفور البسطامي، والغزالي، وابن عربي، وأحزابهم.

وكانت الفِرَق الباطنية ومنها الصوفية، حتّى وصل الأمر إلينا حيث فرّق الهوى والشيطان في مجتمعاتنا المسلمة المنتمية إلى السنّة من تبليغ وإخوان وحزب تحرير وجهاد إلى آخر منظومة التفرّق. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. (المؤمنون: 5٣)

وكلام المؤلّف هذا يوحي بأنّ الوهّابيّين كتلة وجماعة واحدة على نهج توحيدهم

ص:192

المزعوم، وهو الكلام الذي تردّده رموز الوهّابيّة في هذا الكتاب، وغيره من المنشورات الوهّابيّة، وهو الهدف من تأليف هذا الكتاب: حماية الجماعة الواحدة - جماعة الوهّابيّين - من التفرّق والنزاع، وحماية وليّ الأمر - آل سعود - أيضاً من أيّ تيّار جديد يشكّل خطراً عليه.

إلاّ أنّ الحقيقة أنّ الوهّابيّين هم أساس الفرقة والتنازع بين المسلمين اليوم، كما كان الحنابلة وابن تيمية من أسباب فرقة المسلمين بالأمس، فضلاً عن كونهم أساس الإرهاب الذي برز على ساحتهم.

والوهّابيّون حنابلة العصر قد فشلوا في بناء جماعة التوحيد الثابتة الأركان في جزيرة العرب، على الرغم من دعم آل سعود لهم، وفشلوا أيضاً في خارجها، وهم يدارون هذا الفشل بإلقاء التبعة على الجماعات الأُخرى التي سحبت البساط من تحت أقدامهم.

منهج التلقى

وفي سلسلة كتاب المنتدى، وهي سلسلة تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن أحد المراكز الوهّابيّة ببريطانيا، والذي يصدر مجلة (البيان) ، صدر كتاب تحت عنوان:

(منهج التلقّي والاستدلال بين أهل السنّة والمبتدعة) .

قال الوهّابّي في المقدّمة: لعلّ من أبرز أسباب التفرّق وظهور البِدَع والأهواء اضطراب الناس في مسألة التلقّي والاستدلال، فكم جرّ هذا التخبّط من انحرافات ومفاسد.

وكم من مبتدعٍ زائغٍ وزنديقٍ جائرٍ استطاع إفساد أديان الناس وعقائدهم بسبب جهل الناس بأُصول الاستدلال ومصادر التلقّي.

وكم من البِدَع والشركيات التي توارثها الناس جيلاً بعد جيل بسبب إعراضهم عن الكتاب والسنّة تلقيّاً وفهماً وتطبيقاً.

ص:193

ثمّ تحدّث عن ملامح التفكير والاستدلال الديني بين الجاهلية والإسلام، وحدّد هذه الملامح فيما يلي:

تعطيل الحواس والاعتماد على الخرافة والأساطير، وعدم تجاوز عالم الماديات، والتقليد الأعمى، وتعظيم طاعة الآباء والأجداد، وتقليد العلماء والعباد، واتّباع الظن والهوى، والمجادلة بالباطل، والمعاندة والاستكبار، والجحد بالحق بعد ظهور علاماته، والإعراض عن الحق واللجوء إلى الاستهزاء والسخرية، واستخدام القوّة في مواجهة الحق، والتشهير بالأنبياء والدعاة. . .

وهذا على مستوى الاستدلال الجاهلي، أمّا الاستدلال على المستوى الإسلامي فقد حدّده بمايلي:

تعظيم العلم والرفع من منزلته وذمّ الجهل والتحذير منه، و الإخلاص والتجرّد في البحث عن الحق، تحريم القول على الله بلا علم، والاعتماد على الحجّة والبرهان، والأمر بالنظر والتفكّر في آيات الله.

وفي الباب الثالث من الكتاب حدّد منهج أهل السنّة في التلقّي والاستدلال في حدود: كتاب الله، وسنّة رسوله، وإجماع السلف.

وحدّد أنّ هذه الأُمور الثلاثة تركّز على أُصول ثلاثة:

الأوّل: تعظيم النصوص الشرعية والانقياد لها، أي: نصوص السنّة.

الثاني: الاعتماد على الأحاديث الصحيحة حسب قواعد السلف.

الثالث: صحّة فهم النصوص على أساس فهم الصحابة والسلف.

ومقصده من هذا الكلام هو الإشارة إلى أنّ الوهّابيّين هم الذين يلتزمون بمنهج التلقّي والاستدلال الصحيح، فهم الذين يعظّمون العلم ويذمّون الجهل، ويتجرّدون في البحث عن الحق، ولا يقولون على الله بلا علم، ويعتمدون على الحجّة والبرهان، ويتفكّرون في آيات الله على أساس المصادر الثلاثة: الكتاب، والسنّة، والإجماع.

وهذا يعني أنّ الآخرين لا نصيب لهم من هذا كلّه لكونهم يعطّلون حواسهم،

ص:194

ويعتمدون على الخرافات والأساطير، ويتبنّون التقليد الأعمى، ويتبعون الظنّ والهوى، ويجادلوا بالباطل وسائر الصفات الأُخر التي ربطها الوهّابي بالجاهليين أو المخالفين للحنابلة والوهّابيّين من أهل السنّة وغيرهم.

والعجيب أنّه لا توجد في كتب أهل السنّة والحنابلة خاصّة، بالإضافة إلى كتب الوهّابيّين المعاصرين ما يدعم الاستدلال الصحيح، والتجرّد في البحث، واحترام العقل وحرّية الرأي والتفكير.

ولو كان الحنابلة والوهّابيّون الذين يدّعون تمثيل أهل السنّة اليوم - على ما صوّر هذا المؤلّف التائه - ما كان هذا حالهم، فقد انقسموا إلى فِرَق وشراذم متناحرة، تكفّر بعضها بعضاً في موطن دعوتهم وعقر دارهم، الأمر الذي يبدو بوضوح من خلال ذلك الكم الكبير من المنشورات التي يصدروها ما بين الحين والآخر لمقاومة تيّار التكفير الذي استشرى بينهم.(1)

وتحت عنوان: مسلك المبتدعة في التعامل مع النصوص الشرعية.

وفي الباب الثاني من الكتاب قال: تميز المبتدعة على اختلاف فرقهم بالتقديم بين يدي الله ورسوله (ص) ، وعدم تعظيم ما جاء في الكتاب والسنّة، وسأذكر في هذا الباب أُصولاً عامّةً لمنهج المبتدعة في الاستدلال تبيّن شيئاً من ضلالهم وانحرافاتهم، وهي:

الأصل الأوّل: ردّ النصوص الثابتة التي تخالف أهواءهم والجرأة في الاعتراض عليها.

الأصل الثاني: العبث في الأُصول الشرعية للاستدلال وتشويهها.

الأصل الثالث: ابتداع أُصول جديدة للاستدلال والتلقّي.

ويقصد بالنصوص هنا الروايات الثابتة عند أهل السنّة، خاصّة الحنابلة منهم، والتي هي غير ثابتة عند غيرهم، وقد استشهد المؤلّف بنصوص ابن تيمية لدعم


1- من نماذج هذه المنشورات: التبصير بقواعد التكفير، وضوابط تكفير المعيّن، والتحذير من فتنة التكفير، وفتاوى في الجماعات وجماعة واحدة لا جماعات، وغيرها.

ص:195

وجهته كما هو حال الوهّابيّين.

ويقصد بالعبث في الأُصول الشرعية التصديق بالقرآن دون السنّة.

ثمّ أضاف أُموراً أُخرى هي من باب الطعن والتشويه والتشكيك في الخصوم.

منها ادّعاء أنّ المخالفين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.

والكذب على رسول الله (ص) أو عدم الاعتناء بتنقيح السنّة.

وكتم النصوص وتحريفها والاستدلال بها من باب التعضيد لا من باب الاعتماد.

وردّ حديث الآحاد، والقدح في الصحابة، واتّباع الشبهات، وجهلهم باللغة العربية.

