مشكلة التقريب و ازمة المقاربات

اشارة

نام كتاب: مشكلة التقريب و أزمة المقاربات

نويسنده: ادريس هاني

موضوع: اعتقادات و پاسخ به شبهات

زبان: عربي

تعداد جلد: 1

ناشر: نشر مشعر

مكان چاپ: تهران

سال چاپ: 1429 ه. ق.

نوبت چاپ: 1

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

المقدّمة

ص:5

أظهرت الأحداث المتعاقبة على العالم الإسلامي أنَّه لا تكفي المجاملة في مقام نشدان التَّقريب والوحدة، بل وجب أنْ يكون سؤال التَّقريب والوحدة الإسلاميَّة امتحاناً للعقل الإسلامي في اللَّحظات الأليمة والمنعطفات الكُبرى التي تمرُّ بها الأُمّة الإسلاميَّة.

وقد وضُح بما فيه الكفاية اليوم أَنَّ عنوان «الأُمَّة الإسلاميَّة» و مفهوم «الرَّابطة الإسلاميَّة» ليس أنَّه بات مهدَّداً بالانقراض فحسب، بل بات يُلاحظ أنَّ أكبر مفارقةٍ يعيشها مسلمو اليوم هي أنّهم أصبحوا أغرق

ص: 6

الأُمم في آفة التَّجزئة و التَّشرذم.

فأضحت فكرة الأُمّة والعالم الإسلامي تعبيراً مجازياً لايجد في دنيا المسلمين مصداقاً واقعيّاً مشخَّصاً.

و ربما ستظلّ الأُمور على حالها ما دام العقل الإسلامي المعاصر قد ركبه العناد في الأعمِّ الأغلب، حتّى بات غير محصَّن من اختراق النَّزعات الطَّائفيَّة المقيتة. وهذا هو الدَّاء المزمن الَّذي ما برح فناء الأَمم- منذ زمنٍ بعيد- يتحقَّق على يده.

لم يكن العالم الإسلامي منذ فترةٍ طويلةٍ مهيّئاً لطرح الأسئلة الجذريَّة في مواجهة مشكلاته الكبرى، بل اكتفى بأنصاف الحلول والتّرقيع والمجاملة والالتفات على مشكلاته. إنَّنا وبتعبيرٍ آخر لم نكن في قائمة الحلول الممكنة؛ لأنَّنا لم نكن في قائمة الأسئلة الجذريَّة التي سمحت لآفاتنا و أمراضنا أنْ تستفحل أكثر فأكثر، حتَّى غدا داء الفرقة والطَّائفيَّة سرطاناً ما فتئ يتوسَّع

ص: 7

وينهش في جسد الأُمَّة ويَعِدها بموت محقَّق.

لقد ظلَّت الثّقافة الإسلاميَّة منذ عهدٍ بعيدٍ مرتهنةً لثقافة عدم الدّنوِّ من الاستشكالات الكُبرى والأسئلة الجذريَّة. فكان الخوف من الفتنة غولًا يجتاح العقل المسلم ويبعثه على الانزواء والسَّلبيَّة، دون أنْ يدرك بأنَّ الفتنة هي في جوهرها امتحانٌ وابتلاءٌ للأُمَّة، وجب فيه على العلماء التَّصدِّي له بالقول الصَّادح والصَّبر على البلاء. و قد بات واضحاً- أيضاً- أنَّ بعضاً من العلماء وقعوا في فخِّ هذا الامتحان، وبدل أن يرأبوا الصَّدعصبُّوا الزَّيت على النّار.

يتساءل المتابعون لوقائع المؤتمرات والفعاليات التي تُعقد من أجل بحث مسألة التَّقريب بين المذاهب والوحدة بين المسلمين حول جدوى هذه الفعاليَّات ومدى تأثيرها، وهل تأتي بما هو حقيقٌ ببناء الثّقة وخلق مناخ للاستئناس بين النَّاشطين الدِّينيِّين من

ص: 8

شتَّى المذاهب الإسلاميَّة؟!

