تعظيم اولياء اللّه

اشارة

سرشناسه : جعفري، يعقوب، 1325 -

عنوان قراردادي : بزرگداشت اولياي خدا. عربي

عنوان و نام پديدآور : تعظيم اولياءالله/ تاليف يعقوب جعفري؛ تعريب اسعد الكعبي.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر ، 1391.

مشخصات ظاهري : 92 ص.

شابك : 978-964-540-427-5

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي.

موضوع : اوليا -- كرامتها

موضوع : اوليا

شناسه افزوده : كعبي، اسعد، 1349 - ، مترجم

رده بندي كنگره : BP226/6 /ج7ب4043 1391

رده بندي ديويي : 297/468

شماره كتابشناسي ملي : 3056964

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

كلمة المعهد

ص: 5

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين

من خصائص كتاب الله العزيز أنّه كتابٌ تربويٌّ يهدف إلى تربية الإنسان المتديّن تربيةً صالحةً، حيث يتضمّن أساليب مختلفة لتحقيق هذا الهدف، منها تذكيره بالأنبياء والمرسلين وأولياء الله الصالحين الذين كان لهم دورٌ كبيرٌ في تربية الناس على مرّ العصور.

فقد أكّد البارئ تبارك وتعالى على كرامة أنبيائه وأوليائه وتطرّق إلى بيان فضائلهم في الكثير من آيات كتابه العزيز، حيث خاطب نبيّنا الكريم9 قائلاً: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً)، (سورة مريم: الآية 41). وكذلك أمره بذكر السيّدة مريم في [سورة مريم : الآية 16]، النبيّ موسى [سورة مريم : الآية 51]، النبيّ إدريس [سورة مريم : الآية 56 ]، النبيّ داود [سورة ص : الآية 17 ]، النبيّ أيّوب [ سورة ص : الآية 41 ]؛ وغير ذلك من آياتٍ. ونلاحظ أنّه تعالى قد بيّن الأسباب الكامنة وراء ضرورة ذكر أنبيائه وأوليائه الصالحين في بعض تلك الآيات، منها قوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا ت

ص: 6

َعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله)، (سورة الممتحنة: الآية 4).

ومن هذا المنطلق، لم ينفكّ المسلمون طوال التأريخ وفي شتّى المناسبات عن إجلال أولياء الله تعالى وذكر فضائلهم وخصالهم الحميدة التي تجسّدت في أسمى المفاهيم الأخلاقيّة، كالعفو والإيثار والشجاعة، وذلك من أجل رفعة الإسلام وإعلاء كلمته. وكذلك فإنّهم يقصدون أضرحتهم المقدّسة في كلّ آنٍ ومكانٍ ويُحيون ذكراهم الخالدة.

لكن هناك بعض المتحجّرين يعتقدون بأنّ إجلال أولياء الله تعالى وتوقيرهم بدعةٌ! وهؤلاء في الحقيقة لا يعملون بتعاليم شريعة ديننا الحنيف ولا يعيرون أهميّةً لآدابه وطقوسه، وكذلك فإنّ الجهل قد أعمى عيونهم،حيث يكفّرون من يقوم بذلك من المسلمين ويتّهمونه بالشرك!

لذلك قام الباحث الكريم السيّد يعقوب الجعفريّ بدحض هذه التهمة الواهية ونقضها دفاعاً عن عباد الله الموحّدين وعقائدهم الصحيحة، اعتماداً على النصوص الدينيّة المعتبرة؛ إذ أثبت للقرّاء الكرام بأنّ هذا الإجلال والتوقير سنّةٌ يُثاب العبد عليها.

ويتقدّم معهد الحجّ والزيارة بالشكر الجزيل والتقدير للباحث الكريم الذي دوّن هذا النتاج القيّم، وللمترجم المحترم الذي ترجمه إلى اللّغة العربيّة، راجين من البارئ جلّ وعلا أن يكون نبراساً يستنير به من يروم استقصاء الحقّ ومعرفة أهله.

إنّه وليّ التوفيق

معهد الحجّ والزيارة

قسم الكلام والمعارف

مقدمة الكتاب

ص: 7

إنّ معرفة أولياء الله تعالى ومودّتهم لها نتائج تربويّة عظيمة، فبركة هذه المعرفة تُحيي روح كلّ إنسانٍ يروم الوصول إلى الحقيقة وتجعله بمصافّ خير خلق الله إيماناً فيسير بركبهم. إنّ إجلال أولياء الله تعالى وعباده الصالحين ومودّتهم يُعتبر توقيراً للقيَم الدينيّة والمبادئ التوحيديّة، وبالتّالي سيكون سبباً لرسوخ الإيمان والتقوى في نفس العبد.

ومن أجل التمكّن من نيل أفضل الدرجات المعنويّة، ينبغي لكلّ عبدٍ

أن يتقرّب لأولياء الله والصّالحين الذين يتمتّعون بدرجاتٍ رفيعةٍ عند

ربّ العالمين، وعليه أن لا يتخلّف عنهم أبداً. فهذا الإرتباط الروحي

يُذكّر الإنسان بالقيَم والأُصول والتعاليم التي كانت محور دعوة

أولئك الأولياء والصّالحين. فإذا أراد العبد نيل قربٍ معنويٍّ من عباد الله الصالحين ورام إيجاد صلةٍ وثيقةٍ بهم، لا بدّله أوّلاً أن تشغل محبّتهم حيّزاً في قلبه لدرجة تكون جزءاً من حياته ولا تفارقه حتّى مماته. فهذه المحبّة في الحقيقة هي محبّة إلهية، فقد وعد _ سبحانه _ عبادَه المؤمنين بتكريمهم بها،

إذ قال في كتابه الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ

ص: 8

الرَّحْمَنُ وُدّاً). (1)

وحيث إنّ المحبّة أمرٌ باطنيٌّ، فعند إرادة إظهارها على الجوارح لا بدّ من اللّجوء لأساليب وأعمال خاصّة متعارفة عند العقلاء، وفي نفس الوقت يجب ترك الأساليب التي نهى عنها الشرع مهما كانت. فهذه الأعمال التي كانت ولازالت متعارفة عند العقلاء تتجلّى في طلب البركة منهم والتوسّل بهم وطلب الشفاعة والعون منهم، وكذلك ذكرهم وزيارة مراقدهم؛ فهذه الأُمور تعتبر علاماتٍ على محبّتهم والارتباط القلبي بهم.

عزيزي القارئ، لقد أثبتنا شرعيّةَ هذه الأعمال ورُجحانَها في هذا الكتيّب معتمدين على ما جاء في كلام الله تبارك وتعالى وما حوته المصادر الإسلاميّة من سنّة نبيّنا الكريم وما نقله لنا التأريخ من سيرة الصحابة والتابعين، كما أثبتنا أنّ الهدف من وراء هذه الأعمال ليس سوى محبّة مَن أوجب الله علينا محبّتهم. ونلاحظ أنّ كلّ مسلمٍ متحرّرٍ من قيود التعصّب الأعمى إذا ما وضع كتاب الله تعالى وسنّة رسوله9 بين يديه اكتفى بهما، وغضّ النظر عمّا يتفوّه به هذا وذاك من أقاويل تنمُّ عن حقدٍ وافتراء، فسوف يُدرك الحقيقة بكلّ يس_رٍ ووضوحٍ وسيتبيّن له أنّ ادّعاء زمرةٍ من الذين يعتبرون إجلال أولياء الله شركاً مجرّد كلامٍ فارغٍ لا أساس له، بل إنّه مخالفٌ لكلام الله وسنّة نبيّه وسيرة السلف الصالح.

نرجو من الله العليّ القدير أن يجعل هذا الكتيّب قبساً يُنير أذهان إخواننا المسلمين الذين تأثّروا بادّعاءات زُمرٍ متطرّفةٍ ما انفكّت تحضّهم على نسبة الشرك لاخوانهم في الدين، وتنسب إليهم الضلال ظلماً وبهتاناً وتدعوهم


1- سورة مريم، الآية 96.

ص: 9

للابتعاد عنهم. ونأمل من ربّ العزّة والجلالة أن تنكشف الحقيقة للجميع بوضوحٍ ويزول غبَش الغيِّ والإفك لكي يعرفوا أنّ مودّة أولياء الله وإجلالهم ليست إلا مواكبة واتّباعاً للذين هداهم ربّنا العظيم وأنّ التمسّك بهم نجاة من الضلال والهلاك في الدنيا والآخرة، إذ قال تعالى: (أُوْلَ_ئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ). (1)

يعقوب جعفري

المبحث الأول: من هم أولياء اللّه؟


1- سورة الأنعام، الآية 90.

ص: 10

ص: 11

منذ أن أُخرج آدم من الجنّة ووطأ الأرض بقدميه، كان لا بدّ له من تحمّل فراق وهجران بارئه، لكنّ البارئ تعالى لم يتركه وذريّته هملاً أبداً، حيث توالت الرّسل والأنبياء وأُنزلت الكتب السماويّة لإبلاغ أحكام وتعاليم الدين، وذلك ليؤكّد لهم وجوب عبادته وحده دون شريك.

إزاء هذه الدعوة الشاملة انقسم أولاد آدم إلى فريقين، فمنهم مَن أدبر عنها وسلك سبيل الشيطان، ومنهم مَن رحّب بها أفضل ترحيبٍ وأدرك أنّ الهدف من الخلقة هو عبادة الله الواحد الأحد، فسار على هذا المنهاج؛ فهذه هي سيرة أولياء الله الذين أخرجهم من الظلمات إلى نور الهداية. وكما أنّ النور له درجات من الشدّة والضعف، كذلك هو الحال بالنسبة لمحبّة الله عزّ وجلّ، إذ لها درجات ومراتب مختلفة. أمّا عباد الله الذين نالوا أرقى درجاتها، فقد خصّهم تعالى بمقام الولاية الرفيع وهم الذين نطلق عليهم اسم «أولياء الله»، إذ وصفهم تعالى في كتابه الكريم قائلاً: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ

ص: 12

وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْ_رَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). (1)

ولا نرى بأساً من أن نشير إلى بعض الحقائق التي أكّد الله تعالى عليها في هذه الآيات الكريمة، فيما يلي:

1 _ إنّ «الخوف» من المستقبل و«الأسى» على ما مض_ى أمران لا ينتابان أولياء الله أبداً، لأنّهم يحظون بالأمن والطمأنينة، وهذا الأمر يعتبر من أهمّ آثار الإيمان بالله تعالى.

2 _ نال أولياء الله مقام الولاية لخصلتين اتّصفا بهما، وهما: الإيمان والتقوى الراسخَين في أنفسهم طوال حياتهم. ومن الجدير بالذكر أن قوله تعالى: (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يدلّ على الاستمرار بالتقوى.

3 _ لأولياء الله تعالى مقام «البش_رى» في الدنيا والآخرة. فالبش_رى في الآخرة تعني تكريمهم بنعم الله تعالى ودخولهم الجنة، وفي الدنيا تعني الصلة الخاصّة بينهم وبين بارئهم جلّ وعلا، حيث جاء ذكرها في الأحاديث تحت عنوان «المبشّرات». رُوي عن رسول الله 9 في تفسير الآية الكريمة: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا) أنّه قال: «الرؤيا الصّالحة يبشَّر بها المؤمن جزء من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوّة». (2)

وكذلك قال صلوات الله عليه: «إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبيّ، ولكنّ المبشّرات.

قالوا: يا رسول الله، وما المبشّرات؟


1- سورة يونس، الآيات 62 ، 63 ، 64.
2- تفسير الطبري، ج7، ص137.

ص: 13

قال: رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوّة». (1)

لا ريب في أنّ كلمة «المسلم» الواردة في الحديث ال_شريف لا تشمل أيَّ مسلم، بل تعني أولياء الله تعالى فحسب، بدلالة الآية المذكورة آنفاً وسائر الروايات.

4 _ المقام الذي وهبه الله لأوليائه لا زوال ولا تبديل له، حاله حال سائر سننه تعالى، إذ قال جلّ شأنه: (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ). (2)

5 _ إنّ هذا المقام هو فوزٌ وفلاحٌ ومقامٌ عظيمٌ لا يناله إلا ذو حظٍّ عظيمٍ.

ففي تفسير الآية المباركة: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (3) لبيان مَن هم أولياء الله، هناك روايات كثيرة نُقلت عن رسول الله9 نكتفي بذكر مثالٍ واحدٍ منها. فقد قال رسول الله 9: «إنّ مِن عبادِ الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء.

قيل: مَن هم يا رسول الله؟ فلعلّنا نحبّهم!

قال: قومٌ تحابّوا في الله من غير أموالٍ ولا أنسابٍ. وجوههم من نورٍ، على منابر من نورٍ، لا يخافون إذا خاف النّاس ولا يحزنون إذا حزن النّاس. وقرأ: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)». (4)

إذن، نستلهم من الحديث أعلاه أنّ مقام أولياء الله أسمى من مقام أنبيائه وشهدائه، لدرجة أنّ أنبياء الله وشهداءه يغبطونهم على مقامهم هذا.

وهناك معنىً آخر نستوحيه من نفس الحديث، ألا وهو أنّ أولياء الله بهذه


1- الدرّ المنثور، ج4، ص376.
2- سورة يونس، الآية 64.
3- سورة يونس، الآية 62.
4- تفسير الطبري، ج7، ص132.

ص: 14

الأوصاف والخصال لا يختصّون بعصرٍ وزمانٍ بالتحديد، بل يمكن لنا أن نجدهم في العصور والأزمنة كافّة، ولكنّ المشكلة تكمن في تمييزهم وتشخيصهم عن سائر النّاس، فهذا الأمر ليس بالهيّن. فإنّ الآية الشريفة التي ذُكرت في الحديث تشير إلى أنّ أولياء الله لا تنفكّ حياتهم عن الإيمان وتقوى الله أبداً، إلا أنّ تشخيص مَن يقضي حياته متّقياً خائفاً من الله تعالى ومجتنباً المحرّمات والمعاصي منذ بداية تكليفه حتّى آخر عمره يُعتبر أمراً صعباً أو محالاً بالنسبة لنا؛ لأنّ هذه الأُمور باطنيّة لا يعلمها إلا الله وصاحبها. ولكن إذا ما أخبرنا الله تعالى بأشخاصٍ محدّدين يتحلّون بهذه الخصال الحميدة، حينها يتوجّب علينا أن نعتبرهم أولياء له تعالى باطمئنانٍ ويقينٍ.

ومم_ّا لا يقبل الشكّ والترديد أنّ الله تعالى قد أخبرنا في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: إِنّ أهل بيت النبيّ9 يتحلّون بهذه الخصال الحميدة، فهم منزّهون من أيّ رجسٍ ومعصيةٍ ومطهّرون من جميع النواحي، تطهيراً تعلّقت به إرادة الله تعالى. وهذا هو معنى التقوى الدائمية التي أخبر الله سبحانه بعدم إنفكاكها عن أهل بيت النبي9. فقد قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (1)

الآن علينا أن نتحرّى عن أهل بيت النبيّ9 الذين ذكرهم القرآن الكريم في هذه الآية، فيا تُرى مَن هم؟

بالطبع هناك أحاديث كثيرة قد يصل بعضها حدّ التواتر، عرّف فيها نبيّنا الكريم أهل بيته، ونذكر منها حديثين على سبيل المثال:


1- سورة الأحزاب، الآية 33.

ص: 15

الحديث الأوّل: «نزلت هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) في بيت أُم سلمة، فدعا النبيّ فاطمةَ وحسناً وحسيناً فجلّلهم بكساءٍ وعليٌّ خلفَ ظهرِه فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ هؤُلاءِ أهلُ بيتي فأذهِب عنهُمُ الرِّجْسَ وطهِّرهُمْ تطهيرًا»، قالتْ أُمُّ سلمةَ: وأنا معهُمْ يا نبيَّ الله؟ قالَ: «أنتِ على مكانِكِ وأنتِ على خيْرٍ». (1)

الحديث الثّاني: «عن عائشة قالت: خرجَ النبيُّ غداةً وعليه مرط مرحّل من شعرٍ أسودٍ، فجاءَ الحسن بن عليٍّ فأدخَلَه، ثُمَّ جاءَ الحسين فأدخله، ثُمَّ جاءتْ فاطمةُ فأدخلَها، ثُمَّ جاءَ عليٌّ فأدخله، ثُمَّ قالَ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)». (2)

لو أخذنا هاذين الحديثين بنظر الاعتبار إضافةً إلى أحاديث كثيرة أُخرى وردت بهذا الشأن، سيتأكّد لنا أنّ المراد من «أهل البيت» في آية التطهير هم: عليّ وفاطمة والحسن والحسين:. يُذكر أنّ هذه الآية تقع بين الآيات التي خاطبت نساء النبيّ9، إلا أنّ الضمائر التي جاءت في تلك الآيات هي بصيغة الجمع المؤنّث، والضمائر في آية التطهير جاءت بصيغة الجمع المذكّر، وهذا دليلٌ على أنّ المخاطب في هذه الآية ليس نفسه في الآيات الأُخرى. فيتّضح لنا من خلال هذه القرينة ومن أحاديث أُخرى كثيرة ذكرنا امثلةً منها: أنّ المخاطبين في آية التطهير هم: النبيّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين:، وأنّ هؤلاء الأطهار عندما يخبروننا بآخرين من ذراريهم كونهم من «أهل البيت» فسوف نقبل ذلك دونما أيّ تردّدٍ، وذلك لأنّهم وحسب فحوى


1- سنن الترمذي، ج5، ص663.
2- صحيح مسلم، ج7، ص130.