أمّا ما يقصده بابتداع أُصول جديدة للاستدلال والتلقّي فيقصد به: تقليد الأئمّة والشيوخ، والكشف والإلهام، والغلو في العقل.

وهذه الأُمور هي من باب المغالاة في نقد الخصوم، فالتصديق بالكتاب دون السنّة لا يمسّ إيمان المرء في شيء فإنّ الرسل إنّما يأتون بكتب معصومة لاروايات محل تصديق وتكذيب.

ولم يعرف في تاريخ الحركة العلمية في الإسلام أن برزت فرقة من بين المسلمين تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض.

أمّا الكذب على الرسول (ص) فهي تهمة يجب توجيهها للحنابلة والوهّابيّين لا لخصومهم، فهم الذين ينسبون للرسول أشكالاً وألواناً من الروايات التي تصطدم بالقرآن، وتمسّ شخصه المعصوم، وتقرّ الظلم والفساد، وتقود إلى التشبيه والتجسيم ممّا يُعدّ كذباً على رسول الله (ص) .(1)

كذلك لم يعرف أمر كتم النصوص بين المسلمين، إنّما المعروف أنّ المخالفين لأهل السنّة يقارعونهم بكلّ الحجج والبراهين المتاحة وعلى رأسها النصوص التي يحتجّون بها.


1- انظر نماذج من هذه الروايات في كتابنا دفاع عن الرسول ضدّ الفقهاء والمحدّثين.

ص:196

إنّ تهمة كتم النصوص الأولى بها الحنابلة والوهّابيّون الذين حرّفوا كتب التراث وعتّموا على بعضها، وعملوا على عزل الأُمّة عن الاتّجاهات الأُخرى وإلزامها بنهجهم وأفكارهم.

والباحث المنصف يتبيّن له على الدوام أنّ الحنابلة والوهّابيّين، هم القضاة وهم الجلاّدون؛ إذ إنّهم يحكمون على الآخرين، ويتقوّلون عليهم، وينسبون لهم الزور والبهتان، من خلال مصادرهم خاصّةً مصادر ابن تيمية، دون إعطاء الفرصة للمسلمين للاطّلاع على المناهج والاتّجاهات الأُخرى، بل حذّروا المسلمين وأرهبوهم منها.

ولو أُتيحت الفرصة لأيّ مسلمٍ صاحب عقل وبصيرة للاطّلاع على كتب خصوم الحنابلة والوهّابيّين فسوف يكتشف على الفور هشاشة الطرح الحنبلي الوهّابي.

أمّا ردّ حديث الآحاد، فليس تهمة، فقد أبدى العديد من الفقهاء على مستوى الماضي والحاضر تشكيكهم فيه، إلاّ أنّ الحنابلة والوهّابيّين يدافعون عنها بقوّة؛ لكون المساس بها يمسّ عقائدهم التي تقوم على أساس هذه الأحاديث.

كذلك مسألة القدح في الصحابة - إن صحّت - لا تمسّ جوهر الإيمان في شيء إلاّ أنّ أهل السنّة، خاصّةً الحنابلة، جعلوها من العقائد واعتبروا المساس بها يُعدّ مساساً بالعقيدة.

والحق أنّه لا يوجد ما يسمّى بالقدح أو السب إنّما هناك مواقف نقدية، وصور من الرفض لبعض الصحابة من قِبَل الشيعة وغيرهم، وأدّى تعصّب أهل السنّة للصحابة والقول بعدالتهم أجمعين، خاصّةً معاوية، إلى اعتبار المخالف لهذا المعتقد ضالاًّ مبتدعاً، وعدّوا نقد الصحابة سبّاً لهم، وهو ما سهّل تحريض العامّة عليهم.

واتّهام الخصوم باتّباع المتشابهات صورة من صور التجنّي، كذلك اتّهامهم بالجهل باللغة العربية فمصادر الاتّجاهات الأخرى تنفي هذا الادّعاء.

وفيما يتعلّق بتقليد الأئمّة والفقهاء، فهو نهج سائد في جميع المذاهب، وأهل السنّة في

ص:197

مقدّمة المقلّدين، وحنابلة العصر من الوهّابيّين وفرقهم المختلفة غالوا في تقليد سلفهم، وابن تيمية، وابن عبدالوهاب خاصّةً، وتشهد على ذلك مصادرهم، واعتبار المؤلّف الكشف والإلهام والغلو في العقل من أُصول المبتدعة إنّما يقصد به الشيعة والصوفية وأصحاب الرأي، وهو بهذا يردّد كلام الحنابلة القدامى وابن تيمية.

الاستهزاء بالدين وأهله

ويقصد بهذا المنشور إرهاب الخصوم وتخويفهم من المساس برموز الوهّابيّة أو أتباعها.

يقول صاحبه في مقدّمة منشوره: انظر مثلاً إلى كلام ينش-ر ويقرأ لشعراء الحداثة اليوم حري بأن يُسمّى بالإسهال الفكري، تجد فيه كفراً بوّاحاً، ثمّ تأمّل أحوال كثير من الإعلاميين تجد صنوفاً من السخرية والاستهزاء والضحك على ثوابتنا وقيمنا الشرعية، بل وصل الحال إلى أنّ بعض المحسوبين على الدعوة والثقافة الإسلامية يهزأ أو يغمز ليلاً ونهاراً بالمتمسّكين بسنّة الرسول (ص) ، ويصفهم بأصحاب العقول المريضة والسفهاء، بل وسخر من معجزات رسول الله الثابتة في البخاري ومسلم.

ويقدّم المؤلّف أمثلة على الاستهزاء بالرسول فيقول: ومن السخرية بسنّة رسول الله ما هزأ به محمّد الغزالي حين أورد حديث: لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة، يسخر من هذا الحديث، ويذكر أنّ بلقيس وفكتوريا وانديرا غاندي وجولدا مائير قد أفلحن بأُممهنّ إلى آخر ما ذكر، مع أنّ هذا الحديث مخرج في صحيح البخاري.

ومن السخرية برسول الله السخرية بالرجال الذين حملوا دينه.

وآخر يقول: حدّثنا الشيخ إمام، عن صالح بن عبد الحي، عن سيّد درويش، عن أبيه، عن جدّه، وهذا منتهى السخرية والجرأة على حملة دين الله الذين هم رجال الإسناد.

كذلك السخرية والاستهزاء ببعض مسائل عقيدة أهل السنّة والجماعة.

وينقل فتوى لابن باز في هذا الشأن تقول: الاستهزاء بالإسلام أو بش-يءٍ منه كفر

ص:198

أكبر، ومَن يستهزئ بأهل الدين والمحافظين على الصلوات من أجل دينهم ومحافظتهم عليه، يعتبر مستهزءاً بالدين، فلا تجوز مجالسته ولا مصاحبته، بل يجب الإنكار عليه والتحذير منه ومن صحبته، وهكذا مَن يخوض في م-سائل ال-دين بالسخرية والاستهزاء يُعتبر كافراً.

ثمّ يستطرد في بيان صور الاستهزاء والسخرية فيقول عن الساخرين من اللحية: أتهزأ باللحية أيّها الساخر وأنت تتجاهل أنّها خلق الله وتصويره.

أتهزأ باللحية أيّها المستهزئ وهي سنّة رسول الله (ص) الواجبة.

واستنجد بفتوى صادرة عن أحد رموز الوهّابيّة من أحفاد محمّد بن عبد الوهاب حين سُئل عن الذي يقول: إنّ اللحية وساخة هل يعتبر مرتدّاً؟

فأجاب بقوله: فيه تأمّل، إن كان يعلم أنّه ثابت عن الرسول فهذا استهزاء بما جاء به الرسول، فحري أن يحكم عليه بذلك، أي: بالردّة.

ثمّ تحدّث عن السخرية بالمؤمنين فقال: إنّه الغمز واللمز والضحك الذي يمارسه كلّ مجرم ضدّ كلّ موحِّد.

