سرشناسه:طبرسی، حسن بن علی، قرن 7ق.
عنوان قراردادی:کامل البهائی. عربی
عنوان و نام پديدآور:کامل البهائي/ [تالیف] الحسن بن علی بن علی بن الحسن الطبری (عمادالدین الطبری)؛ [تعریب و تحقیق محمدشعاع فاخر].
مشخصات نشر:قم: المکتبه الحیدریه، 1426ق.= 1384.
مشخصات ظاهری:2ج.
شابک:80000 ریال: دوره 964-503-073-0 : ؛ ج. 1 964-503-071-4 : ؛ ج. 2 964-503-072-2 :
وضعیت فهرست نویسی:برون سپاری
يادداشت:عربی
يادداشت:ج. 2 (چاپ اول: 1426ق. = 1384).
یادداشت:کتابنامه.
موضوع:چهارده معصوم -- سرگذشتنامه
شناسه افزوده:فاخر، سیدمحمدشعاع، 1360 - ق.، مترجم
رده بندی کنگره:BP14/ط24ک2043 1384
رده بندی دیویی:297/95
شماره کتابشناسی ملی:2583425
ص: 1
ص: 2
بسم اللّه الرحمن الرحيم
نازعتني نفسي أن أقنع بشبه المقدّمة التي صدّرها الناشر للكتاب و أسلم من المؤاخذات التي تحاسبني على مقدّمتي بعد كتابتها، إذ ليس من اللائق بي بعد صرف هذا الجهد المضني على الترجمة أن أترك إبداء الملاحظات التي بدت لي خلالها مع علمي بمكانة المؤلّف العلميّة، فهو كما نصّ عليه أرباب التراجم: الشيخ الفقيه عماد الدين و عماد الإسلام الموثوق به عند العلماء الأعيان، العالم الخبير المتدرّب النحرير، المتكلّم الجليل، المحدّث النبيل، الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن الحسن الطبريّ أو «الطبرسيّ» الآمليّ الاسترآباديّ، كان معاصرا للمحقّق الطوسيّ و المحقّق الحلّيّ و العلّامة (1)، آرائه الفقهيّة منقولة في الكتب نقلها الشهيد الثاني في رسالة صلاة الجمعة، و المحقّق السبزواريّ في ذخيرته عند مبحث صلاة الجمعة و كذلك القاضي نور اللّه التستري و آخرون، كان من أفاضل عصره و من فحول الإماميّة و أكابرهم، له مصنّفات جيّدة في الفقه و الحديث و الكلام و غيرها، همّ فيها بتشييد قواعد الدين و تحقيق حقائق المذهب.
ص: 3
و قد نالت كتبه الفقهيّة اهتمام الفقهاء المتأخّرين، و نقلوا آرائه في كتبهم، و هذا دليل ساطع على جلالته و وثوقه عند فقهاء كبار أمثال الشهيد الثاني و صاحب الذخيرة و غيرهما، و ثمّة دليل آخر على تبحّره في العلوم الإسلاميّة و خاصّة الفقه و الكلام، هو ما نستشفّه من كلمات الثناء التي مدحه بها أصحاب التراجم، و أشرنا إلى بعضها في البداية.
يقول المرحوم المحدّث القمّي الذي أورد ترجمة مفصّلة للمؤلّف في كتاب (الفوائد الرضويّة): و اعتنى به الوزير المعظّم بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس الدين محمّد الجويني المشهور بصاحب الديوان المتولّي حكومة بلاد فارس في عصر هلاكو، و كانت للشيخ منزلة رفيعة و مكانة سامية عنده.
ذكر معظم أرباب التراجم نسب المؤلّف على النحو الآتي: الحسن بن عليّ بن محمّد ابن عليّ بن الحسن عماد الدين الطبريّ، و ذهب بعض آخر منهم إلى أنّه الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن محمّد بن الحسن عماد الدين الطبريّ.
و قال المؤلّف عن نفسه في مواضع من كتاب (كامل البهائي) أنّه الحسن بن عليّ ابن محمّد بن الحسن الطبريّ، و إذا علمنا أنّ المؤلّف سمّى نفسه في مواطن أخرى الحسن بن عليّ الطبريّ فإنّنا على يقين أنّه كان يراعي الاختصار في تعريف نفسه و أنّ جدّه الأوّل محمّد، و جدّه الثاني عليّ، و جدّه الثالث الحسن كما جاء ذلك أيضا في كتاب كامل البهائيّ المطبوع، و هكذا ذكره صاحب الذريعة في أكثر المواضع التي أورد فيها مؤلّفاته.
و أمّا نسبته إلى طبرستان فشي ء ذكره المؤلّف مرارا و صرّح به أرباب التراجم كما أنّه نفسه انتسب أيضا إلى مازندران و هما واحد، و لا شكّ أيضا في كونه من بلد
ص: 4
آمل الذي كان في القديم أوّل طبرستان كما نسبه إليه جمع كثير من العلماء و هذا العنوان كما يطلق عليه يطلق على بعض آخر من العلماء أيضا ... الخ، انتهى موضع الحاجة منه.
و مؤلّفاته تعرب عن فضله لا سيّما ما كان منها في تشييد المذهب، و رجل كهذا كيف يخترق مجاله العلميّ فيؤخذ عليه أنّه قال ما لا ينبغي أن يقال، أو كتب ما لا يصحّ خلا أنّني وجدت كثيرا من هذا و ذاك في كتابه «كامل البهائي» و داخلتني الحيرة و تأرجح قلمي بين ما تراه عيني و يشعر به فكري و بين مكانة المؤلّف السامية في عالم التشيع لأنّه واحد من روّاده في أقطار البلد المحروس ايران. و ينبغي أن تستثنى مدينة «قم» حيث أنّها لم يسبقها سابق في هذه الريادة و لم يلحق بها لا حق، و لعمري أنّها سبقت العالم كلّه في تبلور الشخصيّة الشيعيّة داخل إطار المذهب الجعفريّ، و أنّ لها مواقف لا تطال في الدعوة إلى الأخذ بهذه المدرسة ليس في ايران وحدها بل في الوطن الإسلامي كلّه.
و لا يخامرني ريب بأنّها حامي حمى الإسلام في ايران و لولاها لكانت ايران في عهد رضاخان قد تحوّلت من النقيض إلى النقيض و كان هذا الجبّار ينوي أن يقوم في ايران بالدور الذي قام به أتاتورك في تركية لو لا أنّه ارتطم في الصخرة التي لا تؤثّر فيها معاول الزمن و هي «قم» المدينة المقدّسة العالمة، و قاسى هذا البلد الأمين ما قاساه من صولة الحاكم المتمذهب بغير مذهبها و لكنّها صبرت على اللأواء و الشدّه صبر الأحرار حتّى قهرت الزمن و لم يقهرها، و طامنت من جماحة فلان عصيه لها و سمّاها المعصوم: «عشّ آل محمّد» و هي بحقّ عشّ ذهبي لهم و لشيعتهم، و لست أرى بلدا في الإسلام نظير هذا البلد لم يأو إلى دوحه سوى مذهب آل محمّد منذ نشأته على يد الأشاعرة الشيعة و إلى يوم الناس هذا لذلك يعتبر طليعة الروّاد في المذهب. أمّا خارج حدود هذا البلد الأمين و في محيط الأمّة الإيرانيّة فقد تسود
ص: 5
المذاهب العاميّة الأخرى بعنف دمويّ لأنّ أوّل الدواء عندها كآخره القتل و القتل وحده و تصفية الخصم، فكانت نقمة جبّارة على ذاتها و على غيرها من الذوات، و حينئذ حين يطلع في هذا الجوّ المكفهرّ كوكب وضّاء يضي ء للشيعة حوالك الزمن كصاحبنا عماد الدين و ينطلق من أسار هذا المناخ القائم و يجنح شطر الحق لا لمصلحة اقتضت ذلك منه بل انجذابا إلى الدليل الذي لا يخترق و البرهان الذي لا يقهر.
هنا يبدأ الغلوّ في الحرص من أبناء المذهب على مثل هذه الشخصيّة فيعد الحديث عنه بغير الأكبار و الإعجاب ضربا من التفريط به و لم يكن ذلك محض تعصّب و عناد بل نظرا لعطائه الضخم في علوم زمانه ممّا يجعل من المستحيل تحميله الهفوات الواردة في كتابه لبساطتها بحيث لا تخفى على من همّ دونه بمراتب كثيرة فما بالك به و هو العالم المتكلّم البحّاثة الواعي الملمّ بعلوم عصره و المحيط بمعارف زمانه.
و هنا أقول بصراحة: خامرتني هيبة من يرمي بنفسه إلى البحر من سفينة في أن أقول لعماد الدين: أخطأت أو قصّرت أو التبس عليك أو أو أو إلى آخره، إلّا أنّي رأيت الأمانة العلميّة و علاقتي النقيّة مع القارئ المقامة على الحقّ و الصدق و الصراحة أكبر من هذه المشاعر فحملني ذلك كلّه على كتابة المقدّمة و إن جرّ البعض إلى لومي و تقريعي و الذي يشفع لي فيما رأيت أنّي أنقد مستغربا لا جارحا، و قطع عليّ التعجّب من المؤلّف بعد الإعجاب به أنّي عزوت جلّ الهفوات إلى يد خفيّة تصرّفت بالكتاب تصرّفا إن لم تفقده مكانته العلميّة التي استحقّها بين الكتب فقد رقطت وجهه الناصع بها كما يرقط الوجه الجميل بالنمش.
وجدت في الكتاب أخطاءا لغويّة و تاريخيّة و حتّى كلاميّة أيضا و لكن بعد إجهاد الفكر و اضطرابه في هذا المنحى الصعب أخالني بلغت شاطئ الحقيقة و لم أبحر في أعماقها حتّى النهاية بما بادهني من الشعور المستأنس بأنّ النصّ قد تصرّف-
ص: 6
بالبناء للمجهول- فيه. و تسربت إليه خيوط من غير نسجه من أنوال جاهله و ربّما كانت عفويّة و لكن لا أستبعد أن يكون ذلك قصدا، و يبقى من المهمّ جدّا التعرف على الدافع الذي حمل الناسخ على استبدال لفظ مكان آخر أو وضع جملة محلّ أخرى، و إنّما عصبت التهمة بجبين الناسخ و نظرائه ممّن يملكون القدرة على التلاعب بالآثار، فلأنّ الألفاظ التي جرى تغييرها ليست ممّا يخطأ فيه الغبي الجاهل فضلا عن الحكيم العالم، خذ على سبيل المثال ترجمة المؤلّف قول الإمام لمروان «أما إنّ له إمرة» بالمرأة- زن- فهذا كيف يخطأ فيه عماد الدين المتكلّم و المؤرّخ و الفقيه الحاذق، و المؤلّف باللغة العربيّة أيضا، و جلّ الألفاظ المبدلة على هذا النمط البسيط.
أضف إلى هذا لغة الكتاب الفارسيّة فما كانت تشبه سبك عصر المؤلّف و هي أقرب إلى الفترة القاجاريّه منها إلى ذلك العصر المغولي. هذا كلّه و منه ما أترك بيانه لدارسي الكتاب و المؤلّف و عصره من ذوي الاختصاص حملني على الاعتقاد بتسرب نسيج العنكبوت إلى خيوط هذا الكتاب القيّم الحريريّة فعلمت أنّ وراء هذا الإسفاف عقولا متدنيّة إلى درجة العناء.
لا سيّما و الكتاب غير محقّق و لم يشر الناشر إلى النسخة التي اعتمدها في طبع الكتاب فللكتاب نسخ عدّة ذكرها الشيخ أغا بزرك الطهراني رحمه اللّه و ليست نسخة واحدة، و يجمل بنا أن نذكر هنا ما قاله شيخنا العظيم الأغا بزرك الطهرانيّ رحمة اللّه تعالى عليه فإنّه قال في الذريعة:
«كامل البهائي» فارسيّ في الإمامة و شرح ما جرى بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و لذا يسمّى ب «كامل السقيفة» للشيخ عماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ الطبريّ، و في النسخة المطبوعة بدل جدّه علي الطبري الحسن، و هو المعاصر للخواجه نصير الدين الطوسي، كتبه بأمر الوزير بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس
ص: 7
الدين محمّد الجويني صاحب الديوان و المتولّي لحكومة اصفهان في دولة هولاكو المغول.
إلى أن يقول: قال في الرياض: و هو كتاب كبير في مجلّدين، و المتداول منه المجلّد الأوّل و هو في أحوال أمير المؤمنين و إثبات إمامته و إبطال غيره، و المجلّد الثاني في أحوال باقي الأئمّة و قد رأيت منه نسخة تامّة بكاشان عند كلانتر تلك البلدة و أخرى بأسترآباد في كتب المولى حسين الأردبيلي و يوجد أيضا نسخة عتيقة عند المولى ذو الفقار و نسخة تامّة في اصفهان عند الميرزا أشرف بن الميرزا حسيب و الذي عندنا إنّما هو المجلّد الأوّل منه، و قال قبل ذلك: إنّ الموجود عندي هو المجلّد الأوّل إلى آخر شهادة الحسين عليه السّلام.
أقول: الميرزا أشرف هو صاحب فضائل السادات المطبوع، و قد كانت عنده النسخة بتمامها و ينقل عنها في كتابه كما صرّح به في (الرياض)، فلو وجد في كتابه النقل عن (الكامل) مع عدم وجوده في النسخة المطبوعة منه يعلم أنّه منقول عن مجلّده الثاني فإنّ الطبوع منه هو المجلّد الأوّل فقط كما يأتي، و نسخة الرضويّة المكتوبة في 974 ق مطابق مع المطبوع، و نسخة في المجلس: 2077 غير مؤرّخة يرجع إلى القرن الثامن ساقط الأوّل و الأخير.
إلى أن قال: و قد طبع في بمبئي في 1323 المجلّد الأوّل فقط و فيه حكاية سماعه في اصفهان في 603 عن مفتي يزيديّ، و منه إلى فراغ الكتاب أزيد من سبعين سنة، فإمّا تاريخ السماع غلط أو أنّه كان من المعمّرين لأنّه ألّف أسرار الإمامة في 698 و الأوّل أظهر لأنّ النسخة المطبوعة مغلوطة للغاية، و أمّا المجلّد الثاني فما عثرت عليه إلى اليوم (1).
ص: 8
فهل أنّ النسخة المطبوعة اليوم طبعت على نسخة بمبئي لابدّ أن تكون الحال كذلك لكثرة أغلاطها.
و كان على الناشر أن يتحرّى الدقّة في نشره الكتاب بتحرّيه الخير، فلا يجمد على ما أسداه الأوائل لعصرهم و عليه القيام بتحقيق هذا التراث القيّم فيميط عنه ما علّق به من غبار التشويه و التغيير فيعمد إلى تحقيق الكتاب و على رأس ذلك صحّة نسبته لمؤلّفه و تبيين النسخ المعتمدة الخطّيّه في طباعته أو حتّى النسخة الواحدة إن لم يوجد سواها إلّا أنّه لا يوجد شي ء من هذا في الطبعة الإيرانيّة للكتاب، و لست أعرف السرّ في إهمال مثل هذا الكتاب بدون تحقيق، و لو صرف مثّقّفونا بعض الجهد على تحقيقه لكان خيرا من عشرات الكتب التي كتبت بعده أو في عصرنا، و أخرجت إخراجا جيّدا أنيقا، و ما كان مردودها ليناسب جمال إخراجها، أمّا هذا الكتاب و غيره من الكتب المدافعة عن المذهب فلست واجدا من يعني بأمرها.
و الكتاب تجاوز صداه اللغة التي كتب بها و صار مفزع العلماء و مصدرهم الذي لا يستغنى عنه في موضوعه و لكنّي وجدت محتواه التاريخيّ في بعض جوانبه دون سمعته بأشواط لأنّ غرائبه كثيرة و فيه أساطير يكذّبها العقل و النقل نظير قتل معاوية لعائشة بالشكل الذي أورده رحمه اللّه فإنّه لا يعقل على الإطلاق و المشكله أنّه أورده مرسلا و هي طريقته في المستغربات و لم يعزه إلى مصدر أيضا حتّى بالوجادة فثبوت وضعه لا يحتاج إلى كبير جهد، و مثل هذه الأمور تجد الكثير في الكتاب.
هذا من جهة و من جهة أخرى، تجده يقصر في إشباع الموضوع الذي أثبت الفصل من أجله نظير الفصل الذي خصّصه لدحض النسب الأمويّ فلم يأت بشي ء يذكر اللهمّ إلّا جملة قصيرة في صدره ثمّ الخوض في مسائل لا ينظمها سلك واحد.
ص: 9
و أعجب ما رأيت منه إعراضه عن ذكر أمّ البنين عليها السّلام بل تجنّب ذكرها من رأس كأنّه لا يصحّح وجودها بل هذا هو رأيه على الحقيقة فلم يشر إلى وجودها و لو على طريقة الردّ و إنّما نسب العبّاس عليه السّلام إلى ليلى بنت مسعود الثقفيّة و جعل له أخا واحدا منها و سمّاه جعفرا و كنّاها بأمّ البنين، و هذا خرق غير مسئول لإجماع المؤرّخين و كان عليه تحقيقا أن يشير إلى من ذكر وجودها ثمّ يعمد إلى إثبات ما يراه فلماذا لم يفعل ذلك ليت شعري.
كما أنّه يؤكّد وفاة أمّ كلثوم في دمشق الشام فإذا ثبت ما يقوله البعض من أنّ زينب هي أمّ كلثوم يقع شطر من تاريخ كربلاء في مهبّ الشكوك و إن إفاد في رفع طائلة الإبهام عن القبر المنسوب في دمشق.
و يزعم أنّ بقاء أهل البيت في دمشق امتدّ إلى أكثر من عشرة أيّام من ربيع الأوّل و فيه رحلوا إلى مدينة جدّهم و لازم هذا القول إنكار يوم الأربعين و لم يصرّح بذلك لفظا لو لا اقتضاء اللزوم، و لعلّه أوّل من فتح للشيخ النوري الطريق إلى إنكاره لأنّه اعتمد على كامل البهائي و جعله من أوّل مصادره في كتابه «لؤلؤ و مرجان» و ناقش الشيخ الطوسي بقوّة ما رواه السيّد ابن طاووس في آخر اللهوف من أنّ أهل البيت قالوا للدليل مر بنا على طريق كربلاء فوصلوا إلى موضع المصرع فوجدوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري رحمه اللّه و جماعة من بني هاشم ... الخ (1). و ما من ريب أنّ النوريّ رحمه اللّه تأثّر بكتابه فقد ذكره بكثير من الإعجاب و أثنى عليه و سمّاه العالم الجليل البصير عماد الدين الحسن بن عليّ الطبرسيّ صاحب المؤلّفات الرائقة مثل أسرار الإمامة و غيرها مثل كامل السقيفة المعروف بكامل البهائي ... الخ (2)
ص: 10
و لا بدّ من كون الشيخ النوري حائز على النسخة الصحيحة و إلّا لما اعتعنى بالكتاب.
و أعجب ما رأيت من هذا المؤلّف هو غارته الشعواء على كتاب «التعجّب» للشيخ الكراجكيّ فقد استلّ بل استلب منه ما ينيف على الربع في مناظراته من دون إشارة و لو بالكناية إلى صاحبه أو إليه، و مهما قلنا عن حسن نيّة المؤلّف أو عن مكانته العلميّة فإنّه لا يعذر على الإطلاق، على أنّه استند إلى كتب ليست في مستوى التعجّب من قبيل كتاب فعلت فلا تلم في المثالب أو الحاوية فإنّه ذكرها أحسن ذكر، فما السبب في إهمال كتاب التعجّب و قد أتخم كتابه من مادّته البديعة، و الكتاب و إن صغر حجمه إلّا أنّه كبير المحتوى عظيم الفائدة على كلّ مسلم مطالعته بإمعان ليقف على حقيقة الخصوم، و لا يمكن أن تكون المسألة عفويّة و لا عكسيّة لأنّ الكراجكيّ عليه الرحمة توفّي سنة 449 و اسم الكتاب الكامل «التعجّب من أغلاط العامّه في مسألة الإمامة» و عماد الدين الطبري صاحبنا كتب كامل البهائي سنة 675 فبين الكتابين حدود: 236 سنة، و لم يشر أحد إلى ذلك ممّن كتب عن الكامل أو مؤلّفه و لا أقصد هنا التشهير به نعوذ باللّه من ذلك لأنّي أعتزّ بالمؤلّف اعتزازا فاق حدود المتصوّر، و لكنّي أردت جلاء الحقيقة و إن أوقف القارئ على جليّة الأمر لأنّي دهشت حقّا حين رأيت الرجل ينقل مناظرات الكراجكيّ بقضّها و قضيضها إلى كتابه دونما إشارة إليه و رأيت ذلك حقّا مضيّعا للكراجكيّ فآثرت الإشارة إليه و خلصت إلى نتيجة و ثقت بها لنفسي من أنّ عماد الدين الطبريّ رحمه اللّه مناظر لا يشقّ له غبار و هفوته مغفورة في هضم حقّ الكراجكيّ يشفع له الهدف السامي من تأليف الكامل الذي نصّ عليه في آخر الكتاب و لكن المؤرّخ يتضائل فيه إلى درجة الإسفاف.
ثمّ أنا على يقين من أنّ الهفوات اللغويّة في الكتاب ليست منه بل هي مدسوسة
ص: 11
فيه، و نحتاج لكي نصل إلى نتيجة مرضيّة إلى دراسته ببذل جهد طائل مركّز، كما أنّي واثق بل لا محيد عن ذلك من أنّ الرجوع إلى نسخة الخطّيّة يفيد كثيرا في كشف الحقيقة، أمّا الهفوات فقد ذكرتها في الهوامش و سيطّلع عليها القارئ و لا حاجة إلى تكرارها في المقدّمة.
و الكتاب نفيس للغاية و مهمّ جدّا و فيه ريّ لأوام الولي و شفاء لعلّته بما يورده من حجج دامغة على الخصم تبصرة بحقيقته إن كان ممّن يتبصّر، و كان من الحقّ ألّا تخلو المكتبة العربيّة منه، لذلك عرض عليّ الأستاذ الكبير و الناشر القدير صاحب المكتبة المضيئة أمس و اليوم و غدا إن شاء اللّه الأخ أبو زينب ترجمته فلبّيت مسرعا و جعلته شكرا للّه على سلامتنا هو من مرضه الذي ألمّ به و أنا من حادث الاصطدام الذي كاد يؤدّي بحياتي لو لا فضل اللّه عليّ و عليه و شكرا له على تعاهدة مثل هذه الآثار و تعهّده للمؤلّفين و المترجمين ببذل خير الجهد لنشر آثارهم و الحمد للّه بدءا و ختاما.
و أختم المقدّمة بالتصدير الذي صدّر به الناشر الكتاب و قد أخذه من الفوائد الرضويّه و فيه ذكر لمؤلّفات الطبري التي أغنانا عن ذكرها في المقدّمة.
المترجم- محمّد شعاع فاخر
ص: 12
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال المحدّث القمّي في كتابه الفوائد الرضويّة ص 111: الحسن بن عليّ بن محمّد ابن الحسن عماد الدين الطبريّ شيخ عالم، ماهر خبير، متدرّب، نحرير متكلّم جليل محدّث نبيل، فاضل، فهّامة.
معاصر للخواجه نصر الدين الطوسي و المحقّق الحلّي و العلّامة الحلّي، و هو صاحب الكتب الشريفة في أصول المذهب و تشييد قواعد الدين و الفقه و الحديث و غير ذلك، مثل:
1- معارف الحقائق
2- عيون المحاسن
3- بضاعة الدين
4- الكفاية في الإمامة
5- النقض على معالم فخر الدين الرازي
6- المنهج في فقه العبادات و الأدعية و الآداب الدينيّة.
7- كتاب أسرار الإمامة
ص: 13
8- جوامع الدلائل و الأصول في إمامة آل الرسول
9- العمدة في أصول الدين و فروعه
10- نهج الفرقان
11- تحفة الأبرار في أصول الدين
12- مناقب الطاهرين
13- أربعين بهائي
14- كتاب (أحوال السقيفة) (و هو كامل البهائي).
و كان الوزير المعظّم بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس الدين محمّد الجويني المشهور بصاحب الديوان المتولّي لحكومة الممالك الإيرانيّة في أيّام السلطان هلاكو خان و كان نظير الصاحب بن عباد له عنايه خاصّة بالعلماء و شيعة الإمام أمير المؤمنين.
و كانت عنايته بالشيخ الطبري أكبر و كان ينزله عنده بالمنزلة الرفيعة و الدرجة الخصيصة، فلا بدع أن يبادله المؤلّف نفس المشاعر الخاصّه فيوقف عليه خاطره المتدفّق بالثروات العلميّة فيؤلّف له عددا من الكتب منها «أربعين بهائي» في تفضيل أمير المؤمنين، و الكتاب الذي بأيدينا الآن «كامل البهائي في السقيفة».
و قال في ديباجة الكامل: و لمّا ألّفت كتبي في مناقب الطاهرين و هي بمجموعها في التولّي، لزمني من ذلك أن أكتب كتبا في التبرّي، فكتب كتاب الكامل في موضوع التبرّي.
و كلا الكتابين هما بمثابة السيف و الرمح على المخالفين و نيف كلاهما على ثلاثين ألف سطر.
و طبع الكامل بمدينة بمبئي إلّا أنّ نسخه شحّت حتّى لا تكاد تحصل على نسخة واحدة منه، و لمّا اجتزت بتلك الديار حصلت بيدي نسخة منه و لكن لم يقدّر لي و يا
ص: 14
للأسف تصحيحها و كانت غاية في ردائة الطبع و الأخطاء إلى درجة يتعذّر على غير العالم الاستفادة منها، و هو كتاب جليل جمّ الفوائد كثير العوائد، و قد فرغ من تأليفه في سنة (675) و بقي في تحريره اثني عشر سنة بذل جهدا عظيما في جمع مادّته و ترتيبها و لكنّه لم يقتصر عليه وحده بل أخرج في هذه المدّة مع انشغاله به كتبا عدّة نفع بها العالم و المتعلّم.
و يظهر من مادّة الكتاب أنّ عند الشيخ أصول النسخ من كتب الأصحاب القدماء من قبيل كتاب «فعلت فلا تلم» و هو في المثالب و من مؤلّفات أبي الجيش مظفّر بن محمّد الخراسانيّ و هو من متكلّمي الشيعة و العارف بأخبارهم و من تلامذة أبي سهل النوبختي.
و مثله كتاب «الحاوية» و هو في مثالب معاوية لعنه اللّه، و مؤلّفه القاسم بن محمّد ابن أحمد المأموني السنّي.
و بعد أن يفيض الشيخ في نقل قضايا عدّة من كتاب الكامل، يقول:
و صفوة القول: أنّي لا أعرف تاريخ وفاته و لا موضع قبره و لم يذكرهما أحد، و قال صاحب روضات الجنّات: إنّ هذا الشيخ أشار إلى نبذ من ظرائف أحواله و لطائف أخباره و من جملة قضاياه مناظرته لأهل بروجرد في تنزيه اللّه تعالى من التشبيه، و منها انتقاله من البلدة الطيّبة قم إلى اصفهان بأمر الوزير المشار إليه يعني بهاء الدين صاحب الديوان و إقامته في تلك البقاع سبعة أشهر و اجتماع الناس عليه من اصفهان و شيراز و أبرقو و اقليم آذربيجان و قرؤوا عليه مختلف العلوم الربّانيّة و انتفعوا به، و ممّن انتفع بعلمه السادات و الأكابر و الصدور، إلى غير ذلك من نوادر أخباره، و اللّه العالم.
ختام كلام المحدّث القمّي
ص: 15
ص: 16
سبحان الملك الأحد الذي لا يحيط بكرسيّ عظمته أوهام الإنس و الجنّ: وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (1) أي لا يحيط به علم مخلوق من مخلوقاته.
و يستحيل تصوّر الكمّيّة و الكيفيّة في أعتاب قدسه، و لا يمكن توهّمهما لجلال ذاته: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (2) و يستفاد من هذا أنّه عالم بكلّ سماع و رؤية.
و لا يجوز النقصان و الزوال و التغيّر على غرّة كماله: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (3) أي إنّ ذاته الربوبيّة الأكبر و الأكرم.
و لا تحتاج شمس قدرته إلى جلال أو معين: وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ (4).
و لوح علمه يجلّ عن السهو و الغفلة و الخجل: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ (5).
و لم ينسج طيلسان رحمته إلّا من خيوط العدل و الرحمة: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (6).
ص: 17
و ذروة قدسه العليا أرفع من أن تحلق إليها طيور عقول البشريّة و أرواح و نفوس الملكيّة، أو ترقى إلى قممها العليّة: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (1).
و عقاب وحدته ما فتئ منزّها عن العوارض و الأوصاف الخلقيّة: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (2).
و شرح صفات ذاته العليا أجلّ من أن يأتي عليه ذووا الصفات الخفّاشيّة أذكياء الإنسانيّة الذين وسموا على غررهم بميسم الحدوث: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (3).
و على أحداقهم بنور القدم: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (4).
و بقيت على عرصة الوجود أبديّة: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ (5).
أولئك الذين يقبسون النور من شمس الوجود و من غرّة المعبود: «يا من لا يعرف و لا يدري كيف هو إلّا هو، يا من لا يقدر على قدرته إلّا هو، يا من هو كلّ يوم في شأن، يا من لا يشغله شأن عن شأن، يا من لا إله إلّا هو و إليه المصير».
و نهدي مئات ألوف الألوف من هديّة الصلوات و تحف التحيّات من جنابه سبحانه إلى المجلى الشريف و الوجود المطهّر، صدر الكونين، مقتدى الثقلين، و مقصود العالمين محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن عدي بن تيم بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر- و هو قريش- بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان.
ص: 18
إلى محمّد ذاك الذي بدأ بشارة أوّلا: «كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين» و بدأ آخرا بالظهور، و تجلّى بإظهار المعجزات، و استخفى بدلالة العصمة.
الذي تمنّى آدم مع اصطفائه، و إدريس مع عظمة منزلته و دراسته، و نوح مع طول عمره و كثرة عبادته، و إبراهيم مع خلّته، و موسى مع رفعته بالمناجاة، و عيسى مع دلالة نبويّه أن يكونوا في أعتاب دولته و سدّة إرادته، من: «اللّهمّ من أمّة محمّد» و سلّموا قياد أرواحهم إلى حضرة واجب الوجود.
و على أولاده و عترته عليهم الصلاة و السلام الذين هم كمال الدين و برهان اليقين، و بناة الشريعة و مقتدى الملّة، و أمناء الرحمان و مفسّر و القرآن، و حجج اللّه تعالى و أوصياء المصطفى صلّى اللّه عليه و آله المعصومون: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1).
المنصوص عليهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2).
و المراد من أولي الأمر ملوك العدل، أي الأئمّة المعصومون عليهم السّلام، و نوّابهم و سادتهم- أي سادة النوّاب-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (3).
و واهبوا نفوسهم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (4).
و المطعمون: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ (5).
ص: 19
أوّلهم أمير المؤمنين و حجّة ربّ العالمين عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب ابن هاشم بن عبد مناف صاحب العزّة.
المعنيّ بهذا الحديث: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، و إلى نوح في تقواه، و إلى إبراهيم في حلمه، و إلى موسى في هيبته، و إلى عيسى في عبادته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة و السلام- يعني ما وجد في الأنبياء موجود في عليّ عليه السّلام.
و آخرهم صاحب الدولة: لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج رجل من ولدي اسمه اسمي، و كنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا.
أمّا بعد؛ فاعلم بأنّ رواة الأخبار رووا عن داود النبيّ أنّه كان يقول في مناجاته: إلهي، لم خلقت العالم و ما فيها؟! فخاطبه الحقّ تعالى قائلا: «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف».
مع أنّ العلماء أجمعوا على أنّ خلق الإنسان كان من طريق الإحسان ءليه، على صفة الدوام، و لا يتحقّق ذلك إلّا بالتكليف بعد بلوغه و كمال عقله، و نصب الأدلّة و إزاحة العلّة، و لم يكن الغرض منه دوام التعظيم و الإجلال، لأمكن أن يكون أعطاه ابتداءا من غير استحقاق كما يعطي ذلك الصالحين و الطالحين. و كمال التكليف مع الألطاف لأنّ بعثة الأنبياء و إنزال الكتب مع الوعد و الوعيد و الإنذار و التخويف كان ذلك لإتمام الحجّة، قال: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (1).
و لو أنّنا افترضنا أنّ الوجود لا يحتوي إلّا على شخص واحد يجوز عليه الخطأ و العصيان لكان إرسال الأنبياء أو الأئمّة إليه من الواجبات: وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
ص: 20
مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (1).
و الدليل على صحّة ذلك إرسال آدم إلى إبليس، و إن لم يجر من الإنسان إلّا ذنب واحد حيث قتل قابيل هابيل فإنّ اللّه تعالى أرسل آدم إلى بنيه الآدميّين و لمّا فارق الدنيا أرسل اللّه شيثا هبته إلى الخلق عامّة و إلى ذرّيّة قابيل خاصّة، فكان أبناء هابيل و شيث جميعا مسلمين كما كان أبناء قابيل جميعا كفّارا إلى أن استأصل اللّه شأفتهم و أتى على ذراريهم بالطوفان زمن نوح عليه السّلام فأغرقهم: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً (2).
و لم يخل زمن و لا فترة من نبيّ أو وصيّ نبيّ، و من نوح إلى سام و حام و يافت، و منهم إلى يهودا و صالح و إبراهيم و لوط و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و أيّوب و شعيب و موسى و يوشع و طالوت و داود و سليمان و زكريّا و يحيى و عيسى و شمعون و خالد و برده (3)!! و من برده إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه، و منه إلى مذهب أهل البيت بدءا بعليّ، و منه إلى الحسن، و منه إلى الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ الباقر و جعفر بن محمّد الصادق و موسى بن جعفر الكاظم و عليّ بن موسى الرضا و محمّد بن عليّ التقي و عليّ بن محمّد النقي و الحسن بن عليّ الزكي العسكري و الحجّة القائم المنتظر المهدي صاحب الزمان محمّد بن الحسن عليهم السّلام واحدا بعد واحد حتّى هذه الآية: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ (4).
و من يعتقد هذه العقيدة يسمّى شيعة و إماميّا و اثنا عشريّا، و لكن على مذهب الجمهور يكون المعتقد كما يلي: أنّ أمر الدين و الشريعة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله يكون
ص: 21
باختيار الأمّة، فهي التي تبايع من تختاره لمقام الخلافة على يد أهل الحلّ و العقد، و هؤلاء يدعون بأهل السنّة.
أمّا الطائفة الأولى فهم الذين ينزّهون اللّه من صفات الحدث، و من الشريك؛ لا في القدم و لا في الذات و لا في الصفات، و لا يثبتون له معاني القدم بل يقولون: هو القادر و العالم و الحيّ و الموجود، و هذه الصفات الذاتيّة و هي أزليّة أبديّة، و تعتبر ألفاظ الصفات من قول الواصف و هي من حيث كونها ألفاظا ينطق بها الواصف محدثة.
و يعتقدون بعدم وقوع الرؤية عليه لأنّ ذلك من صفات المخلوقين، و لا يوصف بالجسميّة أو الجوهر أو العرض، و لا تحويه جهة أو مكان.
و يعتقدون بأنّه عادل لا يظلم مثقال ذرّة أو أصغر من ذلك أو أكبر، و أنّه صادق سبحانه.
و يرون العبد فاعلا مختارا.
و يثبتون العصمة للأنبياء من الولادة إلى الوفاة.
و يعظّمون ذرّيّة النبيّ و يجعلون لهم نصيبا في أموالهم امتثالا لقوله تعالى:
وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (1).
و لا يقدّمون أحدا من أتباع النبيّ الذين يجوز عليهم الخطأ و قد أسلموا بعد كفر على آل النبيّ المعصومين.
و يقولون بعصمة أهل بيت النبيّ محمّد عليه و عليهم الصلاة و السلام.
و يرسلون اللعنة على من ظلم أهل هذا البيت أو آذاهم.
و يصلّون عليهم.
ص: 22
و يحرّمون الخمر و الدفّ و الناي و المزمار و الربابة و الشطرنج و النرد و الفقاع؛ قليله و كثيره، و يرونه رجسا من عمل الشيطان.
و لا يسبغون الوضوء بالخمر، و يزيلون الخبث بالماء بعد البول أو الغائط، و يرون المني نجسا، و يسجدون على الأرض أو ما أنبتت ممّا لا يؤكل و لا يلبس، و يصلّون بجلد مأكول اللحم، و لا يصلّون إلّا بما أجمع المسلمون على جوازه من اللباس أو المكان.
و يحتاطون في أمور النساء، و يثبتون العدّة لهنّ، و لا ينكحون ذات العدّة حتّى تخرج من عدّة، و لا يعملون الحيلة بالمحلّل فينكحونها في صلاة العشاء للمحلّل و يؤتون بها صباحا إلى البيت لأنّهم يرون أنّها لو علقت فإنّ ما في أحشائها لا يعلم من أبوه حيث يشتبه الأمر فلا يطيب جنين يسقى من مائين في بطن أمّه.
و لا يصلّون وراء الفاجر الخمّار أو الفاسق، و إن كان فسقه باللعب بالجوز.
و لا يجيزون المعصية على الأنبياء؛ قلّت أو كثرت، من يوم الولادة إلى يوم الوفاة على الإطلاق.
و إذا أذنبوا اعتبروا أنفسهم مخطئين و مجرمين، و لا يلقون التبعة على ربّهم سبحانه، من ثمّ لا يموت ميّتهم إلّا عن توبة، و يرون التوبة حقّا.
و يحرّمون وطأ الغلمان، و لا يجيزون إجراء صيغة العقد عليهم.
و لا يقيمون الصلاة بجلد الكلب، و لا يجيزون الصلاة إلّا بالثوب الطاهر من جميع الأدناس و النجاسات.
و لا يلحقون الولد بالمرأة إذا لم تكن على فراش زوجها، و لا يقولون بأنّ رجلا لو كان في المشرق و أمرأة في المغرب ثمّ ولدت ولدا من دون أن ترى الزوج أو يراها لا يعتبر هذا الولد ابن زنا.
و لا يقولون ببقاء الولد أربع سنين في بطن أمّه، إذ من المحتمل إذا كان الأمر
ص: 23
كذلك أن تأتي امرأة بعد موت زوجها أو غيابه بولد فينسب إليه، فيسمّى ابنه و هو من حرام.
و إذا صاموا لا يفطرون حتّى يدخل الليل بغروب الشمس و حدوث الظلمة.
و لا يصبحون في شهر رمضان على جنابة.
و يوجبون الكفّارة على من أفطر عمدا و القضاء، و لا يجيزون الجماع إذا أفطروا عمدا بزعم حلّيّته و لا بغير ذلك.
و يورثون أولاد الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بآيات المواريث، و ظاهر الكتاب، و لا يعملون بخبر الواحد، و لا ينسخون القرآن بخبر الواحد، و لا يخصّصون عامّه.
و لا يرون الآيات الواردة في أهل البيت منسوخة.
و لا يتمرّدون على اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله.
و لا يعطون الوزارة لمن نفاه النبيّ من المدينة.
و لا يسلّطون الظالم و الفاسق على المسلمين.
و لا يرسلون الخمّار إلى بلد واليا أو إماما.
و يقدّمون الأعلم و الأصلح.
و لا يسمّون من لم يستخلفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خليفة.
و يرون آل رسول اللّه أولى بملك الدنيا من أولئك الذين قتلوهم و داروا برؤوسهم في البلدان.
و لا يظهرون الفرح و الزينة في يوم عزاء الرسول، و لا يكتحلون، بل يبكون و ينوحون و يوافقون رسول اللّه بيوم عزائه.
و يرون آباء الأنبياء و أمّهاتهم مؤمنين احتراما لهم.
ص: 24
و لا يقذفون الأنبياء بالزنا و لا يقولون بأنّهم كانوا مغرمين بحبّ النساء و مغازلتهنّ.
و لا يقولون أنّ النكتة السوداء التي أخرجت من قلب محمّد بعد شقّ الصدر كانت علامة الكفر.
و يتمّون الركوع و السجود في الصلاة و لا يظهرون سوء الأدب في صلاتهم بنظرهم إلى اليمين تارة و إلى اليسار أخرى بل يصوّبون النظر إلى مواضع السجود.
و إذا استقبلوا محاريبهم رفعوا أصواتهم بالأذان و الإقامة، و يكثرون من الدعاء و الذكر، و لا يظهرون سوء الأدب عند النيّة، و يقيمون النيّة في قلوبهم لتخلو من الرياء، فإذا سلّموا بعد الصلاة ما يزالون متوجّهين إلى القبلة بطمأنينة يذكرون اللّه كثيرا و يدعونه و يسبّحون و يهلّلون و يكثرون من الدعاء، و لا يتركون مكان الصلاة بسوء الأدب بل يصلّون على الأنبياء و الأوصياء و يدعون لأحبّتهم و ذويهم، و يثنون على اللّه أحسن الثناء، و يلعنون أعدائهم على سبيل الإجمال ثمّ يختمون بسجدة الشكر.
و لا يختمون الصلاة بالضرطة (1)، و لا يسجدون لمشايخهم، و لا يستقبلون القبلة بالبول أو الغائط، فإذا أخذهم النوم تطهّروا، و لا يقربون الصلاة بعد النوم من دون وضوء، و لا يتطهّرون إلّا بنيّة، و لا يقتدون في الصلاة باليهود فيضعون يدا على يد، و لا يعتريهم الشكّ بدينهم و مذهبهم، من ثمّ هم في: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (2) قائمون، و لا يقولون في ختام الفاتحة آمين.
ص: 25
و يقولون: إنّ اللّه سبحانه ساق لنا الهداية بالقرآن و النبيّ و أهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين، و يعطون زكاة أموالهم إلى صلحائهم في ظاهرهم، و عرفوا الفرائض و السنن ...
و من ادّعى بعد رسول اللّه بأنّ: «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلالين و أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما» لا يقبلون قوله، و لا يطيعون أمره، و يقولون: إنّ اللّه تعالى قال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1) و لم يقل ما حرمكم (2) فلان و فلان.
و يقولون: ينبغي على الخليفة أن يكون أعلم الخلق لا أنّه يجهل معنى «الأبّ» الذي جعله اللّه فاكهة للبهائم كما جعل الفاكهة لابن آدم، لكي لا يتوقّف عندما يسئل عن شي ء، و يقول على المنبر أمام الخلائق حين احتجّت عليه امرأة فحجّته:
«كلّكم أفقه منّي حتّى العجائز- أو قال: المخدّرات- في البيوت» (3).
و يقولون بحكم قوله تعالى: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (4) لا يخلو المكلّف من حجّة ناطقة عليه.
و يقولون: إنّ ما أعطاه الرسول لأولاده لا يحقّ لمن يأتي بعده أن يغتصبه منهم.
و يعتقدون بحجّيّة العقل و أنّه مبنى الشرايع جميعا، و عليه يقوم التوحيد و العدل.
و يقولون: إنّ اللّه لا يفعل فعلا بغير حكمة لأنّ ذلك يؤدّي إلى العبث.
و يقولون: لا ينال شرع رسول اللّه بالقياس بل على أساس: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ.
ص: 26
و لا يستبيحون في غيبة إمامهم دما أو مالا كائنا ما كان، و لا يأكلون لحوم الضباع و يحرّمون لحوم الأرانب.
و يعتقدون بأهل البيت في التختّم باليمين، و يأنفون من وضع الخاتم في اليسار لأنّها تلي الفرج، و يقولون بأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله قال: «اليمين للوجه و اليسار للفرج».
و يرون أنّ اللّه لا يكلّف بما لا يطاق، و لا يدخل المؤمن النار و الكافر الجنّة، و لا يفعل الفعل خلافا لما وعد.
و لا يعتقدون بمذهب وضع بعد النبيّ بمأتي سنة أو ثلاثمائة سنة، و يقولون: كلّ مذهب ليس لأهل البيت فهو باطل.
و لم يختلف أئمّة هذه الطائفة من محمّد بن الحسن إلى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم و أبنائهم، فكلّهم على صراط واحد سويّ و مذهب واحد، و كانوا جميعا على مذهب أبيهم أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان أمير المؤمنين على مذهب رسول اللّه باتفاق لا على طريقة الصحابة.
و يقولون: إنّ الاختلاف برهان البطلان بدليل قوله تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).
و أئمّة هذه الطائفة هم ذرّيّة الرسول و أولاده و وارثه، و يصلّي عليهم العالمون، و هم آل محمّد على التعيين و اليقين، و من خاطبهم منهم فلا يخاطبهم إلّا بهذه العبارة: يابن رسول اللّه، و يابن بنت رسول اللّه، و إليه مشاهدهم قبلة ذوي الحاجات في العالمين، و ملجأ المؤمنين و المنافقين، و يظهر في كلّ عام معاجز عدّة في مشاهدهم المشرّفة.
و لا يمرّ يوم إلّا و يزيد اللّه في مواليهم و محبّيهم كما هو الحال في خطّة مازندران
ص: 27
موطن ولادة مصنّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ بن محمّد بن الحسن، و لم يكن فيه قبل قرن من الزمان خمسمائة شخص على مذهب التشيّع، و في هذا اليوم و هو سنة خمسة و سبعين و ستمائة (675) ليس فيه خمسمائة إنسان على غير هذا المذهب، و لقد آمن جميع أهل المنطقة بمعجزة الأئمّة عليهم السّلام، و لا يأتي طويل زمان على هذا المذهب حتّى يختاره أهل العالم بنصّ القرآن حيث قال سبحانه و تعالى: وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (1).