ص: 16

الآية الشريفة لا يكذبون البتّة، إذ الكذب رجسٌ عظيمٌ وهم مطهّرون من الرّجس تطهيراً.

فيتبيّن لنا أنّه بالإمكان أن نجد أولياء الله الذين أشار إليهم القرآن الكريم في كلّ زمانٍ، إلا أنّ معرفتهم بالنسبة لنا أمرٌ صعبٌ أو مستحيل ما لم يعرّفهم لنا الله تعالى أو نبيّه الكريم9. وقد ذكر الله تعالى في آية التطهير أوصافاً لأهل بيت النبيّ9 تنطبق مع أوصاف أوليائه الصالحين التي ذكرها في الآية الأُخرى، لذلك فإنّ أهل البيت هم أجلى مصداقٍ لأولياء الله.

لقد أكّدت الكثير من الأحاديث علي أنّ محبّة رسول الله9 وأهل بيته هي من شروط الإيمان، إذ رُوي عن أنس قوله: «قالَ النبيّ: لا يؤمنُ أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه من والده ووُلده أجمعين». (1)

ورُوي عن أبي سعيد الخدري قوله: «قال رسول الله: إنّ لله عزّ وجلّ حُرماتٍ ثلاثاً مَن حفظهنّ حفظ الله له أمر دينه ودنياه، ومَن لم يحفظهنّ لم يحفظ الله له شيئاً؛ حرمة الإسلام وحرمتي وحرمة رحمي». (2)

ورُوي عن الحسن بن عليّ7 أنّ رسول الله9 قال: «الزموا مودّتنا أهل البيت، فإنّه مَن لقى الله عزّ وجلّ وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا. والذي نفس_ي بيده، لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقّنا». (3)

المبحث الثاني: التوسل بأولياء اللّه

اشارة


1- صحيح البخاري، ج1، ص17.
2- المعجم الكبير للطبراني، ج3، ص135.
3- مجمع الزوائد، ج9، ص172.

ص: 17

لا ريب في أنّ اللّجوء للأولياء الصّالحين الذين رفعهم الله مقاماً عليّاً وفتح لهم أبواب رحمته، واتّخاذهم وسيلةً للتقرّب إليه تعالى بخضوعٍ وخشوعٍ وتذلّلٍ أو لطلب المراد منه، يعتبر عملاً حسناً يحبّه الله، لأنّه يؤدّي إلى ترسيخ الصلة بين العبد وربّه. ولابدّ من القول إنّ ارتباط ابن آدم الذي خُلق من ترابٍ بذي العزّة والجلالة دون واسطةٍ هو أمرٌ غير ممكنٍ، فنحن نرى أن الرسالات السماويّة قد وصلت للبشر بواسطة أفراد معيّنين وهم أنبياء الله الكرام، إذ لم يُخاطب الربّ عموم عبادِه بشكلٍ مباشرٍ أبداً.

فالإنسان لا يستطيع أن يرتبط بالله تعالى دون وسيلةٍ أو واسطةٍ؛ وهذه الوسيلة إمّا أن تكون عملاً عباديّاً كالصلاة والصيام وسائر العبادات، وإمّا أن تكون عبداً صالحاً من المقرّبين كأولياء الله الذين تحدّثنا عنهم. وهذا المفهوم نراه جليّاً في آيات الكتاب العزيز التي إن تدبّرناها سنُدرك حقيقة الأمر.

التوسّل في الكتاب العزيز

ص: 18

إليك عزيزي القارئ بعض هذه الآيات:

1 _ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). (1)

في هذه الآية المباركة يأمر الله تعالى عبادَه المؤمنين باتّخاذ وسيلة للتقرّب إليه. طبعاً لم تُحدّد الوسيلة هنا، لكن من المعلوم أنّها يمكن أن تكون كلّ ما يرضاه الله تعالى. فهي من الممكن أن تكون شيئاً كالكعبة والحجر الأسود والقرآن الكريم، ومن الممكن أن تكون عملاً كالصلاة والحج والجهاد، ومن الممكن أن تكون تركاً كالصيام، ومن الممكن أن تكون شخصاً كأولياء الله وأنبيائه والصالحين من عباده والشهداء؛ فالنتيجة هي أنّ العبد يمكنه اتّخاذ كلّ وسيلةٍ من شأنها أن تقرّبه إلى الله تعالى وتُذكّره به، وأولياء الله هم جزء من الوسائل التي تقرّب العبد من الرّب كما جاء في الأحاديث الش_ريفة. قال سعيد بن جبير: «سُئِل النبيّ عن أولياء الله، قال: هم الذين إذا رُؤوا ذُكر الله». (2)

2 _ (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ). (3)

يا تُ_رى، ما المراد من «حبل الله» في هذه الآية؟ بالتأكيد لا يُراد به ذات الله تعالى، بل المراد شيء آخر لأنّ حبل الله ليس من أسمائه تعالى. إذن، ما هو حبل الله؟ هل هو القرآن أو الإسلام؟ هل هو النبيّ وحده أو النبيّ وأئمة المسلمين؟ أو أنّه كافّة ما ذُكر؟ وأيّاً كان هذا الحبل، فهو عبارة عن واسطة


1- سورة المائدة، الآية 35.
2- تفسير الطبري، ج7، ص132.
3- سورة آل عمران، الآية 103.

ص: 19

ارتباطٍ بين النّاس وربّهم. وكما نعلم فإنّ أولياء الله هم أجلى مصاديق حبل الله، والتوسّلُ بهم لا محالة يقرّبنا منه تعالى، والتمسّك بهم سينجينا من عذابه يوم الحساب.

3 _ (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً). (1)

في هذه الآية المباركة يوصي الله تعالى عباده الذين يريدون استغفاره وطلب التوبة منه بأن يلتجئوا إلى نبيّه الكريم. فإضافة إلى استغفارهم بأنفسهم، عليهم أيضاً أن يتّخذوا النبيّ واسطةً ليطلب لهم المغفرة من الله تعالى؛ ففي هذه الحالة سيكون احتمال قبول توبتهم أكثر. في الحقيقة إنّ هذه الوصيّة من قِبله تعالى تعتبر أبرز دليلٍ على مش_روعيّة وضرورة التوسّل برسول الله9 واتّخاذه واسطةً، لأنّ الله هو الذي علّم ذلك للعباد وأوصاهم به، فهذه الآية تصرّح بجواز التوسّل بغير الله تعالى بوضوحٍ. وسوف نُثبت لاحقاً أنّ التوسّل لا يختصّ بزمان حياة النبيّ9 فحسب بل هو ممكن حتّى بعد وفاته، معتمدين على الأحاديث الصحيحة التي سنذكرها.

التوسّل في الأحاديث

لقد أكّدت الكثير من الأحاديث مشروعية التوسّل بأولياء الله واتّخاذهم وسائط للتقرّب إليه تعالى ولطلب الحاجة منه، الأمر الذي جرت عليه سيرة المسلمين منذ عهد رسول الله حتّى عصرنا الحاضر، وهذا الأمر بالتأكيد ليس فقط منافياً للشرك، بل هو أمرٌ يتمّ من خلاله حصول أجلى حالات التضرّع


1- سورة النساء، الآية 64.

ص: 20

والخشوع للبارئ جلّ وعلا، وأنّ العبد الذي يجعل النبيّ أو أولياء الله وسيلةً لتقرّبه، هو في الحقيقة يتواضع ويتذلّل لله غاية التذلّل إذ لا يرى نفسه شيئاً أمام عظمة الخالق. فهذا العبد سيجعل الأولياء الصالحين الذين لهم شأن عند الله واسطةً له كي يُستجاب دعاؤه ببركتهم وبفضلهم عند الربّ فيشمله بلطفه ورحمته الواسعة، وهذه العبودية في الواقع هي غاية الخضوع والخشوع وخلوص النيّة لله الواحد الأحد.

ولإثبات ذلك، سوف نتناول بعض الأحاديث التي تدلّ على المدّعى فيما يلي:

1 _ عن عثمان بن حنيف قال: «إنّ رجلاً ضريراً أتى النبيّ، فقال: ادعُ الله أن يعافيني.

فقال: إن شتَ دعوتُ، وإن شئتَ صبرت وهو خير.

فقال: فادعه.

فأمره أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويُصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء:

اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللهمّ شفّعه فيَّ.

قال ابن حنيف: فوَالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضُرٌّ». (1) قال الترمذي وابن ماجه والحاكم إنّ هذا الحديث صحيحٌ.

نلاحظ في هذا الحديث أنّ النبيّ9 نفسه علّم هذا الضرير كيفيّة التوسّل عندما يطلب حاجةً من الله تعالى، وهذا التوسّل يكون تارةً بالله عزّ وجلّ وأُخرى به صلوات الله عليه. ولا ريب أنّ فحوى الحديث واضحٌ ولا يحتاج


1- سنن ابن ماجه، ج1، ص441؛ مستدرك الحاكم، ج1، ص313.

ص: 21

إلى التفسير والتأويل، إذ نستلهم منه إمكانيّة التوسّل بالنبيّ9 حين حياته، وسنُثبت لاحقاً صحّة التوسّل به بعد مماته أيضاً.

ونلاحظ في هذا الحديث أيضاً أنّ النبيّ9 لم يدعُ لهذا الرجل، بل علّمه دعاءاً ففعل، وطلب حاجته من الله، حيث جعل النبيّ9 وسيلةً بينه وبين الله تعالى.

2 _ رُوي عن جابر بن عبدالله أنّ رسول الله9 قال: «مَن قال حين يسمع النّداء: «اللّهم ربّ هذه الدّعوة التّامة والصلواتِ القائمة آتِ محمّداً الوسيلةَ والفضيلةَ وابعثْه المقامَ المحمودَ الذي وعدته»، حلّت له شفاعتي يوم القيامة». (1)

كما هو واضحٌ من منطوق الحديث الش_ريف فإنّ رسول الله يشجّع المسلمين ويحفّزهم على اتّخاذه واسطةً بينهم وبين الله تعالى.

3 _ رُوي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله قال: «ما خرجَ رجلٌ من بيته إلى الصّلاة وقال: «اللّهم أسألكَ بحقّ السّائلين عليك وبحقّ مَمْشايَ هذا، فإنّي لم أخرُج أشِراً ولا بطِراً ولا رياءاً ولا سمعةً، وخرجتُ اتّقاء سخَطك وابتغاء مرضاتك؛ فأسألك أن تُعيذني من النّار وأن تغفر ذنوبي، إنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، إلا أقبلَ الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملَكٍ». (2)

في هذا الحديث، ينصحنا نبيّنا الكريم9 أن نتوسّل ب_ «السّائلين عندالله» الذين هم أولياء الله والصّالحون من عباده وأن نجعلهم واسطةً إليه تعالى عند طلب الحوائج.

4 _ عندما تُوفّيت السيّدة فاطمة بنت أسد، دعا لها رسول الله عند


1- صحيح البخاري، ج1، ص253.
2- سنن ابن ماجه، ج1، ص261.

ص: 22

دفنها بهذا الدعاء: «الله الذي يُحيي ويُميت وهو حيٌّ لا يموت، اغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي». (1)

5 _ رُوي عن عمر بن الخطّاب أنّ رسول الله9 قال: «لم_ّا اقترف آدمُ الخطيئةَ، قال: يا ربّ، أسألكَ بحقّ محمّد إلا غفرتَ لي». (2)

الأحاديث التي ذكرناها هنا هي أمثلة على جواز التوسّل بأولياء الله تعالى وأنبيائه، وقد نُقلت بأسانيد عديدة معظمها صحيحة، فهي تتضمّن بيان حقائق دامغة لمخالفي التوسّل لتأكيدها على حسنه ورجحانه وذلك لأنّه يزيد في تقرّب السائل من ربّ العزّة والجلالة. فحتّى رسول الله نفسه قد توسّل إلى الله بنبوّته وبسائر الأنبياء وعلّم المسلمين ذلك، إذ أوصاهم بأن يتوسّلوا بعباد الله المقرّبين عند الدعاء وطلب الحوائج.

وتجدر الإشارة إلى أنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء ممكنٌ في كلّ زمانٍ، أي أثناء حياتهم وبعد مماتهم، لأنّ المتوسّل بهم في الحقيقة يسأل الله بحقّ منزلتهم عنده ويجعلها وسيلةً للتقرّب إليه تعالى، ومن البديهيّ أنّ منزلة خير خلق الله لا تزول أبداً سواء أكان حيّاً أم ميّتاً، لأنّ الله قد أكرمهم بها في الحياة الدنيويّة والبرزخيّة وفي الحياة الأُخرويّة أيضاً. وبالطبع فإنّ العبد لا يتوسّل بقدرة الأنبياء والأولياء الجسديّة والظاهريّة لكي يُقال إنّه بعد موتهم سوف ينتفي موضوع التوسّل، بل المقصود توسّله بمنزلتهم التي لا تزول وبشأنهم الرّفيع عند البارئ جلّ وعلا؛ لذلك نلاحظ أنّ رسولنا الكريم9 قد توسّل بأنبياء الله السالفين، ورُوي أيضاً أنّ آدم قد توسّل برسولنا الكريم وسأل الله


1- حلية الأولياء، ج3، ص121.
2- كنز العمّال، ج11، ص455.

ص: 23

بحقّه قبل أن يُخلق. وسوف نذكر ما كانت عليه سيرة المسلمين بشأن التوسّل، فمنذ زمن الصحابة والتابعين جرت السيرة على توسّل المسلمين إلى الله بأرواح الأنبياء والأولياء قرب مراقدهم التي تحفّها الملائكة. والعجيب ما ادّعاه البعض من أنّ التوسّل بالموتى شركٌ! فلو كان التوسّل بغير الله شركاً، فلا يختلف المعيار فيه بين الميّت والحيّ.

التوسّل في سيرة المسلمين

إضافةً للآيات والأحاديث التي تطرّقنا إليها، فللتوسّل بأولياء الله مكانة خاصّة بين المسلمين. فمنذ صدر الإسلام وحتّى يومنا هذا ما انفكّوا يتوسّلون بأنبياء الله وأوليائه والصالحين من عباده عند طلب حوائجهم، حيث جعلوا أحباب الله ومقرّبيه الذين لهم شأنٌ عظيمٌ عنده، وسيلةً لكي يُلبّي تعالى طلبهم، فإكراماً لذوي الشأن يستجيب ربّ العزّة دعاء العباد ويقضي حوائجهم.

وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:

1 _ بعد أن تُوفّي رسول الله، أصاب المدينة جدَبٌ شديدٌ فشكا النّاس ذلك إلى عائشة، فقالت لهم: «أُنظروا إلى قبر رسول الله فاجعلوا منه كوّاً إلى السماء حتّى لا يكون بينه وبين السماء سقفٌ». (1)

2 _ عن أنس بن مالك انّ عمر بن الخطّاب كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب، فقال: «اللّهم إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فأسقنا.


1- سنن الدارمي، ج1، ص43.

ص: 24

قال ]أنس[: فيُسقَون». (1)

3 _ رُوي عن عثمان بن حُنيف قوله: «إنّ رجلاً كان يختلفُ إلى عثمان بن عفّان2 في حاجةٍ له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظُر في حاجته. فلقيَ ابنَ حُنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حُنيف : ائت الميضأة فتوضّأ، ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين، ثمّ قُل: «اللّهم إنّي أسألُك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّدٍ نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقض_ي لي حاجتي»؛ وتذكُر حاجتَك». (2)

4 _ ابتُلي النّاس في عهد عمر بن الخطّاب بجدَبٍ، فأتى بلال بن الحرث إلى مرقد رسول الله 9، وقال: «يا رسولَ الله استسقِ لأُمّتك فإنّهم هلَكوا». (3)

5 _ رُوي عن محمّد بن حرب الهلالي أنّه قال: كنت جالساً عند قبر رسول الله، وإذا بأعرابيٍّ قد أقبل على ناقةٍ له، فنزل وعقلها ودنا إلى مرقد رسول الله، وبعد أن أنشد شعراً تحيّةً وإجلالاً له صلوات الله عليه، قال: «وجدت الله تعالى يقول: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً)، وقد جئتُك يا رسولَ الله مُستغفراً من ذنبي مُستشفعاً بك إلى ربّي». (4)

6 _ يُروى أنّ الخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور سأل مالك بن أنس _ إمام المالكيّة _ عن كيفيّة زيارة قبر رسول الله 9، وسأله هل يستقبل القبلة عند الزيارة أو يستقبل القبر؟ فأجاب مالك: «لِ_مَ تص_رِف وجهَك عنه وهو


1- صحيح البخاري، ج2، ص75.
2- المعجم الكبير، الطبراني، ج9، ص18.
3- وفاء الوفاء، ج4، ص1374.
4- المصدر السابق، ص1361.

ص: 25

وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله. قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ)». (1)

7 _ نُقل عن الإمام الشّافعي هاذان البيتان من الشعر يتوسّل فيهما بأهل بيت النبيّ 9، فقال:

آل الن_بيّ ذري_عتي

وهُ_م إلي_ه وسيلَتي

أرجو بِهم أُعطى غداً

بيدي اليمين صحيفتي (2)

ويذكر عليّ بن ميمون أيضاً أنّه سمع الشّافعي يقول: «إنّي لأَتبرّك بأبي حنيفة وأجيءُ إلى قبرِه في كلّ يومٍ، يعني زائراً، فإذا عرَضت لي حاجةٌ صلّيتُ ركعتينِ وجئتُ إلى قبرِه وسألتُ اللهَ الحاجةَ عنده». (3)

8 _ قال شيخ الحنابلة في زمانه الحسن بن إبراهيم أبو عليّ الخلال: «ما همّني أمرٌ فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلا سهّل الله تعالى لي ما أحب». (4)

9 _ أبو بكر محمّد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي عليّ الثقفيّ مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر عليّ بن موسى الرضا بطوس. قال: «فرأيتُ من تعظيمِه _ يعني ابن خزيمة _ لتلك البقعة وتواضعه لها وت_ضرّعه عندها ما تحيّرنا». (5)


1- وفاء الوفاء، ج4، ص1376.
2- الصّواعق الم_ُحرقة، ص178.
3- تأريخ بغداد، ج1، ص123.
4- المصدر السابق، ص120.
5- تهذيب التهذيب، ج7، ص388.