وقال: وهذا الجرم لم يقتصر فعله على أعداء الدين، بل وقع حتّى من أُناس يحسبون على الدعوة والدعاة، فهذا محمّد الغزالي يسخر بعلماء الحنابلة وهو يعلّق على كلام الرسول (ص) : مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلّين العص-ر إلاّ في بني قريظة، فيقول: لو كان هؤلاء الحنابلة المتشدّدون حاضرين لقالوا لِمَن استعجل الصلاة: يا عدوّ الله ورسوله تعصي النبي وترفض عزيمته علينا إنّ هذا نفاق، كيف تصلّي في الطريق وقد أمرنا بالصلاة في بني قريظة؟

وعدّ هذا القول من باب السخرية بعلماء الأُمّة.

وتوعّد المستهزئين بالخزي والعار والنار والهلاك، وذلك بعد أن حشد كمّاً كبيراً من النصوص القرآنية التي تتحدّث عن مصير أقوام الرسل الذين عاندوهم وكفروا برسالاتهم، هلاك في الدنيا وفي الآخرة عذاب عظيم.

ص:199

وفي ختام الكتاب طالب المسلم بعدم موالاة الهازلين الساخرين المستهزئين، والإعراض عنهم، وعدم مجالستهم ضارباً المثل بابن عبد الوهاب الذي عانى من سخرية قومه ونفورهم منه فما زاده هذا الأذى إلاّ شجاعةً في الحق وصدعاً بالدعوة إلى التوحيد الخالص وإعلان البراءة من الشرك وأهله.

براءة أهل السنّة من الوقيعة في علماء الأُمّة

وهو منشور موجّه لبعض خصوم الوهّابيّة من المعاصرين الذين نالوا من: ابن تيمية، وابن القيّم، والبخاري، وفقهاء الحنابلة، وفقهاء الحديث.

وقد افتتح المنشور برسالة ابن باز إلى كاتبه يقول فيها: أمّا بعد فقد اطّلعت على الرسالة التي كتبتم بعنوان: (براءة أهل السنّة) وفضحتم فيها المجرم الآثم محمّد زاهد الكوثري بنقل ما في كتبه من السبّ والشتم والقذف لأهل العلم والإيمان، واستطالته في أعراضهم، وانتقاده لكتبهم إلى آخر ما فاه به ذلك الأفّاك الأثيم عليه من الله ما يستحق، كما أوضحتم أثابكم الله تعلّق تلميذه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة به، وولائه له وتبجّحه باستطالة شيخه المذكور في أعراض أهل العلم والتقى.

ونقل الكاتب ما قاله في ابن القيّم، وهو في غاية الحس-رة والألم إذ قال: رميه ابن القيّم بألفاظ متعفّنة يأبى الطبع سماعها، حشرها في رسالة واحدة هي (تبديد الظلام المخيّم من نونية ابن القيّم) الذي علّقه على كتاب السبكي: ( السيف الصقيل في الردّ على ابن زفيل) ونونيّته التي أنكر فيها المجاز؛ سيراً على نهج شيخه في القول بالتجسيم والتي سمّاها: (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية) ثمّ علّق الكاتب على مَن رمى ابن القيّم قائلاً: لا يزيد عنه في الخروج على الإسلام والمسلمين، لا الزنادقة ولا الملاحدة ولا الطاعنون في الشريعة.

ونقل ما قاله أبو غدة في ابن تيمية: بل هو وارث علم صابئة حرّان حقّاً والمستلف من السلف ما يكسوها كسوة الخيانة والتلبيس، ومَن اتّخذه إماماً إنّما اتّخذه إماماً في الزيغ والشذوذ من غير أن يتهيّب ذلك اليوم الذي يُدعى فيه كلّ أُناسٍ بإمامهم.

ص:200

يقول الكاتب متابعاً: ثمّ اعتدى اعتداءً سافراً فسلق كلّ مَن كان سلفياً على اعتقاد أهل السنّة والجماعة من علماء الحديث في قديم الدهر وحديثه؛ وذلك بنسبتهم إلى الممالك الكافرة التي محاها الإسلام.

وفي ختام منشوره قال: أيّها الراغب في السنّة اعتبر اعتبار أُولي الأبصار وكن من كتب عصبة التعصّب على تقيّة فإنّها ليست بتقيّة وفيها دسائس خفيّة، وتبصّ-ر أيّ الفريقين أحقّ بالأمن من الهوى وغلبة العصبية، واحذر العزو إليها فإنّ فوتها غنيمة والظفر بها هزيمة.

ثمّ حدّد ما يدور حوله الخصوم الطاعنين في السلفية الحنبلية من خلال كلام الكوثري وتلميذه، وأنّهما اعتمدا على الأُمور التالية:

التزام التقليد الأصمّ والعصبية، والميل للأشاعرة، وتبنّي نهج القبور، وانساب قلمهما في قذف وتكفير الأبرياء والتنقّص للأوفياء، أي: الحنابلة الوهّابيّين.

ونتج عن هذه الأُمور - حسبما قال - أُموراً أُخرى جرّتهما إلى ما يلي:

التنكّر لعلماء السلف، والمغالاة في التقديس، واحتضان البِدْعة، والدنية بالدين.

تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين

ومؤلّف هذا الكتاب كان قاضي المحكمة الشرعية الأُولى في قطر، وله مؤلّف آخر تحت عنوان:

( نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين)

يبدأ المؤلّف كتابه بالحديث عن نشأة البِدَع في الإسلام ملقياً بتبعة نشأتها وظهورها على الفِرَق والاتّجاهات الأُخرى.

وحدّد أسباب انتشار البِدَع ورواجها في الأُمور التالية:

سكوت كثير من العلماء، وتأييد الحكّام، والقول في الدين بغير علم، والجهل بالسنّة.

ولنا مع هذا الكلام وقفات، فإنّ سكوت العلماء عمّا يدّعيه الحنابلة والوهّابيّين من انتشار البِدَع لا يعني إلاّ شيئاً واحداً وهو أنّ هؤلاء العلماء لا يعدّونها بِدَعاً، وإنّما هي

ص:201

بِدَع من منظور الحنابلة وحدهم.

أمّا تأييد الحكّام فلا ينكر أنّ الحكّام دعموا المعتزلة والأشاعرة والصوفية في فترات تاريخية متقطّعة، وهم خصوم الحنابلة، لكنّهم دعموا الحنابلة أيضاً، ولولا هذا الدعم ما كان للحنابلة وجود.

وهل غفل هذا القاضي عن دعم آل سعود لمحمّد بن عبد الوهاب وأنّه لولا هذا الدعم لما كان للوهّابيّة وجود؟

فهل يُعدّ دعم الحكّام للحنابلة والوهّابيّين نصرة للإسلام أم لأهل البِدَع؟

والجواب عند الحنابلة والوهّابيّين نصرة للإسلام بالطبع.

والقول في الدين بغير علم دعوى حنبلية باطلة يرفعونها على الدوام في مواجهة خصومهم، الذين يصمونهم بالجهل على الدوام، بينما هم يخوضون في الدين بعلم وعقل، ولكي تكون على علم في منظور الحنابلة لابدّ وأن يتّفق هواك مع هواهم، وتدين برواياتهم وتعتقد معتقداتهم، ثمّ بعد ذلك خض في الدين كيف تشاء فيصبح قولك مأثوراً.

ثمّ يواصل المؤلّف هجومه على الخصوم في فصل تحت عنوان: شبهات منكري الاحتجاج بالسنّة والاكتفاء بالقرآن فقط، خاصّةً الذين ينكرون الاحتجاج بأحاديث الآحاد.

وقد حشد في هذا الفصل بعض الأحاديث التي يبرهن بها على اتّباع النبي (ص) في كلّ شيء، وغاب عنه أنّ الأمر ليس في إنكار اتّباع النبي، الذي لم يقل به أحد، لكنّه يبرهن على ذلك بالروايات.

وهو بهذا يبرهن على دعواه بنصوص دعواه وهي سقطة منطقية من قبله يُعذر فيها لكونه ليس من المؤمنين بالمنطق والعقل، بل من المجرمين له سيراً مع سنّة الحنابلة.

والتطبيق الحقيقي لاتّباع الرسول (ص) في كلّ شيء يتمثّل في الالتزام بالقرآن الذي جاء به، لا الالتزام بالروايات المنسوبة إليه، وهي محلّ خلاف بين المسلمين.