و لا يأتي إيذاء هذه الطائفة على المؤذين بخير كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما عادانا بيت إلّا و خرب، و لا نبح علينا كلب إلّا جرب» و من شكّ في هذا الحديث فلينظر بعين العبرة إلى آل أبي سفيان ماذا رأوا و ماذا جنى آل زياد و آل العبّاس و البرامكة، و هم من جملة الخوارج، ليس لهؤلاء اليوم أثر يذكر، فلا مضجع ظاهر و لا قبر يزار، و ليس لهم موالون و لا ذرّيّة يذكرون، لقد استأصل الجميع و انقطع نسلهم على يد السلاطين العادلين و الملوك العاملين من دون أن يعلق بممالكهم أثر أو ضرر، و بعد القضاء على هؤلاء و استئصالهم مالوا إلى السادات و إلى أهل البيت، و رفعوا عنهم طوق القهر، و بالغوا في إكرامهم إلى أقصى حدّ، من ثمّ كان سادات أهل البيت في المشرق و المغرب أكثر عددا من النجوم و جميعهم يحيون في الرفاه و بلهنية العيش و رخاء البال مع النعمة و الجاه و الاقتدار و الإنعام و الإنظار لكي يبسط الباري ببركة وجودهم رايات هؤلاء الفاتحين على أقصى بلاد ايران و الطورانيّين و الهند و الروم و العرب و العجم، بل من مطلع الشمس إلى مغربها، و انقاد إلى أمرهم سلاطين العالم و انتهوا عند نهيهم و أطاعوا أوامرهم و امتثلوا لحكمهم، و أحاطت هيبتهم و قوّتهم، و سمو أمرهم بالمكان و الزمان حتّى قصد تجّار
ص: 28
الصين المغرب و أمنوا الطريق: لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا (1) و إنّما قال «نيلا» لأنّ رغبة العدوّ اليوم في الشرّ، على مركب من قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (2) لأنّهم على الحقّ و يسعون من أجله.
و إن كنت في شكّ ممّا قلناه فالق نظرك على العدل و الرحمة و العظمة و العطف، و الإدارة و رعاية الدين أيّ ملك ظاهر في المملكة و السلطنة و النسب العالي و الجوهر الخالص و علوّ الهمّة و الإحاطة بأنواع العلوم و فنون الكفاية و الكياسة و حسن السيرة و صفاء السريرة و معتمد المذهب و حافظ الدين و الدنيا، من يكون بهذه الصفات إلّا المخدوم المطلق، حجّة الحقّ على الخلق، أعدل سلاطين الأوّلين و الآخرين، علاء الإسلام و المسلمين محمّد بن الصاحب الأعظم، عرق من شجرة المملكة و نبقة من دوحة السلطنة، شمس الحقّ و الدين، عماد الإسلام و المسلمين، محمّد بن محمّد صاحب الديوان حرس اللّه عليهما- كذا وردت- و أبقاهما مبرقعين بالعزّة و الجلال، قابضين على أعزّ الرفعة و الكمال، ناهضين في عقدة المجد على أقدام الهمم، فيّاضين للأيادي و النعم، باسطين للعدل في الأمم، بحقّ محمّد و عليّ و أهل بيتهما الطاهرين، آمين إلى يوم الدين.
و لقد بسط اللّه رايته على أقاصي العالم ببركة حسن سيرته و بسطه العدل و اعتقاده الصادق بآل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و البرائة من عدوّهم، و تعاهده السادات و علماء أهل البيت عليهم السّلام، و اعتكف سلاطين الربع المسكون بمقتضى الآية: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ (3) على عتبة جلاله، و خسف بأعادي إقباله و مبغضي طائفته
ص: 29
الأرض: فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ (1)، و غاص بعضهم في بحر الهلاك: فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (2) فأصبحوا أثرا بعد عين لمفارقتهم موالاة آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يتلون الآية: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (3) على سبيل الحسرة.
و حرّمت التقيّة في زمنهم بظهور دولتهم بعد أن كانت واجبة لقلّة الأنصار و الأعوان و كثرة الأعداء بمقتضى قوله تعالى: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ (4) و قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً (5) و قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ (6) و أمثال ذلك من الآيات و الأحاديث.
و حين أشرقت شمس هذه الدولة من مشرق السعادة، و غمر نور الرحمة و العدالة البسيطة بأجمعها، اقتلعت أنياب ظلم الظالمين من عباد اللّه، و مرّغت صولتهم و بطشهم برغام الذلّة، و أرباب الظلم و الطغيان أدخلوا رؤوسهم في ثقوب الثوبة و تسلسل الإخلاص، و تصنّعوا ورد التسبيح و التهليل: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (7) و لقد نزل فيهم: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (8).
تعالى اللّه ما أعلاه قدراو أجراه على سنن اعتدال
عليها للإله الفرد حمدلما أسدى إلينا من نوال
ص: 30
و هذا كلّه دعاء لصاحب الديوان الداعي لهذه الدولة- يعني المؤلّف نفسه- و المؤلّف و الجامع لهذا الحديث فإنّه يفخر بثنائه و دعائه و خدمته لهذه الحضرة على علماء الأرض، و يتباهى على حكماء الأوّلين و الآخرين، و إن شاقك البرهان على ذلك، فاعلم:
إنّ أوّل شخص من محبّي أهل البيت عليهم السّلام و مواليهم و رفقائهم الذين احتموا بهذه الدولة و أثبتوا حقوق خدماتهم الدينيّة و كتبوا لصاحب الحضرة ملجأ العالم الكتب الشيعيّة هو هذا العبد، أقلّ العباد شأنا و أدناهم مقاما، فقد كتب بتوفيق اللّه تعالى و ببركة أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بمعجزة من قائم آل محمّد عليه السّلام و باسم هذه القدرة الملكيّة كتاب مناقب الطاهرين، و بدأه بولادة رسول اللّه إلى خاتم الأوصياء صاحب الأمر و بيان معجزاته و مناقب سيرته، ثمّ إظهار ما أقامه المنافقون و الخارجون من مظالم عليهم.
و كذلك منهجهم في العبادات و الصلاة و الصوم و الزكاة و الخمس و الجهاد، مع مجمل توابعها من الفرائض و النوافل و الأدعية و النيابة و أحكامها، و كيفيّة العبادات و ما يحتاجها المكلّف في العام كلّه، و كذلك عرضنا أربعين البهائيّ في تفضيل أمير المؤمنين عليّ صلوات اللّه عليه و نظائره في الإمامة و غيرها، و بما أنّ عقيدة صاحب الحضرة طاهرة، و جوهره كبير، و طينة الأسرة المالكة و السلطنة و الوزارة و الإرادة صادقة مع عترة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و تعاهده للعلماء و تدليله لغرس نعمته عظيم، فقد قبل هذا كلّه قبول الرضا.
و حصل التسليم بما في الكتاب من المؤالف و المخالف بحضور علماء الطوائف زمانا بعد زمان، و هذه نعمة يجب شكرها و هو فرض عين على الشيعة كافّة، و يوم القيامة يتباهي بذلك المصطفى و المرتضى و الحسن و الحسين و الأئمّة جميعا صلوات
ص: 31
اللّه عليهم، و سائر الشيعة على الأنبياء عليهم السّلام، و الأمم السالفة، و يكونون شفعاء لصاحب الحضرة عند اللّه سبحانه.
و الأمل معقود أنّه سوف يدخل الجنّة بدون شفاعة بل ربّما كان شافعا للأمراء و الملوك و السلاطين في العالم، في عرصة القيامة إن شاء اللّه تعالى.
و كما قيل في هذا الباب بالآيات و الأخبار و الدلائل العقليّة في صدر الكتاب:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ (1).
و لمّا كانت مناقب الطاهرين و نظائرها داخلة في فرع التولّي رأينا من اللازم أن نشرع ببسط فرع التبرّي أيضا، و مزجناه بالعربيّة و الفارسيّة لتعمّ الفائدة، و هو مبنى على أبواب و فصول و دلائل و مسائل، و بعد الاستخارة و طلب الإذن من واجب الوجود عمّت عاطفته و قدرته على العالمين، سمّيناه: «كامل البهائي في السقيفة» جعل اللّه تعالى هذه التحفة على مخدومنا مباركة، و زيّن اللّه أيّام هذه الدولة بأنواع العزّة و الكرامة، و ما زال منبر دين الإسلام و الملّة و الوحي و التنزيل و سمّو محمّد و أهل بيته قائما ببقاء هذه الدولة، و ما زالت الموفّقيّة و العناية الإلهيّة و الرحمة و نظرة العطف و اللطف على هذه الدولة هاطلة، و سرادق هذه المملكة ضاربة أطنابها على البسيطة على كرّ الدهور و العصور، من قاف إلى قاف، و من جابلقا إلى جالبلسا بأوتاد الأبد، و جنّبها اللّه ريح الحسد النكباء من عيون الحسّاد، و أبعدها عن هذه الساحة المنظورة للمولى، و المتحقّقة فيها إرادة أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
و تواترت على هذا المجلس نعمة العالمين، و رعاية السلطان، و توالت آناء الليل و أطراف النهار.
ص: 32
و جعل اللّه أولياء هذه الدولة و أحبّائها ممكّنين منصورين، و أعدائها مخذولين و مقهورين.
و أقرّ اللّه عين سيّد العالم شمس الحقّ و الدين محمّد صاحب الديوان بدين قرّة العين بهاء الحقّ و الدين محمّد بن محمّد صاحب الديوان، و بقاء أيّام دولته، و استجاب اللّه دعاء هذا الحقير عقب تلاوة القرآن و القيام بالفرائض المكتوبة ليلا و نهارا، و سرّا و جهارا، في حقّ هذه الدولة و هذه الأسرة، و كما أنّ الحقّ عزّ و جلّ و علا أنعم عليهم بملك الدنيا نسأله أن ينعم عليهم بنعيم الآخرة الأبديّ في جنّات النعيم: وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (1).
و بناءا على هذا الحديث: «المرء مع من أحبّه» كما أنّه في هذا العالم مقيم على محبّة أهل البيت عليهم السّلام أن يكون غدا يوم القيامة محشورا تحت لواء محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ الباقر و جعفر بن محمّد الصادق و موسى بن جعفر الكاظم و عليّ بن موسى الرضا و محمّد بن عليّ التقي و عليّ بن محمّد النقي و الحسن بن عليّ العسكري و الحجّة القائم محمّد الحسن صاحب الزمان صلوات اللّه و سلامه عليهم بحقّ محمّد و عترته الطيّبين الطاهرين.
ختام الديباجة
ص: 33
اعلم أنّ العلم إمّا ضروريّ أو كتبيّ «كسبيّ». فلو كان ضروريّا كلّه لارتفع الخلاف بين العقلاء، و لو كان استدلاليّا بأجمعه لما أمكن تحقيق أيّ علم و أيّ بحث و لأدّى ذلك إلى التسلسل، فإذا كان البحث في المنقولات كان البدء و الختام مبنيّا فيها على التصادق، و إذا كان في المعقولات بني على التناصف و التسليم أو على الضروريّ إن تعذّر التناصف. نظير حدوث العالم الذي جعله علماء الكلام المسلمون على تغيّره أو غير ذلك ممّا هو لازم العالم كالأوصاف و الأشكال و التركيب و الاختصاص بالجهة و التميز.
و أمّا العلم الضروري و هو ما يعبّر عنه بالجبليّ أيضا و الفطري أظهر و أشهر من قبيل شكر المنعم؛ من ثمّ بدأ اللّه كتابه و شريعته و دستور خير الأنبياء و الأنام بقوله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1)، لئلّا يرى الجهّال الذين لم يتعمّقوا في بحور العلوم الدينيّة و لم يصلوا إلى أعماقها، و لم يستخرجوا الدرر و اللئالي من أصدافها بالغوص في قيعانها أنّ القرآن محض تقليد و لا يوافق الأدلّة العقليّة.
ص: 34
أ لا ترى كيف علّل سبحانه وجه الحكمة في تحريم الخمر و الميسر بإيقاع العداوة بين الأودّاء، و إظهار البغضاء كما قال اللّه تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (1) و كلّ أمر جلب الشرّ و العداء و أوجد الشقاق و الخلاف بين الناس ينبغي الاحتراز منه بالضرورة.
و من هنا علّل وجوب الصلاة بأن جعل سبب ذلك الوجوب أنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر، كما قال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (2) أي إنّ الصلاة من جملة الألطاف في الواجبات النقليّة و ترك القبائح العقليّة.
و ما لم يبيّن حكمته أو كله إلى العلوم الفطريّة و الضروريّة، كما قال: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ (3) و قال: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (4). و من المعلوم أنّنا لم نكن هناك ساعة المسائلة بل الغرض من بيان ذلك تحصيل العلم الضروري، و مركوز في فطرة الإنسان أنّه حيثما يوجد صنع فهناك صانع؛ شاهدا أو غائبا، و دليله قوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (5) فيكون جواب الحقّ تعالى من هذا المنطق على قوله: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى و ليس بقول لسان أو كتابة بنان.
ففي كلّ شي ء له آيةدليل على أنّه صانع
ص: 35
و روي: واحد (1).
و منه قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (2).
و تسبيح غير العاقل دليل على الصنع العجيب و التركيب اللطيف الدالّ على الصانع القادر المختار، لكي يحمل العاقل عند مشاهدة ذلك ببصيرة العقل أن يقول:
«سبحانه من خالق قادر، سبحانه ما أعظم شأنه» و أمثال هذا الذي يضطرّ العاقل عنده إلى التسبيح.
و منه قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3) و نحوها من الآيات.
ص: 36
أمّا أعظم النعم فأوّلها الوجود بعد العدم.
ثانيها: إفاضة الحياة و التمايز عن الجمادات.
ثالثها: الشكل الخاصّ للإنسان بصورته و فيه الخلاصة البشريّة و هي العقل و الترقّي بالنظر في عالم الملكوت و علوّ الدرجة بالعمل الصالح: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (1). و فيه أيضا الشهوات البهيميّة و هي أدنى المراتب في الحيوان، فإذا امتثلتم الأوامر و النواهي: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2) جزتم درجات الملائكة، أمّا إذا ركنتم إلى الشيطان فكنتم من حزبه و اتّبعتم المعاصي انحطّت درجاتكم عن دركات البهائم؛ لأنّ البهائم لم تكن عرضة للوساوس الشيطانيّة بخلاف الإنسان بدليل قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ (3).
ص: 37
رابعها: كمال العقل و هو خلاصة الوجود و الأنموذج من عالم الملكوت، سبب الحياة الباقية و السلطان العادل على عالم الطبيعة، و مفتي مسند الشريعة و القاضي المولّى من قبل واجب الوجود، الذي لا يتيسّر بدونه معرفة الصانع و إدراك الكلّيّات و الجزئيّات من العالم العلوي و السفلي، ما استنبحه بنظر إرادته و بصيرته هو الحقّ، و ما قاله هو الصدق، ما سمعه الصواب: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى* أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (1).
و القوى الخمس الأركان و العناصر الجسمانيّة عبيده و مؤتمرة بأمره: وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (2).
و جنّة المأوى نتاج طاعته، و النعيم الأخروي و الحور و القصور و نيل الرغبات البشريّة في الجنّة ثمرة الائتمار بأمره، و معالم امتثال أوامره و نواهيه.
و الجحيم التي هي سجن العصاة، و معتقل المجرمين و المعاندين و الفاسقين كانت مسبّبة عن عصيانه.
و بعهدته اتّباع أحكام الأنبياء و ترجيح حكم اللّه على الهوى و الشهوة.
و النار المحرقة المجدّدة: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها (3)، وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (4)، و نصيب المعذّب من: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (5)، و طبيعة شرابه: وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ (6) كلّ
ص: 38
ذلك من ترك أوامره و ارتكاب نواهيه.
الخامس: الإعلام و الإلهام و الإرشاد و نصب الأدلّة و إزالة العلّة بالتوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة و ما يتّبع ذلك، و توفيق تحصيل هذه المعاني ب: وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ (1)، و منه قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (2) و قوله تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3).
السادس: التكليف؛ لأنّه إذا حصل العلم بمعرفة الذات و الصفات فإنّ الحكيم تعالى يكره أن تكون ساحة العبد معطّلة و يظلّ خالي الوفاض، و الشيطان يقول:
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (4)، فلم يترك الحقّ سبحانه عبده فارغ البال و خليع العذار: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (5)، بل ألقى في عنقه قيد التكليف، و هو تأديب في الدنيا و حصول الثواب في العقبى: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (6).
السابع: الابتلاء و الامتحان، قال اللّه تعالى: أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (7)، و قال: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ (8)، و قال: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ (9) و تفسير الآية عند بعضهم على الوجه التالي: أنّنا
ص: 39
لم نحوّل القبلة إلى الكعبة التي كانت تدور في خلدك و كانت رغبة لك إلّا لنميّز من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبه و يعود إلى كفره الأوّل: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (1) أي الكافر من المسلم.
و في موضع آخر دلّ على كثرة الخبيث كما قال: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (2)، و الطهارة عبارة عن الإسلام، و الخبث عبارة عن الكفر و النفاق، و هذا الابتلاء محك لرجال العالم و المائز بين العالمين و الجاهلين، و إظهار لكفر الكافرين و نفاق المنافقين: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (3).
الثامن: هديّة الهدى لعباده كرامة من لدنه سبحانه و لم يسلمهم إلى حيّز الابتلاء بل ألهمهم كيفيّة الاستدلال و ألزمهم الحجّة على ذلك، و جعل مدح الدنيا و مدح ثواب الآخرة في عرض طاعة العبوديّة كما قال: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (4) و قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (5).
و جعل ذمّ الدنيا و استحقاق عقاب الآخرة في عرض معصية العباد كما قال تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ (6)، و قال: وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ* وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (7).
و بعض هذه الدلالة و التنبيه تكون حاصلة بالأدلّة العقليّة و كيفيّتها مركوزة في
ص: 40
جبلّة بني آدم، و بعضها الآخر ببيان الأنبياء؛ لأنّ العلم بكيفيّة العبادة من حيث التفصيل و المقدار لا تستقلّ بإدراكها العقول ما لم ترشد إلى ذلك و تنبّه عليه، و منه قوله تعالى: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ (1)، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (2)، و قوله تعالى: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (3).
و ينبغي على العقال أن يقيم بناء الدين و الملّة على هاتين الحجّتين: إحداهما العقليّة التي تنظر فيم موضعها في الدليل لا في الشبهة، و الثانية: السمعيّة في موضعها، و تضع العقل في ميزان النقل و تأوّل ما وافقه العقل.
و بما أنّ العامّة لا يملكون المهارات لدفع الشّبه و قعدوا عن تطلّب العلوم، و يقنعون بالتقليد و نظائره، و ليست لهم قوّة التميّز بين الطبع و الهوى، و العقل و رضا اللّه، أو أنّ بعضهم يستبدلون الدنيا الفانية بالمذهب ترغيبا بالحكّام أو ترهيبا، و لا يبدون اهتماما بالثواب الأبديّ و العقاب السرمديّ، لذلك عمد أهل البدع على وضع المذاهب بعد مرور قرن أو قرنين أو أكثر من ذلك، فأقاموا بناء الدين بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طمعا بالجاه الدنيوي أو اغترارا بكثرة السواد التابع، أو طلبا للصيت و الشهرة في الدنيا، و بحثا عن المقلّدين على النشوء و الارتقاء، و ظلّوا تابعين حيث ولدوا، فلم يسعوا وراء الحقّ عن طريق الانصاف و التتبّع، وقنعوا بهذا المقدار الذي كشفته الآية: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (4)
ص: 41
و قال اللّه تعالى بحقّهم: أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (1).
أو إنّهم قنعوا بتقليد المعلّم فلم يبحثوا عن الحقّ بطريق الانصاف عن المذهب الآخر ليعرفوه ما هو و ماذا فيه و ما هي مقالته؟ لكي يوازنوا بين الأقوال و يقارنوا بعضها ببعض كي يختاروا القول الحقّ منها بالنظر الصافي و العقل الكافي، و مع هذا يدّعي كلّ واحد منهم قائلا: أنا مع الحقّ، و منه قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (2).
اعلم أنّ الحقّ لا يكون إلّا واحدا من هذه المذاهب، و الدليل على ذلك الإشارة من صاحب الشريعة خاتم الأنبياء محمّد المصطفى صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: إنّ بني إسرائيل تفرّقت على اثنتين و سبعين ملّة و ستفترق أمّتي على ثلاث و سبعين ملّة كلّهم في النار إلّا ملّة واحدة. قالوا: و ما هي يا رسول اللّه؟ قال: الذين هم على ما أنا عليه و أصحابي (3).
ص: 42
ص: 43
و بناءا على هذا فإنّ أصحاب الرسول ما هم معتزلة و لا أحنافا و لا شوافع و لا موالك أو حنابلة بل إنّ هذه المذاهب لم تظهر إلى الوجود إلّا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا بعد سنين طويلة.
ص: 44
و جاء القرآن مؤيّدا للحديث كما قال تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (1)، و قال اللّه تعالى: وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)، و قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (3).
و هذه الآيات دلائل واضحة على أنّ الحقّ واحد لا يتعدّد، فعلى المكلّف النظر في الملل الإسلاميّة و أقوال علمائهم و أئمّتهم، و ليعرض أقوالهم على الأدلّة العقليّة و الآيات القرآنيّة؛ فما وافقها فليقبله، و ما حاد عنها فليعتبره ردّا و باطلا و غير مقبول و خارجا عن الدين و الملّة، و اللّه أعلم بالصواب.
اعلم بأنّ فرق الإسلام يدور معظمها على مدارين:
الأوّل: الجماعة التي يقال لها أهل السنّة و الجماعة، و هذه الطائفة يعتقدون بالصحابة بعد النبيّ و يجيزون الخطأ على الإمام، و يقولون: صلّوا وراء كلّ برّ و فاجر، و يقتدون بالفسّاق.
الثاني: الجماعة المسمّاة بالشيعة، و هذه الطائفة لا تجيز الاقتداء بالفاسق، و يعتقدون بإمامة عترة النبيّ و أولاده، و يقولون بعصمتهم، و يقولون عن الصحابة أتباع النبيّ، و لا يصحّ تقديم التابع على الخالق، و يقولون: لم يقدّم التابع من عهد آدم إلى رسول اللّه على ذرّيّة النبيّ؛ لأنّ للذرّيّة الأهليّة، و هي تحقّقة لأمير المؤمنين عليّ و أولاده بإجماع المسلمين لو تركهم العدوّ، و ينبغي أن يكون الأمر في عهد النبيّ
ص: 45
كما كان عليه في سائر العهود، و هذه سنّة الأنبياء بأمر اللّه تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (1).
سؤال: و اعترض خصوم الشيعة بالطعن عليهم قائلين: إنّ الفرق ما بيننا و بينكم هو في الأقلّيّة و الأكثريّة، و الأكثريّة بجانبنا.
فأجاب الشيعة بعدّة أجوبة:
أوّلها: إنّ الكثرة وقعت موقع المذمّة و النقصان، و دلّت على البطلان، و لقد قال إمامكم الفخر الرازي: إنّ كثرة أسباب الضلالة موجبة لكثرة الضلالة.
ثانيها: في قصّة نوح عليه السّلام: وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (2)، و جاء في التفاسير أنّ هؤلاء كانوا سبعين أو اثنين و ثمانين شخصا، و لمّا هبطوا من السفينة كفروا بأجمعهم إلّا ثمانية أشخاص و هم: نوح و سام و حام و يافث مع أزواجهم، و كفر الباقون و رجعوا إلى عبادة الأصنام.
و وجه الدلالة في هذا أنّ نوحا لبث فيهم ألفا إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى اللّه فما آمن معه إلّا قليل، و ظلّ الباقون من أهل العلم على كفرهم و ضلالتهم، فما يضير الشيعة أن يقلّ عددهم عن غيرهم.
الثالث: قصّة موسى عليه السّلام كما ذكرها اللّه و فيها ذكر القوم الذين آمنوا به: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (3)، و جاء في التفسير أنّ فرعون أرسل في مقدّمة الجيش خمسمائة قائد، و كلّ قائد معه عدد من الجيوش تجشّمهم يتعقّب بني إسرائيل، و خرج فرعون بجيش لا يحصى عدده إلّا اللّه تعالى، و خرج موسى بثمانين
ص: 46
ألفا و معهم القسيّ، يقابل كلّ واحد من بني إسرائيل عشرة آلاف رجل من أعدائهم الأقباط، بل يزيدون. و قال بعض المفسّرين: كان عدد بني إسرائيل ستّمائة ألف إنسان مع الرجال و النساء و الأطفال و العبيد و الجواري، أمّا جيش فرعون فكان في مقدّمته خمسمائة ألف قائد و أمير، و خرج فرعون بالسواد الأعظم الذي لم ير الرائون مثله.
و وجه الدلالة فيه أنّ قلّة أصحاب موسى عليه السّلام لا تدلّ على بطلان مذهبهم كما لا تدلّ الكثرة مع فرعون على أحقّيّته، و مثله يقال في قلّة سواد الشيعة إذ لا يدلّ على بطلان مذهبهم.
الرابع: قوله تعالى: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (1).
الخامس: قوله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (2).
السادس: في قصّة داود عليه السّلام: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ (3)، و كان جيش طالوت مؤلّفا من ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و جيش جالوت لا يحصى و لا يعدّ.
السابع: قوله تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (4)، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (5) و أمثال هذه الآيات حيث وردت الكثرة موردا للذمّ و الملام و التقبيح و القدح و البطلان.
ص: 47
الثامن: قوله تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (1)، و قوله تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (2)، وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (3)، وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (4)، و قوله تعالى:
فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (5)، و قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ (6)، و قال: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها (7).
و هذا دليل على أنّ الضلالة في صفّ الكثرة و الجمهور غالبا.
التاسع: قوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (8)؛ لأنّ اللّه وعد جهنّم أن يملأها و لم يعد الجنّة بذلك، من ثمّ يكون امتلائها ممّا لا بدّ منه، و لا يكون ذلك إلّا بالكثرة، و الشيعة جمع قليل فلا يشملهم هذا الوعد.
و كذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه اللّه: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (9)، و المستثنى أقلّ من المستثنى منه بإجماع العلماء، لذلك يقول النحاة: الاستثناء هو إخراج الجزء من الكلّ.
و أمّا عرفا، فالعقلاء على علم من أنّ النفيس هو الجزء الأقلّ في العالم و ما كان خسيسا فهو الكثير الذي لا يضبط عدّه لكثرته، و لا نظير لهذه الحجج الذي يتمسّك بها الشيعة.
ص: 48
في فصول كثيرة.
تعتقد طائفة من أهل السنّة أنّ اللّه تعالى استوى على العرش، و يرون اللّه سبحانه جسما يزول من مكان إلى مكان، و أثبتوا له النزول و الصعود.
و الجواب: قال شيعة أهل البيت: لا يجوز اعتقاد الجسميّة له سبحانه، لأنّه إن كان جسما فلا بدّ أن يكون مشاركا للأجسام بوجه و مخالفا لها بوجه آخر، كما لا بدّ من حدوث المغايرة بين ما به المشاركة و ما به المخالفة، و حينئذ يلزم من ذلك القول بالتركيب، و المركّب محتاج إلى جزئه و جزئه غيره، و ما احتاج إلى غيره فهو الممكن، و لا يكون قديما.
و أيضا: يقول اللّه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ (1) فكيف يشابه الأجسام، و لو كان
ص: 49
جسما فلا يخلو من عوارض الجسميّة كالحركات و السكنات و الأشكال و الجهات و الصور، و هذه بجملتها عوارض الحدوث، و ما لم يخل من عوارض الحدوث فهو المحدث.
ثمّ وجدنا بعد الاستقراء أنّ ذوي الحرف و الصنّاع لا يشبهون صناعاتهم، و اللّه سبحانه خالق الجسم و الجوهر و العرض فلا بدّ من منافاته مع جميع مخلوقاته، و عدم تشابهه معها.
ثمّ إنّ العرش و الجبل من خلقه و مثلها مساجد همدان التي هي مهابطه و منازله سبحانه عمّا يقول الجهّال- كما يزعم الخصم- و هذه محدثة بالإجماع، و اللّه تعالى قديم و هو مستغن عنها منذ الأزل بذاته، و الصفات الذاتيّة لا تتغيّر.
و كذلك يمنع العقل بدلائله من التجسيم، و مثله السمع: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ، و آية «استوى» معناها: استولى.
يقول مصنّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ الطبريّ: حضرت في سنة (670) في مدينة يزدجرد، فسمعت العامّة تعتقد في اللّه أمورا لا يجوز ذكرها، فنهضت إلى مفتي البلد و كان يعرف بالزهد و الورع و العلم، و قد أسند إليه منصب القضاء و الولاية في البلد المذكور، و قلت: يلزمك و أنت معتمد هذه الخطّة و مقتداهم أن تحول بين العامّة و بين ما تقوله و تعتقده في اللّه سبحانه، فقال بعد أن ضحك: يا فلان، ماذا تقول لو علمت بأنّي أقول من هذا بأكثر من قولهم، و أعتقده بأكثر من اعتقادهم!
و بقيت شهرا أحاوره في هذا و شبهه، و كانت حالي معه مشبهة لحال نوح مع قومه: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (1).
ص: 50
و كان لي صديق يحاور كبيرا لهم من أهل هذه الديار، فقال له: أيجمل باللّه أن يهبك رأسا و لحية ثمّ يخلي نفسه منهما؟!
و حضرت يوما مسجدهم الجامع فسمعت الواعظ يذكر منقبة لمعاوية، و قال في ختام كلامه: يقام يوم القيامة لمعاوية سرير فوق العرش بمساحة كذا، و يجلس الحقّ تعالى تحت هذا السرير! «فاعتبروا يا أولي الأبصار».
و أكثر أهل السنّة يثبتون المعاني في الصفات، فيقولون: إنّ اللّه عالم بعلم، و قادر بقدرة، و حيّ بحياة، و هكذا.
و الجواب عن ذلك: يقول الشيعة: إنّ صفات اللّه سبحانه ذاتيّة فهو قادر بذاته، و القدرة و العلم و الحياة صفات ذاتيّة له، و أمّا باقي الصفات من قبيل كونه مريدا و كارها و سميعا و بصيرا و مدركا فمردّها إلى العلم و تابعة له.
و إذا قلنا بأنّه قادر بقدرة فإنّ ذلك يؤول إلى تعدّد القدماء و هو مذهب قريب من الشرك، ثمّ هذا القول تماما مشبه لمذهب النصارى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ (1)، و لأنّ النصارى أثبتوا القدماء ثلاثة فاستحقّوا العقوبة لذلك، و قال عنهم: لَقَدْ كَفَرَ ... الآية، كيف نسبوا الجمع إلى القديم و حاصله ضرب ثلاثة في مثلها (2).
ص: 51
مسألة: و كذلك يقولون بقدم القرآن.
و الجواب عنه: يقول الشيعة: إنّ القرآن معجزة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و محمّد محدث فكيف تكون معجزته قديمة؟! و إذا جاز القدم لمعجزته جاز كذلك لمعاجز الأنبياء، و لو قيل بقدم ما في الدفّتين فإنّه مكتوب بالضرورة، و هذا المعنى حادث.
و لو قلنا بأنّ القرآن هو الحرف و الصوت فإنّ ذلك محال قطعا لأنّ الحرف و الصوت لا يكونان قديمين لأنّ فيه سابقا و لا حقا، و كلّ واحد منهما محدود بحدود الزمان، و ما كان كذلك فما هو بقديم.
و يقول الحقّ أيضا: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ (1)، و قال: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ (2) و المراد من الذكر القرآن بدليل قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (3)، و قال: هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ (4)، و قال: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (5)، و قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (6)، و قال: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (7). وردّ اللّه على المشركين بقوله: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (8).
و إذا كان القرآن قديما فإنّ سائر الكتب المنزلة مثله، فيكون الأنبياء و الصلحاء
ص: 52
و الفسّاق و الكفّار الذين جاء ذكرهم في القرآن هؤلاء جميعا قدماء، «سبحانك هذا بهتان عظيم».
و أكثر أهل السنّة و الجماعة يثبتون الرؤية، و يرون مشاهدة اللّه بالعين الباصرة جائزة.
و الجواب عنه: قال الشيعة: إنّ سلامة الرؤية مرتبطة بسلامة العين و سلامة المرئي، و رفع الحجاب عنه، و اليوم هذه الشروط الثلاثة متوفّرة، فلو كان اللّه يرى لرأيناه اليوم، و حيث لا نراه اليوم فهو دليل على استحالة رؤيته.
و لو جازت الرؤية عليه لا يخلو من كونه جسما أو جوهرا أو عرضا، و هذا محال لأنّ هذه حادثة و هو قديم، و قال اللّه سبحانه كذلك: لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ (1)، فكيف لم يره موسى على عظمته و جلالة قدره و رتبة نبوّته، و يراه الجاهل؟
سؤال: و ربّما قيل: إذا كانت الرؤية ممتنعة فكيف طلبها موسى من ربّه، فقال:
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (2)، و الأنبياء لا يسألون المحال؟
و الجواب عنه: إنّ موسى كان مضطرّا بسؤاله الرؤية، كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ (3)، و لو كانت الرؤية تحصل بالسؤال لم يهلكهم اللّه بالصاعقة
ص: 53
و لم يقل: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ.
و للشيعة دليلان على عدم الرؤية: عقليّ و نقليّ، و أمّا أهل السنّة فقد تمسّكوا بالنقل وحده فتعارض النقلان ما لنا و ما لهم، و ترجّح ما عندنا عليهم لوجود الحجّة العقليّة عندنا و عدم وجودها عندهم. ثمّ إنّ الدليل النقليّ لا يعدو التأويل.
و أظهر دليل على امتناع الرؤية قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ (1).
أضف إلى ذلك أنّه لو أمكنت رؤيته فلا تمكن بالكيفيّة، و لو عدم الكيفيّة لم يكن مشاهدا مرئيّا، و الكيف محدث.
و بناءا على ما تقدّم: فلو أمكنت رؤيته لكان أحدهما معرضا على الآخر، فلو أعرض اللّه عن عبده فويل لذلك العبد، و لو أعرض العبد عن ربّه فهو الكفر بعينه.
و أكثر أهل السنّة لا يقولون بالعدل كما يقولون: إنّ اللّه تعالى يجوز أن يكلّف عبده بما لا يطاق، و أمر أبا جهل و هو لا يريده، و ليس من المستحيل أن يسلب الإيمان من المؤمن عند موته و يعطيه الكفر ... كما لا يستحيل أن يسوق المؤمن يوم القيامة إلى النار و الكافر إلى الجنّة، و لا يقولون بالحسن و القبح العقليّين و إنّما يعرف ذلك بالنقل، و فعل اللّه خال من الحكمة، و أمثال هذه الطامّات.
و الجواب عنه: يقول الشيعة: إنّ اللّه لا يكلّف بما لا يطاق، و العقلاء يقبّحون القبيح لقبحه بالضرورة كتكليف الأعمى بتنقيط المصاحف على الدقّة، و أمر الإنسان بالطيران في الهواء.
ص: 54
و مع هذا فإنّ نفي التكليف بما لا يطاق ورد سمعا من اللّه تعالى حيث يقول:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (1)، و قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (2)، و قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (3)، و لهذه نظائر جمّة.
مسألة: و لمّا كان التلبيس و التعمية ممتنعين على اللّه تعالى فلا يصحّ أن يأمر عبده بالإيمان و هو لا يريده، و لو صحّ لكان أبو جهل ممدوحا على كفره و يستحقّ المثوبة على ترك الإيمان، لأنّ ما فعله ما هو إلّا الامتثال لأمر اللّه، فلو عذّبه اللّه بالنار لكان ظالما له على مذهبهم، و له أن يخاطب ربّه يوم القيامة: يا ربّ، إنّك أردت الكفر منّي ففعلته فلم تعذّبني بنارك؟! «سبحانك هذا بهتان عظيم على اللّه».
و يقال أيضا: كيف يجوز على اللّه تعالى أن يبعث نبيّا مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و معه كتاب كالقرآن و فيه الأوامر و النواهي و كلاهما كذب لأنّهما أنزلهما و هو لا يريد هما و لا يريد ما قاله الرسول الذي أمر باتّباعه أو ورد في القرآن؟! «نعوذ باللّه من هذا الاعتقاد».
مسألة: و لو جاز أن يسلب العبد إيمانه عند الموت فهو الظلم الصريح، و الجور القبيح، فكيف يستساغ أن يرسل اللّه تعالى مأة ألف نبيّ و أربعة و عشرين ألفا و مع مأة كتاب و أربع كتب منها عشرة مع آدم الصفي، و خمسون مع هبة اللّه شيث ابن آدم، و ثلاثون مع إدريس و هو أوّل من تعلّم الكتابة، و عشر مع إبراهيم، و ينزل التوراة على موسى، و الإنجيل على عيسى، و الزبور على داود، و الفرقان على
ص: 55
محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و قال في هذه الكتب كلّها: آمنوا بي لأدخلكم الجنّة، فآمن المكلّف المسكين رجاء أن يدخل الجنّة و ينال الثواب الأبدي، و جاهد في سبيل الحقّ سنين عددا، و حارب الشيطان و عبد الرحمان بناءا على ما وعده اللّه و طمعا بثوابه فكيف يجوز على اللّه خلف الوعد و يكذّب هذه الكتب كلّها و يردّ دعوى أنبيائه و رسله فيسلب عبده وقت الموت إيمانه و يهبه لآخر غيره، و ربّما كان هذا الغير مشركا باللّه سنيّه كلّها، عاصيا لربّه، فيكذّب الكتب المنزلة و من أنزلت عليهم من الرسل؟!
انصفوا أيّها العقلاء، أيّ فاسق يرضى بهذا؟ و أيّ ظلم أظهر من هذا الظلم؟
حاشاه من ذلك، سبحانه و تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا.
قال سحرة فرعون لفرعون: إذا نحن غلبنا موسى ألنا أجر عندك؟ قال: بلى، و ذلك قوله تعالى: أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ* قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (1)، فالعجب كلّ العجب من عبيد فرعون المجازيين يتمنّون نيل الخير منه، و أنزلوا الثقة بفرعون، و راحوا يتمنّون عليه و هم يصدّقونه، و عبيد اللّه الحقيقيّون يرون اللّه يكذب عليهم!!
مسألة: ما يقولون من عدم معرفة الحسن و القبح بالعقل قول باطل.
اعلم أنّ البراهمة و نظائرهم المنكرين للشرع و المكذّبين للرسل يحكمون بحسن المحسنات و قبح المقبّحات، مع أنّهم ليس لهم سماعيّات و لا نقليّات و لكنّ العقلاء على العموم يعرفون القبح في ضرب شخص ليخرج من كونه إنسانا، أو ليكون جمادا، أو ليترك النفس في الهواء، أو يخرج من ملك اللّه، أو يزيل جبل أحد من مكانه، أو ماء البحر الأبيض المتوسّط بكفّه بالضرورة. كذلك يعرفون حسن شكر المنعم و برّ الوالدين و قضاء حاجة المحتاج.
ص: 56
مسألة: لو كانت أفعال اللّه من غير غرض معتدّ به لجرّ ذلك إلى العبث و هو يستحيل على الحكيم، و قال تعالى: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (1)، و قال تعالى: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ (2) و أمثال هذه الآيات و الأخبار، كذلك ما بيّنه الحديث القدسي: كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف.
ما يقال عن الأكثر من أهل السنّة جبريّ و قدريّ بناءا على أنّهم سلبوا الاختيار من العبد و ما يفعله العبد من خير أو شرّ فهو من اللّه، و الظلم و الشرك و المعاصي كلّها و الزنا و اللواط و شرب الخمر و قتل المؤمنين و الفاسقين و نواهي العالم كلّما ما هي إلّا بمشيئة اللّه تعالى و إرادته، و جرى التقدير على هذا، و لا يجري غيره و ما يصدر من المؤمن و الكافر بتقدير حكم اللّه عليها، و لا يقدران على التغيير.
و الجواب عنه: و الشيعة يقولون بأنّ العبد فاعل مختار في ما يفعله من خير و شرّ، من الطاعة و المعصية و الإباحة، و هذا ضروريّ لا يحتاج إلى دليل. و لو لم يكن مختارا لما استحقّ المدح أو الذمّ على فعله، ألا ترى لا يمدح زيد بفعل عمر و لا يذمّ، و لمّا كان المدح و الذمّ على الفعل عائدا إلينا كان عود الفعل علينا أيضا.
و أيضا: لو لم يكن العبد فاعلا مختارا لبطل الأمر و النهي و وعيد الأنبياء و إنزال الكتب و الجنّة و النار و التماس الفعل و الترك و طلب عمل و استدعاء عامل و قضاء الحاجة و ما شابه ذلك، كان جميعه عبثا و كذبا و خال من الحكمة، و حاشا اللّه من
ص: 57
ذلك، و كيف يجوز على اللّه أن يدخل عبدا النار بذنب غيره؟!
حكاية: يحكى عن محمّد بن سليمان و هو من ملوك بني أميّة. و كان المجبّرة دائموا النقص عليه و القدح فيه أمام محمّد بن سليمان و كان مجبّرا مثلهم، و ذات يوم اجتمع المجبّرة عنده و رجوه أن يحضر ذلك العالم الشيعيّ حتّى يحاججوه و يفلجوا حجّته، و قالوا: إنّه يطعن في مذهبك و يقبّحه و أنت سلطان الوقت، و يكفّر علماء الإسلام و يضلّلهم، و يراك مخطئا بقبولك هذا المذهب، و يرى ملوك بني أميّة كلّهم فسّاقا فجّارا.
فأمر محمّد بن سليمان بإحضاره، فلمّا حضر بالغ في تهديده و توبيخه، و قال له في ختام كلامه معه: أنت القائل بأنّ العبد فاعل مختار، و ليس فعله بتقدير من اللّه؟!
فقال الشيعيّ: أيّها الأمير، ائذن لي بقول كلمة واحدة قبل إصدار أمرك.
فقال: قد أذنت لك.
فقال العالم الشيعيّ: افترض أيّها الأمير أنّني و صاحبا لي كنّا ليلا عندك و كنت عند صاحبتك فلانة التي تهواها و سمرت عندها، فلمّا أصبح الصباح عمدت أنا في السوق إلى ذكر محاسنك و عدلك و عفّتك و طهرك و كتمت ما رأيته منك من الزنا و الفواحش و المكر و الخديعة و الظلم، و أمّا صاحبي فقد فضح أمرك و شهّر بك بين الناس و أفشى سرّك، فأسألك باللّه أيّ منّا نحن الاثنين تحبّه دون صاحبه؟
قال: أحبّك أنت الذي كتمت سرّي و أأمر بإكرامك.
فقال الشيعيّ: أنت صاحب الكبائر الذي ارتكبت هذا كلّه لا ترضى أن أفضحك و أكشف أمرك و أبوح بسرّك، و اللّه المنزّه عن هذا كلّه: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (1) أعني كيف يرضى الكريم الغني أّينسب إليه شرك أهل العالم كلّهم و كفر بني
ص: 58
آدم و معاصي الفسّاق و الأجلاف و أولاد الزنا و قتل الأنبياء و الأوصياء من لدن آدم إلى انقراض العالم؟!
ثمّ قال: يا أمير، هذا هو مذهب إبليس: بِما أَغْوَيْتَنِي (1).
فهزم المجبّرة الحاضرون شرّ هزيمة، فأكرم الأمير العالم الشيعي الإكرام الذي يستحقّه و أجازه جائزة سنيّة، و قال: إذهب آمنا و لا تطعن على الأمير فإنّك لا تسلم من العتاب.
حكاية: يقول أبو بكر طاهر بن الحسين السمّان: دعى مجبّر مجوسيّا إلى الإسلام، فقال المجوسيّ: ليس الأمر لي، يريد أنّه غير مختار ليترك أو يفعل إنّما قضى اللّه عليه هذا و قدّره. فقال الجبري: صدقت يا مجوسي.
و روي أيضا أنّه كان لعبد اللّه بن داود مولى و كان عبد اللّه علما من أعلام زمانه، فقرأ قارئ في مجلسه قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ (2) و كان المولى عالما بمذهب الجبر، فقال: هو الذي منعه من السجود، و لو قال إبليس ذلك لكان صادقا و قد أخطأ إبليس الحجّة، و لو كانت أنا حاضرا لقلت له أنت منعته.
و كان في المجلس شيعيّ، فقال: ألا تستحي أيّها الرجل من ربّك! تحتجّ لإبليس عليه و إبليس مع ما هو عليه من الشيطنة لم يحتجّ بها لنفسه، بعدا لك و سحقا، فانقطع الجبريّ و سكت.
و قال أبو بكر أيضا: سأل عدليّ جبريّ: هل الزنا خير أو تركه؟ فقال الجبريّ:
بل الزنا خير. فقال العدليّ: لم ذلك؟!
فقال الجبريّ: لأنّ اللّه قضى عليه و قضاء اللّه خير.
ص: 59
فقال العدليّ: ويلك يا جبريّ، أتقول الكفر خير من الإيمان و الزنا خير من الإحصان؟!
أيّها العاقل، فهذا هو مذهب القوم، الكفر لأبي جهل خير من الإيمان لأنّه أطاع اللّه بكفره، فلو آمن لكان خلاف مشيئة اللّه تعالى، و العجب كلّ العجب أن يقاد إلى النار بعد هذه الطاعة.
أحلف باللّه الذي لا يموت بأنّي سمعت من علماء المجبّرة يقولون: إبليس خير من آدم لأنّ إبليس انقاد إلى إرادة اللّه و عمل آدم خلاف إرادته، و إنّ موسى لمّا دعا إبليس تاب إبليس و لكنّه لم يقبل توبته، فكان إبليس مطيعا و موسى عاصيا، نعوذ باللّه من هذا المذهب.
و أمّا الأخبار الواردة في هذا الباب فقد روى الشيخ الفقيه الزاهد أبو بكر بن الحسين بن عليّ السمّان عن الحسن البصريّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لن يلقى العبد ربّه بذنب أعظم من الإشراك باللّه، و أن يعمل بمعصية ثمّ يزعم أنّها من اللّه.
و عن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تقوم الساعة حتّى يحمل على اللّه كلّ ذنب عصي به.
و عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: سمعت رسول اللّه يقول: سيأتي قوم يعملون و يقولون: هي من عند اللّه، فإذا رأيتموهم فكذّبوهم فكذّبوهم فكذّبوهم- ثلاث مرّات-.
و عن أنس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّه كان يذكّرنا في آخر الزمان من الشدّة و الظلم، قال: إذا كان ذلك نشأ نشو، يعملون بالمعاصي ثمّ يزعمون أنّها من اللّه، عليهم لحق اللعنة و عليهم تقوم الساعة ...