لكن ما يبدو ملحاً في هذا السِّياق أنَّه هل استطعنا أنْ نؤسِّس مبانٍ تقريبيةً ووحدويةً، بغية الوصول إلى نسقٍ تقريبيٍّ ووحدويٍّ مفهوميٍّ يجعل لهذه المسألة معجمها الذي يرفد الوعي التَّقريبي والوحدوي بعلمٍ كاملٍ في المقام، و ثقافة نسقيَّةٍ تُحوِّل النّداء إلى التَّقريب والوحدة إلى علمٍ، وليس مجرَّد نداء يتيمٍ وتظاهرات ينفرد بها فاعلون، قد يكونون نافذين في مجتمعاتهم و قد لايكونون، قد تكون لهمصولةٌ بالغةٌ و قد لا تكون، قد يشكّلون الوسيط الكفوء و قد لايفعلون.

فالتَّحوُّل بتظاهراتنا وفعالياتنا الوحدوية والتَّقريبية إلى نموذجٍ إرشاديٍّ جديدٍ أمرٌ مطلوبٌ اليوم أكثر من إيّ وقتٍ مضى، كما أنَّ رسم استراتيجياتٍ جادةٍ ومتخصّصةٍ تبني على مقاربات ليس فقط وعظية

ص: 9

وخطابية، بل تحتلّ فيها تخصُّصاتٌ كثيرةٌ مكانةً محترمة.

وبعبارةٍ أُخرى: إِنَّ المطلوب والملّح أنْ تعالج مسألة التَّقريب والوحدة ليس فقط بنموذجٍ إرشاديٍّ فقهيٍّ ووعظيٍّ وكلاميٍّ وربما إنشائيّ، كما هو حال نداءاتنا اليوم للتَّقريب والوحدة، بل المطلوب أن نُدخل تخصُّصاتٍ تغور بالمطلب بمقدار عمق الآفة وتجذُّر المرض.

فمشكلة التَّقريب والوحدة ليس بالضرورة أنْ تكون دينيّةً أو فقهيّةً بحتة، بل هي ثقافية واجتماعية واقتصادية وجغرافية ومناخية ....

وعليه، وجب أنْ تكون المقاربة سوسيو- ثقافية وتاريخية واقتصادية وانثربولوجية وسيكولوجية و ...

إنَّ المعاينة السَّريعة لما عليه واقع الفعاليات والتَّظاهرات التي نشهدها اليوم في بحث هذه المسألة،

ص: 10

هي تكرارٌ مملٌ أحياناً، يصيب الوعي بالضَّجر، ويفقد جاذبيته عند المخاطب، فكأنَّنا أمام حالةٍ مهرجانيةٍ و مواسم يضرب لها موعدٌ روتيني، فلاتأتي بجديدٍ يرفد انتظارات النَّاس بالجديد.

إنّنا نتساءل: لماذا نجد أَنَّ المذاهب نفسها المتصارعة في هذا البلد قد تتآخى في بلد آخر؟!

ولماذا كلّما حلّت الأزمات بالمسلمين لاح من جديد شبح الفتنة الطَّائفيَّة و الفرقة، كما لو أَنَّ هذه الآفة لم تعالج في عالمنا الإسلامي قط؟!

ولماذا يصرُّ المسلمون أن يفتخروا بأنَّهم أُمَّةٌ بلغت المليار والنّصف بينما هذا العدد لا يكتمل إلّا إذا دمجنا كافّة الطَّوائف و الفرق الإسلامية؟!

ولماذا أصبح لنا موعد مع المشكل الطَّائفي، و أصبح يسيراً على دوائر الاستكبار العالمي أن تزفَّ إلينا من خلاله كافّة مخططاتها، و تنسج على منواله كُبرى

ص: 11

مؤامراتها؟!

أسئلةُ كثيرةٌ يتعيَّن وضعها في عين الاعتبار قبل أنْ نمضي قدماً في بحث هذا السُّؤال الخطير في تاريخنا و راهننا.

ص: 12

المقاربة التَّاريخية ضرورة

نقصد بالمقاربة التَّاريخية: توثيق أُولي مظاهر الخلاف الإسلامي- الإسلامي، ورصد تحوُّلاته عبر أطواره المختلفة؛ بقصد الوقوف على تمثُّلاته و تعبيراته وتوتُّراته أوَّلًا بأوَّل.