ص:202

ويواصل المؤلّف مشيراً إلى بِدْعة التعصّب المذهبي، وسؤال وجّه إلى ابن تيمية حول هذه المسألة، وجوابه الذي يتلخّص في: أنّ الرواية أو الحديث النبوي هي المقدَّمة ولا يجوز تقديم المذاهب عليها. ورفض المؤلّف فكرة تقسيم البِدَع إلى بِدْعةٍ سيئة، وبِدْعةٍ حسنة، منكراً أدلّة البعض على تحسين البِدَع رادّاً على أدلّتهم مؤكّداً أنّ كلّ بِدْعة ضلالة.

ثمّ سلك المؤلّف بعد ذلك نهج الوهّابيّة في رفض التوسّل وزيارة الأضرحة، معتبراً ذلك من صور الشرك، أو من البِدَع الاعتقادية، على حدّ تعبيره، آخذاً الصوفية في طريقه، وقد عدّ الكثير من مبادئها من البِدَع الضالة.

واعتبر أيضاً أنّ التأويل من البِدَع التي ظهرت في واقع المسلمين على يد المأمون العبّاسي.

كذلك الأعياد، مثل: عيد الميلاد، وعيد النيروز، وشمّ النسيم، وأنّ هذه البِدَع من باب مشابهة الكفّار.

وألحق المؤلّف بكتابه فصلاً يحوي بعض الأسئلة عن البِدَع الاعتقادية الواردة إليه من الهند وأجوبتها، منها: مسألة الصلاة على النبي (ص) جهراً وجماعةً بعد صلاة فجر الجمعة، ومسألة البناء على القبور، ومسألة الموالد.

أمّا القسم الثاني من الكتاب فقد خصّصه لما أسماه بِدَع العبادات والجنائز والشهور والمواسم والأعياد وبِدَع النساء.

وعدّ المؤلّف من أقبح البِدَع موافقة المسلمين للنصارى في أعيادهم أو الإهداء إليهم فيها أو تهنئتهم.

ولم ينس المؤلّف أن يختم كتابه بذكر مناقب الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة، وعرض مفهوم أهل السنّة لأهل البيت.

والهدف من وراء هذه الخاتمة هو مواجهة المبتدعة الشيعة الذين يتبنّون رؤيةً مخالفةً في الصحابة وأهل البيت وتحصين الأتباع تجاههم.

والشيعة هم التحدّي الأكبر الذي يواجه حنابلة العصر الوهّابيّين، وهم يمثّلون

ص:203

الاتّجاه الوحيد الذي يشكّل خطراً عليهم ويرصد نصوصهم ورواياتهم، فمن ثمّ ركّزوا عليهم أكثر من الصوفية، وأصدروا فيهم أكبر كم من المنشورات التي تحرّض المسلمين عليهم.

بل وصل بهم الأمر إلى التحالف مع النظام البعثي الحاكم في العراق، والذي يكفّرونه ضدّ إيران الشيعية، والتي كانت تخوض حرباً ضدّ العراق أضفوا عليها المشروعية، ثمّ حاق المكر الس-يء بهم وانقلب صدّام عليهم حين غزا الكويت فاضطرّوا للانقلاب عليه.

وقبل وداع القارئ قدّم المؤلّف النصائح والتوجيهات التالية:

- نشر السنّة بين المسلمين وتفهيمهم سنّة سيّد المرسلين، ولا سيّما في باب العقائد والعبادات.

- رفض التعصّب لمذهب، أو لرأي، أو لاجتهاد من الاجتهادات.

- منع العامّة من القول في الدين.

- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

العواصم من القواصم

وهو من وضع أبي بكر ابن العربي القاضي المالكي (ت54٣ه) ، والذي طرح من خلاله العديد من الرؤى، وقدّم من خلاله رؤية تحقيقية لمواقف الصحابة وممارساتهم بعد وفاة رسول الله (ص) ؛ ليكون وثيقة إرهابية تلجم العقول وتمنع الخوض فيما دار ووقع بينهم، فقام الوهّابيّون بحذف كلّ ما لا يخدم مذهبهم من الكتاب، واكتفوا بما ذكره حول الصحابة لكونه يخدم توجّههم، وقاموا بتحقيقه والثناء على صاحبه على الرغم من كونه من أهل المذاهب التي يبغضونها ويحاربون أهلها؛ وذلك لكونه يخدم أغراضهم ويسير في الاتّجاه الداعم لأفكارهم.(1)


1- يقوم الوهّابيّون بتزوير العديد من كتب التراث، وحذف النصوص التي لا تخدم مذهبهم منها، وهو ما فعلوه في كتاب العواصم من القواصم، انظر لنا كتاب أكاذيب الوهّابيّة.

ص:204

واعتبر ابن العربي ما وقع من خلاف وصدام بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة قاصمة.

أمّا العاصمة فهي تدارك الله الإسلام والأنام بأبي بكر وعمر.

وما نُسب إلى عثمان من مظالم ومناكير هو من القواصم.

أمّا العاصمة فهي الإيمان ببطلان ما نُسب إليه.

وما دار من خلاف حول بيعة الإمام علي، وكذلك ما وقع في صِفّين من قتال هو قاصمة.

أمّا مجيء أصحاب الجمل وقتالهم لعلي فهو من العواصم.

ثمّ يبرهن الكتاب بعد ذلك على صحّة مواقف معاوية ومش-روعية الخطّ الأموي محاولاً تلميع الأمويين وتبييض وجه يزيد بن معاوية خاصّةً.

وهذا الكتاب كُتب خصّيصاً لمواجهة الشيعة الذين يتبنّون رؤيةً في الصحابة تمثّل إزعاجاً كبيراً لأهل السنّة الذين لم يجدوا سبيلاً لمواجهتها إلاّ بتحريم الخوض فيما جرى ووقع بعد وفاة الرسول (ص) وجعل هذا التحريم من النصوص العقائدية.

ولم ينس المؤلّف أن يحشد في كتابه عشرات التبريرات والتأويلات التي تصطدم بالفطرة والعقل وتجعل منه أشبه بنشرة حكومية تهدف إلى إلجام العقول وكتم الأفواه وتعمية العيون؛ كي تظلّ الأُمّة في الطريق الذي يخدم مصالح الحكّام.

ولم ينس المؤلّف - أيضاً - أن يرشد المسلمين إلى عاصمةٍ هامّة في نهاية كتابه، وهي تحذيرهم من كتب المفسِّرين والمؤرِّخين وأهل الآداب وجميع هؤلاء من أهل السنّة.

قال: إنّما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق، وخاصّةً من المفس-ّرين والمؤرّخين وأهل الآداب، فإنّهم أهل جهالة بحرمات الدين، أو على بِدْعة مصرّين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلاّ عن طريق أئمة الحديث، ولا تسمعوا لمؤرِّخٍ كلاماً إلاّ الطبري، وغير ذلك هو الموت الأحمر والداء الأكبر، فإنّهم ينشئون أحاديث استحقارِ الصحابة والسلف والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال

ص:205

عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا، وعن الحق إلى الهوى، فإذا قاطعتم أهل الباطل، واقتصرتم على رواية العدول؛ سلمتم من هذه الحبائل ولم تطووا كشحاً على هذه الغوائل.

ومن أشدّ الأشياء على الناس جاهل عاقل أو مبتدع محتال.

فأمّا الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يبق ولم يذر للصحابة رسماً في كتابه (الإمامة والسياسة) إن صحّ عنه جميع ما فيه.

وكالمبرّد في كتابه الأدبي وابن عقلة من عقل الثعلب الإمام في أماليه، فإنّه ساقها بطريقة أدبية سالمة من الطعن على أفاضل الأُمّة، وأمّا المبتدع المحتال فالمسعودي فإنّه بما يأتي به منه متاخمة الإلحاد فيما روى من ذلك، وأمّا البِدْعة فلا شك فيه.

فإذا صنتم أسماعكم وأبصاركم عن مطالعة الباطل، ولم تسمعوا في خليفة ممّن ينسب إليه ما لا يليق، ويذكر عنه ما يجوز نقله، كنتم على منهج السلف سائرين وعن سبيل الباطل ناكبين.