و عن الحسن أنّه قرأ: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ
ص: 60
مُسْوَدَّةٌ (1)، فقال: هم المجوس و اليهود و النصارى و ناس من هذه الأمّة زعموا أنّ اللّه قدّر عليهم المعاصي و عذّبهم عليها و كذبوا و أثموا على اللّه، و اللّه تعالى يسوّد وجوههم لذلك.
روي عن أبي الشعثاء أنّ لصّا اجتاز بابن عبّاس، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: قدّر عليّ. فقال ابن عبّاس: كلمته أشدّ من سرقته، يحمل ذنبه على اللّه.
و روى الزهري عن مولانا حجّة اللّه على الخلق عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السّلام أنّ سارقا مرّ بحلقة عبد اللّه بن عبّاس، فقال أحد الحاضرين: نعوذ باللّه من قضاء السوء. فغضب ابن عبّاس و قال: لقولكم أعظم من سرقته، ثمّ ما زال يشنّع على قولهم حتّى تابوا منه.
و عن ابن عمر قال: القدريّة مجوس هذه الأمّة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، و إن ماتوا فلا تصلّوا عليهم، و إن لقيتموهم فلا تسلّموا عليهم. قيل: أيّهم؟ قال: الذين يعملون بالمعاصي ثمّ يزعمون أنّها من اللّه، كتبها عليهم.
أمّا الآيات الواردة في ذلك لا سيّما تلك التي تصف القرشيين بالجبريّة فقد رفعوها من القرآن، و كان معاوية و يزيد ابنه لعنهما اللّه قد أحييا هذه السنّة الخبيثة في عهدهما و أدخلوها إلى الإسلام، فكان الجبريّة من أتباعهما، و الدليل على ذلك قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا (2)، و قوله تعالى:
وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ
ص: 61
أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (1).
ألم يقل آدم و هو في الدنيا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (2)؟
و قال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي (3).
و قال ذو النون: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (4).
و قال داود: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (5).
فتبيّن ممّا تقدّم أنّ الأنبياء جميعا ينزّهون اللّه تعالى و ينسبون ذنوبهم إلى أنفسهم، و لو كان الذنب ليس من العبد فما الحاجة إلى التوبة؟ و قال: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي (6). كامل البهائي ج 1 62 الفصل الخامس ..... ص : 57
قال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (7).
و قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ (8) أي: إنّ كفركم و إيمانكم على أنفسكم لا على اللّه، و هذا من أوّل القرآن إلى آخره يلقي التبعة في المعاصي على الإنسان.
و قال إبليس: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (9)، و لو كان الفعل من اللّه لكان لعن إبليس
ص: 62
غير سائغ حيث قال: إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (1).
و غرضهم من هذا الاعتقاد حيث ردّوا شقاوة الأشقياء إلى تقدير اللّه تعالى و إرادته أنّهم حين رأوا بعض الصحابة و التابعين ظلموا عترة المصطفى و غصبوهم حقّهم، و أفتوا بالظلم و الطغيان، وسعوا في هلاك أهل البيت عليهم السّلام فلطّخوا أيديهم بدمائهم، و حملوا الأمّة عليهم، و جرّأوهم على الاستخفاف بحقّهم، و أصبحوا تحت طائلة ملام العقلاء، فوضعوا هذه البدع لدفع هذه الملامات، من أنّ العبد لا اختيار له، و الفعل كلّه من اللّه تعالى لأنّ هذا هو قضاء إرادته و محلّ تقديره أن يكون الأمر على هذه الكيفيّة، ليقصروا من لوم الناس لهم و لعنتهم إيّاهم، و ذلك حين اتّضح للناس أنّ الصحابة هم الذين ظلموا الصدّيقة عليها السّلام في فدك، و ظلموا أمير المؤمنين و الإمام الحسن و الإمام الحسين و عليّ بن الحسين عليهم السّلام.
و يجيب المخالفون على هذا أنّ اللّه تعالى أراد هذا منهم: فأراد من آدم أن يعصيه، و كذلك موسى و ذو النون و يوسف و داود و محمّد، و يقولون بأنّ يوسف داعب زليخا، و ارتكب داود القبيح مع زوج وزيره أوريا، و النبيّ مع امرأة زيد، و اللّه تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (2)، و قال في سورة الأنعام: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ (3)، إلى أن يقول بعد ذكر الأنبياء: وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)، و قال بعد ذلك: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (5)، أمر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالاقتداء بهم، فلو جازت عليهم
ص: 63
الذنوب و المعاصي فلا يبقى فرق بينهم و بين الفسّاق و الأجلاف حينئذ.
و الأدلّة العقليّة تعضد الآيات القرآنيّة الدالّة على العصمة من قبيل «اصطفى» و «اجتبيناهم» و «هديناهم».
و سبب نفيهم للعصمة هو ما يقول به الشيعة من وجوب عصمة الإمام و أنّ المشرك لا ينال الإمامة و إن تاب، من ثمّ نفوا وجوب العصمة عن اللّه تعالى و جوّزوا المعصية من الأنبياء من أجل تنزيه عمل الشيخين و معاوة و يزيد و أمثالهم ليجنّبوهم لعنة اللاعنين، فجعلوا اللّه تعالى و الأنبياء في منزلة الفسّاق و محلّهم.
جلّ أهل السنّة يقولون بجواز القياس في الشريعة.
الجواب عنه: و لا يجيز الشيعة القياس في الشرع كما قال عبد اللّه بن عبّاس:
أوّل من قاس إبليس حيث قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (1)، و قال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2) و لم يأت النبيّ بالقياس، و لو جاز لأحد من الناس لكان رسول اللّه أولى به.
و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (3) فلو أنّه فارق الدنيا من دون تبليغ لكان مخطئا، و يكون القرآن كذب علينا و حاشاهما من ذلك.
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأيا» أي يوجد من نفسه ما لا يوجد.
ص: 64
و الغرض من وضع القياس هو التستّر على جهل أئمّتهم لأنّهم تصدّوا للإمامة فارغي الوفاض من العلم فالتجئوا إلى القياس، و القياس يعارض اللّه تعالى لأنّه يقوم في مقابل حكم اللّه و رسوله فيحكم عليهما فكأنّه قال: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (1).
و حرّم اللّه الخمر و النرد و الشطرنج و غيرها من أنواع القمار و هؤلاء يستحلّونها ردّا على اللّه و خلافا للقرآن حيث يقول: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ (2)، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ مسكر حرام» و لم يفرّق بين القليل و الكثير، و هؤلاء يستحلّونه إلى حدّ الإسكار و يرون ذلك تديّنا و عبادة مخالفة لقول اللّه تعالى القائل:
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً (3)، و قال: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ الآية (4).
و بناءا على مذهب الشيعة أنّ من ارتكب هذه المعاصي و اعتقد بأنّه مصيب بفعل هذا و مات على غير توبة فإنّه يحرم يوم القيامة من نعيم الجنّة كما قال تعالى:
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا (5).
سؤال: و هذه المعاصي يفعلها كثير من الشيعة.
الجواب: نعم و لكن علماء الشيعة و صلحائهم و زهّادهم مبرّؤون من هذه الترّهات، و لا يفعلون ذلك قطّ، و لكن أهل الدنيا منهم و ملوكهم و سلاطينهم و العامّة الذين يأتون هذه الموبقات يعدّون أنفسهم عصاة مخطئين، و كلّما ذكروا استغفروا منها و استقالوا من جريرتها، و هم دائبون في تطلّب التوبة يوما بعد يوم.
ص: 65
و لكن المخالف يخرج من هذه الدنيا عن غير توبة لأنّهم يرونها من الطاعات و هي معاصي، ثمّ إنّهم لا يرون لأنفسهم اختيارا في الفعل أو الترك، و إنّما فعلوا ذلك بإرادة من اللّه تعالى، و بعضهم يرى وطئ المملوك فعلا مباحا كما يقول مالك.
حكاية: في سنة اثنين و سبعين و ستّمائة (672) لمّا سافرت- أنا الداعي إلى المؤمنين و مصنّف هذا الكتاب الحسن بن عليّ بن الطبريّ- من قم إلى اصفهان بقيت هناك سبعة أشهر بأمر من سيّد العالم بهاء الحقّ و الدين صاحب الديوان محمّد، فنال توفيق الهداية جماعة بسبب مثولي في تلك الخطّة و أفادوا من العلوم الدينيّة من أهل اصفهان و شيراز و أبرقوه و يزد و نواحي أذربيجان من السادات و الصدور و الأكابر، الذين كانوا في ذلك الجزء من العالم ملتجئين إلى غوث العالم، فنالوا النفع كما كان عليه الحال بين العرب و العجم ممّا لا يكاد يخفى، و يعترفون اليوم به و سوف يظلّون كذلك مذعنين إلى يوم القيامة.
و خلاصة القول: أنّ بعض السادة حضروا من شيراز و حكوا لنا، قالوا: كنّا في شيراز و متى ما خرجنا من بيوتنا لطلب التطهّر و الاستنجاء ورآنا أهل السنّة و معنا المطهّرة، رفعوا عقائرهم بشتمنا.
فيا للعجب! إنّ من لم يتطهّر من الحدث و لم يجر عليه الماء ليزيل أخباثه يعتبر سنّيّا صحيح العقيدة، و من فعل ذلك نزولا عند قول اللّه تعالى: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1) يعتبر رافضيّا.
فائدة: و كلّما نعتوا هؤلاء بالرافضة فإنّ الشيعة يطلقون عليهم رافضة أيضا، و يضيفون إلى ذلك ألقابا أخرى زيادة على ما تقدّم: الأوّل: خارجي، و الثاني:
ناصبي، و الثالث: يزيدي، و الرابع: جبري، و الخامس: مشبّهة، و السادس:
ص: 66
منافق، و السابع: مرواني، و الثامن: قدري، و التاسع: عدوّ أهل البيت أو ظالم آل محمّد، و العاشر: حطب جهنّم، و أمثال ذلك.
بيّنة: لو اجتمع أهل العالم و أرادوا إثبات ذنب واحد أو خطيئة واحدة للشيعة لما استطاعوا إلّا بقولهم أنّهم لا يؤمنون بخلافة أبي بكر، و ينكرون خلافته.
و الجواب عنه: يقول القوم- و هو من الموارد التي اتفقوا عليها- أنّ إمامة أبي بكر تمّت باختيار جماعة من الصحابة و الاختيار باطل، فإنّ اللّه تعالى يقول: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (1) ثمّ إنّ موسى مع ما هو عليه من رتبة النبوّة اختار من قومه سبعين كما قال سبحانه: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا (2) و ختام أمرهم كان الهلاك بالصاعقة، لقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً (3) و لم يكن اختيارهم موفّقا و قد حكى اللّه تعالى هذا المعنى في قصّته.
فكيف يصحّ اختيار خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و أبي سفيان بن حرب الذين ما منهم أحد إلّا و قد حارب رسول اللّه أربعا و ثمانين حربا، و قتل آلافا من المسلمين، و يكون اختيارهم صوابا؟! و نذكر جانبا من هذا الباب.
نكتة: في كتاب «الزينة» من كتب المخالفين: إنّ من الأسماء اسم الشيعة وحده كان مشهورا في عهد النبوّة و لم يكن لقب إلّا و جاء في مدحه أو ثلبه حديث إلّا اسم الشيعة فلم يرد حديث واحد ينقصهم.
ثمّ قال: كان هذا الاسم معروفا زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان مشتهرا بين الصحابة، و قد دعي به جماعة، منهم: سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و عمّار بن ياسر،
ص: 67
و المقداد بن الأسود الكندي و غيرهم، و كان هؤلاء لا يكادون ينحازون عن أمير المؤمنين أو يفارقونه، فسمّوا يومئذ شيعة عليّ عليه السّلام، و لمّا اشتعلت الحرب بين معاوية و المولى أمير المؤمنين عليه السّلام عرف أولياء عليّ و محبّوه باسم الشيعة، و جيش معاوية و تابعوه باسم أهل السنّة، و لمّا حصلت منازلة بين شخصين من العسكرين، فقال أحدهما: أنت سنّيّ، فقال الآخر: و أنا سنّيّ، و كان المقصود بهذا اللقب شيعة عليّ و ليس أمرا آخر، «إنّ في ذلك لعبرة لأولي الألباب».
نكتة: جاء في تفاسير أهل البيت عليهم السّلام: و لمّا اطلع اللّه تعالى إبراهيم الخليل على علوّ رتبة عليّ و فضله، دعا إبراهيم، فقال: اللهمّ اجعلني من شيعة عليّ، فاستجاب اللّه دعائه، بقوله: «و جعلناكم من شيعته»، فحكى رسول اللّه هذه الحكاية: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (1) (2).
و كذلك حكى عن موسى، فقال: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ (3) فكان أتباع الأنبياء و الأوصياء و الأولياء يدعون بالشيعة، و اليوم بقي هذا اللقب ملازما لشيعته.
حكاية: قال عليّ بن نصر أبو الحسن الحنفيّ في بعض تصانيفه: حضر مجلس الإمام جعفر الصادق أحد موالي أهل البيت و قال: يابن رسول اللّه، عرضت لي حاجة مهمّة إلى السلطان و ليس لي وسيلة توصلني إليه، و جئتك الآن لتكون لي شافعا عنده لقضاء حاجتي.
فقال له الإمام الصادق عليه السّلام: قم الساعة و التحق بالسلطان و انتظر الفرصة حتّى يعرض لك رجل من صفته كذا و كذا فإنّه من خواصّ حجّابه، و جدّ في الأمر حتّى
ص: 68
تكلّمه على انفراد، فقل له: أرسلني الإمام جعفر إليك و بعث معي علامة لتقضي حاجتي عند السلطان، ففعل ما أمره الإمام و قضي حاجته، فعاد الولي إلى الإمام الصادق عليه السّلام و قال: يابن رسول اللّه، إنّ الرجل سمع اسمك كاد يغمي عليه من النشاط و الفرح، فذهب إلى ذلك الجبّار حالا و قضى حاجتي، فما يصنع وليّكم مع هذا الحبّ في دار عدوّكم؟!
فقال الإمام عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى قضى لنا من الكرامة بأن جعل عند عدوّنا واحدا من موالينا أو أكثر مقرّبا إليه و من خواصّه و أركان ملكه ليقضي حاجات ذوي الحاجات من موالينا.
من ثمّ لم يخل وجه خليفة بدءا من الخلافة العبّاسيّة حتّى انقراض دولتهم من وجود وزير أو وكيل خراج أو حاجب خاصّ أو مدبّر لأمر ذلك الملك شيعيّ، و كذلك الحال في سلاطين خوارزم الذين أكثر وزرائهم من قم أو كاشان، و أمراء خراسان كانوا شيعة بأجمعهم، و لا تخلو بقعة من بلاد الإسلام من وجود مؤمن محترم و مكرّم؛ إمّا ظاهر الاعتقاد بالتشيّع أو عاملا بالتقيّة، كعمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبي طالب عليه السّلام يخفي إيمانهم ليلتئم مع صناديد قريش و أكابرهم بظاهره، و يوافقهم، و بهذا يستطيع أن يمدّ رسول اللّه و أصحابه بالمعونة، و ينصره بماله و بيده و روحه و كذلك بجاهه، و كان جانب النبيّ و أتباعه قويّا ما دام عمّه على قيد الحياة، فلمّا وافته منيّته هبط الأمين جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه، و أمره بالهجرة: «فقد مات ناصرك»، و اتفق العلماء على قوله تعالى: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (1) في بيت أبي طالب، و قال اللّه تعالى في حقّ مواليه: وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا (2).
ص: 69
يقول مصنّف هذا الكتاب: و قد استدللت يوما على إسلام أبي طالب و إيمانه في مدينة اصفهان بحضور المولى الأعظم بهاء الدين صاحب الديوان محمّد بهذه الآية.
نكتة: اتفق العلماء على أنّ يوم الحساب في عرصة التغابن و الندامة، تبدأ المسائلة فتأتي كلّ فرقة بعذرها ... فيقول بعضهم: حاد بي عن العبادة ضعف الهرم و تناهي الشيخوخة.
و يقول البعض الآخر: كنّا أقنانا في طاعة العباد فلم يتيسّر لنا أداء المقامين:
العبوديّة و العبادة، فصعب علينا القيام بطاعتك.
و يجيب الآخرون بأنّ أنفسنا كانت عليلة.
و يعتذر بعضهم بما أوتي من المال و الملك عن القيام بواجب الطاعة.
و يقول بعضهم: حال بيننا و بين العبادة الفقر و الفاقة: «كاد الفقر أن يكون كفرا».
و يقول قوم غيرهم: شغلنا الملك و السلطان عن عبادتك.
فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ (1) فيقول اللّه للشيوخ: كان عبدي نوح النبي أكبر منكم سنّا و كان يومئذ قد بلغ تسعمائة و خمسين عاما و هي مدّة أداء الوحي و مع ما هو عليه من الضعف و الشيخوخة لم يزل يزيد في العبادة كلّ يوم.
و يقول للأقنان و المماليك: كلّا، فإنّ يوسف كان مملوكا و أسيرا عند عزيز مصر منذ الطفولة و حتّى الكهولة فلم تحل عبوديّته لعزيز مصر عن عبادتنا و طاعتنا.
و يقول للمرضى: كلّا، فإنّ أيّوب النبيّ عاش في السقم زمانا فلم يزدد إلّا إقبالا على عبادتنا يزيد فيها كلّ يوم.
و يخاطب ذوي الثروات فيقول: كلّا، إنّ إبراهيم في أيّامه الأولى منعّما حائزا على نعم عظيمة، فنال في الآخر لا نقياده لأامرنا درجة الخلّة ببذله ذلك المال و إنفاقه في
ص: 70
طريق عبادتنا، فلم يكن عند أحد من البشر ما عنده من المال، و لم يصل بشر إلى ما وصل إليه من العبادة.
و يقول للفقراء: كلّا، فإنّ محمّدا الخاتم صلّى اللّه عليه و آله و موسى و عيسى و يحيى و هارون و زكريّا و أمثالهم كانوا فقراء و مقلّين مع درجتهم في النبوّة و العصمة و الرسالة.
و يخاطب الملوك و السلاطين: كلّا، فإنّ في الطبقة الأولى كان كيومرث أوّل ملك في الأرض مع ما حازه من الملك و الدولة و القيادة فقد كان منقادا لأمرنا و لم تفته عبادة من الواجبات بالعدل و السياسة مدّة ثلاثين عاما، و هي أيّام ملكه، و ثبتت الشريعة بسيفه و قويت، و كان في زمن نبوّة شيث.
و في الطبقة الثانية كان أفريدون، حكم العالم مدّة خمسمائة عام بالعدل و القسط و تعاهد الرعيّة، و قام بكلّ ما وجب عليه.
و في الطبقة الثالثة يوسف بن يعقوب، سلطان مصر.
و في الطبقة الرابعة الاسكندر الرومي، و يقال: إنّه متقدّم على يوسف، فملك الربع المسكون، و رأى عجائب العالم، و قهر غالب الملوك مع الاقتدار و الانتصار و الحكم، و كان النور قائد عسكره، و السائق الظلمة، و الملائكة المقرّبون أعوانه، و نزلت فيه آيات من سورة الكهف.
و في الطبقة الخامسة طالوت و داود النبي مع الشوكة و القوّة و مرتبة الرسالة و الصولة، و كان يحيط بخيمته في كلّ آن أربعون ألفا من رجال الحرب على أهبة الاستعداد لتلقّي أوامره، و أتباعه و حشمه يتلقّون أرزاقهم منه.
و في الطبقة السادسة سليمان بن داود الذي كان معسكره مأة فرسخ، خمس و عشرون فرسخا للناس، و خمس و عشرون فرسخا للجنّ، و خمس و عشرون فرسخا للوحوش و السباع، و خمس و عشرون فرسخا للطيور و الهوام و أمثالهم، و سخّرت له الريح فكانت تنقلهم بأقصر وقت صباحا من الكوفة و يهبطون
ص: 71
خراسان في الليل: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ (1)، و لم تثبت عمره كلّه في ديوانه جريمة واحدة؛ لا صغيرة و لا كبيرة، فقبضه اللّه إليه مطهّرا معصوما، و هذا الملك العظيم لم يمنعه من عبادة اللّه جلّ جلاله، و رفع اللّه عنه الحساب في ماله و ملكه و معيشته: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (2).
و يقيم الحقّ تعالى إثبات النيّة و إلزام الحجّة على هؤلاء الطوائف أصحاب الذرائع و العلل، فيسكت الجميع و يطأطأون رؤوسهم هوانا و افتضاحا: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (3) حتّى يصل النداء: خذوا هؤلاء المجرمين إلى جهنّم: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (4).
و الغرض أنّ في كلّ دورة من دورات الزمن شخصا ذا رئاسة و دولة و سلطان، يمدّه الحقّ و يعينه، و في زماننا طلع بهاء الدنيا و الدين محمّد صاحب الديوان رفع اللّه رايات الإسلام و المسلمين ببقاء دولته، فطاب باطنا و ظاهرا.
ص: 72
اعلم أنّه لا خلاف بين أهل القبلة بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح؛ من ركبها نجى و من تخلّف عنها غرق» (1)، و لا ريب أنّ من كان
ص: 73
خارج السفينة كان هالكا بشهادة النبيّ و نصّ القرآن الكريم: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً (1) و من كان معه في السفينة كتبت له النجاة.
و بناءا على هذا فإنّ مصنّف الكتاب يحمد اللّه حقّ حمده حيث وفّقه في عنفوان الشباب و أيّام الجدّة و الحداثة إلى التمسّك بأهل هذا البيت و التمذهب بمذهبهم، و سدّده لبلوغ هذه العقيدة المرضيّة، و للاعتصام بالعروة الوثقى، قال تالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (2)، و جاء في الحديث القدسيّ: «خلقت عبادي كلّهم حنفاء».
و الإنسان نزولا على حكم الفطرة يكون مؤمنا حتّى الخامسة عشرة و بعدها
ص: 74
يسمّى مؤمنا بتصديقه بالتوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة، كأمير المؤمنين عليه السّلام الذي صدّق رسول اللّه و هو ابن الثالثة عشرة أو العاشرة، و المسألة اتفاقيّة على إيمانه قبل البلوغ، و مذهب الشيعة على هذا بانّ عليّا عليه السّلام صدّق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الفترة من عمره و إلّا فلم يكن بحاجة إلى أن يؤمن؛ لأنّ الإيمان لا يكون إلّا عن شرك، و عليّ عليه السّلام لم يشرك باللّه طرفة عين، و كان غيره محتاجا إلى الإيمان. و اتفق محقّقو الشيعة على أنّ عليّا لا ينبغي أن يقال عنه بأنّه آمن لأنّه كان ممّن يجب الإيمان به و بولايته و إمامته على العالمين و هو جزء من أجزاء الإيمان.
روى بابويه القمّي في كتاب العيون المحاسن عن الثقاة عن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه تعالى أنّه قال: «ولاية عليّ بن أبي طالب حصني و من دخل حصني أمن من عذابي» (1).
و قال الإمام زين العابدين عليه السّلام:
و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده
و ما فاز من فاز إلّا بناو ما خاب من حبّنا زاده (2) و قال الحارث الهمدانيّ يوما لأمير المؤمنين عليه السّلام: يا علي، إنّي أحبّك، و أخاف
ص: 75
حالتين من حالاتي: النزع، و حالة المرور على الصراط. فقال عليه السّلام: لا تخف يا حارث، فما من أحد من أوليائي و أعدائي إلّا و هو يراني في هاتين الحالتين و أراه و يعرفني و أعرفه.
يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قبلا
يعرفني طرفه و أعرفه بنعته و اسمه و ما فعلا
و أنت عند الصراط معترضي فلا تخف عثرة و لا زللا
أقول للنار حين تعرض للعرض ذريه لا تقربي الرجلا
ذريه لا تقريبه إنّ له حبلا بحبل الوصيّ متّصلا
أسقيك من بارد على ظمأتخاله في الحلاوة العسلا
هذا لنا خالص لشيعتناأعطاني اللّه فيهم الأملا (1) أبو الصلت الهروي قال: كان الإمام ذات يوم في مجلس المأمون، و جرى نقاش بينه و بين بعض المنافقين حتّى سألوه: يا بن رسول اللّه، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، أنت قسيم الجنّة و النار، فكيف يكون ذلك؟
فقال الإمام عليه السّلام: اانّ محبّته موجبة لدخول الجنّة، و عداوته موجبة لدخول النار، و بهذا ينقسم أهل النار و أهل الجنّة بمحبّته و عداوته، ثمّ شرع في بيان المسألة بيانا شافيا، و ذكر تقريرا لطيفا نال إعجاب الحاضرين من أولياء و أعداء فأطروه كثيرا، و سرّ المأمون من بيانه.
قال أبو الصلت: فلمّا خلوت بالإمام بعد قيامه من المجلس، قلت له: يا مولاي،
ص: 76
إنّ لك اليوم اليد البيضاء على مواليك بتقريرك اللطيف، فلقد أحييت قلوبا ميتة.
فقال الإمام: يا أبا الصلت، إنّ الذي سمعته طابق مذهب القوم الذي نطقت به كتبهم و إلّا فمذهبنا أهل البيت على أنّ الإمام أمير المؤمنين يقف على شفير جهنّم يوم القيامة و يقول: يا نار خذي هذا فإنّه من أعدائي و ذري ذاك فإنّه من أحبّائي ... (1).
يقول عبد اللّه الدامغاني في كتاب «سوق العروس» في مدح فاطمة و الحسن و الحسين و أهل بيت رسول اللّه و الثناء عليهم و هو من العلماء و أصحاب الحديث و من أهل السنّة و الجماعة:
تطاول ليلي و لم أرقدفكنت كذي اللدغ و الأرمد
بذكر النبيّ و ذكر الوصي و ذكر هوى المصطفى أحمد
حسان الوجوه عظام الحلوم كرام المغارس و المحتد
و من دنس الرجس قد طهرواففاز الذي بهم يقتدي
ص: 77
عليّ أبو الحسن و الحسين رشيدين للراشد المرشد(1) أورد إبراهيم الثعلبي و الزمخشري و النهرواني و أضرابهم و هم من علماء السنّة في آية القرابة يعني قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى(2) رواية عن جرير بن عبد اللّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:
من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا.
ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له.
ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات تائبا.
ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها.
ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح له من قبره باب إلى الجنّة.
ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير.
ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة.
و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه.
ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة (3).
ص: 78
نكتة: قال النهرواني: سألوا من النبيّ: يا رسول اللّه، من قرابتك؟ قال صلّى اللّه عليه و آله:
عليّ و فاطمة و ابناهما.
و يقول أمير المؤمنين: ذهبت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شكوت إليه حسد الصحابة لي، و العبارة كما يلي: شكوت ألى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسد الناس لي، فقال: أما ترضى (يا علي- المؤلّف) أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت الحسن و الحسين و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا و ذرّيّتنا خلف أزواجنا (و شيعتنا و رائنا- المؤلّف) و شيعتنا من خلف ذرّيّتنا (1).
و اتفق المفسّرون من كافّة الطوائف على وجوب محبّة عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام بآية القرابة.
يقول مصنّف هذا الكتاب: الدليل على وجوب محبّة أهل البيت قوله تعالى:
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ (2) و معنى الآيه هكذا: ندعو كلّ فريق يوم القيامة مع إمامه و نحشره معه، فنحشر اليزيديّ مع يزيد و نسوقه إلى جهنّم، و محبّي معاوية معه، و أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعيّ و حنبل نحشرهم كلّ فريق تحت لواء إمامه، و يكون الشيعة مع أمير المؤمنين و أولاده و أبي ذر و سلمان و عمّار و المقداد بإجماع هذه الطائفة من أهل الجنّة، فيكون حشر الشيعة معهم.
و منه الجواب عنه لعليّ عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، لا يحبّك إلّا مؤمن، و لا يبغضك إلّا منافق (3).
ص: 79
و روى المحدّث الدربنديّ عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله أنّ فاطمة و عليّا و الحسن و الحسين عليهم السّلام في حظيرة القدس في قبّة بيضاء، سقفها عرش الرحمان (1) بدليل قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (2) يعني عليّا و أولاده. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، شيعتك هم الفائزون.
و يقول المخالفون: و نحن أيضا نحبّ النبيّ و أهل بيته.
الجواب: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (3).
حكاية: حضرت يوما مع نجل مخدومي بمنتزه قرية بطرية في قرية واقعة بين قم و كاشان في العاشر من محرّم الحرام سنة ثلاث و سبعين و ستّمائة (673) و كنت أتلو جانبا من مقتل عترة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان أحد العلماء حاضرا ساعتئذ و راح يصدّقني على ما أقول و يعينني خوفا من بطشه و طمعا في ماله «يقصد صاحب الديوان»، و لمّا خلا إلى شياطينه من النواصب بلغني عنه ذمّه للإمام الحسين معهم و مدحه ليزيد، مع أنّه يقال عنه أنّه أكثر انصافا من غيره من علمائهم، فإذا كانت هذه حال المنصف فما ظنّك بغير المنصف منهم!
كنت في اصفهان سنة اثنتين و سبعين، و لمّا رجعت يوما من ديوان الدولة جائني علويّ مستعرب و قال لي: أي فلان، كنت اليوم عند أحد العلماء فدعوت اللّه له بما قدرت عليه من الدعاء، و قلت له في آخره: حشرك اللّه مع أبي بكر و عمر و عثمان، فأجابني: أقسم باللّه لو أدخل هؤلاء إلى الدرك الأسفل من النار لكان أحبّ إليّ أن
ص: 80
أكون معهم من أن أكون مع عليّ و أهل بيته في جنّة الخلد مع النعيم و الحور و القصور.
و قال أحمد بن حنبل: قلت يوما لمؤمن و أنا أحاوره: لا يكون الرجل مؤمنا حتّى يبغض عليّا قليلا (1). فقال المؤمن: لا يكون المؤمن مؤمنا حتّى يحبّ عليّا كثيرا، لا تعرف حقيقة المرء أو اعتقاده إلّا في حال الغضب، و نادرا ما يمكن معرفة ذلك في حال الصفاء و السلم.
و غرضنا من ذكر هذه الحكايات هو إعلام المؤمنين بأنّهم كما يبغضون الصحابة الذين ظلموا أهل البيت فإنّ مخالفي أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين يبغضونهم كذلك و لكنّهم يحجمون عن كشف ذلك لعلوّ درجة أهل البيت و سموّ مقامهم، و لمّا لم تكن هذه المنزلة للصحابة فإنّ الشيعة يجأرون ببغضهم ما لم تكن هناك تقيّة يتّقونها.
بيّنة: قال السيّد المرتضى علم الهدى رحمه اللّه: سأل سائل السيّد الحميري- و لم يكن هاشميّا و إنّما كان السيّد لقبه و كان رجلا فاضلا شاعرا مشهورا بين علماء أهل القبلة-: كيف أحببت عليّا و أهل البيت مع أنّ أبويك يلعنانه و يواليان بني أميّة (2) و أنت تواليهم و تحبّهم و تمدحهم بصدق؟
قال: ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، فلقد غاصت عليّ الرحمة غوصا، و أخرجتني من بحر الجهل و الضلالة و العداوة لآل الرسول صلّى اللّه عليه و آله وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا (3).
ص: 81
قال السيّد المرتضى: صدق الحميري؛ لأنّ أبويه كانا من أتباع بني أميّة و من النواصب ظاهري النصب و العداوة لأهل البيت عليهم السّلام، و جرت العادة على أنّ المرء تابع لمحيطه و البيئة التي عاش فيها و ينشأ على أخلاقها و عاداتها أو على ما درج عليه أبواه و أقربائه و أقرانه، أو على توجيه الأدباء و العلماء له، و هؤلاء جميعا كانوا نواصب، و عاش الحميري بين ظهرانيهم فخرج من بينهم مؤمنا طاهر الاعتقاد، فلا يكون ذلك إلّا بفضل من اللّه و بتوفيق ربّانيّ خاص.
فائدة: اعلم بأنّ ملوك بني أميّة كانوا جميعا يعرفون فضل عليّ و فاطمة و أولادهما، و علوّ مرتبتهم، و حصل لهم العلم بذلك، و أمّا غيرهم فهم كما قال اللّه حكاية عن موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (1)، و هؤلاء يقينا عرفوا رسالة موسى و لكنّهم أنكروها، و كذلك فعلوا مع محمّد و القرآن كما قال تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (2).
و مثله حال بني إسرائيل مع هارون عليه السّلام و هو نبيّ و وصيّ موسى، و عرف أولئك الناس مقامه و رفيع منزلته عند اللّه و قربه من موسى، قال تعالى: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي (3) و كان ابن عمّ لبني إسرائيل و لكنّهم تركوه وحده و مالوا إلى عبادة العجل، و كذلك إخوة يوسف عرفوه بعلمه و ورعه و نبوّته أكثر من غيرهم و مع ذلك أرادوا قتله كما ظهر ذلك للعلماء و العقلاء، كما ذكر في كتاب اللّه: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا (4) و إنّما قالوا ذلك لأنّهم أبناء علات،
ص: 82
و أرادوا بأخيه شقيقه بنيامين.
و قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها (1).
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في الخطبة الشقشقيّة بعد ذكره القوم و ما جنوه عليه و شكايته منهم و جرأتهم عليه: بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها و لكنّهم حليت الدنيا بأعينهم و راقهم زبرجها، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (2) كما قتل عمر بن سعد عليه اللعنة الإمام الحسين طمعا بملك الري و قزوين و الديلم، فدخلت روحه الخبيثة النار قبل أن يرى هذا الملك بعينيه، خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (3).
سؤال: إذا كان القوم لا يجهلون مقام أمير المؤمنين عليه السّلام فكيف إذا شتموه و لعنوه و هم يعرفونه؟
الجواب: كان إبليس يعرف نبوّة آدم، و مثله بنو إسرائيل يعرفون مرتبة موسى و عزّته، و عرف أولاد يعقوب أخاهم يوسف، و يقول اللّه أيضا: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (4) و كان إيمانهم تقليدا فخذلهم اللّه تعالى، و عندنا و في مذهبنا هم كفّار باللّه و رسوله و بمخالفتهم إمام زمانهم، و صدق في حقّهم كلام اللّه حكاية عن إبليس لعنه اللّه: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (5) و قال تعالى: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (6).
ص: 83
و مع هذا فلا يخفى على أهل العقل مقام أمير المؤمنين و قرابته و أهل بيته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان بنو أميّة على فرق شديد خشية أن يعرف العامّة فضلهم و علوّ مرتبتهم و عزّتهم على صعيد الترفّع و القرابة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيخرجون عليهم.
و ذكرت كتب التاريخ و السير أنّهم كانوا يحرّضون الناس عليهم و يلعنونهم و لكنّهم لا يذكرونهم بأسمائهم، فيسمّون أمير المؤمنين أبا تراب، و الحسن و الحسين أولاد أبي تراب، فخرجوا على أهل البيت عليهم السّلام و أرادوا محو شريعة الإسلام، و يرفعونها من بين الأمّة، و اشتروا ذمم العلماء و أصحاب المعرفة بالجاه و المال و كثرة العطايا فعرّوهم عن دينهم.
و جرت حالهم مع عليّ و أولاده على نسق حال بلعم بن باعورا مع موسى و هارون، أو كبر صيصا الراهب: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (1).
سلّمنا بأنّ العامّة كانت تعلم بفضلهم و تعرف حالهم فكان شأن العامّة كشأن إخوة يوسف عليه السّلام، قال اللّه تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (2) لا سيّما اليهود فقد عرفوا موسى و عيسى، قال اللّه تعالى: وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (3)، و قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (4).
سؤال: بناء على هذا فإنّ العامّة لا تستحقّ اللوم و التعنيف؟!
ص: 84
الجواب: قال اللّه تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ (1) إلى أن قال تعالى:
فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (2)، و قال تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (3) و يشمل الآل هنا الأقارب و الأباعد لأنّ اللّه أهلكهم جميعا معه و أدخلهم إلى جهنّم.
و قال تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ (4)، وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (5) و هذا محض كذب منهم، و في القرآن أمثال هذه الآيات واردة في مواضع لا تعدّ و هي افتراء الواحد و اتّباع الآخرين له، و إعانته على ظلمه.
و في القيامة يتبرّأ التابع من المتبوع كما قال تعالى: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (6)، و قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (7).
و أوضح من هذه الآيات الآيتان التاليتان: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (8).
الجواب الآخر: النظر واجب على المكلّف في مثل هذه القضايا و التقليد غير جائز، و المقلّد و إن كان على الحقّ هالك لأنّ التقليد باطل، فكان الواجب على العامّة أن يتحرّوا في أمر الشيعة و أهل البيت حين شوّه العدوّ صورتهم الحقّ
ص: 85
و الدقّة، بل هذا هو واجب العلماء قبل أن يجب على العامّة.
الجواب الآخر: على المكلّف أن لا يلقي بالا لما يقوله والداه و لا لما يقوله أهل الباطل.
لمّا وصل الملك السعيد محمود بن سبكتكين إلى العراق و كانت رايته قد بلغت الري، جاءه جماعة من النواصب و شكوا إليه الشيعة بأنّهم يسبّون الصحابة، فلم يقنع السلطان بأقوالهم و حكّم عقله، و شرع بالبحث و التحرّي و الفحص، و اجتهد في هذا الأمر بعد الجدّ و المثابرة، فعلم بتوفيق من اللّه أنّ الحقّ مع الشيعة، و المرجئة و القدريّة على الباطل، فاستبصر و نبذ ما كان يعتقد من العقيدة الباطلة، و لكنّه أخفى مذهبه صيانة لملكه لما رأى الضلال قد استحوذ على العالمين، فكان يمدّ الشيعة و الأشراف بالمعونة مادام على قيد الحياة بجدّ و اجتهاد بالحدّ المقدور له.
و هذه القصّة ذكرها أبو الفضل الكرماني في تاريخه، و كان يستعمل خواصّه من الوزير و غيره و أصحاب أعماله من الشيعة دائما، و كذلك ملوك مازندران كانا مؤمنين أبا عن جدّ، و مثلهم الأمراء عضد الدولة و ركن الدولة و ناصر الدولة (1)، و كان بين الخلفاء من هو من الشيعة إلّا أنّه يتخفّى منهم الخليفة الناصر، و كان من أعيان تلك الدولة الصاحب كافي الكفاة و لم يكن أحد نظيره، و له عشرة آلاف بيت في مناقب أهل البيت و مثالب أعدائهم و التبرّي من هؤلاء الأعداء.
و كان في وزراء سلاطين خوارزم القمّي و الكاشي، و آخر خليفة الذي أغار على الكرخ و نهب أهل البيت و آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم يهنأ بذلك و وقع البلاء على رأسه.
و السلطان ملكشاه الذي قبل أقوال نظام الملك و قتل الكثير من الشيعة لم يمرّ عليه عام واحد حتّى هلك، و وصل نظام الملك الناصبي أيضا إلى الدرك الأسفل.
ص: 86
و إذا نظرت بعين الحقيقة فلن تجد بيتا عادى هذه الطائفة إلّا هلك، في الصدر الأوّل حين أظهر قوم من الصحابة عداوتهم أدال اللّه منهم و لم يبق لهم أمر و لا لأولادهم، فإذا سمعت عن فلان بأنّه بكريّ أو عمريّ أي أنّه من ذرّيّة هذين الاثنين فهو كذب محض، و الدليل على ذلك أنّ القوم ليست لهم شجرة و لم يقل أحد أنّ لهم أخلافا.
الثاني بنو أميّة مثل معاوية و يزيد و عثمان إلى خمسة عشر ملكا، و قضى على آخرهم الأمير الغازي أبو مسلم المروزي بجيش من خراسان، و قتلة الحسين قضى عليهم المختار و المسيّب قضاءا مبرما، و تركاهم جذاذا، و أرسلا إلى جهنّم أضعافا مضاعفة منهم، و يقرؤون اليوم هذه الآية: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا الآية (1).
و لمّا جائت النوبة إلى بني العبّاس بدؤوا حكمهم بقتل السادة و الأئمّة كما دلّ على ذلك كتاب «مقاتل الطالبيين» الذي ألّفه الاصفهاني حيث قتل كلّ خليفة منهم الآلاف ردّا على قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (2).
و جعل اللّه ما قوله الناصبون من ترّهات عن ملوكهم و سلاطينهم فيدعون هذا أمير المؤمنين، و ذاك خليفة المسلمين هباءا منثورا، و مدّ ظلّ راية محبّي أهل البيت و دولتهم على أقاصي العالم، و وضع بني زياد و بني مروان و بني العبّاس و بني سفيان و أتباعهم حيث يريد محبّو أهل البيت عليهم السّلام.
بيّنة: حكى عبد اللّه النيشابوري قال: كانت بيني و بين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فذهبت إليه يوما و أقمت في موضع، فلمّا علم بمقدمي أرسل إليّ
ص: 87
أحد رجاله فدعاني و أنا ما أزال في ثياب السفر، فذهبت إليه و كنّا في شهر رمضان، فدعاني إلى الجلوس، فأمر لي بماء و وضوء، فغسلت يدي، و أمر لي بطعام فنسيت أنّنا في شهر رمضان فرفعت إلى فمي لقمة أو لقمتين فتذكّرت أنّنا في شهر رمضان فأمسكت عن الطعام، فقال لي حميد: مالك؟ أعرضت عن الأكل.
فقلت له: لعلّ لك عذرا من مرض و غيره منعك من الصوم، أمّا أنا فلا عذر لي.
فقال: و أنا أيضا ليس لي عذر يوجب الإفطار و لكنّي يائس من رحمة اللّه، ثمّ شرع بالبكاء، و لمّا فرغ من الأكل سألته: يا أمير، مالك تبكي هكذا؟
قال: لمّا وصل هارون الرشيد إلى طوس، دعاني ليلة و جائني خادمه فقال:
أجب أمير المؤمنين، فلمّا جئته وجدت بين يديه شمعا يضي ء، فسلّمت عليه و أنا خائف على نفسي منه، و وجدت سيفا إلى جانبه، فرفع رأسه و قال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: طاعتي لأمير المؤمنين بالنفس و المال، فردّني إلى البيت حالا.
فما بلغت بيتي حتّى جائني خادمه ثانيا و قال: أجب أمير المؤمنين، فاسترجعت و قلت في نفسي: ما دعاني إلّا للقتل، فوقفت بين يديه أرتعد من الخوف، فلمّا رآني، قال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ قلت: طاعتي لأمير المؤمنين بالنفس و المال و الأهل و الولد و الدين، فضحك و دفع إليّ السيف الذي معه و قال: اذهب مع هذا الخادم و اعمل بما يأمرك به.
ثمّ سار بي الخادم إلى البيت فرأيت فيه حفرة عميقة جدّا، و رأيت في البيت أبوابا ثلاثة مغلّقة، و فيه ستّون علويّا من أولاد فاطمة محبوسين؛ منهم الشيخ و الشابّ و الكهل، فاخجرهم واحدا بعد الآخر و أمرني بضرب أعناقهم و ألقاهم في الحفرة حتّى قتلت منهم سبعا و خمسين رجلا، و رأيت بينهم شيخا حلو الطلعة،
ص: 88
مديد القامة، فلمّا رآني قال: أيّها الشقي، أما تستحي منّا و نحن من أهل بيت النبوّة و الإمامة، فماذا تقول لربّك يوم القيامة و بماذا تجيب المصطفى و المرتضى و فاطمة و الحسن و الحسين؟
فارتعدت فرائصي من قول الرجل، فقال لي الخادم اللعين: أتريد أن تعصي أمير المؤمنين؟ فضربت عنق ذلك الشيخ خوفا على نفسي إلى أن قتلت الستّين و كلّهم فاطميّون و علويّون، أيّها الرجل، فإذا كانت حالي بهذه المثابة فماذا ينفعني الصوم و الصلاة؟! لا شكّ بأنّي من أهل النار.
بيّنة: المعروف عن المنصور الخليفة أنّه كان يقيم البناء ببغداد و يضع سادات العلويّين في جدره حتّى يموتوا، و ذكر ذلك الكبار في تصانيفهم و الشعراء بأشعارهم، و كان كلّ خليفة يأتي يفخر على صاحبه بأنّه زاد عليه بقتل العلويّين، و قال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (1)، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ حسب و نسب ينقطع إلّا حسبي و نسبي.
و كره اللّه استئصال أهل البيت و أراد بقائهم في الدنيا، فلن تجد اليوم بقعة من بقاع الإسلام إلّا و فيها من السادة الآحاد أو العشرات أو المئات و الآلاف، يموجون كما يموج النمل في قراه، و يلعنون ظالمي آبائهم و أجدادهم كما يلعنون الشامتين بهم، و خلاصة الأمر أنّ أبا مسلم المروزي رفع اللعن عن أهل البيت.
أمّا التعصّب فقد كان ضاربا بجرانه بين الملل الإسلاميّة حتّى وصلت النوبة إلى الصاحب الأعظم شمس الحقّ و الدين محمّد صاحب الديوان، فرفع التعصّب عن العالمين و صار سادات الدنيا و علماء الزمان بإكرامه و إنعامه عليهم و نظمه لأمورهم
ص: 89
و إدرار المعاش عليهم مرفّهين، و لم يشاهد السادات في الحقب كلّها مثل هذه العزّة، و مثل هذا التقدير و الاحترام الحادث في زمانه، و كان سادات أهل البيت و أولاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقاسون الأمرّ مع الخصوم و المخالفين في مدى الأحقاب و السنين، و كانوا واقعين تحت طائلة العداوات و الخصومات، يتحمّلون المحن و الشدائد و الشتائم، بل شنّت عليهم الحرب العوان إلى هذا اليوم، حتّى بلغت النوبة الملك و العاهل. مخدومنا محبّ أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، موالي العترة الطاهرة، رضيع قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (1) وارث ملك دارا و الاسكندر المهيب: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ (2)، سيف اللّه: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (3) فأخرج العصبيّة من هامات القدريّة، انتقام اللّه على المنافقين، حجّة اللّه على سلاطين الجور و الجبر، بهاء الحقّ و الدين محمّد بن محمّد صاحب الديوان، الذي سلب القوّة في العالم كلّه من المنافقين و المعاندين و المخالفين، فلا يستطيع أحد منهم و إن أوتي الحول و الطول أن يظهر عصبيّة أو خصاما، بل أكثر القوم خوفا من هذه الدولة يظهرون التشيّع و ليكن ما يكون.