فالمقاربة التَّاريخية تضع المتلقي لخطاب الوحدة على مستوى من الفهم و الاستيعاب لظاهرة الخلاف بحيث يخفّف من غلوائها البنيوي، و يجعلها قابلة للفهم و النّقد، لولا أنَّنا في العالم الإسلامي نجد أنفسنا الأُمَّة الوحيدة غير القادرة على نقد الخطاب التَّاريخي.

ص: 13

ولعلَّ غياب السُّؤال التاريخي هو جوهر مشكلة نهضة المسلمين وسبب إخفاقهم؛ فإن ثقافة رفض التَّأثيم، و منع الدّنو من السُّؤال التاريخي من شأنها أن تؤبّد الخلاف الإسلامي- الإسلامي لقرونٍ مديدة.

تفيدنا المقاربة التَّاريخية في تقويض مظاهر الأسطرة التي خضعت لها الصُّورة النَّمطية المتبادلة بين المتخالفين. فالمقاربة التَّاريخية تدفع باتَّجاه الاقتصاد في الخلاف. ذلك الضَّرب من التَّقويض المقاصدي الذي يوقف الباحث أمام الحدِّ الأدنى من الخلاف الذي تتبدَّد على هامشه حالة التَّضخُّم في طلب الخلاف و الانزواء، ويحصل في مقابل ذلك حالة التَّسامح في القبول بعناصر الاختلاف بدل التَّعسير؛ حيث إِن مقتضى التَّسامح، التَّعسير في اعتبار ما من شأنه مخالفة المقصود من الائتلاف.

إنَّ إطلالةً سريعةً على أدبيات الصِّراع الطَّائفي

ص: 14

تُظهر إلى أيّ حدٍّ بلغ الإسراف في قبول الصُّورة النَّمطية عن الآخر المسلم، إلى حدٍّ طغت موارد الاختلاف الزَّائفة و ابتلعت معها عناصر التَّوافق و التَّلاقي التي هي من الأهمية بحيث يعظم على اللَّبيب تجاوزها؛ لأنَّها تمثل أعظم القيم الإسلامية. و لا نعتقد أنَّ مسألة التَّوحيد و النُّبوَّة و المعاد و ما شابهها من باقي الأُصول التي بها يكون المسلم مسلماً، هي دون سائر الأُصول المعتبرة في ديننا الحنيف حتى لا يُلتفت إليها في المقام، أو يتذرَّع بعدم كفايتها في بناء التَّقارب المنشود و الوحدة المتوخاة.

تتيح المقاربة التَّاريخية إمكانية النَّظر إلى موضوع الخلاف بوصفه ثمرةً لاعتمالات سياسيَّةٍ متراكمة، وصيرورة من التَّشكُّل الثَّقافي على خلفيّة الانزواء بالمذاهب و الطَّوائف و إحاطتها بأسوارٍ منيعةٍ لا تؤمّن الحدّ الأدنى من الذّهاب و الإياب بين الطّوائف

ص: 15

و المذاهب الإسلامية.

لقد فعلت السِّياسة الكثير في التَّاريخ الإسلامي، و ساهمت في تحويل المذاهب الإسلامية- بوصفها مدارس للفكر و المعرفة و الاجتهاد- إلى محميّاتٍ مغلقة و مدن محروسة؛ إمعاناً في النُّفور المذاهبي، و مبالغة في تدمير الجسور بينها.

و إذا كانت السِّياسة قد فعلت فعلتها في التَّاريخ الإسلامي فلما لاتنهض سياستنا اليوم بتدارك خطأ الماضي و العمل على مدِّ جسور الوصال بين المذاهب، و منح المجتهدين الحقّ في الاندماج في مناخٍ من التّواصل كما سارت عليه العادة في حواضر العالم الإسلامي منذ أمدٍ بعيد.

إنَّ المتتبع لجملة الشُّبهات التي يحملها بعضنا عن البعض يلاحظ أنَّها نأت بالخلاف عن حدود الأمر الطَّبيعي إلى حدود المبالغة و التَّخريف. و إذا كان التَّحقيق يصادم هذا النَّوع من التَّهريج الطّوائفي، فإنَ

ص: 16

ضرباً من النّسيان و التَّجاهل تؤمّنه السِّياسات في الأعمِّ الأغلب، و تستفيد الحكومات مِمَّا في أيدي النَّاس منصورةٍ نمطيَّةٍ على حساب التَّحقيق و النَّظر.