وقد أطلق المؤلّف سهامه على المأمون العبّاسي والواثق من بعده لقوله بخلق القرآن ودعمه للشيعة والمعتزلة، وإشاعته لكتب المنطق والفلسفة وأهل الرأي والأدب مثل الجاحظ.

وعدّ القول بخلق القرآن بِدْعة أشدّ من بِدْعة شرب الخمر والزنا والغناء والفسق الذي ارتبط بالخلفاء.

والمقصود بهذا الكلام أنّ المأمون لو كان من الزناة والفسّاق ملازم للمنكرات ولم يكن من القائلين بخلق القرآن لكان مقبولاً عنده وعند الفقهاء كحال بقيّة الخلفاء، وعلى رأسهم يزيد الفاسق، والمتوكّل المجرم، الذين عدّوهم من الأئمّة الواجب طاعتهم والصلاة والحج والجهاد من ورائهم.

والمسألة عند هؤلاء على ما هو ظاهر ليست مسألة قيم وحقوق وواجبات وإنّما مسألة مذهب، فمَن وافقهم من الحكّام على مذهبهم فهو على الصراط المستقيم، ولو

ص:206

كان فاجراً جبّاراً، ومَن خالف مذهبهم فهو على صراط الشيطان الرجيم ولو كان عادلاً رحيماً.

وهذه اللغة الانفعالية المتطرّفة لا تحمل أيّ صورةٍ من صور الاحترام والتقدير للآخر، وهي نفس لغة الحنابلة، من أجل ذلك رحّب الوهّابيّون بهذا الكتاب واحتفوا به واعتمدوه؛ ليصبح من الكتب المتداولة بين الفِرَق التي خرجت من تحت عباءتهم.

وجملة: يعتبر ابن العربي الخوض وإعمال العقل فيما دار وجرى بين الصحابة بعد رحيل الرسول (ص) من القواصم، أمّا تعطيل العقل في مواجهتها والمرور عليها مرور الكرام وكأنّها حوادث وقعت في المنام فهو في منظوره من العواصم.

من هنا قامت بتحقيق هذا الكتاب ونشره بين المسلمين عدّة جهات وهّابيّة، تركت بصمتها الواضحة عليه وأضافت ما يمكن إضافته من روايات وأقوال لابن تيمية تزيده قوّةً وتأثيراً، وتدعم الموقف الانهزامي من الحكّام، وتبرّر جرائمهم في حقّ الإسلام والمسلمين وفي مقدّمتهم: يزيد بن معاوية.

ولم يعجب الوهّابيّون موقف ابن العربي من الطبري، خصم الحنابلة وخصمهم، فلم ينسوا الإشارة إلى ذلك في تعليقاتهم؛ حتّى لا يضلّ القارئ وينساق وراء الطبري الضال في منظورهم.

وشنّ واحد من الوهّابيّين الذين حقّقوا هذا الكتاب حرباً شعواء على الفلسفة والفلاسفة، التي كانت من موضوعات الكتاب وتمّ حذفها، مؤكّداً أنّ فقهاء السلف قد حرّموا دراسة الفلسفة ونادوا بالاعتصام بالسنّة في مواجهتها.

كشف الأوهام والالتباس عن تشبه بعض الأغبياء من الناس

قال المؤلّف في مدخل الكتاب رأيت سؤالاً هذا نصّه: ما يقول الشيخ في أُناس تنازعوا فقال بعضهم: الجهمية كفّار والذي ما يكفّرهم كافر، واستدلّوا على ذلك بقول بعض العلماء: مَن لم يكفّر المشركين أو شكّ في كفرهم فهو كافر.

ص:207

وقال الآخرون: أمّا قولكم الجهمية كفّار فهذا حق إن شاء الله ونحن نقول بذلك، وهو قول جمهور العلماء من أهل السنّة والجماعة، كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتابه: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد في الكلام على أوّل باب، مَن جحد شيئاً من الأسماء والصفات، وكما ذكر أيضاً في جوابه على شبهة الجهمي ابن كمال المذكور في مجموعة التوحيد، وكما ذكره ابن القيّم في الكافية الشافية.

وأمّا قولكم والذي ما يكفّرهم كافر فهو باطل مردود لما ذكره هؤلاء الأعلام من تكفير جمهور أهل السنّة للجهمية، وعدم تكفير الباقين من أهل السنّة لهم، أفيجوز تكفير مَن لم يكفّرهم من العلماء المذكورين أو غيرهم مع ذلك؟

وهل رأيت أحداً من أهل العلم كفّر هؤلاء العلماء الذين لم يكفّروا الجهمية؟

وهذا الكلام لم يعجب الوهّابي المتطرّف صاحب هذه الرسالة فقام على الفور مشهراً حرابه في وجه الشيخ صاحب الإجابة مع أنّه من الوهّابيّين الموحّدين، وصنّف هذه الرسالة في الردّ على الشيخ حيث قال: هذا الرجل لم يطلع على أقوال الطوائف ولا انتهى إلى غاية مرامهم ونهاية أقدامهم، ولا عرف ما في كتب الناس، فلأجل عدم معرفته بأحوال هذه الطبقة، وهم جهّال المقلّدين للجهمية ولعبّاد القبور وقع فيما لا مخلص منه.

واستعرض العديد من الأقوال لابن حنبل، والخلاّل، واللالكائي، وابن خزيمة، وابن تيمية، وابن القيّم، وغيرهم، في كفر الجهمية؛ وأنّ ذلك قول عامّة أهل العلم، رافضاً بقوّةٍ فكرةَ استثناء أحدٍ منهم من التكفير، أو استثناء أحدٍ ممّن لم يكفّرهم على مستوى الجهمية القدامى، أو مَن يقول بقولهم على مستوى الحاضر.

وقال: قد ذكر أهل العلم إنّ مَن لم يكفّر المشركين، أو شكّ في كفرهم فهو كافر، كما قال الشيخ محمّد بن عبد الوهاب في نواقض الإسلام العشرة: مَن لم يكفّر المشركين، أو شكّ في كفرهم، أو صحّح مذهبهم فهو كافر.

ص:208

وقال: قد بيّن ابن القيّم في الطبقات تنويع الجهّال المقلّدين لأهل الكفر من الجهمية، وعبّاد القبور، وغيرهم، وفصّل النزاع وأزال الإشكال، فقال في الطبقة السابعة عشر: طبقة المقلّدين وجهّال الكفرة وأتباعهم، وحميرهم الذين هم معهم تبع يقولون: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ (الزخرف: ٢٣) ، ولنا أسوة بهم ومع هذا فهم مسالمون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، وقد اتّفقت الأُمّة على أنّ هذه الطبقة كفّار، وإن كانوا جهّالاً مقلّدين لرؤسائهم وأئمّتهم إلاّ ما يحكى عن بعض أهل البِدَع أنّه لم يحكم بهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة مَن لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهبهم لم يقل به أحد من أئمّة المسلمين لا الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم، وإنّما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام، فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفّاراً.

وقال صاحب الرسالة معلِّقاً: انظر أيّها المنصف كلام ابن القيّم وتكفيره لهؤلاء الجهّال المقلّدين للمعاندين، وهذا الرجل الذي أعمى الله قلبه يقول: إنّ بعض أهل السنّة لا يكفّرون الجهمية، أفيجوز تكفير مَن لم يكفّرهم العلماء المذكورين، وأمّا جمهور العلماء فهم يكفّرونهم، ومراده بذلك الردّ على مَن قال من العلماء بتكفير مَن لم يكفّر الكافر، والعلماء لم يختلفوا في تكفير الجهمية النفاة المعطّلة للذات والأسماء والصفات، بل قد اتّفقت الأُمّة على تكفير الأتباع الجهّال المقلّدين لرؤسائهم وأئمّتهم الذين هم تبع لهم. ويؤكّد صاحب الرسالة أنّ جهمية العصر قد بلغتهم الدعوة وقامت عليهم الحجّة فلا حرج في تكفيرهم فهم على علمٍ وبيّنة لا تقتضي الشك في كفرهم.