و إنّي أنا العبد الأقلّ أحبّ أن أبيّن بعض الدلائل على إمامة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و أولاده عليهم السّلام قبل البدء في الموضوع المزمع بيانه لأنّ التوليّ سابق على التبرّي، لكي لا يخلو هذا الكتاب النفيس من فائدتين، و يكون مرجعا للشيعة، و يلمّوا منه بتحقيق المذهب، لأنّ علمائنا حين فقدوا الناصر و كثر عليهم العدوّ مالوا عن التصريح إلى التلميح، و اكتفوا عن البيان بالتعريض و الكنايات، و ما
ص: 90
يسطرونه في أسفارهم لا يعدو التعريض إلّا القليل منهم، و لكنّي أنا العبد واثق باللطف الإلهي بمعاجز الأئمّة عليهم السّلام، و ما علمته كتبت أربعة دوانق منه و ذهب دانقان هدرا «لأنّ الإجماع حصل بأنّ التقيّة واجبة ...» (1).
و لقد وجدنا نحن العون و الظهير بسلطان كمخدومنا بهاء الدين محمّد، و لم يكن للعلماء هذا السند و الظهير، و ما توفيقي إلّا باللّه، و ما الاستعانة إلّا منه، و عليه أتوكّل و إليه أنيب.
ص: 91
الدليل الأوّل: اعلم أننا وجدنا الأمّة اختلفت بعد نبيّها بالخلافة، فقال بعضهم: أبو بكر، و قال بعضهم: عليّ، و لمّا بحتنا الأمر و قلّبناه على وجوهه و فحصناه فحصا دقيقا وجدنا ثلاثا و سبعين مذهبا، مدحوا عليّا في كتبهم العلميّة و على لسان خطبائهم و وعّاظهم و أهل بيته و أثنوا عليه و عليهم و لم يعترضهم الشكّ في إمامته و لم يختلفوا و لو يوما واحدا، إلّا أنّ طائفة قالوا إنّه الإمام بعد النبيّ بلا فصل، و طائفة قالوا بعد عثمان. و اتفقت فرق الشيعة و هم ثمانية عشر فرقة على إمامته و إبطال إمامة الشيخين، فحصل الإجماع من الفرق الإسلاميّة كافّة على إمامته و بقي من عداه موضع تنازع و اختلاف، و أهل العقل يدركون على أنّ الاقتداء بالمتفق عليه أولى من المختلف فيه على كلّ حال.
الدليل الثاني: رأيت العالمين اتفقوا على عدالة عليّ و صلاحيّته و علمه و زهده و ورعه، و قال
ص: 92
الشيعة بعصمته بالدلائل العقليّة و النقليّة، و الإجماع حاصل على عدم معصوميّة أبي بكر و كان مشركا في ستّ و أربعين سنة من عمره حتّى أسلم، و اختلفوا في عدالته فنفاها بعضهم و كذلك أهليّته، و أثبتهما البعض الآخر له بعد الإسلام.
و لمّا لم يكن رسول اللّه بين ظهرانينا ليقطع مادّة النزاع بيننا و نقتدي به وجب الاقتداء بمقطوع العدالة و الورع و الصلاحيّة، و الاقتداء به أولى من الاقتداء بمن اختلف في عدالته، و طال النزاع حولها حتّى بلغت الأقوال فيها الآلاف، و لو عمد القوم إلى الانصاف، و أخرجوا التعصّب للمذهب من رؤوسهم فإنّهم لا يستطيعون إثبات العصمة و الأهليّة لأحد من الناس لا سيّما بناءا على مذهبهم الذي يجيز المعاصي حتّى على الأنبياء، و يقولون: ليس من المستحيل أن يسلب اللّه العبد إيمانه عند موته و يحلّ محلّه الكفر بإرادته، و في مذهب الشيعة لا يجوز هذا الظلم على اللّه تعالى.
أمّا الذين أثبتوا له الأهليّة و الصلاحيّة فحجّتهم ظاهرة، و أمّا الّذين نفوهما عنه فإنّهم قالوا: لو كانت للرجل صلاحيّة أو ورع لم يتقدّم على عليّ صاحب الحقّ و لم يغصب فدكا من فاطمة الزهراء عليها السّلام التي نحلها النبيّ (1) إيّاها، و لأعطى الخلافة عند هلاكه إلى عليّ عليه السّلام لأنّه صاحب الحقّ، و أجرى الحدّ على خالد بن الوليد الذي زنى بزوج مالك بن نويرة كما أشار عليه عمر بن الخطّاب و لكنّه رفض ذلك.
الدليل الثالث: طالعت كتب التاريخ، و السير زائدا على ذلك حاورت علماء الطوائف متفحّصا
ص: 93
فرأيت أنّه ما من نبيّ أو رسول كان خليفته و القائم مقامه مشركا من قبل و آمن بعد سلخ أربعين سنة من عمره في الشرك، و خلّى ورائه ثلاثمائة و ستّين صنما ثمّ أسلم، و لمّا لم يشاهد هذا في تاريخ الأنبياء فإنّ نبيّنا و هو الأفضل و خاتم الأنبياء كيف يكون خليفته على خلاف ما عليه خلفاء الأنبياء، و اللّه تعالى يقول: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ (1)؟ و كيف يرتكب خليفة المعاصي و يفعل النواهي و عبد اللات و العزّى إلهين من دون اللّه؟ و جميع فرق الإسلام يقولون: إنّ عليا عليه السّلام لم يشرك باللّه طرفة عين أبدا، فوجدت العدالة و العفّة و العصمة هذه اللوازم للإمامة موجودة في عليّ عليه السّلام و ليست في غيره من سائر الخلفاء فقطعت ببطلان خلافتهم و صحّة خلافته عليه السّلام.
الدليل الرابع: تتبّعت آثار و أخبار و تواريخ علماء السلف فوجدت أنّ نبيّا لم يخرج من الدنيا حتّى يكون ذرّيّته و أقربائه خلفائه و القائمين مقامه؛ فكان وصيّ آدم ولده شيث و اسمه هبة اللّه، و وصيّ نوح سام ابنه، و أولاد إبراهيم: إسماعيل و إسحاق أوصيائه، و وصيّ يعقوب يوسف، و موسى أقام مقامه أخاه هارون في حياته، و يوشع بن نون بعد وفاته، و يوشع بن نون عمّ موسى، و داود ولده سليمان، و عيسى و يحيى و كلاهما أبناء خالفة، و زكريّا قريب عسى، و ما فعله هؤلاء الأنبياء من نصب أقاربهم خلفائهم لا بدّ من كونه بأمر اللّه تعالى فيكون هذه السنّة مطّردة في جميع الأنبياء من اللّه تعالى، كما قال: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (2) و مفهوم هذه الآية: إنّك ماض على سنن من قبلك من الأنبياء.
ص: 94
و الإجماع حاصل على أنّ سنّة الأنبياء لم تنسخ في هذه الشريعة فلا بدّ من بقاء التوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة لكي لا يكون معنى الآية معطّلا.
و قال: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ (1) و كان إبراهيم قد استخلف ذرّيّته فلا بدّ من كون خليفة نبيّنا من أقربائه، وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (2) و لم يكن مستحقّا لهذا الأمر و مؤهّلا له بعد النبيّ من أقربائه إلّا عليّ و أولاده عليهم السّلام لو لا ما فعله الصحابة.
الدليل الخامس: كذلك استقرأت الكتب و إجماع أهل القبلة فلم أجد رسولا مات و لم يوص إلى أحد، كما قال تعالى: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (3)، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من مات بلا وصيّة مات ميتة جاهليّة (4). و نظير هذه الأخبار الدالّة على تحريضه أمّته على الوصيّة، فلا بدّ من أن يبادر إلى العمل بها قبل أمّته لأنّ اللفظ ورد بصيغة العموم، و اللّه تعالى يقول:
أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (5).
و الإجماع منعقد على أنّ أبا بكر و عمر لم يكونا وصيّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بل الوصيّ عليّ عليه السّلام، يشهد بذلك المؤالف و المخالف، على ذلك و كان أوصياء أنبياء السلف أئمّة
ص: 95
و لم يكونوا خلفاء حيث لم يكن في ذلك الزمان خليفة فينبغي أن يكون في زماننا وصيّ نبيّنا إماما كذلك.
الدليل السادس: قال اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (1)، و قال: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (2)، و يس محمّد صلّى اللّه عليه و آله بدليل قوله تعالى: يس* وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3).
و آل إبراهيم هم إسماعيل و إسحاق و يعقوب كانوا جميعا أنبياء و أوصياء، و آل عمران موسى و هارون و كانا نبيّين و لهما اختيار الأنبياء في زمانهما، و كان نبيّنا أفضل الأنبياء فينبغي أن يكون آله أفضل الآل من آل إبراهيم و آل عمران و كان لهما مرتبة النبوّة، و لم يكن أبو بكر و عمر من الآل بالإجماع و إنّما آله عليّ و الحسن و الحسين و باقي الأئمّة عليهم السّلام، و الذي كان مشركا ثمّ أسلم لا يقدّم على من هو أفضل من الأنبياء و هم آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و لا يمكن أن يراد بالآل جميع الأمّة لتخصيص اللفظ في القرآن بآل إبراهيم و آل عمران، و بظاهر اللغة لقول علماء السلف: آل الرجل ما يؤول إليه بالنسب و هو مشتّق من الأوّل و هو الرجوع، و تكون الأفضليّة بالعصمة و العلم و الورع و الجهاد في سبيل اللّه، و لا يوجد هذا المعنى إلّا في عليّ عليه السّلام و يفقد ذلك الصحابة كلّهم في أنفسهم على كلّ حال.
ص: 96
الدليل السابع: لا خلاف بوقوع الخلاف بين المهاجرين و الأنصار على الخلافة و كانت حجّة المهاجرين عليهم أنّ «الأئمّة من قريش» و رسول اللّه منهم، و كون الإمام من قريش لأجل قرابتهم من النبيّ، و الأنصار ليست لهم هذه القرابة يقينا، و عليّ و الحسن و الحسين وارثوا رسول اللّه، و عليّ ابن عمّه و الحسنان ابناه.
و القرابة التي كانت لأبي بكر مع النبيّ صلّى اللّه عليه و اله كانت لعمرو بن العاص و لخالد بن الوليد و لسائر القرشيّين و لم يكن أحد من هؤلاء يستحقّ الخلافة لبعد قرابتهم و رفع العصمة عنهم و نفي النصّ بشأنهم، أو لخوفهم من اللّه تعالى القائل: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (1) فلم يتقدّم أحد منهم إلى هذا الخطر العظيم ما عدى أبا بكر الذي صدقت عليه الآية: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (2)، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه اختار من ولد إبراهيم، إسماعيل، و اختار من إسماعيل قريشا، و اختار من قريش هاشما.
و لا يحقّ للصحابة أن يؤخّروا من قدّمه اللّه و اختاره و يخذلوه و يعدوّه رعيّة، و يحكموا غيره الذين خذلهم اللّه و يقدّموهم، و يعدّوا اختيار أبي سفيان المنافق و خالد بن الوليد و عمرو بن العاص مقدّما على اختيار اللّه و راجحا، فإذا ثبت هذا ثبتت إمامة عليّ و خلافته.
الدليل الثامن: اشتهر عند المؤالف و المخالف بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ: الحقّ مع عليّ و عليّ مع
ص: 97
الحقّ يدور معه حيثما دار (1). و إذا ثبت بهذا الحديث أنّ الحقّ مع عليّ، تكون كلّ دعوى تخالفه باطلة، كما قال تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (2) و لازم هذا بطلان خلافة أبي بكر بصورة واضحة و صريحة.
الدليل التاسع: روت أمّ سلمة و نقل روايتها المخالف و المؤالف عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: عليّ مع القرآن و القرآن مع عليّ لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض (3)، و الخصم يعترف بهذا، فمن لم يكن مع القرآن كان ضالّا مضلّا، و ثبت لدينا بنقل شايع مستفيض أنّ عليّا عليه السّلام قال: ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه (4)، و قوله: أنا أوّل من يحشر يوم القيامة للخصومة (5) و أمثال هذه الشكايات التي صدرت من جنابه، و أجمعت
ص: 98
الأمّة على أنّ الحقّ مع القرآن، فمن خرج على القرآن كان ضالّا فاسقا و هو على الباطل، و عدوّ القرآن عدوّ اللّه و رسوله، فمن كان عدوّ اللّه و رسوله لا يليق بالخلافة كذلك القرآن دستور الشريعة الصامت و الإمام دستورها الناطق، و دستور الشريعة مقدّم و عدوّه عدوّ اللّه.
الدليل العاشر: ينبغي أن يكون الإمام أعلم رعيّته، له علم بكلّ ما تحتاجه و إلّا احتاج إلى إمام فوقه يعلمه و هذا يجرّ إلى التسلسل، و التسلسل باطل، و عليّ أعلم الصحابة و جاء فيه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أقضاكم عليّ و أعلمكم عليّ (1) و كان يفتيهم، و لم يستطيعوا البتّ في قضيّة في غيابه، و لقد قال عمر ما يقرب من سبعين مرّة: لو لا عليّ لهلك عمر، و جمعت قضايا الإمام عند الفرق كلّها.
و جاء في كتب أهل القبلة أنّه سئل أبو بكر و عمر عن قوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (2) فقالا: لا نعرف معنى الأبّ، و قال عليّ عليه السّلام على المنبر مرّة بعد أخرى و المهاجر حاضر: سلوني قبل أن تفقدوني، و قال: علّمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألف باب من العلم ففتح لي من كلّ باب ألف باب، فإذا ثبت كونه الأعلم ثبتت إمامته لأنّ
ص: 99
تقديم الجاهل على العالم قبيح عند العقلاء كما قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (1)، و قال: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (2).
الدليل الحادي عشر: اعلم بأنّ القوّة و العلم من صفات الكمال و صفات الأنبياء، فقد قال اللّه تعالى:
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (3).
و قال في حقّ جبرئيل: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (4).
و لمّا ذكر طالوت و وصفه لبني إسرائيل بعد إنكارهم نبوّته، قال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ (5).
و قال عن داود: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ (6).
و قال عن موسى حكاية لقول ابنة شعيب: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (7).
و قال عن هود: وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ (8).
ص: 100
و جعل العلم في الأنبياء ضمن صفات الكمال و حصول القوّة و العلم لهم برهانا على صحّة نبوّتهم و إمامتهم، هذا و القوم يعلمون أنّ شيوخهم ليس عندهم عشر معشار ما لعليّ عليه السّلام من القوّة و العلم فلم يؤثر عنهم اشتراك في حرب أو قتل كافر على أيديهم، أو أنّهم أصلحوا اعوجاجا أو خلالا في الإسلام، بل كانوا دائما مصداقا لقوله تعالى: وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (1) كما فعلوا يوم أحد.
و لا يخفى على العلماء أنّ عثمان بن عفّان فرّ ثلاثة أيّام في وقعة أحد ثمّ عاد بعدها و كان مختفيا هذه المدّة كلّها في غار و لم يملك قوّة القلب التي يخرج بها منه، فهذا علمهم و هذه شجاعتهم، و لكن إذا يحاس الحيس يتقدّمون، و كان عليّ ظاهرا و لم يطلبه أحد.
و إذا تكون كريهة أدعى لهاو إذا يحاس الحيس يعدى جندب و لمّا ثبت أنّ عليّا أعلم و أشجع ثبتت إمامته و بطلت إمامة غيره على الوجه الأحسن.
الدليل الثاني عشر: لقد حصل الاتفاق منّا و منهم و بشهادة أبي بكر أنّه لا بجوز اتّباع غير عليّ عليه السّلام لا سيّما بناءا على مذهب الخصم من صحّة إمامة أبي بكر، فلقد قال بحضور المهاجرين و الأنصار على منبر رسول اللّه: أقيلوني و لست بخيركم و عليّ فيكم، و يزعم الخصم أنّه ندم على قبوله الخلافة. إذن، خلافته لم تصحّ بأدلّة عقليّة لأنّ العقل ليس بحجّة عند الخصم، و لم تكن بالنقل إذ لو كانت بالنقل لما وقع الخلاف (2)
ص: 101
بين المهاجرين و الأنصار و مع ذلك فالخصم لا يدّعي نقلا يدلّ على النصّ عليه، فلم يبق في جعبتهم إلّا الاختيار، و كذلك تمّ فعلا حيث اختاره الصحابة، و لكنّه عزل نفسه و أخرجها من الخلافة و لم يأتنا خبر أكيد باختيارهم ثانية له أم لا.
و يظهر من كلامه أنّ خلافته باختيار الأمّة و يقول اللّه تعالى: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (1) فسلب الاختيار من الأمّة.
و اعترف بأنّه ليس خيرهم فتناول الحكم جميع الصحابة فلم يستثن أحدا فيقتضي على هذا أن يكون كلّ صحابيّ خيرا منه و أكبر و أعلم، و على هذا القياس يكون مفضولا لكلّ صحابيّ، و الصحابة خير منه فيكون تقدّمه باطلا لا سيّما و قد قال: «و عليّ فيكم» أي أنّ الحقّ معه و الأهليّة له و فيه و هو حاضر لديكم فانتخبوه.
الدليل الثالث عشر: لمّا أنزلت سورة برائة و فيها نبذ العهد المشرك أعطاها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي بكر و بعثه إلى مكّة، و لمّا خرج أبو بكر من المدينة هبط الأمين جبرئيل على النبيّ و قال له: يا رسول اللّه، إنّ اللّه يقرئك السلام و يقول لك: لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك، فقال النبيّ: عليّ منّي و أنا من عليّ، فوجّهه على ناقته العضباء و كانت لرسول اللّه، و أمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه برائة و يقرأها على الناس بمكّة، و قال:
خيّره بالرواح معك أو الرجوع، و العبارة النبويّة هي: اركب يا فتى ناقتي العضباء و الحق أبا بكر فخذ برائة من يده و امض بها إلى مكّة فانبذ بها عهد المشركين إليهم،
ص: 102
و خيّر أبا بكر بين أن يسير مع ركابك أو يرجع إليّ ...
فلمّا وصل عليّ إلى أبي بكر خاف و أخذ يسأل عليّا عليه السّلام عن الحال، فقال: خير إن شاء اللّه، و أخبره بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا رجع إلى رسول اللّه، قال: يا رسول اللّه، إنّك جعلتني لأمر طالت الأعناق إليه، فلمّا توجّهت له رددتني عنه، هل نزلت فيّ آية؟ قال: لا و لكن الأمين هبط عليّ عن اللّه تعالى بأنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك، و عليّ منّي و لا يؤدّي عنّي إلّا عليّ عليه السّلام (1).
و كانت قوّة الإسلام بنبذ عهد المشركين، هذا و به ظهر صلاح حال المسلمين، و كان طلائع فتح مكّة، و هذا ملحق بمرتبة أمير المؤمنين العظيمة و مقاماته الرفيعة فإنّ اللّه لم ير من يليق لهذه المرتبة و هذه العزّة سواه، و شهدت بهذا كتب ثلاثة و سبعين مذهبا.
و وجه الاستدلال به أنّ سنة النبيّ باقية لا تتغيّر لا سيّما السنّة التي اعتضدت بنصّ إلهي فهي ليوم القيامة باقية: وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (2) فيكون على هذا عزل أبي بكر قائما إلى يوم القيامة، و ولاية أمير المؤمنين و توليته كذلك باقية إلى يوم القيامة، و العجب من قوم يرونه خليفة و اللّه تعالى لم يره أهلا لتبليغ آية إلى الخلق حتّى أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بواسطة جبرئيل أن يعز له و ينصب عليّا عليه السّلام لهذا العمل الكبير.
ص: 103
الدليل الرابع عشر: لمّا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالهجرة من مكّة، أمر عليّا أن ينام في فراشه، و الحكاية على النحو التالي:
ائتمرت قبائل قريش على قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهبط جبرئيل عليه و أخبره بما يعدّون له، و قال له: يا محمّد، إنّ هذه الجماعة تريد قتلك و استئصال شريعتك فاستخلف عليّا مكانك و مره بالنوم في فراشك، فأحضره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حاوره في الأمر، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: يا رسول اللّه، أو تنجو إن رقدت أنا في فراشك و تسلم نفسك أم لا؟ فقال رسول اللّه: نعم أسلم إن شاء اللّه إن نمت في فراشي، فنام عليّ عليه السّلام ليلا في فراشه و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متخفّيا من مكّة و نادى مناديه بين أصحابه أن لا يخرج الليلة أحد من بيته من أصحابي، فرأى أبا بكر في طريقه قائما في الطريق، فقال: يا أبا بكر، ألم تسمع النداء؟ قال: نعم سمعته و لكنّي رأيت قريشا مختلفة الأهواء فحضرتهم، فاصطحبه معه لأنّ الصلاح في ذلك، و قال: ربّما تعرّض لضرب قريش فأخبرهم عنّي، و أرسل إلى عليّ عليه السّلام في اليوم الثالث أن أحمل أهلي؛ النساء و بناتي معك فإنّي لا أثق بغيرك و لا أعتمد على سواك في العالم كلّه لطهارتك و أمانتك و طيب نفسك.
فخرج عليّ عليه السّلام من بين الأعداء بعقل و رأي صائب و كفائة خلقيّة عظيمة، بحيث لم يلحق بأحد من الخارجين معه أيّ ضرر أو يشعر بخطر، و لم يظفر بهم أحد من الكفّار، و لم يجرأ أحد على التعرّض لهم في الطريق من قطّاعه لعلمهم بشجاعة عليّ عليه السّلام، و سار من مكّة ماشيا على قدميه مهاجرا حتّى بلغ المدينة و وصل إلى «قبا» و صحب رسول اللّه بأهله و عياله إلى المدينة بيوم واحد.
و لمّا كان عليّ في أوّل الهجرة خليفة رسول اللّه و القائم مقامه فلا بدّ أن يكون
ص: 104
خليفته أيضا في ختام الأمر لتبقى سنّة الرسول قائمة دون نسخ أو تحريف إلى يوم القيامة، و كان أبو بكر في تلك الآونة خادما، و شأنه شأن المكارين في خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان خليفته على أمّته عليّ عليه السّلام، و لم تكن لياقة ذلك لبشر سواه، و لمّا كان في هجرته الأولى من بلد إلى بلد على خلفته فينبغي أن يكون في هجرته الأخرى من الدار الفانية إلى الدار الباقية عليّ أيضا ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ (1).
الدليل الخامس عشر: لمّا فرغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من غزاة حنين أمره اللّه تعالى بأن يبادر إلى غزاة تبوك، و تبوك موضع في بلاد الروم، و جائه جبرئيل فأخبره بعدم الحرب هناك لذلك ما من حاجة إلى وجود عليّ في هذه الغزوة، لأنّهم سوف يصالحونك و ينالون رضاك، فأضمر المنافقون و أعراب المدينة الشرّ في أنفسهم و قالوا: سوف نغزوا المدينة و نغير عليها بعد خروجه و نأسر نساء المهاجرين و الأنصار و أطفالهم، و هذا يؤدّي إلى خراب الدين و تشويه سمعة الإسلام و تدنيس عرض أهله، و لمّا علم اللّه ما في قلوبهم أمر جبرئيل النبيّ بإبقاء عليّ في المدينة لحمايتها و استخلافه بها رعاية لحفظ دين الإسلام: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ (2) و أعلمهم اللّه بوجود جماعة من المنافقين كثيرة بينهم، فأراد سبحانه أن يميز المنافقين عن المؤمنين و تعرف المؤمنون نفاقهم.
و لمّا علم الحال من جبرئيل، أمر المنادي بتحريض المسلمين على القتال أيّاما، فأبى كثير منهم و تقاعسوا عن الجهاد، و بعضهم احتجّ بالحرّ الشديد و نضوج الثمر فلو أنّهم ذهبوا لتلفت الثمرة، و مع هذا فإنّ قوّتنا عاجزة عن قتال عدد مثل الروم،
ص: 105
فأقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّا مقامه و جعله نائبا عنه و خليفة، و خرج من المدينة في وضح النهار، فأراد المنافقون أن يأخذ عليّا معه ليخلو لهم الجوّ، و ينالوا مناهم، فأرجفوا به و قالوا: لم يتركه في المدينة حبّا به و إنّما استثقالا له، فلمّا بلغت مقالتهم أمير المؤمنين عليه السّلام خرج مسرعا ينحو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأخبره بما سمعه من ذوي النفاق، قائلا: يا رسول اللّه، إنّ المنافقين يزعمون أنّك إنّما خلّفتني استثقالا و مقتا، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ارجع يا أخي إلى مكانك فإنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي، و دار هجرتي، و قومي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي (1).
ص: 106
ص: 107
ص: 108
ص: 109
و هذا نصّ صريح في استخلافه، لأنّ هارون كان خليفة موسى عليهما السّلام، و الآيات شاهد على ذلك: قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (1)، و قال اللّه تعالى في جوابه: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (2)، و لو عاش هارون بعد موسى لما جاز عزله؛ لا بعد وفاته و لا في حال حياته، لأنّ دعاء موسى كان على الإطلاق، و أجابه اللّه جوابا على العموم: أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى.
و بناءا على هذا فقد ثبت النصّ على إمامة عليّ عليه السّلام و الحجّة قائمة في فعل الرسول و سنّته إلى يوم القيامة.
الدليل السادس عشر: لمّا حجّ النبيّ حجّه الوداع و أقبل قافلا منها ينحو المدينة وصل إلى موضع يدعى غدير خمّ و هو واد قد اجتمعت فيه مياه السيول، و لم يكن في ذلك الموضع مكان للنزول، و كان الجوّ حارّا جدّا، فنزل جبرئيل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (3).
ص: 110
و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على خوف من المخالفين و المنافقين من الصحابة، لأنهم أعلنوا عداوتهم لعليّ عليه السّلام و كان وجلا منهم، فوعد اللّه نبيّه بالحفظ منهم و من شرّهم، و كان الموضع مفترقا للقبائل إلى ديارهم و مساكنهم و بواديهم، فنزل النبيّ و أمر المسلمين بالنزول، و أمر مناديا ينادي: «الصلاة جامعة»، فداروا بالنبيّ و صنعوا له منبرا من حدوج الإبل، فرقاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و رفع عليّا معه، و خطبهم خطبة بليغة، و لمّا فرغ منها و فيها الحمد و الثناء، قال:
يا قوم، إنّي دعيت و يوشك أن أجيب، و قدّمني خفوق، من بين أظهركم، و إنّي مخلّف فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، ثمّ رفع صوته عاليا و قال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: اللهمّ بلى، فقال لهم على النسق و رفع بضبع عليّ حتّى بان بياض إبطيهما، و قال: فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، ثمّ نزل من المنبر و ذهب إلى الخيمة المعدّة لذلك، و كان الحرّ شديدا إلى درجة لفّ القوم أرجلهم بأرديتهم، و لاذوا حول المنبر.
و لمّا دخل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخيمة أذّن المؤذّن للصلاة، فصلّى بهم النبيّ جماعة، و أمر بنصب خيمة أخرى إلى جانب خيمته و أجلس عليّا فيها، و أمر من كان حاضرا هناك بالسلام عليه بالإمامة، و أن يبايعوه بإمرة المؤمنين فبايعه المهاجرون و الأنصار كلّهم، و من بينهم عمر بن الخطّاب، فحيّاه و هنّئه و قال فيما قال: بخ بخ يا علي، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة إلى يوم القيامة، و لمّا بايعه الرجال أمر النساء ببيعته، و كانت على النحو التالي: أمر بإناء ملي ء بالماء و وضع عليّ يده بالماء، و وضع الإناء على باب الخيمة فتأتي النساء للسلام عليه ثمّ يضعن أيديهنّ بالطشت و يذهبن، و كان هذا هو شكل بيعتهنّ.
ص: 111
و استأذن حسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا رسول اللّه، ائذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضيه تعالى، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا حسان، على اسم اللّه، فقام حسان واقفا على قدميه و دار به الناس و اجتمعوا حوله، فأنشد أبياتا من الشعر مطابقة لمقتضى الحال، و لمّا فرغ من الإنشاد قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تزال يا حسان مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك، و لمّا كان النبيّ يعلم ما يصير إليه أمر حسان جعل الدعاء مشروطا بلفظ «ما نصرتنا» و لم يجعله مطلقا، و مثله القول في نساء النبيّ لمّا علم اللّه مصير بعضهنّ جعل القول فيهنّ مشروطا لا مطلقا: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ (1).
و لمّا علم طهارة أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و عصمتهم و ثباتهم على الإيمان و الصلاحيّة، جعل آية مثوبتهم مطلقة و ليست مشروطة، كما قال تعالى: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً* إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً* فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً* وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (2).
الدليل السابع عشر: قال اللّه تعالى: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ (3)، يقول اللّه تعالى: الرحم أولى من غيره بمقام رحمه، و أمير المؤمنين عليه السّلام حاز الصفات الثلاث: فهو رحم و هو مهاجر و هو مؤمن:
و أمّا الدليل على إيمانه فسورة هل أتى و أمثالها، و الحديث المشهور الذي رواه
ص: 112
المخالف و المؤالف عن عليّ عليه السّلام قال: شكوت إلى رسول اللّه حسد الناس لي، فقال:
أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت و الحسن و الحسين (1).
و الحديث المشهور أيضا: اشتاقت الجنّة إلى ثلاث: عليّ و عمّار و سلمان (2).
و عندنا أنّ أبا بكر لا يستحقّها لأنّه ليس مهاجرا كما قيل إن شاء اللّه، و العبّاس و إن كان رحما إلّا أنّه ليس مهاجرا لأنّه كان من طلقاء بدر.
و لمّا اجتمع في عليّ عليه السّلام الإيمان و الهجرة و الرحم كان أولى بمقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غيره وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (3).
الدليل الثامن عشر: قال اللّه تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ (4) أنزل اللّه هذه الآية يوم المباهلة، و أبناءنا هنا الحسنان عليهما السّلام، و نساءنا فاطمة عليها السّلام بإجماع المفسّرين و اتفاق العالمين، و لم يكن أبو بكر و عمر حاضرين حين المباهلة، و أنفسنا لم يكن أحد غير عليّ عليه السّلام، و لا يعقل أن يكون الداعي و المدعوّ واحدا، فلزم أن يكون أنفسنا غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. ثمّ إنّ العطف يدلّ على
ص: 113
المغايرة ثمّ لا يجوز الفصل طبقا لقواعد اللغة بين الشي ء و نفسه بأجنبيّ (1)، فتبيّن من هذا أنّ أنفسنا غير الداعي، و لقد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا علي، نفسك نفسي، و دمك دمي، و لحمك لحمي (2).
و لمّا ثبت كون عليّ عليه السّلام نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكون خلافة أبي بكر و عمر باطلة لوجود نفس رسول اللّه بينهم، و يحرم تقدّمهما عليه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (3).
الدليل التاسع عشر: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (4). لم يؤثر عن أحد منذ خلق اللّه آدم إلى يومنا هذا أنّه أعطى الزكاة و هو راكع سوى عليّ عليه السّلام، و الحكاية كالتالي:
كان عليّ عليه السّلام يصلّي في مسجد رسول اللّه، فجاء سائل و الإمام راكع، فسأله، فأشار إليه باصبعه إلى خاتم في بنصره.
قال جار اللّه العلّامة: كان من عادة عليّ عليه السّلام أن يتختّم باليمين، و ما قيل من أنّ
ص: 114
الصلاة سنّة و الصدقة سنّة و لو قيل بأنّهما فرضان فلا يتداخلان أيضا لأنّهما متغايران، فالصلاة تغاير الزكاة.
و انتزع السائل الخاتم من اصبعه.
و في الآية إشاره إلى أنّه المتصرّف في أمور الدين و القيّم على الإسلام، و من كان بهذه الصفة أعني متصرّفا في أمور الدين بنصّ من اللّه و قيّما على عباد اللّه لا بدّ أن يكون إماما و وليّا على الناس.
الدليل العشرون: روي عن طريق المخالفين و الشيعة هذه الروايه المشهورة و هي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطى الراية يوم خيبر لأبي بكر، ثمّ أعطاها ثانية لعمر، و في الثالثة أعطاها لعمرو ابن عاص (1) فعادوا بها منهزمين، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: لأعطينّ الراية غدا رجلا يفتح اللّه على يديه، يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، فتطاولت إليها أعناق الصحابة، فلمّا أصبح الصباح نادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أين عليّ بن أبي طالب؟ قالوا: يا رسول اللّه، يشتكي عينيه، فبعث خلفه، فلمّا حضر وضع من ريقه في عينيه فعافاه اللّه حالا، فأعطاه الراية (2)، فقال عليّ عليه السّلام: أقاتلهم حتّى
ص: 115
يكونوا مثلنا؟! فقال: انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ثمّ أدعهم إلى الإسلام، و أخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه، فو اللّه أن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم.
و هذا الحديث أجمع عليه أهل القبلة، و هو دليل على عزل أبي بكر و عمر و نصب عليّ عليه السّلام، و غضب النبيّ عليهما، و حبّ اللّه لعليّ الصادق الصدّيق.
الدليل الواحد و العشرون: كانت خلافة أبي بكر بالبيعة و هي باطلة؛ لأنّ الإمامة لو كانت بالبيعة أو لو كانت البيعة تدلّ على صحّتها لكان بنو أميّة بأجمعهم أئمّة حتّى لعين اللعناء يزيد بن معاوية كان إماما حقّا، و من الممكن أن يبايع كافرا و لصّا جماعة فكيف تعقد بيعتهما، بل كيف يكون المبايع (بفتح الياء) خليفة على الأمّة ببيعة جماعة معدودة له، إذ أنّ هذه الجماعة بايعت عن أنفسها لا عن الآخرين، فلو أنكرها غيرهم لبطلت لأنّها لم تكن بأمر اللّه و رسوله.
ثمّ إنّ أبا بكر قال: «أقيلوني و لست بخيركم» فلو كان منصوصا عليه لكان قوله هذا كفرا لأنّه ردّ على اللّه و رسوله (1)، و لمّا كانت البيعة باطلة و أبو بكر تمّت له الخلافة بالبيعة فتكون خلافته باطلة أيضا، و ببطلانها تثبت خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام.
ص: 116
الدليل الثاني و العشرون: أوصى أبو بكر إلى عمر و جعلها عمر شورى (1)، و عثمان قتل من دون وصيّة، فإن كان أبو بكر محقّا فالثاني و الثالث مبطلان، و إن كان محقّين فالأوّل مبطل، و على المكلّف الاقتداء بهم، و الاقتداء بأيّ واحد منهم باطل لأنّه مناقض للاقتداء بالآخر لأنّهم اختلفوا، فيكون الثلاثة مبطلين، و الحقّ مع عليّ لأنّ الثلاثة كلّهم خالفوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و هذا الدليل بعينه يبطل مذهبهم لأنّ أبا حنيفة اختلف مع باقي الأئمّة في مسائل كثيرة، و مثله الشافعيّ، و تصحيح قول أيّ واحد من الأئمّة إبطال لقول الآخر و لحجّته، و لا ترجيح لأحدهم على الآخر فيكون جميعهم على الباطل، و الأئمّة الإثني عشر عليهم السّلام قول أوّلهم هو نفسه قول آخرهم، و لم يظهر خلاف واحد بينهم على الإطلاق.
فما كان من عند اللّه استحال أن يختلف، و ما كان من عند غيره فالاختلاف فيه كبير، كما قال اللّه تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2).
الدليل الثالث و العشرون: روى أنس بن مالك قال: أهدت أمّ أيمن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طائرا مشويّا، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك ليأكل معي هذا الطير،
ص: 117
فأرسلت عائشة و حفصة و كلّ واحد من النساء إلى آبائهنّ و قبائلهنّ ليحضروا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
يقول أنس: فجاء عليّ ثلاث مرّات و لكنّي أصرفه فأقول: رسول اللّه عنك مشغول، فيرجع من حيث أتى، إلى أن كانت الثلاثة فدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، ما أبطأك عنّي؟ فقال: يا رسول اللّه، هذه هي المرّة الثالثة آتي و يصرفني أنس، فقال لأنس: لم فعلت هذا؟ فقال: سمعت دعاءك يا رسول اللّه فأحببت أن يكون رجلا من الأنصار، فقال النبيّ: إنّ الرجل يحبّ قومه.
و هذه رواية لا خلاف فيها من أحد، و لمّا كان عليّ أحبّ الخلق إلى اللّه بإجماع المسلمين فيلزم تقديمه كما أنّ رسول اللّه أحبّ الخلق إلى اللّه (1).
الدليل الرابع و العشرون: كانت إمامة الرجلين باختيار من الصحابة، و الاختيار باطل؛ لأنّ الإمامة ركن
ص: 118
عظيم في الدين تعادل النبوّة و هي تقابل الرسالة كلّها، كما قال اللّه تعالى: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (1) فكيف يجوز أن توضع معظم أمور الدين باختيار الخلق لأنّه لو جاز اختيار الإمام جاز اختيار النبيّ أيضا، فإذا أجابونا بأنّ الرسول تصدّقه المعجزة أجبناهم بأنّ الإمام تصدّقه العصمة و النّص.
من جهة أخرى فإنّ اللّه تعالى نفى الاختيار عن الخلق حيث قال: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (2).
و من جهة ثالثة فإنّ موسى مع ما هو عليه من رتبة النبوّة اختار سبعين شخصا من قومه: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا (3) فاستحقّ جميعهم العذاب و الصاعقة بما قالوا: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ (4) و الغاية من تكرار هذه القصّة هو تنبيه الغافلين ليعلموا أنّ الناس ليس لهم اختيار مع اللّه تعالى في أمور الدين و الشريعة و إنّما عليهم الامتثال فحسب في الأمر و النهي، كما قال تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (5)، و إذا بطل الاختيار لم يبق إلّا النصّ و العصمة و هما متحقّقان في أمير المؤمنين و أولاده عليهم السّلام.
الدليل الخامس و العشرون: الحديث المتلقّى بالقبول من الأمّة جميعا: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح؛ من ركب فيها نجى، و من تخلّف عنها غرق و هوى (6).
ص: 119
و الغرض من هذا الحديث لزوم التمسّك بأهل البيت عليهم السّلام؛ فمن تمسّك بولايتهم نحبى، و من بعد عنهم هلك و هوى كقوم نوح، و هذا نصّ صريح على أنّ الشيعة من أهل الجنّة، من هنا حيث قال النبيّ: يا علي، شيعتك هم الفائزون (1).
و لمّا كان التمسّك بهم سبب النجاة كان التخلّي عنهم سببا للهلاك فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (2).
الدليل السادس و العشرون: أجمعت الأمّة على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، أنظروني (كذا) تخلفوني فيهما.
يقول زيد بن أرقم: نزل رسول اللّه على ماء بين مكّة و المدينة، فخطب الناس، و حمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: يا أيّها الناس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجبت، و أنا تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا كتاب اللّه و استمسكوا به، و أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي (3)، الحديث.
و يلزم بناءا على هذا ترك غيرهم.
ص: 120
الدليل السابع و العشرون: عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش (1).
ص: 121
و روي: لا يزال أمر الناس ماضيا ما ولّاهم اثنا عشر رجلا كلّهم من قريش.
و من قال: الأئمّة اثنا عشر، لا يريد بهم إلّا عليّا و أولاده، و لزم كونهم اثني عشر بناءا على قول الخصم كما ذكره في المصابيح.
قالت أمّ عطيّة: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جيشا فيهم عليّ، فسمعته و هو رافع يديه يقول: اللهمّ لا تمتني حتّى تريني عليّا (1).
و روى البراء بن عازب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنت منّي و أنا منك (2).
ص: 122
و روى البراء أيضا قال: رأيت النبيّ و الحسن بن عليّ على عاتقه، يقول: اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه، و قال للحسين: اللهمّ إنّي أحبّه و أحبّ من يحبّه.
قال ابن زعرة (1): رأيت النبيّ على منبره و الحسن بن عليّ إلى جنبه و هو يقبل على الناس مرّة و عليه أخرى، و هو يقول: إنّ ابني هذا سيّد، و لعلّ اللّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
و قال ابن عمر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الحسن و الحسين هما ريحانتاي من الدنيا.
و قال زيد بن أرقم: أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على فاطمة و الحسن و الحسين، فقال:
أنا حرب لمن حاربهم و سلم لمن سالمهم.
عن ابن ربيعة: إنّ العبّاس دخل على رسول اللّه مغضبا و أنا عنده، فقال: ما أغضبك يا عبّاس؟ قال: ما لنا و لقريش! إذا تلاقوهم تلاقوا بوجوه مستبشرة، و إذا لقونا لقونا بغير ذلك. فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى احمرّ وجهه ثمّ قال: و الذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّكم للّه و لرسول اللّه. ثمّ قال: أيّها الناس، من آذى عمّي فقد آذاني (2).
ص: 123
و هذه الأحاديث بأجمعها مرويّة من طريق المخالفين، و ترشد الخصم إلى خلافة أمير المؤمنين.
الدليل الثامن و العشرون: روى البراء بن عازب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ: أنت منّي و أنا منك.
و قال عمران بن حصين: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ عليّا منّي و أنا منه و هو وليّ كلّ مؤمن بعدي.
و روى زيد بن أرقم عن النبيّ أنّه قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و ولاية
ص: 124
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عامّة على جميع الخلق فيلزم أن تكون لعليّ مثل هذه الولاية.
قال حبيش بن جنادة: قال رسول اللّه: عليّ منّي و أنا من عليّ، و لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ (1).
و بناءا على هذا لم يحدث لأبي بكر و عمر تأدية الشريعة في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو يقدموا على أحد، و لم ينوبوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحكم يبلغونه الناس.
و لمّا آخى بين المهاجرين و الأنصار قرن كلّ واحد إلى نظبره و الشبه إلى شبهه مثل أبي بكر و عمر، و طلحة و الزبير، و أبي ذر و سلمان، و ترك عليّا وحده، فقال:
يا رسول اللّه، لم تركتني من غير أخ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنت أخي في الدنيا و الآخرة (2).
و قيل: قال العبّاس: يا رسول اللّه، لم تركت عليّا؟ فقال: ما أخّرته إلّا لنفسي.
و عن عليّ عليه السّلام: كنت إذا سألت من رسول اللّه أعطاني، و إذا سكتّ ابتدأني (3).
ص: 125
و عن جابر: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا عليّا يوم الطائف فانتجاه ...
و لمّا قدم المدينة و كان عدد أصحابه قليلا و حين بنى المسجد فتحوا من بيوتهم عليه أبوابا ليكونوا يدا واحدة و يعلموا أخبار بعضهم بعضا، فلمّا قوي الإسلام هبط جبرئيل و أمره بسدّ الأبواب إلّا باب عليّ، و قال النبيّ: لا يحلّ لأحد يستطرقه غيري و غيرك.
و روى البراء بن عازب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لعليّ عليه السّلام: أنت منّي و أنا منك.
و من هذه الأخبار التي رويتها من كتب المخالفين نستنبط بأنّ عليّا نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و حكمه حكمه، و كما أنّ التقدّم على النبيّ ضلالة فالتقدّم عليه ضلالة أيضا.
الدليل التاسع و العشرون: عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من سرّه أن يحيا حياتي و يموت يموتي و يدخل جنّة عدن غرسها ربّي فليوالي عليّا بعدي، و ليقتد بأولاده من بعده فإنّهم خلقوا من طينتي، رزقوا علما و فهما، فويل للمكذّبين
ص: 126
بفضلهم من أمّتي، لا ينالهم شفاعتي (1).
و عن فاطمة الكبرى قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ ولد أنثى ينتمون إلى عصبتهم إلّا ولد فاطمة عليها السّلام فأنا وليّهم و أنا عصبتهم (2).
و هذه الأخبار تدلّ على إمامة عليّ و أولاده.
الدليل الثلاثون: إنّ اللّه تعالى لم يجعل أحدا قسيمه سوى عليّ و أولاده، كما قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (3) فجعل الأقسام ثلاثة: اللّه و رسوله و ذووا القربى و هم عليّ و أولاده، و باقي الأصنام من يتامى و مساكين و أبناء السبيل و هم الذين يجتاحهم حاجة في الغربة و إن كانوا في وطنهم أغنياء بشرط كونهم من بني هاشم، فلم يستحقّ المساهمة مع اللّه و رسوله إلّا عليّ و أولاده، و هذا أعلى المناصب و دالّ على فضلهم، و تقديم المفضول على الفاضل قبيح على كلّ حال.
الدليل الواحد و الثلاثون: لم يوجب اللّه تعالى محبّة أحد من الناس على التعيين إلّا محبّة عليّ و أهل بيته،
ص: 127
و هم القربى الذين عناهم اللّه سبحانه بقوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1)، و الدليل على هذا هو الحديث المروي من طريق المخالف و المؤالف أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:
من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا.
ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له.
الا و من مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان.
ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير.
ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها.
ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة اللّه.
ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا.
ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة (2).
و غير خفيّ على العقلاء أنّهم غصبوا فدكا من الزهراء و سلبوا العترة الخمس، و أفتوى بإباحة دماء عترة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هذا بالضرورة ليس من المحبّة بل من العداوة.
الدليل الثاني و الثلاثون: عن البراء بن عازب، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: يا علي، قل: اللهمّ اجعل لي
ص: 128
عندك عهدا، و في قلوب المؤمنين ودّا (مودّة- المؤلّف)، فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (1). (2)
عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (3) فيوشع بن نون سبق إلى موسى بن عمران، و عليّ بن أبي طالب سبق إلى رسول اللّه.
و عن ابن عبّاس قال: نظر النبيّ إلى عليّ عليه السّلام، فقال: أنت سيّد في الدنيا و سيّد في الآخرة، حبيبك حبيبي و حبيبي حبيب اللّه، و عدوّك عدوّي و عدوّي عدوّ اللّه، و الويل لمن أبغضك بعدي (4).