ص: 26

إنّ ما ذكرناه هنا من أدلّةٍ على جواز التوسّل بأولياء الله الصالحين ليس إلا غيضٌ من فيضٍ، وهناك الكثير منها في مصادر الحديث والتأريخ نستوحي منها أنّ سيرة الصحابة والتابعين والعلماء وأئمة الفقه والحديث كانت جاريةً عليه، إذ كانوا يجعلونهم وسيلةً عند طلب الحاجة من الله تعالى.

إذن، من المؤكّد أنّ سيرة المسلمين كانت جاريةً على جواز التوسّل بأولياء الله الصالحين، بل اعتبروه مستحبّاً، وذلك منذ عهد الصحابة والتابعين.

المبحث الثالث: التبرّك بآثار أولياء اللّه

ص: 27

إنّ مودّة أولياء الله وإجلالهم دون شكٍّ ناشئان عن كونهم عباداً صالحين ومقرّبين من الله عزّوجلّ، والحقيقة أنّ هاذين الفعلين يعتبر ان غايةً في الحسن ولا قبح فيهما مطلقاً، كما يُعتبر ان من الأعمال التي تُقرّب إليه تعالى. وقد وعد اللهُ عباده الصالحين بأنّه سيُرسّخ محبّتَهم في قلوب سائر عباده، فقال في كتابه العزيز: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً). (1)

ونحن نعلم أنّ المحبّة أمرٌ شعوريٌّ ولا توجد لها علامة ظاهرة، لذلك إن أراد العبد إظهارها على جوارحه، يجب عليه سلوك سُبل العقلاء والسير على طريقتهم إلا ما نهى عنه الشارع المقدّس. وإحدى الطُرق التي يمكن للعبد أن يسلكها لإبراز محبّة أولياء الله وعباده الصالحين والتي لم ينه الشارع المقدّس عنها، هي التبرّك بما بقي من آثارهم وما يتعلّق بهم، واحترام كلّ شيءٍ يُذكّرنا بهم.


1- سورة مريم، الآية 96.

ص: 28

فكما أنّ تقبيل الحجر الأسود والطّواف حول الكعبة، وحتّى الأعمال والأذكار التي نؤدّيها في صلواتنا، هي علامات تدلّ على إظهار العبوديّة والخشوع لله سبحانه وتعالى؛ فكذلك هو التبرّك بآثار الأولياء، حيث يعتبر علامة على إبراز المحبّة ومن مصاديق المودّة للذين أوجب الله علينا مودّتهم. كما يذكر لنا التأريخ أنّه بعد وفاة رسول الله 9 كان صحابته يحترمون كلّ شيءٍ يُنسب إليه ويتبرّكون به ويتّخذونه وسيلةً لإظهار حبّهم وتعظيمهم له، وهكذا فعل يعقوب بعد فراق يوسف، إذ وضع القميص الذي كان أثراً من المحبوب على عينيه فعاد بصيراً. حيث قال تعالى في كتابه الكريم: (فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). (1)

وفيما يلي بعض الروايات في هذا المضمار:

1 _ روَى عون بن أبي جُحيفة عن أبيه قوله: «أَتَيْتُ النَّبيَّ وهْوَ في قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ ، ورأيْتُ بلالاً أخذَ وضُوءَ النَّبيِّ والنَّاسُ يبتدِرُونَ الوضُوءَ، فمَنْ أصابَ منهُ شيئاً تمسَّحَ بهِ، ومَنْ لم يُصِبْ منهُ شيئاً أخذَ مِنْ بَلَلِ يدِ صاحبهِ». (2)

2 _ كما رُوي عن أبي جُحيفة قوله: «خرجَ رسولُ اللهِ بالهاجِرَةِ إلى البطحاءِ، فتوضَّأ ثُمَّ صلَّى الظُّهر ركعتَيْنِ والعصرَ ركعتَيْنِ، وبينَ يديهِ عنزَةٌ. قال: كانَ يمُرُّ من ورائِهَا المارّة، وقامَ النَّاسُ فجعلُوا يأخُذُونَ يديهِ فيمسحونَ بها وجوهَهُمْ، قال: فأخذتُ بيدهِ، فوضعتُهَا على وجهي، فإذا هيَ أبردُ من الثَّلْجِ، وأطيبُ رائحَةً من المسْكِ». (3)


1- سورة يوسف، الآية 96.
2- صحيح البخاري، ج7، ص283.
3- المصدر السابق، ج5، ص29.

ص: 29

3 _ قال أبو بُردة أنّ عبدالله بن سلام قال له: «ألا أسقيكَ في قدَحٍ شرِبَ منهُ النبيُّ»، وهذا القدح نفسه الذي طلبه عمر بن عبدالعزيز فوُهب له. (1)

وكذلك فقد أفرد البخاري في صحيحه باباً تحت عنوان: ما ذُكر من درع النبيّ وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه، وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك ممّا لم يذكر قسمته، ومن شَعره ونعله وآنيته ممّا يتبرّك أصحابه وغيرهم بعد وفاته. (2)

4 _ رُوي عن سلمة بن الأكوَع قوله: «بايعتُ النبيّ بيدي هذه، فقبّلناها فلم يُنكر ذلك». (3)

5 _ ورُوي: «جاءَ الأشجّ يمشي حتّى أخذَ بيد النبيّ فقبّلها، فقال له النبيّ: أما أنّ فيك خُلقَين يُحبّهما الله ورسوله»، إلى آخر الحديث. (4)

6 _ رُوي عن يحيى بن الحارث قوله: «لقيتُ واثلة بن الأسقع، فقلتُ: بايعتَ بيدك رسولَ الله؟

فقال: نعم.

قلتُ: أعطني يدَك أُقبّلها. فأعطانيها فقبّلتُها». (5)


1- صحيح البخاري، ج7، صص206 و 207.
2- المصدر السابق، ج4، ص184.
3- حياة الصحابة، ج2، ص483.
4- المصدر السابق، ص484.
5- مجمع الزوائد، ج8، ص42.

ص: 30

7 _ رَوى أبو جدعان أنّ ثابتاً قال لأنس بن مالك: «أَمَسَسْتَ النبيّ بيدك؟

قال: نعم. فقبّلتُها». (1)

8 _ رُوي عن عمّار بن أبي عمّار أنّ زيد بن ثابت ركب يوماً فأخذ ابن عبّاس بركابه، فقال: «تنَحّ يا ابن عمّ رسول الله. فقال: هكذا أُمرنا أن نفعلَ بعلمائنا وكبرائنا.

فقال زيد: أرِني يدَك.

فأخرج يدَه فقبّلها، فقال: هكذا أُمرنا أن نفعلَ بأهلِ بيتِ نبيّنا». (2)

9 _ رُوي عن الإمام عليّ7 أنّه قال: «لم_ّا رُمِس رسولُ الله، جاءت فاطمةُ3 فوقفت على قبرهِ وأخذت قبضةً من تُراب القبر ووضعته على عينيها وبكت». (3)

10 _ رُوي عن أبي الدرداء: «إنّ بلالاً رأى في منامه النبيّ وهو يقول له: ما هذه الجفوَة يا بلال؟! أما آنَ لك أن تزورَني يا بلال؟!

فانتَبَهَ حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركِب راحلَته وقصَد المدينةَ وأتى قبرَ النبيّ فجعل يبكي عنده ويُمرّغ وجهَه عليه، وأقبلَ الحسنُ والحسينُ فجعلَ يضمّهما على صدره ويُقبّلهما». (4)

11 _ رُوي عن داوود بن أبي صالح قوله: «أقبَلَ مروانُ يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهَه على القبرِ، فقال: أتدري ما تصنع؟

فأقبَلَ عليه فإذا هو أبو أيّوب، فقال: نعم، جئتُ إلى رسولِ اللهِ ولم آتِ الحجرَ. سمعتُ رسولُ الله يقول: لا تبكوا على الدّين إذا وليَه أهلُه، ولكن ابكوا على الدّين إذا وليَه غير أهلِه». (5)


1- حياة الصحابة، ج2، ص485.
2- كنز العمّال، ج13، ص396.
3- وفاء الوفاء، ج4، ص1405.
4- تهذيب تأريخ دمشق، ج2، ص259.
5- مجمع الزوائد، ج5، ص245.

ص: 31

12 _ رَوى الخطيب بن جملة: «أنّ ابن عمر كان يضع يده اليمنى على القبر الشّريف، وأنّ بلالاً وضع خدّيه عليه أيضاً». (1)

13 _ رُوي عن ابراهيم بن عبدالرحمن: «أنّه نظر إلى ابن عمر وضع يدَه على مقعد النبيّ من المنبر، ثمّ وضعها على وجهه». (2)

14 _ رُوي عن عبدالله بن أحمد بن حنبل أنّه قال: «سألتُ أبي عن الرجل يمسُّ منبر رسول الله ويتبرّك بمسّه ويُقبّله ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى؛ قال: لا بأس به». (3)

إذن، يتّضح لنا من مضمون هذه الأحاديث والأخبار أنّ التبرّك بآثار الأنبياء والأولياء كان رائجاً في زمان رسول الله9 وكذلك في زمان الصحابة والتابعين، حيث لم ينهَ عنه الرسولُ ولا صحابتُه، لأنّه احترام وتعظيم للأنبياء والأولياء.

المبحث الرابع: زيارة مراقد أولياء اللّه

اشارة


1- وفاء الوفاء، ج4، ص1405.
2- حياة الصحابة، ج2، ص310.
3- وفاء الوفاء، ج4، ص1404.

ص: 32

ص: 33

لا ريب في أنّ زيارة مراقد أنبياء الله وأوليائه وعباده الصّالحين والتأمّل في شخصيّاتهم المقدّسة لمعرفة الأعمال التي قاموا بها بغية تهذيب أنفسهم للوصول إلى هذه الدرجة من التقوى التي قرّبتهم من الله، لها فوائد تربويّة عظيمة للعباد إذ تُذكّرهم بالقِيَم والمبادئ والتعاليم التي دعا لها هؤلاء الصلحاء.

ولا يخفى علينا أنّ زيارة مراقد أولياء الله تنبّه الإنسان من غفلته عن الموت والآخرة، فتذكّره بيوم الجزاء. ومن البديهيّ أنّ تذكّر البعث والحساب يعتبر مُحفّزاً نفسيّاً قويّاً للإنسان كي يعبد الله بنيّةٍ خالصةٍ فيسعى جاهداً لأداء الواجبات ونبذ المحرّمات ممّا يزيد من تقواه، حاله حال أولياء الله الذين كانوا لا ينفكّون يذكرون الآخرة في حياتهم.

وفي هذا السياق يمدح تعالى أنبياءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب في كتابه الكريم قائلاً: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ *

ص: 34

إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ). (1)

فمن آثار زيارة مراقد أولياء الله أنّها تجعل الإنسان يَعتبِر بالموت ويتذكّر الآخرة، وهي حقيقةٌ تناولتها أحاديث عديدة نُقلت عن رسول الله9 وأكّدت عليها، وسنذكر بعضاً منها لاحقاً. لذا فقد جعلها الشارع المقدّس من الأعمال المستحبّة لما لها من آثارٍ تربويّةٍ وفوائد معنويّةٍ كبيرةٍ، إذ أوصى بها رسول الله9 وكان بنفسه يذهب لزيارة القبور ويعلّم أصحابه آداب زيارتها وكيفيّة السلام على الأموات.

وتجدر الإشارة إلى أنّ رسول الله9 قد نهى عن زيارة القبور في بادئ الأمر كما جاء في بعض الأحاديث، إلا أنّه غيّر الحكم فيما بعد وأجاز للنّاس زيارتها. فلَرُبّما كان النهي في بادئ الأمر يعود لواقع الأموات حينها، لأنّ أغلب موتى المسلمين في بداية الدعوة كانوا مش_ركين وعبَدة أوثانٍ، لذلك قصد رسول الله9 قطع صلة المسلمين بالمشركين، لا سيّما أنّهم كانوا حديثي العهد بالدين الجديد وقد يتلفّظون بالباطل أو بالش_رك عند زيارة قبور أمواتهم. ولكن بعد أن قويت شوكة الإسلام وترسّخت عقيدة التوحيد في نفوس المسلمين وأدركوا تعاليم دينهم وبعد أن ازداد عددهم وانتقل بعضهم إلى رحمة الله، أجاز لهم رسول الله زيارة القبور، بل أوصاهم بها لما فيها من فوائد تربويّة لهم.

ونتطرّق فيما يلي لبعض الأحاديث التي رُويت في هذا الشأن، لكن قبل ذلك ننوّه إلى أنّ «الأمر» الذي ورد في هذه الأحاديث بعد «النهي» لا يدلّ على الإباحة بعد المنع فحسب، بل يدلّ على المطلوبيّة والاستحباب لأنّ


1- سورة ص، الآيتان 45 و46.

ص: 35

رسول الله في مقام بيان فوائد زيارة القبور وحكمها الشرعي.

1 _ رُوي عن بُريدة أنّ رسول الله9 قال: «قد كُنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّها تُذكّر الآخرة». (1)

2 _ رُوي عن أنس أنّ رسول الله9 قال: «كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنّها تُرِقّ القلب وتُدمِع العين وتُذكّر الآخرة، ولا تقولوا هجراً». (2)

3 _ رُوي أيضاً عن أنس أنّ رسول الله9 قال: «نهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّها تُذكّركم الموتَ». (3)

وهناك الكثير من الروايات الأُخرى في هذا الشأن نقلها أرباب الصحاح والسنن والمسانيد، حيث وردت في بعضها تفاصيل عن آداب الزيارة وكيفيّة السلام على صاحب القبر والأذكار المخصّصة لذلك.

زيارة قبر النبيّ

إضافةً للروايات التي تدلّ على استحباب زيارة المراقد المقدّسة، لدينا رواياتٌ أُخرى مختصّة باستحباب زيارة مرقد رسول الله سنشير إلى بعضٍ منها، ولكن قبل ذلك لا بد أن نُنوّه إلى أمرٍ هامٍّ، وهو: أن الله تعالى أمر المذنبين أن يذهبوا إلى نبيّه الكريم ويستغفروا الله عنده ثمّ يستغفر هو لهم، حيث قال في كتابه الكريم: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً). (4) كما أنّه تعالى مدح الذين


1- سنن الترمذي، ج3، ص370.
2- كنز العمّال، ج15، ص646.
3- مستدرك الحاكم، ج1، ص375.
4- سورة النساء، الآية 64.

ص: 36

يُهاجرون في سبيل الله ورسوله، فقال في آيةٍ أُخرى من نفس السورة: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً). (1) وكما نعلم فإنّ رسول الله9 ذو كرامةٍ ووجاهةٍ عند الله سواء أكان حيّاً أم ميّتاً، ويُشرف على أعمال أُمّته في كلتا الحالتين، الأمر الذي تمّ التأكيد عليه في حديثٍ صحيحٍ رواه عبدالله بن مسعود عن النبي، فقال: «إنّ للهِ ملائكةً سيّاحين يبلغون عن أُمتّي السلام. قال: وقال رسول الله: حياتي خيرٌ لكم تحدثون وتحدث لكم، ووفاتي خيرٌ لكم تُعرض عليّ أعمالكم. فما رأيتُ من خيرٍ حمَدتُ اللهَ عليه وما رأيتُ من شرٍّ استغفرتُ اللهَ لكم». (2)

فهذا الحديث دليلٌ جليٌّ على أنّ رسول الله9 في حياته ومماته مصدرُ خيرٍ وبركةٍ، وأنّه حتّى بعد مماته يُشرف على أعمال أُمتّه ويستغفر للمذنبين منهم كما كان يفعل في حياته المباركة. لذلك، فإنّ زيارة قبره صلوات الله عليه واستغفار الله في حضرته الطّاهرة جائزٌ، وهي كزيارته في حياته والت_ضرّع بين يديه استغفاراً لربّ العزّة والجلالة. وأيضاً يمكن حمل معنى الآية التي تدعو عباد الله إلى طلب المغفرة من ربّهم بين يدي نبيّهم الكريم، على جواز هذا العمل عند مرقده المقدّس أيضاً. ناهيك عن الكثير من الأحاديث التي وردت بطرقٍ متعدّدةٍ في استحباب زيارة قبره صلوات الله عليه، حيث نذكر أمثلةً منها هنا:

1 _ رُوي عن عبدالله بن عمر أنّ رسول الله قال: «مَن زار قبري وجَبَتْ


1- سورة النساء، الآية 100.
2- مجمع الزوائد، ج9، ص24.

ص: 37

له شفاعتي». (1)

2 _ رُوي عن عبدالله بن عمر أيضاً أنّ رسول الله قال: «مَن حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمَن زارني في حياتي». (2)

3 _ رُوي عن حاطب بن أبي بلتعة أنّ رسول الله قال: «مَن زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي». (3)

فهذه الأحاديث ونظائرها وردت في مصادر الحديث بصيَغٍ وعباراتٍ مختلفةٍ وقد تداولها المحدّثون والحفّاظ على مرّ القرون، ونظراً لعددها الكبير فلا يمكن الترديد في صحّتها.