هكذا نجدنا- مثلًا- نحاكم- بأثرٍ رجعيٍّ- الخواجة نصيرالدِّين الطُّوسي في تعامله مع هولاكو، و نعتبر سقوط بغداد ثمرةً لهذه المؤامرة التي لعب فيها ابن العلقمي دوراً بارزاً. ولكنَّنا ننسى أنَّ ابن العلقمي كان هو الشَّخصية الأكثر استقامةً في دولة العباسيين، و هو وحده- بحسب الفخري- من لم يخمر، بل إنَّهصاحب فكرة شرح النَّهج؛ حيث طلب من ابن أبي الحديد المعتزلي النُّهوض بهذا المشروع الكبير ( «(1)»). و يمكن


1- في كتاب الفخري: 265:« هو مؤيّدالدّين، أبوطالب، محمد بن أحمد بن العلقمي البغدادي، وزير المستعصم بالله، الخليفة العباسي، اشتغل فيصباه بالأدب، ففاق فيه، وكتب خطاً مليحاً، وترسّل ترسُّلًا فصيحاً، و كان لبيباً كريماً، ورئيساً متمسّكاً بقوانين الرّئاسة، خبيراً بأدوات السّياسة، محباً للأدب، مقرّباً لأهل العلم، اقتنى كتباً كثيرة نفيسة، وصنّف له النَّاس، منهم: الصَّغانيصنّف له العباب، و هذا أي: شرح نهج البلاغه المصنّف الذي ألف برسمه».

ص: 17

معرفة رأي هذا الأخير في ابن العلقمي الوزير في الشَّرح نفسه ( «(1)»). لكن- وللأسف الشَّديد- لم يبعثنا وازع البحث و التَّحقيق أن نتأمَّل في محاولة ابن العلقمي تجنيب بغداد كارثة التَّدمير الوحشي المغولي؛ فإنَّ اختزال سقوط بغداد فيه دورٌ سرِّيٌّ لا بن العلقمي قد غفل عنه الكثير.

فهذا ابن خلدون حينما يصف قوة التَّتار، يعتبرها الدَّولة الأقوى في العالم، بل لا وجود لأُمَّة بهذه القوَّة منذ آدم (ع). فهل كان يحتاج المغول إلى ابن العلقمي أو رجلٍ أسيرٍ مثل الخواجة نصير الدِّين الطُّوسي حتَّى يتمكَّنوا من بغداد؟!

ولكن مع ذلك لم نجد أحداً وقف عند الطَّريقة التي تعامل بها ابن خلدون مع تيمور لانك حسب ما يصف


1- راجع: شرح النَّهج لابن أبي الحديد المعتزلي الشَّافعي 240: 8، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، نشر دار إحياء الكتب العربيّة.

ص: 18

هو نفسه ذلك في سيرته ( «(1)»). و هو حديثٌ مطوَّلُ جمع ابن خلدون مع تيمور لانك، وأعطاه ابن خلدون معلوماتٍ جغرافيَّةٍ غايةً في الخطورة عن المغرب، و كُتب ذلك و تُرجم فوراً إلى اللُّغة المغوليَّة، و هي معلوماتٌ ليس من شأنها أنْ تغري أيَّ غازٍ عسكريٍّ لغزو المغرب فحسب، بل تمكّنه- أيضاً- من فعل ذلك على أيسر السُّبل.

إنَّ مقايسةً سريعةً بين علاقة الخواجة نصير الدِّين الطُّوسي الأسير مع هولاكو، و بين ابن خلدون الذي يروي لنا بنفسه كيف انحنى و قبَّل يد تيمور لانك، و أظهر له من التَّذلُّل و الدُّونيَّة ما لم يجد مندوحةً من وصفه بنفسه، تعطيناصورةً عن التَّعاطي المزدوج مع التَّاريخ الإسلامي، و هذا النَّوع من التَّحقيق التَّاريخي يوجب استبعاد مدّ الجسور بين المختلفين.


1- كما هو مسطورٌ في آخر جزءٍ من كتاب العبر.