و عن أبي سعيد الخدري، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، أنت معك يوم القيامة عصى من عصى الجنّة تذود بها المنافقين عن حوضي (5).
عن ابن عبّاس: ما كان أحد أعلم بسرّ رسول اللّه و جهره من عليّ بن أبي طالب.
عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام: ما بعث رسول اللّه عليّا قطّ إلّا أعطاه الراية (6).
هذا الأخبار بمجموعها جائت من طريق المخالفين و هي دليل إمامته و برهان على خلافته و على إبطال عمل الآخرين.
ص: 129
الدليل الثالث و الثلاثون: عن ابن عبّاس، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنا دار الحكمة و عليّ بابها، و من أراد الدار فليأتها من بابها (1).
و عنه عليه الصلاة و السلام و آله أنّه قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها (2).
و الغرض من هذا الحديث هو الدلالة إلى أنّ من أراد دخول الشريعة فعليه الإيمان أوّلا بولاية عليّ و أهل بيته عليهم السّلام، و منه قوله تعالى: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
ص: 130
أَبْوابِها (1) و معنى البيوت هنا أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الباب عليّ عليه السّلام و إلّا فيكون الكلام لغوا إذ لا فائدة من ذكر إتيان البيوت من أبوابها إلّا بهذا التأويل.
الدليل الرابع و الثلاثون: قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2)، و طاعة الرسول واجبة بالإجماع مطلقا فينبغي أن يكون حكم المعطوف و هم أولوا الأمر حكم المعطوف عليه و هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فطاعتهم مطلقا و على كلّ حال واجبة، و لا يصحّ أن يأمر اللّه بطاعة غير المعصوم الذي يصدر منه الخطأ و الذنب لأنّه ربّما أمر المطيع بالمعصية، و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (3).
و إذا جاز الخطأ و الذنب على أولي الأمر كان أبو بكر و عمر و خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و سعد بن سعيد و مروان بن الحكم و أبو سفيان و معاوية و يزيد كلّهم من جنس واحد لا فرق بينهم؛ فوجبت العصمة على هذا لأولي الأمر و هي ليست لأحد إلّا لعليّ و أولاده عليهم السّلام.
ص: 131
الدليل الخامس و الثلاثون: ذكر أحمد سقي صاحب «مناشير الصحابة» أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، و إلى نوح في تقواه، و إلى إبراهيم في خلّته، و إلى موسى في هيبته، و إلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام (1). أي إنّ هذه الأوصاف اجتمعت على الوجه الأكمل في الأنبياء و هي مجتمعة جميعها في عليّ عليه السّلام وحده، و الحقيقة أنّ ما تفرّق في الأنبياء منها اجتمع في عليّ، فهو بناءا على هذا أفضل من الأنبياء، و أبو بكر الذي أسلم عن شرك كيف يقال بأنّه أفضل من الأنبياء، و الاتفاق حاصل من المخالفين أنّ أبا بكر ليست له درجة أيّ واحد من الأنبياء.
و بناءا على هذا الحديث يكون عليّ عليه السّلام أفضل من الأنبياء، و كما أنّ موسى و عيسى و إبراهيم لهم التقدّم على رعاياهم في زمانهم و لا ينبغي لأحد من أتباعهم التقدّم عليهم فكذلك عليّ عليه السّلام و هو أفضلهم لا يحقّ لأحد التقدّم عليه في الإمامة و العمران من رعيّته.
و أمّا تعطيل إمامته و عزله عن تولّي شئونات الولاية فهو نظير تعطيل هارون و انزوائه أيّام ظهور السامري و عبدة العجل، و كما كان هارن يفتقر إلى القوّة التي تعينه على الخروج فعليّ مثله تماما، و لمّا نال القوّة في زمان معاوية أظهر نفسه و خرج إلى حقّه.
ص: 132
الدليل السادس و الثلاثون: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليّ خير البشر، من أبى فقد كفر (1). و من حيث كونه خير البشر لا يجوز لأبي بكر التقدّم عليه، و إن كان تغلّب بالقوّة وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (2).
الدليل السابع و الثلاثون: و إنّما احتاجت الرعيّة إلى الإمام لسلب العصمة عنهم، فلو جاز اقتراف الذنب على الإمام و سلبت العصمة عنه أيضا لاحتاج إلى إمام فوقه يرشده و يهديه و هكذا يحصل التسلسل. و الخلفاء الذين سبقوا الإمام إلى الحكم ليسوا من أهل العصمة باتفاق المسلمين، و الإمام عقلا و شرعا هو من امتنع عليه الخطأ و الذنب، و حينئذ لا بدّ من كونه عليّا؛ لأنّ من قال بعصمة الإمام لم يعد عليّا و أولاده فثبتت لهم العصمة.
الدليل الثامن و الثلاثون: قال اللّه تعالى بعد ذكره الأنبياء و أولادهم و ذرّيّاتهم: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ
ص: 133
بَعْضٍ (1) فأعطاهم ربّهم الولاية و الإمامة، فلو كان أبو بكر على حقّ لكانت الخلافة لأولاده، و يقال مثل ذلك في عمر، و لمنحهم اللّه ذرّيّة صالحة، و لكن لمّا كانت وصاياهم إلى الأجنبيّ لا إلى ذراريهم دلّ ذلك على نيلهم الحكم بالقهر و الغلبة، و بالغصب لا بحكم الشريعة و إذن من صاحبها.
أمّا عليّ عليه السّلام فكان من عترة النبيّ و أقربائه، و الحسن و الحسين إلى قائم آل محمّد من ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وارثيه؛ فالإمامة حقّهم بقول اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله.
الدليل التاسع و الثلاثون: روى المخالف و المؤالف عن مسروق، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: فاطمة بضعة منّي، يسوئني من سائها، و يسرّني من سرّها (2).
و روى حذيفة قال: ذهبت إلى خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال لي: إنّ هذا ملك لم ينزل الأرض قطّ قبل هذه الليلة، استأذن ربّه أن يسلّم عليّ و يبشّرني بأنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، و أنّ الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة (3).
ص: 134
و بناءا على هذه الأحاديث فإنّ من آذى فاطمة فقد آذى أباها و من آذاه فقد آذى اللّه، و من آذاه لا يستحقّ خلافة رسول اللّه و النيابة عنه.
و كذلك عليّ هو من أهل الجنّة و صادق القول فإذا كانت فاطمة أوذيت لأنّ أبا بكر غصبها فدكا و خالف كتاب اللّه و تمسّك بحديث مفترى فإنّه ردّ شهادة عليّ عليه السّلام و لم يعتن بحديث «فاطمة بضعة منّي» و لا بآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ (1)، و لمّا ثبتت عصمتها فكيف يردّ المذنب المخطأ شهادة المعصوم، و هذا الفعل من أعظم الخطيئات، و هذا ممّا يقول به الخصم أيضا، و من كانت حاله على هذه الكيفيّة فلن يستحقّ الخلافة أبدا، و لمّا بطلت خلافة الأوّل بإيذائه فاطمة ثبتت إمامة عليّ عليه السّلام لئلّا يخرج الحقّ من الأمّة.
الدليل الأربعون: اعلم بأنّه ما من نبيّ ينتقل من هذه الدنيا إلى الرفيق الأعلى إلّا و يظهر من بعده الظلمة و يدّعون مقامه و خلافته، و يستأصلون شأفة أهل بيته، و الدليل على ذلك من وجوه:
الوجه الأوّل: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كائن في أمّتي ما في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّه بالقذّة (2).
ص: 135
و معناه انّ ما يحدث في أمّتي حدث مثله في بني إسرائيل، و قال اللّه تعالى:
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (1) يعني يغيّرون كلام اللّه كما فعل اليهود و النصارى فإنّ أتباع النبيّ يفعلون ذلك.
و اتفق أهل السير و التاريخ بأنّ صفوراء زوج موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام بنت شعيب طغت و بغت و خرجت على يوشع بن نون وصيّ موسى كما فعلت عائشة بصحبة طلحة و الزبير بخروجها على أمير المؤمنين عليه السّلام، و تغلّب يوشع وصيّ موسى عليها و قتل الطاغين و أسر صفوراء بنت شعيب.
الوجه الثاني: قال اللّه تعالى: وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ (2) و يسمّى جماعة رهبانا و هم الذين يفصلون أنفسهم عن المجتمع و يضربون عرض الصحراء، و هذا يعتبر بدعة ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ بل هم الذين ابتدعوا هذه الحياة الخارجة على نظام الشرع (3).
الوجه الثالث: اتفق أهل القبلة على أنّ موسى و عيسى أخبرا أمّتهم بمبعث النبيّ و شرح أحواله كما أخبروها بكلّ نبيّ يأتي بعدهما، و لكنّ الأمّة لم تصخ سمعها إليهما و ركبت رأسها و أصرّت على كفرها و ضلالها سنين طوالا، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كائن في أمّتي ما كان في بني إسرائيل، فينبغي أن يجري بعد النبيّ ما جرى بعد موسى
ص: 136
و عيسى، و قال تعالى: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (1) و لكن النصارى ردّوا و قوله و أصرّوا على كفرهم و زعموا أنّهم قائمون على مستحكم الدين.
الوجه الرابع: و قال اللّه تعالى في سورة الأعراف بعد ذكره الأنبياء: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ ... الآية (2)، و هذا الوضع بعينه حدث فيما بين الصحابة لأنّهم جميعا يقرؤون الكتاب و يعلمون و يتركون العمل، و الخلف هو الذي يزعم أنّه خليفة و نائب لأحد و لكنّه كاذب و مفتري و خائن و مدغل في الدين و يستحقّ الذمّ على ذلك.
الوجه الخامس: قال اللّه تعالى في سورة مريم بعد ذكره الأنبياء: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (3) كما تركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة أيّام في بيته لم يصلّوا عليه و ذهبوا إلى سقيفة بني ساعدة ينازعون على السلطان، و كانوا يرون الصلاة عليه تفوّت الفرصة عليهم، و تذهب الإمامة إلى بني هاشم أَضاعُوا الصَّلاةَ الصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ استبدّوا بأمور الخلافة.
الوجه السادس: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (4) لقد عرف الصحابة مناقب عليّ و فاطمة و أولادهما و رحمهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكنّهم أنكروها.
ص: 137
الوجه السابع: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (1) و ليس الغرض من بيان هذا الأمر الحكاية بل العبرة و التذكير، و الدليل عليه يقوله تعالى: فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ (2) و قال اللّه تعالى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ (3)، و قال تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ (4)؛ فما فعله الرسل في الزمن الغابر و فعلته أممهم معهم تفعله هذه الأمّة مع رسولها، و كما أصرّت تلك الطوائف على كفرها آلاف السنين فقد يجري على هذه الأمّة ما جرى على تلك و يحصل لها ما حصل لأولئك الماضين من الإصرار على الكفر.
الوجه الثامن: قال اللّه تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (5) تركوا اللّه ورائهم ظهريّا كما اتّخذت تلك الطائفة رهبانهم آلهة من دون اللّه، و طائفة الإسلام المشمولة لهذه العبر اتخذوا مشايخهم و بعض الصحابة آلهة، و الدليل على ذلك سجودهم لمشايخهم و قبلاتهم لأعتابهم، و اتخاذهم كفر القوم المحض طاعة و عبادة، و يعدّون من تمسّك بأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الأشرار، و حاشاهم، و يعيبونهم بذلك، و العجب من قوم ينسبون الفسق إلى خالقهم و كذلك الشرّ، و يزنّون الأنبياء و يرمونهم بالمعاصي و الإجرام، و المشركون الذين أسلموا بعد الشيخوخة يرونهم الخلفاء و القدوة لأهل العالم، و يعوّلون عليهم في النجاة من عذاب اللّه، و يأملون في الخلاص بهم، و حاشا للّه أن تكون الحال كما يرون، و الأمر كما يظنّون و يتخيّلون.
ص: 138
و يروننا نحن الذين نعبد ربّا عادلا منزّها سبحانه و تعالى عمّا يقولون، و نثبت العصمة للأنبياء من المهد إلى اللحد، و نقتدي بالإمام المعصوم من أهل بيت النبوّة و الإمامة، أقول: يروننا ضالّين، و يسمّوننا روافض، و عندنا هم الروافض و النواصب و الخوارج و اليزيديّون و المروانيّون و القدريّة و الجبريّة كما مرّ ذلك سالفا.
و هذه الوجوه بجملتها أفاضها الحقّ على قلبي و لم أقتبسها من كتاب مع كثير من الدلائل المذكورة في الكتاب و قد سلفت.
ذكر الحافظ إسماعيل الاصفهاني المحدّث في قصص الصحابة عن سعيد بن جبير أنّه قال: بلغ ابن عبّاس أنّ قوما يقعون في عليّ عليه السّلام فقال لابنه عليّ بن عبد اللّه: خذ بيدي فأذهب بي إليهم، فأخذ بيده حتّى أتى إليهم، فقال: أيّكم السابّ للّه؟
فقالوا: سبحان اللّه، من يسبّ اللّه فقد أشرك.
فقال: أيّكم السابّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قالوا: من يسبّ رسول اللّه فقد كفر.
فقال: أيّكم السابّ عليّا؟ قالوا: قد كان ذلك.
قال: فأشهد لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من سبّ عليّا فقد سبّني و من سبّني فقد سبّ اللّه، و من سبّ اللّه أكبّه اللّه على وجهه في النار (1).
ص: 139
و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حرّمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي، و قاتلهم و المعين لهم، أولئك لا خلاق لهم و ما لهم من نصيب (1).
و روى العلماء عن الأئمّة قولهم: الشكّ فينا كفر.
و روي عن الأئمّة عليهم السّلام، قولهم: نحن أهل بيت لا يقاس بالناس، ما عادانا بيت إلّا خرب، و ما نبح علينا كلب إلّا جرب، لعن اللّه الداخل فينا من غير نسب، و الخارج عنّا من غير سبب.
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «المنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا» (2)، معنى ذلك أنّ من
ص: 140
أنكر الإمام صاحب الزمان كان كمن أنكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و اتفقت كتب أهل السنّة على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ يوم غدير خم (1):
اللهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، و العن من ظلمه.
و ذكروا أيضا أنّ عليّا عليه السّلام قال: و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة إنّه لعهد النبيّ الأمّيّ إليّ أن لا يحبّني إلّا مؤمن و لا يبغضني إلّا منافق (2).
و المعروف عن جابر أنّه كان يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: مروا أولادكم بحبّ عليّ بن أبي طالب.
و قال الإمام زين العابدين:
و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده
ص: 141
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خلق الناس من شجر شتّى و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة (1).
و قال أيضا: خلقت أنا و عليّ من نور واحد (2).
عليّ بن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو هاشميّ من جهة الأم- و الأب أيضا (المترجم)- و أبو طالب ابن هاشم و أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، و لأقرباء النبيّ الصلحاء من المناقب أعلاها، و هو صهر النبيّ على ابنة مثل فاطمة عليها السّلام سيّدة نساء أهل الجنّة،
ص: 142
و أب للحسن و الحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، و للإمام زين العابدين إلى محمّد المهدي صاحب الزمان صلوات اللّه عليهم أجمعين، و أولاده سادات المشرق و المغرب، و نقبائهما، و هو وارث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خليفته، و مصداق قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1).
و كان رسول اللّه في بيت أبيه منذ عهد الطفولة حين فقد أبويه و بلغ الثامنة و الثلاثين، و بذل أبواه للنبيّ من الودّ و الرعاية و النصرة بالنفس و النفيس، و تعهّداه بالحبّ و الخدمة حتّى وافاهما الأجل ... (2)، و نصره في أيّام الشعب أبوه و إخوانه و عمّاه، و كان أبو طالب عليه الصلاة و السلام رئيس ناصريه.
و عندما هاجر النبيّ فداه بنفسه حين نام في فراشه، و كان لأبيه موقف ممتاز في خطبه النبيّ سيّدتنا خديجة عليها السّلام؛ فقد كان هو الخاطب و الخطيب، و كان يمدّ رسول اللّه بالعون و النصرة، و يجلّي بفعله هذا كروبه و كروب من آمن به.
و كان عليّ عليه السّلام نعم المجاهد مع النبيّ، لم يولّ الأعداء ظهره قطّ، و لم يؤذ النبيّ مرّة واحدة طيلة حياته.
و هرع الصحابة في آخر أيّام النبيّ إلى طلب السلطان و تركوا النبيّ جثّة على المغتسل، فلم يحضروا تجهيزه و لم يصلّوا عليه، و كان عليّ عليه السّلام حاضرا حين فارقت النبيّ روحه الطاهرة و لم يفارقه، و قام بواجب الخدمة في تلك الساعات الحرجة، ثمّ شرع في جهازه فغسله و كفّنه و دفنه بعد أن صلّى عليه، و قام بالعزاء و حفظ الشريعة.
ص: 143
و كان عليّ مفزع أصحاب رسول اللّه في المعاضل و المشاكل لا سيّما الثلاثة الذين يبادرون إلى الإمام كلّما عظّتهم المشاكل المعقدة فيحلّها لهم على هدي الإسلام و نور الشريعة حتّى أثر عن عمر بأنّه قال سبعين مرّة: «لو لا عليّ لهلك عمر» (1). و لو لا حضوره لما قدروا على حلّ قضيّة واحدة.
و كان أعبد الصحابة كلّهم، و عصمه اللّه من الصغائر و الكبائر، و لم يطلب الدنيا، و لا ركبه الغرور مع ما له من السوابق النادرة، و لم يزل مظلوما بعد رسول اللّه، مغصوبا حقّه، معتدى عليه، و كان في زمن النبيّ محسودا، و لكنّه كثير البشر، مشرق الوجه و النفس، و أصبح ضريحه قبلة العالم و ملجأ لذوي الحاجات.
ص: 144
لمّا عكفت على تأليف هذا الكتاب في السنة التي حضرت فيها إلى سدّة سيّد العالم الشامخة بهاء الدين محمّد بن محمّد صاحب الديوان، كنت يوما بين جماعة من العلماء فعرضت مسائل كثيرة دينيّة في العلم و العمل، و جميعها تخصّ مذهب الشيعة، و لمّا انفضّ المجلس عمّ الجدل الحاضرين لما عليه المذهب من الانتظام، و في ذلك اليوم جمعت في خاطري مائة و أربعين آية من القرآن الكريم رفضها الصحابة و لم يعملوا بها، و لو لا خوف الإطالة لذكرتها كلّها و لكنّي أعرض منها طلبا للاختصار و تسهيلا على القرّاء أربعين آية و أترك الباقي.
الآية الأولى: آية الخمس وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ (1).
فطعنوا في هذه الآية و سلبوا سادات المشرق و المغرب حقّهم في الخمس، و منذ زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى يوم القيامة تركوا سادات أهل البيت بحاجة ماسّة إلى ما
ص: 145
بأيدي الناس، و حرموهم من حقّهم، و فرضوا عليهم العجز و الذلّة عداءا لأمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و غرضهم من هذه المقاطعة المالية أن يبقى ذرّيّة النبيّ على طرف الحاجة لكي يعرضوهم للمسألة فيبدون في أعين الناس و كأنّهم أهل طمع يتزلّفون إلى أصحاب الجاه و الثروة، و بهذا تنخفض درجاتهم في أنفس الناس، و لم يجعل اللّه من يستحقّ هذا النصيب و المساهمة سوى أمير المؤمنين و أولاده مع اللّه و رسوله، و لكن الحاجة المفروضة عليهم غيّرت قلوب الناس عليهم.
الآية الثانية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1).
فلم يعملوا بهذه الآية، و اختاروا عداوتهم على مودّتهم، و آثروا الحرام على الواجب من ولائهم، و منعوهم حقوقهم الدينيّة كالإمامة، و الدنيويّة كالخمس، و اللّه تعالى لم يجعل مودّة أحد من العالم واجبة إلّا مودّة عليّ و أولاده عليهم السّلام، و هذه منقبة عظيمة من مناقبهم.
الآية الثالثة: عزل اللّه أبا بكر و رسوله عن أداء الآيات الأولى من سورة برائة لأهل الموسم، و نصب أمير المؤمنين مكانه بأمر اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله.
الآية الرابعة: عزل أبو بكر و عمر و نحيا عن حمل الراية يوم خيبر و أقيم عليّ مقامهما، ثمّ إنّ هزيمتهما دليل على أنّهما لم يعملا بهذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا
ص: 146
كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (1).
الآية الخامسة: لم يعمل بها عثمان و هي قوله تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (2).
الآية السادسة: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (3).
و من الثابت القطعيّ أنّهم كانوا يفتون بقرائحهم، و لكن أمير المؤمنين يبادر فيصحّح أخطائهم و يتلافى زلّاتهم، و هذا عين ما نهت عنه الآية، لأنّهم اقتفوا ما ليس لهم به علم.
الآية السابعة: لم يعمل أبو بكر بآية: الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (4).
هذا إذا كانا عزبين فإنّ حكمهما الجلد، و قد درأ أبو بكر الحدّ عن خالد بن الوليد حين زنى بزوج مالك بن نويرة بعد قتله.
الآية الثامنة: لم يعملوا بالآية: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (5) فدرئوا الحدّ عن «شيبة» (6) حين
ص: 147
حسا الخمرة و وقع ثملا في المحراب و تقيّأ فيه، و مثله عبد اللّه بن عامر حين اصطبح و صلّى بالناس صلاة الصبح سكرانا أربع ركعات، و كان واليا من قبل عثمان لعنه اللّه.
الآية التاسعة: لم يعملوا بها: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (1) و حديث:
أقضاكم عليّ و أعلمكم عليّ، و مع نزارة علمهم و ضحالة فهمهم و قلّة إدراكهم تقدّموا على عليّ و هو أعلمهم.
الآية العاشرة: التي لم يعملوا بها: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (2).
توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ ذو رحمه، فنحّوه عن مقامه و ظلموه و غصبوه حقّه.
الآية الحادية عشرة: التي لم يعملوا بها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (3).
فحرموا الزهراء من إرثها، و مثلها الآية: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (4) و آية: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (5) فوهب اللّه له يحيى.
فأبطلوا عددا من الآيات بحديث مفترى «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة» حاشا ثمّ حاشا أن يكون هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (6).
ص: 148
الآية الثانية عشرة: التي لم يعملوا بها: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (1).
فدخلوا بيوت النبيّ بعد وفاته و رقدوا فيها من غير إذنه، و اليوم مرّ على دفنهم فيها سبعمائة عام- زمن تأليف الكتاب (المترجم)-.
الآية الثالثة عشرة: التي لم يعملوا بها: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها (2).
و لكنّهم دخلوا بيت فاطمة بدون إذنها فقادوا بعلها عليّا عليه السّلام مكتوفا ليبايعهم، و كذلك دخلوا بيت النبيّ من دون إذنه أو إذن ابنته فاطمة عليها السّلام.
ص: 149
الآية الرابعة عشرة: التي لم يعملوا بها: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1).
عن أبي سعيد الخدري قال: لمّا نزلت: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاطمة فأعطاها فدك (2).
فأبطلوا حكم هذه الآية التي أجرى حكمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و غصبوا فدكا من فاطمة.
الآية الخامسة عشرة: التي لم يعملوا بها: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (3).
و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحبّ عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين، فتظاهر القوم بعداوتهم و برهان ذلك دفع آية الخمس و غصب فدك منهم.
الآية السادسة عشرة: التي لم يعملوا بها: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ (4).
و معنى الآية- و اللّه العالم- قبولهم حكم النبيّ طائعين مختارين راضين.
وقع بين عثمان و يهوديّ نزاع على درع، فقال اليهوديّ: نختصم عند محمّد، و قال عثمان: بل عند حبركم؛ لأنّ عثمان على علم بأنّ النبيّ لا يقضي إلّا بالحقّ، و لا يرتشى، و أنّ الحقّ مع اليهوديّ و ليس مع عثمان حتّى نزلت الآية و فضحت عثمان
ص: 150
و أعطى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الدرع إلى اليهودي.
الآية السابعة عشرة: التي لم يعملوا بها: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (1) و لم يعملوا بالآية:
لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (2).
أعاد عثمان مروان و أباه الحكم بعد أن طردهما النبيّ، و فوّض أمر وزارته إلى مروان مع عدائهما للّه و رسوله، و نفي النبيّ لهما و طرده إيّاهما من المدينة بأمر اللّه من اللّه.
الآية الثامنة عشرة: لم يعمل بها عثمان: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا (3).
أخذ مروان و هو رأس المنافقين فلم يقتله و إنّما أمّره على المسلمين، و هذه الآية طبّقت على معاوية أيضا.
الآية التاسعة عشرة: التي لم يعملوا بها: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ (4).
فكان عثمان سامعا مطيعا لمروان المنافق لعنه اللّه، طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
ص: 151
الآية العشرون: التي لم يعملوا بها: وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا (1).
فآذوا بني هاشم بإخراج الخلافة و الإمامة منهم، و آذوا فاطمة و عليّا بدفعهم آية الخمس عنهما و حرمانهما و آلهما منه، و غصبوا فدك، و نفوا أباذر جندب رضى اللّه عنه إلى الربذة، و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّكم للّه و لرسوله (2).
و لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيّا لآلمه إيذائهم: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (3)، و قال: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها (4).
الآية الواحدة و العشرون: لم يعمل بها أبو بكر لعنه اللّه: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ (5).
لأنّ أبا قحافة والده كان حيّا أبّان خلافته و كان له الحكم عليه.
ص: 152
الآية الثانية و العشرون: التي لم يعملوا بها آية التمتّع: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ (1).
و هذا الفرض من اللّه على عباده أبطلوه.
الآية الثالثة و العشرون: التي لم يعملوا بها آية المتعة: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ (2).
و إنّما منعوا العمل بها ليميل الناس شطر الزنا، و الدليل على ذلك قول أمير المؤمنين: لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنا إلّا شقي (3).
و قال عمر أيضا: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلالين أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحجّ (4)، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى
ص: 153
الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ (1). و إنّ من بدّل حكم اللّه بعد ما سمعه لأعظم جرما ممّن بدّله و لم يسمعه، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (2).
الآية الرابعة و العشرون: لم يعمل بها عمر: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (3).
فقال عمر: لا تغالوا في مهور نسائكم، و قال: من أصدق امرأة أكثر من أربعمائة درهم أوجعته ضربا و أخذت المال و وضعته في بيت المال، فقامت امرأة طوال و صاحت بأعلى صوتها، و قالت: قال اللّه تعالى: آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً و أنت تحرّمه؟! أنأخذ بقولك أم بقول اللّه تعالى؟! و تلت الآية، فاستحيا عمر و قال:
كلّكم أفقه من عمر حتّى العجائز. و روي: حتّى المخدّرات في البيوت (4).
ص: 154
الآية الخامسة و العشرون: لم يعمل بها عثمان، و هي: وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (1).
و لمّا اضطربت أوضاع المدينة في عهد عثمان و شكى الناس من تسلّط مروان على مقدّرات الأمّة و نهضوا لتأديب مروان أو قتله، فعمل الخبيث الحيلة حتّى سرّب رسالة إلى مصر تأمر الوالي بقتل محمّد بن أبي بكر، و لمّا فاتحوا عثمان بأمر الرسالة و أنكرها و لكنّه أعلن حمايته غير المحدودة لمروان لئلّا يقتل، حتّى جرّ الأمر إلى مقتله هو.
الآية السادسة و العشرون: التي لم يعملوا بها: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (2).
زعم الخصم أنّ النبيّ مات بلا وصيّة، نعوذ باللّه من هذا القول، و غرضهم من هذا القول إنكار حقّ عليّ عليه السّلام و مخالفة أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و مع نسبتهم هذا الفعل إلى النبيّ فقد خالفه أبو بكر و أوصى بها إلى ابن الخطّاب و صيّرها عمر شورى ليفضي الأمر فيها إلى عثمان، و قتل عثمان و لم يوص، فتبيّن من هذا أنّ أحدا منهم لم يتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فبعدوا عن محبّة اللّه لهم.
ص: 155
الآية السابعة و العشرون: لم يعمل أئمّتهم بها: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).
ذلك أنّ أحكامهم بجملتهم وضعت على خلاف القرآن، و اختلفوا فيما بينهم؛ فنقض واحد ما أثبته الآخر، و أبطل الأوّل حكم الثاني، و الثاني حكم الأوّل، و هكذا الثالث و الرابع، و كان لكلّ واحد منهم مذهب بعينه كالشافعي و أبي حنيفة و مالك و أحمد بن حنبل، و لو أنّ ما قالوه وافق كتاب اللّه لما وقع خلاف أصلا، شأن أئمّة الشيعة الذين ليس بينهم خلاف على الإطلاق، لأنّهم ساروا على سنّة النبيّ بأجمعهم؛ ابتداء من الأوّل إلى الثاني عشر عليهم السلام جميعا.
الآية الثامنة و العشرون: لم يعمل بها أبو بكر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (2).
و قد خالف أبو بكر رسول اللّه و تقدّم عليه في صلاة الصبح و أمّ المسلمين- كما يزعمون- و لمّا كان إماما كان عليه إسماع المؤمومين و قد منعه اللّه من التقدّم و الإسماع.
و اتفق علماء الإسلام على أنّ عائشة هي التي قدّمت أباها، و لمّا سمع النبيّ صوته نهض متّكئا بإحدى يديه على عليّ عليه السّلام و بالأخرى على الفضل بن العبّاس و ذهب إلى المسجد و لم يبن على صلاة أبي بكر بل أخّره و صلّى بالمسلمين مستأنفا. و قد ذكر ابن الأعثم السنّيّ الكوفيّ صاحب الفتوح نظير هذه الرواية في كتابه، و هذا هو
ص: 156
مذهب الشيعة (1).
الآية التاسعة و العشرون: لم يعمل بها أبو بكر: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (2).
فقد رفع صوته على النبيّ في الصلاة المزعومة فوق صوت النبيّ، و كانت هذه آخر صلاة يصلّيها النبيّ فيكون بناءا على هذا مات مأموما لابن أبي قحافة كما يزعم الخصم و مقتد به، و خلع نفسه من الإمامة، و حاشاه من ذلك.
الآية الثلاثون: التي لم يعملوا بها: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ (3).
فحسدوا عليّا عليه السّلام حتّى قال: شكوت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسد الناس لي، و هذا المعنى جاء في تفسير السلماني و جاء مثله في مصابيحه.
الآية الواحدة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ (4).
و كان منهم ما كان يوم أحد و حنين من الهزيمة حتّى أدخلوا الوهن على الإسلام، و لم يعد عثمان من هزيمته إلّا بعد مضي ثلاثة أيّام.
ص: 157
الآية الثانية و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: أكثر العلماء على أنّهم هم الذين أرسلوا إلى عبد اللّه بن أبي سلول يوم أحد لمّا سمعوا الصيحة «قتل محمّد» ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان حتّى يعودوا إلى مكّة فأنزل اللّه هذه الآية: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (1).
و قد عاهدوا اللّه عهدا على أن لا يفرّوا، فما وفوا بعهده الذي عاهدوا عليه:
وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (2).
الآية الثالثة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (3).
الآية الثالثة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (4).
و جاء في السنّة: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار.
و هم تسمّوا بالخلافة كذبا و سمّوا أنفسهم خليفة رسول اللّه و أمير المؤمنين مع أنّهم يروون أنّ رسول اللّه مضى و لم يستخلف، و هذا هو الكذب على اللّه و رسوله.
ص: 158
الآية الرابعة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ الآية (1).
أعطى اللّه تعالى الإمارة و الولاية إلى عليّ عليه السّلام بهذه الآية الصريحة الواضحة باتفاق المفسّرين و لكنّهم ولّوا أنفسهم عليه و حكموا الناس.
الآية الخامسة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (2).
و بحكم هذه الآية نصب رسول اللّه عليّا يوم غدير خم للإمامة فمنعوه من ذلك و قدّموا أنفسهم عليه.
الآية السادسة و الثلاثون: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (3).
نزلت هذه الآية بحقّ عليّ عليه السّلام حين أوجب اللّه محبّته على العالمين، و لكن القوم نصبوا له العداء فهم خارجون من تحت ظلّ هذه الآية.
الآية السابعة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (4).
ص: 159
الآية الثامنة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ (1).
و كانوا على وفاق تامّ مع المنافقين كمروان و معاوية و أبي سفيان و عمرو بن العاص، و يتودّدون إليهم. و هذا الحديث دلّ على المنافقين: ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللّه و رسوله و التخلّف عن الصلاة، و البغض لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام (2)، و لم يمل عليّ إليهم و استقام على صراط اللّه.
و منه قول رسول اللّه: لا تسبّوا عليّا فإنّه خشن في ذات اللّه (3)، و لهذا السبب حرم من حقه و حظي الآخرون به.
ص: 160
الآية التاسعة و الثلاثون: التي لم يعملوا بها: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (1).
كان القوم بحاجة إلى عليّ عليه السّلام إلى كثير من أحكام الدين و هو هاديهم و لكنّهم لم يتّبعوه، و الدليل على ذلك:
أوّلا: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (2).
ثانيا: الحديث الذي رواه المخالفون: و إن ولّيتموها عليّا فهاد مهتد يقيمكم على صراط مستقيم (3).
الآية الأربعون: التي لم يعملوا بها: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (4).
و ادّعوا أنّهم استخلفوا باختيار الصحابة و هم أهل الحلّ و العقد و قد بايعونا، و لم يلقوا نظرة إلى أنّ الاختيار مسلوب من المسلمين و هو بأمر اللّه تعالى.
و كذلك لم يعملوا بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ
ص: 161
عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ (1) و لم يقولوا نحن لسنا من ذرّيّة محمّد بل نسبوا إليه عدم الذرّيّة، بينما هم يقرّون و يعترفون بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ عليّا منّي و أنا منه، و قال: عليّ منّي و أنا من عليّ و لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ.
و لم يعملوا بهذه الآية: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ (2).
و لو لا خوف الملل لبالغنا في بسط هذا الكتاب، و لكن من كانت له أهليّة فباستطاعته أن يضبط من القرآن ربعه بل ثلثيه ... لم يعمل به القوم «و اللّه يؤتي فضله من يشاء».
ص: 162
الأوّل: إنّ نكاح أمّهاتهم كان في الجاهليّة، و نكاح الجاهليّة أكثره سفاح، و لكن عليّا عليه السّلام قال له رسول اللّه: يا علي، أنا و أنت من نكاح لا من سفاح، من لدن آدم إلى عبد المطّلب عليهم السّلام (1)، و دلّ القرآن على هذا بقوله: وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (2).
الثاني: كانت حياتهم متقوّمة بالخمر و لحم الخنزير، و كانت حياة عليّ متقوّمة بخدمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
الثالث: عبدوا الأصنام بعد بلوغهم كاللات و العزّى، و نشأوا على المحرّمات.
الرابع: شاركوا الكفّار بإيذاء المؤمنين بالنفي و الإحراق و الخديعة، و كانوا
ص: 163
يحيون آمين لأنّهم يعيشون في عالم النفاق حتّى ماتوا.
الخامس: لم تكن أسمائهم في الصحيفة.
السادس: لم يدخلوا الشعب أيّام المقاطعة.
السابع: لم يكونوا من المهاجرين مع الرسول إنّما كانوا قد هاجروا لغايات في أنفسهم (1).
الثامن: لم يهربوا من مكّة إلى أيّ مكان آخر لا إلى الطائف و لا إلى غيره لأنّهم كانوا مع المشركين بقلوبهم و أرواحهم و لكنّهم صحبوا المؤمنين طمعا في حطام الدنيا كما قال صاحب الأمر: إنّهم سمعوا من أهل الكتاب أنّ محمّدا سوف يكون صاحب دولة و سوف ينالون منها جزاء سعيهم و صحبتهم إيّاه، و ما لهم في الآخرة من خلاق.
التاسع: لم يكونوا من أهل الكساء ساعة نزول آية التطهير في بيت أمّ سلمة.
العاشر: سدّت الأبواب في المسجد عليهم.
الحادي عشر: لم يؤاخهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
الثاني عشر: لم يحضروا المباهلة.
الثالث عشر: لم يعملوا بآية المناجاة و الصدقة.
الرابع عشر: كانوا ممّن ولوّا الدبر يوم أحد و حنين و خيبر.
الخامس عشر: لم يدفعوا مكيدة عن النبيّ و لا عن الإسلام.
السادس عشر: أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتل مروان فعصوه.
السابع عشر: عزل أبو بكر من أداء سورة برائة.
ص: 164
الثامن عشر: أراد من رسول اللّه رمّانا فأبى أن يعطيه لأنّه طعام أهل الجنّة، و لا يحلّ إلّا لوصيّ أو سبط نبيّ في الدنيا، ثمّ أعطى النبيّ نصف رمّانة لعليّ عليه السّلام و أولاده و خصّ نفسه بالنصف الآخر: لا يأكل هذا إلّا نبيّ أو وصيّ أو سبطاه.
التاسع عشر: حرم من مشاركة النبيّ بالطائر لأنّه صلّى اللّه عليه و آله دعا فقال: آتني بأحبّ الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر، فجاء عليّ فأكل معه.
العشرون: حرّم عليهم الخمس.
الواحد العشرون: لم يؤمّرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على سريّة.
الثاني و العشرون: لم يرسلهم جباة للصدقة قطّ.
الثالث و العشرون: أمّر عليهم عليّا و لم يؤمّرهم عليه.
الرابع و العشرون: أمّر عمرا بن العاص على أبي بكر و عمر.
الخامس و العشرون: قبض النبيّ و هم رعايا تحت راية أسامة بن زيد.
السادس و العشرون: لم يساعدوا في تجهيز جيش أبدا.
السابع و العشرون: لم يستخلفهم النبيّ على المدينة أو غيرها.
الثامن و العشرون: لم يكن بينهم و بين النبيّ رحم.
التاسع و العشرون: لم يختموا القرآن قطّ.
الثلاثون: لم يجمع أبو بكر و عمر القرآن للأمّة.
الواحد و الثلاثون: لم يكونا صهري رسول اللّه.
الثاني و الثلاثون: لم يكونوا عند النبيّ آخر عهده بالدنيا.
الثالث و الثلاثون: لم ينجزوا مواعيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
الرابع و الثلاثون: لم يحضروا تجهيز رسول اللّه فلم يشاركوا في غسله و كفنه و دفنه بل ذهبوا إلى السقيفة يلاطمون على السلطان لئلّا تفوتهم الفرصة الدنيويّة.
الخامس و الثلاثون: لم يكن معهم سلاح رسول اللّه و رايته و عمامته و خاتمه.
ص: 165
السادس و الثلاثون: أبعد النبيّ أبا بكر من المحراب و طرده من الصلاة عند وفاته.
السابع و الثلاثون: لم تتّفق الأمّة على إيمانهم و إسلامهم.
الثامن و الثلاثون: لم يبايعهم بنو هاشم و لا سعد بن عبادة و خاصّته.
التاسع و الثلاثون: سلّ الزبير السيف عليهم و أبي أن يبايعهم.
الأربعون: و كذلك ردّ بيعتهم أبو ذر و عمّار و سلمان و المقداد رضي اللّه عنهم.
الواحد و الأربعون: ردّ بنو حنيفة بيعة أبي بكر و امتنعوا من دفع زكاتهم له فقاتلهم و نكّل بهم و سمّاهم أهل الردّة.
الثاني و الأربعون: أرسل إلى حربهم خالد بن الوليد فقاتلهم فقتل المقاتلة و سبّى النساء و الذرّيّة، و في ليلة واحدة قتل زعيمهم مالك بن نويرة و زنا بزوجته و أغار على أموالهم و اقتسمها بينه و بين أصحابه.
الثالث و الثلاثون: لم تكن خلافتهم بنصّ من اللّه و رسوله.
الرابع و الأربعون: أنزل الحسن بن عليّ أبا بكر من المنبر في اليوم الأوّل من حكمه.
الخامس و الأربعون: لم يبايعهم بلال و ترك الأذان و الإقامة.
السادس و الأربعون: تأمّر على أبيه و كان حيّا يوم ذاك خلافا لأمر اللّه و رسوله.
السابع و الأربعون: قال أبو بكر: إنّ لي شيطانا يعتريني (1).
ص: 166
الثامن و الأربعون: و قال أيضا: أقيلوني لست بخيركم و عليّ فيكم (1)، و نظير هذه الجملة التي تدلّ على بطلان خلافته و إمامته.
التاسع و الأربعون: كشف بيت فاطمة و دخله بدون إذنها و أمر بإخراج من فيه.
الخمسون: أمر بضرب فاطمة عليها السّلام.
الواحد و الخمسون: قتل المحسن و هو جنين في بطنها.
الثاني و الخمسون: أخذ ميراث الزهراء من أبيها و غصب فدك و هي نحلة لها و لأولادها منها و من بنيها.
الثالث و الخمسون: غصب الأنفال و الخمس من أهل البيت.
الرابع و الخمسون: ماتت فاطمة عليها السّلام غاضبة عليهم.
الخامس و الخمسون: لم يحضروا جنازتها.
السادس و الخمسون: أمر خالد بن الوليد بقتل عليّ عليه السّلام.
السابع و الخمسون: وضعه الحديث على النبيّ بقوله: إنّا لا نورّث، خلافا لنصوص القرآن.
الثامن و الخمسون: نقصان الأذان فصلين.
التاسع و الخمسون: بدعة المسح على الخفّين.
الستّون: التكفير بوضع اليد على الصدر احياءا لسنن اليهود.
الواحد و الستّون: رفع القنوت و رفع اليدين في الصلاة عند التكبير.
الثاني و الستّون: إشراك الجدّ في الإرث مع الأب.
الثالث و الستّون: ائتمان المغيرة على تأليف القرآن و أكثر الروايات على أنّ هذا الفعل يعود لعثمان.
ص: 167
الرابع و الستّون: طلب الشهود العشر على كلّ آية.
الخامس و الستّون: فتح الباب الذي أغلقه النبيّ عليهم.
السادس و الستّون: قيل إنّهم تزوّجوا مطلّقتين للنبيّ.
السابع و الستّون: حرمان نساء النبيّ من ميراثهنّ.
الثامن و الستّون: «نجاه» (1) لم يبايع أبا بكر و قال: إن قلت هذا الأمر بقرابة الرسول فأهله أحقّ به منك، و إن قلت هذا الأمر بالشرف فأنا أشرف منك، لهذا أمر بإحراقه.
التاسع و الستّون: إطلاق سراح الأشعث بن قيس و كان يستحقّ القتل، و القضيّة كما يلي: لمّا ارتدّ الأشعث أسر و أرسلوا به إلى أبي بكر فعرض عليه الإسلام فأباه و بقي على ارتداده فأطلقه (2).
السبعون: زوّجه أخته.
الواحد و السبعون: قتل بني حنيفة بأجمعهم لأنّهم أبوا خلافته و لم يسلّموا باختياره.
الثاني و السبعون: لمّا قال له «خضر» (كذا) يا خليفة الناس، أمر بطرده.
الثالث و السبعون: عهد إلى عمر عند موته و كان الناس يكرهونه لفظاظته.
الرابع و السبعون: أمر بدفنه مع النبيّ في حجرته بدون إذن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو من ورّاثه.
الخامس و السبعون: لمّا هلك كان في ذمّته لبيت مال المسلمين عشرون ألف دينار.
ص: 168
السادس و السبعون: لم يرد عن رسول اللّه رواية واحدة و ما رواه لم يكن إلّا للإضرار بعليّ عليه السّلام و هو من مفترياته (1).
السابع و السبعون: درء الحد عن خالد بن الوليد و دفع القود منه.
الثامن و السبعون: كان مشمولا للآية وَ تَرَكُوكَ قائِماً (2) يعني كان من أهل اللهو و اللعب الذين تركوا النبيّ في صلاة الجمعة فنزلت فيهم الآية.
التاسع و السبعون: سمّى نفسه خليفة رسول اللّه و أمر بمتابعته.
الثمانون: كان أوّل من غصب أهل بيت النبيّ حقّهم و اعتدى عليهم، و أوّل من ابتزّ رسول اللّه مقامه، و كان الصحابة شركائه في هذه الخصال من بين فاعل و ناصر و راض إلّا عباد اللّه المخلصين، و قليل من عبادي الشكور.
أمّا ما اختصّ بعمر من الخصال و ما تفرّد بها فهي:
الأوّل: تمزيق الصكّ الذي كتبه صاحبه للزهراء عليها السّلام.
الثاني: ضرب الصدّيقة الطاهرة بكفّه حتّى بقي أثره على جسمها الشريف (3).
الثالث: ضربها على بطنها (4).
الرابع: تحريمه متعة النساء و قد قال ابن عبّاس: ما كانت المتعة إلّا رحمة رحم اللّه بها أمّة محمّد لو لا عمر نهى عنها ما احتاج إلى الزنا إلّا شقيّ و النفر القليل من
ص: 169
الناس، و هذا الحديث أورده جار اللّه في مترجم الأخبار (1).
الخامس: أسقط متعة الحجّ كما قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه حلالين و أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحجّ (2).
السادس: أوّل من وضع الضمان على الناس أو العرفاء (3).
السابع: أوّل من وضع الديوان في الإسلام.
الثامن: أوّل من ردّ شهادة المملوك.
التاسع: أوّل من وضع الخراج في الإسلام.
العاشر: أوّل من قسم الأرض إلى عامر و غابر.
الحادي عشر: أحدث تغييرا كبيرا في أحكام الزكاة.
الثاني عشر: وضع بدعة صلاة التراويح.
الثالث عشر: فضل العرب على العجم و الموالي في العطاء.
الرابع عشر: ردّ كثيرا من مسائل الإرث و قبلها عن المشهور، و أقام البدع في هذا السبيل من قبيل مسائل «العول» و نظائرها.
الخامس عشر: منع وصول المراكب إلى شواطئ الجزيرة بالبرّ القادم من مصر لكي تنقله البدو بأباعرها و يكون أجر الحمل لهم.
السادس عشر: غير موضع الحجر الأسود من المكان الذي وضعه النبيّ فيه إلى ما كان عليه في العهد الجاهلي.
السابع عشر: لمّا امتنع الإمام من مصاهرته عمد إلى أشياء في الدين فغيّرها انتقاما.
ص: 170
الثامن عشر: لجأ إلى الشورى حين وافاه الهلاك و هي من سنن الجاهليّة.