وكذلك فإنّ سيرة المسلمين منذ عصر الصّحابة إلى اليوم جاريةٌ على زيارة قبر رسول الله9 بشوقٍ عارمٍ حيث يحدوهم الحبّ والمودّة لنبيّهم الكريم لأنّه الوسيلة التي تقرّبهم إلى ربّ العزّة والجلالة.

السفر لزيارة المراقد المقدّسة

كما ذكرنا، فإنّ زيارة مراقد المؤمنين وأولياء الله الصّالحين، لا سيّما مرقد رسول الله، تعتبر من المستحبّات التي أكّدت عليها الروايات الصحيحة. لذا، فسفر المسلم وانتقاله من مكانٍ إلى آخر بغية زيارة هذه المراقد المقدّسة يعتبر سفراً مستحبّاً أيضاً، لأنّ القصد منه الامتثال لحكم الشّارع وأداء فعلٍ مستحبٍّ.

عندما يكون السفر لزيارة المراقد عملاً مشروعاً ومن المستحبّات كما ورد


1- سنن الدارقطني، ج2، ص278.
2- سنن البيهقي، ج5، ص246.
3- سنن الدارقطني، ج2، ص278.

ص: 38

في الأحاديث الصحيحة، فما هو الفرق بين أن يقصد العبد زيارة مرقدٍ مقدّسٍ في مدينته أو يقصد زيارة مرقدٍ في مدينةٍ أُخرى؟! ففي كلتا الحالتين سيطوي مسافةً قصيرةً أو طويلةً، ومن الطبيعيّ أنّه لا يوجد فرقٌ في أصل الموضوع؛ إذ القصد يكمن في الزيارة. وفي هذا المضمار هناك أحاديث عديدة أيضاً تشير بوضوحٍ إلى جواز السفر بقصد زيارة المراقد المقدّسة، نذكر عدداً منها فيما يلي:

1 _ رُوي عن أبي هريرة أنّ رسول الله9 حينَ مرّ علي شهداء أُحُد قال: «أشهد أنّ هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم؛ والذي نفس_ي بيده لا يُسلّم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه». (1)

2 _ قال طلحة بن عبيدالله: كنّا مع رسول الله في سفرٍ، فلمّا أشرفنا على حرّة «واقم» إذا نحن بقبورٍ، فقلنا: يا رسولَ الله هذه قبور إخواننا، قال: «هذه قبورُ أصحابِنا»، فلمّا جاء قبورَ الشهداءِ، قال: «هذه قبورُ إخوانِنا». (2) المقصود من «إخواننا» شهداء أُحد الذين تبعد قبورهم بضعة كيلومترات عن المدينة المنوّرة.

3 _ رُوي عن أبي الدرداء أنّ بلالاً رأى رسول الله9 في منامه وهو يقول له: «ما هذه الجفوَة يا بلال؟! أما آنَ لك أن تزورَني يا بلال؟! فانتبه حزيناً وجِلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة وأتى قبرَ النبيّ» (3) وقد نقلنا هذا الحديث في المبحث الثّالث كاملاً.

4 _ رَوى الإمام عليّ بن الحسين7 عن أبيه7 أنّه قال: «كانت فاطمةُ


1- مستدرك الحاكم، ج2، ص248.
2- مسند أحمد بن حنبل، ج1، ص161.
3- تهذيب تأريخ دمشق، ج2، ص259.

ص: 39

تزورُ قبرَ عمِّها حمزة في كلّ جُمعةٍ فتُصلّي وتبكي عنده». (1)

5 _ رُوي عن شهر بن حوشب أنّه قال: لم_ّا أسلم كعب الأحبار عند

عمر بن الخطّاب وهو في بيت المقدس، فرح عمر بإسلامه، ثمّ قال: «هل لك أن تسيرَ معي إلى المدينة فنزور قبرَ النبيّ وتتمتّع بزيارته؟ فقال: نعم يا أميرالمؤمنين، أنا أفعل ذلك». (2)

إذن، استناداً لهذه الأحاديث ونظراً لما جرت عليه سيرة المسلمين على مرّ العصور، فإنّ السفر لزيارة المراقد المقدّسة يعتبر أمراً مش_روعاً، بل مستحبّاً، حيث أشرنا سابقاً إلى أنّ حكم استحباب السفر لزيارة أولياء الله ناشئ عن استحباب الزيارة نفسها، وهذا الحكم بذاته ثابت بتأييد الأحاديث الصحيحة.

هناك مسألةٌ تجدر الإشارة إليها في هذا المضمار، ألا وهي عبارة «شدّ الرّحال» وما شاكلها التي وردت في بعض الأحاديث، إذ نذكر هنا واحداً منها على سبيل المثال:

رُوي عن أبي هريرة أنّ رسول الله قال: «لا تشدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجدَ، مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى». (3)

استند البعض إلى هذا الحديث ليدّعوا أنّ السفر بقصد زيارة مراقد الأنبياء والأولياء، وحتّى مرقد رسول الله، من المحرّمات؛ لأنّ هذا الحديث ينهى عن السفر لزيارة غير هذه المساجد الثّلاثة. إلا أنّ الحديث في الحقيقة لا يدلّ على النهي عن السفر لزيارة غير هذه المساجد مطلقاً، بل إنّ


1- سنن البيهقي، ج4، ص78.
2- فتوح الشّام، ج1، ص244.
3- صحيح مسلم، ج4، 126.

ص: 40

رسول الله في مقام بيان مكانتها المرموقة وأفضليتها على سائر المساجد، وأنّ الصلاةَ فيها عظيمةٌ لدرجة أنّها تستحق تحمّل عناء السفر ومشقّته؛ إذ سينال المرءُ بذلك ثواباً كبيراً. فضلاً عن أنّ الحديث قد ورد بثلاثة تعابير

لا يدلّ أيٌّ منها على إنشاء حكمٍ بالنهيّ البتّة، بل ثلاثتها وردت بصيغة الإخبار، كما يلي:

لا تشدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجدَ ... (1)

إنّما يُسافر إلى ثلاثة مساجد ...

تشدّ الرّحال إلى ثلاثة مساجد ...

فعند التأمّل بهذه العبارات يتبيّن لنا بوضوحٍ أنّ رسول الله9 لا ينهى عن السفر لسوى هذه المساجد، بل يؤكّد صلوات الله عليه على كرامتها وأفضليّتها بالنسبة لسائر المساجد. ومن المعلوم أنّ السفر للجهاد أو طلب العلم أو حتّى السير في الأرض يعتبر من المستحبّات في الش_ريعة الإسلاميّة، وكذلك فإنّ السفر إلى «عرفات» و«المشعر» و«مِنى» لم_َن يحجّ بيت الله الحرام يعتبر من الواجبات.

ويذكر لنا المؤرّخون والمحدّثون أنّ رسول الله كان يُشجّع النّاس على الذهاب إلى مسجد «قباء» الذي كان يبعد عدّة كيلومتراتٍ عن المدينة آنذاك، وهو بنفسه أيضاً كان يقصده في أيّام السبت عادةً. فقد رُوي عن سهل بن حنيف أنّ رسول الله 9 قال: «مَن تطهّر في بيته ثمّ أتى مسجد قباء فصلّى فيه صلاةً، كان له كأجر عُمرةٍ». (2)


1- وردت هذه التعابير الثّلاثة في صحيح مسلم، ج4، ص126.
2- سنن ابن ماجه، ج1، ص453.

ص: 41

وقال ابن عمر: «كان النبيُّ يأتي مسجدَ قباء كلّ سبتٍ ماشياً وراكباً». (1)

كما كان صلوات الله عليه يخرج من المدينة لزيارة قبور شهداء أُحد وكانت سيرة الصّحابة على ذلك أيضاً، حيث ذكرنا سابقاً ما جاء من روايات في هذا المجال.

زيارة النّساء للقبور

إنّ استحباب زيارة القبور حكمٌ يستوي فيه الرّجال والنّساء على حدٍ سواء. فالنّساء لا يختلفن عن الرّجال في هذا العمل، لأنّهنّ بحاجةٍ للتبرّك بمراقد أولياء الله وتذكّر الموت والآخرة أيضاً، وهذا الحكم مشتركٌ بين الجنسين كسائر الأحكام الدينيّة المشتركة بينهما. طبعاً لابدّ من التنويه هنا إلى «القصد» ومراعاة الشرع في هذا العمل، أي أنّ المرأة يجب أن لا تتّخذ من هذا الأمر ذريعةً للحضور بين الرّجال أو للظهور أمامهم، فلا ريب في حُرمة عملها هذا، لأنّه قد يؤدّي إلى الفساد والانحراف. لذا لَعَنَ رسولُ الله النّساءَ اللواتي يُداوِمنَ على زيارة القبور، كما رُوي عن أبي هريرة: «إنّ رسول الله لعنَ زوّاراتِ القبور».(2) فقد لعن صلوات الله عليه «الزوّارات» من النّساء، ونعلم أنّ كلمة «زوّار» هي صيغة مبالغة تدلّ على الكثرة والاستمرار. لذا يكون ذمُّ رسول الله مختصّاً بالنساء اللواتي يجعلن من زيارة القبور عادةً لهنّ ويتردّدن عليها باستمرار فيتعرّضن للتّهمة أو يكون فعلهنّ سبباً لإثارة الفِتن والفساد الأخلاقي.

إلا أنّ المرأة التي تقصد زيارة القبور من أجل السّلام على أهلها ولكسب


1- صحيح البخاري، ج2، ص137.
2- سنن الترمذي، ج3، ص372.

ص: 42

الثّواب والاعتبار بها من خلال تذكّر الآخرة، فلا يُخشى من حصول الفِتن بسبب عملها هذا لأنّها قامت بأداء عبادةٍ مستحبّةٍ، وبالتّالي لا ريب في عدم شمول لعن النبيّ لها.

كما أنّ الترمذي بعد أن ذكر الحديث أعلاه، قال: «إنّ هذا كان قبلَ أنْ يُرخّص النبيّ في زيارة القبور، فلمّا رخّص دخل في رخصتهِ الرّجالُ والنّساءُ». (1) لذلك نلاحظ أنّ النّساء في عهد رسول الله9 وبعده كُنّ يذهبنَ لزيارة القبور ولم يردعهُنّ أحدٌ، حتّى أنّ النبيّ نفسه علّم عائشة آداب زيارة القبور والسّلام على أهلها.

ولا نرى بأساً في أن نذكر بعض الأحاديث بالنسبة لجواز زيارة النّساء للقبور فيما يلي:

1 _ رُوي عن عائشة حديثٌ طويلٌ قالت فيه: قال رسول الله: «فأمرَني _ جبرائيل _ أن آتي البقيعَ فأستغفر لهم.

قلتُ: كيف أقول يا رسولَ الله؟

قال: قولي السلام على أهل الدّيارِ من المؤمنين والمسلمين، يرحم اللهُ المستقدمينَ منّا والمستأخرينَ، وإنّا إن شاء اللهُ بكم لاحقون». (2)

2 _ رُوي عن عبدالله بن أبي مليكة أنّ عائشة أقبلت ذات يومٍ من المقابر، فقلت لها: «يا أُمّ المؤمنين من أين أقبلت؟

قالت: من قبر أخي عبد الرّحمن.

فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله عن زيارة القبور؟


1- سنن الترمذي، ج3، ص372.
2- سنن النّسائي، ج4، ص93.

ص: 43

قالت: نعم، كان نهى عن زيارة القبور، ثمّ أمر بزيارتها». (1)

3 _ جاء في سنن البيهقي: «كانت فاطمة تزور قبر عمّها حمزة كلّ جمعة». (2) وقد نقلنا هذه الرّواية كاملةً في موضوع «السفر لزيارة المراقد المقدّسة».

4 _ رُوي عن أنس بن مالك قوله: «مرّ النبيّ بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقال: اتّقي الله واصبري.

قالت: إليكَ عنّي فإنّك لم تُصَب بمصيبتي ولم تعرفه.

فقيل لها: إنّه النبيّ!

فأتَت بابَ النبيّ فلم تجد عنده بوّابين.

فقالت: لم أعرفكَ!

فقال: إنّما الصّبر عند الصّدمة الأُولى». (3)

نلاحظ في هذه الرّواية أنّ رسول الله دعا هذه المرأة للصّبر فحسب، ولم ينهها عن زيارة القبر. فهذا الحديث والأحاديث التي سبقته واضحة الدلالة على أنّ النّساء أيضاً باستطاعتهنّ الخروج لزيارة القبور. وأمّا ما رُوي عنه صلوات الله عليه من أحاديثٍ تمنع النّساء من زيارة القبور، فإنّها تعود لزمانٍ لم يُجز فيه رسول الله ذلك بعد، أو أنّها تختصّ بالنّساء اللواتي يتّخذن من زيارة القبور عملاً أو عادةً مستمرّةً وما يترتّب على ذلك من انحرافاتٍ وفِتَنٍ.

المبحث الخامس:تشييد مراقد أولياء اللّه وتعميرها

اشارة


1- نيل الأوطار، ج4، ص110.
2- سنن البيهقي، ج4، ص78.
3- صحيح البخاري، ج2، ص171.

ص: 44

ص: 45

إنّ احترام أولياء الله وتوقيرهم في الحقيقة هو احترامٌ وتوقيرٌ لذات الإيمان والتقوى ولكافّة القِيَم الدينيّة، وهو سبيلٌ لترويج الخصال الحميدة التي تحلّى بها هؤلاء الصّلحاء. فقد مدح الله تعالى خاتم أنبيائه9 في كتابه الكريم ووصفه بأنّه «أُسوة حسنة» وأمرنا أن نتأسّى به، كما أوجب علينا مودّة أهل بيته الأطهار وصحبه الأبرار وكافّة الأولياء الصّالحين. وهذه المودّة هي أمرٌ باطنيٌّ يظهر من خلال إجلال أولياء الله، وبعبارةٍ أُخرى فإنّ توقير أولياء الله بذاته يعتبر مودّةً لهم؛ وقد أمرنا رسول الله 9 بمودّتهم واعتبرها من علامات الإيمان.

من المؤكّد أنّ مكانة أولياء الله الرفيعة عند ربّ العزّة والجلال لا تزول بعد وفاتهم، فعندما نالوا هذه الدرجة من التقرّب إلى الله في حياتهم لا يعقل أنّها تزول بعد مماتهم سواء في عالم البرزخ أم في يوم الحشر، إذ ستبقى درجتهم رفيعة وسيظلّ قدرهم عظيماً. إذن، بما أنّ زيارة مراقدهم المقدّسة تعتبر علامةً

ص: 46

على إظهار المودّة والاحترام لهم من قِبل زائريهم، فبناء هذه المراقد وصيانتها يعتبر علامةً على إظهار المودّة والاحترام لهم أيضاً، فضلاً عن أنّه تقديرٌ لما قدّموه للبشريّة من خدماتٍ عظيمةٍ بهدايتهم وانتشالهم من غياهب الضلال والانحراف عن الصراط الحقّ، فإنّ حبّهم كما وصفه الإمام الشافعيّ «فرضٌ من الله في القرآن أنزله». وهذا العمل بالطبع لا يختصّ بالمسلمين فحسب، بل أنّ جميع الأُمَم بشتّى معتقداتها تفعل ذلك وفي العصور كافّةً، فحتّى في عهد ما قبل الإسلام كان النّاس يُشيّدون أضرحةً على مراقد الأنبياء والأولياء الصّالحين ويعمّرونها إذا ما اندرست، بل حتّى إنّهم كانوا يُشيّدون أبنيةً لمواطن جلوسهم ورقودهم تبرّكاً بمقامهم عند الله وتعظيماً لهم. ومن الجدير بالذكر أنّ البعض قد أفرطوا في هذا الأمر وانحرفوا عن حدود الش_رع، فقاموا بعبادة هذه الأماكن والسجود لها، حيث أوقعهم الشيطان في فخّ الشرك والضلال؛ وبالتأكيد فلا يمكن مقارنة هذه الأفعال التي زيّنها الشيطان لهؤلاء بأفعال مَن يُشيّد مراقد الأولياء من أجل مكانتهم الرفيعة عند الله ولكونهم مِن عباده الصالحين فحسب.

بالطبع فإنّ بناء المراقد والأضرحة للأنبياء والأولياء لا صلة له بعبادتها مطلقاً، إذ إنّ الشرك بالله وعبادة غيره ناشئٌ عن العقيدة الفاسدة المترسّخة في نفوس القوم؛ فنلاحظ أنّ النصارى مثلاً عبدوا المسيح عيسى وجعلوه شريكاً لله سبحانه وتعالى، بالرغم من أنّهم لا يعلمون أين دُفن! ولو كان له ضريحٌ ومزارٌ لربّما كان الأمر أسوأ. وفي مقابل ذلك، نلاحظ أنّ مرقد النبيّ إبراهيم7 معلومٌ مكانه وكانت له قبّة وضريح منذ العصور التي سبقت الإسلام، إلا أنّه لم يُصبح معبَداً للمش_ركين قطّ. لذا فإنّ بناء الأضرحة

ص: 47

والقباب على القبور لا صلة له بالشّرك وعبادة مَن دُفن فيها مطلقاً. ودون شكٍّ فإنّنا نعتقد بأنّ عبادة أيّ قبرٍ، سواء أكان مشيّداً وذا قبّةٍ أم غير مشيّدٍ

ولا بناء له، هو شركٌ ويتعارض مع عقيدتنا، عقيدة التوحيد الخالصة والإيمان ببديع السماوات والأرض الذي لا شريك له.