ص: 19

وقس ذلك على فرية التَّآمر الصَّفوي، الذي باتت اليوم شعاراً ثقيلًا راسخاً في دنيا إعلامنا كالطَّود الأشم. بينما الغور البسيط في التَّحقيق التَّاريخي يكشف عن أنَّ الصَّفويين ليسوا سوى تلك الفرقة الصُّوفيَّة التّركيَّة الأردبيليَّة التي تبنَّت التَّشيُّع، و فتحت المجال للدَّور العربي في كثيرٍ من القضايا.

فالتَّشيُّع الصَّفوي هو بالأحرى التَّشيُّع العربي، حيث نجد أنَّ ما من دولةٍ في تاريخ إيران مكَّنت العرب من النُّفوذ، ومنحتهم مناصب عليافي الحكم كالدَّولة الصَّفويَّة.

إنَّ المقاربة التَّاريخيَّة لجملة الشُّبهات التي يستقوي بها إعلام التَّفريق المعاصر ضروريَّة منهجيَّة و استراتيجيَّة للتَّخفيف من وطأة الخلاف، و على الأقل يرفع الخلاف إلى قاب قوسين أو أدنى من الممارسة العلميَّة و أخلاقية الحوار بين المختلفين، و لا يهدم أُسُس التَّواصل المطلوب بين المسلمين.

ص: 20

المقاربة الأصولية

إشكالية القطع

انتهز هذه الفرصة كي أبدي رأياً في هذا الجدل الذي سيتيه بنا إلي ما لاتحمد عُقباه، إن لم نستحضر الحكمة و نحكّم العقل ونتقي الله في فتنة لها رجالٌ شدادٌ تأخذهم العزّة بالإثم، وهم- وربك- لايرعوون ..

وليس ذلك أنَّ المرءليس مطالباً بإحقاق الحقّ و الذَّود عن حمى الثَّقلين الذين جعلهما الله تعالى عصمة المسلمين من الضلالة .. لكن لابدَّ من أن يحكم النِّقاش الرَّغبة الصَّادقة في المعرفة، و الخُلق الرفيع في الحوار، فليست الصَّراحة هي المشكلة في البين، بقدر ما أنَ

ص: 21

المشكلة في القلوب حينما تعميها المكابرة، ويتراخى الوازع الدّيني والأخلاقي، و يضمر الإحساس الإنساني الذي يجعل الإنسان لا يدري متى وقع على الفتنة و متى تقع عليه.

و من المؤكد إنَّ الهدف من النِّقاش و المناظرة- بغض النَّظر عن الشُّروط العلميَّة و الأخلاقيَّة التي يجب توفُّرها فيمن ينوي الخوض في هذا الميدان- لابدَّ أنْ يكون متّجهاً إلى تعزيز موقف الأُمَّة و وحدة المسلمين.

فحينما أناقشك- أخي المسلم- سلفياً كنت أو غيرذلك، فالغاية أنْ أجعلك تتعرَّف على آراء من كفَّرتهم عَدْواً بغير علم. لكي أقول لك: أنا مسلمٌ مثلك، فلنتعايش و يحبّ بعضنا البعض، ونعبد ربّنا حتّى يأتينا اليقين.

إنَّ علماء الأُصول وإنْ كانوا قد تحدَّثوا كثيراً عن

ص: 22

القطع بوصفه حجّة، ولكن لايكفي هذا عزيزي المسلم؛ لأنَّه في كثيرٍ من الأحيان لا يكون الطَّريق الَّذِي من خلاله حصل القطع مشروعاً، فلا تعني الحُجِّيَّة الذَّاتية للقطع عدم المؤاخذة على الطَّريق غير المشروع الَّذِي سلكهصاحب القطع. فأمثال القطّاع و غير السَّوي في قطعه من ناحية الطَّريق في حكم الجاهل الذي يجب عليه أن يحتاط لنفسه بالرجوع إلى العالم متى لم يكن في ذلك حرج؛ لأنَّ أمثال هؤلاء قد يحصل لهم القطع عن طريق الأطروحة ونقيضها سواء بسواء.

غير أنَّه لا بأس بالحديث عن أنَّ القطع المعتبر في المقام قد قال به الفقهاء و الأصوليين لجهةِ تناسب مع التَّسهيل و رفع الحرج؛ حيث كان مجال الفقه هو الظَنون المعتبرة التي تحتل المساحة الكُبرى في مجمل الأحكام بعد الانسداد.