التاسع عشر: تأوّه عند الموت كثيرا، فلمّا سأله ابنه عبد اللّه، قال: على بني هاشم أن لا أصيب من يذلّهم بعدي.
العشرون: فضّل عائشة و ابنته حفصة على باقي نساء النبيّ عداءا لفاطمة و عليّ عليهما السّلام لأنّ هاتين المرأتين لعنة اللّه عليهما يبغضان الإمام و الصدّيقة الطاهرة عليها السّلام و لم تكن سائر أمّهات المؤمنين على هذه الصفة.
الواحد و العشرون: حمل صاحبه على التحريض على بيعته.
الثاني و العشرون: أمر بصوم السفر خلافا لقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (1).
الثالث و العشرون: أمر بصوم السفر خلافا لقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (1).
الثالث و العشرون: أمر بصلاة التراويح و نوافل رمضان أن تصلّى جماعة، و هي بدعة.
الرابع و العشرون: وضع البدعة القائلة: لا نكاح إلّا بولي و شاهدين. و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الأيّم أملك بنفسها من وليّها.
الخامس و العشرون: أجاز طلاق الثلاث في مجلس واحد.
السادس و العشرون: وضع عداوة عليّ و أهل بيته بين الناس. و قال أبو ذر الغفاري: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو صلّيتم حتّى تكونوا كالحناير، ما ينفعكم حتّى تحبّوا آل رسول اللّه.
و الحناير جمع الحنيرة و هي قوس بلا وتر، و قيل للعقد المضروب (2).
ص: 171
عدوّ عليّ لا صلاة له و لوبجبهته صدر البعير و كلكله بيّنة: كان الصحابة يقولون: مات الرسول و ما خلّف بيضاء و لا صفراء حتّى يوصّي، عداوة لعليّ عليه السّلام لئلّا يقول الناس وصيّ رسول اللّه و هو الأولى بمقامه منهم ردّا على اللّه في كتابه، و على النبيّ في سنّته، قال: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ (1) الآية، و قال: وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ (2)، و قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (3)، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة (4).
ص: 172
و عن سلمان: قلت: من وصيّك يا رسول اللّه؟ فقال: هل تدري من كان وصيّ موسى؟ قلت: يوشع بن نون. قال: و هل تدري لم كان كان أوصاه؟ إنّما كان أوصاه لأنّه أعلم أمّته بعده، و وصيّي و أعلم أمّتي بعدي عليّ بن أبي طالب (1).
و نظائر هذه الأخبار التي لا تعدّ و لا تحصى الدالّة على وجوب الوصيّة. هذا و الاتفاق حاصل بأنّ أولئك الشيوخ لم يكونوا أوصياء رسول اللّه، قال اللّه تعالى:
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ (2) و قال: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (3).
و اتفقت الأمّة على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجى و من تخلّف عنها غرق (4).
و كذلك قال: من أطاع عليّا فقد أطاعني (5).
و قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها (6).
و في الحديث الأوّل أبان عن موضع النجاة، و في الثاني عن موضع الطاعة، و في الثالث عن موضع العلم.
ص: 173
و اختلفوا في الإمامة و ينبغي الالتزام بإمامة من اتفق على إمامته و ترك من عداه، و آكد منه قوله تعالى: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (1).
ذكر الشيخ المفيد في كتاب «البساط في الإمامة» (2): توفّي النبيّ و الإجماع منعقد على عليّ و لم ينعقد لغيره بل كان الخلاف قائما فيه، و لا خلاف في صلاح بني هاشم للخلافة، و كان عليّ من بينهم مختصّا بهذه اللياقة، و لو تركوه لأجمعت الأمّة عليه، و في غيره لم يحصل الإجماع.
و كذلك أجمعوا على أنّ النبيّ أوصى عليّا عليه السّلام في أداء ديونه، و لكنّ الشيعة تقول بأنّه أوصاه بالإمامة أيضا و ليس من المعقول أن يخالف النبيّ كتاب اللّه، حيث يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (3) و قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (4)، و قوله تعالى: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ (5)، و قال صلّى اللّه عليه و آله: كائن في أمّتي ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة (6).
و ليس من اللايق بالنبيّ أن يوصي بشي ء من الخير و يتركه بلا حجّة أو سبب، و على هذا فينبغي الاقتداء بالمجمع عليه لا المختلف فيه، و هما الشيخان.
و قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (7) و قد نصح في الدين و الدنيا،
ص: 174
كما أوصى في سريّة مؤتة، فقال: إن أصيب جعفر بن أبي طالب فأميرهم زيد، و إن أصيب زيد فأميرهم عبد اللّه بن رواحة، و لم يقل أمرهم شورى كما فعل عمر بن الخطّاب، أو على ما يزعمه هو أنّه لم يوص لأحد بعد موته، و اختار الأصحاب رفيقه يوم السقيفة أو أنّه فعل ما فعله عثمان من إرجاء الأمر حتّى كبت به بطنته، و يا للعجب حين لم يترك النبيّ أمر سريّة واحدة عطلا ثمّ هو يترك الناس فوضى! و ينتقل إلى الرفيق الأعلى، و يموت بلا وصيّة، و الضرورة قاضية بأنّ الناس من بعده أحوج إلى الإمام منهم في حياته، فإذا ثبتت الوصيّة ثبتت إمامة عليّ عليه السّلام، و كان الشيوخ الثلاثة ليسوا أوصياء بالإجماع و لا هم خلفاء من قبل اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله (1).
ص: 175
الحديث الأوّل: اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر و عمر.
رواية هذا الحديث المفترى تارة بالنصب و أخرى بالرفع، و على كلا الحالتين فالمأمور بالاقتداء هما، و كأنّه قال: اقتدوا أيّها الناس من بعدي بكتاب اللّه و عترتي، أبو بكر و عمر (1).
ص: 176
ص: 177
و الدليل على هذا المعنى ما اتفق على روايته المؤالف و المخالف أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:
إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي، و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. و في رواية أخرى: خلّفت فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا.
و حديث: اقتدوا باللّذين من بعدي ... الخ مجرّد دعوى ادّعاها مدّع، و حديث الثقلين رواها الشيعة و صدّقهم جمهور أهل السنّة (1) فدلّ على أنّ الحديث المزعوم ليس فيه دلالة على إمامتهما.
و الجواب عن هذه المفترات: نصب عمر أبو بكر للإمامة، و عمر لجأ إلى الشورى، و قتل عثمان و لم يسمّ أحدا للخلافة و ترك المكان شاغرا، و لمّا بان الاختلاف بينهم كان الاقتداء بأحدهم يناقض الاقتداء بالآخر، و أشار عمر على أبي بكر بإجراء الحدّ على خالد بن الوليد لزناه بزوج مالك بن نويرة فأبي أبو بكر و قال: خالد سيف من سيوف اللّه.
و كان أبو بكر يرى إباحة المتعتين و عمر منعهما.
و أبو بكر أمضى صكّ فدك و أعطاه فاطمة، و عمر فتحه و بصق به و محاه ثمّ خرقه- لذلك خرق اللّه جوفه-.
أبو بكر أمر بصلاة التراويح فرادى و عمر أمر بها جماعة.
ص: 178
و أبو بكر و عمر لم يردا مروان و الحكم طريدي رسول اللّه و قرّبا أبا ذر، و عثمان خالفهما فنفى أبا ذر و ردّ مروان و أباه.
و أمثال هذه المتناقضات كثيرة، فيكون و الحال هذه الاقتداء بكلّ واحد مخالفا للاقتداء بالآخر: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)، و كما أنّ القرآن ليس فيه اختلاف فإنّ كلام من عمل به ليس فيه اختلاف أيضا كأئمّة الشيعة عليهم السّلام الاثني عشر، فقد قال آخرهم بما قال به أوّلهم، و ليس كأئمّة القوم لكلّ واحد منهم مذهب يتمذهب به و يضلّون به عباد اللّه.
جواب آخر: قال اللّه تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ (2) و قال: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (3) و قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (4)، و قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (5).
الحديث الثاني: من المفتريات: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا (6).
ص: 179
جواب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (1). قال المخالف: المراد ب «من أحببت» أبو طالب، و من هنا يظهر وضع هذا الحديث المفترى.
و قال تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (2) يظهر من حديث الخصم بأنّ أبا بكر لم يكن مؤمنا، لأنّه لو كان مؤمنا لاتّخذه الرسول وليّا و لأحبّه، و قال اللّه تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (3) و هذا خلاف ما عليه الحال بين المؤمنين، و ما زعمه الخصم يظهر أنّ النبيّ لم يحبّ أبا بكر، و الناس جميعا إمّا أن يكونوا أحبّاء النبيّ أو أعدائه، فإذا انتفت المحبّة ثبت نقيضها.
أمّا عن عليّ عليه السّلام فقد روى المخالف بلا خلاف عندهم: من أراد أن يحييا حياتي و يموت موتي و يسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي فليتولّ عليّ بن أبي طالب فإنّي أحبّه» (4).
و هذا نصّ صريح و بيان صحيح أنّ النبيّ اتخذ عليّا حبيبا، و حياة الرسول و مماته على حبّ عليّ.
و جاء في سائر الأخبار أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام في خيبر بعد أن رجع أبو بكر و عمر منهزمين: «و اللّه لأعطينّ الراية ... الخ» و كانت أعناق الصحابة قد تطاولت إليها، و كان عليّ عليه السّلام أرمد العين، فأرسل الرسول ورائه من يدعوه إليه و سقاه من ريقه فشفاه و أعطاه الراية، و كان فتح خيبر على يديه.
و جاء في المصابيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال للحسن بن عليّ عليهما السّلام: «اللهمّ إنّي أحبّه
ص: 180
و أحبّ من يحبّه» (1).
و لمّا كانت المؤاخاة بين أبي بكر و عمر، و بين طلحة و الزبير، و بين عبد الرحمان و عثمان موجبة للصداقة و الخلّة كانت مؤاخاة النبيّ لعليّ كذلك، قال اللّه تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (2) حكمت هذه الآية على الأمّة بحبّ عليّ و أهل بيته و صيّرته من الفروض الواجبة، و هذا الحكم شامل لرسول اللّه أيضا لأنّه من غير المعقول أن يدعو الأمّة إلى أمر ثمّ يعزل نفسه منها: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (3)، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (4).
و يقول اللّه تعالى كذلك: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (5) و هذه الآية تدلّ على أنّ العلاقة بين المتقين هي الخلّة، و لو كان أبو بكر من أهل التقوى لخالله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
الجواب الثاني: ذكر أبو الفتوح العجلي الاصفهاني و غيرهم من علمائهم أنّه سئل من عائشة: أيّ الناس كان أحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قالت: فاطمة. قيل:
ص: 181
من الرجال؟ قالت: زوجها (1).
عن أنس قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أيّ بنيك أحبّ إليك؟ قال: الحسن و الحسين.
و جاء في المصابيح: قال أسامة: كنت جالسا عند رسول اللّه إذ جائه عليّ و العبّاس يستأذنان، فقال: أتدري ما جاء بهما؟ قلت: لا. قال: لكنّي أدري، ائذن لهما، فدخلا، فقالا: يا رسول اللّه، جئناك نسألك أيّ أهلك أحبّ إليك؟ قال:
فاطمة بنت محمّد. قال: ما جئناك نسألك عن نساء أهلك، قال: أحبّ أهلي إليّ من أنعم اللّه عليه و أنعمت عليه، فقال أسامة. قال: ثمّ من؟ قال: عليّ بن أبي طالب. فقال العبّاس: جعلت عمّك آخرهم! قال: إنّ عليّا يسبقك بالهجرة (2).
بيّنة: في سنة (673) لمّا حملت مناقب الطاهرين معي إلى اصفهان و أردت تقديمه إلى حضرة سيّد العالم بهاء الدين محمّد صاحب الديوان، و كان في مقدّمة الكتاب شي ء من التوحيد، فشاور داعي الدولة ربّه قائلا: أرى من الصلاح
ص: 182
عرض الكتاب على فلان العالم، و كان من المقرّبين عنده و إن خالفه في المذهب، فاستخرنا اللّه فخرجت هذه الآية: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ (1) إلى أن أمكنت الفرصة فحضر عند العرض علماء الدولة في تلك الديار فلم يمكنهم إلّا السكوت و لم يقبل صاحب الديوان من الرسول اتخاذ ذلك العالم من جملة المحبّين.
الحديث الثالث: و رووا عن عليّ أنّه قال على المنبر: خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكر و عمر (2).
الجواب: لو صحّ هذا القول لم يؤمّر رسول اللّه عليهم عمرا بن العاص في حرب خيبر (3)، و حرب ذات السلاسل، و لم يؤمّر عليهم أسامة بن زيد بل لم يؤمّر عليهم عليّا في سرايا كثيرة، و لو كان الأمر كما يقولون لما ردّ اللّه أبا بكر في سورة برائة
ص: 183
و أرسل بها عليّا؛ فظهر من هذا أنّ قولهم كذب و افتراء على أمير المؤمنين عليه السّلام.
و كيف يكون خير الأمّة من كان يسجد للات و العزّى، و إن كان كذا فلا بدّ أن يكون العبّاس أولى بهذه الرتبة لأنّه عمّ رسول اللّه و هو أرشدهم و أكبرهم سنّا، و من قريش و هاشميّ كذلك، و لم يكن أبو بكر قرشيّا.
و قال أبو بكر: إنّ لي شيطانا، و قال عمر: أنا شاكّ في الإسلام كما جاء في كتاب «البياض و السواد» من كتب النواصب في الجزء الأوّل منه، و سأل حذيفة مرّتين:
هل أنا منافق أو لا؟ و إنّ طائفة هذه أوصافهم كيف يكونون خير الأمّة بعد نبيّها.
و قال عليّ عليه السّلام: أنا أولى بمجلس رسول اللّه و لكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفّارا (1).
و قال أيضا: لو لا قرب الناس بالكفر لجاهدتهم (2).
و قال عليه السّلام: كيف يكونان خير الأمّة و قد عبدت اللّه قبلهما، و عبدته بعدهما (3).
و الدليل على كذب هذا الحديث قول أبي بكر أيضا: «لست بخيركم و عليّ فيكم» و اتفقت الأمّة أنّ عليّا عليه السّلام لم يذكر هما بخير طرفة عين و لم يذكر هما إلّا في معرض الشكوى منهما بأنّهما خاناه و ظلماه، و لو كانا خير الأمّة لم يظلما أهل بيت العصمة و الطهارة.
ص: 184
و روى المخالف في حقّ عليّ عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال- كما ذكر ذلك أحمد البيهقي في كتاب مشاهير الصحابة-: من أراد أن ينظر إلى آدم ... الحديث، هذه الصفات التي تفرّقت في أولي العزم اجتمعت في عليّ عليه السّلام، و مع وجود رجل كهذا كيف يكون مشرك أسلم بعد أن أشرك أكثر عمره خير هذه الأمّة؟! «سبحانك هذا بهتان عظيم».
الحديث الرابع: قالوا: إنّ أبا بكر رجع إلى نفسه و قال: هل من مقيل فأستقيله (1)، فقال عليّ عليه السّلام: قدّمك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن ذا يؤخّرك؟!
الجواب: لو كان الأمر كما يقولون لسارع عليّ إلى بيعته قبل الصحابة، و لم يحتج إلى الحضور في سقيفة بني ساعدة، أمّا ضرورة مذهبنا فقاضية بأنّ عليّا عليه السّلام مظلوم و مغصوب حقّه، و يعترف المخالفون بأنّه لم يبايع حتّى ماتت فاطمة عليها السّلام، و قال قوم:
بايع بعد ستّة أشهر، و قال قوم: بعد أربعين يوما، و في مذهبنا أنّه لم يبايع قطّ، و لو كان يعلم عليّ بتقدّمه في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما تأخّر عن بيعته.
و أيضا لو كان أبو بكر يعلم من نفسه أنّ رسول اللّه قدّمه لما طلب الاستقالة؛ لأنّ كلّ ما يقوله الرسول و يفعله فبوحي من اللّه تعالى، و حينئذ تكون استقالته من أعظم آثامه و ذنوبه، كما قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها (2) لا سيّما و قد رضي بتقديمه في حياة رسول اللّه، ثمّ هاهو يتأخّر عنها بعد وفاته، فهو من المجرمين بفحوى هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
ص: 185
وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (1) و مع كلّ هذا يقول أنصاره المخالفون لنا: إنّ رسول اللّه مات و لم يستخلف، و هذه الحكاية تكذّب الحديث الأوّل.
ثمّ إنّ الخصم يزعم أنّ إمامة أبي بكر صحّت باختيار الصحابة و إجماع أهل الحلّ و العقد، فلو كان رسول اللّه قدّمه لما طلب الإقالة منها.
و أيضا من الأدلّة الرادّة لهذه المزعمة أنّ الرجل لو قدّمه رسول اللّه في حياته لما قال: رضيت لكم أحد هذين الرجلين: أبا عبيدة و عمر، و لو كان رسول اللّه قدّمه لم يتخلّف عن بيعته بنو هاشم و زهّاد الصحابة و سعد بن عبادة مع الخزرج، و لا زال قول أمير المؤمنين يتموّج في الدنيا حين قال بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أكثر من مرّة:
ما زلت مظلوما، و هذه الخطبة الشقشقيّة تشهد بما جرى.
الحديث الخامس: و رووا عن عمرو بن العاص أنّه قال للنبيّ: يا رسول اللّه، من أحبّ الناس إليك؟ فقال: عائشة. فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها (2).
الجواب: هذا الحديث باطل بحديث الطائر الذي رواه المخالفون عن أنس الذي قال: أهدي إلى رسول اللّه طائر مشوي، فقال: اللهمّ آتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير .. و هذا الحديث يكذّب ذاك، إذ لو كان صادقا لحضر أبو بكر هناك، و هو معارض بالحديث الوارد من طرق المخالفين و قد بسطناه في الحديث الثاني، و هو أنّه سئلت عائشة: من أحبّ الخلق إلى رسول اللّه؟ فقالت: فاطمة. قيل: من
ص: 186
الرجال؟ قالت: زوجها. و ليس لأبي بكر ذكر في باقي الأحاديث.
مع أنّه لا يمكن أن يعمد رجل يتحلّى بقسط من الأنفة و الغيرة، يطري زوجته أمام رجل فاسق فاجر كعمرو بن العاص و يصرّح بحبّها ثمّ لا تدركه الغيرة عليها، فكيف يفعل رسول اللّه ما يأنف البشر العاديون من فعله.
أضف إلى هذا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طالما شكى من عائشة و حفصة و من إيذائهما له حتّى عاتب اللّه نبيّه بسببهما في سورة التحريم، قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ (1) الآية، و نهاه أن يبتغي مرضاتهما، فقال: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ (2) و اعتزلهنّ رسول اللّه شهرا بكامله، و تشهد بذلك سورة نوح حيث بلغ النبيّ من قول المنافقين بسبب عائشة ما آلمه و آذاه، و من قرأ تفسير القرآن للفرق كافّة فسوف يطّلع على مبلغ الألم الذي عاناه رسول اللّه من عائشة و حفصة، و لكنّه صبر، و إن لم تصدّقني فارجع إلى مصابيح الأخبار من كتب المخالفين و اقرأ بإمعان باب العترة و أهل البيت و الأزواج لتعرف صدق ما أقول لك.
جواب آخر: إنّ الذي أوجب حبّه على الأمّة إنّما هو عليّ و أهل بيته بحكم الآية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (3).
ثانيا: إنّ المؤالف و المخالف قالوا بأنّ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (4) نزلت في عليّ عليه السّلام، و مثلها قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (5).
ص: 187
و ذكروا في مصابيح المخالفين أنّ النبيّ قال- و عليّ غائب عن البيت-: اللهمّ لا تمتني حتّى تريني عليّا.
جواب آخر: قال اللّه تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ (1) لعلّكم لم تقرأوا القرآن، و لو كنتم قرأتموه لما فهمتموه أنّ اللّه تعالى حذّر من النساء «و قد قيل: حبّك الشي ء يعمي و يصمّ»، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «اتّقوا شرار النساء» (2) و كونوا من خيارهنّ على حذر، و قال رسول اللّه في مرضه لعائشة عندما قدّمت أباها بدون إذنه للصلاة: «إنّكنّ لصويحبات يوسف» (3)، و هنّ اللواتي قال اللّه بحقّهنّ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (4) و كذلك: وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ (5).
و في مذهب الشيعة الأكثر على أنّ النبيّ أو كل طلاق نسائه إلى عليّ إن عصينه، و طلّق عليّ عائشة في حرب الجمل (6)، و إن لم تصدّقني فارجع إلى كتاب الفتوح لابن الأعثم (7) و هو من علمائهم الكبار الذي رمز إلى ذلك في باب الطلاق عند ذكر
ص: 188
عائشة، و إن لم يجد الشجاعة الكافية لنقل الخبر برمّته «الحرّ تكفيه الإشارة».
و هل كان رسول اللّه يحبّ عائشة لأنّها غازية و مجاهدة في سبيل اللّه في حرب الجمل و يحبّ أباها لأنّه ظلم آل رسول اللّه و نام ألف سنة (1) في بيت رسول اللّه بدون إذنه خلافا لقول اللّه: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (2)؟!
الحديث السادس: و رووا عن عليّ عليه السّلام بأنّه قال: من فضّلني على أبي بكر و عمر أجلده جلدة المفتري.
و روى المخالف عن ابن مسعود عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر.
الحديث الأوّل روايه المدّعي و أنكره الخصم، و الحديث الثاني رواية المخالف و صدّقه الخصم و هو يعارضه؛ فالثاني صادق و الأوّل كذب موضوع.
و روى المخالف أيضا أنّ رسول اللّه قال: أعلمكم عليّ و أفضلكم و أقضاكم عليّ (3)، و حديث الطير، و حديث الراية، و آية المباهلة، و آية فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ (4)، و آية التطهير، و آية الخمس و آية ذوي القربى،
ص: 189
و حديث: لضربة عليّ يوم الخندق خير من عبادة الثقلين، هذه جميعا رواها المخالف أيضا، و هي تكذّب الحديث المفترى.
ثمّ إنّ ما يوجب حدّ الجلد معلوم، و لا يدخل فيه التفضيل، أعني من فضّل أحدا على أحد، و ليس من المعقول أن يجلد الإمام على الكذب، و لما ذكرهم عليّ فقال: زرعوا الفجور، و سقوا الغرور، و حصدوا الثبور (1).
و لما ذكر أبا بكر، قال: «و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء» و لو كان هو الأفضل، فما معنى الهجوم عليه و مقاتلته و نسبة زرع الفجور و سقي الغرور و حصد الثبور إليه؟
و الاتفاق حاصل أيضا بأنّ أبا بكر قال: «لست بخيركم و عليّ فيكم» فإن كان صادقا فما هو بأفضل من أحد من الصحابة، و إن كان كاذبا فما هو للإمامة بأهل.
و لست أدري ما هو وجه تفضيله و لا يذكر له المخالف إلّا الغار، و كان شريكه عبد اللّه بن يقطر، و كان عليّ صاحب فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هذه المرتبة أفضل من تلك، و إن قيل: إنّه ختن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فللنبيّ ثمانية عشر ختنا و هو أحدهم، و مثله صاحبه، و لم يعط النبيّ من ابنتيهما أولادا و إلّا لكانتا قد ادّعتا الربوبيّة، و إذا كان هو ختن رسول اللّه فعليّ مثله ختنه من جهة أمّ هاني (2) و صهره و ابن عمّه شقيق والده.
ص: 190
الحديث السابع: و رووا عن النبيّ أنّه قال: أبو بكر و عمر سيّدا كهول أهل الجنّة.
الاتفاق حاصل بين المسلمين أنّ الجنّة ليس فيها شيوخ و لا كهول، و ذات يوم قال النبيّ لامرأة عجوز كانت حاضرة عنده- «أسجعيّة» (كذا)- على سبيل الدعابة و الخلق الحسن: «لا تدخل الجنّة عجوز» فأجهشت العجوز باكية، فقال لها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قال اللّه تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (1) و معناه- و اللّه العالم- أنّهنّ يتحوّلن في الجنّة إلى أبكار عذارى، و من هنا قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لأمزح و لا أقول إلّا حقّا.
و غرضهم من هذه المفتراة مناقضة الحديث المشهور الذي اتفق عليه أهل القبلة لصدقه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة من الأوّلين و الآخرين، و أبوهما خير منهما (2).
ص: 191
ص: 192
و في رواية أخرى: إنّ أهل الجنّة شباب كلّهم و إنّه لا يدخلها العجز.
و بناءا على هذا لو قدّر لهما الدخول إلى الجنّة لدخلوها شابّين و يكون الحسنان أفضل منهما، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الدنيا سجن المؤمن و القبر بيته و الجنّة مأواه، و الدنيا جنّة الكافر و القبر محبسه و النار مأواه، إلّا أن يكون النبيّ أراد جنّة الدنيا لأنّ الجنّة ليس فيها كهول، و إن كان الغرض كهولتهم بالقياس إلى أعمار الدنيا فإنّ الأنبياء نوح و لقمان و إبراهيم، و من الصحابة سلمان منّا أهل البيت أولى بهذه المرتبة.
الحديث الثامن: و رووا أيضا: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر.
و كذلك رووا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما أبطأ عنّي جبرئيل إلّا ظننت أنّه بعث إلى عمر.
و في رواية أخرى: ما احتبس عنّي الوحي إلّا ظننته قد نزل على عمر (1).
الجواب: جاء في كتبهم أنّ عمر قال: هل أنا منافق أو لا؟ و سأل حذيفة عن
ص: 193
ذلك مرّتين، و كان عليّ عليه السّلام يقول: «حذيفة كان عرّافا بالمنافقين». فمن كان شاكّا في دينه كيف يصحّ نزول الوحي عليه؟! و يكون شريك محمّد في رسالته و هو خاتم الأنبياء؟!
و إذا صحّ الحديث يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعدى عدوّ لعمر لأنّه فوّت عليه هذه الفرصة الثمينة و هي النبوّة التي لا يعادلها شي ء، و لا يسمو إلى رتبتها مقام، و يكون عمر أعدى عدوّ للنبيّ لأنّه إذا انقطع عنه الوحي استبدّ به الهاجس أنّه انصرف إلى عمر فيمتلأ حقدا عليه، نزولا عند الفطرة و موضعا لجبلة البشريّة التي يعادي الإنسان بها كلّ من ينافسه على شي ء ثمين، و يكون في موضع قلق و عذاب من وجود عمر، و ربّما زاد في عذابه ما يقتضي له رؤية عمر كلّ يوم مرّات، من الهمّ و الألم.
و العجيب في الأمر أنّ حصول عمر على هذا المقام المنيع و الوسام الرفيع من أيّة جهة؟ و لأيّ خصلة فيه و صفة له؟ و هو قد شاح في خدمة اللات و العزّى حتّى أخرجه الإسلام منها، هذا و إن جوّز شيعته الصغائر على الأنبياء و الأئمّة.
و أيضا يرى شيعة عمر و أتباعه وقوع الشي ء خلاف علم اللّه محالا ... و تكون المسألة على النحو التالي: إنّ اللّه علم برسالة عمر منذ الأزل و لكنّه لم يبعث و هذا خلاف ما علم اللّه و إن لم يكن قد علم بها فلا تقع أصلا، و يكون رسول اللّه في أمان من وقوعها لأنّها لم تكن في علم اللّه، و ما لم يكن حالا في علم اللّه فوقوعه محال من ثمّ هو على يقين بأنّ هذه الرسالة المدعاة لعمر لن تقع أصلا.
ثمّ إنّ اللّه تعالى يقول: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (1) الآية، و قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ
ص: 194
مِنْ بَعْدِهِ (1) فكيف لم يأخذ اللّه الميثاق من عمر؟
الحديث التاسع: و رووا عن النبيّ أنّه نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسّم و قال: إنّ اللّه باهى بعباده عامّة و باهى بعمر خاصّة (2).
الجواب: و هذا محال أن يترك اللّه سيّد أنبيائه و يباهي بعمر و يفاخر به و قد كان في الجاهليّة عاكفا على الذنوب و الكبائر و كان على الشرك، و في الإسلام شاكّا في إيمانه لا يدري أهو منافق أو مسلم، و نال محمّد العزّة قاب قوسين، و بلغ من الأمكنة القدسيّة ما لم يبلغه مخلوق لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (3) و أقسم بموطئ أقدامه لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ* وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (4) و ختم اللّه به مألف ألف و أربعا و عشرين ألفا من الأنبياء، أترى اللّه يعرض عن إنسان كهذا و يفاخر بعمر ابن صهّاك و هو من أدنى الناس و عامّتهم، ينبغي أن يستحي من اللّه من يقول هذا أو يعتقده «إذا لم تستح فاصنع ما شئت».
ثمّ إنّ اللّه تعالى أخذ من عباده الميثاق حيث قال: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (5) و لم يكن أبو بكر و عمر هناك لأنّهما أنكرا التوحيد حقبة طويلة من عمريهما، و كانا يسجدان لربّهما
ص: 195
اللات، فهذا و اللّه من العجب.
و لكن لا عجب من القوم الذين يزعمون أنّ النبيّ لمّا عرج به إلى السماء و بلغ الجنّة سمع خفق نعال بلال لأنّه سبقه إلى الجنّة لأنّه غلام أبي بكر، فيكون أفضل من رسول اللّه فليس عجيبا أن يكون عمر أفضل «إذا لم تستح فاصنع ما شئت».
الحديث العاشر: و رووا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو نزل العذاب ما نجى منه إلّا عمر (1).
الجواب: و بناءا على هذه الفرية فإنّ أبا بكر و عثمان يهلكان أيضا إلّا ابن الخطّاب و على مذهب القوم يهلك حتّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و حاشا للّه أن يعتقد بهذا مسلم.
ثمّ إنّ اللّه تعالى بشّر المؤمنين بشارة عامّة فقال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (2) فجعل حياة النبيّ أمان الناس فإذا انتقل إلى الرفيق الأعلى كان الاستغفار أمانا لهم، فهل كان أبو بكر و عثمان على غير استغفار؟
و لا ينبغي للنبي أن يقول عن عمر ما نسبوا إليه بعد نزول هذه الآية.
و لمّا دخل عمر في السياق و عرف أنّه صائر إلى الهلاك كان يستغيث من أعماله الشنيعة فيقول: واويلاه، و اثبوراه، يا ليتني كنت ترابا، يا ليت أمّي لم تلدني، و كان يردّد دائما: ليتني كنت شعرة في صدر أبي بكر ... فيكون أبو بكر بهذه الدرجة أولى من عمر.
ص: 196
و أوكل النبيّ النجاة إلى أهل بيته في حديثه المتواتر المشهور بين الأمّة: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح» الحديث (1)، و قال أيضا: «النجوم أمان لأهل السماء و أهل بيتي أمان لأهل الأرض» (2) و أمثال هذه الأخبار المروية عن طريق المؤالف و المخالف، و نتيجة لما تقدّم: إنّ رسول اللّه قال: هؤلاء في الجنّة.
الحديث الحادي عشر: قالوا: إنّ رسول اللّه قال: أبو بكر في الجنّة و عمر في الجنّة و عثمان في الجنّة و عليّ في الجنّة و طلحة في الجنّة و الزبير في الجنّة و عبد الرحمان بن عوف في الجنّة و سعد ابن أبي وقّاص في الجنّة و سعيد بن زيد في الجنّة و عبيدة بن الجرّاح في الجنّة.
الجواب: قد قال عمر لحذيفة يوما: نشدتك باللّه أمن المنافقين أنا؟ فلو أنّه صدّق رسول اللّه ببشارته لما كان سأل حذيفة عن وضعه الديني، و لم يقع في شكّ من أمره، و لا يصحّ في مذهب الخصم تكذيب الرسول، و يسأل حذيفة في حالة الشكّ عن حقيقة أمره، و هذا يدلّ على كذب حديث العشرة، و أنّه افتراء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و قال أبو بكر: «إنّ شيطانا يعتريني» و بهذا يكون مصاحبا للشيطان فكيف يبشّر بالجنّة.
و لا يصحّ في مذهب الخصم الحديث إلّا بحقّ عليّ عليه السّلام، و يبقى الباقون في العراء.
و الدليل على كذب هذا الحديث ما رواه صاحب الفتوح ابن أعثم الكوفي عن عمر أنّه قال في سكرات الموت لابنه عبد اللّه: لو رأيت أباك يقاد إلى النار أتفدينّه؟
ص: 197
و مثله حديث المصابيح: فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني، و الاتفاق حاصل على أنّهم غصبوا منها فدكا و آذوها و تأذّى النبيّ لأذيّتها، و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية (1).
و كان النبيّ قد دعاهم إلى قتل رجل من الخوارج فلم يطيعوا رسول اللّه أو يقبلوا قوله، و قالوا: لا نقتله لعلّه يقرأ القرآن.
و ذكر أبو بكر الشيرازي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرسل عمر يوم الحديبيّة إلى أهل مكّة فأبى قبول ذلك، و قال: لا أذهب، فأرسل عثمان فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (2) فلو كان مؤمنا لأطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و اشتهر بين الخاص العام بأنّ عمر قال: ما شككت منذ أسلمت إلّا يوم قاضى فيه رسول اللّه على أهل مكّة فإنّي جئت إليه و قلت: يا رسول اللّه، ألست بنبي؟
فقال: بلى، فقلت: ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، فقلت له: فلم تعطي الدنيّة من نفسك؟ فقال: إنّها ليست بدنيّة و لكنّها خير لك. فقلت له: أو ليس وعدتنا أن تدخل مكّة؟ قال: بلى. قلت: فما لنا أن لا ندخلها؟ قال: وعدتك أن ندخلها العام؟ قلت: لا، قال: فسندخلها إن شاء اللّه تعالى.
و جاء في تفسير السلماني: يا علي، أنت في الجنّة و شيعتك في الجنّة (3).
ص: 198
جرت العادة أنّ في الدعاوي إقرار المدّعي يكون فتحا عظيما، و إنّ طلحة و الزبير لمّا خرجا على الإمام فهما مرتدّان كما نسب ذلك إلى القوم الذين قتلهم أبو بكر حين خرجوا عليه بمنع الزكاة «هذا كيلا بكيل ردّة بردة» دعنا من هذا و لكن الردّة على عليّ أولى و أجلى بوجوه:
الأوّل: لعصمة عليّ.
الثاني: بآية المباهلة عليّ نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
الثالث: اتفق المسلمون على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «حربك حربي و سلمك سلمي» (1) و محارب رسول اللّه كافر فيكون محارب عليّ مثله.
الرابع: استخلف أبو بكر باختيار الناس و استخف عليّ عليه السّلام باختيار اللّه و رسوله.
و ذكر أبو سعيد ابن علي السمّان الحافظ الزاهد المحدّث السنّي في كتابه «المثالب» أنّ راوي الحديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، رواه في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المغيرة بن شعبة حاضر و مع ناس كثيرون، فلم يشهد أحد بسماعه من رسول اللّه غير سعيد، ثمّ إنّه أدخل نفسه مع المبّشرين بالجنّة، و هذا مدعاة لردّ الحديث بناءا على مذهب العلماء في السنّة و لو لا ذلك لأمكن النظر في الحديث من حيث القبول أو الرد، أمّا و الحال هذه فيعتبر مكذوبا به على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
الحديث الثاني عشر: و رووا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ الشيطان يفرّ من ظلّ عمر ... الخ (2).
ص: 199
الجواب: يقال: إنّ الشيطان وسوس لآدم كما جاء في القرآن الكريم: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ الآية (1)، و وسوس لموسى حيث قال: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ (2)، و قال أيّوب: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ (3)، و يقولون: ما من رسول إلّا و قد وقع عرضة لهذه الوسوسة: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ (4)، و قالوا: كان النبيّ في المسجد الحرام يصلّي و كان المشركون مجتمعين هناك و النبيّ يقرأ سورة و النجم حتّى وصل إلى قوله: وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (5) فألقى الشيطان في كلامه: «تلك الغرانيق العلى، و إنّ شفاعتهنّ لترتجى» ففرح المشركون بهذا و قالوا: لقد عظّم محمّد أصنامنا و أثبت لهنّ الشفاعة، فحزن النبيّ جرّاء ذلك حزنا شديدا و تألّم منه فأنزل اللّه عليه هذه الآية: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الآية.
و العجب من القوم أنّهم يجيزون وسوسة الشيطان على الأنبياء و المرسلين مع أنّهم لم يعبدوا صنما قط، و هذا عمر قضى أكثر عمره في عبادة الأصنام و كان مشركا باللّه، صار الشيطان يفرّ منه.
و لو نظرت بعين البصيرة إلى الحقيقة لكانت هذه الفرية مدعاة إلى القدح في عمر لأنّ الناس يقولون بلغ فلانا حدّا صار الشيطان يفرّ منه أي بلغ هذا الحدّ في الشيطنة.
ص: 200
الحديث الثالث عشر: و رووا عن الرسول أيضا بأنّه قال: وضعت في كفّة الميزان و وضعت أمّتي في أخرى فرجحت، فوضع مكاني أبو بكر فرجح، ثمّ وضع عمر فرجح بهم، ثمّ رفع الميزان (1).
الجواب: ليس في الدنيا شي ء أرخص من الكذب و أسهل منه، و قد أسلم عمر بعد شرك فكيف يرجح على رسول اللّه ثلاث مرّات، فإن كان الرجحان بالعلم فإنّه لم يعرف الأبّ حين سئل عن قوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (2) و قد أحصر في سبعين قضيّة و قضى بها عليّ عليه السّلام و هو القائل: «لو لا عليّ لهلك عمر» (3) و قال على المنبر:
كلّكم أفقه من عمر حتّى العجائز. و هذا القول مثبت في كتب أنصاره و شيعته، و أراد أن يحفظ سورة البقرة فأنفق عمره على حفظها فلم يتسنّ له و علم أنّ العلم في الكبر كالرقم على الماء.
و إن كان الرجحان بالزهد و الورع و حسن الخلق أو بالجهاد فقد أمن عمر من هذه القيم و عاش معافى منها و سليما من عاهاتها!!! أو كان بالقرابة فإنّها جميعا اجتمعت في عليّ عليه السّلام، مع أنّ عمر كان قد تمنّى أن يكون شعره في صدر أبي بكر (4).
ص: 201
و كان أبو بكر يقول: ليتني كنت شعرة في صدر مؤمن (1).
و العجب منه أنّه سرعان ما ارتفع نجمه و رجحت كفّة ميزانه إلى هذه الدرجة.
ثمّ إنّ الأعمال هي أعراض فكيف بالإمكان وزن العرض و الخصم لا يستطيع أن يثبت له عملا ليس مثله لأدنى الصحابة؟! و إن كان غرضهم من الوزن هيكل عمر و حجمه المسبطر فإنّ من اليقين أنّ عمر لم يكن بهذا الثقل بحيث يرجح على العالمين بالوزن ثلاث مرّات، و قيمة الجسم عائدة إلى قيمة الروح.
الحديث الرابع عشر: و رووا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نزل عليه جبرئيل و قال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤك السلام و يقول لك: اقرأ منّي على أبي بكر السلام و قل له: إنّي عنك راض فهل أنت عنّي راض؟!
الجواب: ألا يعلم المفتري أنّ اللّه تعالى عالم بالجزئيّات، فإذا كان أبو بكر راضيا عن اللّه تعالى فإنّ اللّه يعلم ذلك حتما و لو أنّه قدّر رضاه لوقع حتما و إلّا فوقوعه ممتنع و لا يسأل اللّه تعالى عن المحال.
ثمّ إنّ هذا القول لا يقع موقعا حسنا من مذهب القوم إذ ليس من المستحيل أن يسلبه اللّه الرضا عند الموت، و يحلّ محلّه الغضب و البغض و هو من اللّه حسن كما سبق تقريره، لأنّ الخصم لا يقول بالحسن و القبح العقليين.
ثمّ إنّ اللّه تعالى يقول لنبيّه: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (2) و عبّر عن ذلك بلفظ «عسى»، و لو صحّ هذا الحديث فإنّ أبا بكر لا يكون مؤمنا لأنّ اللّه تعالى يقول عن عباده المؤمنين في مواضع عدّة: رَضِيَ اللَّهُ
ص: 202
عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (1).
و يحضرني الآن أنّ هذه الافتراءات إنّما يفتريها الدهريّون، كما قال تعالى: وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ (2) و عاش أبو بكر في الشرك إلى شيخوخته و قد أسمن ترائبه و نحره و عروقه و أمعائه بشرب الخمر و أكل ما ذبح على النصب، و في إسلامه أدخل الظلم على أهل البيت و كان البادئ بذلك و فتح باب الشرّ عليهم، كما يعلم ذلك كلّ الناس، فكيف يعطى هذه المكافئة على تلكم الأعمال.
و بلغ كذبهم إلى درجة أن رووا أنّه كان النبيّ ذات يوم راكبا و أبو بكر إلى جانبه يسير على رجليه فهبط عليه الأمين جبرئيل و قال: ألا تستحي أنت راكب و أبو بكر راجل، و عليك أن تمشي ليركب أبو بكر ... و قد قال اللّه تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (3) و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى (4) و قال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً (5) و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (6).
و بناءا على هذا فإنّ اللّه تعالى أمر بالتواضع بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أمر بالتمرّغ في تراب نعليه، و أمر بالخضوع و الخشوع عند مخاطبته فكيف يؤنّب رسوله على ركوبه بين يدي أبي بكر و لقد أجمعت الفرق الثلاث و السبعون عن عليّ عليه السّلام على أنّ
ص: 203
مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان مجلس حلم و حياء، فكيف ينسب إليه المزاح و مع هذا فقد خاطبه اللّه بقوله: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (1) فلو صحّ ما قاله الخصم فإنّا نقول له: أليس أبو بكر من المؤمنين؟ أو أنّه لم يكن تابعا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله؟ ثمّ إنّ اللّه تعالى يحكي للمسلمين حاله معهم فيقول: وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ (2) فوصفه اللّه بالحياء و وصفه الخصم بقلّة الحياء، و اللّه أولى بالصدق من العدوّ المخالف.
الحديث الخامس عشر: و رووا عن بريدة أنّه قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض مغازيه فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول اللّه، إنّي كنت نذرت إن ردّك اللّه سالما أن أضرب بين يديك بالدفّ. قال: إن كنت نذرت فاضربي و إلّا فلا، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر و هي تضرب، ثمّ دخل عليّ و هي تضرب، ثمّ دخل عثمان و هي تضرب، ثمّ دخل عمر فألقت الدفّ تحت أستها (ثمّ) قعدت عليه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر، إنّي كنت جالسا و هي تضرب فدخل أبو بكر و هي تضرب، ثمّ دخل عليّ و هي تضرب، ثمّ دخل عثمان و هي تضرب، (فلمّا دخلت أنت ألقت الدف- المؤلّف) ثمّ دخلت أنت يا عمر فألقت الدف (3).
الجواب: هل كان ضرب المرأة بالدفّ طاعة أو معصية؟ فإن كان طاعة فلا سبيل إلى تركه لحضور أحد، و إن كان معصية فلا سبيل إلى فعله بين يدي النبي
ص: 204
و أصحابه و هم قادرون على دفعها و منعها.
و أمّا خوف الشيطان من عمر فإنّه لم يخف من اللّه تعالى و لا من أنبيائه، و كما يزعم شيعة عمر لم يبق نبيّ لم يوسوس له الشيطان كرّة بعد كرّة لأنّه يجيزون على الأنبياء فعل المعصية فمن أين جاءت لعمر هذه الدرجة الرفيعة و الرتبه القصوى؟
ثمّ كيف ينشغل النبيّ و أصحابه باللهو و اللعب و اللّه تعالى يقول: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً (1)، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً الآية (2) و هم بمدحهم عمر ينتقصون جانب أخويه أبي بكر و عثمان.
الحديث السادس عشر: عن سعد بن أبي وقّاص: استأذن عمر بن الخطّاب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عنده نسوة من قريش عالية أصواتهنّ، فلمّا استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب، فدخل عمر و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يضحك، فقال عمر: أضحك اللّه سنّك يا رسول اللّه. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.
فقال عمر: يا عدوّات أنفسهنّ، أتهبنني و لا تهبن رسول اللّه؟ فقلن: نعم، أنت أفظّ و أغلظ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و الذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجّا قطّ إلّا سلك فجّا غير فجّك (3).
الجواب: إنّ هذا الحديث ينسب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المعصية بالعمل على خلاف
ص: 205
أوامر اللّه، لأنّ اللّه تعالى يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ (1) و هل قصّر رسول اللّه على مذهب الخصوم في التبليغ فلم يتل هذه الآية على النساء لكي لا يرفعن أصواتهنّ على صوت النبيّ؟ حاشا من ذلك.
و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (2) و قال تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (3).
هذه الآيات و أمثالها أنزلن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى حمل الأصحاب على خفض الصوت في حضرته، فهل من المعقول أن لا يكون بلغها النساء ليعرفن أنّ رفع الصور محضور بين يديه.
ثمّ لو تغاضينا عن هذا كلّه فأنّى لنا بالسكوت عن اتهام النبيّ بالانشغال مع النساء بالحديث خلافا لمقتضى آيات القرآن، و بناءا على ما افتروه ينبغي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يكل الأمر في الشريعة إلى عمر ليسوّي ميلها و يقيم معوجّها لأنّ رسول اللّه كما يزعمه الخصم لا يبلغ الشريعة كما ينبغي له، و اللّه تعالى يقول: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (4).
أضف إلى ذلك أنّ رفع الصوت إن كان طاعة فقد تسبّب عمر في رفعها، و إن كان معصية فالرسول أولى منه بمنعها.
و أمّا قول عمر: «أتهبنني» فإنّ اللّه تعالى لم يقل: خافوا من عمر و لا خافوا من رسول اللّه بل قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (5)، و قال أيضا: فَاتَّقُوا اللَّهَ
ص: 206
وَ أَطِيعُونِ (1) و وقع هذا القول موقعه.
و أمّا قولهنّ لعمر: «أنت أفظّ و أغلظ» فهذا يدلّ على نقصان حال عمر لأنّ الغلظة و الفظاظة صفة المنافقين و الكافرين لا المؤمنين، و هذا يدلّ على سلب الإيمان من عمر، لأنّ النبيّ قال: «المؤمن إلف مألوف» (2).