يأمرنا الله تعالى في قرآنه الكريم أن نصلّي له في مقام إبراهيم، فقال: (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى). (1) والحقّ أنّ الصلاة في مقام إبراهيم لا تعني العبادة له أو الشرك بالله تعالى، بل تعدّ احتراماً وتوقيراً له، فهو كريمٌ عندالله، فقد كان بطل التوحيد في زمانه وتحدّى الطغاة بحزمٍ وشجاعةٍ.

وفي سورة الكهف يروي لنا القرآن الكريم في قصّة الفتية الذين آمنوا بربّهم، أنّ النّاس كان لهم رأيان بالنسبة لقبورهم، فبعضهم اقترحوا أن يُبنى عليها بنيان والآخرون اقترحوا أن يُبنى عليها مسجد؛ والقرآن الكريم يعرض لنا اقتراحي هؤلاء الموحّدين ولا يعترض عليهم أو يُوبّخهم، فقال عزّ مَن قال: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً). (2)

كما يعتبر القرآن الكريم أنّ تعظيمَ «شعائر الله» علامةٌ على التقوى والإيمان. ويقصد القرآن الكريم من شعائر الله علاماتِ دين الله،

كالحجر الأسود والصفا والمروة وعرفات والمشعر الحرام والأضحية؛ وبما أنّ أنبياء الله وأولياءه هم أيضاً جزءٌ من شعائر الله، فتعظيمهم في الحقيقة هو تعظيم لهذه الشعائر.


1- سورة البقرة، الآية 125.
2- سورة الكهف، الآية 21.

ص: 48

وكذلك هناك أصلٌ أوّليٌّ في الأحكام الشرعيّة يُسمّى «الإباحة»، بمعنى أنّ الأفعال المتعارفة بين العقلاء والتي لم ينهَ عنها الشّارع المقدّس هي جائزة؛ ولم_ّا كان تعظيم أولياء الله من ضمن هذه الأفعال، فيجوز حينها بناء مراقدهم وتشييد القبب عليها. (1) فهذه الإباحة قد تجلّت في سيرة المسلمين على مرّ العصور، منذ عهد رسول الله إلى يومنا هذا، حيث شيّدوا أضرحة أولياء الله لتكون شاخصةً للناظرين بعمارةٍ إسلاميّةٍ تتناسب ووضعهم الاقتصادي في كلّ زمنٍ.

ونشير فيما يلي لبعض الأخبار والأحاديث التي وردت في هذا المضمار:

1 _ رُوي عن أنس بن مالك قوله: «إنّ رسول الله أعلم قبر عثمان بن مظعون بصخرةٍ». (2)

ورُوي عن المطّلب أنّه قال: «لم_ّا ماتَ عثمان بن مظعون وأُخرج بجنازته فدُفن، أمرَ النبيّ رجلاً أن يأتيه بحجرٍ، فلم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله فحسّر عن ذراعيه ثمّ حملها فوضعها عند رأسه، وقال: أُعلِّم بها قبرَ أخي وأَدفِن إليه من ماتَ من أهله». (3)

ورُوي عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو أنّه قال: «رأيتُ قبرَ عثمان بن مظعون وعنده شيءٌ مرتفعٌ، يعني كأنّه عَلَمٌ». (4)

كما رُوي عن ابن شهاب قوله: «إنّ رسول الله جعل أسفلَ المِهراس علامةً على قبر عثمان بن مظعون ليدفن النّاس حولَه، فلم_ّا استعمل معاوية


1- سوف نتطرّق للأحاديث التي نهت عن بناء قبور اولياء الله لاحقاً.
2- سنن ابن ماجه، ج1، ص498.
3- سنن أبي داوود، ج2، ص69.
4- طبقات ابن سعد، ج3، ص397.

ص: 49

مروان بن الحكم على المدينة، حمل المهراس على قبر عثمان». (1)

2 _ رُوي عن أبي جعفر7 أنّه قال: «إنّ فاطمة كانت تزور قبر حمزة ترمّه وتُصلحه وقد علّمته بحجرٍ». (2)

3 _ عندما تُوفّي رسول الله وُوريَ جثمانه الثرى في حجرته التي كان لها سقفٌ وجدارٌ، وكذلك فإنّ الخليفتين الأوّل والثّاني قد دُفنا في هذه الحجرة أيضاً. فإذا كان بناء القبور حرامٌ، لِمَ فعل المسلمون ذلك بنبيّهم وصاحبيه؟! ولماذا لم يهدموا البناء بعد دفنهم؟!

وحُكم بناء القبور واحدٌ، سواء أكان قبل الدفن أم بعده، لأنّ وجود بناءٍ على قبر ميّتٍ دليلٌ على احترامه وتعظيمه. كما نلاحظ أنّ المسلمين لم يهدموا بناء مرقد رسول الله وصاحبيه بعد دفنهم، وعندما انهدم الجدار المحيط بمرقده صلوات الله عليه في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز، يذكر لنا التأريخ أنّه أمر ببنائه. (3) وبقي الأمر على حاله بين المسلمين على مرّ التأريخ إلى أن بُنيَت عليه القبّة الخضراء.

4 _ ورد في المصادر الإسلاميّة المعتبرة أنّ العبّاس بن عبدالمطّلب لم_ّا تُوفّي دُفن في دار عقيل (4)، التي دُفن فيها لاحقاً أربعةٌ من أئمة أهل البيت: هم: الإمام الحسن بن عليّ وعليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد. كما أنّ إبراهيم ابن رسول الله كان قد دُفن في دار محمّد بن زيد(5)، وأنّ سعد بن


1- وفاء الوفاء، ج3، ص914.
2- المصدر السابق، ص932.
3- طبقات ابن سعد، ج2، ص307.
4- وفاء الوفاء، ج3، ص910.
5- المصدر السابق، ص893.

ص: 50

معاذ دُفن في دار ابن أفلج وكانت لمرقده قبّةٌ. (1)

5 _ لم يذكر أحدٌ قطّ أنّ المسلمين قاموا بتخريب قبور الأنبياء في فلسطين والشّام بعد فتحهما، كقبر النبيّ إبراهيم في مدينة الخليل وقبور يعقوب ويوسف وداوود وسليمان في بيت المقدس وبيت لحم والتي كانت جميعها مشيّدةً ببناءٍ، وكذلك سائر قبور الأنبياء والأولياء في جميع البلاد التي فتحوها. فالخليفة الثّاني الذي كان حاضراً في فتح بيت المقدس لم يفعل ذلك ولم يأمر به، بل إنّه صلّى في زاويةٍ من كنيسةٍ واقعةٍ في بيت لحم ثمّ جعلها مسجداً وأمر بترميمها وتنظيفها وإنارتها، إذ الزاوية التي صلّى فيها كانت مدفن النبيّ داوود وابنه سليمان. (2)

إنّ ما ذُكر أعلاه ليس سوى عددٍ يسيرٍ من الأحاديث والأخبار بهذا الشأن، حيث تتمحور جميعها حول جواز بناء وترميم القبور في عهد رسول الله9 وفي عهد الصحابة والتابعين. ففي كلّ زمانٍ كان النّاس يبنون الأضرحة ويرمّمونها بحسب استطاعتهم المادّية، كما أنّ اشتمال قبر نبيٍّ أو وليٍّ من أولياء الله على جدارٍ يحيط به أو سقفٍ يُغطّيه لم يكن بالأمر المنكر أو المذموم، فقد كان رسول الله9 والصحابة والتّابعون أنفسهم يقومون بهذا الأمر تعظيماً واحتراماً لهم.

الروايات الناهية عن بناء القبور

ذُكرت في بعض كتب الحديث روايات ادُّعيَ أنّها تحرّم بناء قبور الأنبياء والأولياء، وقد اتّخذها البعضُ دليلاً على حرمة ذلك. ولكنّ هذه الروايات في


1- وفاء الوفاء، ج3، ص915.
2- معجم البلدان، ج1، ص522.

ص: 51

الحقيقة ضعيفة السند وغير تامّة الدلالة، وقبل أن نخوض في دراسة سندها ودلالتها، سنذكر عدداً منها فيما يلي:

1 _ قال أبو الهيّاج الأسدي أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب7 خاطبه قائلاً: «ألا أبعثُكَ على ما بعثني عليه رسول الله أنْ لا تدَعْ تمثالاً إلا طمَستَه ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته؟!». (1)

2 _ رَوى أبو الزّبير عن جابر أنّه قال: «نهى رسولُ الله أنْ يُجصّص القبر وأنْ يُقعد عليه وأنْ يُبنى». (2)

3 _ رُوي عن أُم سلمة أنّها قالت: «نهى رسولُ الله أنْ يُبنى على القبر أو يُجصّص». (3)

هذه الروايات في الحقيقة تعتبر ضعيفة السند، للأسباب التاليّة:

في سند الحديث الأوّل رواةٌ تمّ ذمّهم في كتب الرجال، مثل «وكيع» الذي قال عنه ابن حجر نقلاً عن أحمد بن حنبل بأنّه قد أخطأ في خمسمائةِ حديثٍ: «وقال في موضعٍ آخر أخطأ وكيع في خمسمائة حديثٍ». (4) ومثل «حبيب بن أبي ثابت» الذي قال عنه ابن حجر نقلاً عن أبي حيّان بأنّه يُدلّس الحديث. (5) كما أنّه لم يُروَ عن أبي الهيّاج حديثٌ غير هذا في كتب الحديث قاطبةً. (6)

أما بالنسبة لسند الحديث الثّاني، ففيه رواةٌ غير موثّقين مثل «ابن جريح»


1- صحيح مسلم، ج3، ص61.
2- المصدر السابق، ص62.
3- مسند أحمد بن حنبل، ج6، ص299.
4- تهذيب التهذيب، ج11، ص125.
5- المصدر السابق، ج3، ص179.
6- حاشية السيوطي على سنن النسائي، ج4، ص89.

ص: 52

الذي قال عنه الذهبيّ أنّه يُدلّس (1) ، ومثل «أبي الزبير» الذي ضعّفه الذهبي نقلاً عن أبي زرعة وأبي حاتم وقال لا يمكن الاحتجاج بحديثه، ونقل عن آخرين قولهم إنّ أبي الزبير يُدلّس. (2)

وأمّا سند الحديث الثّالث، ففيه «ابن لُهيعة» الذي قال الذهبيّ أنّه لا يمكن الاحتجاج بحديثه (3)، كما نقل ضعفه عن ابن معين. (4)

سوف نغضّ النظر عن ضعف سند هذه الأحاديث لأنّها وردت في الصّحاح، ونتحدّث عن دلالتها، فنقول:

إنّ حديث أبي الهيّاج ناظرٌ إلى قبور الم_شركين لأنّ تسوية القبور كانت مصحوبةً بتحطيم الأصنام والتماثيل، وكما نعلم ففي عهد رسول الله وفي عهد الصحابة والتابعين لم يضع المسلمون أصناماً على قبور موتاهم، بل المشركون هم الذين كانوا يفعلون ذلك ومن ثمّ يعبدونها.

إذن، يخرج الحديث الأوّل من موضوع البحث ولا صلة له بالمدّعى. كما نلاحظ أنّ المسلمين لم يسوّوا قبر رسول الله9 أو عمر أو أبي بكر، بل شيّدوها على شكل سنامٍ؛ فقد رُوي عن سفيان الثوريّ: «إنّه رأى قبر النبيّ مُسنّماً». (5) ورُوي عن أبي بكر بن حفص أنّه قال: «كان قبر النبيّ وأبي بكر وعمر مُسنّمة وعليها نقَل» (6)، لذا رأى بعض الفقهاء تسنيم القبر. (7) طبعاً رجّح


1- تذكرة الحف_ّاظ، ج1، ص170.
2- المصدر السابق، ص127.
3- المصدر السابق، ص239.
4- ميزان الاعتدال، ج2، ص476.
5- صحيح البخاري، ج2، ص212.
6- الطبقات الكبرى لابن سعد، ج2، ص306.
7- سنن البيهقي، ج4، ص4.

ص: 53

البعض تسطيح القبور وهذا بحثٌ آخر.

فالنتيجة أنّ حديث أبي الهيّاج لا يُقصد فيه قبور المسلمين، ولا يدلّ على جواز تخريب البناء المحيط بقبور الأنبياء والأولياء البتّة.

وأمّا الأحاديث التي ورد فيها نهيٌ عن بناء القبور أو تسطيحها بالجصّ فهي تختصّ بقبور عامّة النّاس، إذ قد يكون بناء قبورهم عملاً عديم الفائدة ويكون فيه إسرافٌ؛ ولكن الأمر يختلف بالنسبة لقبور أنبياء الله وأوليائه لما يترتّب عليه من فوائد وأعمالٍ حسنةٍ، فهذا العمل يعتبر تعظيماً لشعائر الله وبياناً لمحبّتهم. وبما أنّ المسلمين قد عملوا بهذه السنّة منذ عهد رسول الله9 إلى عصرنا الحاضر، فلا يمكن تعميم هذه الأحاديث والأخذ بها كرادعٍ لبناء القبور، حيث ذكرنا أمثلةً على أداء هذه السّنة سابقاً، أبرزها بناء قبر رسول الله9 الذي كان يحيط به جدارٌ وله سقفٌ.

وإذا كان بناء قبور الأنبياء والأولياء محرّماً في أحكام الإسلام حرمةً قطعيّةً، لما بني حينها المسلمون قبراً قطّ ول_َجرت سيرتهم على ذلك دون ريبٍ؛ ولكنّنا نرى العكس من ذلك، حيث جرت سيرة المسلمين على بناء القبور وترميمها إذا ما اندرست.

المبحث السادس: رثاء أولياء اللّه والبكاء عليهم

ص: 54

ص: 55

إن لمحبّة الأولياء نتائج وآثار إيجابيّة تنعكس على نفسيّة الإنسان، والمحبّ لهم حبّاً حقيقيّاً يتّخذهم قدواتٍ يقتدي بهم في الإيمان والتقوى والعمل الصّالح، حيث يُقلّدهم في ذلك ويسعى لأن يلحق بركبهم لينأى عن ركب الشيطان الرّجيم؛ لا سيّما مودّة خير خلق الله محمّد وآل بيته الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وكذلك الصّالحين من صحابة رسول الله9، إذ إنّ التمسّك بهم يرسّخ الإيمان في النفس ويزيّن الفضائل الأخلاقيّة. وأمّا مَن يترك هذه المودّة فسوف تتزلزل دعائم إيمانه ويحيد عن جادّة الحقّ وينزلق في مهاوي إبليس وجنده الذين يتربّصون بعباد الله المكائد.

فكلّما ترسّخت هذه المودّة في النفس أكثر، ستكون ثمارها أوفر وأنضج، وإحدى علامات رسوخها هي إسالة دموع الشوق من الناظرَين؛ حيث يتجلّى من خلالهما عشقٌ يجول في غمار القلب بقطراتٍ تتلألأُ على الوجنتين بعد أن شقّت طريقها للنور كالينبوع الذي ينبض بفيضٍ كان ساكناً

ص: 56

في الأعماق.

فالبكاء عند ذكر خير خلق الله تعالى دليلٌ على رقّة القلب وظرافة الروح وصفاء الباطن. والعبد ببكائه على وليٍّ من أولياء الله يُثبت أنّ هذا الشخّص حقّاً عزيزٌ على قلبه، وبالطبع سيبذل قصارى جهده لينال رضاه، ومن البديهيّ أنّ رضا أولياء الله هو من رضا الله وأنّ حبّهم يعتبر اتّباعاً لما أمرنا به تعالى. لذا، يكون بكاء الإنسان عند ذكر الأولياء وازعاً لجلاء القلوب وإزالة صدأ الخطايا عنها وسدّاً منيعاً يصونها من الوقوع في فخّ الشرك والنّفاق، وبالتّالي تترتّب عليه صلابة الإيمان والتمسّك بدين الله بإخلاصٍ وصدقٍ.

إنّ بكاء شخصٍ في مراسم عزائه أو عند ذكره في الحقيقة أمرٌ عاطفيٌّ ناشئ عن أحاسيس الإنسان ومشاعره، فعندما يفقد أيٌّ منّا شخصاً عزيزاً على قلبه فسوف يذرف دموع الحزن عليه دون إرادةٍ؛ سواء أكان هذا العزيز من الأهل والأقارب أم وليّاً من أولياء الله الذين هم أعزّ من كلّ قريبٍ.

لذلك نلاحظ أنّ البكاء على الموتى كان معهوداً في زمن رسول الله وصحابته وتابعيه. فالنبيّ9 نفسه قد بكى أُمَّه وابنه وابنته، وكذلك فإنّ صحابته قد بكَوه بعد وفاته كما بكَوا أصحابهم ومقرّبيهم ونعَوهم برثاءٍ حزينٍ، حيث استمرّ هذا الأمر بعدهم وجرت عليه سيرة التابعين والمسلمين تأسيّاً بهم.

ولإثبات ذلك، نذكر فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:

1 _ رُوي عن أبي هريرة أنّه قال: «زار النبيّ قبرَ أُمّه فبكى وأبكى مَن حوله» (1)، ورُوي عن بُريدة أنّه قال: «زار النبيّ قبرَ أُمّه في ألف مُقنّعٍ فلم يُرَ


1- صحيح مسلم، ج3، ص65.

ص: 57

باكياً أكثر من يومَئذٍ». (1)

2 _ روى أنس بن مالك حديثاً بشأن وفاة إبراهيم ابن رسول الله 9، فقال: قال رسول الله: «إنّ العين تدمعُ والقلب يحزنُ ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون». (2)

3 _ كذلك رُوي عن أنس بن مالك قوله: «شَهِدنا بنتاً لرسول الله، قال: ورسولُ اللهِ جالسٌ على القبرِ، قال: فرأيتُ عينيهِ تدمعانِ».(3)

4 _ رُوي عن أُسامة بن زيد حديث يذكر فيه موت ابن بنت رسول الله، فقال: «أرسلتْ ابنَةُ النبيِّ إليه إنَّ ابناً لي قُبِضَ، فأْتِنا...

فقام ومعهُ سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأُبَيُّ بن كَعْبٍ وزيد بن ثابت ورجالٌ، فرُفِعَ إلى رسولِ اللهِ الصَّبِيُّ ونَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ...

ففاضتْ عيناهُ. فقال سعد: يا رسولَ اللهِ، ما هذا؟

فقال: هذه رحمةٌ جعلها اللهُ في قلُوبِ عبادهِ، وإنَّما يرحَمُ اللهُ من عبادهِ الرُّحَمَاءَ». (4)

5 _ رُوي عن ابن عمر أنّه قال: «رجعَ النبيُّ يوم أُحد فسمع نساءَ بني عبد الأشهل يبكينَ على هلكاهنَّ، فقال: لكن حمزة لا بواكي له! فجئن نساءُ الأنصار يبكين على حمزة عنده». (5)

6 _ ذكر الحاكم في المستدرك: «كانت فاطمةُ تزور قبرَ عمّها كلّ جمعة فتصلّي


1- مستدرك الحاكم، ج1، ص375.
2- صحيح البخاري، ج2، ص179.
3- المصدر السابق، ص172.
4- المصدر السابق.
5- كنز العمّال، ج15، ص618.

ص: 58

وتبكي عنده». (1)

7 _ رُوي عن أبي ذُؤيب اله_ُذَلي أنّه قال: «قدِمتُ المدينةَ ولأهلها ضجيجٌ بالبكاء كضجيج الحجيج أهلّوا جميعاً بالإحرام، فقلتُ: مَه؟! قالوا: قُبِضَ رسول الله». (2)

8 _ رُوي عن عروة أنّ صفيّة بنت عبدالمطّلب أنشدت شعراً ترثي فيه رسول الله 9، جاء فيه:

ألا يا رسولَ اللهِ كنتَ رخاءنا

وكنتَ بنا برّاً ولم تكُ جافياً

وكانَ بنا برّاً رحيماً نبيّناً

لبيك عليك اليوم مَن كان باكياً

إلى أن قالت:

أرى حسناً أيتمتَه وتركتَه

يبكي ويدعو جدّه اليوم نائياً

فدىً لرسول الله أُمّي وخالتي

وعمّي ونفس_ي قص_ره وعياليا (3)

9 _ رُوي عن المثنّى بن سعيد أنّه قال: «سمعتُ أنسَ بن مالك يقول: ما مِن ليلةٍ إلا وأنا أرى فيها حبيبي؛ ثُمّ يبكي». (4)

10 _ رُوي عن زيد بن أسلَم أنّه قال: «خرجَ عمر بن الخطّاب ليلةً يحرُسُ، فرأى مصباحاً في بيتٍ، فدنا فإذا عجوزٌ تطرقُ شعراً لها لتغزله _ أي تنفشه بقدح _ وهي تقول:

على مح_مّدٍ ص_لاةُ الأب_رارِ

صلّى عليك المصطفَون الأخيارُ


1- مستدرك الحاكم، ج1، ص337.
2- كنز العمّال، ج15، ص265.
3- مجمع الزوائد، ج9، ص39.
4- طبقات ابن سعد، ج7، ص20.

ص: 59

قد كنتَ قوّاماً ب_كيَّ الأسحار

يالي_تَ شع_ري والمنايا أطوارُ

هل تجمعني وحبيبي الأقدار؟!

تعني النبيّ.

فجلس عمر يبكي، فما زال يبكي حتّى قَرَعَ البابَ عليها، فقالت: مَن هذا؟ قال: عمر بن الخطّاب...». (1)

11 _ رَوى عاصم بن محمّد عن أبيه قوله: «ما سمعتُ ابن عمر ذاكراً رسولَ الله إلا ابتدرتْ عيناهُ تبكيان». (2)

12 _ رُوي عن أبي عثمان قوله: «رأيتُ عمرَ لم_ّا جاءه نعيُ النعمان، وضعَ يدَه على رأسه وجعل يبكي». (3)

13 _ ذكر الطبري في تأريخه: «ولم_ّا أتى أهلَ المدينةِ مقتلُ الحسين، خرجتْ ابنةُ عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها وهي حاسرةٌ تلوي بثوبها وهي تقول:

ماذا تقولون إنْ قالَ النبيُّ لكم

م_اذا فعلتُم وأنتُم آخ_رُ الأُمَمِ

بعترتي وبأهلي بعد مُفتق_دي

منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ». (4)

14 _ رَوى عليّ بن إسماعيل التميمي عن أبيه قوله: «كنتُ عندَ أبي عبد الله جعفر بن محمّد إذ استأذن آذنه للسيد فأمره بإيصاله، وأقعد حَرَمَه خلف سترٍ، ودخلَ فسلّم وجلس. فاستنشده، فأنشده قوله:

أُمرُر على جدَثِ الحسين

فقُلْ لأعظُمِه الزّكيّة


1- كنز العمّال، ج12، ص562.
2- طبقات ابن سعد، ج4، ص168.
3- كنز العمّال، ج15، ص227.
4- تأريخ الطبري، ج3، ص342.

ص: 60

يا أعظُ_ماً، لازلتِ من

وط_فاء ساكبة رويّة

قال: فرأيتُ دموعَ جعفر بن محمّد تتحدّر على خدّيه، وارتفع ال_صّراخ والبكاء من داره». (1)

عند التأمّل في هذه النماذج من الأحاديث والأخبار، نلاحظ أنّ رثاء أولياء الله والبكاء عليهم كانا معهودين منذ زمن رسول الله9 وصحابته وتابعيهم وجرت عليه سيرة المسلمين في شتّى العصور. فقد صرّح النبيّ9 بأنّ البكاء على الموتى من علامات الرّحمة ورقّة القلب إذ إنّ الله تعالى هو الذي جعله في قلوب عباده.

وأمّا بالنسبة للأحاديث التي تتضمّن نهي الرسول عن البكاء على الموتى وأنّ الميّت يتعذّب عندما يُبكى عليه، فيجب القول إنّ رواتها قد أخطأوا في فهم قصده صلوات الله عليه بشكلٍ صحيحٍ، لأنّه كان يقصد الذين ماتوا على الكفر والشرك، لذلك وردت أحاديث تصحّح هذا الخطأ، كالحديث الذي رواه ابن عباس، حيث قال: «قال عمر: إنّ رسول الله قال: إنّ الميّت يُعذّب ببعضِ بُكاءِ أهله عليه.

قال ابن عبّاس، فلم_ّا ماتَ عمر ذكرتُ ذلك لعائشةَ، فقالت: رحِمَ اللهُ عمر، والله ما حدّثَ رسول الله أنّ الله ليُعذّب المؤمن ببُكاء أهله عليه، ولكنّ رسول الله قال: إنّ الله ليزيد الكافر عذاباً ببُكاء أهله عليه». (2)

ورُوي عن عَمْرَة أنّ عائشة عندما سمعت قول عبدالله بن عمر: «إنّ الميّت ليُعذّب ببُكاء أهله عليه»، قالت: «يغفر الله لأبي عبد الرّحمن، أما أنّه لم يكذب،


1- الأغاني، ج7، ص26.
2- سنن النّسائي، ج4، ص17؛ مثله في موط_ّأ مالك، ص194.

ص: 61

ولكن نسيَ أو أخطأ؛ إنّما مرّ رسول الله على يهوديّةٍ يُبكى عليها، فقال: إنّهم ليبكون عليها، وإنّها لتُعذّب». (1)

فهاذان الحديثان دليلان صريحان يؤكّدان على أنّ مقصود رسول الله من «الميّت» في قوله بأنّه يتعذّب بسبب البكاء عليه، هو الميّت الكافر أو المشرك وليس المسلم. فكما مرّ علينا في الأحاديث السابقة أنّه صلوات الله عليه بنفسه قد بكي على أحبّائه من الموتى وقلّده في ذلك صحابته وتابعوه الذين حذَوا حذْوَه، وراجت هذه السنّة بين المسلمين قاطبةً.

المبحث السابع: طلب الشفاعة من أولياء اللّه


1- صحيح البخاري، ج2، ص173.

ص: 62

ص: 63

لا ريب في أنّ الله تبارك وتعالى رؤوفٌ بعباده وأنّ رحمته وسعت كلّ شيء، فأبوابُ رحمته مفتوحةٌ للمطيعين منهم والمذنبين أيضاً. ومن مظاهر رحمة الواسعة ولطفه أنّه هيّأ لهم سُبل بلوغ رحمته الواسعة، فأبواب المغفرة مشرعة للمذنبين بغية خلاصهم من عذابه في نار جهنّم، ومن تلك الأبواب: التوبة والشّفاعة.

فالتوبة تعني الندم على ارتكاب الذّنب والعودة إلى الله، والشّفاعة تعني نيل المغفرة ببركة وساطة أولياء الله الصّالحين، إذ إنّ العبدَ يطلب من خلال هذه الوساطة المغفرةَ من ربّ العزّة والجلالة.

فالشّفاعةُ منزلةٌ عظيمةٌ أكرم الله بها أنبياءه وأولياءه، حيث أذِن لهم بالتوسّط لديه طلباً لغفران ذنوب سائر عباده المؤمنين. ولكنّ هذه الشّفاعة ليست مطلقةً بالتأكيد، ولها شروطٌ وضوابط؛ لأنّ كلّ شخصٍ لا يمكنه نيل الشفاعة، وفي نفس الوقت فإنّه تعالى قد خصّص مقام الشّفاعة لم_َن اصطفى

ص: 64

من خلقه، لذا لا يمكن لأيٍّ كان أن يشفع للآخرين دون إذنه تعالى، ففي يوم القيامة سيشفع للنّاس مَن أُذِن لهم فحسب.

أمّا المشركون وعبَدة الأوثان في عصر ظهور الإسلام فقد كانوا يعتقدون أنّ أصنامهم التي يعبدونها سوف تشفع لهم عند الله، وهذا الانحراف الفكريّ يختلف عن الشرك في العبادة. وقد انتقد القرآن الكريم في بعض الآيات المشركين لأجل شركهم في العبادة، وفي آياتٍ أُخرى انتقد اتّخاذ الأصنام شفعاء إلى الله، وفي الآية التالية فقد انتقد كلا الأمرين: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَ_ؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُ_شْرِكُونَ). (1) فالقرآن الكريم في هذه الآية يتصدّى لعقيدة المش_ركين الباطلة بكون الأصنام تشفع لهم عند الله، ويؤكّد أنّ الشّفاعة مختصّة بالله وبالذين أذِن لهم بها، ومن البديهيّ أنّه تعالى لم يأذن للأصنام التي لا تقفه شيئاً بالشّفاعة عنده، إذ قال عزّ شأنه: (قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (2)

وقال في آيةٍ أُخرى: (مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ). (3) فهاتان الآيتان والآية التي سبقتهما تنقض ادّعاء من يدّعي شفاعة الأصنام وتؤكّد على أنّ الله هو الذي يعيّن مَن بإمكانه أن يشفع للنّاس. وقد بيّن لنا رسول الله9 في أحاديث كثيرة حقيقةَ هؤلاء الشفعاء الذين أذن لهم ربّ العزّة والجلالة بالشفاعة لعباده، حيث قال في حديثٍ: «شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي». (4)


1- سورة يونس، الآية 18.
2- سورة الزمر، الآية 44.
3- سورة يونس، الآية 3.
4- سنن أبي داوود، ج2، ص279.

ص: 65

وقال في حديثٍ آخر: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشهداء». (1) فبعد أن تبيّن لنا أنّ الأنبياء والأولياء من علماء وشهداء وعلى رأسهم صاحب المقام المحمود نبيّ الرحمة، مأذونون من قِبل الله تعالى بالشفاعة لنا، فلا ريب سيكون بمقدورنا التوسّل بهم ليشفعوا لنا عند البارئ عزّ وجلّ. وبالطبع فإنّ الشفاعة كطلب العلم أو السؤال عن الأحكام الشرعيّة أو رجاء الهداية إلى الطريق الحقّ، وكما أنّ رسول الله معلّمنا وهادينا ومزكّينا، فهو شفيعنا أيضاً إذ باستطاعتنا أن نطلب منه التعليم والهداية والتزكية والشفاعة على حدٍّ سواء.

فالاستشفاع بالأولياء في الحقيقة يعتبر غايةً في التذلل والخضوع لله الواحد الأحد، فالعبد الذي لوَّثت سريرتَه الآثامُ والذنوبُ لا يرى نفسه مرضيّاً عند الله تعالى، إلا أنّه في نفس الوقت لا ييأس من رحمته الواسعة ولا يُسيء الظنّ بلطفه وكرمه؛ لذا عليه أن يرجو المغفرة والرحمة بواسطة التوسّل بخير البريّة الذين أُذن لهم بالشفاعة.

ولا يخفى علينا أنّ صحابة رسول الله كانوا يطلبون شفاعته ويرجون منه أن لا ينساهم في يوم الحشر، وهو برأفته ورقّة قلبه كان يعدهم بالشفاعة في ذلك اليوم العظيم، كما هو واضح في الأحاديث التالية:

1 _ روى عوف بن مالك عن رسول الله حديثاً طويلاً، جاء فيه: «خيّرني ربّي بين أن يدخل نصف أُمّتي الجنّة بغير حسابٍ ولا عذاب، وبين الشّفاعة.

قلنا: يا رسول الله، ما الذي اخترت؟

قال: اخترت الشّفاعة.


1- سنن ابن ماجه، ج2، ص1443.

ص: 66

قلنا جميعاً: يا رسول الله، اجعلنا من أهل شفاعتك.

قال: إنّ شفاعتي لكلِّ مسلمٍ». (1)

2 _ رُوي عن أنس قوله: «سألتُ النبيَّ أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعلٌ.

قلتُ: فأين أطلبك؟

قال: اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط». (2)

3 _ روى أبو موسى حديثاً طويلاً عن رسول الله، جاء فيه: «أتاني جبرئيل7 آنفاً فخيّرني بين الشّفاعة وبين أن يُغفر لنصف أُمّتي، فاخترتُ الشّفاعة. فنهض القومُ إليه، فقالوا: يا رسول الله، اشفع لنا.

قال: شفاعتي لكم». (3)

4 _ روى معاذ بن جبل وأبو موسى حديثاً عن رسول الله، جاء فيه: «أتاني آتٍ في منامي فخيّرني بين أن يدخل نصف أُمّتي الجنّة أو شفاعة، فاخترت لهم الشّفاعة.

فقلنا: إنّا نسألك بحقّ الإسلام وبحقّ الصُّحبة لم_ّا أدخلتنا في شفاعتك». (4)

5 _ رُوي عن أنس بن مالك قوله: «دخلَ رجلٌ من دوس يُقال له سواد بن قارب على النبيّ9 وأنشد شعراً وفي آخره:

فكُنْ لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ

سِواكَ بم_ُغنٍ عن سوادِ بن رقاب». (5)


1- مجمع الزوائد، ج10، ص369.
2- سنن الترمذي، ج4، ص621.
3- مجمع الزوائد، ج10، ص369.
4- المصدر السابق، ص368.
5- الإصابة في تمييز الصحابة، ج2، ص95.

ص: 67

6 _ رَوى أبو هريرة حديثاً طويلاً عن النبيّ ، جاء فيه: «... يذكر يومَ القيامةِ، إلى أن قال: فيأتون محمّداً فيقولون: يا محمّد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؛ اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحنُ فيهِ! فأنطَلِقُ فآتِي تحتَ العرشِ، فأقَعُ ساجدًا لربِّي عزَّ وجلَّ ثُمَّ يفتَحُ اللهُ علَيَّ من محامدِهِ وحُسْنِ الثَّناءِ عليهِ شيئاً لم يفتحهُ على أحدٍ قبلي، ثُمَّ يُقالُ يا محمَّدُ ارفَعْ رأسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ». (1)

7 _ رَوي شهاب بن أبي شهاب عن خادمٍ للنبيّ قوله: «كان النبيُّ ممّا يقول للخادم: أَلَكَ حاجةً؟

قال: حتّى كان ذات يومٍ، فقال: يا رسول الله حاجتي.

قال: وما حاجتُك؟

قال: حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة».

فهذه الأحاديث أمثلةٌ واضحةٌ تثبت أنّ المسلمين كانو يطلبون الشفاعة من رسول الله وهو لم يردعهم قطّ ولم يقل لهم اطلبوا الشفاعة من الله تعالى مباشرةً، لذا فإنّ طلب الشفاعة منه صلوات الله عليه أمرٌ مش_روعٌ وممدوح لأنّ الصحابة كانوا دائماً يرجون ذلك منه. فلو كان يشوب هذا الموضوع شيءٌ من الشرك، لما سمح رسول الله9 لصحابته أن يطلبوا ذلك منه ابداً؛ بل إنّ الأمر على العكس من ذلك، فقد كان صلوات الله عليه يستجيب لهم ويعدهم بأن يشفع لهم عندالله يوم القيامة. (2)

وتجدر الإشارة كذلك إلى عدم وجود فرقٍ في طلب الشفاعة من


1- صحيح البخاري، ج6، ص158.
2- مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص500.

ص: 68

رسول الله سواء في حياته أم بعد مماته، لأنّ الأحاديث الصحيحة التي تطرّقنا إليها سابقاً قد بيّنت لنا أنّه صلوات الله عليه ناظرٌ إلى أعمال أُمّته بعد مماته وأنّه يسمع كلامهم. وسيرة المسلمين أيضاً قد جرت على طلب الشفاعة منه عند زيارة مرقده الشريف، فنصوص الزيارة التي نقلها علماءُ مختلَف المذاهب الإسلاميّة تحتوي على عباراتٍ يطلب الزائر فيها الشفاعةَ من خاتم أنبياء الله وأكرم خلقه قاطبةً.

المبحث الثامن:الاستعانة بأولياء اللّه تعالى

ص: 69

لا ريب في أنّ الدّعاء وطلب الحاجة من الله تعالى من الأسباب التي تجعل أبواب رحمته مفتوحة أمام عباده، فالله تعالى سوف يعين مَن دعاه بدفع البلاء عنه وتلبية طلبه، فيشمله برحمته الواسعة وكرمه العظيم. لذلك نلاحظ أنّ جميع الأنبياء وأوصيائهم وسائر أولياء الله ما انفكّوا يت_ضرّعون إليه تعالى ويدعونه لقضاء حوائجهم الدنيويّة والأُخرويّة.

لكنّ استجابة الدعاء من قِبل الله تعالى لها ضوابطها وشروطها الخاصّة بها، ومن أجل أن يُستجاب الدعاء سريعاً فلا بدّ من مراعاة آدابٍ وسُنَنٍ نقلتها لنا كتب الحديث والأخبار. كما أنّ الزمان والمكان لهما دورٌ في استجابة الدعاء، فدعاء العبد يوم الجمعة وهو مستقبل القبلة أو كائنٌ في حجر إسماعيل ببدنٍ طاهرٍ وبعد أن قام بعملٍ صالح مثلاً، من شأنه أن يزيد من نسبة احتمال استجابة دعائه.

ومن الأُمور التي لها دورٌ هامٌّ في استجابة الدعاء أيضاً، توسّل العبد

ص: 70

بالأنبياء والأولياء وبكلّ مَن له شأنٌ عظيمٌ عند الله وطلبه منهم أن يدعوا اللهَ له كي يقضي حوائجه؛ ففي هذه الحالة سيزداد احتمال استجابة الدعاء بفضل ذوي الفضل عند ربّ العزّة والجلالة.

وينتقد الله تعالى الذين يتكبّرون عن الذهاب إلى رسوله الكريم ليطلب لهم المغفرة من الله تعالى، فقال في كتابه المجيد: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ). (1)

ومن جانبٍ آخر، فإنّه تعالى يعِد عباده الذين يذهبون إلى رسوله الكريم كي يدعو اللهَ لهم ويطلب لهم المغفرة منه، بالمغفرة والرحمة، فقال في كتابه العزيز: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً). (2)

لذا نلاحظ أنّ صحابة رسول الله كانوا يقصدونه في حوائجهم الدنيويّة والأُخرويّة من أجل أن يدعو لهم اللهَ لقضائها، ولم يكن صلوات الله عليه يتردّد في ذلك أو يرفضه، بل كان يستجيب لهم ويدعو ربّه؛ وكانوا أيضاً يلتجئون إلى بعض عباد الله الصالحين في ذلك. ولإثبات ما ذكرنا، نتطرّق فيما يلي لبعض الأمثلة المقتطفة من المصادر المعتبرة:

1 _ رُوي عن أنس قوله: «قالت أُمّي: يا رسولَ الله، خادمكَ أنَس ادعُ اللهَ له.

قال: اللّهُم أكثرْ مالَه وولدهُ وبارِكْ فيما أعطيتَهُ». (3)

2 _ رُوي عن أنس قوله: «بينَا النبيّ يخطب يومَ الجمعة فقام رجلٌ فقال:


1- سورة المنافقين، الآية 5.
2- سورة النساء، الآية 64.
3- صحيح البخاري، ج8، ص135.

ص: 71

يا رسولَ الله، ادعُ الله أن يسقينا. فتغيّمت السماء ومُطرنا». (1)

3 _ قال حسّان بن شدّاد أنّ أُمّه وفدتْ إلى النبيّ ، فقالت: «يا رسولَ الله، إنّي وفدتُ إليكَ لتدعو لابني هذا وأن تجعله كبيراً طيّباً. فتوضّأ من فضل وضوئه ومسحَ وجهَهُ، وقال: اللّهُم بارك ما فيه واجعله كبيراً طيّباً». (2)

4 _ رُوي عن طلحة بن عبيدالله قوله: «انطلق رجلٌ ذاتَ يومٍ فنزع ثيابه وتمرّغ في الرّمضاء ويقول لنفسه: ذوقي نارَ جهنّم، أَجيفةٌ باللّيل وبطّالةٌ في النّهار؟!

قال فبينَا هو كذلك إذ أبصرَ النبيَّ في ظلِّ شجرةٍ فأتاه فقال: غلبَتني نفسي.

فقال له النبيّ: أما لقد فُتحتْ لكَ أبوابُ السّماء ولقد باهى الله بك الملائكة، ثمّ قال لأصحابه: تزوّدوا من أخيكم؛ فجعل الرجل يقول: يا فلان ادع لي...». (3)

5 _ رُوي عن عمر أنّه قال لأُويس: «استغفر لي.

قال: كيف أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله؟!

قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: إنّ خير التّابعين رجلٌ يُقال له أُويس». (4)

إذن، استناداً لما ذُكر من أحاديث أعلاه، يتّضح لنا أنّ طلب العون من أولياء الله، أي طلب العبد منهم كي يدعوا له، يعتبر أمراً جائزاً، بل مستحبّاً بتأييد الآيات المباركة والأحاديث الشريفة.

فنحن عندما نطلب من أولياء الله قضاء حوائجنا الدنيويّة والأُخرويّة، لا نقصد أنّهم يفعلون ذلك مستقلّين وبشكلٍ مباشرٍ، بل نؤمن بأنّهم سيكونون


1- صحيح البخاري، ج8، ص134.
2- كنز العمّال، ج13، ص349.
3- حياة الصحابة، ج3، ص336.
4- المصدر السابق، ص337.

ص: 72

وسطاء لنا إلى الله سبحانه وتعالى ويطلبون منه ذلك، وبما أنّ مكانتهم عنده تعالى رفيعةٌ وشأنهم عظيمٌ، فسوف تكون استجابة الدعاء أكثر احتمالاً حبّاً وكرامةً منه عزّ وجلّ لهم.

وكما أنّ طلب العون من الأنبياء والأولياء جائزٌ في حياتهم، فهو جائزٌ أيضاً بعد مماتهم؛ إذ كما هي عقيدة المسلمين الصحيحة فإنّ الأرواح، ولا سيّما الأرواح الزكيّة لعباد الله الصالحين والشهداء، حيّةٌ في عالم البرزخ، وهم ربّما يدركون حقائق الدنيا مثلنا أو أفضل منّا، وكذلك بإمكانهم الاطّلاع على أعمالنا وسماع كلامنا وإدراك ما نطلبه منهم. حيث يقول تعالى في كتابه الكريم عن الذين قُتلوا في طريق الحقّ: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْ_شِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). (1)

وهناك أحاديث كثيرةٌ تدلّ على أنّ الأموات، لا سيّما الأنبياء والأولياء، لهم شعورٌ وإدراكٌ، إذ يُدركون الحقائق أكثر منّا، وأنّ صلتهم بالأحياء لم تنقطع؛ بل سنلاحظ كذلك أنّ صلتهم بأبدانهم المدفونة في الأرض لم تنقطع أيضاً. فيما يلي بعضٌ من هذه الأحاديث:

1 _ رُوي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله 9 قال: «إذا وُضِعتْ الجنازةُ فاحتملَها الرّجالُ على أعناقهم، فإنْ كانت صالحةً قالت: قدّموني قدّموني؛ وإنْ كانت غير صالحةٍ قالت: يا ويلَها، أين يذهبون بها! يسمع صوتها كلّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصُعِق». (2)


1- سورة آل عمران، الآيتان 169 _ 170.
2- صحيح البخاري، ج2، ص207.

ص: 73

2 _ روى أنس عن رسول الله 9 قوله: «العبدُ إذا وُضِع في قبره وتولّى وذهب أصحابه حتّى أنّه ليسمع صوتَ قرعِ نعالهم». (1)

3 _ قال عمرو بن حزم: «رآني رسول الله متّكئاً على قبرٍ، فقال: لا تُؤذِ صاحبَ هذا القبر». (2)

4 _ قال عروة أنّ رجلاً وقع في عليٍّ بمحضرٍ من عمر، فقال عمر: «تعرف صاحبَ هذا القبر محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب، وعليّ بن أبي طالب بن عبدالمطّلب؛ لا تذكر عليّاً إلا بخيرٍ فإنّك إنْ آذيته آذيت هذا في قبره». (3)

5 _ رَوى عبدالله بن عمر أنّ رسول الله ذكر فتان القبر، فقال عمر: «أَتُرَدُّ علينا عقولُنا يا رسول الله؟

فقال رسول الله: نعم كهيئتك اليوم». (4)

6 _ رُوي عن أبي هريرة أنّ رسول الله قال: «ما من عبدٍ يمرّ بقبرِ رجلٍ يعرفه في الدنيا فيُسلّم عليه إلا عرِفه وردّ عليه السلام». (5)

7 _ قالت عائشة: «كنتُ أدخلُ بيتي الذي فيه رسول الله وأبي، فأضعُ ثوبي وأقولُ إنّما هو زوجي وأبي. فلم_ّا دُفن عمر معهم، فوَ اللهِ ما دخلتُه إلا وأنا مسدودة على ثيابي». (6)

8 _ رَوى عبدالله بن مسعود عن رسول الله قوله: «حياتي خيرٌ لكم، تُحدِّثونَ وتحدث لكم ووفاتي خيرٌ لكم، تُعرَض عليَّ أعمالُكم فما رأيتُ


1- صحيح البخاري، ج2، ص190.
2- نيل الأوطار، ج4، ص87.
3- كنز العمّال، ج13، ص123.
4- الترغيب والترهيب، ج4، ص132.
5- كنز العمّال، ج15، ص646.
6- مجمع الزّوائد، ج9، ص37.

ص: 74

من خيرٍ حمدتُ اللهَ عليه، وما رأيتُ من شرٍّ استغفرت اللهَ لكم». (1)

نستوحي من هذه الأحاديث أنّ الإنسان بعد الموت لا يفقد إحساسه أبداً، بل إنّه يصبح أكثر إدراكاً للأمور، إذ يُدرك أشياءً لم يكن باستطاعته إدراكها إبّان حياته. فهو يسمع صوت قرع أقدام النّاس ويرى مَن يجلس على قبره، حتّى أنّه يتألّم مِن الكلام المسيء له؛ فهذه الأُمور لا يمكن للإنسان الحيّ أن يُدركها بالطبع.

وبالنسبة للآيات التي تنفي سماع الموتى لبعض الكلام، مثل قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) (2)، وقوله تعالى: (مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (3) فهي في الحقيقة تعني «الكفّار»، أي تُشبّههم بالموتى؛ وليس المقصود أنّ الموتى لا يسمعون كلام رسول الله9، بل إنّهم لا يستطيعون إجابته كونهم في عالمٍ آخر، وهذا هو حال الكفّار الذين يسمعون كلام رسول الله ولا يمتثلون لإجابته.

فالاحاديث التي ذكرناها تُثبت لنا أنّ الموتى ينظرون ويسمعون ويُدركون أفعال الأحياء؛ لا سيّما الأولياء والأنبياء، كنبيّنا الكريم محمّد بن عبد الله الذي يُشرف على أعمال أُمّته، أو الشّهداء الذين يُبشّرون مَن لم يلحَق بهم من المؤمنين بما عند الله من خيرٍ وعطاءٍ.

فهذه الكرامة لأرواح أولياء الله تجعل من استعانة العبد بهم لا تختلف عن استعانة مَن استعان بهم في حياتهم المباركة، لذلك لم يترك الصحابة والتابعون الاستعانة برسول الله بعد وفاته، كما جاء في المصادر الإسلاميّة المعتبرة. وفيما يلي أمثلة على ذلك:


1- مجمع الزّوائد، ج9، ص24.
2- سورة النّمل، الآية 80.
3- سورة فاطر، الآية 22.

ص: 75

1 _ رَوى عثمان بن حُنَيف: «أنّ رجلاً كان يختلفُ إلى عثمان بن عفّان في حاجةٍ له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظُر في حاجته. فلقيَ ابنَ حُنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حُنيف : ائت الميضأة فتوضّأ، ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين، ثمّ قُل: «اللّهم إنّي أسألُك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّدٍ نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقض_ي لي حاجتي»؛ وتذكُر حاجتَك». (1)

2 _ رُوي أنّ بلال بن حرْث جاء إلى قبرِ النبيّ، فقال: «يا رسولَ الله استسق لأُمّتكَ فإنّهم هلَكوا». (2)

وجاء في بعض الأحاديث المرويّة عن رسول الله أنّه قد أمر أصحاب الحوائج أن يطلبوا العون من أولياء الله تعالى، كما في الحديثين التاليين:

1 _ رَوى عبد الله بن مسعود عن رسول الله قوله: «إذا انفلَتَتْ دابّةُ أحدكم بأرض فلاة فليُنادِ: يا عباد الله احبسوا عليَّ يا عباد الله احبسوا عليَّ، فإنّ للهِ في الأرضِ عباداً سيحبسه عليكم». (3)

2 _ رَوى عتبة بن غزوان عن رسول الله قوله: «إذا أضلّ أحدُكم شيئاً أو أراد عوناً وهو بأرضٍ ليس فيها أنيسٌ، فليَقُل: يا عباد الله أعينوني أو أغيثوني، فإنّ للهِ عباداً لا نراهم». (4)

إذن، استناداً لكلّ ما ذُكر من أحاديث وأخبار يتأكّد لنا أنّ طلب العون من الأنبياء والأولياء ودعاءَهم سواء في حياتهم أم في مماتهم، أمرٌ جائزٌ ومستحبٌّ دون أدنى شكٍّ.

المبحث التاسع: الاحتفاء بذكرى ولادة أولياء اللّه وشهادتهم


1- المعجم الكبير للطبراني، ج9، ص18.
2- وفاء الوفاء، ج4، ص1374.
3- المعجم الكبير للطبراني، ج10، ص267.
4- مجمع الزوائد، ج10، ص132.

ص: 76

ص: 77

إنّ الاحتفاء بذكرى ولادة الأنبياء والأولياء أو شهادتهم، وكذلك الشهداء والصّديقين وأنصار دين الحقّ من المتّقين، أمرٌ من شأنه أن يُرسّخ الإيمان بالله تعالى في النفس وله تأثيرٌ كبيرٌ على نفسيّة الإنسان وخُلُقه. فإحياء ذكرى هؤلاء الأطهار والتأكيد على الاقتداء بسيرتهم الحميدة يحفّز العبد على التمسّك بدينه وينمّي فيه روح التقوى والإيثار والجهاد في سبيل الله تعالى، إذ سيُدرك من خلال ذلك السبب الذي جعل من هؤلاء الأعاظم قدوةً للبشريّة وسيعلم كيف نالوا درجة القرب إلى بارئ الخلائق جلّ وعلا، فيحاول أن يُقلّدهم ويحذوا حذوَهم ليهتدي إلى سواء السّبيل، وذلك استجابةً لما أراده ربّ العزّة والجلالة من عباده، إذ قال: (أُوْلَ_ئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ). (1)

فقد أمر تعالى نبيَّه الكريم في آياتٍ عديدةٍ من كتابه الكريم بأن يتّبع سيرةَ


1- سورة الأنعام، الآية 90.

ص: 78

الأنبياء السّابقين وعباده الصّالحين وأن يذكرهم دائماً لأنّ ذكرهم يقوّي القلب، فقال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً). (1) وقال في آيةٍ أُخرى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ). (2) وكذلك قال في آيةٍ أُخرى: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنْ الْأَخْيَارِ). (3)

فذكر الأنبياء والأولياء الذي أمرنا به ربّ العزّة والجلالة، من شأنه أن يُصفّي قلوبَنا ويُرسّخ إيماننا، وبالتأكيد فإنّه يعتبر سدّاً منيعاً للموحّدين يصدّ عنهم غبَش المعتقدات الواهية التي يزرعها الشيطان في نفوس مَن أضلّهم بغي_ّه ووسوسته. والاحتفاء بذكرى هؤلاء الأطهار في الحقيقة يعني احترام كرامة الإنسان وكافّة القيَم الدينيّة والأخلاقيّة، إذ إنّهم علّموا البش_ريّة الوقوف بوجه الشّرك والظّلم والجهل، وشجّعوا النّاس على الدعوة للتوحيد والعدل والفضائل الخلُقيّة؛ فقد كانوا روّاد هذه القيَم السّامية ودُعاة الحقّ بكلّ ما للكلمة من معنى. لذلك علينا أن لا ننسى ذكرَهم، لا سيّما في أيّام ذكراهم، كأيّام ولادتهم أو وفاتهم، حيث نحتفل بها ونجتمع في مجالس يُحبّها الله تعالى فنذكر فضائلهم وكراماتهم والأسباب التي جعلتهم مقرّبين منه تعالى، فنحاول أن نحذو حذوهم ونسير على نهجهم المستقيم ونجدّد عهدنا معهم ونثبت لهم بأنّنا معهم لا مع إبليس وأعوانه.

وقد خاطب الله تعالى نبيّه موسى بن عمران وطلب منه أن يُذكّر بني


1- سورة مريم، الآية 41.
2- سورة ص، الآية 45.
3- سورة ص، الآية 48.

ص: 79

إسرائيل بأيّامه تعالى، فقال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).(1) يقول المفسّرون إنّ المقصود من «أيّام الله» في هذه الآية هي الأيّام التي أنعم اللهُ فيها على بني إسرائيل نِعماً عظيمةً، كإنقاذهم من فرعون وشقّ البحر لهم وإنزال المنّ والسلوى عليهم وما إلى ذلك من معجزاتٍ عظيمةٍ؛ وكذلك الأيّام التي حدثت فيها وقائع هامّة على سائر الأُمَم، كما حلَّ بقومِ نوحٍ وعادٍ وثمودٍ.

لذا، فتذكير النّاس بالأيّام التي وقعت فيها حوادث هامّة أو الأيّام التي أنعم الله بها على عباده نِعماً عظيمةً، يعتبر من مهامِّ أنبياء الله التي كُلّفوا بها ل_ِما في ذلك من اعتبارٍ وتذكيرٍ بفضل الله على العالمين وبيانٍ لعاقبةِ جند الشيطان الرّجيم.

ومن بين هذه الأيّام العظيمة في تأريخ البشريّة والتي غيّرت مسار تأريخ البشريّة قاطبةً وانتشلت عباد الله من غياهب الظلمة والانحطاط، بعثة نبيّنا الكريم9 وكذلك فإنّ يوم ولادته بالتأكيد سيكون من الأيّام المباركة أيضاً فنحتفل به، وأمّا يوم وفاته فهو يومٌ حزينٌ بين المسلمين، وتعساً ل_مَن لا يحزن فيه على فقدان الأرض حبيب الله وخيرته على خلقه.

وبالتّالي فإن ذكرى ولادة أو وفاة أوصياء رسول الله من بعده وذكرى سائر أولياء الله الصالحين هي من أيّام الله العظيمة أيضاً، لأنّهم واصلوا طريق نبيّنا الكريم ودافعوا عن دينه بكلّ ما لديهم من قدرةٍ، فذكراهم هي تذكيرٌ ب_«أيّام الله». إذن، سيكون اجتماع المؤمنين في مجالس ذكرى ولادة أو وفاة الأنبياء والأولياء لذكر مناقبهم ومآثرهم والتأسّي بسيرتهم الحميدة، عملاً


1- سورة إبراهيم، الآية 5.

ص: 80

مشروعاً وامتثالاً لأمرِ الله تعالى لأنّه تذكير ب_«أيّام الله».

وقد أمرَنا رسولنا الكريم بذكر محاسن الموتى وأعمالهم الصّالحة، خصوصاً الأنبياء والأولياء حسب ما يفيده الحديثان التاليان:

1 _ رَوى ابن عمر عن النبيّ قوله: «أُذكروا محاسنَ موتاكُمْ». (1)

2 _ رَوى معاذ عن رسول الله قوله: «ذكرُ الأنبياءِ عبادةٌ وذكرُ الصّالحينَ كفّارةٌ وذكرُ الموتِ صدَقةٌ». (2)

فالآيات والأحاديث التي ذكرناها هنا تشير إلى أنّ ذكر الأنبياء والأولياء من مرضاة الله تعالى وجائزٌ بلا أدنى ريبٍ كونه أشبه بالعبادة، وكلّما كان بآدابٍ خاصّةٍ وإجلالٍ أكبر، كان أفضل. ومن الطرق التي تذكّرنا بهم: الاحتفاء بذكرى ولادتهم أو وفاتهم في مجالس تتجلّى فيها الفرحة يومَ ولادتهم وتطغى فيها مظاهر الحزن يومَ وفاتهم، إذ تُزيَّن هذه المجالس بذكر فضائلهم وسيرتهم الحميدة التي كانت محض طاعةٍ لربّ العزّة والجلالة.

فهي مجالس تُتيح لنا أن نكرّم هؤلاء الأخيار ونعلن لهم شكرنا وتقديرنا لما قدّموه لنا وللبشريّة قاطبةً من خدماتٍ، إذ بفضلهم اهتدينا وسلكنا طريق الحقّ واجتنبنا طريق الباطل، وقد أفنَوا حياتهم من أجل أن يوصلونا إلى برّ الأمان من خلال إعلاء كلمة التوحيد. وكذلك فإنّ جميع فطاحل التأريخ من علماء موحّدين وجميع المؤمنين بالله تعالى، قد استمدّوا ما لديهم من معارف وتقوى عبر اتّباع تعاليم أنبياء الله وعباده الصالحين والاقتداء بهم.

المبحث العاشر: كرامات أولياء اللّه

اشارة


1- كنز العمّال، ج11، ص477.
2- سنن الترمذي، ج3، ص339.

ص: 81

خلق اللهُ الحكيمُ القديرُ الكونَ على أساس نظامٍ دقيقٍ ومنسّقٍ حسبَ علل وقوانين ظريفة يعجز العقل عن إدراك كُنهها. فدقّة هذا النظام متناهيةٌ لدرجة أنّ أيّ مخلوقٍ، حقيراً كان كالذّرة أو عظيماً كالفلك الذي تسبح

فيه النجوم، لا يمكن أن يخرج عنه بوجهٍ، وبالتّالي فإنّ كلّ شيءٍ تابعٌ لهذا النظام ومذعنٌ له. ولكنّ دقّة وتناسب هذا النظام لا تعني أنّ يد الله مغلولة، كما تفوّه به اليهود، إذ ادّعَى هؤلاء المنحرفون أنّ الله

ص: 82

تعالى قد هُزم من قِبل النظام الذي وضعه بنفسه فلا يستطيع أن يلغيه! ولكن حاشى لله من ذلك، فهو على كلّ شيء قدير ولا يُعجزه أمرٌ لا في السماء ولا في الأرض. وإلغاء هذا النظام أو نقض العلل والقوانين أمرٌ يسيرٌ بالنسبة له؛ فهذه العلل والقوانين الظاهريّة كافّةً تستبطن في داخلها قدرة الربّ اللامحدودة والتي تشمل كلّ شيء.

فالمعجزات والأفعال الخارقة لقوانين الطبيعة التي جاء بها أنبياء الله تعالى على مرّ العصور، والتي كانت تتناسب مع أوضاع قومهم وزمانهم، هي إحدى الموارد التي تتجلّى فيها قدرة ربّ العزّة والجلال، حيث يُدرك النّاس من خلالها صدق رسالة النبيّ المرسل إليهم فضلاً عن إدراكهم كون القدرة المطلقة مختصّة بالله تعالى فحسب. والحقّ أنّ هذه الفضيلة لا تختصّ بأنبياء الله فقط، بل إنّ بعض أولياء الله وعباده الصالحين قد كرّمهم الله بقدرةٍ على القيام بأعمالٍ خارج إطار الأسباب والقوانين الطبيعية سُمّيت ب_ «كرامات». فمنشأ كرامات أولياء الله هو الإيمان والتقوى والمواظبة على أداء الفرائض والنوافل التي تقرّب العبد من ربّه وتجعله محبوباً لديه، وعندما يصل العبد إلى هذه الدرجة من القرب الإلهي فكلّ جوارحه سوف تفعل ما يُحبّه الله تعالى ويرضاه، كما جاء في هذا الحديث القدسي: قال رسول الله 9 إنّ الله سبحانه وتعالى قال: «ما يزالُ عبدي يتقرّبُ إليَّ بالنّوافلِ حتّى أُحبّه، فإذا أحبَبتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به وبصرَهُ الذي يبصرُ به ويدهُ التي يبطشُ بها ورجلَهُ التي يمشي بها». (1)

وكما أنّ القرآن الكريم ذكر بعض معجزات الأنبياء، فقد بيّن أيضاً بعض كرامات الأولياء وأعمالهم التي يعجز سائر النّاس عن القيام بها. ولا نرى بأساً في أن نذكر بعضاً منها فيما يلي:

1 _ قصّة آصف بن برخيا وزير النبيّ سليمان7

(قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ


1- صحيح البخاري، ج8، ص189.

ص: 83

عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ). (1)

2 _ قصّة السيّدة مريم أُمّ النبيّ عيسى7

(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَ_ذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ). (2)

3 _ قصّة أصحاب الكهف

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَ_رَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَ_ى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً). (3)

كذلك فإنّ الأحاديث الشريفة والأخبار تتضمّن الكثير من الأمثلة على كرامات أولياء الله وكبار صحابة رسول الله نذكر فيما يلي عدداً منها:

1_ «إنّ عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريّين ثمّ السلميّين كانا قد حفر السّيلُ قبرهما وكان قبرهما ممّا يلي السّيل وكانا في قبرٍ واحدٍ وهما ممّن استشهد يوم أُحد فحُفِر عنهما ليُغيَّر من مكانهما، فوُجَدا لم يتغيّرا كأنّهما ماتا


1- سورة النمل، الآيات 38، 39، 40.
2- سورة آل عمران، الآية 37؛ وكذلك الآيات 22 إلى 26 في سورة مريم.
3- سورة الكهف، الآيات 9، 12.

ص: 84

بالأمسِ، وكان أحدُهما قد جُرحَ فوضعَ يدَه على جرحهِ فدُفِنَ وهو كذلك، فأُميطتْ يدُهُ عن جرحهِ ثمّ أُرسلتْ فرجعتْ كما كانت.

وكان بين أُحد وبين يوم حُفِرَ عنهما ستٌّ وأربعون سنةً». (1)

2 _ قال زاذان أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب حدّث بحديثٍ فكذّبه رجلٌ، فقال له: «أدْعُو عليكَ إنْ كنتَ كاذِباً.

قال: اُدعو.

فدَعا عليه، فلم يبرح حتّى ذهبَ بصرُه». (2)

3 _ رُوي عن محمّد بن شرحبيل قوله: «اقتبضَ إنسانٌ من تُرابِ قبرِ

سعيد بن معاذ ففتحها فإذا هي مسكٌ، قال رسول الله: سبحان الله، سبحان الله، حتّى عُرِفَ ذلك في وجههِ». (3)

4 _ رُوي عن عائشة قولها: «لم_ّا ماتَ النّجاشيُّ، كنّا نتحدّثُ أنّه لا يزالُ يُرى على قبرهِ نورٌ». (4)

5 _ رُوي عن سعيد بن عبدالعزيز قوله: «لم_ّا كان أيّام الح_َرّة لم يُؤذَّن في مسجد رسول الله ثلاثاً ولم يُقَم ولم يَبرَح سعيد بن المسيّب من المسجد وكان لا يعرف وقت الصّلاة إلا بهمهمةٍ يسمعُها من قبر النبيّ». (5)

6 _ رُوي عن سعيد بن جُبير قوله: «ماتَ ابن عبّاس بالطّائفِ فشهِدتُ جنازتَه فجاءَ طيرٌ لم يُر على خلقته ودخل في نعشهِ، فنظرنا وتأملناه هل يخرُج،


1- موطّأ مالك، ص384.
2- مجمع الزوائد، ج9، ص116.
3- كنز العمّال، ج13، ص412.
4- الإصابة، ج1، ص117.
5- سنن الدارمي، ج1، ص44.

ص: 85

فلم يُرَ أنّه خرج من نعشهِ». (1)

7 _ رَوى ابن عبّاس عن رسول الله قوله: «إنّ جعفر مرّ مع جبرئيل وميكائيل له جناحانِ عوّضه الله من يديه فسلّم، ثمّ أخبرني كيف كان أمرُه حيثُ لقي المشركين». (2)

8 _ رُوي عن أبي هريرة قوله: «كان الحسين عند النبيّ  في ليلةٍ ظلماء، وكان يُحبّه حبّاً شديداً، فقال: أذهب إلى أُمّي.

فقلتُ: أذهبُ معه يا رسول الله؟

قال: لا، فجاءت برقةٌ من السّماء، فمشى في ضوئها حتّى بلغَ أُمّه». (3)

9 _ رُوي عن الزهريّ قوله: «لم_ّا قُتل الحسين بن عليّ لم يرفع حجَر في بيتِ المقدس إلا وجدَ تحته دمٌ عبيطٌ». (4)

10 _ رُوي عن حاجبِ عبيدالله بن زياد قوله: «دخلتُ ال_قصرَ خلفَ عبيدالله بن زياد حين قُتل الحسين، فاضطرم في وجههِ نار، فقال هكذا بكمّه على وجهه، فقال: هل رأيتَ؟ قلت: نعم فأمرني أن أكتمَ ذلك». (5)

وهذه مجرّد أمثلةٍ يسيرةٍ، ونظائرها كثيرةٌ جدّاً في كتب التأريخ والحديث وسائر الكتب.

وممّا لا شكّ فيه أنّ كافّة الأحاديث والآيات التي ذكرناها تؤكّد أنّ الله تعالى قد أولى أولياءه وعباده الصّالحين لطفاً خاصّاً ومنحهم كراماتٍ


1- مستدرك الحاكم، ج3، ص543.
2- مجمع الزوائد، ج9، ص272.
3- حياة الصحابة، ج3، ص618.
4- المعجم الكبير للطبراني، ج3، ص120.
5- مجمع الزوائد، ج9، ص196.

ص: 86

لا يستطيع سائر البشر الإتيان بها، أو أنّه تقديراً لهم قد أرى النّاس آياتٍ باهراتٍ من أجلهم. وبما أنّ المعجزات من مختصّات الأنبياء وتعتبر أدلّة دامغة على صحّة نبوّتهم، فإنّ الكرامات أيضاً علامات على عظمة أولياء الله وتعتبر أدلّة دامغة على رفعتهم وقربهم من ربّ العزّة والجلالة.

مصادر الكتاب

ص: 87

* القرآن الكريم.

1. الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن عليّ بن محمّد بن حجر العسقلاني، بيروت، دار الكتاب العربيّ، بدون تأريخ.

2. الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1407ه.ق.

3. تأريخ الأُمم والملوك، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، بيروت،

دار الكتب العلميّة، 1408ه. ق.

4. تأريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغدادي، أوفسيت بيروت، دارالكتب العلميّة، بدون تأريخ.

5. تذكرة الحفّاظ، أبو عبدالله شمس الدين محمّد الذهبي، بيروت،

دار الكتب العلميّة، بدون تأريخ.

6. الترغيب والترهيب، حافظ زكي الدين المنذري، بيروت، دار الفكر، 1408ه. ق.

7. تهذيب تأريخ دمشق، عليّ بن الحسن المعروف بابن عساكر، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1407ه. ق.

ص: 88

8. تهذيب التهذيب، أحمد بن عليّ بن محمّد ابن حجر العسقلاني، بيروت، دار الفكر، 1404ه .ق.

9. تفسير جامع البيان، أبوجعفر محمّد بن جرير الطبري، بيروت، دار الفكر، 1408ه. ق.

10. حلية الأولياء، الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1409ه. ق.

11. حياة الصحابة، محمّد يوسف الكاندهلوي، بيروت، دار المعرفة، 1406ه. ق.

12. الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، عبدالرحمن جلال الدين السيوطي، بيروت، دار الفكر، 1403ه. ق.

13. سنن ابن ماجه، أبو عبدالله محمّد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه، تحقيق محمّد فؤاد عبدالباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1395ه.ق.

14. سنن أبي داوود، أبو داوود سليمان بن أشعث السجستاني، بيروت، دار الكتاب العربي، بدون تأريخ.

15. سنن الترمذي، أبو عيسى محمّد بن عيسى الترمذي، تحقيق أحمد محمّد شاكر، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

16. سنن الدارمي، أبو محمّد عبدالله بن بهرام الدارمي، القاهرة، دار الفكر، 1398ه. ق.

17. سنن الدارقطني، عليّ بن عمر الدارقطني، بيروت، عالم الكتب، 1406ه. ق.

ص: 89

18. السنن الكبرى، أبو بكر أحمد بن حسين البيهقي، أوفسيت بيروت، دارالمعرفة.

19. سنن النّسائي، أبو عبدالرحمن النّسائي، بيروت، المكتبة العلميّة، بدون تأريخ.

20. صحيح البخاري، أبو عبدالله محمّد بن إسماعيل البخاري، بيروت، عالم الكتب، 1406ه. ق.

21. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، القاهرة، مكتبة محمّد عليّ صبيح، بدون تأريخ.

22. الصواعق المحرقة، أحمد بن المكّي، القاهرة، مطبعة الميمنيّة، 1312ه.ق.

23. الطبقات الكبرى، عبد الله محمّد بن سعد، بيروت، دار صادر، 1377ه. ق.

24. فتوح الشّام، أبو عبدالله محمّد بن عمر الواقدي، بيروت، دار الجيل، بدون تأريخ.

25. كنز العمّال، علاء الدين المتّقي الهندي، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1409ه. ق.

26. مجمع الزوائد، نور الدين عليّ بن أبي بكر الهيثمي، بيروت، دار الكتاب العربي، 1402ه. ق.

27. المستدرك على الصحيحين، الحافظ أبو عبدالله محمّد الحاكم النيسابوري، بيروت، دارالفكر، 1398ه. ق.

28. المسند، أحمد بن حنبل، أوفسيت بيروت، دارالفكر، بدون تأريخ.

29. معجم البلدان، شهاب الدين ياقوت الحموي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1399ه. ق.

ص: 90

30. المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، بغداد، وزارة الأوقاف، 1399ه. ق.

31. الموطّأ، مالك بن أنس، بيروت، دار الفكر، 1407ه. ق.

32. ميزان الاعتدال، أبو عبدالله شمس الدين محمّد الذهبي، بيروت، دارالمعرفة، 1382ه. ق.

33. نيل الأوطار، محمّد بن عليّ الشوكانيّ، القاهرة، دارالحديث.

34. وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، نورالدين عليّ بن أحمد السمهودي، أوفسيت بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1401ه. ق.

ص: 91

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.