ص: 23

فالشارع المقدَّس لعدله و حكمته عبّدنا بهذه الظُّنون دفعاً للحرج. وحيث ليس في الوسع إحراز الواقع، فكان القطع هاهنا بمنزلة الواقع كما لايخفى.

غير أنَّ القطع في مجال الاعتقاد ليس له إلَّا طريق الدَّليل. ولكن أيّ دليل؟!

هل يقال: إنَّ الدَّليل في المقام هو البرهان؟

من قال ذلك؟

نعم القرآن يقول: (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْصادِقِينَ) ( «(1)»)، لكنَّ البرهان هنا لا يعني بالضَّرورة البرهان المنطقي الذي يقابلصنوف الحجج التي تقوم على غير القياس البرهاني بالضَّرورة؛ لأنَّ المتلقي المفترض في خطاب الوحي هو الإنسان كُلّ الإنسان، بكُلِّ مستوياته الإدراكية.

و كُلُّ متلقٍّ محاسبٌ بقطعه من ناحية الوسيلة


1- البقرة: 111.

ص: 24

والطَّريق الَّذي يتوسَّل به للوصول إلىَ الواقع؛ حيث إنَّه مكلَّف بأنْ يستثير دفائن عقله قدر الوسع.

لكن لا يخفى أنَّ من ضروب القطع ما خالف الواقع، فيكونصاحبه بمنزلة الجاهل، و هو ما يُسمَّى بالجهل المركّب. و قد حار المناطقة في أمر الجهل المركّب، هل هو من ضروب العلم أو الجهل؟ والحقّ أنَّ هذه الحيرة راجعةٌ إلى الزَّاوية التي ينظر من خلالها إلى مسألة الجهل المركّب. والمسألة في اعتقادنا نسبيةٌ بامتياز؛ فالذي غلب عليه الذَّوق المنطقي جعله من أقسام الجهل، والذي غلب عليه الذوق الفقهي جعله من أقسام العلم. وعليه فالجهل المركّب من النَّاحية المنطقية جهلٌ في جهل، وإن كان في نظر الفقه ضربٌ من العلم والقطع. فالمنطقي يستحضر الواقع الوجودي على نحو الحقيقة، سواء أكان الوجود ذهنياً أم خارجياً. فالقطع الذي يخالف الواقع هو جهل، فكأنَ

ص: 25

الجاهل هنا جَهل مرَّتين بالمطلوب؛ جهل بالمحمول، وجهل بحقيقة الجهل بالمحمول.

فمن قال- مثلًا- لمؤمن: إنّك كافرٌ، فهو جاهل بحال المؤمن في الواقع، وجاهل أنَّه يكون جاهلًا. ولذا فهو قد جهل مرّتين، و إنْ شئتَ فقل: ظلم مرّتين، بخلاف الجهل البسيط فإنَّه جهلٌ مرّة واحدة بالمحمول، يلازمه علم بالجهل بالمحمول.

و كيف كان، فعلى الأقلّ لن يكون الجهل المركّب في مجال الاعتقاد علماً. فالخوارج الذين طلبوا الحق فلم يصيبوه، كان التَّشديد عليهم ليس بأقلّ مِمَّن طلب الباطل فأصابه؛ لجهة اعتبار النّوايا، و حوربوا لمَّا حاولوا أنْ يرتبِّوا آثاراً عمليَّةً على جهلهم المركّب. فإنَّ القاطع بكفر المؤمن يستبيح دمه وعرضه و ماله.

و من هنا تظهر أهميَّة استمرار النِّقاش، وبأن لا يقطع المعتقد في مجال المناظرة إلا بدليل؛ لإنَّ منهج

ص: 26

الرسول (ص) في الدَّعوة كان كما يُشير القرآن إلَى ذلك: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ( «(1)»). وحتماً لم يكن الرسول الأكرم (ص) يشكّ مقدار ذرةٍ أو أدنى في مضمون رسالته، لكنَّها قوانين التَّواصل والحوار تفرض أن يخرج المناظر عن قطعه، لنقل الخروج المنهجي عن القطع؛ حتّى يكون الحوار ممكناً.

إنَّ النَّاظ

ر في مجمل الوقائع التي ذهب ضحيتها أبرياء من البشر، حدثت بجهلٍ مركَّب. ومن هذا المنطلق احتاطت الشَّريعة الإسلاميَّة في الدِّماء حتَّى في الحدود التي شرّعها الله تعالى. ومن هنا- أيضاً- شدَّد الشَّرع على عدم اتِّباع الظَّن؛ كي لا نصيب قوماً بجهالة ( «(2)»).


1- سبأ: 24
2- إشارة إلى الآية السَّادسة من سورة الحجرات.

ص: 27

المهمُّ من كُلِّ هذا أنْ نعرف أَنَّ الحوار بين المختلفين يجب أن يستأنس بمباحث القطع استئناساً يهذّب العقول ويلطّف النُّفوس، ويجعل المناظرة قائمةً على الاحتياط في أحكام القيمة والتَّثبُّت والتَّبيُّن. فإذا أدركنا ذلك، كان لا بدَّ من الحديث عن الغاية الأخلاقية والدِّينية والإنسانية التي تؤطِّر الحوار المذاهبي، أعني: أنْ يكون المتناظران يريدان دينياً وجه الله في إحقاق الحقّ، فلا حيلة مع الله أمام من يحاول ركوب متن المكابرة و المراءاة.

و أمَّا الغاية الأخلاقيَّة، فهي أنْ يكون الحوار والمناظرة هادفةً إلى تهدئة النُّفوس ونزع ما من شأنه تجييشها وتهيئتها لتكون مطيّةً للشّيطان. وأمَّا إنسانياً؛ فلأنَّ إدراك الحقيقة والمعرفة مطمحٌ إنسانيٌّ على كُلِّ حال.

وعلى هذا الأساس يمكننا الحديث عن ضربٍ بديلٍ

ص: 28

من المناظرة، هي: «المناظرة المسؤولة». فأيُّ ضربٍ من المناظرة يهدف إلى التَّخريب ونشر الكراهية والعداوة والتَّكفير ... يكون خارجاً عن شروط ومقومات المناظرة المسؤولة. لذا فإنَّ استفزازات البعض، وإمعانهم في السّباب والشّتم والتَّكفير، لن يثني الموالي الحقيقي لأهل البيت (ع) عن التَّمسُّك بالأخلاق الحميدة والهدف الكبير الذي ائتمنوا عليه.

وهناك من يستغلّ هذه الأخلاق الرَّفيعة، ويأنس من تعفُّف أتباع أهل البيت (ع)، لمواصلة التَّهريج الطَّائفي من طرفٍ واحدٍ، لكنَّ أمثال هؤلاء لا يحسنون فيصناعتهم سوى تكفير المسلمين. و مع ذلك، فلن نكفّر أحداً، و لن نسي ء لأحدٍ ...

فالذين امتلأت قلوبهم بأخلاق محمد و آل محمد (ع)، ليس أمامهم من مندوحةٍ ليقعوا في فخٍّ من

ص: 29

هذه الفخاخ. فلا نحاجج المغالط إلا بمثل ما حاجج به محمد (ص) المشركين و عليٌّ (ع) الخوارج؛ فما خاب من تمسّك بكم سادتي.

وليعلم كل منصفٍ أنَّ المشكلة ليست بين المذاهب الإسلاميَّة بقدر ما هي مشكلة مع من فتح نار التَّكفير على من خالفه من المسلمين، بدون فقه وبيّنة.

إنَّ الغائب في مقاربتنا لمسألة التَّقريب والوحدة هو المقاربة التَّاريخيّة القائمة على السُّؤال التَّاريخي الجذري، وأيضاً المقاربة الأصولية النَّاهضة على تفكيك مفهوم القطع وفلسفته، تلك الفلسفة التي أبدع فيها العقل الأصولي، لا سيما الإمامي، و حقَّق وفرَّع، لكنَّ ضرورات التَّواصل وما نراه من نوازل من أحكام القطع تذهب حدّ إزهاق الأرواح البريئة، يقتضي مزيداً من التَّحقيق والبحث والنَّظر. فكون الدّماء عند أهل البيت (ع) شديدة، تفرض تفصياً استثنائياً وجهداً

ص: 30

آخر مضاعفاً لبحث مسألة القطع، لا سيما ما كان من جنس القطع الذي به يُكفّر المسلم المسلم، و به يستحلّ دمه ويستهتر بالحرمات.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.