و قال اللّه تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ (3) و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: المؤمنون هيّنون ليّنون (4)، كما قال تعالى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (5)، و قال: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (6).
الحديث السابع عشر: عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالسا فسمعنا لغطا و صوت صبيان، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإذا حبشيّة ترقص و الصبيان حولها، فقال: يا عائشة، تعالي و انظري، فجئت فوضعت يدي على منكب رسول اللّه فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت أما شبعت، فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع عمر فارفض الناس عنها، فقال رسول اللّه: إنّي لأنظر إلى
ص: 207
شياطين الجنّ و الإنس قد فرّوا من عمر (1).
الجواب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يحبّ السهل الطلق، و قال أيضا: و أوّل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن. و امتنّ اللّه على نبيّه بالخلق الحسن حيث قال:
وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (2)، و قال رسول اللّه: إنّ اللّه يبغض العفريتة النفريتة.
فتبيّن من هذا أنّ عباد اللّه هم ذووا الخلق الحسن، أمّا الفظاظة و الغلظة فهي من الصفات الذميمة لأهل النار.
و الدليل على كذب هذا الحديث قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (3)، و عمر لم يكن من الملائكة بالضرورة، و لم يكن من الجنّ أو الشياطين، فعلى هذا ليس للشياطين أن يفرّ منه لا سيّما على مذهب أهل السنّة و الجماعة الذي يجوّزون على الأنبياء وسوسة الشياطين، و حاشا للّه أن يقدّر هذا على أنبيائه الكرام و رسله العظام.
و يقول المخالف عن النبيّ أنّه قال: إنّ اللّه يغار للمؤمن فليغر (4).
ص: 208
و قال أيضا: الربّ غيور.
و قال صلّى اللّه عليه و آله أيضا: إنّ سعدا لغيور، أنا أغير منه (1)، و اللّه أغير منّا، و من غيرته حرّم الفواحش.
فأيّ عاقل يدعو زوجته لمشاهدة الرجال الأجانب كيف يرقصون و يلعبون و لمعصية اللّه، و أقسم باللّه العظيم لو أنّ هذه الحكاية نسبت إلى فاسق فاجر جلف جاف مستهتر لشانته فما بالك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله!
الحديث الثامن عشر: عن ابن عمر: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج ذات يوم و دخل المسجد و أبو بكر و عمر أحدهما عن يمينه و الآخر عن شماله، و هو آخذ بأيديهما، فقال: هكذا نبعث يوم القيامة (2).
ص: 209
الجواب: هذا الحديث مخالف لكتاب اللّه القائل: وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (1) و قال: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ (2)، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا ورد منّي عليكم حديث فأعرضوه على كتاب اللّه؛ إن وافق فاقبلوه و إلّا فردّوه على الحائط (3).
فلمّا خالف كتاب اللّه وجب ردّه، و عندي أنّ هذا النشور لا يلائم مقام النبوّة لأنّه سوف تحيا بناته معه و هنّ بالقرب من رسول اللّه و على هذا فينبغي أن يستبعد عن مقامه الشريف الأجنبي البعيد من قبل هذين الاثنين و بناءا على هذا ينبغي أن نقول بثقة و اطمئنان أنّ هذا الحديث كذب صراح (4).
و روى الخاصّ و العام عن أبي ذر الغفاري بأنّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعليّ: أنت أوّل من يصافحني يوم القيامة و أنت الصدّيق الأكبر، و أنت الفاروق
ص: 210
الأعظم تفرق بين الحق و الباطل، و أنت يعسوب المؤمنين، و المال يعسوب الكفّار (1).
الحديث التاسع عشر: و قالوا: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما من نبيّ إلّا و له وزيران من أهل السماء، و وزيران من أهل الأرض، فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبرئيل و ميكائيل، و أمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر و عمر (2).
الجواب: و هذا يصادم الحديث الذي رووه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أخي و وزيري و خير من أترك من بعدي، يقضي ديني و ينجز وعدي عليّ بن أبي طالب.
قال أبو بكر الشيرازي: قال ابن عبّاس: عن أسماء بنت عميس، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: اللهمّ إنّي أقول كما قال موسى بن عمران: اللهمّ اجعل لي وزيرا من أهلي عليّ بن أبي طالب.
و أمّا من طريقنا أيّها الشيعة فقد وردت روايات جمّة في هذا المعنى و لكن الحديثين المذكورين ثبتا برواية رواتهم.
الحديث العشرون: قال المخالف: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللهمّ أعزّ الإسلام بأبي جهل ابن هشام أو بعمر بن الخطّاب (3).
ص: 211
الجواب: لا فخر لعمر في مقارنته بأبي جهل، و أورد أبو بكر الشيرازي في تفسير سورة الحجّ، أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر أبا بكر قائلا: خذ السيف و اقتل فلانا داخل المسجد الآن لأنّه صاحب فتنة و بدعة، فلمّا جائه وجده راكعا، فرجع و قال: يا رسول اللّه رأيته ساجدا، فأمر عمر بقتله، فرجع كما رجع صاحبه، و قال: يا رسول اللّه، رأيته ساجدا، ثمّ أعطى السيف في الثالثة إلى عليّ عليه السّلام و قال: أنت صاحبه فإن وجدته فاقتله و إلّا فعد إلينا، فلمّا دخل عليّ المسجد وجد الرجل قد لاذ بالفرار.
قال أبو بكر الشيرازي: و هذا قتله عليّ عليه السّلام في صفّين (1).
أيّها القارئ الكريم، هذا هو إعزاز الدين عندهم، يقول لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اقتلا صاحب البدعة مفجر الفتنة في العالم، فلم يقتلاه و تركا أمر رسول اللّه ورائهما ظهريّا.
قال الكسائيّ في قصّة: مكتوب على العرش: «لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه،
ص: 212
أيّدته بعليّ و نصرته به» (1).
قال أبو بكر الشيرازي: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (2) يعني بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و قال أيضا: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (3) في سيف عليّ ذي الفقار الذي أهداه اللّه تعالى إلى آدم من الجنّة و كان قد صنعه من ورقة من آس الجنّة، و كتب عليه: لا يزال الأنبياء يحاربون به، نبيّ بعد نبيّ، و صدّيق بعد صدّيق، حتّى يرثه أمير المؤمنين.
ثمّ قال: وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ هذه هي النصرة، و الناصر عليّ، و كانت عزّة الإسلام بذي الفقار و بنصر عليّ عليه السّلام و جهاده، و ليس لعمر في النصرة و الجهاد اسم يذكر و لا خبر يؤثر، من أنّه فعل شيئا قبل الهجرة أو بعدها.
ثمّ إنّنا قد نصدّق بما قاله النبيّ عن عمر ليس للخوف منه لأنّه ليس ملكا و لا رئيسا و لا شجاعا لكي يحذروه أو يفرقوا منه و لكنّه كان ذا فتنة حتّى و هو مشرك و من أهل المكر و الحيلة و الاستبداد و الشطارة، فما كان المسلمون يأمنون شرّه و لا كيده فيهم من ثمّ دعا النبيّ عليه لكي يحمي اللّه المسلمين من شرّه، و يدفع عنهم ضرره بإظهاره الإسلام.
ص: 213
الحديث الواحد و العشرون: و قالوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر (1).
الجواب: عنوان الخيريّة يتحقّق إمّا بالحسب أو النسب، و هاتان الخصلتان موجودتان في عليّ لا في عمر.
و إمّا بالعبادة، و زعم الخصم أنّ قوله تعالى: وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (2) نزلت في عليّ عليه السّلام الذي عبد اللّه قبل عمر و عبده بعده، و كان عليه السّلام متقدّما عليهم جميعا بالسخاء و العطاء و الجهاد، و كلّما تفرضه من فعل الخير.
و إمّا بالعلم، و هو باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يقول المخالف كما جاء في نكت فصول أبي الفتوح الاصفهاني نقلا عن الصحيح، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أوحى اللّه تعالى في عليّ ثلاثا: سيّد المسلمين، و إماما المتقين، و قائد الغرّ المحجّلين، و الذي يكون بهذه الصفة لا يمكن أن يكون إلّا حاكما على عمر، و خيرا منه (3).
لا يختلف المخالفون عن أبي بريرة بأنّ فاطمة عليها السّلام قالت: يا رسول اللّه، تزوّجني من عليّ بن أبي طالب و هو فقير و لا مال له، فقال: أما ترضين أنّ اللّه تعالى اطّلع على أهل الدنيا فاختار رجلين: أحدهما أبوك و الآخر بعلك.
ص: 214
و روي: إنّ اللّه تعالى قد اطّلع على أهل الدنيا فاختار منهم أباك، فاتخذه نبيّا ثمّ اطّلع ثانيا فاختار منهم بعلك (1).
و لو كان الحديث صحيحا فهل بمستطاع الخصم أن يفضل عمر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هذا محال، و الذي يؤدّي إلى المحال محال أيضا.
الحديث الثاني و العشرون: و قالوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: وضع الحقّ على لسان عمر و قلبه (2).
الجواب: يقول جار اللّه: شاور رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر و عمر في شأن العبّاس و عقيل، فقال أبو بكر: يطلق سراحه، و قال عمر: يقتل، فقبل رسول اللّه قول أبي بكر و ردّ قول عمر، فلو وضع الحقّ على قلبه و لسانه لما ردّ رسول اللّه قوله.
ثمّ إنّ اللّه تعالى أوجب طاعة رسوله و الأخذ بقوله بحكم: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ (3)، وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (4) فقال لأبي بكر و عمر اقتلا ذلك المبتدع في المسجد و أعطاهما السيف، فلم يطيعا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و لو وضع الحقّ على لسان عمر و قلبه لما سأل حذيفة: هل أنا منافق أو لا؟ و لم يشكّ في الإسلام طرفة عين.
[حديث آخر] و بهذا يبطل قول المخالفين من أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: بينا أنا نائم رأيت الناس
ص: 215
يعرضون عليّ و عليهم قمص منها ما يبلغ الثدي و منها دون ذلك، و عرض عليّ عمر ابن الخطّاب، و عليه قميص يجرّه، قالوا: فما أوّلت يا رسول اللّه؟ قال: الدين (1).
الجواب: و هذا باطل أيضا لأنّه لو كان من أهل الدين لما شكّ في الإسلام و لم يشكّ في آية لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ (2) و لم يشكّ بقول الرسول و قد اعترف بذلك حين قال: ما شككت منذ أسلمت إلّا يوم قاضى فيه رسول اللّه أهل مكّة (3)، و مرّ بيان هذا الحديث في الحادي عشر.
الحديث الثالث و العشرون: و قالوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن حتّى لأرى الري يخرج من أظافري، ثمّ أعطيت فضلي عمر بن الخطّاب. قالوا: فما أوّلته يا رسول اللّه؟ قال: العلم (4).
الجواب: اتفق المخالفون على أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قال في أوّل خطبة على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد مقتل عثمان: سلوني عمّا دون العرش، سلوني عن طرق السماء فإنّي أعلم بها من طرق الأرض (5).
ص: 216
ثمّ قال: لو وضعت لي الوسادة و جلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزبور بزبورهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم (1)، و اللّه ما من آية نزلت في بحر و لا برّ و لا سهل و لا جبل و لا سماء و لا أرض إلّا و أنا أعلم فيمن نزلت و في أيّ شي ء نزلت.
و قال أبو بكر الشيرازي: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (2) و أهل الذكر عليّ عليه السّلام، و كان عنده علم الصحابة.
و يقرّ المخالف بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها، و قال: أقضاكم عليّ، و القضاء محتاج إلى علوم عدّة تتقدّمه، و من لا يدري هل هو مسلم أو لا، أين يقع من العلم، و لو كان يعلم لعلم معنى وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (3).
الحديث الرابع و العشرون: و قالوا: دعا رسول اللّه في مرض موته عائشة و قال: ادعي لي أبا بكر، و أخاك حتّى أكتب كتابا فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنّ و يقول قائل: أنا و لا غيري، و يأبى اللّه و المؤمنون إلّا أبا بكر (4).
و كذلك قالوا: أتت امرأة النبيّ فكلّمته في شي ء فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا
ص: 217
رسول اللّه، إن جئت و لم أجدك، كأنّها تريد الموت، قال: فإن لم تجديني فأتي أبا بكر (1).
الجواب: أجمع المخالفون على أنّ النبيّ رحل عن الدنيا و لم يوص في أمر الخلافة بشي ء، فإن كان الإجماع صحيحا كان حديث عائشة باطلا و كذبا.
و أمّا قوله: «و يأبى اللّه و المؤمنون إلّا أبا بكر» فهذا نصّ على خلافته و الخصم يدّعي الاختيار، فإن صحّ هذا فالاختيار باطل.
ثمّ إنّ قوله «و المؤمنون» يشمل بني هاشم و مواليهم و شيعتهم و أكابر الصحابة مثل أبي ذر و سلمان و المقداد و عمّار و محمّدا بن أبي بكر (2) و عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن مسعود (3) و سعد بن عبادة الخزرجي و جماعته و بني حنيفة أجمع هؤلاء كلّهم «المؤمنون» و قد أنكر و خلافة الأوّل و أبوها و منهم من حاربه، و أضف إليهم أتباعهم أيضا.
و لقد أجمع علماء الخلاف على صحّة حديث: «إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، حديث مجمع عليه و لا يمكن تسويته بما هو مفتعل موضوع، و أمّا ما لفّقوه عن المرأة و أمر النبيّ إيّاها بإتيان أبي بكر هو باطل و معارض بحديث المصابيح حيث ورد عن ابن عبّاس: قال سألت رسول اللّه: إذا كان ما نعوذ باللّه منه، فإلى من؟ فأشار إلى عليّ عليه السّلام فقال:
هذا، فإنّه مع الحقّ و الحقّ معه، ثمّ يكون من بعده أحد عشر إماما مفترضة طاعتهم كطاعته (4).
ص: 218
و كذلك رووا عن عمرو بن العاص بأنّه قال: إنّ النبيّ بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته، فقلت: أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها (1).
رددنا على هذه الفرية فيما تقدّم و هنا نقول: إنّه معارض بحديث عائشة و هو مشهور في كتب المخالفين، فقد سألوها: أيّ الناس أحبّ إلى رسول اللّه؟ قالت:
فاطمة، فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها (2).
و رووا كذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أوّل من ينشقّ عنه الأرض أنا ثمّ أبو بكر ثمّ عمر.
رددنا عليه بحديث أبي بكر القائل: إنّ الرسول قال: عليّ أوّل من آمن بي، و أوّل من يصافحني يوم القيامة (3).
هذا هو عليّ عليه السّلام الذي أمر النبيّ بسدّ الأبواب من المسجد إلّا بابه، و منع
ص: 219
الصحابة من سلوك المسجد إلّا عليّا، فقد كان كرسول اللّه يخرج و يدخل من الباب الذي ظلّ مفتوحا.
جاء في المصابيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: لا يحلّ لأحد يجنب في المسجد غيري و غيرك (1).
قال حمّاد بن صرد: معناه: لا يحلّ لأحد يستطرقه جنبا غيري و غيرك.
و في رواية: في هذا المسجد غيري و غيرك، فإذا كان النبيّ في حياته سدّ في وجههم الباب و فتحه لعليّ فكيف يجوز فتحه في وجوههم يوم القيامة و قد حرّم عليهم في الدنيا مع أنّهم لم يشهدوا جنازة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رقدوا في بيت رسول اللّه بدون إذن فاطمة عليها السلام هذه السنين.
و جاء جواب آخر في نكت الفصول للعجلي: بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بشّر فاطمة بأنّها أوّل أهله لحوقا به، فتوفّيت بعد رسول اللّه، فإذا كانت فاطمة عنده كما يقول بذلك الخصم أيضا فكيف يحضرهما رجل أجنبيّ، قال اللّه تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (2)، فإذا كانت فاطمة مع أبيها، فما من أحد يستطيع
ص: 220
خرق حجاب النور المضروب عليها، و اجتمعت كلمة المنافقين أنّ فاطمة إذا دخلت عرصة القيامة نادى مناد: يا أهل الموقف، غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله (1).
و إذا ما قال المخالف: يفرق في القيامة بينها و بين أبيها، فإنّنا نقول: نعوذ باللّه ممّن يفرق بينها و بين أبيها لأنّه حينئذ يسلك به إلى جهنّم في طريق مستقيم.
و لو قال مخالفنا بأنّ نشر الزهراء بعيد عن نشر أبيها يوم القيامة، فإنّنا نقول:
و هذا القول يضرّ مخالفنا و لا ينفعه و ينقض عليه قوله.
الحديث الخامس و العشرون: و قالوا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتاني جبرئيل فأخذ بيدي، فأتى باب الجنّة الذي يدخل أمّتي، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، وددت أنّي كنت معك حتّى أنظر إليك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أما إنّك يا أبا بكر، أوّل من يدخل الجنّة من أمّتي (2).
الجواب: الحديث منقوض بما رواه السلماني و الزمخشري من علماء أهل السنّة في تفاسيرهم، عن عليّ عليه السّلام قال: شكوت إلى رسول اللّه حسد الناس لي، فقال: أما ترضى أن تكون رابع أربعة، أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت و الحسن و الحسين، و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا، و ذرّيّتنا خلف أزواجنا، و شيعتنا من ورائنا (3).
هذا الحديث يكذّب الحديث الأوّل و يصدّق الشيعة، و الحديث الأوّل رواية
ص: 221
سفيان و تكذيب الشيعة لهذا الحديث يستند إلى القرآن، قال اللّه تعالى: أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (1) و ليس دخول الجنّة بالطمع وحده بل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (2).
الحديث السادس و العشرون: و قالوا أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمّهم غيره.
الجواب: هذا الحديث باطل برواية الخصم الذي قال: صلّوا خلف كلّ برّ و فاجر (3). فإذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أذن بالصلاة وراء كلّ برّ و فاجر فلا بدع أن يكون أبو بكر فاجرا.
و قال رسول اللّه أيضا- كما يزعمون-: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، و لم يفضل أحدا على أحد و إنّما ساوى بالاقتداء بينهم جميعا، فيكون التخصيص بأبي بكر من ضمن المفتريات على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
و هذا الحديث مطلق ينسحب على زمن النبي في حياته و بعد وفاته فينبغي أن يكون رسول اللّه ائتمّ بأبي بكر لئلّا يكون من مصاديق الآية: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (4) و ليس من اللائق بجنابه أن يأمر أمّته بأمر ثمّ لا يجريه مع الإمكان، و لا يقول بائتمامه بأبي بكر مسلم.
ص: 222
الحديث السابع و العشرون: و رووا أيضا عن الصحابة بأنّهم قالوا: كنّا في زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحدا ثمّ عمر ثمّ عثمان، ثمّ نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم.
و روي: كنّا نقول و رسول اللّه حيّ: أفضل أمّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعده أبو بكر، ثمّ عمر ثمّ عثمان (1).
الجواب: هذا الحديث باطل بناءا على ما رواه المخالف الذي روى حديث النبيّ في فضل عليّ عليه السّلام أنّه قال: أعلمكم و أفضلكم عليّ.
و جاء في كتاب النكت عن عائشة أنّها قالت: كنت عند النبيّ إذ أقبل عليّ، فقال: هذا سيّد العرب. فقلت: بأبي أنت و أمّي، ألست سيّد العرب؟ فقال: أنا سيّد العالمين و هو سيّد العرب (2).
و ذكر السلماني و الزمخشري في تفسيريهما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: سبّاق الأمم
ص: 223
ثلاثة، لم يكفروا باللّه طرفة عين: عليّ بن أبي طالب، و صاحب يس، و مؤمن آل فرعون، و هم الصدّيقون و عليّ أفضلهم.
و ما قاله قائلهم: ثمّ نترك أصحاب رسول اللّه لا نفاضل بينهم، فهذا خلاف لقول اللّه تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (1)، و من الطبيعي أن لا يكونوا جميعا سواء في التقوى و إلّا لكان هذا الكلام لغوا و كان وجود المنافقين كالعدم.
و قال تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (2) و هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ (3)، و قال: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (4)، و: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً (5)، وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا (6)، و قال: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ (7).
و هذه الدرجة الأوليّة في القرآن الكريم، و أجمع أهل القبلة على أنّ النبيّ كان يقرّب أهل بدر أكثر من غيرهم، و يدني مجلسهم من مجلسه في المسجد.
و أمّا باقي الصحابة فقد قال في حقّ سلمان: «سلمان منّا أهل البيت».
و قال لعمّار: خالط الإيمان لحمه و دمه، يدور مع الحقّ حيث ما دار، و كذلك أبو ذر.
و أمّا عليّ فقد كان تقديمه أظهر من الشمس كما كشفنا مضمره فيما سلف.
ص: 224
فتبيّن من هذا أنّ القرآن و الإجماع يدلّان على كذب هذا الحديث و الإجماع حاصل على أنّ عثمان لم يكن بدريّا. كامل البهائي ج 1 225 الباب الثامن في المناقب و الأخبار التي افتروها زخرفة لأباطيلهم ..... ص : 176
الحديث الثامن و العشرون: و قالوا عن النبيّ بأنّه قال لأبي بكر: أنت صاحبي في الغار، و صاحبي في الحوض (1).
الجواب: لمّا كان أبو بكر صاحبه في الغار فينبغي أن يكون صاحبه في موضع آخر بناء على قائل هذا الدليل، بينما أمر النبي عليّا أن ينام في فراشه حتّى نزلت بحقّه الآية: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ (2) و بالطبع رتبة صاحب الفراش أرفع من رتبة صاحب الغار، لأنّ هذه الخدمة ممكنة لكلّ أحد، أمّا تلك الخدمة فليست إلّا لنبيّ أو وصيّ نبيّ.
و الدليل على ذلك أنّ عبد اللّه الأرقط كان من الصحابة الذين حضروا في الغار مع النبي (3) و ليست الصحبة في الغار ذات مستوى رفيع ليتباهوا بها فقد كانت السباع و الوحوش و الأبالسة مع نوح في السفينة شهورا متعدّدة، و مثله يقال في أهل الكهف و صاحبهم الكلب. و سيأتي مزيد كلام حول هذا المعنى إن شاء اللّه.
ص: 225
ثمّ إنّ بني هاشم بصفة عامّة و عليّ بصفة خاصّة هاشميّ و قرشيّ و ابن عمّ و صهر و ناصر و ابن ناصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أخ كما قال: أنت أخي في الدنيا و الآخرة (1)، كما جاء في مصابيحهم.
و كان نجيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، جاء في المصابيح: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا عليّا يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما انتجيته و لكنّ اللّه انتجاه (2). و للحديث دلالة واضحة تشبّه عليّا بموسى بن عمران، فكلاهما ناجاه اللّه تعالى.
و قال سلمان: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أوّلكم ورودا عليّ الحوض، و أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب (3).
ص: 226
عن أبي سعيد، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، معك يوم القيامة عصى من عصى الجنّة تطرد بها المنافقين عن حوضي (1).
و يقول أمير المؤمنين للحارث الهمداني:
أسقيك من بارد على ظمإتخاله في الحلاوة العسلا أمّا الأحاديث الواردة عن طريق الشيعة، فعن الصادق عليه السّلام أنّه قال: يا علي، أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم، و تمنعون من كرهتم، و أنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و تحزن الناس و لا تحزنون، فيكم نزلت الآية: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (2). (3)
و سئل رسول اللّه عن الحوض، فقال: إنّ الحوض عرضه ما بين صنعاء إلى إيله، و إنّ فيه من الأباريق عدد نجوم السماء، عليه أمير المؤمنين، يسقي منه أوليائه، و يبعد عنه أعدائه بالعصى التي معه، و هي عصى من عوسج يسمّى نفعه.
قال عليّ بن الحسين عليه السّلام:
لنحن على الحوض روّاده نذود و نسقي ورّاده
و ما فاز من فاز إلّا بناو ما خاب من حبّنا زاده
ص: 227
و من سرّنا نال منّا السرورو من ساءنا ساء ميلاده و من كان غاصبنا حقّنافيوم القيامة ميعاده (1) الحديث التاسع و العشرون: عن حفصة بنت عمر، قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم جالسا و قد وضع ثوبه على ركبته، فجاء أبو بكر فاستأذن له و الرسول على هيئته، ثمّ جاء عمر و كان على هيئته، ثمّ جاء عليّ و كان على هيئته، ثمّ ناس من أصحابه و كان على هيئته، ثمّ جاء عثمان يستأذنه فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثوبه فتحلّله، قالت: فتحدّثوا فخرجوا، فقلت: يا رسول اللّه، جاء أبو بكر و عمر و عليّ و الناس من أصحابك و أنت على هيئتك، فلمّا جاء عثمان تحلّلت بثوبك! فقال صلّى اللّه عليه و آله: أما نستحي ممّن يستحي الملائكة (كذا) .. (2).
و في رواية أخرى للمصابيح أنّه قال: إنّ عثمان رجل حيي و خفت أن أئذن له و أنا على هذه الهيئة فلا يفضي بحاجته حياءا.
الجواب: أين كان حياءه يوم ولّى منهزما في حرب أحد (3) و لمّا قتل حمزة دخل
ص: 228
الوهن على مقاتلة المسلمين و كان عثمان أوّل من هرب منهم و هو سبب هذا الوهن، و لم يعد إلّا بعد مضيّ ثلاثة أيّام، و اختبأ في غار هناك.
و أين كان حيائه يوم حنين لمّا هرب كالغزال في الهزيمة.
و لمّا تلاحيا هو و يهودي، قاضاه إلى حكم يهوديّ و قاضاه اليهودي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يرض ذلك عثمان لعنه اللّه حتّى نزلت هذه الآية: لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ (1)، فأين طار حيائه يومئذ؟!
و لمّا آوى طريد رسول اللّه مروان و صيّره وزيرا مقرّبا، و نفى أبا ذر إلى الربذة أين كان حيائه؟ و أين كان حيائه و هو يقصف بيت المال قصفا؟
و لست أدري في أيّ بقعة من بدنه كان حيائه يوم ولّى على بلاد المسلمين حمارا يعاقرها صرفا غير مشمولة و يصلّي بالمسلمين صلاة الصبح أربع ركعات، و كان عثمان يعلم به و لا يمنعه؟
و أين كان حيائه أيضا حين سلّط بني أميّة على أشعار المسلمين و أبشارهم؟
في كتاب الفتوح لابن الأعثم الكوفي: إنّ عثمان كان يأمر للرجل الواحد بمائة ألف درهم. قال: ثمّ قدم عليه عبد اللّه بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أميّة فوصله بثلاثمائة ألف .. (2).
ثمّ بعث إلى الحكم بن أبي العاص فردّه إلى المدينة و هو طريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ
ص: 229
وصله بمأة ألف درهم من بيت مال المسلمين (و جعل له خمس أفريقيا) (1).
و بينما كان عثمان يبدّد بيت المال هنا و هناك، كان أبناء المهاجرين و الأنصار و معهم بنو هاشم و هم آل رسول اللّه و أقربائه، يتضوّرون جوعا، فأين كان حيائه و هو يخالف سنّة المصطفى؟
قال: فكبر ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كرهوا ذلك من فعله- لمّا رأوا من جوره و إتلافه أموال المسلمين، و ما عليه أبناء المهاجرين و الأنصار من الضعة و الهوان، و ما يرفل فيه بنو أميّة من الملك و الرفاهيّة ... المؤلّف- ثمّ إنّهم كتبوا كتابا و ذكروا كلّ حدث أحدثه عثمان منذ يوم ولي الخلافة إلى ذلك اليوم، ثمّ إنّهم خوّفوه في الكتاب و أعلموه أنّه إن لم ينزع عمّا هو عليه خلعوه و استبدلوا به غيره.
قال: فكتبوا هذا الكتاب، ثمّ قالوا: ننطلق به جميعا حتّى نضعه في يده فإنّنا إن ذهبنا نكلّمه و ليس معنا كتاب لم يحضرنا من الكلام ما نريد، ثمّ أقبلوا على عمّار بن ياسر و قالوا له: يا أبا اليقظان، هل لك أن تكفينا هذا الأمر و تنطلق بالكتاب إلى عثمان؟ فقال عمّار: أفعله، ثمّ أخذ الكتاب و انطلق إلى عثمان ... فأمر عثمان غلمانه فضربوه ضربا شديدا حتّى وقع لجنبه ثمّ تقدّم إليه عثمان فوطئ بطنه و مذاكيره حتّى غشي عليه و أصابه الفتق، فسقط لما به لا يعقل من أمره شيئا ...
ثمّ انطلقوا- بنو مخزوم- بعمّار إلى منزله مغشيّا عليه، فلم يصلّ ظهرا و لا عصرا و لا مغربا و لا عشاءا حتّى ذهب بعض الليل، ثمّ أفاق بعد ذلك من غشيته فقام فقضى ما فاته من صلاته كلّها (2).
فقام أصحاب رسول اللّه من أجل هذا التصرّف الأهوج و قتلوه، و صاحب
ص: 230
الفتوح لا يتّهم على ما ينقل عن نعثل لأنّه من كبار أهل السنّة و الجماعة.
و نتسائل الآن بعد ما ذكر عن حيائه و هو يضرب صحابيّا كبيرا من طراز عمّار ابن ياسر مع أنّ النبيّ قال- على ما يزعم الخصم-: اشتاقت الجنّة إلى ثلاث: عليّ و عثمان و عمّار، و هذا الحديث مذكور في كتاب «النكت العجلى».
قال صاحب الفتوح: فبلغ ذلك أبا ذر و كان مقيما بالشام، فجعل يظهر عيب عثمان هناك و يذكر منه خصالا قبيحة، فكتب معاوية بن أبي سفيان بذلك إلى عثمان ...
فكتب إليه عثمان لعنه اللّه: فابعث به إليّ و احمله على أغلظ المراكب و أوعرها، و ابعث معه دليلا يسير به الليل مع النهار حتّى يغلبه النوم فينسيه ذكري و ذكرك.
قال: فقدم بأبي ذر المدينة و قد سقط لحم فخذيه ... قال: ثمّ أمر مروان بن الحكم أن يخرج أبا ذر من المدينة على بعير بغير وطاء (1)- إلى الربذة- و تبعه جماعة من الناس يشيّعونه و يحزنون لحزنه، منهم عليّ و الحسن و الحسين رضي اللّه عنهم و عمّار بن ياسر و المقداد بن الأسود و عيينة بن عبّاس (كذا) (2) و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يعزّي أبا ذر عمّا نزل به و ينصحه و يوصيه بالصبر و الشكر، و المؤمنون يبكون لأبي ذر، و ودّعه أمير المؤمنين عليه السّلام و الحزن غالب عليه، و لمّا رجع من وداعه، استقبله مروان فقال: أليس قد أمر أمير المؤمنين أن لا يخرج أحد مع هذا الشيخ و لا يشيّعه أحد من الصحابة؟ قال: فرفع عليّ عليه السّلام (رضي اللّه عنه) قضيبا كان في يده فضرب به بين أذني بعير مروان ثمّ قال: إليك عنّا يابن الزرقاء، أمثلك يعترض علينا في الذي نصنع؟
قال: فرجع مروان إلى عثمان فأخبره بذلك، (فاستدعى عثمان أمير المؤمنين
ص: 231
و عاتبه بكلام شديد .. المؤلّف) فقال عليّ عليه السّلام: ليس كلّ ما تأمر به يجب أن نقبل، و إن كان غير صواب.
فقال عثمان: هذا مروان يذكر أنّك ضربت بين أذني بعيره و شتمته، فأرضه من حقّه!
فقال عليّ عليه السّلام: هذا بعيري فليضرب بين أذنيه كما ضربت بين أذني بعيره و أمّا الشتيمة (1) فو اللّه لئن شتمني مروان لأشتمنّك لأنّ مروان ليس لي بكفؤ فأشاتمه (2).
قال: و لم يزل أبو ذر مقيما بالربذة يغشاه الصادر و الوارد من الحاج و غيرهم، فيعرضون عليه الحوائج فلا يقبل من أحد شيئا إلى أن حضرته الوفاة (3) ...
قال: و بلغ ذلك عثمان فقال: رحم اللّه أبا ذر، فقال عمّار بن ياسر: رحم اللّه أبا ذر من كلّ قلوبنا.
قال: فغضب عثمان ثمّ قال: يا كذا و كذا، أتظنّ أنّي ندمت على تسييره إلى الربذة؟ فقال عمّار: لا و اللّه ما أرى ذلك، فقال عثمان: ادفعوا في قفاه و أنت فالحق بالمكان الذي كان فيه أبو ذر و لا تبرحه أبدا ما بقيت و أنا حيّ. فقال عمّار: و اللّه إنّ جوار السباع لأحبّ من جوارك.
ثمّ قام عمّار فخرج من عنده، قال: و عزم عثمان على نفي عمّار. و أقبلت بنو مخزوم إلى عليّ بن أبي طالب رضى اللّه عنه فقالوا: إنّه يا أبا الحسن، قد علمت بأنّا أخوال أبيك أبي طالب و هذا عثمان بن عفّان قد أمر بتسيير عمّار بن ياسر و قد أحببنا أن نلقاه فنكلّمه في ذلك و نسأله أن يكفّ عنه و لا يؤذينا فيه ...
ص: 232
إلى أن يقول صاحب الفتوح: فقال عثمان: لأنت أحقّ بالمسير منه، فو اللّه ما أفسد عليّ عمّارا و غيره سواك! فقال عليّ رضى اللّه عنه: و اللّه يا عثمان! ما أنت بقادر على ذلك و لا إليه بواصل، فرم ذلك إن شئت .. ثمّ قول صاحب الفتوح (1).
أيّها العزيز! انظر الواقع بعين العبرة تعرف معنى حياء عثمان، نعم هذا هو الحياء الذي حمله على السلوك الخشن مع الأبرار من الصحابة مثل أبي ذر و عمّار، و على الكلام غير اللائق مع عليّ عليه السّلام الذي سمعته، سبحان اللّه من هذا الكذب الذي ينسب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، سبحانك هذا بهتان عظيم.
و أمّا قوله عن النبيّ من أنّه أبرز ركبتيه فإنّهما في مذهب أهل السنّة و الجماعة من العورة و يجب سترهما فكيف يجوز نسبة إبدائهما مع كونهما كما ذكرنا بين الحاضرين و لقد أجمع المسلمون على أنّ مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجلس حلم و حياء، و هذا يرشدنا إلى كذب الحديث، أنّ نسبة هذا إلى النبيّ يحتاج إلى وقاحة زائدة لكي يقولوا عثمان أكثر تمسّكا بالأخلاق منه، و أجدر بالحياة الفاضلة، و ليس في الناس أشدّ حياءا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث وصفه اللّه تعالى بقوله: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ (2) و لم ينزل في حياء عثمان شي ء من كتاب اللّه تعالى، و صدق اللّه حيث قال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (3).
الحديث الثلاثون: و تحدّثوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لمّا عرج بي إلى السماء ما مررت بسماء إلّا وجدت مكتوبا: محمّد رسول اللّه، و أبو بكر زوجه ابنته و حمله إلى دار الهجرة، و أعتق بلالا
ص: 233
من ماله، و ما نفعني في الإسلام مال كمال أبي بكر، و رحم اللّه عثمان؛ تسبيحه كتسبيح الملائكة، و جهّز جيش العسرة، و زاد في مسجدنا حتّى وسعنا (1).
الجواب: أجمع المحقّقون و علماء الإسلام أنّه مكتوب على ساق العرش:
«لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، أيّدته بعليّ و نصرته ...» (2).
و اشتهر عند علماء الإماميّة أنّ النبيّ لمّا عاد من المعراج قال: جائتني الملائكة و أنا في المعراج أفواجا أفواجا يسلّمون عليّ و يسألوني عن عليّ عليه السّلام بهذه العبارة:
كيف ابن عمّك عليّ بن أبي طالب.
و لمّا نزلت من المعراج قالوا بأجمعهم: اقرأ على ابن عمّك منّا السلام، فقال أمير المؤمنين: أو كنت معروفا هناك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنت معروف في السماء و مشهور في الأرض.
و قال أبو بكر الشيرازي: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا بلغت العرش رأيت عليّا يسبّح اللّه و يقدّسه تحت العرش، فقلت لجبرئيل عليه السّلام: سبقني عليّ بن أبي طالب؟! فقال جبرئيل: لا يا محمّد و لكنّي أخبرك، اعلم يا محمّد أنّ اللّه عزّ و جلّ يكثر من الصلاة و الثناء على عليّ بن أبي طالب فوق عرشه فاشتاق العرش إلى علّي بن أبي طالب عليه السّلام فخلق اللّه عزّ و جلّ هذا الملك على صورة عليّ بن أبي طالب تحت عرشه
ص: 234
لينظر إليه العرش فيسكن شوقه، و جعل تسبيح هذا الملك و تحميده ثوابا لشيعته و شيعة أهل بيتك يا محمّد.
ثمّ قال: يا محمّد، أحبّ عليّ بن أبي طالب فإنّ اللّه يحبّه و يحبّ من يحبّه، إنّه لا يحبّه إلّا مؤمن تقي، و لا يبغه إلّا منافق ردي، يا محمّد، إنّ حملة العرش و الكرسي و الصافّين حول العرش و الكرّوبيّين و الروحانيّين أشدّ معرفة لعليّ بن أبي طالب من أهل الأرض له.
يا محمّد، من أحبّ أن ينظر إلى يحيى بن زكريّا في زهده، و إلى المسيح في صومه، و إلى سليمان في سخائه، و إلى موسى الكليم في غلظته، و إلى داود في خلقه و بكائه، فلينظر إلى وجه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و يقول المخالف: إنّ عمر وضع في الميزان فرجح على النبيّ و أبي بكر و العلم كلّه ثلاث مرّات، فكتب اسمه في السماوات أولى من أبي بكر، و أحسب أنّ واضع هذا الكذب و الافتراء فاته أنّ عمر أيضا زوّجه ابنته فيكون عمر بناءا على ما يدّعيه الخصم أفضل من أبي بكر لرجحانه في الميزان.
و كان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمانية عشر امرأة أكبرهنّ خديجة، ثمّ أمّ سلمة، و عائشة هي تلك المرأة التي اعتلت غارب الجمل و قادت العسكر، و برزت امام الناس، و كتّبت الكتائب من الميمنة إلى الميسرة كما ذكر المؤرّخون، و أهل الجمل ملعونون عند اللّه تعالى و هم عند الشيعة مرتدّون و كفّار، فإذا ما فخر الخصم بعائشة و أضافوها إلى حسنات أبيها المزعومة فإنّ فاطمة هي الأولى بإجماع المفسّرين: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1) و هم عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام. و حكاية هذا الحديث كما أجمع عليه المفسّرون ما روته أمّ سلمة
ص: 235
رضي اللّه عنها و الاتفاق حاصل على معناه و لكن الاختلاف في ألفاظه .. قالت:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عندي و طبخت له طعاما و هو قائل في البيت إذ أقبل الحسنان و جلسا عند جدّهما، و جائت فاطمة عليها السّلام و جلست إلى جانب أبيها ثمّ جاء عليّ بعدها، فلمّا استيقظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأيته و البشر طافح على وجهه الشريف، فرأى بردا خيبريّا موضوعا هناك فأخذه و جلّلهم به، و قال: اللّهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهل بيت و هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، فهبط جبرئيل بهذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ، الآية، فقالت أمّ سلمة: يا رسول اللّه، ألست من أهل بيتك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك إلى خير و إنّما أهل بيتي هؤلاء (1).
و ذكر الأبيات التالية أبو عبد اللّه الدامغاني و هو من أهل الحديث، في كتابه سوق العروس، في شرح هذه الآية:
إنّ يوم الطهور يوم عظيم فاز بالفضل فيه أهل الكساء
قام فيه النبيّ مبتهلا ضارعا إلى ربّه بحسن الرجاء
قال يا ربّ إنّهم أهل بيتي فاستجب فيهم إلهي دعائي
أذهب الرجس عنهم و عن الأبناء منهم و عن بني الأبناء
رحمة اللّه و السلام عليكم و صلاة الأبرار و الأتقياء (2)
ص: 236
و كان زواج الزهراء في السماء أو في الجنّة باختلاف الروايات التي رواها المخالف و المؤالف، و قد شرحت هذا المجلس في كتاب مناقب الطاهرين و إنّما ذكرناه هنا بأخصر عبارة لتعمّ به الفائدة.
قال أبو بكر الشيرازي: قال جابر بن عبد اللّه الأنصاري: كنت يوما بين يدي النبي في المسجد، فأقبل أبو بكر على النبي و قال: يا رسول اللّه، إنّك تعرف صحبتي لك و تركي قومي في الهجرة لأجلك و إنفاقي ما لي عليك، و أعتقت بلالا من أجلك و جئتك اليوم لتزوّجني ابنتك فاطمة. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: حتّى ينزل الوحي بهذا، فخرج من عنده فاستقبله عمر بن الخطّاب فسأله عن أمره، فقال: كنت عند رسول اللّه، و قصّ عليه القصّة، فأقبل عمر حتّى دخل على النبيّ المسجد و حكى له ما كانت عليه حاله من الإسلام و الهجرة و المحبّة و الجهاد في الإسلام، و طلب منه يد سيّدتنا فاطمة، فقال النبي: إنّما أمري و أمرها إلى اللّه فما لم يأذن بذلك لا أفعله.
فقال عمر: فخرجت من عنده فتلاقيت و عليّا في الطريق، فقال لي: من أين أقبلت يا أبا حفص؟ فقلت: حضرت عند النبيّ و خطبت فاطمة فأوكل أمرها إلى الوحي.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: فذهبت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جلست إلى جانبه و قلت:
يا رسول اللّه، إنّك تعرف حقّي و حقّ أبي طالب عليك و تعرف قرابتي منك و جهادي الكفّار، فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وجهي و قال: يا علي، هل من حاجة؟ فأجبته:
جئتك خاطبا ابنتك فاطمة، فقال النبيّ: و هل معك شي ء من المال؟ فقلت: يا رسول اللّه، ناضحي و درعي. فقال: لا غنى لك عن ناضحك، فبع الدرع و جئني
ص: 237
بثمنه، فقال عليه السّلام: فبعته في السوق بأربعمائة و ثمانين درهما و أقبلت بها فصببتها في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان جماعة من أصحابه عنده.
قال أمير المؤمنين عليه السّلام: فأمرني رسول اللّه أن أخطب لنفسي ففعلت، و أشهد النبيّ على نفسه أصحابه و قال في الختام: معاشر أصحابي، اعلموا أنّي أنكحت فاطمة من عليّ عليه السّلام بأمر من اللّه تعالى و لقد هبط عليّ جبرئيل و قال: إنّ اللّه يقرئك السلام و يأمرك أن تزوّج عليّا من فاطمة و إنّي زوّجتها منه قبل خلق السماوات بألفي عام، و كان الخطيب جبرئيل و الملائكة حملة العرش شهود، و أوحى إلى شجرة طوبى أنّي إنّما خلقتك لهذا اليوم فاحملي ما قدرت عليه من الجواهر و الدرر و انثريه كرامة لفاطمة، و زيّن الحور العين باليواقيت و الحلل و أنواع الزينة و أمرهنّ بالحضور تحت شجرة طوبى، قفلمّا حضر الجمع أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما حملتيه على الحور العين و أمرهنّ بالتقاطه و رحن يتهادينه و يقلن: «هذا نثار فاطمة بنت محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».
فقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبضة من ثمن الدرع و دفعها إلى سلمان و قال: اذهب إلى السوق و اشتر ما تحتاجه من الثياب و أثاث البيت، و أعطى قبضة ثانية إلى المقداد ليشتري لها طيبا، و قال أبو ذر: أعط ذلك إلى أمّ هانئ أخت الإمام لتضعها بمفرق فاطمة عليها السّلام، و لمّا فرغ من الجهاز قال لعليّ عليه السّلام: اذهب إلى بيت فاطمة عليها السّلام «و إيّاك أن تمسّها حتّى آتيكم».
فما مضت ساعة من الوقت حتّى وقف رسول اللّه على بابها و طرق الباب، فقالت أمّ هاني: من؟ فقال النبيّ: أخي عليّ هنا؟ فقالت: يا رسول اللّه، أخوك و تزوّجه ابنتك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه أوقع الأخوّة بيني و بينه كما أوقع الأخوة بين موسى و هارون، عند ذلك أقبل النبيّ على الفراش، فقال النبيّ: يا علي، هذا جبرئيل قد حضر و معه سبعون ألفا من الملائكة و هم يزفّون فاطمة إليك.
ص: 238
ثمّ قال النبيّ لأمّ هاني: ناوليني قدحا فيه ماء، فتناوله من يدها و رشّ منه على صدر فاطمة صلّى اللّه عليها و قال: اللهمّ إنّي أعيذها و ذرّيّتها من الشيطان الرجيم، ثمّ تناول كفّا أخرى من الماء و رشّها بين كتفي الإمام عليه السّلام و قال: اللهمّ إنّي أعيذ أخي عليّا بن أبي طالب و ذرّيّته من الشيطان الرجيم، ثمّ قال: بارك اللّه فيكما و بارك لكما و بارك عليكما.
و أمّا ما قالوه من أنّ أبا بكر حمله إلى دار الهجرة، فإنّ أبا بكر لم يكن له مأوى في المدينة إنّما حلّ ضيفا على الأنصار، و الذي نذهب إليه أنّ النبيّ لم يصطحبه معه و الذي يدلّ على كذب الحديث قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ (1) و لم يقل «لحامله»، و عبد اللّه بن الأرقط أولى بهذه الصفة من أبي بكر، لأنّه كان دليل النبيّ في هجرته، و قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (2) بضمير الواحد و لم يأت بالتثنية «هما» فينبغي أن يكون الكفّار أخرجوا النبي، و كان أبو بكر من نافلة القول.
و إذا لزم الخصم جانب العناد فلنا أن نخصمه بقول اللّه تعالى: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (3)، فلو كان مع النبيّ أو كان لهجرته فضل لمدحه اللّه عليه و كما مدح الناصرين مدح الحاملين أيضا، فلمّا سكت اللّه عن ذلك فإنّنا نسكت عنه أيضا بحكم الأثر: «فاسكتوا عمّا سكت اللّه عنه».