وقال: وإذا كان هؤلاء أهل بِدْعة وضلالة فما المسوّغ للذبّ عنهم والمجادلة دونهم بالباطل ومعاداة مَن عاداهم، وإظهار الشناعة عليهم لولا متابعة الهوى وحميّة الجاهلية.

ونقل عن اجتماع الجيوش الإسلامية قول ابن القيّم عن ابن تيمية: المقصود أنّ هؤلاء الأتباع المقلّدين للجهمية إمّا أن يكونوا زنادقة مقلّدين لزنادقة مستبص-رين،

ص:209

وإمّا أن يكونوا من النوع الذين يردّون كثيراً من نصوص الوحي إذا وردت إليهم مخالفة لما تلقّوه أسلافهم وذوي مذهبهم ومَن يحسنون به الظن، فإذا تبيّن لك أنّ هؤلاء الجهمية زنادقة مستبصرين، وأنّ أتباعهم المقلّدين لهم إمّا أن يكونوا زنادقة مقلّدين لهؤلاء الزنادقة المستبصرين، وإمّا أن يكونوا من النوع الثاني، إذا عرفت هذا يتبيّن لك خطأ مَن زعم أنّ لأهل العلم فيهم قولين.

ويبدو من خلال هذه الرسالة أنّ كاتبها يصرّ على تكفير جميع المسلمين، ويدعم موقفه بأقوال ابن تيمية وابن القيّم وابن عبد الوهاب وغيرهم ممّن وضعوا الأساس لثقافة الإرهاب في تاريخ المسلمين.

ومن المعروف أنّ أكثرية المسلمين من قديم يتبنّون العقائد الأشعرية والماتريدية المتصادمة مع عقائد الحنابلة، ويتبنّون التأويل في مواجهة النصوص المتعلّقة بالصفات، وإصرار الكاتب على موقفه يعني تكفير جميع المسلمين، بالإضافة إلى عدم التسامح مع الذين يحاولون التهرّب من فكرة التكفير من الوهّابيّين وهو ما يعني تكفيرهم أيضاً.

وهو يرفض رفضاً تامّاً فكرة العذر بالجهل التي تبنّاها العديد من الفقهاء في الماضي، وتبنّتها أيضاً بعض الجماعات الوهّابيّة المعاصرة في مواجهة مَن يجهلون أُصول الدين، ويأتون بأفعال تتناقض مع هذه الأصول.

وكانت فكرة العذر بالجهل من الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى انشقاق الجماعة الإسلامية عن فرقة الجهاد في مصر، بسبب إصرار فرقة الجهاد على عدم عذر رجال الأمن الذين يتربّصون بهم ويعتقلونهم ويعذّبونهم، واعتبارهم كفّاراً لكونهم يدافعون عن نظام كافر، وهي نفس الفكرة التي تبنتها فرقة التكفير حين برزت لأوّل مرّةٍ داخل معتقلات عبد الناصر في منتصف الستينيات.

أمّا الجماعة الإسلامية فقد تمسّكت بأقوال فقهاء السلف، وقالت بعذر هؤلاء

ص:210

لجهلهم، وهو ما يعني: أنّ صاحب الرسالة الوهّابي يغالط ويدّعي الإجماع على تكفير الأتباع من قِبَل الفقهاء؛ وهو ما نقله عن شيوخه: ابن تيمية، وابن القيّم، وابن عبدالوهاب الذين يتحصّنون دائماً بفكرة الإجماع من باب تضليل المسلمين.(1)

فتاوى مهمّة لعموم الأُمّة

وهذه الفتاوى لابن باز وابن عثيمين معاً، وفيها:

لو أنّ رجلاً يقرّ إقراراً كاملاً بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات لكن يذهب إلى القبر فيعبد صاحبه أو ينذر له قرباناً يتقرّب إليه فإنّه مش-رك كافر خالد في النار.

ومن الشرك الأكبر المخرج من المِلّة أنْ يدعو غير الله عزّ وجلّ، مثل أن يدعو صاحب قبر أو يدعو غائباً ليغيثه.

وقد تكون البِدْعة في الدين عقيدة أو عبادة قولية أو فعلية كبدعة نفي القدر وبناء المساجد على القبور وقراءة القرآن عندها للأموات، والاحتفال بالموالد والاستغاثة بغير الله، والطواف حول المزارات، فهذه وأمثالها كلّها ضلال لكن منها ما هو شرك أكبر يخرج من الإسلام كالاستغاثة بغير الله، والذبح والنذر لغير الله إلى أمثال ذلك ممّا هو عبادة مختصّة بالله، ومنها ما هو ذريعة إلى الشرك كالتوسّل إلى الله بجاه الصالحين.

والاحتفال بالموالد هو من البِدَع المحدثة، ومن التشبّه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم، والاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البِدَع المحدثات، وغالب هذه الاحتفالات بالموالد مع كونها بِدْعة لا تخلو من اشتمالها على منكرات أُخرى كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب


1- كان أوّل مَن قنّن لفكرة تكفير المسلمين هو سيّد قطب، الذي قامت على أساس أفكاره فرقة التكفير وفرقة الجهاد من بعد، انظر تفاصيل هذا الأمر وغيره في كتابنا الحركة الإسلامية في مص-ر، وكتابنا الجنّة والنار سيرة الجماعات الإسلامية.

ص:211

المسكر والمخدرات، وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك وهو الشرك الأكبر؛ وذلك بالغلو في رسول الله (ص) ، أو غيره من الأولياء، ودعاء الاستغاثة وطلبه المدد، واعتقاد أنّه يعلم الغيب، وغير ذلك من الأُمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي (ص) ، وغيره ممّن يُسمّون بالأولياء.

والاحتفال بليلة القدر، أو النصف من شعبان، أو ليلة الإسراء والمعراج، كلّ ذلك بِدْعة.

وقد ثبت عن أصحاب رسول الله والسلف التحذير من البِدَع والترهيب منها، وما ذاك إلاّ لأنّها زيادة في الدين وشرع لم يأذن به الله، وتشبّه بأعداء الله من اليهود والنصارى.

وجاء سؤال يقول: هل يعتبر الشيعة في حكم الكافرين؟

وهل يدعو المسلم الله تعالى أن ينصر الكفّار عليهم؟

وكان الجواب هو: الصواب أن يقال الرافضة، كما وصفهم ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم، حيث قال: إنّهم أكذب طوائف أهل الأهواء وأعظمهم شركاً، فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم ولا أبعد عن التوحيد، حتّى أنّهم يخرّبون مساجد الله التي يُذكر فيها اسمه فيعطّلونها عن الجُمَع والجماعات، ويعمّرون المشاهد التي أُقيمت على القبور.

وقال: الرافضة أُمّة مخذولة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة.

وقال في الفتاوى ج٣ / ٣56: ومنهم ظهرت أُمّهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم.

وأمّا خطر الرافضة على الإسلام فكبير جدّاً، وخطرهم يأتي من حيث إنّهم يدينون بالتقيّة التي حقيقتها النفاق، وهو إظهار قبول الحق مع الكفر به باطناً.

وأمّا كوننا ندعو الله أن ينصر الكافرين عليهم فلا حاجة إليه، وإنّما ندعو الله أن

ص:212

ينصر المسلمين الصادقين.

وفي جواب عن سؤالٍ يقول: إذا كانت المرأة متزوّجة وزوجها لا يصلّي فهل لها أن تفارقه؟

وكان الجواب هو: إذا كانت امرأة متزوّجة وزوجها لايصلّي أبداً مع الجماعة ولا مع غير الجماعة، فإنّه ينفسخ نكاحها ولا تكون له زوجة، ويجب عليها أن تذهب إلى أهلها وأن تحاول بقدر ما تستطيع أن تتخلّص من هذا الرجل الذي كفر بعد إسلامه، أيّ امرأةٍ زوجها لا يصلّي لا يجوز لها أن تبقى طرفة عينٍ معه حتّى ولو كانت ذات أولاد منه، ولا حقّ لأبيهم في حضانتهم؛ لأنّه لاحضانة لكافرٍ على مسلم.

الحكم الجديره

الحِكَم الجديرة بالإذاعة من قول النبي بعثت بالسيف بين يدي الساعة

وهذا المنشور لابن رجب الحنبلي، وكما هو واضح شديد الخطورة وشديد العشق للدماء، ولا مجال فيه للحوار والاعتدال، أمّا قذائفه فتتمثّل فيما يلي:

* أنّ الإسلام جاء بالسيف.

* أنّ السيف هو شعار الإسلام حتّى قيام الساعة.

* أنّ الإسلام جاء بستّة سيوف.

سيف على المشركين حتّى يسلموا أو يؤسروا.

وسيف على المنافقين وهو سيف الزنادقة.

وسيف على أهل الكتاب حتّى يعطوا الجِزْية.

وسيف على أهل البغي من المسلمين.

وسيف على أهل الردّة.

وسيف على أهل البِدَع.

* أهل التوحيد والطاعة لله - الحنابلة - أحق بالمال من أهل الكفر.

* أهل الأهواء والبِدَع كلّهم مفترون على الله.

ص:213

* عقوبة المبتدع أغلظ من عقوبة العاصي.

* من تشبّه بقومٍ فهو منهم.

وهذا المنشور من أوّله إلى آخره يقوم على أساس روايةٍ منسوبةٍ للرسول (ص) قامت على أساسها أحكام وتصوّرات ومفاهيم شديدة التطرّف في مواجهة المخالفين من المسلمين وأصحاب الديانات الأُخرى.

لقد أظهرت هذه الرواية أنّ الإسلام دين السيف والدماء، لا دين العقل والحوار، وهو بهذه الصورة بدا وكأنّ الله سبحانه بعثه وبالاً على البش-ر ونقمةً عليهم لا رحمةً مهداة لهم.

والحق أنّ هذه الصورة المتطرّفة عن الإسلام تتنافى مع نصوص القرآن، وأقل ما يُقال فيها إنّها من اختراع الرواة والفقهاء الذين باركوا هذه الروايات، وعلى رأسهم فقهاء الحنابلة.

ومثل هذه الصورة المنفّرة عن الإسلام إنّما تزيد من ثبات أصحاب الديانات الأُخرى على موقفهم، كما تزيد من إرهاب المسلمين وتخويفهم من أحكام الدين وعزلهم عنه، وهذه النتيجة الخطيرة لا تعني هؤلاء الفقهاء في شيء فأصحاب الديانات الأُخرى في منظورهم هم مشركون يجب أن يعمل السيف فيهم.

والمسلمون المخالفون هم زنادقة؛ لأنّهم لا يتبعون هذه الروايات، ولا يسيرون على نهج السلف ويلتزموا بعقل الماضي، ويجب أن يعمل السيف فيهم أيضاً.

إنّ الخروج عن دائرة روايات السلف يعني في منظور الفقهاء التشبّه بالمش-ركين؛ لأنّهم هم المسلمين ومَن لم يتشبّه بهم فقد خرج من الإسلام.

فتاوى أزْهَرِيّة

تمكّن التيّار الحنبلي من اختراق المؤسّسة الأزهرية واستثمار رموزها، ويظهر لنا هذا بوضوح من كمّ الفتاوى التي صدرت عن دار الإفتاء المصرية وتلقّفتها الفِرَق الوهّابيّة

ص:214

المتطرّفة وتحصّنت بها.

وقد قامت جماعة أنصار السنّة المحمّدية ذات النهج الوهّابي السعودي في مص-ر بنشر هذه الفتاوى الأزهرية المتطرّفة مؤخّراً كهدية مجّانية على مجلّة التوحيد الناطقة بلسان الجماعة.

وليست هذه الفتاوى سوى مدافع شديدة الطلقات مصوّبة نحو المسلمين، وقد ألحقت أضراراً فادحة بعقولهم و واقعهم.

وعلى رأس هذه الفتاوى فتوى تتعلّق بالأضرحة والدفن في المساجد و الموالد والنذور، وهي فتوى موجّهة ضدّ التيّار الصوفي الذي يتبنّى هذه القضايا، تقول بتحريم مثل هذه الأُمور واعتبارها صورة من صور الشرك والضلال.

وثاني هذه الفتاوى فتوى تتعلّق بتحريم التعامل مع البنوك، ووجوب إجبار الزوجة على ارتداء الحجاب، وتحريم الصور والتصوير، وتحريم الموسيقى، وتحريم التأمين على الحياة والتأمين ضدّ الحريق، وتحريم ذهاب المرأة إلى مصفّف الشعر، وعدم جواز خوضها ميدان العمل السياسي ودخول الانتخابات.

ومثل هذه الفتاوى التي تقوم على أساس الروايات وعقل الماضي إنّما تسهم في تخلّف الأُمّة وتجميد مسيرتها؛ وقد رفعت رايتها الفِرَق الوهّابيّة اليوم وبنت على أساسها مواقفها وتصوّراتها المتطرّفة تجاه الواقع والمخالفين.

وكيف للأزهر وهو مؤسّسة حكومية أن يتبنّى مثل هذه القضايا المتطرّفة التي تهدّد أمن المجتمع، وفي الوقت نفسه يعلن الحرب على التطرّف والمتطرّفين؟

أحكام العصاة

وهذه رسالة مشتقّة من كتاب بِدَع الفوائد لابن القيّم الجوزية وُزّع كهدية مجّانية على مجلة الأزهر؛

تقول الرسالة:

ص:215

* القول قد يكون كفراً.

* إنّ مباني الإسلام الخمسة المأمور بها - الشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج - وإن كان ضرر تركها لا يتعدّى صاحبها، فإنّه يُقتل بتركها في الجملة عند جماهير الفقهاء، ويكفّر أيضاً عند كثير منهم أو أكثر السلف، وأمّا فعل المنهي عنه الذي لا يتعدّى ضرره صاحبه، فإنّه لا يُقتل به عند أحد الأئمّة ولا يكفّر به إلاّ إذا ناقض الإيمان؛ لفوات الإيمان وكونه مرتدّاً أو زنديقاً؛ وذلك أنّ من الأئمّة مَن يقتله ويكفّره بترك كلّ واحدة من الخمس؛ لأنّ الإسلام بُني عليها، وهو قول طائفة من السلف، ورواية عن أحمد بن حنبل اختارها بعض أصحابه، ومنهم مَن لا يقتله ولا يكفّره إلاّ بترك الصلاة والزكاة، وهي رواية أُخرى عن ابن حنبل، ومنهم مَن يقتله بهما ويكفّره بالصلاة والزكاة إذا قاتل الإمام عليها، كرواية عن ابن حنبل، ومنهم مَن يقتله بهما ولا يكفّره إلاّ بالصلاة، ومنهم مَن يقتله بهما ولا يكفّره، ومنهم مَن لا يقتله إلاّ بالصلاة ولا يكفّره، وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف.

* مَن خالف السنّة فيما أتت به أو شرّعته فهو مبتدع خارج عن السنّة.

* أصل البِدْعة تكذيب الأحاديث الواردة في كتب السنن.

* عامّة البِدَع من التأويل والقياس والرأي.

التطرّف وتبريره وإضفاء المشروعية عليه.

وكأنّ الأزهر بتبنّيه مثل هذا الطرح قد خلع ثوب العقل والاعتدال واحترام الرأي الآخر، ونتيجة هذه القذائف التي تبنّاها الأزهر وأسهم في إطلاقها على الجماهير هي تقنين وارتداء ثوب الجمود والتطرّف والاستبداد أو ثوب النفط.

ص:216

ص:217

فهرس المصادر

١. أحكام أهل الذمة، أبو عبدالله شمس الدين محمّدبن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، تحقيق: يوسف أحمد البكري - شاكر توفيق العاروري، الطبعة: الأولى، بيروت، رمادي للنشر - دار ابن حزم - الدمام، ١4١٨ه.

٢. السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، أحمدبن عبدالحليم بن تيمية الحرّاني، دار المعرفة.

٣. الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، أبوعبدالله شمس الدين محمّدبن أبي بكربن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، تحقيق: د. محمّد جميل غازي، القاهرة، مطبعة المدني.

4. الردّ على الزنادقة والجهمية، أبو عبدالله أحمدبن حنبل الشيباني، تحقيق: محمّد حسن راشد، القاهرة، المطبعة السلفية، ١٣٩٣ه.

5. الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، أبوعبدالله عبيدالله بن محمّدبن بطة العكبري الحنبلي، تحقيق: عثمان عبدالله آدم، الطبعة: الثانية، السعودية، دار الراية للنشر، ١4١٨ه.

6. اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أبوالعباس أحمدبن عبدالحليم بن تيمية الحرّاني، تحقيق: محمّد حامد الفقي، الطبعة: الثانية، القاهرة، مطبعة السنة المحمّدية، ١٣6٩ه.

٧. الفصل في الملل والأهواء والنحل، أبومحمّد علي بن أحمدبن سعيدبن حزم الطاهري، القاهرة، مكتبة الخانجي.

٨. العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم،

ص:218

٩. احمّدبن عبدالله أبوبكربن العربي، تحقيق: محب الدين الخطيب ومحمود مهدي الاستانبولي، الطبعة: الثانية، بيروت، دار الجيل، ١4٠٧ه.

١٠. السنّة، عبدالله بن أحمدبن حنبل الشيباني، تحقيق: د. محمّد سعيد سالم القحطاني، الطبعة: الأولى، الدمام، دار ابن القيم، ١4٠6ه.

١١. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمدبن علي بن محمّد العسقلاني، تحقيق: مراقبة /محمّد عبدالمعيد ضان، الطبعة: الثانية، حيدرآباد، مجلس دائرة المعارف العثمّانية ١٣٩٢ه.

١٢. السنّة، عمروبن أبي عاصم الضحاك الشيباني، تحقيق: محمّد ناصرالدين الألباني، الطبعة: الأولى، بيروت، المكتب الإسلامي، ١4٠٠ه.

١٣. الجامع الصحيح، محمّدبن إسماعيل أبوعبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، الطبعة: الثالثة، بيروت، دار ابن كثير، ١4٠٧ه.

١4. السنّة، أبوبكر أحمدبن محمّدبن هارون بن يزيد الخلال، تحقيق: د. عطية الزهراني، الطبعة: الأولى، الرياض، دار الراية، ١4١٠ه.

١5. العقيدة الواسطية، أحمدبن عبدالحليم بن تيمية الحرّاني، تحقيق: محمّدبن عبدالعزيزبن مانع، الطبعة: الثانية، الرياض، الرئاسة العامّة لإدارات البحوث والإفتاء، ١4١٢ه.

١6. السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، محمّدبن حميد النجدي، بدون ناشر.

١٧. الدرر السنية في الردّ على الوهّابيّة، أحمد زيني دحلان الشافعي، دار الجمل المانيا.

١٨. التحفة المدنية في العقيدة السلفية، حمدبن ناصربن عثمان آل معمر، تحقيق: عبدالسلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم، الطبعة: الأولى، الرياض، دار العاصمة للنش-ر والتوزيع، ١4١٣ه.

١٩. إثبات صفة العلو، أبومحمّد عبدالله بن أحمدبن قدامة المقدسي، تحقيق: بدر عبدالله البدر، الطبعة: الأولى، الكويت، الدار السلفية، ١4٠6ه.

٢٠. اعتقاد الإمام المبجل أحمدبن حنبل ذيل طبقات الحنابلة، أبو الحسين محمّدبن أبي يعلي، تحقيق: محمّد حامد الفقي، بيروت، دار المعرفة.

ص:219

٢١. البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمربن كثير القرشي، بيروت، مكتبة المعارف.

٢٢. الكامل في التاريخ، أبوالحسن علي بن أبي الكرم محمّدبن عبدالكريم الشيباني، تحقيق: عبدالله القاضي، بيروت، دار صادر، ١٣٩٩ه.

٢٣. الكافي في فقه الإمام المبجل أحمدبن حنبل، أبومحمّد عبدالله بن قدامة المقدسي، بيروت، المكتب الإسلامي.

٢4. السيف الصقيل في الردّ على ابن زفيل، سبكي، تحقيق: محمّد زاهد الكوثري، طبع القاهرة.

٢5. الردّ على المنطقيين، أحمدبن عبدالحليم بن تيمية الحرّاني، تحقيق: د. محمّد رشاد سالم، الطبعة: الأولى، ١4٠6ه.

٢6. الأحكام السلطانية، قاضي أبي يعلي، طبع الرياض.

٢٧. تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد، محمّدبن إسماعيل الأمير الكحلاني الصنعاني، تحقيق: إسماعيل الأنصاري، الطبعة الاولى، الرياض، دار البشير.

٢٨. تاريخ الخلفاء، عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: محي الدين عبدالحميد، القاهرة، مطبعة السعادة، ١٣٧١ه.

٢٩. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، شمس الدين محمّدبن أحمدبن عثمان الذهبي، تحقيق: د. عمر عبدالسلام تدمري، بيروت، دار الكتاب العربي، ١4٠٧ه.

٣٠. تاريخ الجزيرة العربية في عهد محمّدبن عبدالوهاب، حسين خزعل، طبع بيروت.

٣١. خلق أفعال العباد، محمّدبن إبراهيم بن إسماعيل أبوعبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: د. عبدالرحمن عميرة، الرياض، دار المعارف السعودية، ١٣٩٨ه.

٣٢. خلاصة الكلام في تاريخ أمراء البلد الحرام، أحمد زيني دحلان، طبع إستانبول.

٣٣. درء تعارض العقل والنقل، تقي الدين أحمد بن عبدالسلام بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية، تحقيق: عبداللطيف عبدالرحمن، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١٧ه-.

٣4. دفع شبه من شبّه وتمرّد، تقي الدين أبي بكر الحصني الدمشقي، مصر، المكتبة الأزهرية للتراث.

٣5. رسائل ابن عبدالوهاب أو مؤلّفات محمّدبن عبدالوهاب في العقيدة، محمّدبن عبدالوهاب،

ص:220

٣6. تحقيق: عبد العزيز زيد الرومي، د. محمّد بلتاجي، د. سيد حجاب، الرياض، جامعة الإمام محمّد بن سعود.

٣٧. شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة من الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة، أبوالقاسم هبةالله بن الحسن بن منصور اللالكائي، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان، الرياض، دار طيبة، ١4٠٢ه.

٣٨. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبوالحسين القشيري النيسابوري، تحقيق: محمّد فؤاد عبدالباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

٣٩. فتاوى مهمّة لعموم الأمّة، عبدالعزيزبن باز محمّدبن صالح العثيمين، تحقيق: إبراهيم الفارس، الطبعة: الأولى، الرياض، دار العاصمة، ١4١٣ه.

4٠. فتيتان تتعلّقان بتكفير الجهمية وأنّ الصلاة لا تصح خلف من لا يكفّر الجهمية ومسائل أخرى، إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ و عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ و سليمان بن سحمان الخثعمي، تحقيق: عبدالعزيزبن عبدالله الزير آل حمد، الطبعة: الأولى، السعودية، دار العاصمة، ١4١5ه.

4١. مسائل أحمدبن حنبل رواية ابنه عبدالله، عبدالله بن أحمدبن حنبل، تحقيق: زهير الشاويش، الطبعة: الأولى، بيروت، المكتب الإسلامي، ١4٠١ه.

4٢. مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية، محمّدبن عبدالوهاب، تحقيق: محمود شكري الألوسي، المدينة المنوّرة، الجامعة الإسلامية، ١٣٩6ه.

4٣. منهاج السنّة النبوية، أبوالعباس أحمدبن عبدالحليم بن تيمية الحرّاني، مؤسسة قرطبة.

44. لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، أبومحمّد عبدالله بن أحمدبن قدامة المقدسي، تحقيق: بدربن عبدالله البدر، الطبعة: الأولى، الكويت، الدار السلفية، ١4٠6ه.

45. منهج أهل السنّة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف، ربيع بن هادي المدخلي، القاهرة، دار المنهاج، ١4٢٨ه.

46. مجموع كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية، أبوالعباس أحمد عبدالحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: عبدالرحمن بن محمّدبن قاسم العاصمي النجدي، الطبعة: الثانية، مكتبة ابن تيمية.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.