و أمّا ما قالوه من أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: احفظوني في أصحابي، آووا و نصروا فإنّهم خيار أمّتي، و قال: من أحبّ جميع أصحابي و تولّاهم و استغفر لهم جعله اللّه يوم القيامة معهم في الجنّة، و قال: مثل أصحابي مثل النجوم من اقتدى بشي ء منها
ص: 239
اهتدى، و قال تعالى: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ (1)، و قال اللّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ (2) و أمثال هذه الآيات و الأخبار المذكورة في مناقب المهاجرين و الأنصار، و كلّها تدلّ على أنّ المسلم لا ينبغي له أن يقول فيهم إلّا الخير، آمنّا و صدّقنا، أنّ الاستغفار لنفر خاصّ من الصحابة واجب كوجوب الصلاة و الصيام، و أمّا الذين برء منهم طائفة الشيعة فهم جماعة من الصحابة عرّفوهم بأسمائهم و أنسابهم و هم الذين ظلموا أهل بيت العصمة و الطهارة ظلما صريحا و جورا قبيحا، و اللّه تعالى يقول: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (3).
و الشيعة قول واحد أنّه لا يجوز سبّ أحد منهم إلّا إذا ثبت بالبرهان القاطع حاله، و أنّ سبّه ما لم يقم الدليل عليه، و عداوته من أعظم الخطيئات و المعاصي، و قد نزل ربع القرآن في المنافقين و هم الذين خانوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أراد النبيّ بيان حالهم و كشف أمرهم و لكنّ اللّه لم يأذن له، و قال له: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ (4)، و قال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ (5) و قال: فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ* عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ* أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (6).
إذا: الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، و في الآية الثانية أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
ص: 240
لا يعني به الكفّار لأنّ الكافر لا طمع له بدخول الجنّة، و لم يكن الكافرون حول النبيّ ليصدق بحقّهم عن اليمين و عن الشمال عزين؛ فتبيّن من هذا بأنّهم قوم لزموا رسول اللّه و لكنّهم لم يعملوا عملا حسنا يستحقّون به دخول الجنّة و إن طمعوا في دخولها.
و جاء في مصابيحهم أنّ النبيّ قال في حجّة الوداع: لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض (1).
و قال فيه: أنا فرطكم على الحوض من مرّ بي شرب و من شرب لم يظمأ أبدا، و ليرون (كذا) قوم أعرفهم و يعرفونني ثمّ يحال بيني و بينهم، فأقول: إنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثو بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غيّر بعدي (2) و قال
ص: 241
تعالى: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ (1).
و أمثال هذا كثير في القرآن و هي مبنيّ على ارتداد أمّة النبيّ من بعده و إن كان بزعم الخصم أنّة مدح جماعة من الصحابة فهذا صحيح إلّا أنّ صيغته للعموم و لا يصحّ حملها على قوم بخصوصهم بل لا تتناول إلّا من توفّرت فيه شروط خاصّة و هو من يتيقّن صلاحه أو مجهول الحال مع أنّ الرواية وردت عن طريق الخصم هكذا: احفظوني في عترتي فإنّهم خيار عشيرتي (2).
[حديث آخر:] و قولهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ لكلّ نبيّ رفيقا و إنّ رفيقي في الجنّة عثمان (3).
الجواب: هذا الحديث مخالف للقرآن بالتخصيص لأنّ اللّه تعالى يقول: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ
ص: 242
وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (1) و المعنى- و اللّه العالم- أنّ أهل الطاعة مع الأنبياء في الجنّة، و رفقاء الأنبياء فيها هم الصدّيقون و الشهداء و الصلحاء، و سوف يضرب بين الرجال و النساء بحجاب، و دليلنا على ذلك وجوه:
الأوّل: حديث فاطمة عليها السّلام حيث أجمعت كلمة علماء أهل القبلة بأنّ فاطمة حين تجتاز يوم المحشر إلى موقفها ينادي مناد من بطنان العرش: غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله.
ثانيا: قال اللّه تعالى: وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (2) فإذا كان الأمر كذلك فلا يكون رفيق رسول اللّه إلّا ذرّيّته لوجود بنات رسول اللّه و نسائه، كما قال تعالى:
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (3) مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أنا و كافل اليتيم في الجنّة، و أشار بالسبّابة و الوسطى، و بالضرورة لا ينال شرف رتبة الرفاقة إلّا كافل اليتيم و لا تخلو محلّة من محالّ المسلمين من وجود واحد و اثنين أو أكثر من كفلاء الأيتام و كلّ واحد درجته تربو على درجة عثمان.
فإذا ثبت حديث عثمان فهذا ثابت لا مرية فيه مع أنّ جماعة من المفسّرين قالوا عن قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ (4) أنّ هذا العدوّ هو أبو بكر و عمر و عثمان لأنّهم يكيدون النبيّ دائما و أبدا، و يعيقون بكذبهم و افترائهم أعمال النبيّ و يؤخّرون تقدّم المسيرة الجهاديّة له. و كان ممّا كادوا فيه النبيّ استمرار الكذب عليه و الافتراء ليختلط الحقّ بالباطل و الخير بالشرّ، فتتقدّم مكائدهم.
ص: 243
ثمّ إنّ ما رواه المخالف من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل من يدخل الجنّة أنا و الحسن و الحسين» (1) يكذّب هذا الحديث.
و في كتاب «المنتهى» لعبد اللّه بن عبد الأعلى القطّان الاصفهاني و مناقب أبي بكر مردويه الاصفهاني و تفسير أبي بكر الشيرازي عن رسول اللّه أنّه قال لعمر يوما:
إنّ في الجنّة شجرة تغطّيها و أصلها نابت في جنّتي، و وصف الشجرة في اليوم الثالث و قال: أصلها في بيت عليّ عليه السّلام. فقال له عمر: يا رسول اللّه، ألست قلت ذلك اليوم أنّ أصل الشجرة في جنّتك و اليوم تقول في بيت عليّ؟! فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عمر، ألا تعلم أنّ بيتي و بيت عليّ واحد، و قصري و قصره واحد، و داري و داره واحدة.
[حديث آخر] و أمّا الذي رووه عن محمّد بن الحنفيّة أنّه قال: قلت لأبي: أيّ الناس خير بعد النبي؟ قال: أبو بكر. قلت: ثمّ من؟ قال: عمر، و خشيت أن يقول عثمان، قلت: ثمّ أنت؟ قال: ما أنا إلّا رجل من المسلمين (2).
الجواب: لو صحّ هذا الزعم، لما جرّ الحسن أبا بكر من على المنبر إلى الأرض، و لو صحّ هذا لما تقاعد أمير المؤمنين عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر حتّى ماتت فاطمة ثمّ بايع، و هذا ما يزعمه الخصم، أمّا نحن أيّها الشيعة فنقول: إنّ عليّا لم يبايع أبا بكر
ص: 244
قطّ ... و جائت الأخبار متواترة من طريق المخالف بأنّ عليّا خير الخلق و الدليل على هذا الحديث ما جاء في كتاب «الفصول العجلى» أنّ النبيّ لمّا أخبر عن ذي الثدية، قال: يقتله خير الخلق، و روي خير هذه الأمّة (1)، و ذو الثدية قتله عليّ عليه السّلام.
و كنت قد حرّرت هذه المسألة في جوامع الدلائل و الأصول في إمامة آل الرسول ببسط تامّ.
و ذكر إسماعيل الاصفهاني في الأربعين: عليّ خير البشر من أبى فقد كفر.
و إنّ كتب الفرق البالغة ثلاثا و سبعين فرقة ناطقة كلّها بمناقب عليّ عليه السّلام، و نزلت في حقّه وحده سورة هل أتى، و سبق في الهجرة، فنزلت آيات عدّة تشيّد بمواقف السابقين و مع هذه المناقب كيف يجوز على عليّ أن يقول: أمّا أنا فرجل من المسلمين؟!
و إذا كان هذا الحديث صحيحا فكيف اعتبره المخالفون الإمام الرابع؟ و لماذا أعلن مرارا على المنبر عن ذمّ من تقدّمه منهم؟ و إنّي لأحسب أنّ كلّ من وقف على هذه الأحاديث المفتراة و وقف على ردّها و نقضها فإنّه يصير صاحب ملكة فلا يسمع حديثا مفترى و إن لم نتعرض لإبطاله فإنّه قادر على ردّه و دفع الشبهة المودعة فيه.
و لمّا فرغ أبو الفتوح الحسين بن عليّ بن محمّد الخزاعي من مناقب أبي بكر و عمر و عثمان التي استمعت إلى ردّها و نسفها بعون اللّه، فقد جعل خاتمة كلامه حديثا في مناقب عليّ عليه السّلام و هو كما يلي: روي عن ابن عبّاس أنّه قال: كنت في الموسم أحدّث الناس فأقبل رجل يعتمّ عمامة سوداء و وقف يعظ الناس، فقال في ختام كلامه: من
ص: 245
عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا صاحب رسول اللّه جندب بن جنادة البدري الغفاري، أبو ذر، و لقد رأيت رسول اللّه في هذا المكان بعيني و إلّا عميتا، و سمعته بأذنيّ و إلّا صمّتا، يقول: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) أمّا الذرّيّة فمن نوح، و الآل من إبراهيم، و السلالة من إسماعيل، و العترة الهادية و ذرّيّة الطاهرة من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الصدّيق الأكبر عليّ بن أبي طالب، فأيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها لو قدّمتم من قدّمه اللّه، و أخّرتم من أخّره اللّه و رسوله لما عال وليّ اللّه و طاش سهم في سبيل اللّه، و لا اختلفت الأمّة بعد نبيّها في شي ء إلّا كان تأويله عند أهل البيت، فذوقوا بما كسبتم وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (2). (3)
عن ابن عبّاس قال: كنت في سنة من السنين في موسم الحجّ (4) فرأيت رجلا على هيئة الأعراب، عليه عمامة سوداء، فكلّما حدّثت بحديث حدّث به، ثمّ قال:
معاشر الناس، من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا أنبئه باسمي، أنا جندب بن جنادة البدري الغفاري، أنا صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، سمعته يقول في هذا المكان و إلّا صمّت أذناي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (5) فأمّا الذرّيّة فمن نوح، و الآل من إبراهيم،
ص: 246
و السلالة من إسماعيل، و العترة الهادية و ذرّيّة الطاهرة من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الصدّيق الأكبر عليّ بن أبي طالب، فأيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها لو قدّمتم من قدّمه اللّه، و أخّرتم من أخّره اللّه و رسوله لما عال وليّ اللّه و طاش سهم في سبيل اللّه، و لا اختلفت الأمّة بعد نبيّها إلّا كان تأويله عند أهل البيت، فذوقوا بما كسبتم وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
[حديث آخر] قال الأحنف بن قيس: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار، قلت: يا رسول اللّه، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنّه كان حريصا على قتل صاحبه (1).
الجواب: و هذا الراوي ظاهر الحال هو عدوّ أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان غرضه منع الناس من نصرة عليّ عليه السّلام مع أنّ عمّار استشهد في حرب صفّين.
و جاء في صحيح البخاري محمّد بن إسماعيل عن أبي سعيد أنّه قال: كنّا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة و كان عمّار لبنتين لبنتين، فمرّ به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مسح عن رأسه الغبار، فقال: ويح عمّار يدعوهم إلى الجنّة و يدعونه إلى الجنّة و يدعونه إلى النار (2). ويح عمّار تقتله الفئة
ص: 247
الباغية، عمّار يدعوهم إلى اللّه و يدعونه إلى النار (1).
و هذا الحديث الثاني يناقض الحديث الأوّل مع أنّ الحديث الثاني مجمع عليه و متلقّى بالقبول، و في صفّين استشهد عمّار و خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و أبو الهيثم ابن التيّهان و عبد اللّه بن بديل الخزاعي و هاشم بن عتبة ابن أخي سعد بن أبي وقّاص، و صعصعة بن صوحان، و أويس القرني مع سبعين رجلا قتلوا جميعا في يوم واحد مع عليّ بسيف معاوية، و هذه الجماعة كلّها كما قال النبيّ من أهل الجنّة.
جواب آخر: بنصّ سورة هل أتى و آية التطهير و آية المباهلة إنّ الحسين عليه السّلام من أهل الجنّة، و شهد النبيّ بحقّه من أنّه سيّد شباب أهل الجنّة، و قد رويت أحاديث في هذا المعنى من طرق المؤالف و المخالف، من غير تحديد، و كذلك عترته بدلالة حديث مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ... الحديث.
و أجمعت الأمّة على أنّ شهداء كربلاء من المؤمنين و من أهل الجنّة مع الملائكة الذين يزورون الحسين و أصحابه و عترته، و مشهد قبلة الحاجات للعالمين، و لا تمرّ سنة على هذا الضريح إلّا و تظهر منه معاجز و كرامات مع أنّهم قتلوا بأيدي (من يسمّون) (2) مسلمين.
جواب آخر: اجتمع المهاجرون و الأنصار على قتل عثمان، و إذا ما صحّ الحديث كان القاتل و المقتول من الصحابة جميعا في النار و ينصّ القرآن شاهدا على كونهم من أهل الجنّة لا سيّما على مذهب الشيعة.
جواب آخر: و هذا طلحة و الزبير و هما من العشرة المبشّرة بالجنّة بلا خلاف
ص: 248
عندهم و هما قتلا بأيد مسلمة، و كذلك عليّ عليه السّلام من العشرة و قتل بسيف المسلمين.
جواب آخر: و الحديث مخالف لكتاب اللّه تعالى حيث قال: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ (1)، أجمع المفسّرون على سبب نزول هذه الآية عن عبد اللّه بن عبّاس (2) أنّ النبيّ ركب حمارا و أتى محفلا من محافل الأنصار، فبال الحمار، فخمر عبد اللّه بن أبي سلول أنفه و قال: أبعد عنّا حمارك فقد آذتنا رائحة بوله، فقال عبد اللّه بن رواحة: حمار رسول اللّه أفضل منك و بوله أطيب ريحا من طيبك، فغادر النبيّ المكان و اشتبك الأوس و الخزرج بالأيدي و النعال و جريد النخل، فكانت فتنة عظيمة حتّى جاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصلح بينهم (3).
[حديث آخر] روى البخاري عن عائشة أنّ فاطمة عليها السّلام بنت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة و فدك و ما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لا نورث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمّد
ص: 249
في هذا المال و إنّي و اللّه لا أغيّر شيئا من صدقة رسول اللّه.
إلى أن قالت: فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت، و عاشت بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ستّة أشهر، فلمّا توفيّت دفنها زوجها عليّ ليلا و لم يؤذن بها أبا بكر، و صلّى عليها، و كان لعليّ من الناس وجه حياة فاطمة فلمّا توفّيت استنكر عليّ وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر و مبايعته و لم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا لا يأتنا أحد معك كراهيّة أن يحضر عمر، فقال عمر: لا و اللّه لا تدخل عليهم وحدك (1).
الجواب: لا تخفى عصمة الزهراء و صدق لهجتها و طهرها على أحد في العالم، بحيث روى عماد الدين «شفروه» (2) و هو حنفيّ المذهب عن عائشة أنّها إذا ذكرت فاطمة بنت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قالت: ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منها إلّا أن يكون هو الذي ولدها.
ثمّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة و يرضى لرضاها.
و قال: فاطمة بضعة منّي، يسّرني ما سرّها و يؤذيني ما آذاها.
و بناءا على هذا لا يجوز الكذب على فاطمة و ردّها مع طهارتها و عصمتها، و غضبها عليه إلى أن ماتت دليل على أنّه كان ظالما لها و كانت هي مظلومة.
و قول أبي بكر: يابنة رسول اللّه، لبس الحقّ عليك و تصديقه على هذا القول إيذاء لفاطمة مع كونها مظلومة، نعوذ باللّه من إيذائها.
ص: 250
و كذلك ذكر عماد الدين أنّ عائشة أقبلت تعود فاطمة في مرض موتها فلم تأذن لها، و أرسلت إلى أسماء بنت عميس أن لا تدعها تدخل.
و أورد مخلص الدين محمّد بن معمر في صدر مسند فاطمة عليها السّلام أنّها من شدّة غضبها على عائشة أوصت بإخفاء قبرها لئلّا تقول عائشة أنّه بيتي و تدفن معها، و نهت ان يصلّي عليها أبو بكر، و العقلاء يعقلمون شدّة غضب الزهراء عليهم من فعلها هذا و عمق ما كانت تعانيه من الألم جرّاء ظلمهم لها من خلال وصيّتها.
و كلام البخاري يدلّ على أنّ فاطمة عليها السّلام دفنت إلى جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و الدليل على صحّة هذا الحديث ما كان يقوله أمير المؤمنين عليه السّلام لرسول اللّه في حال دفن فاطمة من حديث السرار، يقول في كلام طويل: ستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها، فاحفها السؤال و استخبرها الحال، هذا و لم يطل العهد و لم يخل منك الذكر (1).
الجواب الآخر: كان عليّ عليه السّلام من الخلفاء الراشدين فتخلّفه عن بيعة أبي بكر و تقاعسه عنها دليل على علمه بعدم أهليّته لها، لا سيّما و الزهراء على قيد الحياة حيث كان يتقوّى بوجاهتها (2) و لمّا توفيت فاطمة خاف من الناس فبادر إلى البيعة. و يظهر من لفظ البخاري أنّ بين عليّ و بين عمر عداوة، و هو من ألدّ أعداء الإمام عليه السّلام، و لو كانت خلافة الأوّل بالنصّ لما قعد عنها الإمام هذه المدّة، لأنّه جاء
ص: 251
في كتب أهل القبلة و علماء الإسلام عن عليّ عليه السّلام أنّه لم يتقاعس عن نصّ نصّه رسول اللّه بحال من الأحوال في يوم من الأيّام بل كان السابق على كلّ أحد في قبوله و تنفيذه، و هذه الرواية التي رواها المخالف تدلّ على ذلك: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ. فينبغي أخذ النتيجة من هذه المقدّمات و هي أنّ ما فعله عليّ هو الحقّ و خلافة أبي بكر باطلة.
و لو كانت الخلافة بالإجماع فإنّ بني هاشم- و الحمد للّه و المنّة له- لم يكونوا مجهولين و لا مغمورين إلى الدرجة التي يجوز تجاهلهم بل كانت لهم الشهرة و التقدّم بحسبهم و نسبهم و قرابتهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علوّ مناصبهم، و كانوا بجملتهم علماء عبادا، و لم يكونوا بمعزل عن الأحداث لكي يجوز نبذهم و تنحيتهم بل كانوا يطمعون بإسناد الحلّ و العقد إليهم و أنّهم كانوا من أكابر المهاجرين، و لمّا لم يحضروا الاجتماع فذاك دليل على عدم الإجماع، على أنّه لم يحضر الخزرجيّون بأجمعهم ذلك الاجتماع و لم يبايعوا الأوّل و هم عمدة الأنصار.
يقول البخاري في حديثه عن أبي هريرة: أما إنّي سمعت رسول اللّه يقول: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، و إذا أردتم أن تنظروا إلى أشبه الناس بعيسى بن مريم نسكا و زهدا و برّا فعليكم به.
و في رواية أخرى: من سرّه أن ينظر إلى شبيه عيسى بن مريم خلقا و خلقا فلينظر إلى أبي ذر (1).
و إذا كان أبو ذر بهذه الصفة فإنّ عثمان أخرجه من حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أنّه لم يوجّه إليه تهمة في حضور المهاجرين و الأنصار، و كانوا جميعا على علم بدرجة
ص: 252
زهده و الاحترام الذي كان يحضى به من شخص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في حقّه نزل قوله تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ (1). (2)
روى البخاري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلئون عنه (3) فأقول: يا ربّ (إنّهم) أصحابي، فيقول- إنّك ... البخاري- لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقري .. (4).
فلم يكذب- و حاشاه- رسول اللّه، فلا بدّ من قتلهم عليّا يوما و إيذائهم سلمان، و نفيهم أبا ذر.
و كذلك يروون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّه قال: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم (5).
و لمّا كان الصحابة قد ظلموا أهل البيت و آذوا صلحاء الأصحاب، اختصّ حديث «أصحابي النجوم» بهؤلاء (6) كما اختصّ الحديث الأوّل بالمؤذين و الظالمين من هذه الطائفة.
ص: 253
حدّث أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل (1) قال: عن ابن عبّاس: لمّا اشتدّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله الوجع، قال: ايتوني بدواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده. قال عمر: إنّ النبيّ غلبه الوجه و عندنا كتاب اللّه حسبنا، فاختلفوا و كثر اللغط، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قوموا عنّي و لا ينبغي عندي تنازع، فخرج ابن عبّاس يقول: إنّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه و بين كتابه. و في رواية أخرى، فقالوا: ما شأنه أهجر و استفهموه (2).
و قالوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ في الأمم لمحدّثين لمروّعين كملهمين، و إنّ عمر منهم (3).
و روي أنّ الحقّ لينطق على لسان عمر (4).
و الجواب مشهور و هو أنّ عمر قال: إنّ الرجل ليهجر، و روي: يهذي، و العقلاء يدركون أنّ طلب النبيّ الدواة و الكتف ليكتب كتابا لن يضلّوا بعده ليس هذيانا
ص: 254
و لو كان الحقّ ينطق على لسان عمر لما تفوّه بهذه الكلمة، هذا أوّلا.
و أمّا ثانيا: فإنّه خالف النبيّ و ردّ عليه بقوله: حسبنا كتاب ربّنا، و هذا من طراز قول الخوارج: لا حكم إلّا للّه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: كلمة حقّ يراد بها باطل.
و قال اللّه تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (1) و يقولون: إنّه يهجر و يهذي.
و قال تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (2) و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (3).
إنّ الاستماع لهذه الآيات و العمل بهنّ واجب، و لو كان عمر ينطق بالحقّ فكيف ردّ على رسول اللّه حتّى أغضبه و كثر اللغط عنده و هو مسجّى، و أخرجهم من عنده بقوله: قوموا عنّي؟!
و قال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (4) و قال: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (5) فلو كان عمر و أصحابه مؤمنين لما طردهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و عمل عمر و أصحابه بخلاف قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ (6) فقد تجرّؤوا على مقام النبوّة، و استعملوا قلّة الأدب، و منافاة اللياقة، و شغلوا النبيّ و هو في ساعة حرجة حتّى طردهم عنه بقوله: قوموا عنّي، و كثر الكلام و اللغط في مجلس النبيّ.
ص: 255
و ذكر مخلص الدين محمّد بن معمر الاصفهاني و الترمذي و القزويني و أمثالهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: لا ألقينّ أحدكم متّكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري (1) ممّا أمرت به أو ممّا نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدناه في كتاب اللّه اتبعناه ... (2).
و هذا الحديث مكذّب قول عمر، فتبيّن أنّ الحقّ لم ينطق على لسانه. ثمّ إنّ كتاب اللّه ليس غنيّا عن البيان ففيه الناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه، و المجمل، و العام و الخاص و أمثال ذلك، فكان على النبيّ بيانه، فكيف يقولون: لا نريد قول رسول اللّه و يردّونه و ينكرونه؟!
جواب آخر: وقع نزاع بين القوم، و كان حكم اللّه غالبا عليهم و حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن عمر لمّا رمى رسول اللّه بالهجر فكيف يتّفق مع حكم اللّه القائل: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (3).
ص: 256
[حديث آخر] حدّث البخاري فقال: جاء رجل من أهل مصر حجّ البيت فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم؟
قالوا: عبد اللّه بن عمر. قال: يا بن عمر، إنّي سائلك عن شي ء فحدّثني عنه، هل تعلم أنّ عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم. قال: تعلم إنّه تغيّب عن بدر و لم يشهد؟
قال: نعم. قال: هل تعلم أنّه تغيّب عن بيعة الرضوان و لم يشهدها؟ قال: نعم. قال:
اللّه أكبر.
قال ابن عمر: تعال أبيّن لك؛ أمّا فراره يوم أحد فأشهد أنّ اللّه عفى عنه و غفر له، و أمّا تغيّبه عن بدر فإنّه كان تحته بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانت مريضة، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لك أجر رجل ممّن شهد بدرا و سهمه، و أمّا تغيّبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعزّ ببطن مكّة من عثمان لبعثه مكانه فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عثمان و كانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكّة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده اليمنى هذه يد عثمان فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان، فقال له ابن عمر: اذهب (به) الآن (معك) (1).
الجواب: أورد عماد الدين شفروه الاصفهاني اعتراضا على هذا القول:
الأوّل: إنّ ابن عمر لم يؤيّد قوله في جوابه للمصري بحجّة من القرآن أو الأخبار و لم يشهد له شاهد عدل و لا غير عدل، فكلامه المجرّد من ذلك لا حجّة فيه على أمر من أمور الدين.
و الثاني: إنّ عثمان مختار أبيه و مرضيه لسرير الخلافة فكان عليه تعديله في كلّ حين أمام المهاجرين و الأنصار لتصويب رأي أبيه فيه و هذا الأمر من جملة لوازم
ص: 257
النبوّة حيث لا يمكنه الرضا بتلويث ساحة أبيه باختيار رجل له هذه المساوي و هذه جبلّة بشريّة و طبيعة إنسانيّة، و لمّا وقع أبوه موقع التهمة فما عليه إلّا ردّها بتزكية عثمان.
يقول عماد: سألت الشيخ رشيد الدين عبد اللّه بن محمّد بن عبد الواحد بن أبي سعد المدني: كيف جرى على عثمان ما جرى مع حضور المهاجرين و الأنصار فلم ينكروا ذلك لا باللسان و لا باليد، و لم يمدّه منهم أحد إلى الحدّ الذي سمعتك ذات يوم أنت الخواجه رشيد الدين عبد اللّه تقول: كان عليّ حاضرا في المسجد يفتي الناس فسمع ضجّة مرتفعة فسأل: ما الذي جرى؟ قالوا: قتل عثمان، فقال عليّ:
قتل، و مضى في كلامه من غير اكتراث منه و لا اعتراض له عليه، و لم يلتفت إليه.
فقال الشيخ عبد اللّه: لقد غالطت كثيرا يا عماد، لكن ألا تعلم بأنّ أهل الكوفة كتبوا كتابا يوم خروج عائشة إلى عليّ عليه السّلام و أرادوا منه ايضاح السبب عمّا ألمّ بعثمان و سألوا عن حال قتلته.
فقال عماد: قلت له: بلى أعرف ذلك و قد كتب إليهم أمير المؤمنين كتابا كما يلي:
أمّا بعد، فإنّي أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعه كعيانه، إنّ الناس طعنوا عليه و كنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه و أقلّ عتابه، و كان طلحة و الزبير أهون سيرهما فيه الوجيف، و أرفق حدائهما العنيف، و كان من عائشة فلتة غضب فأتيح له قوم قتلوه، و بايعني الناس غير مستكرهين و لا مجبرين بل طائعين مخيّرين، و اعلموا أنّ دار الهجرة قد قلعت بأهلها و قلعوا بها، و جاشت جيش المرجل و قامت الفتنة على القطب فأسرعوا إلى أميركم و بادروا جهاد عدوّكم (1).
فقال الشيخ رشيد الدين المدني: يجب عليّ رعاية لحقّ الصحبة و أداء لحقّ
ص: 258
الخدمة أن أزيل هذه الشبهة عن ذهنك، اعلم أنّ الشيخ مخلص الدين محمّد بن معمر ذكر في جامع العلوم أنّ عثمان صدرت منه أمور وجبت قتله، بهذه العبارة:
نعم كانت لها أسباب و إنّ ممّا نقموا على عثمان حركات عشرا منكرات:
الأولى: ضرب عبد اللّه بن مسعود.
الثانية: ضرب عمّار ضربا مبرحا حتّى أغمي عليه.
الثالثة: إعطائه مروان خمسمائة ألف درهم.
الرابعة: نفى أبي ذر إلى الربذة.
الخامسة: إقطاع السنّة.
السادسة: إعطاء الحكم بن العاص مأة ألف درهم مرّة واحدة.
السابعة: تولية الوليد أخيه من أمّه على الكوفة.
الثامنة: جمعه المصاحف من أطراف المدينة و أكنافها و حرقها.
التاسعة: كان الوليد مدمنا على الشراب إلى الحدّ الذي صلّى بهم صلاة الصبح أربع ركعات، و لمّا سلّم أقبل على المصلّين و قال: أريدكم؟ و قالوا: لمّا افتتح الصلاة و شرع بقرائة الحمد لم يدر ما يقول ثملا، فقال:
عشق القلب الربابابعد ما شابت و شابا فلمّا سلّم قال: لأزيدنّكم فإنّي طرب، و هذا الوليد هو الذي نزل في حقّه: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ (1) و الآية: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (2).
العاشرة: و كان من ذنوب عثمان إرجاعه مروان و أباه الحكم طريدي رسول اللّه و أبي بكر و عمر، و قد أبعدهما الرجلان عشرين فرسخا أخرى إضافة على مكان
ص: 259
نفيهما اقتداءا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مروان ابن عمّ عثمان فردّهما و فوّض إليهما شئون الإسلام و المسلمين ولّاهما على المهاجرين و الأنصار، و أعطى وزارته إلى مروان، و كان يستصوب رأيه و يعمل به، فكان مروان يقدّم من أخّره رسول اللّه و يؤخّر من قدّمه، و يهين صلحاء الصحابة و يذلّهم، و يعظّم الفسّاق و يوقّرهم، و يستهزئ بالدين و الشريعة.
و كان السبب في ضرب عمّار أنّ عثمان قال ذات يوم: إنّ الرسول كان يؤثر قريشا على سائر الناس إشعارا بأنّ بني أميّة منهم، فردّ عليه عمّار و قال: ليس الأمر كما تقول، فضربه على هذا ضربا مبرحا و ركله برجله حتّى ظنّوه قد مات.
و أمّا كيفيّة قتله فقد كان ابن أبي سرح واليا من قبل عثمان على مصر و كان أخا عثمان من الرضاعة، فأظهر الظلم بين الناس و عمل بالجور فيهم، فجاء رجل إلى عثمان يتظلّم، فأرسل إليه عثمان توبيخا شديد اللهجة، فلم يحدّ من سلوكه السيّئ حتّى قتل أحد المتظلّمين، و ضرب آخرين تأديبا لهم.
فخرج من مصر سبعمائة شخص و قصدوا المدينة و عليهم عبد الرحمان بن عديس البلوي و عمرو بن الحمق الخزاعي و كنانة بن بشر الكندي و سوار بن حمران المرادي، فبلغوا المدينة و الصلاة قائمة، و تظلّموا كثيرا و شنّعوا على واليهم ابن أبي سرح و توسّلوا بأمير المؤمنين عليه السّلام و عائشة، فقبل عثمان شفاعتهم و قال لعليّ عليه السّلام: قل لهم يختاروا لولايتهم من أحبّوا لكي أولّيه، فاختار المصريّون محمّدا ابن أبي بكر، فولّاه عثمان على مصر و توابعها، و أمر جماعة من المهاجرين و الأنصار بالذهاب مع محمّد إلى مصر ليقفوا على جلية الحال و صحّة ما يقال، من شكواهم من ابن أبي سرح، فخرج المصريّون من المدينة مع محمّد بن أبي بكر، فلمّا ساروا ثلاثة أيّام بلياليها شاهدوا راكبا مضطربا على هيئة الهارب و كأنّه يطلب شيئا ضيّعه، فسألوه عمّن أرسله، فكان يقول: أرسلني عثمان، و أحيانا يقول مروان،
ص: 260
فعرفوا أنّ في الأمر سرّا، فقالوا له: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال: أذهب إلى والي مصر. فقالوا: تركت الوالي بالمدينة؟ قال: أنا ذاهب إلى الوالي القاطع لا إلى الوالي الجديد. فقالوا: هل معك كتاب؟ قال: كلّا، ففتّشوه فعثروا معه على رسالة قد خبأها في شنّ بالية، و الرسالة على النحو التالي:
من عثمان إلى ابن أبي سرح، إذا أتاك محمّد بن أبي بكر فاحتل بقتله و أبطل كتابه و قرّ على عملك و احبس المتظلّمين حتّى يأتيك.
و لمّا قرأ المصريّون الكتاب عادوا إلى المدينة فورا و دفعوا الكتاب إلى أمير المؤمنين، فبعث بالكتاب إلى عثمان، فقال: الختم ختمي، و اللّه ما كتبت و لا أمليت و لا أمرت و لا ختمت.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الناس أرسلوني إليك، و قد استفسروني بينك و بينهم، فو اللّه ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئا تجهله و لا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شي ء فنخبرك عنه، و لا خلونا بشي ء فنبلغكه، و قد رأيت كما رأينا، و سمعت كما سمعنا، و صحبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما صحبنا، و ما ابن أبي قحافة و لا ابن الخطّاب أولى بعمل الحقّ منك، و أنت أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شيجة رحم منهما و قد نلت من صهره ما لم ينالا، فاللّه (اللّه) في نفسك، فإنّك و اللّه ما تبصر من عمّى و لا تعلم من جهل، و إنّ الطرق لواضحة، و إنّ أعلام الدين لقائمة، فاعلم أنّ أفضل الناس عند اللّه إمام عادل هدي و هدى، فأقام سنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة، و إنّ السنن لنيّرة لها أعلام، و إنّ البدع لظاهرة لها أعلام، و إنّ شرّ الناس عند اللّه إمام جائر ضلّ و ضلّ به، فأمات سنّة مأخوذة، و أحيا بدعة متروكة، و إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر فيلقى في جهنّم (ف) يدور فيها كما يدور الرحى،
ص: 261
ثمّ يهبط (1) في قعرها، و إنّي أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول، فإنّه كان يقال: يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة، و يلبس أمورها عليها، و يبثّ الفتن عليها (2) فلا يبصرون الحقّ من الباطل، يموجون فيها موجا، و يمرجون فيها مرجا فلا تكوننّ لمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ و تقضّي العمر (3).
و لمّا فشا أمر الكتاب بين الناس أقبل مالك الأشتر و معه مئتان من أهل الكوفة و مثله فعل حكيم بن جبلة، و حاصروا منزل عثمان و منعوه من حضور الصلاة، فاستناب عنه في الصلاة أبا هريرة، و تارة يخلفه ابن عبّاس، و أخرى أبو أيّوب، و منعوه من الماء العذب (4) فإذا أرسلت إليه قربة ماء تدافع الناس لمنعها، من ثمّ يصاب بالجروح جماعة ممّن هم على الباب لا سيّما الأمويّون و الهاشميّون.
و لمّا اشتدّ عليه الحصار استدعى الإمام أمير المؤمنين الحسنين عليهما السّلام و قال: اذهبا بسيفكما حتّى تقوما على باب عثمان لا معان (كذا) الناس عنه (5)، و أرسل طلحة
ص: 262
و الزبير جماعة من الأصحاب مددا لعثمان (1) و لكن أصحاب الحصار منعوهم من الوصول إليه، و أحدثوا ثقبا في جدار بيته و كسروا بابه و قتلوه، و قتلوا عبد اللّه بن عامر بن كريز خال عثمان و الي البصرة الأهواز و خوزستان، و كان من أشدّ الظالمين عتوّا، و أوشك على تدمير البلاد.
و أمّا شأن أبي ذر فقد كان في الشام في خلافة عثمان، فبنى معاوية الخضراء في دمشق، و جاء بأبي ذر إليها، فلمّا دخلها قال له معاوية: يا أبا ذر، كيف ترى ما هاهنا؟ فقال أبو ذر: إن بنيتها من مال اللّه فأنت من الخائنين، و إن كنت بنيتها من مال نفسك فأنت من المسرفين، فلم يرض قوله معاوية فشكاه إلى عثمان، فبعث إليه عثمان أن أرسله إليّ، و لمّا قدم المدينة و رأى ما عليه مروان من الجرأة و التحكّم و الاستبداد في أمور الدين و الشريعة، شرع بنصيحته و ملامته و أكثر من ذلك، فشكاه إلى عثمان، فأمر عثمان بنفيه إلى الربذة، و لمّا أخرجوه خرج عليّ لوداعه و قال:
يا أبا ذر، إنّك غضبت للّه فارج من غضبت له، إنّ القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه و اهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، و ما أغناك عمّا منعوك، و ستعلم من الرابح غدا و الأكثر حسدا، فلو أنّ السماوات و الأرض كانتا رتقا على عبد ثمّ اتقى اللّه سبحانه لجعل اللّه له منهما مخرجا، لا يؤنسنّك إلّا الحقّ، و لا يوحشنّك إلّا الباطل، فلو
ص: 263
قبلت دنياهم لأحبّوك، و لو قرضت منها لأمنوك (1). (2)
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في أبي ذر أقوالا كثيرة، منها قوله: أبو ذر وعاء علم أوكأ فلم يخرج منه شي ء حتّى قبض.
روى عماد الدين شفروه بأسانيد صحيحة عن ابن عبّاس أنّه كان حاضرا في مجلس معاوية فأقبل مروان و قال: اقض حوائجي يا أمير المؤمنين، فو اللّه إنّ مؤونتي لعظيمة، إنّي أصبحت أبا عشرة و أخا عشرة و عمّ عشرة، فلمّا خرج مروان من عنده قال معاوية: يا بن عبّاس، أما تعلم أنّ رسول اللّه قال: فإذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا أموال اللّه بينهم دولا و عباده خولا و كتابه دغلا، فإذا بلغوا تسعة و تسعين و أربعمائة كان هلاكهم أسرع من الثمرة؟ قال ابن عبّاس: اللهمّ نعم (3).
ثمّ قال معاوية: أنشدك اللّه يابن عبّاس، إنّ رسول اللّه ذكر هذا- يعني مروان-
ص: 264
فقال: أبو الجبابرة الأربعة (1)؟ قال عبد اللّه بن عبّاس: اللهمّ نعم.
و أسر مروان يوم الجمل فتشفّع فيه الحسنان عليهما السلام فقبل شفاعتهما و أطلق سراحه، فقال الحسنان عليهما السلام: يا أمير المؤمنين، يريد أن يبايعك! فقال: أو لم يبايعني بعد قتل عثمان فإنّه كان بايعه مع طلحة و الزبير، لا حاجة لي في بيعته، إنّها يد يهوديّة، و لو بايع بيده لغدر، أما إنّه له إمرة كلعقة الكلب أنفه و هو أبو الأكبش الأربعة، و ستلقى الأمّة منه موتا أحمر، و لكنّي لا أحبّ أن تلي هذه الأمّة سفهائها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا، و الصالحين حربا (2).
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت بني مروان يتعاورون على منبري فسائني ذلك (3).
و عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما ينزو القردة و الخنازير. قال: فأصبح كالمتغيّض، فما رؤي رسول اللّه مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتّى مات. و هذا الحديث من رواية المخالفين (4).
ص: 265
حكاية: روى البخاري عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مات و أبو بكر بالسنح يعني بالعالية، قال عمر: يقولون مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال عمر: و اللّه ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال عمر: ما كان يقع في نفسي إلّا ذاك، و ليبعثنّه اللّه فليقطّعنّ أيدي رجال و أرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقبّله فقال: بأبي أنت و أمّي طبت حيّا و ميّتا، و الذي نفسك بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبدا، ثمّ خرج و قال: أيّها الحالف، على رسلك، فلمّا تكلّم أبو بكر جلس عمر فحمد اللّه أبو بكر و أثنى عليه و قال: ألا من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد مات، و من كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لم يمت، و قال: إنّك ميّت و إنّهم ميّتون، و قال: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ (1). (2)
فنشج الناس يبكون، و اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منّا أمير و منكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر الصدّيق و عمر بن الخطّاب و عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلّم فأسكته أبو بكر، و كان عمر يقول: و اللّه ما أردت بذلك إلّا أنّي قد هيّأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، إلى أن قال أبو بكر: نحن الأمراء و أنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر:
ص: 266
لا و اللّه لا نفعل، منّا أمير و منكم أمير. فقال أبو بكر: لا و لكنّا الأمراء و أنتم الوزراء، هم المهاجرون و اللّه أوسط العرب دارا و أقربهم أحسابا، فبياعوا عمر أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيّدنا و أحبّنا إلى رسول اللّه، فأخذه عمر بيده فبايعه و بايعه الناس، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة (1).
الجواب: أقسم عمر أنّ رسول اللّه لم يمت مع علمه بموته، و لم يظهر على الناس اضطراب أو خلل و لا بد منهم مخاصم استحقّ اليمين من عمر لدرء الخطر فكان يمينه عبثا لأنّه من دون ذريعة و لا سبب، حتّى قال له صاحبه: على رسلك أيّها الحالف، ثمّ كان الأمر يقتضيهم تأجيل الخلافة حتّى يجهّزوا النبيّ و يدفنونه و يحضرون تلك المشاعد المروعة مع الناس فإنّه أدعى إلى الاحترام و أكثر صونا لشرف الإسلام و النبوّة.
و إذا كانت الخلافة هي حاجة الأمّة و يخشى من تأخيرها وقوع الأمّة في حيص بيض فكان النبيّ أولى منهم بذلك، و أحقّ بالقيام به رعاية للأمّة لأنّها إرادة اللّه و رسوله.
و الخصم يزعم أنّ النبيّ ما قام بنصب الإمام و بهذا يظهر أنّ الحاجة إليه مفقودة أو أنّ النبيّ أو كل الأمر إلى إجماع الصحابة. و إذا صحّ ذلك كان عليهم تأخير البتّ في أمر الخلافة حتى يحضر جماعة بني هاشم و باقي الخزرج إلى مسرح الاختيار و يتشاوروا فيما بينهم بحكم قوله تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (2) لأنّه عمل عظيم و حركة كبرى و ما كان اتصال أثره و نفعه بالناس جميعا و هو مؤسّس لصلاح العباد فينبغي أن تتكاتف الأيدي عليه و يجتمع الناس عليه خصوصا من ذكرناهم.
ص: 267
و لمّا سارع القوم إلى اهتبال الفرصة و لم يستشيروا أحدا في أمر الحكم و لم يستعينوا بأحد من بني هاشم أو الأخيار من صحابة الرسول، علمنا أنّهم بادروا إلى الفرصة ليغتنموها لأنّهم لو تمهّلوا فإنّها سوف تذهب من أيديهم و تضيع الخلافة منهم، و هذا هو الرأي الصحيح الذي عليه مذهب أهل البيت.
و خاف القوم من بني هاشم بعد فراغهم من تجهيز الرسول أن يظهروا في الساحة فلا تنتج خطّتهم، من هنا اندلعت الفتنة فكانت منّا أمير و منكم أمير، و قال أبو بكر: بايعوا سعدا، و قيل: قتل اللّه سعدا، و قيل «بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها» (1)، و قال أبو بكر: «أقيلوني و ليست بخيركم».
إنّ هذا العمل المرتجل من غير أن يستشار فيه جماعة العقلاء أدّى إلى هذه الإفرازات السيّئة، و أنتج هذه الثمرة الخبيثة، و لمّا بلغ خبر السقيفة أمير المؤمنين و هو منشغل بتجهيز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بلغته مقالة الأنصار: منّا أمير و منكم أمير، فقال: هلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه وصّى بأن يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم و «ماذا في هذه الحجّة عليهم» (2) قال: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم، أي لو كان يلون الخلافة و الإمارة و الوصاية ما أوصى بهم النبيّ لأنّ الشخص لا يكون وصيّا من جهة و يوصى به من جهة أخرى.
ثمّ قال عليه السّلام: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجّت بأنّها شجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، فقال: عليه السّلام: احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة.
ص: 268
و مذ تمسّك القوم بالصحبة، قال عليه السّلام: أتكون الخلافة بالصحابة و لا تكون بالصحابة و القرابة؟!
و قال أيضا لمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول اللّه فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونهم، و إن يكن لغيره فالأنصار على دعواهم (1). و لأمير المؤمنين في هذا الباب:
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا و المشيرون غيّب
و إن كنت بالقربى حججت خصومهم فغيرك أولى بالنبيّ و أقرب (2) و لمّا بايع الناس أبا بكر انحاز العبّاس و أبو سفيان (3) و الزبير بن العوام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و قالوا: نبايعك و اللّه أنت أولى بهذا الأمر، فقال عليّ عليه السّلام: ما حال السقيفة؟ قال: بويع أبو بكر، فقال عليه السّلام:» اطّلع نجوم الفتى ...» أيّها الناس، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة «و عرّجوا عن طريق المنافرة» وضعوا تيجان المفاخرة- و نكّبوا عن طريق المنافرة .. اليقين- أفلح من نهج بجناح أو استسلم فأراح (هذا) ماء آجن و لقمة يغصّ بها آكلها، و مجتني الثمرة لغير وقت أيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا حرص على الملك، و إن أسكت يقولوا جزع من الموت! هيهات بعد اللتيا و اللتي و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه (لكن) بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة (4).
ص: 269
و قال أبو سفيان: ما هذا إلّا خوفا، و اللّه لأملأنّها خيلا و رجلا، فقال عليّ عليه السّلام:
و اللّه لقد علمتم أنّي أحقّ بها من غيري و و اللّه لأسلمنّ أمور المسلمين ما لم يكن فيها جور إلّا عليّ خاصّة التماسا لأجر ذلك و فضله و زهدا فيما تنافستموه من زخرفة و زبرجة و لا يعاب المرء بتأخّر حقّه و إنّما يعاب من أخذ ما ليس له.
ثمّ استقبل قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: بأبي أنت و أمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة و الأنباء و أخبار السماء، خصصت حتّى صرت مسليا عمّن سواك، و عممت حتّى صار الناس فيك سواء، و لو لا أنّك أمرت بالصبر و نهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون، و لكان الداء مماطلا، و الكمد محالفا و قلالك، لكنّه ما لا يملك ردّه و لا يستطاع دفعه، بأبي أنت و أمّي اذكرنا عند ربّك و اجعلنا من بالك (1).
ثمّ بكى بكاءا شديدا و قال: إنّ الصبر لجميل إلّا عنك، و إنّه قبلك و بعدك لجلل، ثمّ خرج العبّاس من عنده، فأقبلت قريش عليه و راحوا يسألونه، فقال: